دلائل الإعجاز ت هنداوي بسم الله الرّحمن الرّحيم
فصل [في كشف شبهة جعل الفصاحة
للألفاظ]
اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث «اللفظ»
كالداء الذي يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن، وجب أن يتوخّى
دائبا فيهم ما يتوخّاه الطبيب في النّاقة، من تعهّده بما يزيد
في منّته، ويبقيه على صحّته، ويؤمنه النّكس في علّته.
وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة، هو ذهابهم عن أن من شأن
المعاني أن تختلف عليها الصّور، وتحدث فيها خواصّ ومزايا من
بعد أن لا تكون.
وإنّك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع
الصّانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من
أصناف الحليّ. فإنّ جهلهم بذلك من حالها، هو الذي أغواهم
واستهواهم، وورّطهم فيما تورّطوا فيه من الجهالات، وأدّاهم إلى
التّعلّق بالمحالات. وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصّورة، وضعوا
لأنفسهم أساسا، وبنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى
واللفظ، ولا ثالث- وإنه إذا كان كذلك، وجب إذا كان لأحد
الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو
الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصّة، وأن
لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث أنّ ذلك، زعموا، يؤدّي
إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرا وغير متغاير معا.
ولمّا أقرّوا هذا في نفوسهم، حملوا كلام العلماء في كل ما
نسبوا فيه الفضيلة إلى «اللّفظ» على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في
الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى «اللّفظ»، مثل قولهم:
«لفظ متمكّن غير قلق ولا ناب به موضعه»، إلى سائر ما ذكرناه
قبل، فيعلموا أنّهم لم يوجبوا للّفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم
يعنون نطق اللّسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما
بينهم أن يقولوا «اللفظ»، وهم يريدون الصّورة التي تحدث في
المعنى، والخاصّة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث
قال.
(1/303)
«وذهب الشّيخ إلى استحسان المعاني،
والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربيّ والعجميّ،
والحضريّ والبدويّ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التّصوير».
وما يعنونه إذا قالوا: «إنه يأخذ الحديث فيشنّفه ويقرّطه،
ويأخذ المعنى خرزة فيردّه جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه
عاطلا فيردّه حاليا». وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن
يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء
غير أهله، وتولّى الأمر غير البصير به، أعضل الداء، واشتدّ
البلاء. ولو لم يكن من الدّليل على أنهم لم ينحلوا «اللّفظ»
الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلّا واحد، وهو وصفهم
له بأنه يزين المعنى، وأنّه حلي له لكان فيه الكفاية.
وذاك أن الألفاظ أدلّة على المعاني، وليس للدّليل إلّا أن
يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأمّا أن يصير الشيء بالدليل،
على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصوّر في وهم.
وممّا إذا تفكّر فيه العاقل أطال التعجّب من أمر النّاس، ومن
شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا «الأخذ» و «السرقة»: «إنّ من
أخذ معنى عاريا، فكساه لفظا من عنده كان أحقّ به» «1»، وهو
كلام مشهور متداول يقرأه الصّبيان في أوّل كتاب «عبد الرحمن»،
ثم لا ترى أحدا من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في
«اللّفظ»، يفكّر في ذلك فيقول: من أين يتصوّر أن يكون هاهنا
معنى عار من لفظ يدلّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد
منّا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق
اللسان؟
ثم هب أنه يصحّ له أن يفعل ذلك، فمن أين يجب إذا وضع لفظا على
معنى، أن يصير أحقّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا
يصنع بالمعنى شيئا، ولا يحدث فيه صفة، ولا يكسبه فضيلة؟ وإذا
كان كذلك، فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون «اللفظ» في
قولهم «فكساه لفظا من عنده» «2»، عبارة عن صورة يحدثها الشاعر
أو غير الشاعر للمعنى؟
فإن قالوا: بلى يكون، وهو أن يستعير للمعنى لفظا.
قيل: الشأن في أنّهم قالوا: «إذا أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من
عنده، كان أحق به»، و «الاستعارة» عندكم مقصورة على مجرّد
اللّفظ، ولا ترون المستعير يصنع
__________
(1) كلام في مقدمة «الألفاظ الكتابية» لعبد الرحمن بن عيسى
الهمذاني.
