دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل القول على فروق في الخبر
أوّل ما ينبغي أن يعلم منه أنّه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتمّ الفائدة دونه، وخبر ليس بجزء من الجملة، ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ، كمنطلق في قولك: «زيد منطلق»، والفعل كقولك: «خرج زيد»، فكل واحد من هذين جزء من الجملة، وهو الأصل في الفائدة.
والثاني هو الحال: كقولك: «جاءني زيد راكبا»، وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة، ومن حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال، كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتّ «الركوب» في قولك: «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلّا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، ولم تجرّد إثباتك للركوب ولم تباشره به، بل ابتدأت فأثبتّ المجيء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع للمجيء، وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو: «زيد منطلق» و «خرج عمرو»، فإنك مثبت للمعنى إثباتا جرّدته له، وجعلته يباشر من غير واسطة، ومن غير أن تتسبّب بغيره إليه، فاعرفه.
وإذ قد عرفت هذا الفرق، فالذي يليه من فروق الخبر، هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم، وبينه إذا كان بالفعل. وهو فرق لطيف تمسّ الحاجة في علم البلاغة إليه.
وبيانه، أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدّده شيئا بعد شيء.
وأما الفعل فموضوعه على أنّه يقتضي تجدّد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء.
فإذا قلت: «زيد منطلق»، فقد أثبتّ الانطلاق فعلا له، من غير أن تجعله يتجدّد ويحدث منه شيئا فشيئا، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: «زيد طويل»، و «عمرو قصير»: فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدّد

(1/117)


ويحدث، بل توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: «زيد منطلق» لأكثر من إثباته لزيد.
وأما الفعل، فإنه يقصد فيه إلى ذلك. فإذا قلت: «زيد ها هو ذا ينطلق»، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا، وجعلته يزاوله ويزجّيه.
وإن شئت أن تحسّ الفرق بينهما من حيث يلطف، فتأمل هذا البيت: [من البسيط]
لا يألف الدّرهم المضروب خرقتنا، ... لكن يمرّ عليها وهو منطلق «1»
هذا هو الحسن اللائق بالمعنى، ولو قلته بالفعل: «لكن يمر عليها وهو ينطلق»، لم يحسن.
وإذا أردت أن تعتبره حيث لا يخفى أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، فانظر إلى قوله تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18]، فإن أحدا لا يشك في امتناع الفعل هاهنا، وأن قولنا: «كلبهم يبسط ذراعيه»، لا يؤدّي الغرض. وليس ذلك إلا لأنّ الفعل يقتضي مزاولة وتجدّد الصفة في الوقت، ويقتضي الاسم ثبوت الصّفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل، ومعنى يحدث شيئا فشيئا. ولا فرق بين «وكلبهم باسط»، وبين أن يقول: «وكلبهم واحد» مثلا، في أنك لا تثبت مزاولة، ولا تجعل الكلب يفعل شيئا، بل تثبته بصفة هو عليها. فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب.
ومتى اعتبرت الحال في الصّفات المشبهة وجدت الفرق ظاهرا بينا، ولم يعترضك الشك في أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت: «زيد طويل»، و «عمرو قصير»: لم يصلح مكانه «يطول» و «يقصر»، وإنما تقول: «يطول» و «يقصر»، إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبيّ ونحو ذلك، مما يتجدّد فيه الطول أو يحدث فيه القصر. فأمّا وأنت تحدّث عن هيئة ثابتة، وعن شيء قد استقرّ طوله، ولم يكن ثمّ تزايد وتجدد، فلا يصلح فيه إلا الاسم.
وإذا ثبت الفرق بين الشيء والشيء في مواضع كثيرة، وظهر الأمر، بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى
__________
(1) البيت للنصر بن جؤيّة في الإشارات (65)، ومعاهد التنصيص (1/ 207)، وشرح الواحدي على ديوان المتنبي (157)، والإيضاح (95).

(1/118)


أحدهما قد صلح في مكان الآخر، وتعلم أنّ المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفيّ على الجليّ. وينعكس لك هذا الحكم، أعني أنّك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثمّ لا يصلح الاسم مكانه، ولا يؤدّي ما كان يؤدّيه.
فمن البيّن في ذلك قول الأعشى: [من الطويل]
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرّق
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق «1»
معلوم أنه لو قيل: «إلى ضوء نار متحرّقة»، لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس، ثم لا يكون ذاك النبوّ وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به، بل من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال.
وكذلك قوله: [من الكامل]
أوكلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «2»
وذلك لأن المعنى في بيت الأعشى على أنّ هناك موقدا يتجدّد منه الإلهاب والإشعال حالا فحالا، وإذا قيل: «متحرقة»، كان المعنى أن هناك نارا قد ثبتت لها وفيها هذه الصفة، وجرى مجرى أن يقال: «إلى ضوء نار عظيمة» في أنه لا يفيد فعلا يفعل وكذلك الحال في قوله: «بعثوا إليّ عريفهم يتوسم»، وذلك لأن المعنى على توسّم وتأمّل ونظر يتجدّد من العريف هناك حالا فحالا وتصفّح منه الوجوه واحدا بعد واحد: ولو قيل: «بعثوا إليّ عريفهم متوسّما»، لم يفد ذلك حقّ الإفادة.
__________
(1) البيتان في ديوانه (149، 150)، وقبلهما:
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفّق
ولا بد من جار يجيز سبيلها ... كما جوّز السّكّي في الباب فيتق
اليفاع: مرتفع من الأرض.
(2) البيت لطريف العنبري، وهو طريف بن تميم العنبري أبو عمرو شاعر مقل، جاهلي قتله أحد بني شيبان، وكان يسمى: «ملقي القناع» لأنه أول من ألقى القناع بعكاظ. والبيت في الأصمعيات (117)، والإيضاح (95)، والإشارات والتنبيهات (65)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 106). وعكاظ: أكبر أسواق العرب في الجاهلية، وعريف القوم: رئيسهم أو القيّم بأمرهم، يريد أنهم يبعثون إليه
عريفهم من أجل شهرته وعظمته.

(1/119)


ومن ذلك قوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 3]، لو قيل: «هل من خالق غير الله رازق لكم»، لكان المعنى غير ما أريد.
ولا ينبغي أن يغرّك أنّا إذا تكلّمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدّرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول، في «زيد يقوم»، إنه في موضع «زيد قائم»، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيهما استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء، لم يكن أحدهما فعلا والآخر اسما، بل كان ينبغي أن يكونا جميعا فعلين، أو يكونا اسمين.
ومن فروق الإثبات أنك تقول: «زيد منطلق» و «زيد المنطلق»، «المنطلق زيد»، فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص وفائدة لا تكون في الباقي. وأنا أفسّر لك ذلك.
اعلم أنك إذا قلت: «زيد منطلق»، كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقا كان، لا من زيد ولا من عمرو، فأنت تفيده ذلك ابتداء.
وإذا قلت: «زيد المنطلق» كان كلامك مع من عرف أن انطلاقا كان، إما من زيد وإما من عمرو، فأنت تعلمه أنه كان من زيد دون غيره.
والنكتة أنك تثبت في الأول الذي هو قولك: «زيد منطلق» فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان، وتثبت في الثاني الذي هو «زيد المنطلق» فعلا قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك. فقد وافق الأوّل في المعنى الذي له كان الخبر خبرا، وهو إثبات المعنى للشيء. وليس يقدح في ذلك أنّك كنت قد علمت أن انطلاقا كان من أحد الرجلين، لأنّك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو، وكان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد، كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله.
وتمام التحقيق أنّ هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلّغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا في وقت كذا لغرض كذا، فجوّزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل لك: «زيد المنطلق»، صار الذي كان معلوما على جهة الجواز، معلوما على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمّى «فصلا» بين الجزءين فقالوا: «زيد هو المنطلق».
ومن الفرق بين المسألتين، وهو مما تمسّ الحاجة إلى معرفته، أنك إذا نكّرت

(1/120)


الخبر جاز أن تأتي بمبتدإ ثان، على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول، وإذا عرّفت لم يجز ذلك.
تفسير هذا أنك تقول: «زيد منطلق وعمرو»، تريد «وعمرو منطلق أيضا»، ولا تقول: «زيد المنطلق وعمرو»، ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقا مخصوصا قد كان من واحد، فإذا أثبته لزيد لم يصحّ إثباته لعمرو.
ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين، فإنه ينبغي أن تجمع بينهما في الخبر فتقول: «زيد وعمرو هما المنطلقان»، لا أن تفرّق فتثبته أوّلا لزيد، ثم تجيء فتثبته لعمرو.
ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا: «هو القائل بيت كذا»، كقولك:
جرير هو القائل: [من الطويل] وليس لسيفي في العظام بقيّة «1» فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره، فتقول: «جرير هو القائل هذا البيت وفلان»، حاولت محالا، لأنه قول بعينه، فلا يتصوّر أن يشرك جريرا فيه غيره.
واعلم أنك تجد «الألف واللام» في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوها:
أحدها: أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة، وذلك قولك:
«زيد هو الجواد» و «عمرو هو الشجاع»، تريد أنه الكامل، إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود أو الشجاعة لم توجد إلا فيه، وذلك لأنك لم تعتدّ بما كان من غيره، لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك، فلو قلت: «زيد هو الجواد وعمرو»، كان خلفا من القول.
والوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه، بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. ولا يكون ذلك إلّا إذا قيّدت المعنى بشيء يخصّصه ويجعله في حكم
__________
(1) البيت في ديوانه (461) من قصيدة قالها للفرزدق ويعاتب جده الخطفي، وتمامه والبيت قبله:
أنا ابن صريحي خندق غير دعوة ... يكون مكان القلب منها مكانيا
........... ... وللسيف أشوى وقعة من لسانيا
الشوى دون القتل قد قصد أن لسانه أمرّ وأمضى من السيف.

(1/121)


نوع برأسه، وذلك كنحو أن يقيّد بالحال والوقت، كقولك: «هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا» «1». وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدّى، ثم اشترطت له مفعولا مخصوصا، كقول الأعشى: [من المتقارب] هو الواهب المائة المصطفاة، إمّا مخاضا وإمّا عشارا «2» فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد، نوعا خاصّا من الوفاء، وكذلك تجعل هبة المائة من الإبل نوعا خاصّا، وكذا الباقي. ثم إنّك تجعل كل هذا خبرا على معنى الاختصاص، وأنه للمذكور دون من عداه.
ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى: أنه لا يهب هذه الهبة إلّا الممدوح؟
وربما ظنّ الظانّ أن «اللام» في «هو الواهب المائة المصطفاة» بمنزلتها في نحو «زيد هو المنطلق»، من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة، كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص. وليس الأمر كذلك، لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص، لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلّك على ذلك أنّ المعنى على أنه يتكرّر منه، وعلى أن يجعله يهب المائة مرة بعد أخرى، وأما المعنى في قولك: «زيد هو المنطلق»، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة، لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصوّر، كيف؟ وأنت تقول: جرير هو القائل:
وليس لسيفي في العظام بقية تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل، وبين أن تقصد إلى فعل واحد متعيّن، حاله في المعاني حال زيد في الرجال، في أنه ذات بعينها.
والوجه الثالث: أن لا يقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور، لا كما كان في «زيد هو الشجاع»، تريد أن لا تعتدّ بشجاعة غيره ولا كما ترى في قوله: «هو
__________
(1) قالها جبار بن مسلم بن سلمى عند ما وقف على قبر عامر بن الطفيل (كان والله لا يضل حتى يضل النجم ولا يعطش حتى يعطش البعير ولا يهاب حتى يهاب السيف وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا). الإصابة (1051).
(2) البيت في ديوانه (40)، والإيضاح (105)، تحقيق د. هنداوي، المخاض: الحوامل من النوق واحدتها «خلف» بفتح فكسر ففتح، من غير لفظ الجمع، العشار: المناسب من معانيها لما في البيت من تفصيل أنها الوالدات من الإبل، واحدتها «عشراء». كنفساء زنة ومعنى، الأول في الإبل، والثاني في النساء.

