دلائل الإعجاز ت شاكر

ـ[دلائل الإعجاز في علم المعاني]ـ
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (المتوفى: 471هـ)
المحقق: محمود محمد شاكر أبو فهر
الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة - دار المدني بجدة
الطبعة: الثالثة 1413هـ - 1992م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

(/)


- أ -

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة
تبارَكَ الَّذِى نزَّل الفُرْقَانَ على عَبْدِه لِيكونَ للعالمينَ نَذِيرا، والحمدُ لله الذى هدانَا بِه وأخْرجَنا من الظلُماتِ إلى النُّورِ، وصلَّى الله على نبينا محمّد الذى نَزَل القرآنُ العظيمُ بلسانِه لسانا عربيًّا مُبِيناً، لا يأتِيه الباطِلُ من بَيْن يَدَيه ولا من خَلْفه، اللهمَّ صَلِّ على محمّدٍ وعلى أبَويْه إبرهيِمَ وإسماعيلَ وسلِّم تسليما كثيراً. اللهمَّ اغْفِرْ لنا وارحَمنا وأنتَ خيرُ الراحمين.
وبعدُ فمنذ دهر بعيد، حين شققتُ طريقى إلى تذوُّق الكلام المكتوب، منظومه ومنثوره، كان من أوائل الكتب التى عكفتُ على تذوُّقها كتاب " دلائل الإعجاز"، للشيخ الإمام " أبى بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى "، الأديبِ النحوي، والفقيهِ الشافعى، والمُتكلِّمِ الأشعرىِّ [توفى سنة 471 هـ، أو سنة 474 هـ]، ويومئذٍ تنبَّهتُ لأربعة أمور:
الأوّل: أنه بدَا لىَ أن عبد القاهر كان يريدُ أن يؤسس بكتابه هذا علما جديداً استدرَكَهُ على من سبقه من الأئمة الذين كتبُوا فى " البلاغة " وفى " إعجاز القرآن "، ولكن كان غريباً عندى أشدَّ الغرابة، أنه لم يَسِرْ في بناءِ كتابه سيرةَ من من يؤسس علماً جديداً، كالذى فعله سيبويه فى كتابه العظيم، أو ما فعله أبو الفتح ابن جِنى فى كتابه " الخصائص "، أو كالذى فعله عبد القاهر نفسُه فى كتابه " أسرار البلاغة "، بل كانَ عملُه وهو يؤسس هذا العلمَ الجديد، مَشُوباً بحميَّة جارفةٍ لا تعرف الأناةَ فى التبويب والتقسيم والتصنيف، وكأنه كانَ في عَجَلةٍ من أمره، وكأنّ منازعا كان يُنازعُهُ عند كُلّ فكرةٍ يريدُ أن يُجَلّيَها ببراعته وذكائه وسُرعة لَمْحه، وبقوّةِ حُجَّته ومضاءِ رأيه.

(مقدمة/3)


-ب -

الثاني: أني وقفت في كتابه على أقوال كثيرة لم ينسبها بصريح البيان إلى أصحابها، حتى نتبين من يكون هؤلاء؟ وكان من أعظم ما حيرني قولان رددهما في مواضع كثيرة من كتابه؛ بل إن الكتاب كله يدور على رد هذين القولين وإبطال معناها؛ الأول قول القائل: "إنَّ المعاني لا تَتزايد، وإِنما تتزايدُ الألفاظُ"، [دلائل الإعجاز: 63، 395] = الثاني، قول القائل: "إنَ الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ، ولكن تظهر بالضم على طريقة مخصوصة"، [دلائل الإعجاز: 394، 466، 467].
الثالث: أن عبد القاهر جمع هذين القولين في فصل واحد، [ص: 394، 395]، وجمع معهما قوله: "ثم إن هذه الشائعات التي تقدَّمَ ذِكْرُها، تَلزَمُ أصحابَ الصَّرْفة"، أيضاً" [ص: 390]، والقول بالصرفة من أقوال المعتزلة، فبدا لي يومئذ أن بين هذين القولين وأصحاب "الصرفة" من المعتزلة نسبًا، ولكني لم أقف على ما يرضيني إن ذهبت هذا المذهب.
الرابع: أن عبد القاهر في مواضع متناثرة كثيرة، قد دأب على التعريض بأصحاب "اللفظ"، وبالذين يقولون: "بالضم على طريقة مخصوصة"، وأوهموا أنه "النظم" الذي ذكره الجاحظ في صفة القرآن [دلائل الإعجاز: 251]، وهو أيضًا "النظم" الذي عليه مدار علم عبد القاهر الذي أسسه، فكان مما شغلني، أطول كلام من تعريضه بهم، وهو ما جاءني في أواخر كتابه "دلائل الإعجاز"، وهو قوله:
"واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ إِذا كان صَدَرَه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غير العمل الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقَعَ في الأَلْسُن، فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر، وكَثُرَ الناقلون له والمشيدون بذكره صار وترك النظر فيه سنة، والتقليد دينا ..... ,لربما -بل كلَّما- ظنوا أنه لم يَشِعْ ولم يتسع ولم يروه خلف عن سلف إلا لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان

