دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل [من دلالة المعنى على المعنى]
ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على «اللفظ»، ثم لا تعترضك شبهة ولا يكون منك توقّف في أنها ليست له، ولكن لمعناه، قولهم: «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك»، وقولهم: «يدخل في الأذن بلا إذن»، فهذا مما لا يشكّ العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنّه لا يتصوّر أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة.
ذاك لأنه لا يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة وبمعاني الألفاظ التي يسمعها، أو يكون جاهلا بذلك .. فإن كان عالما لم يتصوّر أن يتفاوت حال الألفاظ معه، فيكون معنى لفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر، وإن كان جاهلا كان ذلك في وصفه أبعد.
وجملة الأمر أنّه إنّما يتصوّر أن يكون لمعنى أسرع فهما منه لمعنى آخر، إذا كان ذلك مما يدرك بالفكر، وإذا كان مما يتجدّد له العلم به عند سمعه للكلام.
وذلك محال في دلالات الألفاظ اللغوية، لأنّ طريق معرفتها التوقيف، والتقدّم بالتعريف.
__________
(1) لزّ ولززا: شده وألصقه واللز لزوق الشيء بالشيء. القاموس/ لزز/ 673.

(1/175)


وإذا كان ذلك كذلك، علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني، وأنهم أرادوا أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأوّل الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني ووسيطا بينك وبينه، متمكّنا في دلالته، مستقلّا بوساطته، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة، ويشير لك إليه أبين إشارة، حتى يخيّل إليك أنك فهمته من حاقّ «1» اللفظ، وذلك لقلة الكلفة فيه عليك، وسرعة وصوله إليك، فكان من «الكناية» مثل قوله: [من المنسرح]
لا أمتع العوذ بالفصال، ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «2»
ومن «الاستعارة» مثل قوله: [من الطويل]
وصدر أراح الليل عازب همّه، ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب «3»
ومن «التمثيل» مثل قوله: [من المديد]
لا أذود الطّير عن شجر ... قد بلوت المرّ من ثمره «4»
إن أردت أن تعرف ما حاله بالضدّ من هذا، فكان منقوص القوّة في تأدية ما أريد منه، لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السّفارة فيما بينك وبين معناك، ويوضح تمام الإيضاح عن مغزاك، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف: [من الطويل]
سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا «5»
__________
(1) حاقّه: أي وسطه وحاق الجوع: صادقه. القاموس/ حقق/ (1129).
(2) العوذ: جمع عائذ وهي التي مر على ولادتها عشرة أيام أو خمسة عشر يوما، والفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة، والبيت لإبراهيم بن هرمة الشاعر المعروف، ومعناه: أنه لا يمتع الأمهات من الإبل بأبنائها بل يذبحها، ولا يشتري منها إلا قريبة الأجل.
(3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه (29)، من قصيدة: كليني لهم يا أميمة، وقبله:
كليني لهم، يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب
ومعنى البيت: أن الليل الطويل جدد همومه وأعادها بعد أن كادت أن تزول.
(4) البيت لأبي نواس في ديوانه (64)، من قصيدة في مدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور وقبله:
أيها المنتاب من عفره ... لست من ليلى ولا سمره
والمعنى: أي لا أشفق على من ذممت صحبته ولا أمنع غيري من إنسان قد بلوته فلم أجد عنده خيرا، كما أن ثمر الشجر إذا كان مرّا لم يطرد عنه الطير ولم يبل به.
(5) البيت في ديوانه (106) طبعة دار الكتب العلمية، والإيضاح (7)، والإشارات والتنبيهات (12).

(1/176)


