جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة

المبحث الخامس: جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
مدخل
...
المبحث الخامس جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
عندما جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن الكريم كان الهدف الأساس منه كتابة القرآن الكريم في مصحف واحد مسلسل الآيات مرتب السور، ولم يكن من أهدافه القضاء على المصاحف الخاصة التي جمع فيها بعض الصحابة القرآن الكريم لأنفسهم والتي تضم بعض التفسيرات والأدعية والمأثورات ونحوها، وهم يعلمون أنها ليست من القرآن، أو تركوا تدوين سورة وهم يعلمون أنها من القرآن1.
فتعدد المصاحف الخاصة بجوار مصحف أبي بكر، وانتشار القراء في الأمصار نتيجة اتساع الفتوحات الإسلامية، وأخذ كل مصر القراءة ممن وفد إليه من الصحابة، حيث كان كل صحابي يُعَلِّم بالحرف الذي تلقاه من الأحرف السبعة التي نزلت على رسول الله صلى الله عيه وسلم. أقول: إن ذلك تسبب في تعدد القراءات واختلاف القراء.
فكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه.
وأهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وغيرهم يقرؤون بقراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
__________
1انظر: تأويل مشكل القرآن ص47، 49، والمدخل إلى تفسير القرآن وعلومه ص116.

(1/42)


فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء، ووجوه القراءات، فكان إذا ضمهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجود هذا الاختلاف حتى كاد الأمر يصل إلى النزاع والشقاق بينهم وإنكار بعضهم على بعض وبخاصة من الذين لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة القراءات القرآنية.
أخرج ابن أبي داود عن أيوب عن أبي قلابة قال: "لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، قال أيوب: لا أعلمه إلاّ قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيباً فقال: أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماماً"1
وممن لا حظ الاختلاف في الأمصار حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المتوفى سنة 36هـ حيث شارك في فتح "أرمينية، وأذربيجان" سنة 25هـ الذي اشترك فيه أهل الشام وأهل العراق، فرأى اختلافاً كثيراً بين المسلمين في وجوه القراءة، وسمع ما كان يحصل بينهم من تجريح، وتأثيم بعضهم البعض، وقرر الركوب إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان لإخباره بما رأى. أخرج البخاري – قصة ذلك – في الحديث الذي رواه أنس بن مالك حيث قال: "إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح "أرمينية، وأذربيجان " مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في
__________
1الأثر أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ص21.

(1/43)


الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف نَنْسَخُها في المصاحف ثم نردُّها إليكِ فأرسلت بها حفصة إلى عثمان. فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فنسخوها في المصاحف. وقال للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيدُ بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم" ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق"1
فأفادت هذه الروايات وغيرها عدة أمور أوجزها في المطالب التالية:
__________
1الحديث أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن. صحيح البخاري ج6 –ص 99

(1/44)


المطلب الأول: فكرة الجمع
لما سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه – ما سمع، وأخبره حذيفة بما رآه، جمع – رضي الله عنه – أعلام الصحابة واستشارهم في علاج هذه الفتنة وذلك الاختلاف، فأجمعوا أمرهم على ثلاثة أمور:
1. أن تنسخ الصحف الأولى التي جمعها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر الصديق في مصاحف متعددة.
2. أن ترسل نسخة إلى كل مصر من الأمصار فتكون مرجعاً للناس منه يقرؤون ويُقرئون وإليه يحتكمون عند الاختلاف.
3. أن يحرق ماعدا هذه النسخ.

(1/44)


ثم شرع عثمان بن عفان – رضي الله عنه – في تنفيذ هذه الأمور وكان ذلك في أواخر سنة 24هـ وأوائل سنة 25هـ‍ 1 حيث عهد إلى لجنة من الصحابة من خيرة الحفاظ والكتاب مؤلفة من أربعة أشخاص هم:
1. زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمع المصحف في عهده. توفي سنة 42هـ وقيل 43هـ وقيل 45هـ2
2.عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي، أحد العبادلة الذين اشتهروا بالعلم، وعنوا بحفظ القرآن الكريم. توفي سنة 73هـ 3
3. سعيد بن العاص القرشي الأموي، كان من فصحاء قريش، ومما قيل فيه: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص. لأنه كان أشبه الصحابة بلهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة 53هـ4
4. عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المخزومي كان من أشراف قريش، نشأ في حجر عمر، وتزوج بنت عثمان رضي الله عنهم مات سنة 43هـ5
ويلاحظ أن زيد بن ثابت هو الأنصاري الوحيد أما الثلاثة الآخرون فهم قرشيون، وكان نصيبهم كبيراً، لأن القرآن نزل بلغة قريش.
وتشير بعض الروايات إلى أن الذين ساهموا في نسخ المصاحف اثنا عشر رجلاً. حيث أخرج ابن أبي داود عن محمد بن سيرين عن كثير بن
__________
1 انظر: فتح الباري ج9 – ص17.
2 انظر: الإصابة ج4 – ص41.
3 انظر: الإصابة ج6 - ص83
4 انظر: الإصابة ج4 – ص41.
5 انظر: الإصابة ج6 - ص83.

