دلائل الإعجاز ت هنداوي فصل في تحقيق القول
على «البلاغة» و «الفصاحة»، و «البيان» و «البراعة»،
وكلّ ما شاكل ذلك، ممّا يعبّر به عن فضل بعض القائلين على بعض،
من حيث نطقوا وتكلّموا، وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد،
وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم؛ ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم.
ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها،
مما يفرد فيه اللّفظ بالنعت والصّفة، وينسب فيه الفضل والمزيّة
إليه دون المعنى، غير وصف الكلام بحسن الدّلالة وتمامها فيما
له كانت دلالة، ثم تبرّجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب
وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظّ الأوفر من ميل
القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رغم الحاسد ولا جهة
لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصحّ
لتأديته، وتختار له اللفظ الذي هو أخصّ به، وأكشف عنه وأتمّ
له، وأحرى بأن يكسبه نبلا، ويظهر فيه مزيّة.
وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في
التأليف،- وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا
وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا، وتؤدّي في الجملة معنى من
المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمّ كلمة إلى كلمة،
وبناء لفظة على لفظة- هل «1» يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل
في
__________
(1) سياق الكلام كما يلي: ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل ... هل
يتصور.
(1/38)
الدّلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها
الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به، حتى يقال إن
«رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمّي به وحتى يتصوّر في
الاسمين يوضعان لشيء واحد، أن يكون هذا أحسن نبأ وأبين كشفا عن
صورته من الآخر، فيكون «الليث» مثلا أدلّ على السبع المعلوم من
«الأسد» وحتى أنّا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية
والفارسية، ساغ لنا أن نجعل لفظة «رجل» أدلّ على الآدميّ
الذّكر من نظيره في الفارسية؟.
وهل يقع في وهم وإن جهد، أن تتفاضل الكلمتان المفردتان، من غير
أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم، بأكثر من أن
تكون هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف
هذه أخفّ وامتزاجها أحسن، ومما يكدّ اللسان أبعد؟.
وهل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من
النظم، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها
لأخواتها؟.
وهل قالوا: لفظة متمكنة، ومقبولة، وفي خلافه: قلقة، ونابية،
ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين
هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنّبوّ عن سوء التلاؤم،
وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأنّ السابقة لم تصلح
أن تكون لفقا «1» للتالية في مؤدّاها؟.
وهل تشكّ إذا فكرت في قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي
ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ
الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44]، فتجلّى لك منها الإعجاز،
وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجد «2» ما وجدت من المزيّة
الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه
الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشّرف إلا من حيث
لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقر
بها إلى آخرها، وأنّ الفضل تناتج ما بينها، وحصل من
مجموعها؟.
إن شككت، فتأمّل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين
أخواتها وأفردت، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه وهي في مكانها من
الآية؟ قل: «ابلعي»،
__________
(1) لفقت الثوب ألفقه لفقا وهو أن تضم الشّقّة إلى الأخرى
فتخيطهما. ولفق الشقتين: ضم إحداهما إلى الأخرى. اللسان/ لفق/
(10/ 331).
(2) أنك لم تجد: مفعول «تشك».
(1/39)
واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما
قبلها وما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أنّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض،
ثم أمرت، ثم في أن كان النداء «بيا» دون «أيّ»، نحو «يا أيتها
الأرض»، ثم إضافة «الماء» إلى «الكاف»، دون أن يقال: «ابلعي
الماء»، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، نداء
السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل:، «وغيض الماء»، فجاء
الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنّه لم يغض إلّا بأمر آمر
وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: وَقُضِيَ
الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو: اسْتَوَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ، ثم إضمار «السفينة» قبل الذّكر، كما هو شرط
الفخامة والدّلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة
«بقيل» في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص- التي تملؤك
بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من
أقطارها- تعلّقا «1» باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى
في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق
العجيب؟.
فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا، أنّ الألفاظ لا تتفاضل
من حيث هي ألفاظ مجرّدة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة
وخلافها، في ملائمة معنى اللّفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه
ذلك، مما لا تعلّق له بصريح اللفظ.
ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها
بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر، كلفظ «الأخدع» في بيت
الحماسة:
[من الطويل]
تلفّتّ نحو الحيّ حتّى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
«2»
وبيت البحتري: [من الطويل]
__________
(1) سياق الكلام: أفترى لشيء من هذه ... تعلقا باللفظ.
(2) البيت للصمّة بن عبد الله القشيري في لسان العرب (وجع)،
وبلا نسبة في أساس البلاغة (لفت)، وفي شرح حماسة أبي تمام (3/
114)، واللّيت بالكسر: صفحة العنق، وقيل: اللّيتان صفحتا
العنق، وقيل: أدنى صفحتي العنق من الرأس، عليهما ينحدر
القرطان. والأخدع: شعبة من الوريد، وفي الحديث: أنه احتجم على
الأخدعين والكاهل، والأخدعان: عرقان في جانبي العنق خفيا وبطنا
والجمع أخادع. اللسان (ليت)، (خدع).
(1/40)
وإنّي وإن بلّغتني شرف الغنى ... واعتقت من
رقّ المطامع أخدعي «1»
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها
في بيت أبي تمام: [من المنسرح]
يا دهر قوّم من أخدعيك، فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك «2»
فتجد لها من الثّقل على النفس، ومن التنغيص والتكدير، أضعاف ما
وجدت هناك من الرّوح والخفّة، ومن الإيناس والبهجة.
ومن أعجب ذلك لفظة «الشّيء»، فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع،
وضعيفة مستكرهة في موضع. وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى قول
عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ: [من الطويل]
ومن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض
كالدّمى «3»
وقول أبي حيّة: [من الطويل]
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاها شيء لا يملّ
التّقاضيا «4»
فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول، ثم انظر إليها في بيت
المتنبي: [من الطويل]
لو الفلك الدّوّار أبغضت سعيه ... لعوّقه شيئ عن الدّوران «5»
فإنك تراها تقلّ وتضؤل، بحسب نبلها وحسنها فيما تقدّم وهذا باب
واسع، فإنك تجد متى شئت الرّجلين قد استعملا كلما بأعيانها، ثم
ترى هذا قد فرع السّماك «6»، وترى ذاك قد لصق بالحضيض، فلو
كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزيّة
والشرف استحقّت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب
في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف
بها الحال، ولكانت إمّا أن تحسن أبدا، أو لا تحسن أبدا.
__________
(1) البيت للبحتري في ديوانه فانظره، والأخدع: عرق في العنق.
(2) البيت في ديوانه، والخرق: نقيض الرّفق، والخرق مصدره.
اللسان (خرق).
(3) البيت في ديوانه، والكتاب (1/ 165)، والمقاصد النحوية (3/
531).
(4) في ديوانه المجموع، وهو بلا نسبة في لسان العرب (قضى)،
وتاج العروس (قضى).
(5) في ديوانه وهو من القصيدة التي قالها في مدح كافور سنة 348
هـ.
(6) فرع كلّ شيء: أعلاه. والسماء كان نجمان نيّران أحدهما
الرامح والآخر الأعزل. ا. هـ القاموس (1218).
(1/41)
ولم تر قولا يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبّر، وكيف يورد
ويصدر، كهذا القول. بل إن أردت الحقّ، فإنه من جنس الشيء يجري
به الرجل لسانه ويطلقه، فإذا فتّش نفسه، وجدها تعلم بطلانه،
وتنطوي على خلافه، ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد،
ولا يكون له صورة في فؤاد. |