(مقدمة/4)


-جـ -

مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمان وكرورِ الأيام. وكمْ من خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ حظيَ بهذا السبَبِ عندَ الناس ... ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس، وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتقطعُ عن دواعيَ التفكُّر لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ "اللفظِ" هذا التمكُّنُ وهذه القوة وكيف لا يكونُ في إسارِ الأُخْذَةِ، ومَحُولاً بينهم وبين الفكرة، ومن يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفرادِ الكلمات، وإنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونطق لسان؟ " [دلائل الإعجاز: 464 - 467]. وقد اختصرت الكلام هنا، ولكن ينبغي أن تقرأه بطوله في المكان الذي أشرت إليه.
من يكون هؤلاء القوم الذين لهم نباهة صيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم، غير علم "الفصاحة" الذي قالوا ذلك القول فيه، وتداولته الألسن ونشرته حتى فشا وظهر، وتمكنت أقوالهم المدخولة هذا التمكن، ورسخت في النفوس هذا الرسوخ، وتشعبت عروقها هذا التشعب، مع ما فيها من التهافت والسقوط وفحش الغلط، والتي إذا نظرت فيها لم تر باطِلاً فيه شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفاً فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغشَّ بَحْتاً، والغيظ صرفًا؟، كما يقول عبد القاهر [دلائل الإعجاز: 465، 466] والأمران الثاني والرابع، كان موضع اهتمامي يومئذ، وينبغي أن يكونا موضع اهتمام كل أحد.
وفتشت ونقبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتناسيت الأمر كله إلا قليلًا، نحوًا من ثلاثين سنة.
حتى كانت سنة 1381 هـ "1961 م"، وطبع كتاب "المغني" للقاضي "أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسداباذي"،

(مقدمة/5)


- د -

الفقيه الشافعي، المتكلم المعتزلي [توفي سنة 415]، وكان إمام أهل الاعتزال في زمانه، وعمر دهرًا طويلًا، وكثر أصحابه، وبعد صيته، ورحل إليه طلاب العلم.
في تلك السنة صدر الجزء السادس عشر من كتاب "المغني"، فإذا هو يتضمن فصولًا طويلة في الكلام على "ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أعجاز القرآن، وسائر المعجزات الظاهرة عليه صلى الله عليه وسلم"، [المغني 16 - 143 - 433]، فلما قرأته ارتفع كل شك، وسقط النقاب عن كل مستتر، وإذا التعريض الذي ذكره عبد القاهر حين قال: "واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إِذا كان صدره عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في نوع من أنواع العلوم غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه ... " [انظر ما مضى]، لا يعني بهذا التعريض وبهذه الصفة أحدًا سوى قاضي القضاة المعتزلي عبد الجبار، فهو المعتزلي النابه الذكر، البعيد الصيت، العالي المنزلة في علم الكلام والأصول، بيد أنه هو الخامل الذكر، الخالي الوفاض من علم "البلاغة" و "الفصاحة" و "البيان"، ولكنه بهذه البضاعة المزجاة من علم "الفصاحة"، جاء يتكلم في الوجوه التي يقع بها التفاضل في فصاحة الكلام، [المغني: 16: 197 - 199 وما بعدها]، وفي "إعجاز القرآن" عامة!!
والدليل الساطع، هو أن الأقوال التي ذكرتها آنفًا، وقلت: إن عبد القاهر لم يصرح بنسبتها إلى أحد، هي أقوال القاضي عبد الجبار في كتابه المغني بنصها ولفظها، فهو يقول:
"إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة ... "، ثم يقول بعد ذلك: "إن المعاني لا يقع فيها تزايد، وإذن فيجب أن يكون التزايد عنه الألفاظ كما ذكرناه ... "، [المغني16: 199، 200] وهذا القولان هما اللذان يدور كتاب "دلائل الإعجاز" على ردهما وإبطال معناهما. هذا فضلًا عن أقوالٍ أخر ذكرها عبد القاهر، ووجدتها مائلة بنصها