(1/45)


أفلح قال: "لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت1.
والظاهر أنه لا تنافي بين رواية البخاري التي اقتصرت على ذكر الأربعة وبين الروايات الأخرى التي أضافت إليهم خمسة أو سبعة، فرواية البخاري حددت اللجنة الأساسية، والروايات الأخرى أضافت إليهم ممن ساعدهم بالإملاء والكتابة2.
__________
1أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ص25.
2انظر جمع القرآن 132، وعلوم القرآن لنور الدين عتر 174.

(1/46)


المطلب الثاني: سبب جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
بينت لنا الروايات السابقة أن سبب جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان يمكن إرجاعه إلى ما يلي:
1. رفع الاختلاف والتنازع في القرآن الكريم، وقطع المراء فيه، وذلك باعتماد القراءات المتواترة التي يمكن أن يقرأ بها القرآن الكريم.
2. حماية النص القرآني من أي إضافة أو نقص نتيجة وجود عدد من المصاحف بأيدي الصحابة حيث اشتملت على ما ليس بقرآن كالشروح والتفاسير، أو لم يكتب فيها بعض السور لعدم حاجتهم لكتابتها مع علمهم بأنها من القرآن3.
__________
3 انظر: مدخل إلى القرآن الكريم لدراز ص43، ومدخل إلى تفسير القرآن وعلومه لزرزور ص120، والمدخل لدراسة القرآن ص278.

(1/46)


المطلب الثالث: منهج جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
حينما عزم عثمان بن عفان - رضي الله عنه – على جمع القرآن الكريم وعيّن اللجنة التي تباشر هذا العمل حدَّد لها خطوات العمل الذي يمكن إيجازه بما يلي:
1. اعتباره الصحف التي جمعها زيد بن ثابت – رضي الله عنه – في عهد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أساساً في نسخ المصاحف حيث أمر عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بإحضارها من حفصة بنت عمر أم المؤمنين حيث قال لها: "أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك".
2. إشراف عثمان بن عفان – رضي الله عنه – المباشر على الجمع حيث كان يتفقد اللجنة باستمرار، ويتعاهدهم على الدوام. أخرج ابن أبي داود بإسناده عن كثير بن أفلح أنه قال: "وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخروه"1
3. رجوع اللجنة إلى الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – فيما يحتاجون إليه للتأكد من كتابته وكيفية ذلك. أخرج البخاري أن ابن الزبير (أحد أعضاء اللجنة) قال: قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} (البقرة: 240 (.قال: قد نسختها الأخرى، قلت: فلِمَ تَكْتُبُها؟ أَوَتَدَعُها؟ قال: يابن أخي لا أغير شيئاً من مكانه"2
__________
1الأثر أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ص25.
2الحديث أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب (والذين يتوفون منكم) صحيح البخاري ج5 – ص163.

(1/47)


4. استيثاق اللجنة مما يكتبونه وبخاصة فيما تعددت فيه القراءة حيث كانوا يسألون مشاهير الصحابة عن كيفية القراءة به لا عن قرآنيته، فإن ذلك عرف في جمع أبي بكر، لأنه – رضي الله عنه – أراد أن تكتب المصاحف في مجموعها على جميع القراءات التي قرأها الرسول صلى الله عليه وسلم، ليقضي على الفتنة التي حدثت بين المسلمين، بسبب جهلهم هذه القراءات.
5. أن الكتابة تمت بشكل يجمع ما ثبت من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة على أن يكتب بدون تكرار الكلمات، واتفقوا على رسم الكلمات التي بها عدة أوجه بطريقة يجعلها محتملة لأن تقرأ بكل تلك الأوجه، وقد ساعد على ذلك عدم التشكيل، وعدم التنقيط. قال ابن الجزري المتوفى سنة 833هـ "وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام، متضمنة لها لم تترك حرفاً منها" إلى أن قال "وهذا القول هو الذي يظهر صوابه، لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له ... "
ثم قال: "فكتب الصحابة المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة"1.
__________
1 النشر في القراءات العشر ج1 – ص31.