(2) الكلام لعبد الرحمن في كتابه «الألفاظ الكتابية».
(1/304)
بالمعنى شيئا، وترون أنه لا يحدث فيه مزية
على وجه من الوجوه. وإذا كان كذلك، فمن أين، ليت شعري، يكون
أحقّ به؟ فاعرفه.
ثم إن أردت مثالا في ذلك، فإنّ من أحسن شيء فيه، ما صنع أبو
تمام في بيت أبي نخيلة، وذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد
الملك: [من الطويل]
أمسلم، إنّي يا ابن كلّ خليفة، ... ويا جبل الدّنيا، ويا واحد
الأرض
شكرتك، إنّ الشّكر حبل من التّقى، ... وما كلّ من أوليته صالحا
يقضي
وأنبهت لي ذكري، وما كان خاملا، ... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من
بعض «1»
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال: [من الطويل]
لقد زدت أوضاحي امتدادا، ولم أكن ... بهيما، ولا أرضي من الأرض
مجهلا
ولكن أياد صادفتني جسامها ... أغرّ، فأوفت بي أغرّ محجّلا «2»
وفي «كتاب الشعر والشعراء» للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن.
قال:
ومن الأمثال القديمة قولهم: «حرّا أخاف على جاني كمأة لا قرّا»
«3»، يضرب مثلا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم
يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: [من الكامل]
وحذرت من أمر فمرّ بجانبي ... لم ينكني، ولقيت ما لم أحذر «4»
__________
(1) الأبيات في الأغاني (20/ 405) يمدح فيها مسلمة بن عبد
الملك، وجاء البيت الأول برواية أخرى لفظها:
أمسلم إني يا ابن كلّ خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
والبيت الأول في زهر الآداب (2/ 925)، وطبقات الشعراء (ص 64)،
ولسان العرب (نفض)، وبلا نسبة في الإنصاف. والثاني: في تاج
العروس (بعض)، والثالث: في لسان العرب (شكر) وجاء بلفظ:
ونوّهت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
(2) البيتان لأبي تمام في ديوانه (ص 237) من قصيدة يمدح فيها
محمد بن عبد الملك الزيّات، وجاء البيت الثاني بلفظ: «ألفت»
بدلا من «أوفت»، والأوضاح: جمع وضح وهو الغرّة في جبهة الفرس
والتحجيل. والمجهل: المفازة التي لا أعلام فيها ألفت: لقيت،
وقال الشيخ شاكر: «وأرضي» يعني دياره وديار قومه ليست بمجهل من
الأرض، يعني شهرتهم ومن ضبط «أرضى» فعلا مضارعا فقد أخطأ
المعنى.
(3) في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (1/ 373)، وفي مجمع
الأمثال (212/ 1).
(4) نكي العدوّ نكاية: أصاب منه، ونكيت في العدوّ نكاية إذا
قلت فيهم وجرحت وهزمت وغلبت.
اللسان (نكى). والبيت لسهم بن حنظلة في المؤتلف والمختلف
للآمدي (ص 135).
(1/305)
وقال لبيد: [من المنسرح]
أخشى على أربد الحتوف، ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد «1»
قال: وأخذه البحتريّ فأحسن وطغى اقتدارا على العبارة، واتّساعا
في المعنى، فقال: [من الكامل]
لو أنّني أوفي التّجارب حقّها ... فيما أرت، لرجوت ما أخشاه
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب «2» أيضا، أنشد
لإبراهيم بن المهديّ: [من السريع]
يا من لقلب صيغ من صخرة ... في جسد من لؤلؤ رطب
جرحت خدّيه بلحظي، فما ... برحت حتّى اقتصّ من قلبي «3»
ثم قال: قال عليّ بن هارون: أخذه أحمد بن أبي فنن معنى ولفظا
فقال:
أدميت باللّحظات وجنته ... فاقتصّ ناظره من القلب «4»
قال: ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه، قد صار أولى به.
ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرّد اللفظ،
ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى، وشيئا طريق معرفته على
الجملة العقل دون السمع، فإنّه على كل حال لم يقل في البحتري
أنه «أحسن فطغى اقتدارا على العبارة»، من أجل حروف.