بدأ فدلّ بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب، لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن، وأن يجعل دلالة عليه وكناية عنه،
كقولهم: «أبكاني وأضحكني»، على معنى «ساءني وسرّني»، وكما قال: [من السريع]
أبكاني الدّهر، ويا ربّما ... أضحكني الدّهر بما يرضي «1»
ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله: «لتجمدا»، وظنّ أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرّة والسلامة من الحزن، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن ونظر إلى أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء وانتفاء الدموع عنها، وأنه إذا قال «لتجمدا»، فكأنه قال: «أحزن اليوم لئلّا أحزن غدا، وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا»، وغلط فيما ظنّ. وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين، مع أن الحال حال بكاء، ومع أن العين يراد منها أن تبكي، ويستراب في أن لا تبكي، ولذلك لا ترى أحدا يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها ويذمّها وينسبها إلى البخل، ويعدّ امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها على ما به من الهمّ، ألا ترى إلى قوله: [من الطويل]
ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود «2»
فأتى بالجمود تأكيدا لنفي الجود، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء وليس هناك التماس بكاء، لأنّ الجود والبخل يقتضيان مطلوبا يبذل أو يمنع، ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من البكاء، ويصحّ أن يدلّ به على أن الحال حال مسرة وحبور، لجاز أن يدعى به للرجل فيقال: «لا زالت عينك جامدة»، كما يقال:
«لا أبكى الله عينك»، وذاك مما لا يشكّ في بطلانه.
وعلى ذلك قول أهل اللغة: «عين جمود، لا ماء فيها، وسنة جماد، لا مطر فيها، وناقة جماد، لا لبن فيها»، وكما لا تجعل السّنة والنّاقة جمادا إلّا على معنى أنّ السّنة بخيلة بالقطر، والنّاقة لا تسخو بالدّرّ «3»، كذلك حكم العين لا تجعل «جمودا»
__________
(1) البيت لحطان بن المعلى، وانظره في الإيضاح (7) تحقيق د. هنداوي، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/ 152)، وقد كنى الشاعر فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته، وبإضحاكه له عن سروره.
(2) البيت لأبي عطاء السندي في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور يوم واسط بعد أن أمّنه، وو واسط مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كنى فيه الشاعر بجمود العين عن بخلها بالدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع، انظر البيت في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 151)، والإشارات والتنبيهات (12)، والإيضاح (8).
(3) الدر: اللبن. القاموس/ درر/ (500).

(1/177)


إلّا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، ما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأن قد جادت وسخت، وإذا لم تبك، مسيئة موصوفة بأن قد ضنّت وبخلت.
فإن قيل: إنه أراد أن يقول: «إنّ اليوم أتجرّع غصص الفراق، وأحمل نفسي على مرّه، وأحتمل ما يؤدّيني إليه من حزن يفيض الدموع من عيني ويسكبها، لكي أتسبّب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة تتّصل، حتى لا أعرف بعد ذلك الحزن أصلا، ولا تعرف عيني البكاء، وتصير في أن لا ترى باكية أبدا، كالجمود التي لا يكون لها دمع».
فإن ذلك «1» لا يستقيم ولا يستتبّ، لأنه يوقعه في التناقض، ويجعله كأنه قال:
«أحتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا، لأصير في الآجل بدوام الوصل واتصال السرور في صورة من يريد من عينه أن تبكي ثم لا تبكي، لأنها خلقت جامدة لا ماء فيها»، وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيها.
وجملة الأمر أنا لا نعلم أحدا جعل جمود العين دليل سرور وأمارة غبطة، وكناية عن أن الحال حال فرح.
فهذا مثال فيما هو بالضدّ مما شرطوا من أن لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك، من معناه إلى قلبك لأنك ترى اللّفظ يصل إلى سمعك، وتحتاج إلى أن تخبّ وتوضع في طلب المعنى.
ويجري لك هذا الشرح والتفسير في «النظم» كما جرى في «اللفظ»، لأنه إذا كان النظم سويّا، والتأليف مستقيما، كان وصول المعنى إلى قلبك، تلو وصول اللفظ إلى سمعك. وإذا كان على خلاف ما ينبغي، وصل اللّفظ إلى السمع، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه، وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا: «إنّه يستهلك المعنى».
واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب، إلّا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات، وأنت لا ترى أغرب مذهبا، وأعجب طريقا، وأحرى بأن تضطرب فيه الآراء منه. وما قولك في شيء قد بلغ من أمره أن يدّعى على كبار العلماء أنّهم لم يعلموه ولم يفطنوا له؟ فقد ترى أنّ البحتري قال حين سئل عن مسلم وأبي نواس: أيّهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقيل: فإن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون علمه، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته.
__________
(1) فإن ذلك جواب للشرط في بداية الفقرة وهو «فإن قيل ... »

(1/178)


