دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل [في النظم والترتيب]
اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم وأوضاع لغة، ولكن من حيث توخّي فيها «النظم» الذي بيّنا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في معاني الكلم. وذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص، فهي تتناول الشيء من الجهة التي تختصّ منها بالمضاف إليه. فإذا قلت: «غلام زيد»، تناولت الإضافة «الغلام» من الجهة التي تختصّ منها بزيد، وهي كونه مملوكا.
__________
(1) البيت: لعبيد الله بن قيس الرقيات (الديوان 91) وتقدم ذكره.
(2) سكّ: سدّ. اه القاموس/ سكّ/ 1217.

(1/234)


وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختصّ منها الشّعر بقائله.
وإذا نظرنا وجدناه يختصّ به من جهة توخّيه في معاني الكلم التي ألّفه منها، ما توخّاه من معاني النّحو، ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الاختصاص، ورأينا حالها معه حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الدّيباج، وحال الفضّة والذهب مع من يصوغ منهما الحليّ. فكما لا يشتبه الأمر في أنّ الديباج لا يختصّ بناسجه من حيث الإبريسم، والحليّ بصائغها من حيث الفضّة والذهب، ولكن من جهة العمل والصّنعة، كذلك ينبغي أن لا يشتبه أنّ الشعر لا يختصّ بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة.
وتزداد تبيّنا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت: «امرؤ القيس قائل هذا الشعر»، من أين جعلته قائلا له؟ أمن حيث نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه، أم من حيث صنع في معانيها ما صنع، وتوخّى فيها ما توخّى؟ فإن زعمت أنّك جعلته قائلا له من حيث أنه نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص، فاجعل راوي الشعر قائلا له، فإنه ينطق بها ويخرجها من فيه على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر، وذلك ما لا سبيل لك إليه.
فإن قلت: إنّ الراوي وإن كان قد نطق بألفاظ الشّعر على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر، فإنه هو لم يبتدئ فيها النّسق والترتيب، وإنما ذلك شيء ابتدأه الشاعر، فلذلك جعلته القائل له دون الرّاوي.
قيل لك: خبّرنا عنك، أترى أنه يتصوّر أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» هذا الترتيب، من غير أن يتوخّى في معانيها ما تعلم أنّ امرأ القيس توخّاه من كون «نبك» جوابا للأمر، وكون «من» معدّية له إلى «ذكرى»، وكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب»، وكون «منزل» معطوفا على «حبيب»، أم ذلك محال؟.
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه (110)، وهو مطلع معلقته الشهيرة، وتمامه:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل سقط اللوى: منقطع الرمل، والدخول وحومل قيل: إنهما موضعان في شرق اليمامة.

(1/235)


فإن شككت في استحالته لم تكلّم. وإن قلت: نعم، هو محال.
قيل لك: فإذا كان محالا أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخّى في معانيها معاني النحو، كان قولك: «إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيبا»، قولا بما لا يتحصّل.
وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتّى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدّم فيه ما قدّم، ولم يؤخّر ما أخّر، وبدئ بالذي ثنّي به، أو ثنّي بالذي ثلّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصّفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصّفة: أفي الألفاظ يحصل له ذلك، أم في معاني الألفاظ؟ وليس في الإمكان أن يشكّ عاقل إذا نظر، أن ليس ذلك في الألفاظ، وإنما الذي يتصوّر أن يكون مقصودا في الألفاظ هو «الوزن»، وليس هو من كلامنا في شيء، لأنّا نحن فيما لا يكون الكلام كلاما إلّا به، وليس للوزن مدخل في ذلك.