(مقدمة/6)


- هـ -

أيضًا في هذا الموضع الذي ذكر فيه القاضي المعتزلي "إعجاز القرآن"، كالقول في "جزالة اللفظ"، حيث يقول القاضي: "ولذلك لا يصح عندنا أن يكون اختصاص القرآن بطريقة في النظم دون الفصاحة، التي هي جزالة اللفظ وحسن المعنى" [المغني16: 198 وما قبله]، فيذكرها عبد القاهر في كتابه ثم يقول: "وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أن يحفظوا كلامًا للأولين ويتدارسونه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يُسألوا عنه، بيانٌ وتفسير إلا "علم الفصاحة" .... فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إن ذلك يكون بجزالة اللفظ" وإذا هم تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ، وعلى وجهٍ دونَ وجهٍ"، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون "الجزالة" بشيء"، [دلائل الإعجاز: 456].
ولم أرد بهذا الاستقصاء، ولكني أردت أن أنبه إلى علاقة لا ينبغي إغفالها أو التهاون فيها، وهي هذه العلاقة بين كلام عبد القاهر، وكلام القاضي عبد الجبار، ذلك أن عبد القاهر منذ بدأ في شق طريقه إلى هذا العلم الجديد الذي أسسه، كان كل همه أن ينقض كلام القاضي في "الفصاحة"، وأن يكشف عن فساد أقواله في مسألة "اللفظ"، بالمعنى المؤقت المحدد في كلامه في كتابه "المغني"، دون المعنى المطلق لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظٌ ونطْقُ لسانٍ. وإغفال هذه العلاقة يؤدي -أو قد أدى- إلى غلط فاحش في فهم مسألة "اللفظ" و "المعنى" عند عبد القاهر في كتابه هذا. فلا "اللفظ" فهم على حقيقته عند عبد القاهر، ولا "المعنى" أيضًا عرف على حقيقته عنده.
وأنا أرجح أن عبد القاهر كتب كتابه هذا في أواخر حياته، بدليل ما هدتنا إليه النسخة المخطوطة من "الدلائل"، التي رمزت إليها بالحرف "ج"، كما سأبينه فيما بعد، وأنه كان يوشك أن يعيد النظر في كتابه؛ ليجعله تصنيفًا في

(مقدمة/7)