ثمّ لم ينفكّ العالمون به والذين هم من أهله، من دخول الشبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السّهو والغلط لهم. روي عن الأصمعي أنّه قال «1»: كنت أشدو من أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر، وكان يأتيان بشارا فيسلّمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزّوال، ثم ينصرفان. وأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنّك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم،
بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما: [من الخفيف]
بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ... إنّ ذاك النّجاح في التّبكير «2»
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إنّ ذاك النجاح في التبكير»:
بكّرا فالنّجاح في التّبكير كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: إنّ ذاك النجاح في التبكير، كما يقول الأعراب البدويّون، ولو قلت: «بكّرا فالنجاح»، كان هذا من كلام المولّدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبّل بين عينيه» «3»، فهل كان هذا القول من خلف والنّقد على بشّار، إلّا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟.
واعلم أن من شأن «إنّ» إذا جاءت على هذا الوجه، أن تغني غناء «الفاء» العاطفة مثلا، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا. فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف، ومقطوعا موصولا معا. أفلا ترى أنك لو أسقطت «إنّ» من قوله: «إنّ ذاك النجاح في التبكير»، لم تر الكلام يلتئم، ولرأيت الجملة الثانية لا تتّصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل، حتى تجيء بالفاء فتقول: «بكّرا صاحبيّ قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير»، ومثله قول بعض العرب: [من الرجز]
__________
(1) الخبر في الأغاني (3/ 190).
(2) البيت لبشار بن برد في ديوانه (3/ 203)، والإشارات والتنبيهات للجرجاني (31)، والأغاني (3/ 185). والهجير: من الزوال إلى العصر أو شدة الحرارة.
(3) يقصد فقبل بشار بين عينيه وهي في (الأغاني 3/ 190).

(1/179)


فغنّها، وهي لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء «1»
فانظر إلى قوله: «إنّ غناء الإبل الحداء»، وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبّثه به، وإلى حسن تعطّف الكلام الأوّل عليه. ثم انظر إذا تركت «إنّ» فقلت:
«فغنّها وهي لك الفداء، غناء الإبل الحداء»، كيف تكون الصّورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتّى تجتلب لهما «الفاء» فتقول: «فغنّها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد، والحسن الذي كنت ترى.
وروي عن عنبسة «2» أنه قال: قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها: [من الطويل]
هي البرء، والأسقام، والهمّ، والمنى، ... وموت الهوى في القلب منّي المبرّح
وكان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي، ... وحبّك عندي يستجدّ ويربح
إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح «3»
قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة «4»: يا غيلان «5»، أراه قد برح! قال: فشنق ناقته «6» وجعل يتأخّر بها ويفكّر، ثم قال:
__________
(1) البيت بلا نسبة في جمهرة اللغة (964، 1047)، والإيضاح (1/ 94) طبعة دار الكتاب اللبناني، والإشارات للجرجاني (31)، والمفتاح للسكاكي: (262). والضمير في قوله:
«فغنها» للإبل أي: فغن لها. الحداء بضم الحاء وكسرها: مصدر حدا الإبل إذا ساقها وغنى لها.
(2) عنبسة: هو عنبسة بن معدان الغيل الميساني وهو أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي (بغية الوعاة) والكناسة هو سوق في الكوفة.
(3) الأبيات لذي الرمة في ديوانه (45) ط، دار الكتب العلمية، وهي في الأغاني منسوبة إليه (18/ 33)، والأبيات في الديوان ليست متتالية، ورواية الديوان: «والهم ذكرها» بدل «الهم والمنى»، و «لولا التنائي» بدل «في القلب مني». وشطر البيت الثاني هكذا: «وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمتحى». الرّسّ: ابتداء الشيء، والرسّ والرسيس واحد: أول الحمى الذي يؤذن بها ويدل على ورودها ورس الهوى في قلبه والسقم في جسمه رسّا ورسيسا، وأرس: دخل وثبت، ورس الحب ورسيسه: بقيته وأثره. اللسان (رسس).
(4) ابن شبرمة: وهو عبد الله بن شبرمة من قضاة الكوفة توفي سنة (44 هـ). شذرات الذهب (1/ 707).
(5) غيلان: وهو اسم ذي الرمة (غيلان بن عقبة).
(6) شنق ناقته: شنق البعير يشنقه ويشنقه: كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرجل أو رفع رأسه وهو راكبه. القاموس (18/ 34)

(1/180)


إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
قال: فلمّا انصرفت حدّثت أبي، قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمة ما أنكر، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40]، وإنّما هو: لم يرها ولم يكد «1».
واعلم أنّ سبب الشّبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال: «ما كاد يفعل» و «لم يكد يفعل» في فعل قد فعل، على معنى أنه لم يفعل إلّا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيدا في الظّن أن يفعله، كقوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فلما كان مجيء النفي في «كاد» على هذا السبيل، توهّم ابن شبرمة أنه إذا قال: «لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح» فقد زعم: أن الهوى قد برح، ووقع لذي الرمة مثل هذا الظّن.
وليس الأمر كالذي ظنّاه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل: «لم يكد يفعل» و «ما كاد يفعل»، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله، ولا قارب أن يكون، ولا ظنّ أنه يكون. وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن «كاد» موضوع لأن يدلّ على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنّه قد شارف الوجود. وإذا كان كذلك، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدّي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده، وأن يكون قولك: «ما قارب أن يفعل»، مقتضيا على البتّ أنه قد فعل. وإذ قد ثبت ذلك، فمن سبيلك أن تنظر. فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، وحال يبعد معها أن يكون، ثمّ تغير الأمر، كالذي تراه في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فليس إلّا أن تلزم الظاهر، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون.
فالمعنى إذن في بيت ذي الرمة على أن الهوى من رسوخه في القلب، وثبوته فيه وغلبته على طباعه، بحيث لا يتوهّم عليه البراح، وأن ذلك لا يقارب أن يكون، فضلا عن أن يكون، كما تقول: «إذا سلا المحبّون وفتروا في محبتهم، لم يقع لي في وهم، ولم يجر منّي على بال: أنه يجوز عليّ ما يشبه السّلوة، وما يعدّ فترة، فضلا عن أن يوجد ذلك مني وأصير إليه.
__________
(1) الخبر في (الأغاني 18/ 34).

(1/181)


وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير: «لم يرها ولم يكد»، فبدءوا فنفوا الرؤية، ثم عطفوا «لم يكد» عليه، ليعلموك أن ليس سبيل «لم يكد» هاهنا سبيل «ما كادوا» في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] في أنه نفي معقّب على إثبات، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون، ولكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون، فضلا عن أن تكون. ولو كان «لم يكد» يوجب وجود الفعل، لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول: «لم يرها ورآها»، فاعرفه.
وهاهنا نكتة، وهي أنّ «لم يكد» في الآية والبيت واقع في جواب «إذا»، والماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل، كان مستقبلا في المعنى فإذا قلت: «إذا خرجت لم أخرج»، كنت قد نفيت خروجا فيما يستقبل. وإذا كان الأمر كذلك، استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآي على الفعل قد كان، لأنه يؤدي إلى أن يجيء «بلم أفعل» ماضيا صريحا في جواب الشرط فتقول: «إذا خرجت لم أخرج أمس»، وذلك محال. ومما يتّضح فيه هذا المعنى قول الشاعر: [من المتقارب]
ديار لجهمة بالمنحنى ... سقاهنّ مرتجز باكر
وراح عليهنّ ذو هيدب ... ضعيف القوى، ماؤه زاخر
إذا رام نهضا بها لم يكد ... كذي السّاق أخطأها الجابر «1»
وأعود إلى الغرض. فإذا بلغ من دقّة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فما ظنك بغيرهم؟ وما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟ ومن العجب في هذا المعنى قول أبي النجم: [من الرجز]
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي ... عليّ ذنبا كلّه لم أصنع «2»
__________
(1) الأبيات في وصف سحاب، ارتجز الرعد: تدارك صوته وتتابع، والمراد السحاب، ويقال: ترجز السحاب إذا تحرك بطيئا لكثرة مائه، والباكر: صاحب البكور ومن يأتي غدوة. الهيدب: ذيل السحاب المتدلي. والزاخر: الفائض الغزير.
(2) البيت أورده السكاكي في المفتاح (504)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (25)، وعزاه لأبي النجم، وبدر الدين بن مالك في المصباح (144)، والقزويني في الإيضاح (28)، والطيبي في التبيان (1/ 321)، وخزانة الأدب (1/ 359)، والكتاب لسيبويه، وشرح عقود الجمان (1/ 53)، والأغاني (23/ 36). وأبو النجم: هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن بكر ابن وائل من رجاز الإسلام الفحول المقدمين، وفي الطبقة الأولى منهم قال عنه أبو عمرو بن العلاء: كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج. توفي سنة (130 هـ)، وانظر ترجمته في الأغاني (10/ 183).