(1/122)


الواهب المائة المصطفاة»، ولكن على وجه ثالث، وهو الذي عليه قول الخنساء:
[من الوافر]
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا «1»
لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل، ولم تقيّد الحسن بشيء فيتصوّر أن يقصر على البكاء، كما قصر الأعشى هبة المائة على الممدوح، ولكنها أرادت أن تقرّه في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك.
ومثله قول حسان: [من الطويل]
وإنّ سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد «2»
أراد أن يثبت العبوديّة، ثم يجعله ظاهر الأمر فيها ومعروفا بها، ولو قال:
«ووالدك عبد»، لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة وعلى ذلك قول الآخر: [من الطويل]
أسود إذا ما أبدت الحرب نابها ... وفي سائر الدّهر الغيوث المواطر
واعلم أن للخبر المعرّف «بالألف واللام» معنى غير ما ذكرت لك، وله مسلك ثمّ دقيق ولمحة كالخلس، يكون المتأمل عنده كما يقال: «يعرف وينكر»، وذلك قولك: «هو البطل المحامي» و «هو المتّقى المرتجى»، وأنت لا تقصد شيئا مما تقدم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان، ولم يعلم أنه ممن كان كما مضى في قولك: «زيد هو المنطلق»، ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك: «ووالدك العبد»، ولكنّك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي؟ وهل حصّلت معنى هذه الصفة؟
وكيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علما، وتصوّرته حقّ تصوّره، فعليك صاحبك واشدد به يدك، فهو ضالّتك وعنده بغيتك، وطريقه طريق قولك: «هل سمعت بالأسد؟ وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرف، فزيد هو هو بعينه».
__________
(1) البيت في ديوانها.
(2) البيت في ديوانه (74)، من قصيدة يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه، والبيتان قبله:
لقد علم الأقوام أن ابن هاشم ... هو الغصن ذو الأفتان لا الواحد الوغد
ومالك فيهم محتد يعرفونه ... فدونك فالصق مثل ما لصق القرد
سنام المجد: أعلاه.

(1/123)


ويزداد هذا المعنى ظهورا بأن تكون الصّفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف، كقول ابن الرومي: [من الطويل]
هو الرّجل المشروك في جلّ ماله ... ولكنّه بالمجد والحمد مفرد «1»
تقديره، كأنه يقول للسامع: فكّر في رجل لا يتميّز عفاته وجيرانه ومعارفه عنه في ماله وأخذ ما شاءوا منه، فإذا حصّلت صورته في نفسك، فاعلم أنه ذلك الرجل.
وهذا فنّ عجيب الشأن، وله مكان من الفخامة والنّبل، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقّه. والمعوّل فيه على مراجعة النفس واستقصاء التأمّل، فإذا
علمت أنه لا يريد بقوله: «الرجل المشروك في جلّ ماله» أن يقول: هو الذي بلغك حديثه، وعرفت من حاله وقصّته أنّه يشرك في جلّ ماله، على حدّ قولك:
«هو الرجل الذي بلغك أنه أنفق كذا، والذي وهب المائة المصطفاة من الإبل» ولا أن يقول إنه على معنى: «هو الكامل في هذه الصفة»، حتى كأنّ هاهنا أقواما يشركون في جلّ أموالهم، إلّا أنه في ذلك أكمل وأتم؛ لأن ذلك لا يتصوّر. وذلك أن كون الرجل بحيث يشرك في جلّ ماله، ليس بمعنى يقع فيه تفاضل، كما أن بذل الرجل كل ما يملك كذلك، ولو قيل: «الذي يشرك في ماله»، جاز أن يتفاوت. وإذا كان كذلك، علمت أنه معنى ثالث. وليس إلا ما أشرت إليه من أنه يقول للمخاطب:
«ضع في نفسك معنى قولك: رجل مشروك في جلّ ماله، ثم تأمل فلانا، فإنك تستملي هذه الصورة منه، وتجده يؤديها لك نصّا، ويأتيك بها كملا».
وإن أردت أن تسمع في هذا المعنى ما تسكن النفس إليه سكون الصّادي إلى برد الماء، فاسمع قوله: [من الطويل]
أنا الرّجل المدعوّ عاشق فقره ... إذا لم تكارمني صروف زماني
وإن أردت أعجب من ذلك فقوله: [من الكامل]
أهدى إليّ أبو الحسين يدا ... أرجو الثّواب بها لديه غدا
وكذاك عادات الكريم إذا ... أولى يدا حسبت عليه يدا
إن كان يحسد نفسه أحد، ... فلأزعمنّك ذلك الأحدا «2»
فهذا كلّه على معنى الوهم والتقدير، وأن يصوّر في خاطره شيئا لم يره ولم يعلمه، ثم يجريه مجرى ما عهد وعلم.
__________
(1) البيت في ديوانه (589).
(2) الأبيات لابن الرومي في ديوانه (786).

(1/124)


وليس شيء أغلب على هذا الضرب الموهوم من «الذي»، فإنه يجيء كثيرا على أنك تقدّر شيئا في وهمك، ثم تعبر عنه «بالذي»، ومثال ذلك قوله: [من الطويل]
أخوك الّذي إن تدعه لملمّة ... يجبك، وإن تغضب إلى السّيف يغضب «1»
وقول الآخر: [من الطويل]
أخوك الّذي إن ربته قال: إنّما ... أربت، وإن عاتبته لان جانبه «2»
فهذا ونحوه على أنك قدّرت إنسانا هذه صفته وهذا شأنه، وأحلت السامع على من يعنّ في الوهم، دون أن يكون قد عرف رجلا بهذه الصفة، فأعلمته أن المستحقّ لاسم الأخوّة هو ذلك الذي عرفه، حتى كأنك قلت: «أخوك زيد الذي عرفت أنّك إن تدعه لملمة يجبك».
ولكون هذا الجنس معهودا من طريق الوهم والتخيّل، جرى على ما يوصف بالاستحالة، كقولك للرجل وقد تمنّى: «هذا هو الذي لا يكون»، و «هذا ما لا يدخل في الوجود»، وكقوله: [من الكامل]
ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبدا وما هو كائن سيكون «3»
ومن لطيف هذا الباب قوله: [من الطويل]
وإنّي لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه «4»
قد قدّر كما ترى ما لم يعلمه موجودا، ولذلك قال المأمون: «خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب». فهذا التعريف الذي تراه في الصاحب لا يعرض فيه شك أنه موهوم.
وأمّا قولنا: «المنطلق زيد»، والفرق بينه وبين أن تقول: «زيد المنطلق»، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنّهما سواء من حيث كان الغرض في
__________
(1) البيت لأبي حوط، حجية بن المضرب الكندي، وفي شرح الحماسة للتبريزي (3/ 98).
(2) البيت لبشار بن برد في ديوانه، إن ربته أي: أتيت بما يرتاب فيه قال لك أربت أي: انتفت عنك الريبة.
(3) البيت لعبد الله بن محمد بن أبي عيينة يقوله لذي اليمينين، وذو اليمينين طاهر بن الحسن بن رزيق مولى طلحة الطلحات الخزاعي وكان طاهر من أكبر أعوان المأمون ويحكى عنه في سبب التسمية بذي اليمينين أنه ضرب إنسانا بيساره فجعله قسمين. والبيت في الكامل للمبرد (26)، وقبله:
لما رأيتك قاعدا مستثقلا ... أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعرّ من أثوابها ... إن كان عندك للقضاء يقين
(4) البيت لأبي العتاهية في ديوانه.

(1/125)


الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد فليس الأمر كذلك، بل بين الكاملين فصل ظاهر.
وبيانه: أنك إذا قلت: «زيد المنطلق»، فأنت في حديث انطلاق قد كان، وعرف السامع كونه، إلّا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو؟ فإذا قلت: «زيد المنطلق»، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد، بعد أن كان يرى ذلك في سبيل الجواز.
وليس كذلك إذا قدّمت «المنطلق» فقلت: «المنطلق زيد»، بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنسانا ينطلق بالبعد منك، فلم تثبته، ولم تعلم أزيد هو أم عمرو، فقال لك صاحبك: «المنطلق زيد»، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد.
وقد ترى الرجل قائما بين يديك وعليه ثوب ديباج، والرجل ممن عرفته قديما ثم بعد عهدك به فتناسيته، فيقال لك: «اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا، أما تعرفه؟ لشدّ ما نسيت»، ولا يكن الغرض أن يثبت له لبس الديباج، لاستحالة ذلك، من حيث أن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر وإثبات مثبت لبسه له.
فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به، فجعل مبتدأ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبرا، فاعلم أنّ الغرض هناك، غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا، كقولك: «زيد المنطلق».
واعلم أنه ربّما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب، حتّى يظنّ أن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبرا، لم يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير. ومما يوهم ذلك قول النحويين في «باب كان»: «إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيّهما شئت اسما، والآخر خبرا، كقولك: «كان زيد أخاك» و «كان أخوك زيدا»، فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التّعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا وتثنّي بذاك، وحتى كأنّ الترتيب الذي يدّعى بين المبتدأ والخبر وما يوضع لهما من المنزلة في التقدّم والتأخّر، يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معا معرفتين.
ومما يوهم ذلك أنك تقول: «الأمير زيد»، و «جئتك والخليفة عبد الملك».
فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد، والخلافة لعبد الملك، كما يكون إذا قلت:
«زيد الأمير» و «عبد الملك الخليفة»، وتقوله لمن لا يشاهد، ومن هو غائب عن حضرة الإمارة ومعدن الخلافة.

(1/126)


وهكذا من يتوهّم في نحو قوله: [من الطويل]
أبوك حباب سارق الضّيف برده ... وجدّي يا حجّاج فارس شمرا «1»
أنّه لا فصل بينه وبين أن يقال: «حباب أبوك، وفارس شمّر جدّي». وهو موضع غامض.
والذي يبيّن وجه الصواب، ويدلّ على وجوب الفرق بين المسألتين:
أنّك إذا تأملت الكلام وجدت ما لا يحتمل التسوية، وما تجد الفرق قائما فيه قياما لا سبيل إلى دفعه، هو الأعمّ الأكثر.
وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما قدّمت لك من قولك: «اللابس الدّيباج زيد»، وأنت تشير له إلى رجل بين يديه، ثم انظر إلى قول العرب: «ليس الطيب إلّا المسك»، وقول جرير: [من الوافر] ألستم خير من ركب المطايا «2» ونحو قول المتنبي: [من الوافر] ألست ابن الألى سعدوا وسادوا «3» وأشباه ذلك ممّا لا يحصى ولا يعدّ المعنى على أن يسلم لك مع قلب طرفي الجملة، وقل: «ليس المسك إلا الطيب»، و «أليس خير من ركب المطايا إياكم؟»، «أليس ابن الألى سعدوا وسادوا إياك»؟ تعلم أن الأمر على ما عرّفتك من وجوب اختلاف المعنى بحسب التقديم والتأخير.
__________
(1) البيت لجميل في مجموع شعره، وفي اللسان (شمر)، ويروى في اللسان: وجدّي يا عبّاس فارس شمرا بدل «يا حجاج». وشمّر: اسم فرس.
(2) البيت في ديوانه (74) من قصيدة في مدح عبد الملك بن مروان. وتمام البيت والبيتان قبله:
فإني قد رأيت عليّ حقا ... زيارتي الخليفة وامتداحي
سأشكر أن رددت عليّ ريشي ... وأثبت القوادم في جناحي
.............. ... وأندى العالمين بطون راح
القوادم: الريش الكبير في الطائر، المطايا: الركائب، واحدتها مطية على وزن فعلية، أندى: أكرم، من الندى وهو الكرم، والراح هنا الأكف واحدتها: راحة، الأكف: جمع كف. والبيت في الإيضاح: (142).
(3) البيت في ديوانه (240)، وتمامه والبيت قبله:
يريك النزع بين القوس منه ... وبين رمية الهدف اللهيبا
............... ... ولم يلدوا امرأ إلا بخيبا
الألى: الذين، والاستفهام للتقرير. والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 105).

(1/127)


وهاهنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبدا، وهي أن المبتدأ لم يكن مبتدأ لأنه منطوق به أوّلا، ولا كان الخبر خبرا لأنه مذكور بعد المبتدأ، بل كان المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه ومثبت له المعنى، والخبر خبرا لأنه مسند ومثبت به المعنى.
تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «زيد منطلق» فقد أثبتّ الانطلاق لزيد وأسندته إليه، فزيد مثبت له، ومنطلق مثبت به، وأما تقديم المبتدأ على الخبر لفظا، فحكم واجب من هذه الجهة، أي من جهة أن كان المبتدأ هو الذي يثبت له المعنى ويسند إليه، والخبر هو الذي يثبت به المعنى ويسند. ولو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدّم مبدوء به، لكان ينبغي أن يخرج عن كونه مبتدأ بأن يقال: «منطلق زيد»، ولوجب أن يكون قولهم: «إن الخبر مقدّم في اللّفظ والنّيّة به التأخير»، محالا. وإذا كان هذا كذلك ثم جئت
بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ وخبرا فقد وجب وجوبا أن تكون مثبتا بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: «زيد أخوك»، كنت قد أثبتّ معنى لزيد، وإذا قدّمت وأخّرت فقلت: «أخوك زيد»، وجب أن تكون مثبتا بزيد معنى لأخوك، وإلّا كان تسميتك له الآن مبتدأ وإذ ذاك خبرا، تغييرا للاسم عليه من غير معنى، ولأدّى إلى أن لا يكون لقولهم «المبتدأ والخبر» فائدة غير أن يتقدّم اسم في اللفظ على اسم، من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه. وذلك ممّا لا يشكّ في سقوطه.
وممّا يدلّ دلالة واضحة على اختلاف المعنى، إذا جئت بمعرفتين، ثم جعلت هذا مبتدأ وذلك خبرا تارة، وتارة بالعكس، قولهم: «الحبيب أنت»، و «أنت الحبيب»، وذاك أن معنى «الحبيب أنت»، أنه لا فصل بينك وبين من تحبّه إذا صدقت المحبّة، وأنّ مثل المتحابّين مثل نفس يقتسمها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال: «الحبيب أنت إلّا أنه غيرك». فهذا كما ترى فرق لطيف ونكتة شريفة، ولو حاولت أن تفيدها بقولك: «أنت الحبيب»، حاولت ما لا يصحّ، لأن الذي يعقل من قولك: «أنت الحبيب» هو ما عناه المتنبي في قوله: [من البسيط]
أنت الحبيب ولكنّي أعوذ به ... من أن أكون محبّا غير محبوب «1»
__________
(1) البيت في ديوانه (214) وهو آخر بيت في قصيدة في مدح كافور، وقبله:
يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
ومعنى البيت: يقول: أنا محبك وأنت محبوب لي، وأعوذ بك من أن لا تحبني فإن أشقى الشقاوة أن تحب من لا يحبك كما قال ومن الشقاوة أن تحب ولا يحبك من تحبه. التبيان للعكبري (1/ 126).