- و -

علم جديد اهتدى إليه، واستدركه على من سبقه، وشق له الطريق ومهده، ولكن اخترمته المنية قبل أن يحقق ما أراد. وأرجح أيضًا أن السر في العجلة التي صرفته عن التبويب والتقسيم والتصنيف، وأوجبت أن يبنى الكتاب هذا البناء العجيب، هو فيما أظن، أن طائفة من المعتزلة، من أهل العلم، في بلدته جرجان وفي زمانه، كان لهم شغف ولجاجة وشغب وجدال ومناظرة في مسألة "إعجاز القرآن"، واتكأوا في جدالهم على أقوال القاضي عبد الجبار التي جاءت في كتابه "المغني"، والتي ذكرت مواضعها آنفًا، وشققوا الكلام فيها، وكانوا كما وصفهم عبد القاهر بقوله: "فإِن أردتَ الصدقَ، فإِنَّك لا تَرى في الدنيا أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع "اللَّفظِ"، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم منها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في "اللفظ". فقد بلغ من ملكيته لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم، وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإصغاء ولا صدر، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهُوينا أَسبابَها، فهي تَغْتَرُّ بالأضاليلِ، وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشبه، وتسرع إلى القول المموه"، [دلائل الإعجاز: 458].
ومن الدليل أيضًا على العلاقة الوثيقة بين كتاب عبد القاهر، وأقوال القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني"، أي بين كتابه وبين المعتزلة، أن كتابه خلا من ذكر "الصرفة"، وهي أشهر أقوال المعتزلة؛ لأنها من اختراع شيخهم القديم النظَّام، إلا في موضع واحد من الكتاب كله [دلائل الإعجاز: 390]؛ وذلك لأن القاضي عبد الجبار نفسه، وهو إمام المعتزلة في زمانه، رد مقالة "الصرفة" ونقضها في كتابه [المغني: 16: 323 - 328]، فأغفلها عبد القاهر أيضًا، وخصهم برسالته "الرسالة الشافية" الخارجة من كتاب دلائل الإعجاز، والتي نشرتها ملحقة بالكتاب.

(مقدمة/8)


- ز -

هذا ما أردت أنبه إليه؛ ليعيد الدارسون النظر في كتاب عبد القاهر، وفي قضية "اللفظ" و "المعنى" التي اختلط الأمر فيها اختلاطًا شديدًا أدى إلى فساد كبير في زماننا هذا، وبالله التوفيق.
والآن، أنصرف إلى القول في النسخ التي اعتمدت عليها في قراءة كتاب "دلائل الإعجاز"، وفي التعليق عليه تعليقًا مختصرًا، وجعلت همي أن يكون قارئ الكتاب ماضيًا في قراءته دون أن يتعثر أو يتلفت تلفتًا يعوقه عن المضي في قراءته، فأعنته بتقسيمه إلى فقر مرقمة، ودللته على سياق كلام عبد القاهر؛ فإن كلامه ربما شق على كثير من أهل زماننا، حين كتب عليهم أن يهجروا كتب أسلافهم من الفحول الأفذاذ.
• النسخة المخطوطة الأولى "ج": وهي من مكتبة "حسين جلبي معاني، بتركية، وعدد أوراقها: 203 ورقة"، ليس فيها اسم ناسخها، ولكن تمت كتابتها في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة (568 هـ)، أي بعد وفاة عبد القاهر بنحو سبع وتسعين سنة، [دلائل الإعجاز: 557]، ونص كاتبها في أحد الفصول الملحقة بالكتاب أن "هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب، كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة"، "572 هـ" [دلائل الإعجاز: 568]، ثم يذكر في صدر فصل آخر بعده: "هذا مما نقل من مسودته بخطه بعد وفاته رحمه الله"، [دلائل الإعجاز: 539]، فدلنا هذا على أنه نقل ما نقل من خط عبد القاهر.
ولكني بقي شيء آخر، هو أن علي هذه المخطوطة في هامشها تعليقات بخط كاتبها، استظهرت -وأنا أقرأ الكتاب عند الطبع- أنها من تعليق عبد القاهر نفسه، حتى جاءت مواضع تقطع قطعًا مبينًا أنها تعليقات عبد القاهر على

(مقدمة/9)