(1/48)


6. عند اختلاف اللجنة في كتابة كلمة فإنهم يكتبونه بحرف قريش. حيث قال عثمان بن عفان – رضي الله عنه – للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم"1.
فالمقصود بالاختلاف هنا من حيث الرسم والكتابة، لا من حيث الألفاظ والكلمات، ويدل عليه قوله "فاكتبوه" فيكون المعنى: إذا اختلفتم أنتم وزيد في رسم كلمة، فاكتبوها بالرسم الذي يوافق لغة قريش ولهجتها2.
__________
1سبق تخريجه.
2راجع في هذا الموضوع: المقنع في رسم المصاحف للداني، في رحاب القرآن 1: 153، معجم القراءات القرآنية 1: 45.

(1/49)


المطلب الرابع: نشر عثمان بن عفان المصاحف في الأمصار
بعد أن تم العمل بنسخ المصاحف، أعاد عثمان بن عفان – رضي الله عنه – الصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأمر بتوزيع المصاحف على الأمصار؛ ليقضي على التنازع والاختلاف في قراءة القرآن الكريم، فأرسل إلى كل مصر من الأمصار بمصحف من المصاحف التي نسخت، واحتفظ عنده بمصحف سمي "المصحف الإمام"3.
وقد وقع الاختلاف في عدد هذه المصاحف:
فقيل: إنها ثمان نسخ، ذكر ذلك ابن الجزري عن عثمان قال "فكتب منها عدة مصاحف: فوجه بمصحف للبصرة، ومصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى الشام، وترك مصحفاً بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفاً –
__________
3 الأحرف السبعة 272، دراسات حول القرآن لبدران أبو العينين 76-80.

(1/49)


الذي يقال له الإمام – ووجه بمصحف إلى مكة، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى البحرين".1
2. وقيل: إنها أربع نسخ، قال أبو عمرو الداني: "أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدا: الكوفة، والبصرة، والشام، وترك واحداً عنده2
3. وقيل: إنها خمس نسخ، قال ابن حجر: "فالمشهور أنها خمسة"3 وقرره السيوطي في الإتقان4
وعلى أي حال فإن الجميع يكاد يتفق على خمسة وهي:
الكوفي، والبصري، والشامي، والمدني العام، والمدني الخاص – الذي حبسه عثمان لنفسه وهو المسمى بالإمام.
والتي محل خلاف ثلاثة هي: المكي، ومصحف البحرين، واليمن. وإن كان بعضهم أضاف مصر.
ولم يكتف عثمان – رضي الله عنه – بتوجيه هذه المصاحف إلى تلك البلدان، وإنما اختار حفاظاً يثق بهم فأرسلهم إليها ليقرئوا أهل البلد المرسل إليهم مع ملاحظة أن تكون قراءته موافقة لخط المصحف.
1. فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمصحف المدني.
2. وبعث عبد الله بن السائب المتوفى سنة 70هـ مع المصحف المكي.
__________
1 النشر لابن الجزري 1: 7.
2المقنع ص10.
3فتح الباري ج9 – ص18.
4انظر الإتقان ج1 – ص211 النوع الثامن عشر.

(1/50)


3. وبعث المغيرة بن شهاب المتوفى سنة 91هـ مع المصحف الشامي.
4. وبعث أبا عبد الرحمن السلمي المتوفى سنة 72هـ مع المصحف الكوفي.
5. وبعث عامر بن قيس مع المصحف البصري1.
__________
1انظر: المدخل لدراسة القرآن ص 280، 281. ومناهل العرفان ج1- ص403،404.

(1/51)


المطلب الخامس: حرق الصحف والمصاحف الأخرى ورضا الصحابة عن ذلك
بعد أن أرسل عثمان - رضي الله عنه – المصاحف التي تم نسخها إلى الأمصار، أمر بما سواها مما كان بأيدي الناس أن يحرق، كما في حديث أنس السابق الذي أخرجه البخاري: "فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق". وقد استجاب الصحابة كلهم لذلك، وقاموا بحرق مصاحفهم، حتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فإنه بعد أن امتنع في أول الأمر رجع طواعية لما علم صواب ذلك، وأن مصلحة الأمة فيما فعله عثمان.
وقد أشار إلى ذلك ابن أبي داود في كتاب المصاحف حيث عقد له باباً سماه "رضاء عبد الله بن مسعود لجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف2.
وأخرج أيضاً عن سويد بن غفلة قال: " قال علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته"3.
وأخرج أيضاً عن مصعب بن سعد قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك منه أحد4.
__________
2المصاحف ص 18.
3لمصاحف ص 12.
4المصاحف ص 12.