(1/128)


ولا يخفى بعد ما بين الغرضين. فالمعنى في قولك: «أنت الحبيب» أنك الذي أختصّه بالمحبة من بين الناس، وإذا كان كذلك، عرفت أنّ الفرق واجب أبدا، وأنه لا يجوز أن يكون «أخوك زيد» و «زيد أخوك» بمعنى واحد.
وهاهنا شيء يجب النظر فيه، وهو أنّ قولك: «أنت الحبيب»، كقولنا «أنت الشجاع»، تريد أنّه الذي كملت فيه الشجاعة، أم كقولنا: «زيد المنطلق»، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الّذي سمع المخاطب به؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا: «أنت الشجاع»، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبّة في الدنيا إلا ما هو به حبيب، كما أنّ المعنى في «هو الشجاع» أنه لا شجاعة في الدنيا إلّا ما تجده عنده وما هو شجاع به. وذلك محال.
وأمر آخر وهو أن الحبيب «فعيل» بمعنى «مفعول»، فالمحبة إذن ليست هي له بالحقيقة، وإنما هي صفة لغيره قد لابسته وتعلّقت به تعلق الفعل بالمفعول.
والصّفة إذا وصفت بكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له، دون من تلابسه ملابسة المفعول. وإذا كان كذلك، بعد أن تقول: «أنت المحبوب»، على معنى أنت الكامل في كونك محبوبا، كما أن بعيدا أن يقال: «هو المضروب»، على معنى أنه الكامل في كونه مضروبا.
وإن جاء شيء من ذلك جاء على تعسّف فيه وتأويل لا يتصوّر هاهنا، وذلك أن يقال مثلا: «زيد هو المظلوم»، على معنى أنّه لم يصب أحدا ظلم يبلغ في الشدة والشّناعة الظّلم الذي لحقه، فصار كلّ ظلم سواه عدلا في جنبه، ولا يجيء هذا التأويل في قولنا: «أنت الحبيب»، لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا:
إن أحدا لم يحبّ أحدا محبتي لك، وأنّ ذلك قد أبطل المحبّات كلّها حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلّا فيه، وإنما الذي يريدون أن المحبة منّي بجملتها مقصورة عليك، وأنه ليس لأحد غيرك حظ في محبّة مني.
وإذا كان كذلك بان أنّه لا يكون بمنزلة «أنت الشجاع»، تريد الذي يتكامل الوصف فيه، إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين «أنت الحبيب» وبين «زيد المنطلق» فرقا، وهو أنّ لك في المحبة التي أثبتّها طرفا من الجنسية، من حيث كان المعنى أنّ المحبّة منّي بجملتها مقصورة عليك، ولم تعمد إلى محبة واحدة من محبّاتك. ألا ترى أنك قد أعطيت بقولك: «أنت الحبيب» أنك لا تحبّ غيره، وأن لا محبّة لأحد سواه عندك؟ ولا يتصوّر هذا في «زيد المنطلق»، لأنه لا وجه هناك

(1/129)


للجنسية، إذ ليس ثمّ إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان، واحتاج أن يعيّن له الذي كان منه وينصّ له عليه. فإن قلت: «زيد المنطلق في حاجتك»، تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك، عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدّها في «أنت الحبيب».
وهاهنا أصل يجب أن تحكمه: وهو أن من شأن أسماء الأجناس كلّها إذا وصفت، أن تتنوّع بالصّفة، فيصير «الرّجل» الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت:
«رجل ظريف»، و «رجل طويل»، و «رجل قصير»، «رجل شاعر»، و «رجل كاتب»، أنواعا مختلفة يعدّ كل نوع منها شيئا على حدة، وتستأنف في اسم «الرجل» بكل صفة تقرنها إليه جنسية.
وهكذا القول في «المصادر»، تقول: «العلم» و «الجهل» و «الضّرب» و «القتل» و «السّير» و «القيام» و «القعود»، فتجد كل واحد من هذه المعاني جنسا كالرجل والفرس والحمار. فإذا وصفت فقلت: «علم كذا» و «علم كذا» كقولك:
«علم ضروريّ» و «علم مكتسب»، و «علم جليّ» و «علم خفيّ» و «ضرب شديد» و «ضرب خفيف» و «سير سريع» و «سير بطيء» وما شاكل ذلك، انقسم الجنس منها أقساما، وصار أنواعا، وكان مثلها مثل الشيء المجموع المؤلّف تفرّقه فرقا وتشعّبه شعبا. وهذا مذهب معروف عندهم، وأصل متعارف في كل جيل وأمّة.
ثم إن هاهنا أصلا هو كالمتفرّع على هذا الأصل أو كالنّظير له، وهو أنّ من شأن «المصدر» أن يفرّق بالصّلات كما يفرق بالصّفات.
ومعنى هذا الكلام أنك تقول «الضرب»، فتراه جنسا واحدا، فإذا قلت:
«الضّرب بالسيف»، صار بتعديتك له إلى السيف، نوعا مخصوصا. ألا تراك تقول:
«الضّرب بالسيف غير الضّرب بالعصا»، تريد أنهما نوعان مختلفان، وأنّ اجتماعهما في اسم «الضرب» لا يوجب اتفاقهما، لأنّ الصلة قد فصلت بينهما وفرّقتهما. ومن المثال البيّن في ذلك قول المتنبي: [من الكامل]
وتوهّموا اللّعب الوغى، والطّعن في ال ... هيجاء غير الطّعن في الميدان «1»
__________
(1) البيت في ديوانه (2/ 172) من قصيدة في مدح سيف الدولة، ومدحه إياها بآمد، وكان منصرفا من بلاد الروم، وذلك في شهر صفر سنة خمس وأربعين وثلاث مائة (156 م)، وقبله:
وسعى فقصر عن مداه في العلى ... أهل الزمان وأهل كل زمان
اتخذوا المجالس في البيوت وعنده ... أن السروج مجلس الفتيان
الوغى: الهيجاء من أسماء الحرب أي: إذا لعبوا فيما بينهم بالطعان اعتقدوا أن ذلك هو الحرب ولكن أين هول الحرب من متعة اللعب.

(1/130)


لولا أنّ اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه، وأن يحدث فيه انقسام وتنوّع، لما كان لهذا الكلام معنى، ولكان في الاستحالة كقولك: و «الطعن غير الطعن». فقد بان إذن أنه إنما كان كلّ واحد من الطعنين جنسا برأسه غير الآخر، بأن كان هذا في الهيجاء، وذاك في الميدان.
وهكذا الحكم في كل شيء تعدّى إليه «المصدر» وتعلّق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه، وأن يكون المتعدّي إلى هذا المفعول غير المتعدّي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول: «ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل»، وهكذا إذا عدّيته إلى الحال كقولك: «ليس إعطاؤك معسرا كإعطائك موسرا» و «ليس بذلك وأنت مقلّ، كبذلك وأنت مكثر».
وإذ قد عرفت هذا من حكم «المصدر»، فاعتبر به حكم الاسم المشتقّ منه.
وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك: «هو الوفيّ حين لا يفي أحد»، و «هو الواهب المائة المصطفاة» «1»، وقوله: [من الخفيف]
وهو الضّارب الكتيبة، والطّع ... نة تغلو، والضّرب أغلى وأغلى «2»
وأشباه ذلك كلّها أخبار فيها معنى الجنسية، وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبرا فقلت: «أنت الشجاع».
وكما أنت لا تقصد بقولك: «أنت الشّجاع» إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان، وأردت أن تعرف ممن كانت، بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه، ولا تجعل لأحد غيره فيه حظّا، كذلك لا تقصد بقولك: «أنت الوفيّ حين لا يفي أحد» إلى وفاء واحد. كيف؟ وأنت تقول: «حين لا يفي أحد».
وهكذا محال أن يقصد في قوله: «هو الواهب المائة المصطفاة»، إلى هبة واحدة، لأنه يقتضي أن يقصد إلى مائة من الإبل قد وهبها مرة، ثم لم يعد لمثلها.
ومعلوم أنه خلاف الغرض، لأنّ المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المائة أبدا، والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ، كما تقول: «هو الذي يعطي مادحه الألف والألفين»، وكقوله: [من الرجز]
__________
(1) المصطفاة: تعقيب على بيت للأعشى.
(2) البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 162)، ويروى في الديوان: «أغلى وأغلى» بدل: «أغلى وأعلى»، والبيت من قصيدة طويلة في رثاء أخت سيف الدولة الصغرى ويسليه ببقاء الكبرى. تغلو: من غلاء الثمن، أغلى وأغلى للتأكيد، أي: أنه يأتي الضرب بالسيف عند ما يخاف غير أنه يطعن بالرمح.

(1/131)


وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي «1» وذلك أوضح من أن يخفى.
وأصل آخر: وهو أنّ من حقّنا أن نعلم أنّ مذهب الجنسية في الاسم وهو خبر، غير مذهبها وهو مبتدأ.
تفسير هذا: أنّا وإن قلنا إن «اللام» في قولك: «أنت الشجاع» للجنس، كما هو له في قولهم: «الشّجاع موقّى، والجبان ملقّى» «2»، فإنّ الفرق بينهما عظيم.
وذلك أن المعنى قولك: «الشجاع موقى»، أنك تثبت الوقاية لكل ذات من صفتها الشّجاعة، فهو في معنى قولك: الشّجعان كلّهم موقّون. ولست أقول إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق، وإن كان ذلك ظنّ كثير من الناس، ولكني أريد أنّك تجعل الوقاية تستغرق الجنس وتشمله وتشيع فيه، وأما في قولك: «أنت الشجاع»، فلا معنى فيه للاستغراق، إذ لست تريد أن تقول: «أنت الشجعان كلهم» حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم: «أنت الخلق كلهم» و «أنت العالم»، كما قال: [من السريع]
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد «3»
ولكن لحديث «الجنسية» هاهنا مأخذ آخر غير ذلك، وهو أنّك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة وتوجّهها إليه، لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق. وذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة فتجمعها له وتوجدها فيه، ولا أن تقول: إن الشجاعات التي يتوهّم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم، هذا كلّه محال، بل المعنى على أنك تقول: كنّا
__________
(1) البيت لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن، وقبله:
حيدة خالي ولقيط وعلي نوادر أبي زيد (91)، واللسان (مأى) وغيرهما وهو مشهور، وفي هامش المخطوطة ما نصه:
«مائة تجمع على مئي ويكون الأصل: مؤوى ..... ثم تقلب الواو ياء كما يقال مضيّ في مضى يمضي: والأصل مضوي، كعقود، والمعروف الجمع بالواو والنون كقولك: مائة ومئون مثل رئة ورئون، وثبة وثبون» (شاكر).
(2) الشجاع موقى: مثل قاله حنين بن خشرم السعدي، الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام 116 رقم (297).
(3) البيت لأبي نواس في ديوانه (82) من قصيدة يمدح فيها الفضل بن الربيع، والبيت في الإيضاح (356)، والإشارات (313)، ورواية الديوان: وليس له بمستنكر» بدل «ليس على الله بمستنكر».