(1/182)


قد حمله الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع «كلّ» في شيء إنما يجوز عند الضرورة، من غير أن كانت به إليه ضرورة. قالوا: لأنه ليس في نصب «كلّ» ما يكسر له وزنا، أو يمنعه من معنى أراده. وإذا تأملت وجدته لم يرتكبه ولم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك، وإلّا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد. وذاك أنه أراد أنها تدّعي عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتّة لا قليلا ولا كثيرا ولا بعضا ولا كلّا. والنصب يمنع من هذا المعنى، ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادّعته بعضه.
وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في «كل» والفعل منفيّ، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن. تقول: «لم ألق كلّ القوم»، و «لم آخذ كلّ الدراهم»، فيكون المعنى أنك لقيت بعضا من القوم ولم تلق الجميع، وأخذت بعضا من الدراهم وتركت الباقي ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدا من القوم، ولم تأخذ شيئا من الدراهم.
وتعرف ذلك بأن تنظر إلى «كلّ» في الإثبات وتتعرّف فائدته فيه. وإذا نظرت وجدته قد اجتلب لأن يفيد الشمول في الفعل الذي تسنده إلى الجملة أو توقعه بها.
تفسير ذلك، أنك إنما قلت: «جاءني القوم كلهم»، لأنك لو قلت: «جاءني القوم» وسكتّ، لكان يجوز أن يتوهّم السامع أنه قد تخلّف عنك بعضهم، إلا أنك لم تعتدّ بهم، أو أنّك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم فكأنما وقع من الجميع، لكونهم في حكم الشخص الواحد، كما يقال للقبيلة: «فعلتم وصنعتم»، يراد فعل قد كان من بعضهم أو واحد منهم. وهكذا الحكم أبدا.
فإذا قلت: «رأيت القوم كلّهم» و «مررت بالقوم كلّهم»، كنت قد جئت «بكل» لئلّا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره ولم تمرر به.
وينبغي أن يعلم أنا لا نعني بقولنا «يفيد الشمول»، أنّ سبيله في ذلك سبيل الشيء يوجب المعنى من أصله، وأنه لولا مكان «كلّ» لما عقل الشمول ولم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه. كيف؟ ولو كان كذلك لم يكن يسمى «تأكيدا».
فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظ المقتضي الشمول مستعملا على خلاف ظاهره ومتجوّزا فيه.
وإذ قد عرفت ذلك، فهاهنا أصل، وهو أن من حكم النفي إذا دخل على كلام، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجّه إلى ذلك التقييد، وأن يقع له خصوصا.

(1/183)


تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «أتاني القوم مجتمعين»، فقال قائل: «لم يأتك القوم مجتمعين»، كان نفيه ذلك متوجّها إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه، حتّى إنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله، كان من سبيله أن يقول: «إنهم لم يأتوك أصلا، فما معنى قولك: مجتمعين». هذا مما لا يشكّ فيه عاقل.
وإذا كان هذا حكم النفي إذا دخل على كلام فيه تقييد، فإن التأكيد ضرب من التقييد. فمتى نفيت كلاما فيه تأكيد، فإن نفيك ذلك يتوجّه إلى التأكيد خصوصا ويقع له. فإذا قلت: «لم أر القوم كلهم» أو «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كلّ القوم» أو «لم أر كلّ القوم»، كنت عمدت نفيك إلى معنى «كل» خاصة، وكان حكمه حكم «مجتمعين» في قولك: «لم يأتني القوم مجتمعين». وإذا كان النفي يقع «لكلّ» خصوصا فواجب إذا قلت: «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كل القوم»، أن يكون قد أتاك بعضهم كما يجب إذا قلت: «لم يأتني القوم مجتمعين»، أن يكونوا قد أتوك أشتاتا. وكما يستحيل أن تقول: «لم يأتني القوم مجتمعين»، وأنت تريد أنّهم لم يأتوك أصلا لا مجتمعين ولا منفردين كذلك محال أن تقول: «لم يأتني القوم كلهم»، وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا، فاعرفه.
واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه. وذلك أنك إذا قلت: «جاءني القوم كلهم»، كان «كلّ» فائدة خبرك هذا، والذي يتوجّه إليه إثباتك، بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء أنّه كان من القوم على الجملة، وإنما وقع في شموله «الكل»، وذلك الذي عناك أمره من كلامك.
وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرّد إثبات المعنى للشيء، إلّا كان الغرض الخاصّ من الكلام، والّذي يقصد إليه ويزجّى القول فيه. فإذا قلت:
«جاءني زيد راكبا»، و «ما جاءني زيد راكبا» كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا. هذا ما لا سبيل إلى الشكّ فيه.
واعلم أنه يلزم من شكّ في هذا فتوهّم أنه يجوز أن تقول: «لم أر القوم كلهم»، على معنى أنك لم تر واحدا منهم أن تجري النّهي هذا المجرى فتقول: «لا تضرب القوم كلّهم»، على معنى لا تضرب واحدا منهم وأن تقول: «لا تضرب