(1/51)


وجاء في المصاحف عن سويد بن غفلة أنه قال: "والله لا أحدثكم إلاّ شيئاً سمعته من علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – سمعته يقول: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلاّ خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملأ منا جميعاً." ثم قال: قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل1
ونقل أبو شامة عن البيهقي في جمع عثمان: "وذلك كله بمشورة من حضرة من علماء الصحابة – رضي الله عنهم -، وارتضاه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وحمد أثره فيه"2
وهكذا استطاع عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بهذا العمل الجبار أن يزيل جذور الخلاف، ويجمع الأمة عبر كل العصور – منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وحتى عصرنا الحاضر – على التزام المصحف الذي أجمعوا عليه، وحمد له المسلمون ذلك العمل. قال الزركشي: "ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة"3.
__________
1المصاحف لابن أبي داود ص 22، 23، وانظر: الجامع لأحكام القرآن ج1/ص54، وفتح ج9 –ص 18
2المرشد الوجيز ص 62، وانظر السنن الكبرى للبيهقي ج2 –ص41،42.
3البرهان في علوم القرآن ج1 –ص239.

(1/52)


المطلب السادس: خبر هذه المصاحف
اعتنت الأمة الإسلامية بهذه المصاحف العثمانية فاتخذتها أصولاً يؤخذ منها، وأئمة يقتدى بها في كتابة المصاحف جيلاً بعد جيل.
أما عن هذه المصاحف بذاتها فقد ذكر بعض الرحالة والمؤرخين عن رؤيتهم لبعض منها.

(1/52)


فيحدثنا ابن جبير المتوفى سنة 614هـ في رحلته إلى الشام عندما زار جامع دمشق حيث ذكر أنه رأى في الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان، وهو الذي أرسله إلى الشام1.
كما أشار ابن بطوطة المتوفى سنة 779هـ إلى رؤيته له في رحلته إلى الشام2.
كما رأى النسخة نفسها ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774هـ حيث قال: "وأما المصاحف العثمانية الأئمة، فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق – عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله – وقد كان قديماً في "طبريَّة"، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثمان عشرة وخمسمائة 518هـ، وقد رأيته كتاباً عزيزاً جليلاً عظيماً ضخماً، بخط حسن مبين، قوي، بحبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل، والله أعلم"3
واستمر هذا المصحف محفوظاً في الجامع الأموي إلى أوائل القرن الرابع عشر الهجري، ثم فقد هذا المصحف:
فبعضهم يرى أنه احترق عندما احترق الجامع الأموي. يقول محمد كرد علي في حديثه عن الجامع الأموي: "حتى إذا كانت سنة 1310هـ سرت النار إلى جذوع سقفه، فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات، فدثر آخر ما بقي من آثاره ورياشه، وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي، كان جيء
__________
1رحلة ابن جبير ص 242.
2رحلة ابن بطوطة ج1 – ص54.
3فضائل القرآن لابن كثير من تفسير القرآن العظيم ج1 – ص34.

(1/53)


به من مسجد عتيق في بصرى، وكان الناس يقولون: إنه المصحف العثماني1، وبعضهم يرى أنه نقل إلى إنجلترا2
وفي مصر الآن مصاحف أثرية، يقال إنها مصاحف عثمانية – في المسجد الحسيني، ودار الكتب المصرية – ولكن يستبعد ذلك لوجود زركشة وزينة ونقوش فاصلة بين السور، وعلامات لبيان أعشار القرآن، ولا شك أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا، ومن النقط والشكل30
وعلى أي حال فإن فقد هذه المصاحف لا يقلل من ثقتنا بما تواتر واستفاض نقله من المصاحف، ثقة عن ثقة وإماماً عن إمام، وسواء أوجدت هذه المصاحف أم لم توجد فإنا على يقين بسلامة القرآن الكريم من الزيادة أو النقصان4.
وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بحفظها القرآن الكريم في الصدور والسطور منذ نزول القرآن الكريم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بصنيع أبي بكر، ثم بصنيع عثمان بن عفان رضي الله عنهم، مزية ليس لأمة غيرها، نقلوه عن الأصل المكتوب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقابلة ذلك بما حفظوه في صدورهم، وبذلوا فيه كل عوامل الدقة والاستيثاق، فجاء كاملاً، محفوظاً، عزيزاً، تحقيقاً لقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) . وقوله {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:41- 42)
__________
1خطط الشام لمحمد كرد علي ج5 – ص262.
2انظر: مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص88.
3انظر: مناهل العرفان ج1 – ص404.
4انظر: مدخل إلى القرآن لدراز ص40.

(1/54)