(1/132)


قد عقلنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها، وما هي؟ وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتّى يعلم أنّه شجاع على الكمال؟ واستقرينا الناس فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه، حتى إذا صرنا إلى المخاطب، وجدناه قد استكمل هذه الصفة، واستجمع شرائطها، وأخلص جوهرها، ورسخ فيه سنخها «1». ويبيّن لك أن الأمر كذلك، اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل، ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهّم كونها في الموصوفين بالشجاعة، لما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه، وأن لا يخالطها ما يقدح فيها، وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس وينضم بعضها إلى بعض. فالغرض إذن بقولنا: «أنت الشجاع»، هو الغرض بقولهم: «هذه هي الشجاعة على الحقيقة، وما عداها جبن» و «هكذا يكون العلم، وما عداه تخيّل»، و «هذا هو الشعر، وما سواه فليس بشيء». وذلك أظهر من أن يخفى.
وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون «أنت الشجاع» بمعنى أنّك كأنّك جميع الشجعان، على حدّ «أنت الخلق كلهم»، وهو أنك في قولك: «أنت الخلق» و «أنت الناس كلّهم» و «قد جمع العالم منك في واحد»، تدّعي له جميع المعاني الشريفة المتفرّقة في الناس، من غير أن تبطل تلك المعاني وتنفيها عن الناس، بل على أن تدّعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل: «إنه معدود بألف رجل»، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم ولا فضيلة لهم بوجه، بل تريد أنّه يعطيك من معاني الشجاعة أو العلم أو كذا أو كذا مجموعا، ما لا تجد مقداره مفرّقا إلا في ألف رجل، وأمّا في نحو «أنت الشجاع»، فإنّك تدّعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة، وأنه قد أوتي فيها مزيّة وخاصيّة لم يؤتها أحد، حتى صار الذي كان يعدّه الناس شجاعة غير شجاعة، وحتى كأنّ كلّ إقدام إحجام، وكلّ قوة عرفت في الحرب ضعف. وعلى ذلك قالوا: «جاد حتى بخّل كلّ جواد، وحتّى منع أن يستحقّ اسم الجواد أحد»، كما قال: [من الوافر]
وأنّك لا تجود على جواد ... هباتك أن يلقّب بالجواد «2»
__________
(1) سنخها: أي أصلها.
(2) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (130)، وهو من قصيدة في مدح علي بن إبراهيم التنوخي وقبله:
تهلّل قبل تسليمي عليه ... وألقى ما له قبل الوساد
فلومك يا عليّ لغير ذنب ... لأنك قد زريت على العباد
الجواد: الكريم، هباتك فاعل يجود أي: هباتك لا تسمح لأحد أن يظهر كريما مقارنة بك.

(1/133)


وكما يقال: «جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود، وحتّى كأن قد كذب الواصفون الغيث بالجود»، كما قال: [من البسيط]
أعطيت حتّى تركت الرّيح حاسرة ... وجدت حتّى كأنّ الغيث لم يجد «1»
هذا فصل في «الذي» خصوصا
اعلم أن لك في «الذي» علما كثيرا، وأسرارا جمّة، وخفايا إذا بحثت عنها وتصوّرتها اطلعت على فوائد تؤنس النفس وتثلج الصدر بما يفضي بك إليه من اليقين، ويؤدّيه إليك من حسن التبيين.
والوجه في ذلك أن تتأمّل عبارات لهم فيه لم وضع، ولأيّ غرض اجتلب، وأشياء وصفوه بها. فمن ذلك قولهم: «إنّ الذي» اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل «2»، كما اجتلب «ذو» ليتوصّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس»، يعنون بذلك أنك تقول: «مررت بزيد الذي أبوه منطلق» و «بالرجل الذي كان عندنا أمس»، فتجدك قد توصّلت ب «الذي» إلى أن أبنت زيدا من غيره، بالجملة التي هي «أبوه منطلق» ولولا «الذي» لم تصل إلى ذلك كما أنك تقول: «مررت برجل ذي مال» فتتوصّل ب «ذي» إلى أن تبين الرجل من غيره بالمال، ولولا «ذو» لم يتأتّ لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: «برجل مال» فهذه جملة مفهومة؟ إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها. فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة، ولم لم يكن حالها في ذلك حال النّكرة التي تصفها بها في قولك: «مررت برجل أبوه منطلق»: و «رأيت إنسانا تقاد الجنائب «3» بين يديه».
وقالوا: إنّ السبب في امتناع ذلك: أنّ الجمل نكرات كلّها، بدلالة أنها
__________
(1) البيت: للبحتري في مدح محمد بن حميد بن عبد الحميد الطوسي (الديوان 2/ 425). حاسرة:
حسر البصر: كلّ وانقطع من طول المدى القاموس «حسر» (479).
(2) ذكره ابن منظور في اللسان مادة «لذا» (15/ 245).
(3) الجنائب: رجل جنيب كأنه يمشي في جانب والجنيبة الدابة: القاموس «جنب» (88).

(1/134)


تستفاد، وإنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا: فلما كانت كذلك، كانت وفق «1» النّكرة، فجاز وصفها بها، ولم يجز أن توصف بها المعرفة، إذ لم تكن وفقا لها.
والقول البيّن في ذلك أن يقال: إنه إنّما اجتلب حتّى إذا كان قد عرف رجل بقصة وأمر جرى له، فتخصّص بتلك القصّة وبذلك الأمر عند السامع، ثم أريد القصد إليه، ذكر «الّذي».
تفسير هذا أنك لا تصل «الذي» إلّا بجملة من الكلام قد سبق من السّامع علم بها، وأمر قد عرفه له، نحو أن ترى عنده رجلا ينشده شعرا فتقول له من غد: «ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟».
هذا حكم الجملة بعد «الذي»، إذا أنت وصفت به شيئا. فكان معنى قولهم:
«إنه اجتلب ليتوصّل به إلى وصف المعارف بالجمل»، أنه جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع له، وبين أن لا يكون الأمر كذلك.
فإن قلت: قد يؤتى بعد «الذي» بالجملة غير المعلومة للسامع، وذلك حيث يكون «الذي» خبرا، كقولك: «هذا الذي كان عندك بالأمس» و «هذا الذي قدم رسولا من الحضرة»، أنت في هذا وشبهه تعلم المخاطب أمرا لم يسبق له به علم، وتفيده في المشار إليه شيئا لم يكن عنده، ولو لم يكن كذلك، لم يكن «الذي» خبرا، إذ كان لا يكون الشيء خبرا حتى يفاد به.
فالقول في ذلك: أن الجملة في هذا النّحو، وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه، فإنه لا بدّ من أن يكون قد علمها على الجملة وحدّث بها. فإنّك على كلّ حال لا تقول: «هذا الذي قدم رسولا»، لمن لم يعلم أن رسولا قدم ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل، وكذا لا تقول: «هذا الذي كان عندك أمس»، لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان وذهب عن وهمه، وإنّما تقوله لمن ذاك على ذكر منه، إلّا أنه رأى رجلا يقبل من بعيد، فلا يعلم أنه ذاك، ويظنه إنسانا غيره.
وعلى الجملة، فكلّ عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع «الذي» وبينها مع غير «الذي»، فليس من أحد به طرق «2» إلّا وهو لا يشكّ أن ليس المعنى في قولك: «هذا الذي قدم رسولا»، كالمعنى إذا قلت: «هذا قدم رسولا من الحضرة»
__________
(1) وفقا: وفقت أمرك صادفته موافقا (أي مطابقا). القاموس/ وفق/ (1199).
(2) طرق: هو ضعف العقل والطرق قوة العقل. القاموس/ طرق/ (1166).

(1/135)


ولا «الذي يسكن في محلّة كذا»، كقولك: «هذا يسكن محلة كذا»، وليس ذاك إلا أنّك في قولك: «هذا قدم رسولا من الحضرة» مبتدئ خبرا بأمر لم يبلغ السامع ولم يبلّغه ولم يعلمه أصلا وفي قولك: «هذا الّذي قدم رسولا»، معلم في أمر قد بلغه أنّ هذا صاحبه، فلم يخل إذن من الذي بدأنا به في أمر الجملة مع «الذي»، من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها فاعرفه، فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيرا من المعاني، ودخل عليه الغلط في كثير من الأمور، والله الموفّق للصواب.
فروق في الحال لها فضل تعلّق بالبلاغة
اعلم أنّ أوّل فرق في الحال أنها تجيء مفردا وجملة، والقصد هاهنا إلى الجملة.
وأوّل ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع «الواو» وأخرى بغير «الواو»، فمثال مجيئها مع الواو قولك: «أتاني وعليه ثوب ديباج»، و «رأيته وعلى كتفه سيف»، و «لقيت الأمير والجند حواليه»، و «جاءني زيد وهو متقلّد سيفه»، ومثال مجيئها بغير «الواو»: «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه» و «أتاني عمرو يقود فرسه»، وفي تمييز ما يقتضي «الواو» ممّا لا يقتضيه صعوبة.
والقول في ذلك أنّ الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر، فالغالب عليها أن تجيء مع «الواو» كقولك: «جاءني زيد وعمرو أمامه» و «أتاني وسيفه على كتفه»: فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذي الحال، لم يصلح بغير «الواو» البتة، وذلك كقولك: «جاءني زيد وهو راكب» و «رأيت زيدا وهو جالس»، و «دخلت عليه وهو يملي الحديث» و «انتهيت إلى الأمير وهو يعبّئ الجيش»، فلو تركت «الواو» في شيء من ذلك لم يصلح. فلو قلت: «جاءني زيد هو راكب»، و «دخلت عليه هو يملي الحديث»، لم يكن كلاما.
فإن كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفا، ثم كان قد قدّم على المبتدأ كقولنا: «عليه سيف» و «في يده سوط»، كثر فيها أن تجيء بغير «واو». فمما جاء منه كذلك قول بشّار: [من الطويل]
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي عليّ سواد «1»
__________
(1) البيت في ديوانه، وأورده القزويني في الإيضاح (170)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (136). أنكرتني: لم تعرف قدري، نكرتها: كرهتها البازي: الصقر وهو يعني خروجه في سواد الليل.

(1/136)


يعني عليّ بقية من الليل، وقول أمية: [من البسيط]
فاشرب هنيئا عليك التّاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا «1»
وقول الآخر: [من الطويل]
لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب «2»
كلّ ذلك في موضع الحال، وليس فيه «واو» كما ترى، ولا هو محتمل لها إذا نظرت. وقد يجيء ترك «الواو» فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر، فمن ذلك قولهم: «كلّمته فوه إلى فيّ» و «رجع عوده على بدئه»، في قول من رفع، ومنه بيت «الإصلاح» «3»: [من الكامل]
نصف النّهار، الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يدري «4»
ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو عليّ في «الإغفال» «5»: [من الطويل]
ولولا جنان اللّيل ما آب عامر ... إلى جعفر، سرباله لم يمزّق «6»
ومما ظاهره أنه منه قوله: [من البسيط]
__________
(1) ينسب البيت لأمية بن أبي الصلت، ولأبيه، وسيف بن ذي يزن مخلص اليمن من محتليها الحبش، والقصة الشعبية المنسوجة حوله تقوم على أساس هذه البطولة. والبيت أورده القزويني في الإيضاح (170).
(2) البيت لواثلة بن خليفة السدوسي، يهجو عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة، وهو في الإيضاح (170).
(3) الإصلاح: أي كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت المتوفى سنة (244 هـ). كشف الظنون (1/ 108).
(4) البيت: للمسيب بن علس، وهو خال الأعشى، والأعشى راويته، والبيت في ديوان الأعشى (352)، وقبله:
قتلت أباه فقال أتبعه ... أو أستفيد رغيبة الدهر
والبيت في المفتاح (385)، وإصلاح المنطق لابن السكيت.
(5) واسمه الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني للشيخ أبي علي حسن بن أحمد الفارسي النحوي المتوفى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. كشف الظنون (1/ 131).
(6) البيت: لسلامة بن جندل، وهو سلامة بن جندل بن عبد عمرو من بني كعب بن سعد التميمي، شاعر جاهلي من الفرسان. والبيت في الأصمعيات (125) رقم (42)، وروايته: «لم يخرّق» بدل «لم يمزق»، وهو في الإيضاح (169)، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (272)، والسكاكي في المفتاح (385)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (135)، وشرح عقود الجمان (1/ 223). جنان الليل: شدة ظلمته وادلهمامه. سرباله لم يخرق: ثيابه غير ممزقة أي:
ما عاد سالما.