(1/184)


الرجلين كليهما»، على معنى لا تضرب واحدا منهما. فإذا قال ذلك لزمه أن يحيل قول الناس: «لا تضربهما معا، ولكن اضرب أحدهما»، و «لا تأخذهما جميعا، ولكن واحدا منهما»، وكفى بذلك فسادا.
وإذ قد بان لك من حال النّصب أنه يقتضي أن يكون المعنى على أنه قد صنع من الذّنب بعضا وترك بعضا، فاعلم أنّ الرّفع على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئا، وأتى منه قليلا أو كثيرا، وأنك إذا قلت: «كلّهم لا يأتيك»، و «كلّ ذلك لا يكون»، و «كلّ هذا لا يحسن»، كنت نفيت أن يأتيه واحد منهم، وأبيت أن يكون أو يحسن شيء مما أشرت إليه.
ومما يشهد لك بذلك من الشّعر قوله: [من الطويل]
فكيف؟ وكلّ ليس يعدو حمامه ... ولا لامرئ عمّا قضى الله مزحل «1»
المعنى على نفي أن يعدو أحد من الناس حمامه، بلا شبهة. ولو قلت:
«فكيف وليس يعدو كلّ حمامه»: فأخرت «كلّا»، لأفسدت المعنى، وصرت كأنك تقول: «إن من الناس من يسلم من الحمام ويبقى خالدا لا يموت».
ومثله قول دعبل: [من الطويل]
فو الله ما أدري بأيّ سهامها ... رمتني، وكلّ عندنا ليس بالمكدي
أبا الجيد، أم مجرى الوشاح، وإنّني ... لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد «2»
المعنى على نفي أن يكون في سهامها مكد على وجه من الوجوه.
ومن البيّن في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«أقصرت الصّلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: كلّ ذلك لم يكن. فقال ذو اليدين: بعض ذلك قد كان» «3»، المعنى لا محالة على نفي الأمرين جميعا، وعلى أنه
__________
(1) هو شعر إبراهيم بن كنيف النبهاني، شرح حماسة التبريزي (1/ 136)، وأمالي القالي (1/ 170).
ومزحل: مصدر ميمي من زحل إذا تباعد، يعني ليس منه مهرب.
(2) هو في المجموع من شعره. والمكدي الذي يخيب ولا يصيب هدفه. وقوله: «لأتهم» أي: أتهم عينيها، واعلم أن التاء في التهمة مبدلة من الواو، فقولهم «تهمة» أصلها: «وهمة» ولكنهم في هذا الفعل أجروا التاء المبدلة مجرى الأصل، فقالوا: «أتهمه إتهاما» ويقال أيضا: «أوهمه» بمعنى أتهمه على الأصل. (شاكر).
(3) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب «إذا حنث ناسيا في الأيمان» (6671)، ومسلم في المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (572)، وابن ماجة في الإقامة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فتحرى الصواب (1211).

(1/185)


عليه السلام أراد أنه لم يكن واحد منهما، لا القصر ولا النّسيان. ولو قيل: «لم يكن كلّ ذلك»، لكان المعنى أنه قد كان بعضه.
واعلم أنه لما كان المعنى مع إعمال الفعل المنفي في «كلّ» نحو: «لم يأتني القوم كلّهم» و «لم أر القوم كلّهم»، على أن الفعل قد كان من البعض، ووقع على البعض، قلت: «لم يأتني القوم كلّهم، ولكن أتاني بعضهم» و «لم أر القوم كلّهم، ولكن رأيت بعضهم» فأثبتّ بعد ما نفيت، ولا يكون ذلك مع رفع «كلّ» بالابتداء.
فلو قلت: «كلهم لم يأتني، ولكن أتاني بعضهم» و «كلّ ذلك لم يكن، ولكن كان بعض ذلك»، لم يجز، لأنّه يؤدّي إلى التناقض، وهو أن تقول: «لم يأتني واحد منهم، ولكن أتاني بعضهم».
واعلم أنّه ليس التأثير لما ذكرنا من إعمال الفعل وترك إعماله على الحقيقة، وإنما التأثير لأمر آخر، وهو دخول «كلّ» في حيّز النفي، وأن لا يدخل فيه. وإنما علقنا الحكم في البيت «1» وسائر ما مضى بإعمال الفعل وترك إعماله، من حيث كان إعماله فيه يقتضي دخوله في حيّز النفي، وترك إعماله يوجب خروجه منه، من حيث كان الحرف النافي في البيت حرفا لا ينفصل عن الفعل، وهو «لم» لا أنّ كونه معمولا للفعل وغير معمول، يقتضي ما رأيت من الفرق. أفلا ترى أنّك لو جئت بحرف نفي يتصوّر انفصاله عن الفعل، لرأيت المعنى في «كل» مع ترك إعمال الفعل، مثله مع إعماله، ومثال ذلك قوله: [من البسيط] ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه «2» وقول الآخر: [من البسيط] ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد «3»
__________
(1) علقنا الحكم في البيت: المقصود بيت أبي النجم سبق ذكره وصدره: قد أصبحت أم الخيار.
(2) البيت للمتنبي في ديوانه (235)، من قصيدة قالها عند ما علم أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة وتمامه: «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن».
والمعنى: هم يتمنون موتي ولكن الأمور تسير على عكس رغباتهم، والبيت في الإيضاح (72)، والتبيان (2/ 478)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 88).
(3) البيت: هو صدر بيت قاله أبو العتاهية من قصيدة يعاتب فيها نفسه وعجزه:
إذا بدا لك رأي مشكل فقف (الديوان 165).