- حـ -

نسخته، فدل هذا، والذي قبله، على أن هذه النسخة منقولة من نسخة عبد القاهر التي كتبها بخطه في آخر حياته، وهذا بيان بأكثر المواضع التي جاءت فيها الحواشي مسلسلة، وفيها الدلالة على ذلك:
ص: 20، تعليق: 2/ 27، تعليق: 5/ 31، تعليق: 2/ 152: تعليق: 4، وفي صدره: "قال عبد القاهر، / 159، تعليق: 4 وهو أسلوب عبد القاهر/ 162، تعليق: 1/ 165، تعليق: 2/ 195، تعليق: 1/ 210، تعليق: 3/ 216، تعليق: 4، وهو أسلوب عبد القاهر/ 230، تعليق: 1/ 264، تعليق: 2، أسلوب عبد القاهر/ 276، تعليق: 1/ 288، 289، تعليق: 4، أسلوب عبد القاهر/ 290، تعليق: 1 أسلوب عبد القاهر/ 301، تعليق: 2/ 310، تعليق: 4/ 313، تعليق: 1/ 318 تعليق: 1/ 340 - 243 تعليق: 2، وكتب الناسخ، "حاشية"، ثم كتب فوقها: "هذه الحاشية مؤخرة في أماليه المدونة"، فهذا نص يقطع بأن جمع الحواشي منقولة من نسخة عبد القاهر، وأيضًا؛ فإن هذه الحاشية نفسها ستأتي في نص كلام عبد القاهر بعد قليل في رقم: 405/ 356، تعليق: 2/ 367، تعليق: 1/ 373، تعليق: 2/ 374، تعليق: 2/ 380، تعليق: 2/ 383، تعليق: 1، ونص الحاشية: "هذا تعليل لقولي: لم يلزم من إثبات الآلهة"، وهو نص قاطع بأن هذه الحواشي نسخة عبد القاهر/ 447، تعليق: 2/ 499، تعليق، 2، وهو بلا شبهة من كلام عبد القاهر: 502، تعليق: 1
وقد فاتتني حواش أخر كتبها عبد القاهر على هذه النسخة، ولكني لم أحسن قراءتها، فلم أثبت منها شيئًا. والذي ذكرته آنفًا قاطع كما ترى، بأن ناسخ "ج"، إنما نسخها من نسخة عبد القاهر نفسه، وزاد: فائدة خلت منها جميع النسخ، ولهذا جعلتها هي الأصل الأول الذي اعتمدت عليه.
أما ترتيب هذه النسخة "ج"، فهو كما يلي:
1 - من ص: 1، إلى ص: 307، نص كتاب "دلائل الإعجاز"، كما دلت على النسخة الأخرى "س"، كما سأبينه، ثم ترك بياضًا بين الكلامين وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا القسم يقع في مطبوعتنا من ص: 1 إلى ص: 478.

(مقدمة/10)


- ط -

2 - من ص: 307 - 332، ويبدأ فصل آخر، وهو موجود بهذا الترتيب في مطبوعة رشيد رضا، وهو في مطبوعتنا من ص: 481 - 524.
3 - من ص: 333 - 343، فصل آخر، موجود في نسخة رشيد رضا، وهو في مطبوعتنا من ص: 525 - 538.
4 - من ص: 343 - 351، موجود في نسخة رشيد رضا. مؤخرُا عن موضعه في المخطوطة، وهو فيها من ص: 393، إلى آخر مطبوعته ص: 402، واتبعته في ذلك، فهو في مطبوعتنا مؤخر أيضًا، وهو فيها من ص: 546 إلى ص: 557.
5 - من ص: 352 - 356، موجود في نسخة رشيد رضا مقدمًا عن موضعه في المخطوطة، وهو فيها من ص: 389، إلى ص 393، واتبعته أيضًا فهو في مطبوعتنا من ص: 539 - إلى ص: 545.
6 - من أوسط ص: 356، إلى آخر ص: 360، فصول ومسائل ملحقة بالكتاب، ليست في نسخة رشيد رضا، وهي في مطبوعتنا من ص: 561، إلى ص: 569.
7 - من ص: 361 إلى ص: 366، وبعدها ص: 367، 368 ورقة بيضاء فاصلة: "المدخل في دلائل الإعجاز من إملائه"، وقد قدمها رشيد رضا في أول كتاب "دلائل الإعجاز" وأحسن، فاتبعته وقدمتها في اول هذه المطبوعة أيضًا.
8 - من ص: 369 - 405، "الرسالة الشافية في الإعجاز، هذه الرسالة خارجة من كتابه الموسوم بدلائل الإعجاز"، وقد نشرت من قبل كما سأذكر ذلك، ونشرتها أيضًا، وهي في مطبوعتنا من ص: 573 إلى ص: 628 فهذه هي النسخة التي جعلتها أصلًا أول؛ لنفاستها وعتقها، ولأنها