(1/137)


إذا أتيت أبا مروان تسأله ... وجدته، حاضراه الجود والكرم
فقوله: «حاضراه الجود»، جملة من المبتدأ والخبر كما ترى، وليس به «واو»، والموضع موضع حال، ألا تراك تقول: «أتيته فوجدته جالسا»، فيكون «جالسا» حالا، ذاك لأن «وجدت» في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدّية إلى مفعولين، ولكن المتعدّية إلى مفعول واحد كقولك: «وجدت الضّالّة» إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو «حاضراه» تأثيرا في معنى الغنى عن «الواو»، وأنه لو قال:
«وجدته، الجود والكرم حاضراه» لم يحسن حسنه الآن، وكان السبب في حسنه مع التقديم، أنه يقرب في المعنى من قولك: «وجدته حاضره الجود والكرم» أو «حاضرا عنده الجود والكرم».
وإن كانت الجملة من فعل وفاعل، والفعل مضارع مثبت غير منفي، لم يكد يجيء بالواو، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من «الواو»، كقولك: «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه»، وكقوله: [من البسيط]
وقد علوت قتود الرّحل يسفعني ... يوم قديديمة الجوزاء مسموم «1»
وقوله: [من الخفيف]
ولقد أغتدي يدافع ركني ... أحوذيّ ذو ميعة إضريج «2»
وكذلك قولك: «جاءني زيد يسرع»، لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال، وبين أن يكون لمن هو من سببه، فإن ذلك كلّه يستمر على الغنى عن «الواو»، وعليه التنزيل والكلام، ومثاله في التنزيل قوله عزّ وجلّ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6]، وقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 17 - 18]، وكقوله عزّ اسمه: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186].
فأما قول ابن همام السّلولي: [من المتقارب]
فلمّا خشيت أظافيره ... نجوت، وأرهنهم مالكا «3»
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة، وهو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة، شاعر جاهلي مجيد، كان من صدور الجاهلية وفحولها، والبيت في المفضليات رقم (120) ص (403). وقتود الرحل: خشب الرحل وأدواته، يسفعني: يحرقني ويغير لوني من شمسه وحرّه، الجوزاء: برج من أبراج الشمس يشتد الحر بنزولها فيه، مسموم: شديد السموم، وهي الريح الحارة. وروايته في
المفضليات: «يوم تجيء به الجوزاء» بدل «يوم قديديمة الجوزاء».
(2) سبق تخريجه (ص 76).
(3) البيت لعبد الله بن همام السلولي في الإيضاح (165)، وإصلاح المنطق (231، 249)، وخزانة الأدب (9/ 36)، والشعر والشعراء (2/ 655)، ومعاهد التنصيص (1/ 285).

(1/138)


في رواية من روى «وأرهنهم»، وما شبهوه به من قولهم: «قمت وأصكّ «1» وجهه» فليست الواو فيها للحال، وليس المعنى «نجوت راهنا مالكا»، و «قمت صاكّا وجهه»، ولكن «أرهن» و «أصكّ» حكاية حال، مثل قوله: [من الكامل]
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني، ... فمضيت، ثمّت قلت: لا يعنيني «2»
فكما أن «أمرّ» هاهنا في معنى «مررت»، كذلك يكون «أرهن» و «أصكّ» هناك في معنى «رهنت» و «صككت».
ويبيّن ذلك أنك ترى «الفاء» تجيء مكان «الواو» في مثل هذا، وذلك كنحو ما في الخبر في حديث عبد الله بن عتيك «3» حين دخل على أبي رافع اليهوديّ حصنه قال: «فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنّى هو من البيت، فقلت: أبا رافع! فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصّوت، فأضربه بالسّيف وأنا دهش»، فكما أن «أضربه» مضارع قد عطفه بالفاء على ماض، لأنه في المعنى ماض، كذلك يكون «أرهنهم» معطوفا على الماضي قبله، وكما لا يشكّ في أنّ المعنى في الخبر:
«فأهويت فضربت»، كذلك يكون المعنى في البيت: «نجوت ورهنت»، إلا أن الغرض في إخراجه على لفظ الحال، أن يحكى الحال في أحد الخبرين، ويدع الآخر على ظاهره، كما كان ذلك في «ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني، فمضيت»، إلّا أن الماضي في هذا البيت مؤخّر معطوف، وفي بيت ابن همام وما ذكرناه معه، مقدّم معطوف عليه. فاعرفه.
فإن دخل حرف نفي على المضارع تغيّر الحكم، فجاء بالواو وبتركها كثيرا، وذلك مثل قولهم: «كنت ولا أخشى بالذّئب» «4»، وقول مسكين الدارميّ: [من الرمل]
__________
(1) أصك: صكه ضربه شديدا. القاموس «صكك» (1221).
(2) البيت لشمر بن عمرو الحنفي أحد شعراء بني حنيفة باليمامة، وهو في الأصمعيات رقم (38) ص (116)، ورواه سيبويه في الكتاب، والخزانة (1/ 173)، وتفسير الطبري (2/ 351). وفي الأغاني أن شمر قتل المنذر بن ماء السماء غيلة، وكان الحارث بن جبلة الغساني قد بعث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله، فركن المنذر إلى ذلك وأقام الغلمان معه فاغتاله شمر، وتفرق من كان مع المنذر وانتهبوا عسكره.
ومعنى البيت: يقول: أتجاهل شتم اللئيم لأنه أحقر من أن يعني لي شيئا.
(3) عبد الله بن عتيك الأنصاري استشهد باليمامة سنة (12) هـ. أسد الغابة (3/ 204) والإصابة (2/ 332).
(4) أخشى: أخوف. مثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال بلفظ «لقد كنت وما أخشى بالذئب».
يضرب للعجوز الخرف الذي يخاف من هجوم الذئب عليه.

(1/139)


أكسبته الورق البيض أبا ... ولقد كان ولا يدعى لأب «1»
وقول مالك بن رفيع، وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزّبير: [من الوافر]
بغاني مصعب وبنو أبيه، ... فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد
أقادوا من دمي وتوعّدوني، ... وكنت وما ينهنهني الوعيد «2»
«كان» في هذا كلّه تامة والجملة الداخل عليها «الواو» في موضع الحال. ألا ترى أن المعنى: «وجدت غير خاش للذئب»، و «لقد وجد غير مدعوّ لأب» و «وجدت غير منهنه بالوعيد وغير مبال به»، ولا معنى لجعلها ناقصة، وجعل «الواو» مزيدة.
وليس مجيء الفعل المضارع حالا، على هذا الوجه، بعزيز في الكلام، ألا تراك تقول: «جعلت أمشي وما أدري أين أضع رجلي» و «جعل يقول ولا يدري»، وقال أبو الأسود: «يصيب وما يدري»، وهو شائع كثير.
فأما مجيء المضارع منفيّا حالا من غير «الواو» فيكثر أيضا ويحسن، فمن ذلك قوله: [من الطويل]
ثووا لا يريدون الرّواح، وغالهم ... من الدّهر أسباب جرين على قدر «3»
وقال أرطأة بن سهيّة، وهو لطيف جدّا: [من البسيط]
إن تلقني، لا ترى غيري بناظرة ... تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد «4»
__________
(1) البيت في مجموع شعره، والإيضاح (166)، والإشارات (139)، وشرح عقود الجمان (191)، والتبيان (121).
(2) البيت في شرح عقود الجمان (191)، منسوب لمالك بن رفيع، وفي الأمالي (3/ 127)، ومالك ابن أبي رفيع الأسدي كان صعلوكا فطلبه ابن الزبير فهرب منه وقال هذا الشعر وله رواية أخرى:
«أتاني مصعب»، وشرح التصريح (1/ 192)، ولمالك بن رقية كالآتي:
تفانى مصعب وبنو أبيه ... وكنت ولا ينهنهني الوعيد
والإيضاح (166).
(3) البيت في الإيضاح (166)، والإشارات (138)، والتبيان في علم البيان لابن الزملكاني (122) ط. بغداد، وقال الأستاذ محمود شاكر في نسخته من دلائل الإعجاز: هو لعكرشة العبسي أبي الشغب يرثي بنيه، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (3/ 49، 50)، ومجالس ثعلب (242)، والشعر بتمامه في مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (4)، ورواية البيت على الصواب كما أثبته «ثووا».
(4) البيت في الأغاني (13/ 37) وبعده:
ماذا تظنك تغني في أخي رصد ... من أسد خفان جابي العين ذي لبد
وكان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أني جمعني وابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفى منه غيظي، فبلغ ذلك أرطاة فقال له: الناظرة: العين.

(1/140)


فقوله: «لا ترى» في موضع حال. ومثله في اللّطف والحسن قول أعشى همدان، وصحب عبّاد بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمده فقال: [من الوافر]
أتينا أصبهان فهزّلتنا ... وكنّا قبل ذلك في نعيم
وكان سفاهة منّي وجهلا ... مسيري، لا أسير إلى حميم «1»
قوله: «لا أسير إلى حميم»، حال من ضمير المتكلم الذي هو «الياء» في «مسيري»، وهو فاعل في المعنى، فكأنه قال: وكان سفاهة منّي وجهلا، أن سرت غير سائر إلى حميم، وأن ذهبت غير متوجّه إلى قريب: وقال خالد بن يزيد بن معاوية: [من الكامل]
لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة ... دخلوا السّماء دخلتها لا أحجب «2»
وهو كثير إلّا أنه لا يهتدي إلى وضعه بالموضع المرضيّ إلا من كان صحيح الطّبع.
ومما يجيء بالواو وغير «الواو»، الماضي، وهو لا يقع حالا إلا مع «قد» مظهرة أو مقدّرة. أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع، كقولك: «أتاني وقد جهده السير»، وأما بغير «الواو» فكقوله: [من البسيط]
متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله ... واللّيل قد مزّقت عنه السّرابيل «3»
وقول الآخر: [من الوافر]
فآبوا بالرّماح مكسّرات ... وأبنا بالسّيوف قد انحنينا «4»
وقال آخر، وهو لطيف جدّا: [من الكامل]
يمشون قد كسروا الجفون «5» إلى الوغى ... متبسّمين وفيهم استبشار
ومما يجيء بالواو في الأكثر الأشيع، ثم يأتي في مواضع بغير «الواو» فيلطف مكانه ويدلّ على البلاغة، الجملة قد دخلها «ليس» تقول: «أتانى وليس عليه ثوب»
__________
(1) البيتان في مجموع شعر الأعشية (341)، وغير متتابعين وهما في الإيضاح (166)، والإشارات (138)، والتبيان لابن الزملكاني (122) ..
(2) البيت في الإيضاح (166)، والإشارات والتنبيهات (138)، والبيت منسوب لخالد بن زيد بن معاوية من أحفاد معاوية بن أبي سفيان وكان عالما فيلسوفا كما في الإشارات والتبيان.
(3) البيت لحندج بن حندج المري، وهو في الإيضاح (166).
(4) البيت في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 229، 234).
(5) قوله: يكسرون أغماد السيوف كناية عن استقبالهم للحرب وهي صفة من صفات الخوارج والجفون مفردها الجفن وهو غمد السيف.

(1/141)


و «رأيته وليس معه غيره»، فهذا هو المعروف المستعمل، ثم قد جاء بغير «الواو» فكان من الحسن على ما ترى، وهو قول الأعرابي: [من الرجز]
لنا فتى وحبّذا الأفتاء ... تعرفه الأرسان والدّلاء
إذا جرى في كفّه الرّشاء ... خلّى القليب ليس فيه ماء «1»
ومما ينبغي أن يراعى في هذا الباب: أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بغير «واو» ويحسن ذلك، ثم تنظر فترى ذلك إنّما حسن من أجل حرف دخل عليها.
مثاله قول الفرزدق: [من الطويل]
فقلت عسى أن تبصريني كأنّما ... بنيّ حواليّ الأسود الحوارد «2»
قوله: «كأنما بنيّ» إلى آخره، في موضع الحال من غير شبهة، ولو أنك تركت «كأن» فقلت: «عسى أن تبصريني بنيّ حوالي كالأسود»، رأيته لا يحسن حسنه الآن، ورأيت الكلام يقتضي «الواو» كقولك: «عسى أن تبصريني وبنيّ حوالي كالأسود الحوارد».
وشبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بعقب مفرد، فلطف مكانها، ولو أنك أردت أن تجعلها حالا من غير أن يتقدمها ذلك المفرد لم يحسن، مثال ذلك قول ابن الرومي: [من السريع]
والله يبقيك لنا سالما، ... برداك تبجيل وتعظيم «3»
فقوله: «برداك تبجيل»، في موضع حال ثانية، ولو أنك أسقطت «سالما»، من البيت فقلت: «والله يبقيك برداك تبجيل»، لم يكن شيئا.
وإذا قد رأيت الجمل الواقعة حالا قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر، فلا بدّ من أن يكون ذلك إنّما كان من أجل علل توجبه وأسباب تقتضيه، فمحال أن يكون هاهنا جملة لا تصلح إلا مع «الواو»، وأخرى لا تصلح فيها «الواو»، وثالثة تصلح أن تجيء فيها «بالواو» وأن تدعها فلا تجيء بها، ثم لا يكون لذلك سبب وعلّة، وفي الوقوف على العلّة في ذلك إشكال وغموض، ذاك لأنّ الطريق إليه غير
__________
(1) الأفتاء: جمع فتي بتشديد الياء وهو الشاب، والأرسان: الحبال. والرشاء: حبل الدلو. والقليب:
البئر.
(2) لم أعثر عليه في ديوانه (طبعة دار صادر)، وهو في الإيضاح (171). الحوارد: جمع حارد وهو المهيب المنظر من حرد إذا غضب.
(3) البيت في ديوانه، والإيضاح (171).