(1/186)


«كلّ» كما ترى غير معمل فيه الفعل، ومرفوع، إمّا بالابتداء، وإمّا بأنه اسم «ما»، ثم إنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت: «ما يدرك المرء كلّ ما يتمناه»، «ما يدعو كلّ رأي الفتى إلى رشد»، وذلك أن التأثير لوقوعه في حيّز النفي، وذلك حاصل في الحالين. ولو قدمت «كلّا» في هذا فقلت:
«كلّ ما يتمنى المرء لا يدركه» و «كل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد» لتغير المعنى، ولصار بمنزلة أن يقول: «إنّ المرء لا يدرك شيئا مما يتمناه»، و «لا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه».
واعلم أنك إذا أدخلت «كلّا» في حيّز النفي، وذلك بأن تقدم النّفي عليه لفظا أو تقديرا، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل والوصف نفسه. وإذا أخرجت «كلّا» من حيّز النفي ولم تدخله فيه، لا لفظا ولا تقديرا، كان المعنى على أنك تتبّعت الجملة، فنفيت الفعل والوصف عنها واحدا واحدا. والعلة في أن كان ذلك كذلك، أنك إذا بدأت «بكل» كنت قد بنيت النّفي عليه، وسلّطت الكلّية على النفي وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النّفي يقتضي أن لا يشذّ شيء عن النّفي، فاعرفه.
واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها، دقائق وخفايا لا إلى حدّ ونهاية وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبّه لأكثرها، ولا يعلم أنها هي، وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السّهو فيه، وحتى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ، كلّ ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.

فصل
واعلم أنه إذا كان بيّنا في الشيء أنه لا يحتمل إلّا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقّه وأنه الصواب، إلى فكر وروية فلا مزيّة. وإنّما تكون المزيّة ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر، ثم رأيت النّفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء عليه حسنا وقبولا تعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني.
مثال ذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم «الشركاء» حسنا وروعة ومأخذا من القلوب، أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت: «وجعلوا الجنّ شركاء لله»، وأنك ترى حالك حال من نقل عن

(1/187)


الصورة المبهجة والمنظر الرّائق والحسن الباهر، إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل. والسبب في أن كان ذلك كذلك، هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا لا سبيل إليه مع التأخير.
بيانه، أنّا وإن كنّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجنّ شركاء وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم «الشركاء» يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك، لا من الجن ولا غير الجن.
وإذا أخّر فقيل: «جعلوا الجنّ شركاء لله»، لم يفد ذلك، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأمّا إنكار أن يعبد مع الله غيره، وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير «الشركاء» دليل عليه. وذلك أن التقدير يكون مع التقديم: أن «شركاء» مفعول أوّل لجعل، و «لله» في موضع المفعول الثاني، ويكون «الجن» على كلام ثان، وعلى تقدير أنه كأنه قيل: «فمن جعلوا شركاء لله تعالى؟»، فقيل: «الجن». وإذا كان التقدير في «شركاء» أنّه مفعول أوّل، و «لله» في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء لله تعالى على الإطلاق، من غير اختصاص شيء دون شيء. وحصل من ذلك أنّ اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتّخاذه من الجنّ، لأنّ الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شيء، كان الذي تعلّق بها من النفي عامّا في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة.
فإذا قلت: «ما في الدار كريم»، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كلّ من يكون الكرم صفة له. وحكم الإنكار أبدا حكم النفي. وإذا أخّر فقيل: «وجعلوا الجنّ شركاء لله»، كان «الجن» مفعولا أوّل، و «الشركاء» مفعولا ثانيا. وإذا كان كذلك، كان «الشركاء» مخصوصا غير مطلق، من حيث كان محالا أن يجرى خبرا على الجن، ثم يكون عامّا فيهم وفي غيرهم. وإذا كان كذلك، احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى «الجن» خصوصا، أن يكونوا «شركاء» دون غيرهم، جلّ الله تعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال.
فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدّم «الشركاء»، واعتبره فإنه ينبّهك لكثير من الأمور، ويدلّك على عظم شأن «النظم»، وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته؟ وكيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ، إذ قد ترى أن ليس إلا

