دلائل الإعجاز ت هنداوي

[فصل منه في أن امتياز العبارة بالتأثير]
هذا فن من القول خاصّ دقيق. اعلم أن مما يقلّ نظر الناس فيه من أمر «العطف» أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان، مثال ذلك قول المتنبي: [من الوافر]

(1/161)


تولّوا بغتة، فكأن بينا ... تهيّبني، ففاجأني اغتيالا
فكان مسير عيسهم ذميلا، ... وسير الدّمع إثرهم انهمالا «1»
قوله: «فكان مسير عيسهم»، معطوف على «تولّوا بغتة»، دون ما يليه من قوله: «ففاجأني»، لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى، من حيث أنه يدخل في معنى «كأنّ»، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة، ويكون متوهّما، كما كان تهيّب البين كذلك.
وهذا أصل كبير. والسبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا، وبين المعطوف عليها الأولى، ترتبط في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أنّ قوله: «فكأنّ بينا تهيّبني»، مرتبط بقوله: «تولوا بغتة»، وذلك أن الثانية مسبّب والأولى سبب. ألا ترى أن المعنى: «تولوا بغتة فتوهمت أنّ بينا تهيّبني؟» ولا شك أن هذا التوهّم كان بسبب أن كان التّولّي بغتة. وإذا كان كذلك، كانت مع الأولى كالشيء الواحد، وكان منزلتها منها منزلة المفعول والظّرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل، مما لا يمكن إفراده عن الجملة، وأن يعتدّ كلاما على حدته.
وهاهنا شيء آخر دقيق، وهو أنك إذا نظرت إلى قوله: «فكان مسير عيسهم ذميلا»، وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوّله. ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل تولّيهم بغتة، وعلى الوجه الذي توهّم من أجله أن البين تهيّبه، مستدعيا بكاءه، وموجبا أن ينهمل دمعه، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع، وأن يوفّق بينهما.
وكذلك الحكم في الأوّل، فنحن وإن كنا قلنا إن العطف على «تولوا بغتة»، فإنّا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده، بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره، وإنما أردنا بقولنا «إن العطف عليه»، أن نعلمك أن الأصل
__________
(1) البيتان في ديوانه (1/ 183) من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، وقبلهما:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا
تولوا: أدبروا. البغتة: الفجأة. تهيبني: هابني. اغتيال: أخذ المرء من حيث لا يدري. العيس:
الإبل. انهمالا: انسكابا. الذميل: ضرب من السير سريع ..

(1/162)


والقاعدة، وأن نصرفك عن أن تطرحه، وتجعل العطف على ما يلي هذا الذي تعطفه، فتزعم أن قوله: «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأني»، فتقع في الخطأ كالذي أريناك.
فأمر العطف إذن، موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة، وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض، ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك.
وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلا يعتبر به.
وذلك أنك ترى، متى شئت، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى، ثم جعلتا بمجموعهما شرطا، ومثال ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النساء: 112]، الشّرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، ولا في واحدة دون الأخرى، لأنّا إن قلنا أنّه في كل واحدة منهما على الانفراد، جعلناهما شرطين، وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين، وليس معنا إلا جزاء واحد. وإن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى، لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط، وذلك ما لا يخفى فساده.
ثم إنا نعلم من طريق المعنى أنّ الجزاء الذي هو احتمال البهتان والإثم المبين، أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين، فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد، ولا لرمي البريء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق، بل لرمي الإنسان البريء بخطيئة أو إثم كان من الرامي، وكذلك الحكم أبدا. فقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:
100]، لم يعلّق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد، بل بها مقرونا إليها أن يدركه الموت عليها.
واعلم أنّ سبيل الجملتين في هذا، وجعلهما بمجموعهما بمنزلة الجملة الواحدة، سبيل الجزءين تعقد منهما الجملة، ثم يجعل المجموع خبرا أو صفة أو حالا، كقولك: «زيد قام غلامه» و «زيد أبوه كريم» و «مررت برجل أبوه كريم» و «جاءني زيد يعدو به فرسه». فكما يكون الخبر والصّفة والحال لا محالة في مجموع الجزءين لا في أحدهما، كذلك يكون الشرط في مجموع الجملتين لا في إحداهما. وإذا علمت ذلك في الشّرط، فاحتذه في العطف، فإنك تجده مثله سواء.

(1/163)


ومما لا يكون العطف فيه إلّا على هذا الحدّ قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص: 44 - 45]، لو جريت على الظاهر فجعلت كلّ جملة معطوفة على ما يليها، منع منه المعنى. وذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله: «وما كنت ثاويا في أهل مدين»، معطوفا على قوله: «فتطاول عليهم العمر»، وذلك يقتضي دخوله في معنى «لكن»، ويصير كأنه قيل: «ولكنّك ما كنت ثاويا»، وذلك ما لا يخفى فساده.
وإذا كان كذلك، بان منه أنّه ينبغي أن يكون قد عطف مجموع «وما كنت ثاويا في أهل مدين» إلى «مرسلين»، على مجموع قوله: «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر» إلى قوله «العمر».
فإن قلت: فهلّا قدّرت أن يكون «وما كنت ثاويا في أهل مدين» معطوفا على «وما كنت من الشّاهدين»، دون أن تزعم أنّه معطوف عليه مضموما إليه ما بعده إلى قوله «العمر»؟
قيل: لأنّا إن قدّرنا ذلك، وجب أن ينوى به التقديم على قوله: «ولكنّا أنشأنا قرونا» وأن يكون الترتيب «وما كنت بجانب الغربيّ إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ولكنّا كنا مرسلين»، وفي ذلك إزالة «لكن» عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه. ذاك لأن سبيل «لكن» سبيل «إلّا»، فكما لا يجوز أن تقول: «جاءني القوم وخرج أصحابك إلّا زيدا وإلا عمرا» بجعل «إلا زيدا» استثناء «من جاءني القوم»، و «إلا عمرا» من «خرج أصحابك»، كذلك لا يجوز أن تصنع مثل ذلك «بلكن» فتقول: «ما جاءني زيد، وما خرج عمرو ولكنّ بكرا حاضرا، ولكنّ أخاك خارج»، فإذا لم يجز ذلك، وكان تقديرك الذي زعمت يؤدّي إليه، وجب أن تحكم بامتناعه. فاعرفه.
هذا، وإنما تجوز نيّة التأخير في شيء معناه يقتضي له ذلك التأخير، مثل أن كون الاسم مفعولا، يقتضي له أن يكون بعد الفاعل، فإذا قدّم على الفاعل نوي به التأخير، ومعنى «لكن» في الآية، يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه، فكيف يجوز أن ينوى بها التأخير عنه إلى موضع آخر؟.

(1/164)


هذه فصول شتّى في أمر «اللفظ» و «النظم» فيها فصل شحذ للبصيرة، وزيادة كشف عمّا فيها من السريرة