(1/142)


مسلوك، والجهة التي منها تعرف غير معروفة، وأنا أكتب لك أصلا في «الخبر» إذا عرفته انفتح لك وجه العلّة في ذلك.
اعلم أن «الخبر» ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه، وخبر ليس بجزء من الجملة، ولكنّه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ، كمنطلق في قولك: «زيد منطلق»، والفعل كقولك: «خرج زيد»، وكل واحد من هذين جزء من الجملة، وهو الأصل في الفائدة. والثاني هو الحال كقولك: «جاءني زيد راكبا»، وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة، من حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتّ الركوب في قولك: «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه، ولم تجرّد إثباتك للركوب ولم تباشره به ابتداء، بل بدأت فأثبتّ المجيء، ثم وصلت به الركوب، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع لغيره، وبشرط أن يكون في صلته. وأمّا في الخبر المطلق نحو: «زيد منطلق» و «خرج عمرو»، فإنك أثبت المعنى إثباتا جرّدته له، وجعلته يباشره من غير واسطة، ومن غير أن يتسبّب بغيره إليه.
وإذا قد عرفت هذا، فاعلم أن كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من «الواو»، فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، وكل جملة جاءت حالا، ثم اقتضت «الواو» فذاك لأنك مستأنف بها خبرا، وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأوّل في الإثبات.
وتفسير هذا: أنك إذا قلت: «جاءني زيد يسرع»، كان بمنزلة قولك: «جاءني زيد مسرعا»، في أنك تثبت مجيئا فيه إسراع، وتصل أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبرا واحدا، وتريد أن تقول: «جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة»، وهكذا قوله: [من البسيط]
وقد علوت قتود الرّحل يسفعني ... يوم قديديمة الجوزاء مسموم
كأنه قال: «وقد علوت قتود الرحل بارزا للشمس ضاحيا»، وكذلك قوله: [من البسيط] متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله لأنه في معنى: «متى أرى الصبح باديا لائحا بيّنا متجلّيا»، على هذا القياس أبدا. وإذا قلت: «جاءني وغلامه يسعى بين يديه» و «رأيت زيدا وسيفه على كتفه»،

(1/143)


كان المعنى على أنك بدأت فأثبتّ المجيء والرؤية، ثم استأنفت خبرا، وابتدأت إثباتا ثانيا لسعي الغلام بين يديه، ولكون السيف على كتفه. ولما كان المعنى على استئناف الإثبات، احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو كما جيء بها في قولك: «زيد منطلق وعمرو ذاهب» و «العلم حسن والجهل قبيح»، وتسميتنا لها «واو حال»، لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضمّ جملة إلى جملة.
ونظيرها في هذا «الفاء» في جواب الشرط نحو: «إن تأتني فأنت مكرم»، فإنها وإن لم تكن عاطفة، فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شأنها أن ترتبط بنفسها، فاعرف ذلك، ونزّل الجملة في نحو:
«جاءني زيد يسرع» و «قد علوت قتود الرّحل يسفعني يوم»، منزلة الجزاء الذي يستغني عن «الفاء»، لأنّ من شأنه أن يرتبط بالشرط من غير رابط، وهو قولك: «إن تعطني أشكرك»، ونزّل الجملة في «جاءني زيد وهو راكب»، منزلة الجزاء الذي ليس من شأنه أن يرتبط بنفسه، ويحتاج إلى «الفاء»، كالجملة في نحو: «إن تأتني فأنت مكرم»، قياسا سويّا وموازنة صحيحة.
فإن قلت: قد علمنا أن علّة دخول «الواو» على الجملة أن تستأنف الإثبات، ولا تصل المعنى الثاني بالأوّل في إثبات واحد، ولا تنزّل الجملة منزلة المفرد، ولكن بقي أن تعلم لم كان بعض الجمل، بأن يكون تقديرها تقدير المفرد في أن لا يستأنف بها الإثبات، أولى من بعض؟ وما الذي منع في قولك: «جاءني زيد وهو يسرع، أو «وهو مسرع» أن يدخل الإسراع في صلة المجيء ويضمّه في الإثبات، كما كان ذلك حين قلت: «جاءني زيد يسرع»؟.
فالجواب أن السّبب في ذلك أن المعنى في قولك: «جاءني زيد وهو يسرع»، على استئناف إثبات للسّرعة، ولم يكن ذلك في «جاءني زيد يسرع». وذلك أنك إذا أعدت ذكر «زيد» فجئت بضميره المنفصل المرفوع، كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحا فتقول: «جاءني زيد وزيد يسرع» في أنك لا تجد سبيلا إلى أن تدخل «يسرع» في صلة المجيء، وتضمّه إليه في الإثبات. وذلك أنّ إعادتك ذكر «زيد» لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع، وحتى تبتدئ إثباتا للسرعة، لأنّك إن لم تفعل ذلك، تركت المبتدأ، الذي هو ضمير «زيد» أو اسمه الظاهر، بمضيعة، وجعلته لغوا في البين، وجرى مجرى أن تقول: «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه»، ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاما ولم تبتدئ للسرعة إثباتا، وأن حال «يسرع» هاهنا، حاله إذا قلت: «جاءني زيد يسرع»، فجعلت السرعة له، ولم تذكر «عمرا»، وذلك محال.

(1/144)


فإن قلت: إنما استحال في قولك: «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه» أن تردّ «يسرع» إلى «زيد» وتنزله منزلة قولك: «جاءني زيد يسرع»، من حيث كان في «يسرع» ضمير لعمرو، وتضمّنه ضمير عمرو يمنع أن يكون لزيد، وأن يقدّر حالا له، وليس كذلك: «جاءني زيد وهو يسرع»، لأنّ السرعة هناك لزيد لا محالة، فكيف ساغ أن تقيس إحدى المسألتين على الأخرى؟.
قيل: ليس المانع أن يكون «يسرع» في قولك: «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه»؟ حالا من زيد أنّه فعل لعمرو، فإنك لو أخّرت «عمرا» فرفعته «بيسرع»، وأوليت «يسرع» زيدا فقلت: «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه» وجدته قد صلح حالا لزيد، مع أنه فعل لعمرو، وإنما المانع ما عرفتك، من أنك تدع «عمرا» بمضيعة، وتجيء به مبتدأ، ثم لا تعطيه خبرا.
ومما يدلّ على فساد ذلك أنّه يؤدّي إلى أن يكون «يسرع» قد اجتمع في موضعه النّصب والرفع، وذلك أنّ جعله حالا من «زيد» يقتضي أن يكون في موضع نصب، وجعله خبرا عن «عمرو» المرفوع بالابتداء يقتضي أن يكون في موضع رفع.
وذلك بيّن التّدافع. ولا يجب هذا التّدافع إذا أخرت «عمرا» فقلت: «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه»، لأنك ترفعه حينئذ بيسرع، على أنه فاعل له، وإذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعرابا، فيبقى مفرّغا لأن يقدّر فيه النصب على أنه حال من «زيد» وجرى مجرى أن تقول: «جاءني زيد مسرعا عمرو أمامه».
فإن قلت: فقد ينبغي على هذا الأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالا إلا مع «الواو»، وقد ذكرت قبل أن ذلك قد جاء في مواضع من كلامهم.
فالجواب أنّ القياس والأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالا إلا مع «الواو»، وأمّا الذي جاء من ذلك فسبيله سبيل الشيء يخرج عن أصله وقياسه والظاهر فيه، بضرب من التأويل ونوع من التشبيه، فقولهم: «كلّمته فوه إلى فيّ»، إنّما حسن بغير «واو» من أجل أن المعنى: كلمته مشافها له، وكذلك قولهم: «رجع عوده على بدئه»، إنما جاء الرفع فيه والابتداء من غير «واو»، لأن المعنى: رجع ذاهبا في طريقه الذي جاء فيه، وأما قوله: «وجدته حاضراه الجود والكرم» فلأنّ تقديم الخبر الذي هو «حاضراه»، يجعله كأنه قال: «وجدته حاضرا عنده الجود والكرم».
وليس الحمل على المعنى، وتنزيل الشيء منزلة غيره، بعزيز في كلامهم، وقد قالوا: «زيد اضربه»، فأجازوا أن يكون مثال الأمر في موضع الخبر، لأن المعنى على

(1/145)


النصب نحو: «اضرب زيدا»، ووضعوا الجملة، من المبتدأ والخبر موضع الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى: أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193]، لأن الأصل في المعادلة أن تكون الثانية كالأولى نحو: «أدعوتموهم أم صمتّم».
ويدل على أن ليس مجيء الجملة من المبتدأ والخبر حالا بغير «الواو» أصلا، قلّته «1»، وأنه لا يجيء إلا في الشيء بعد الشيء.
هذا، ويجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنما جاء على إرادة «الواو»، كما جاء الماضي على إرادة «قد».
واعلم أنّ الوجه فيما كان مثل قول بشار: [من الطويل] خرجت مع البازي عليّ سواد «2» أن يؤخذ فيه بمذهب أبي الحسن الأخفش، فيرفع «سواد» بالظرف دون الابتداء، ويجري الظّرف هاهنا مجراه إذا جرت الجملة صفة على النكرة نحو:
«مررت برجل معه صقر صائدا به غدا»، وذلك أن صاحب الكتاب يوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع «صقرا» بما في «معه» من معنى الفعل، فلذلك يجوز أن يجرى الحال مجرى الصفة، فيرفع الظاهر بالظرف إذا هو جاء حالا، فيكون ارتفاع «سواد» بما في «عليّ» من معنى الفعل، لا بالابتداء.
ثم ينبغي أن يقدّر هاهنا خصوصا أنّ الظرف في تقدير اسم فاعل لا فعل، أعني أن يكون المعنى: «خرجت كائنا عليّ سواد، وباقيا عليّ سواد»، ولا يقدّر:
«يكون عليّ سواد»، و «يبقى عليّ سواد»، اللهمّ إلّا أن تقدر فيه فعلا ماضيا مع «قد» كقولك: «خرجت مع البازي قد بقي عليّ سواد»، والأوّل أظهر.
وإذا تأمّلت الكلام وجدت الظرف وقد وقع مواقع لا يستقيم فيها إلّا أن يقدّر تقدير اسم فاعل، ولذلك قال أبو بكر بن السّراج في قولنا: «زيد في الدار»، أنك مخيّر بين أن تقدر فيه فعلا فتقول: «استقر في الدار»، وبين أن تقدر اسم فاعل فتقول: «مستقر في الدار»، وإذا عاد الأمر إلى هذا، كان الحال في ترك «الواو» ظاهرة، وكان «سواد» في قوله: «خرجت مع البازي عليّ سواد»، بمنزلة «قضاء الله» في قوله: [من الطويل]
__________
(1) قلّته: فاعل للفعل «يدلّ».
(2) راجع هامش (1) ص (142).

(1/146)


سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا «1»
في كونه اسما ظاهرا قد ارتفع باسم فاعل قد اعتمد على ذي حال، فعمل عمل الفعل.
ويدلّك على أن التقدير فيه ما ذكرت، وأنه من أجل ذلك حسن، أنك تقول:
«جاءني زيد والسّيف على كتفه» و «خرج والتاج عليه»، فتجده لا يحسن إلا بالواو، وتعلم أنك لو قلت: «جاءني زيد السيف على كتفه» و «خرج التاج عليه»، كان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال، وذلك لأنه بمنزلة قولك: «جاءني وهو متقلّد سيفه» و «خرج وهو لابس التاج»، في أن المعنى على أنك استأنفت كلاما وابتدأت إثباتا،
وأنّك لم ترد: «جاءني كذلك» ولكن «جاءني وهو كذلك»، فاعرفه.
__________
(1) شعر سعد بن ناشب المازني، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 35).

(1/147)


بسم الله الرّحمن الرّحيم
لقول في الفصل والوصل
اعلم أنّ العلم- بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى- من أسرار البلاغة «1»، وممّا لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلّص، وإلا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا فنّا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد. وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدّا للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: «معرفة الفصل من الوصل»، ذاك «2» لغموضه ودقّة مسلكه، وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد، إلا كمل لسائر معاني البلاغة.
واعلم أنّ سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد، ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها ونتعرّف حالها.
ومعلوم أنّ فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول، وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله، والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له شريك له في ذلك.
وإذا كان هذا أصله في المفرد، فإنّ الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين:
أحدهما: أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب، وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد، إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد، وإذا كانت الجملة واقعة موقع المفرد، كان عطف الثانية عليها جاريا مجرى عطف المفرد على المفرد، وكان وجه الحاجة إلى «الواو» ظاهرا، والإشراك بها
__________
(1) قوله: بما ينبغي إلى قوله بعد أخرى: اعتراض بين اعلم أن العلم ... من أسرار البلاغة.
(2) ذاك: المقصود منه الفصل.