(1/188)


تقديم وتأخير، وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى، ما إن حاولته مع تركه لم يحصل لك، واحتجت إلى أن تستأنف له كلاما، نحو أن تقول: «وجعلوا الجنّ شركاء لله، وما ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيرهم»، ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس، ما تجده له الآن وقد عقل من هذا الكلام الواحد.
ومما ينظر إلى مثل ذلك، قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96]، إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسّك، وجدت لهذا التنكير وأن قيل: «على حياة»، ولم يقل: «على الحياة»، حسنا وروعة ولطف موقع لا يقادر قدره، وتجدك تعدم ذلك مع التعريف، وتخرج عن الأريحيّة والأنس إلى خلافهما.
والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها، وذلك أنه لا يحرص عليه إلا الحيّ، فأما العادم للحياة فلا يصحّ منه الحرص على الحياة ولا على غيرها. وإذا كان كذلك، صار كأنه قيل: «ولتجدنّهم أحرص الناس، ولو عاشوا ما عاشوا، على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه، حياة في الذي يستقبل». فكما أنّك لا تقول هاهنا: «أنّ يزدادوا إلى حياتهم الحياة» بالتعريف، وإنما تقول: «حياة» إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق، كقولنا:
«كل أحد يحب الحياة، ويكره الموت»، كذلك الحكم في الآية.
والذي ينبغي أن يراعى: أنّ المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه، إذا كان موجودا حال وصفك له بالحرص عليه، لم يتصوّر أن تجعله حريصا عليه من أصله. كيف؟ ولا يحرص على الراهن ولا الماضي، وإنما يكون الحرص على ما لم يوجد بعد.
وشبيه بتنكير الحياة في هذه الآية تنكيرها في قوله عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]، وذلك أن السبب في حسن التنكير، وأن لم يحسن التعريف، أن ليس المعنى على الحياة نفسها، ولكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل، ارتدع بذلك عن القتل، فسلم صاحبه، صار حياة هذا المهموم بقتله «1» في مستأنف الوقت، مستفادة بالقصاص، وصار كأنّه قد حيي في باقي عمره به. وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته، وجب التنكير وامتنع التعريف، من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من
__________
(1) المهموم بقتله: أي الذي قصد قتله.

(1/189)


أصلها، وأن يكون القصاص قد كان سببا في كونها في كافة الأوقات. وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود.
ويبيّن ذلك أنّك تقول: «لك في هذا غنى»، فتنكّر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغني به، فإن قلت: «لك فيه الغنى»، كان الظاهر أنك جعلت كلّ غناه به.
وأمر آخر، وهو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون همّ وإرادة، وليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلّا وله عدوّ يهمّ بقتله ثم يردعه خوف القصاص. وإذا لم يجب ذلك، فمن لم يهمّ إنسان بقتله، فكفي ذلك الهمّ لخوف القصاص، فليس هو ممّن حيّ بالقصاص. وإذا دخل الخصوص، فقد وجب أن يقال «حياة» ولا يقال «الحياة»، كما وجب أن يقال «شفاء» ولا يقال «الشّفاء» في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69]، حيث لم يكن شفاء للجميع.
واعلم أنه لا يتصوّر أن يكون الذي همّ بالقتل فلم يقتل خوف القصاص داخلا في الجملة، وأن يكون القصاص أفاده حياة كما أفاد المقصود قتله. وذلك أنّ هذه الحياة إنّما هي لمن كان يقتل لولا القصاص، وذلك محال في صفة القاصد للقتل، فإنما يصحّ في وصفه ما هو كالضّدّ لهذا، وهو أن يقال: إنه كان لا يخاف عليه القتل لولا القصاص.
وإذا كان هذا كذلك، كان وجها ثالثا في وجوب التنكير.