(مقدمة/11)


- ى -

منقولة من خطّ الشيخ رحمه الله، وعليها حواشيه بخَطّه، ولم تخلُ من بعض العيوب، أشرت إليها فى تعليقى على الكتاب.
• النسخة المخطوطة الثانية " س"، وهى من مكتبة أسعد أفندى 3004، بتركية، وليسَ فيها اسم ناسخها ولا تاريخ كتابتها، والأرجح أنها من خطوط القرن السادس أيضاً أو القرن السابع. وهى نسخة نفيسة دقيقة مضبوطة ضبطاً كاملاً، مع بعض العيوب التى تتخللها، والتى أشرت إليها فى تعليقى على الكتاب، وهى خالية من كُلّ حاشية، وهى التى دلَّتنى على آخرِ كتاب " دلائل الاعجاز "، وأن ما بعد ذلك فى نسخة " ج "، إنما هو " رسائل وتعليقات " نقلها كاتب "ج " من خَطّ عبد القاهر بعد وفاته رحمه الله، والموجودة أيضاً فى الأصول التى طبعت عنها نسخة رشيد رضا. وهى تقع فى مطبوعتنا من أول الكتاب ص: 1، إلى ص: 478، ونص كاتبها أنه بهذه النهاية تم كتاب " دلائل الاعجاز ".
فهاتان هما النسختان النفيستان اللتان جعلتُهمَا اصلاً لقراءتى وتعليقى.
• مطبوعة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله سنة 1321، وهى أولُ مطبوعة صدرت، من كتاب " دلائل الِإعجاز"، فكتب فى آخر الكتاب كلمةً ذكر فيها أنه نشر كتاب "أسرار البلاغة " لعبد القاهر فى أول سنة 1320، ثم قال: " لما هاجرت إلى مصرَ لإنشاء مجلة " المنار " الِإسلامى فى سنة 1315، وجدتُ الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده، رئيس جمعية إحياء العلوم العربية، ومفتى الديار المصرية، مُشتغِلاً بتصحيح كتاب " دلائل الِإعجاز، وقد استحضر نسخةً من المدينة المنورة، ومن بغداد، ليقابلها على النسخة التى عنده. وأزيدُ الآن، أنه قد عُنى بتصحيحه أتم عناية، وأشرك معه فيها إمامَ اللغة وآدابها فى هذا العصر، الشيخ محمد محمود التركزىَّ الشِّنْقِيطى، ونَاهيك بكتابٍ اجتمعَ على تصحيح أصله علاّمتا المعقول والمنقول".

(مقدمة/12)