(1/148)


في الحكم موجودا. فإذا قلت: «مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح» كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى، وذلك الحكم كونها في موضع جرّ بأنّها صفة للنكرة. ونظائر ذلك تكثر، والأمر فيها يسهل.
والذي يشكل أمره هو الضرب الثاني، وذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى، كقولك: «زيد قائم، وعمرو قاعد» و «العلم حسن، والجهل قبيح»، لا سبيل لنا إلى أن ندّعي أن «الواو» أشركت الثانية في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجوه. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف والمغزى منه، ولم لم يستو الحال بين أن تعطف وبين أن تدع العطف فتقول: «زيد قائم، عمرو قاعد»، بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى والثانية فيه؟.
واعلم أنّه إنما يعرض الإشكال في «الواو» دون غيرها من حروف العطف، وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني، مثل أنّ «الفاء» توجب الترتيب من غير تراخ، و «ثم» توجبه مع تراخ، و «أو» تردّد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه، فإذا عطفت بواحدة منها الجملة على الجملة، ظهرت الفائدة. فإذا قلت: «أعطاني فشكرته»، ظهر بالفاء أن الشكر كان معقّبا على العطاء ومسبّبا عنه، وإذا قلت:
«خرجت ثم خرج زيد»، أفادت «ثم» أن خروجه كان بعد خروجك، وأنّ مهلة وقعت بينهما، وإذا قلت: «يعطيك أو يكسوك»، دلّت «أو» على أنه يفعل واحدا منهما لا بعينه.
وليس «للواو» معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأوّل. فإذا قلت: «جاءني زيد وعمرو» لم تفد بالواو شيئا أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبته لزيد، والجمع بينه وبينه، ولا يتصوّر إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن معنا في قولنا: «زيد قائم وعمرو قاعد» معنى تزعم أنّ «الواو» أشركت بين هاتين الجملتين فيه، ثبت إشكال المسألة.
ثم إنّ الذي يوجبه النظر والتأمّل أن يقال في ذلك: إنّا وإن كنّا إذا قلنا: «زيد قائم وعمرو قاعد»، فإنّا لا نرى هاهنا حكما نزعم أن «الواو» جاءت للجمع بين الجملتين فيه، فإنا نرى أمرا آخر نحصل معه على معنى الجمع. وذلك أنّا لا نقول:
«زيد قائم وعمرو قاعد»، حتى يكون عمرو بسبب من زيد، وحتى يكونا كالنظيرين

(1/149)


والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حال الأوّل عناه أن يعرف حال الثاني. يدلّك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب، ولا هو ممّا يذكر بذكره ويتّصل حديثه بحديثه، لم يستقم. فلو قلت: «خرجت اليوم من داري»، ثم قلت: «وأحسن الذي يقول بيت كذا»، قلت ما يضحك منه، ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله: [من الكامل]
لا والّذي هو عالم أنّ النّوى ... صبر وأنّ أبا الحسين كريم «1»
وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى، ولا تعلّق لأحدهما بالآخر، وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك.
واعلم أنّه كما يجب أن يكون المحدّث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدّث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشّبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأوّل. فلو قلت: «زيد طويل القامة وعمرو شاعر»، كان خلفا، لأنه لا مشاكلة ولا تعلّق بين طول القامة وبين الشّعر، وإنما الواجب أن يقال: «زيد كاتب وعمرو شاعر»، و «زيد طويل القامة وعمرو قصير».
وجملة الأمر أنها لا تجيء حتّى يكون المعنى في هذه الجملة لفقا «2» لمعنى في الأخرى ومضامّا له، مثل أنّ «زيدا» و «عمرا» إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة، كانت الحال التي يكون عليها أحدهما، من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك، مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شكّ.
وكذا السبيل أبدا.
والمعاني في ذلك كالأشخاص، فإنّما قلت مثلا: «العلم حسن والجهل قبيح»، لأنّ كون العلم حسنا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحا.
واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحدا كقولنا: «هو يقول ويفعل ويضرّ وينفع، ويسيء ويحسن، ويأمر وينهى، ويحلّ ويعقد، ويأخذ ويعطى، ويبيع
__________
(1) البيت في ديوانه (282) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة، وقبله:
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... منها طلول باللوى ورسوم
والبيت في مفتاح العلوم للسكاكي (381)، والإيضاح (149)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (122)، وعزاه إليه، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقي (1/ 87)، وشرح الصولي للديوان (2/ 419)، ومعاهد التنصيص، وانظر نهاية الإيجاز (323)، وعقود الجمان (173) والصبر: عصارة شجرة حامض.
(2) لفقا له: لفق الثوب يلفقه: ضم شقة إلى أخرى. القاموس «لفق» (1190).

(1/150)


ويشتري، ويأكل ويشرب» وأشباه ذلك، ازداد معنى الجمع في «الواو» قوة وظهورا، وكان الأمر حينئذ صريحا.
وذلك أنك إذا قلت: «هو يضرّ وينفع»، كنت قد أفدت «بالواو» أنك أوجبت له الفعلين جميعا، وجعلته يفعلهما معا. ولو قلت: «يضرّ ينفع»: من غير «واو» لم يجب ذلك، بل قد يجوز أن يكون قولك «ينفع» رجوعا عن قولك «يضر» وإبطالا له.
وإذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصّلة، ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصوّر تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر، وذلك في مثل قولك: «العجب من أنّي أحسنت وأسأت» و «يكفيك ما قلت وسمعت» و «أيحسن أن تنهى عن شيء وتأتي مثله؟»، وذلك أنه لا يشتبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين في حكم فعل واحد. ومن البيّن في ذلك قوله: [من البسيط]
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم، ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا «1»
المعنى: لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم، وجامعها في الحصول.
ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام: [من الطويل]
لهان علينا أن نقول وتفعلا ... ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا «2»
واعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتّصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد، كذلك يكون في الجمل ما تتّصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. وهي كلّ جملة كانت مؤكّدة للتي قبلها ومبيّنة لها، وكانت إذا حصّلت لم تكن شيئا سواها، كما لا تكون الصفة غير الموصوف، والتأكيد غير المؤكد. فإذا قلت: «جاءني زيد الظريف»، و «جاءني القوم كلهم»، لم يكن «الظريف» و «كلّهم» غير زيد وغير القوم.
ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ
__________
(1) من شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، شرح الحماسة للتبريزي (1/ 121).
(2) البيت في ديوانه (ص 237)، مطلع قصيدة في مدح محمد بن عبد الملك الزيات. ويروى:
«فتفضلا» بدل من «وتفضلا» وبعده:
أبا جعفر أجريت في كل تلعة ... لنا جعفرا من سيب كفيك سلسلا
لهان: أي والله لقد هان.

(1/151)


[البقرة: 1 - 2] قوله: «لا ريب فيه»، بيان وتوكيد وتحقيق لقوله «ذلك الكتاب»، وزيادة تثبيت له، وبمنزلة أن تقول: «هو ذلك الكتاب، هو ذلك الكتاب»، فتعيده مرة ثانية لتثبته، وليس يثبت الخبر غير الخبر، ولا شيء يتميّز به عنه فيحتاج إلى ضامّ يضمّه إليه، وعاطف يعطفه عليه.
ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6 - 7] قوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ، تأكيد لقوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، تأكيد ثان أبلغ من الأوّل، لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر، كان في غاية الجهل، وكان مطبوعا على قلبه لا محالة.
وكذلك قوله عزّ وجلّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ [البقرة: 8 - 9]، إنّما قال: «يخادعون» ولم يقل:
«ويخادعون» لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم: «آمنّا»، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلام أكّد به كلام آخر هو في معناه، وليس شيئا سواه.
وهكذا قوله عزّ وجلّ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]، وذلك لأن معنى قولهم: «إنّا معكم»: إنّا لم نؤمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم ولم نترك اليهوديّة. وقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، خبر بهذا المعنى بعينه، لأنه لا فرق بين أن يقولوا: «إنّا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلّا استهزاء»، وبين أن يقولوا: «إنّا لم نخرج من دينكم وإنّا معكم»، بل هما في حكم الشيء الواحد، فصار كأنهم قالوا: «إنا معكم لم نفارقكم» فكما لا يكون «إنّا لم نفارقكم» شيئا غير «إنّا معكم»، كذلك لا يكون «إنّما نحن مستهزءون» غيره، فاعرفه.
ومن الواضح البيّن في هذا المعنى قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لقمان: 7]، لم يأت معطوفا نحو «وكأنّ في أذنيه وقرا»، لأنّ المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر، هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلّا أنّ الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد. وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه، ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل.

(1/152)


ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك، من حيث كان من لا يصحّ منه السمع وإن أراد ذلك، أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة، من الذي يصحّ منه السمع إلّا أنه لا يسمع، إمّا اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع.
فاعرفه وأحسن تدبّره.
ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31]، وذلك أن قوله: «إن هذا إلّا ملك كريم»، مشابك لقوله: «ما هذا بشرا» ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه: وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد، ووجه هو فيه شبيه بالصفة.
فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد، هو أنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا، وإذا كان كذلك كان، إثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة، وتأكيدا لنفي أن يكون بشرا.
والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل: «ما هذا بشرا، وما هذا بآدميّ»، والحال حال تعظيم وتعجّب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق، أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك، وأنه يكنى به عن ذلك، حتى أنه يكون مفهوم اللفظ، وإذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر، كان ذكره إذا ذكر تأكيدا لا محالة، لأنّ حدّ «التأكيد» أن تحقّق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك. أفلا ترى: أنه إنّما كان «كلّهم» في قولك: «جاءني القوم كلّهم» تأكيدا من حيث كان الذي فهم منه، وهو الشمول، قد فهم بديئا من ظاهر لفظ «القوم»، ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ «القوم»، ولا كان هو من موجبه، لم يكن «كلّ» تأكيدا، ولكان الشمول مستفادا من «كلّ» ابتداء.
وأمّا الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة، فهو أنه إذا نفي أن يكون بشرا، فقد أثبت له جنس سواه، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر، ثم لا يدخل في جنس آخر. وإذا كان الأمر كذلك، كان إثباته «ملكا» تبيينا وتعيينا لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول: «فإن لم يكن بشرا، فما هو؟ وما جنسه؟» كما أنك إذا قلت: «مررت بزيد الظريف» كان «الظريف» تبيينا وتعيينا للّذي أردت من بين من له هذا الاسم، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول: «أيّ الزيدين أردت؟».
وممّا جاء فيه الإثبات «بإن وإلّا» على هذا الحدّ قوله عزّ وجلّ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69]، وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ

(1/153)


الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4]، أفلا ترى أنّ الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي؟ فإثبات ما علّمه النبي صلى الله عليه وسلّم وأوحي إليه ذكرا وقرآنا، تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علّم الشعر وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحيا من الله تعالى، تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى.
واعلم أنّه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: «إنه خفيّ غامض، ودقيق صعب» إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدقّ وأصعب. وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: «إن الكلام قد استؤنف وقطع عمّا قبله»، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. ولقد غفلوا غفلة شديدة.
وممّا هو أصل في هذا الباب أنك قد ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف، لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها.
مثال ذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15]، الظاهر كما لا يخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14]، وذلك أنه ليس بأجنبيّ منه، بل هو نظير ما جاء معطوفا من قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142]، وقوله:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54]، وما أشبه ذلك مما يردّ فيه العجز على الصّدر، ثم إنّك تجده قد جاء غير معطوف، وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف، وهو أن قوله: «إنما
نحن مستهزءون»، حكاية عنهم أنهم قالوا، وليس بخبر من الله تعالى، وقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم. وإذا كان كذلك، كان العطف ممتنعا، لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى، معطوفا على ما هو حكاية عنهم، ولإيجاب ذلك أن يخرج من كونه خبرا من الله تعالى، إلى كونه حكاية عنهم، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون، وأن الله تعالى معاقبهم عليه.
وليس كذلك الحال في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ و «مكروا ومكر الله»، لأن الأول من الكلامين فيهما كالثّاني، في أنه خبر من الله تعالى وليس بحكاية. وهذا هو العلّة في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11 - 12]، إنما جاء «إنّهم هم المفسدون» مستأنفا مفتتحا «بألا»، لأنه خبر من الله تعالى بأنّهم

(1/154)


كذلك، والذي قبله من قوله: «إنما نحن مصلحون»، حكاية عنهم. فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدّمت ذكره من الدخول في الحكاية، ولصار خبرا من اليهود ووصفا منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون، ولصار كأنه قيل: قالوا: «إنما نحن مصلحون، وقالوا إنّهم المفسدون»، وذلك ما لا يشكّ في فساده.
وكذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13]، ولو عطف: «إنّهم هم السّفهاء» على ما قبله، لكان يكون قد أدخل في الحكاية، ولصار حديثا منهم عن أنفسهم بأنهم هم السّفهاء، من بعد أن زعموا أنهم إنّما تركوا أن يؤمنوا لئلّا يكونوا من السفهاء.
على أنّ في هذا أمرا آخر، وهو أن قوله: «أنؤمن» استفهام، لا يعطف الخبر على الاستفهام.
فإن قلت: هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على «قالوا» من قوله: «قالوا إنّا معكم» لا على ما بعده، وكذلك كان يفعل في «إنّهم هم المفسدون»، و «إنّهم هم السّفهاء»، وكان يكون نظير قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8]، وذلك أنّ قوله: «ولو أنزلنا ملكا» معطوف، من غير شك، على «قالوا» دون ما بعده؟.
قيل: إن حكم العطف على «قالوا» فيما نحن فيه، مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت. وذلك أن «قالوا» هاهنا جواب شرط، فلو عطف قوله: «الله يستهزئ بهم» عليه، للزم إدخاله في حكمه من كونه جوابا، وذلك لا يصحّ.
وذاك أنّه متى عطف على جواب الشرط شيء «بالواو» كان ذلك على ضربين:
أحدهما: أن يكونا شيئين يتصوّر وجود كلّ واحد منهما دون الآخر، ومثاله قولك «إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك»، والثاني: أن يكون المعطوف شيئا لا يكون حتى يكون المعطوف عليه، ويكون الشّرط لذلك سببا فيه بوساطة كونه سببا للأول، ومثاله قولك: «إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنته وخرجت»، فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، وقد صار «الرجوع» سببا في الخروج، من أجل كونه سببا في الاستئذان، فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين، نحو: «إذا رجع الأمير استأذنت، وإذا استأذنت خرجت».
وإذا قد عرفت ذلك، فإنه لو عطف قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ على

(1/155)


«قالوا» كما زعمت، كان الذي يتصوّر فيه أن يكون من هذا الضّرب الثاني، وأن يكون المعنى: «وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون»، فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ومدّهم في طغيانهم يعمهون.
وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم، فليس هو بمستقيم. وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إيّاه في قولهم: «آمنّا»، لا على أنهم حدّثوا على أنفسهم بأنّهم مستهزءون، والعطف على «قالوا» يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء، لا عليه نفسه.
ويبيّن ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء وفعلهم له، لا على حديثهم عن أنفسهم بأنا مستهزءون، أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم: «إنما نحن مستهزءون» وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام، وأن يسلموا من شرّهم، وأن يوهموهم أنّهم منهم وإن لم يكونوا كذلك «1»، لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه، من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان، لا في قول: «إنّا استهزأنا» من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونيّة.
هذا، وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف، وهو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا كيت وكيت، تحرّك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم وما يصنع بهم، وأتنزل بهم النّقمة عاجلا أم لا تنزل ويمهلون، وتوقع في أنفسهم التمنّي لأن يتبيّن لهم ذلك. وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام الذي هو قوله: «الله يستهزئ بهم»، في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدّر وقوعه في أنفس السامعين. وإذا كان مصدره كذلك، كان حقّه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف، ليكون في صورته إذا قيل:
«فإن سألتم قيل لكم: «الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون».
وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا، منزلته إذا صرّح بذلك السؤال، كثيرا، فمن لطيف ذلك قوله: [من الكامل]
زعم العواذل أنّني في غمرة، ... صدقوا، ولكن غمرتي لا تنجلي «2»
لمّا حكى عن العواذل أنهم قالوا: «هو في غمرة»، وكان ذلك مما يحرّك
__________
(1) والتقدير أنهم لو كانوا ..... لكان لا يكون عليهم».
(2) البيت في الإيضاح (157)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (125) بلا عزو، والطيبي في التبيان (142)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (182)، وهو غير منسوب.
الغمرة: الشدة.

(1/156)


السامع لأن يسأله فيقول: «فما قولك في ذلك، وما جوابك عنه؟»، أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، وصار كأنه قال: «أقول: صدقوا، أنا كما قالوا، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي»، ولو قال: «زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا»، لكان يكون لم يضع في نفسه أنه مسئول، وأن كلامه كلام مجيب.
ومثله قول الآخر في الحماسة: [من الكامل]
زعم العواذل أنّ ناقة جندب ... بجنوب خبت عرّيت وأجمّت
كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسيّة قلن: لجّ وذلّت «1»
وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب، تأكيدا بأن وضع الظّاهر موضع المضمر، فقال: «كذب العواذل»: ولم يقل «كذبن»، وذلك أنه لما أعاد ذكر «العواذل» ظاهرا، كان ذلك أبين وأقوى، لكونه كلاما مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام ومما هو على ذلك قول الآخر: [من الوافر] زعمتم أنّ إخوتكم قريش! * لهم إلف، وليس لكم إلاف «2» وذلك أنّ قوله: «لهم إلف» تكذيب لدعواهم أنّهم من قريش، فهو إذن بمنزلة أن يقول: «كذبتم، لهم إلف، وليس لكم ذلك»: ولو قال: «زعمتم أنّ إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف»، لصار بمنزلة أن يقول: «زعمتم أن أخواتكم قريش وكذبتم»، في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعا على أنه جواب سائل يقول له: «فماذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟» فاعرفه.
واعلم أنّه لو أظهر «كذبتم»، لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله: «لهم إلف» عليه بالفاء، فيقول: «كذبتم فلهم إلف، وليس لكم ذلك». فأما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتّة، لأنه يصير حينئذ معطوفا بالفاء على قوله: «زعمتم
__________
(1) البيتان في الإيضاح (157)، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (1/ 162)، وجندب هو الشاعر ونسبه في معاهد التنصيص (1/ 281)، وقال: «جندب بن عمار». خبت: موضع بالشام وبلدة بزبيد، أجمت: أي تركت أن تركب.
(2) البيت لمساور بن هند بن قيس بن زهير، من شعراء الحماسة يهجو بني أسد، وأورده القزويني في الإيضاح (158)، والسكاكي في مفتاح العلوم (271)، والإلف: الذي تألفه. إيلاف: العهد والذمام.

(1/157)


أنّ إخوتكم قريش»، وذلك يخرج إلى المحال، من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله:
«لهم إلف»، على أن هذا الزعم كان منهم، كما أنك إذا قلت: «كذبتم فلهم إلف»، كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا، فاعرف ذلك.
ومن اللطيف في الاستئناف، على معنى جعل الكلام جوابا في التقدير، قول اليزيديّ: [من السريع]
ملّكته حبلي، ولكنّه ... ألقاه من زهد على غاربي
وقال إني في الهوى كاذب، انتقم الله من الكاذب «1» استأنف قوله: «انتقم الله من الكاذب»، لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلا قال له: «فما تقول فيما اتّهمك به من أنك كاذب؟» فقال أقول «انتقم الله من الكاذب».
ومن النادر أيضا في ذلك قول الآخر: [من الخفيف]
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل، ... سهر دائم وحزن طويل «2»
لما كان في العادة إذا قيل للرجل: «كيف أنت؟» فقال: «عليل»، أن يسأل ثانيا فيقال: «ما بك؟ وما علتك»، قدّر كأنه قد قيل له ذلك، فأتى بقوله: «سهر دائم» جوابا عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال، فاعرفه:
ومن الحسن البيّن في ذلك قول المتنبي: [من الوافر]
وما عفت الرّياح له محلّا، ... عفاه من حدا بهم وساقا «3»
__________
(1) البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (151)، وعزاهما لليزيدي، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 87)، وعقود الجمان (176)، إلقاء الحبل على الغارب: كناية عن الإهمال، واليزيدي: عالم شاعر راوية توفي سنة (292 هـ)، والبيتان في الأغاني لإبراهيم بن المدبر الشاعر الكاتب العباسي.
(2) البيت أورده القزويني في الإيضاح (38، 156)، وهو بلا نسبة في التبيان للطيبي (1/ 146)، ومعاهد التنصيص (1/ 100)، والإشارات والتنبيهات (34)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 52)، والشاهد من قوله: «عليل» لأن التقدير: أنا عليل، وفي قوله: «سهر دائم» لأن التقدير:
حالي سهر دائم والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الضجر.
(3) البيت في ديوانه (2/ 40)، من قصيدة في مدح سيف الدولة وقد أمر له بفرس وجارية، وقبله:
أيدري الربع أي دم أرقا ... وأي قلوب هذا أكبر لب شاقا
لنا ولأهله أبدا قلوب ... تلاقى في جسوم ما تلاقى
والبيت أورده القزويني في الإيضاح (157)، والسكاكي في المفتاح (373). عفت: محت، محلا: مكانا، الحادي: من يسوق القافلة.

(1/158)


لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح، وأن تكون التي فعلت ذلك، وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل: «لم يفعله فلان»، أن يقال: «فمن فعله؟» قدّر كأن قائلا قال: «قد زعمت أن الرياح لم تعف له محلّا، فما عفاه إذن؟»، فقال مجيبا له: «عفاه من حدا بهم وساقا».
ومثله قول الوليد بن يزيد: [من الهزج]
عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد أحوال
عفاه كل حنّان ... عسوف الوبل هطّال «1»
لما قال: «عفا من بعد أحوال»، قدّر كأنه قيل له: «فما عفاه؟» فقال: «عفاه كلّ حنّان».
واعلم أن السؤال إذا كان ظاهرا مذكورا في مثل هذا، كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب، ويقتصر على الاسم وحده. فأمّا مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل.
تفسير هذا: أنه يجوز لك إذا قيل: «إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟» أن تقول: «من حدا بهم وساقا» ولا تقول: «عفاه من حدا»، كما تقول في جواب من يقول: «من فعل هذا؟»: زيد، ولا يجب أن تقول: «فعله زيد».
وأمّا إذا لم يكن السؤال مذكورا كالذي عليه البيت، فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل. فلو قلت مثلا: «وما عفت الرياح له محلا، من حدا بهم وساقا»: تزعم أنك أردت «عفاه من حدا بهم»، ثم تركت ذكر الفعل، أحلت «2»، لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكورا، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن العلم به سبيل، فاعرف ذلك.
واعلم أن الذي تراه في التّنزيل من لفظ «قال» مفصولا غير معطوف، هذا هو التقدير فيه، والله أعلم. أعني مثل قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:
__________
(1) البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (157)، وعزاهما للوليد، والسكاكي في المفتاح (373)، وهما في شعر الوليد بن يزيد في المجموع، والأغاني (7/ 32).
(2) أي: جئت بالمحال.

(1/159)


24 - 28]، جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السّؤال. فلما كان العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم: «دخل قوم على فلان فقالوا كذا»، أن يقولوا: «فما قال هو؟»، ويقول المجيب: «قال كذا»، أخرج الكلام ذلك المخرج، لأنّ الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه.
وكذلك قوله: «قال ألا تأكلون»، وذلك أن قوله: «فجاء بعجل سمين. فقرّبه إليهم»، يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول، فكأنه قيل والله أعلم: «فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟»، فأتى قوله: «قال ألا تأكلون»، جوابا عن ذلك.
وكذا «قالوا لا تخف»، لأن قوله: «فأوجس منهم خيفة»، يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره، فكأنه قيل: «فما قالوا حين رأوه وقد تغيّر ودخلته الخيفة؟» فقيل: «قالوا لا تخف».
وذلك، والله أعلم، المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته، كالذي يجيء في قصّة فرعون عليه اللّعنة، وفي ردّ موسى عليه السلام عليه كقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 23 - 31]، جاء ذلك كله، والله أعلم، على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منّا إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال: «وما رب العالمين؟»، وقع في نفسه أن يقول:
«فما قال موسى له؟» أتى قوله: «قال ربّ السماوات والأرض»، مأتى الجواب مبتدأ مفصولا غير معطوف. وهكذا التقدير والتفسير أبدا في كل ما جاء فيه لفظ «قال» هذا المجيء، وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشدّ وضوحا.
- فممّا هو في غاية الوضوح قوله تعالى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: 57 - 58]، وذلك لأنّه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب، وعلى أن نزّل السامعون كأنهم قالوا: «فما قال له الملائكة؟»، فقيل: «قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين».
وكذلك قوله عز وجل في سورة يس: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ

(1/160)


جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ
[يس: 13 - 21]، التقدير الذي قدّرناه من معنى السؤال والجواب بيّن ظاهر في ذلك كله، ونسأل الله التوفيق للصواب، والعصمة من الزّلل.