- ك-

فهذه المطبوعة إذنْ، لها ثلاثة أصولٍ مخطوطةٍ لا أعرفُ عنْها شيئاً، ولكن لما لها من منزلة التقدم، ولأن الذين تولَّوْا نشرها ثلاثة من كبار علمائنا فى هذا العصر، فقد جعلتُها أصلاً ثالثاً، واتبعتُ ترتيبَها، حتى لا تَخْتَلَّ معرفة الناس بهذا الكتاب الجليل الذى بقى فى أيديهم على صورته هذه أكثر من ثمانين سنة. ولكن لابُدَّ من الاشارة هنا إلى أن الخطوطتين"ج " و "س" قد صححتَا خَلَلاً شديداً كان فى بضعة مواضع من الكتاب، وكان شَرها وأبشعها ما وقع فى هذه المطبوعة فى ص: 390، 391 وهو واقع فى مطبوعتنا ص: 540 تعليق: 4، فقد كان كلاماً لا يُعْقَل ولا يُهْتَدَى إلى صوابه، ولا أدرى كيف وقع هذا الخلل. وعندما بدأت قراءة الكتاب ونشره، كانت نيَّتى أن استبقى جميع تعليقات الشيخ رشيد رحمه الله، ففعلتُ ذلك فى أوائل الصفحات، ثم أضربتُ عنْ ذلك، لقلة فائدة هذه الحواشى، ولكيلا يختلطَ عملى بعمل غيرى، ولكنّى لم أخلِ تعليقاتى من الإشارة إلى تعليقاته رحمه الله.
فهذه المطبوعة، إذنْ، كأنها اعتمدت على خمس مخطوطات: مخطوطة " ج " و " س"، ثم مخطوطة المدينة، ومخطوطة بغداد، ومخطوطة الشيخ محمد عبده، وهى ثلاثة لا أعرف عنها شيئًا، إلا ثِقة منِّى بعمل الشيخ رشيد رضا رحمه الله، وغفر لنا وله.
بقى شىء واحد، وهو أنى وضعت فى هامش الكتاب أرقام صفحات المخطوطة " ج" برسم الأعداد العربية المألوف فى بلادنا، وأرقام صفحات الخطوطة " س " برسم الأعداد التى كتب بها الأعاجم أعدادهم، وأما صفحات مطبوعة الشيخ رشيد، فقد وضعت أرقام صفحاتها فى دائرة
O هكذا، وهى فاصلة فى سياق الكلام، وآثرت ذلك، لأنّ هذه المطبوعة بقيت دهراً طويلاً فى أيدى العلماء، وأحالوا إلى صفحاتها فى حواشيهم، لأنها أجودُ نسخةٍ طبعت من كِناب " دلائل الاعجاز" حتى تم طبعُ نسختنا هذه.

(مقدمة/13)


- ل -

• أما " الرسالة الشافية" المثبتة فى آخر نسخة "ج "، فقد نص الناسخ على أنها " خارجة من كتابه الموسم بدلائل الإعجاز "، وقد نشرها من قبل الأستاذان " محمد خلف الله أحمد " و " محمد زغلول سلام "، فى مجموعة ذخائر العرب، ضمن كتاب بعنوان: " ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن، للرُّمَّاني، والخَطَّابى، وعبد القاهر الجرجانى "، عن نسختنا "ج " نفسها. وقد آثرت أن أعيد نَشْرَها، لأنها قطعة من النسخة "ج " التى جعلتُها أصلاً معتمداً للنشر، ثم للسبب الذى ذكرته آنفاً من أن عبد القاهر، كان ينقضُ بكتابه قول الطائفة التى اتبعت القاضى عبد الجبار من المعتزلة، وقالت بقوله وردَّدته، ولم يذكر فيه القائلين من المعتزلة بقول شيخهم القديم النظام فى " الصرفة "، وأفرد لهم هذه " الرسالة الشافية "، ففيها الردّ على أهل " الصرفة " وغيرهم من المعتزلة. وكانت أيضاً هذه المطبوعة الأولى، غير مطابقة كل المطابقة لما فى المخطوطة، كما أشرت إليه فى التعليق عليها، وأرجو أن كون قد أحسنتُ.
والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً على توفيقه وعظيم إنعامِه علىَّ، بٍأن أتولَّى قراءةَ هذا السفر الجليل والتعليقَ عليه، مُقِرًّا بالعَجْزِ والتقصير، ضارعا إليه أن يَغْفر لى ما أسأتُ فيه، وأسألهُ أن يُعيننى على مَا أُقْحِم نفسى فيه من عَمَل أريدُ به وجهَهُ سبحانه، ثُمَّ ما أضمرُهُ من خدمة هذه اللُّغة الشريفة النبيلة التى شرفَها الله وكرَّمها بتنزيل كتابه بلسانٍ عربىّ مبين، وصلَّى الله على النبىّ الأمِّىِّ صلاة تُزْلِفُنا عنده، صلَّى الله عليه وسلَّم، وصلَّى الله على أبويه الكريمين إبْراهيم وإسْماعيل وعلى سائر أنبيائه ورُسُله. اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا ويسِّر لنا كُل عسِير.

الثلاثاء: 5 جمادى الأولى سنة 1404
7 فبراير سنة 1984
مصر الجديدة/ 3 شارع الشيخ حسين المرصفى

أبو فهر
محمود محمد شاكر

(مقدمة/14)