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه (ص 39)، وفي الكامل (3/
229)، وفي الأغاني (17/ 59، 60، 67)، وهو من مجموعة أبيات
قالها يرثي أخاه أربد الذي قتل بسحابة ارتفعت فرمته بصاعقة
فأحرقته نتيجة دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم، ومما قاله لبيد
في رثاء أخيه قوله:
ما إن تعرى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد
فجعني الرعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النّجد
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
(تعرى المنون) للبناء للمفعول تترك وتهمل ويقال لكل شيء أهملته
وضليت سبيله قد عريته.
والنّجد: البطل ذو النجدة أو المنجد. والكبد: الشدّة والمشقة
هكذا فسر أبو عبيدة قوله تعالى:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، ومعنى البيت الذي
معنا: أن الشاعر يخشى المنون على أربد ولم يظن أن تصيبه صاعقة
ذت وتكون السبب الأول من أسباب موته.
(2) المراد به كتاب «الشعر والشعراء» «للمرزباني»، وتقدم
التعريف به.
(3) لإبراهيم بن المهدي أخو هارون الرشيد (المتوفى سنة 224 هـ)
الشذرات (2/ 53).
(4) لأحمد بن أبي فنن من شعراء الدولة العباسية. البيتان: تقدم
تخريجهما.
(1/306)
لو أنني أوفي التّجارب حقّها وكذلك لم يصف
ابن أبي فنن بنقاء العبارة، من أجل حروف.
أدميت باللّحظات وجنته واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين
زعموا أنه إذا كان المعبّر عنه واحدا، والعبارة اثنتين، ثم
كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن، فإنه ينبغي أن يكون
السبب في كونها أفصح وأحسن، اللّفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك
من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين، فلمّا رأوا أنّه إذا قيل
في «الكلمتين» إن معناهما واحد، لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن
للمعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى ظنّوا أن سبيل
الكلامين هذا السبيل. ولقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصوّر أن
تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثل صورة في
الآخر البتّة، اللهم إلّا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل
لفظة منه لفظة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن
يقول في بيت حطيئة: [من البسيط]
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطّاعم
الكاسي
ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنّك أنت الآكل اللّابس
«1»
وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد، وأن يدخل
في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين، بل لا يصح أن يجعل ذلك
عبارة ثانية، ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحلّ من يوصف بأنه أخذ
معنى. ذلك لأنه لا يكون ذلك صانعا شيئا يستحق أن يدعى من أجله
واضع كلام، ومستأنف عبارة وقائل شعر. ذاك لأنّ بيت حطيئة لم
يكن كلاما وشعرا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه،
مجرّدة معرّاة من معاني النظم والتأليف، بل منها متوخّى فيها
ما ترى من كون «المكارم» مفعولا «لدع»، وكون قوله «لا ترحل
لبغيتها» جملة أكدت الجملة قبلها، وكون «اقعد» معطوفا بالواو
على مجموع ما مضى، وكون جملة «أنت الطاعم الكاسي»، معطوفة
بالفاء على «اقعد»، فالذي يجيء فلا يغيّر شيئا من هذا الّذي به
كان كلاما وشعرا، لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية، بل
لا يكون قد قال من عند نفسه شيئا البتّة.
وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضّة أو الذهب خاتما أو سوارا
أو غيرهما من
__________
(1) سبق تخريجه.
(1/307)
أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما
من الصّورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال
وحروف، وكلاما وشعرا، من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته
توخّي معاني النحو وأحكامه.
فإذن ليس لمن يتصدّى لما ذكرنا، من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان
كل لفظة منها لفظة في معناها، إلا أن يستركّ عقله، ويستخفّ،
ويعدّ معدّ الذي حكي أنه قال: «إني قلت بيتا هو أشعر من بيت
حسّان، قال حسّان: [من الكامل]
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم، ... لا يسألون عن السّواد المقبل
«1»
وقلت:
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... أبدا ولا يسلون من ذا المقبل
فقيل: هو بيت حسّان، ولكنّك قد أفسدته.
واعلم أنه إنما أتي القوم من قلّة نظرهم في الكتب التي وضعها
العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد، وفي كلامهم في
أخذ الشاعر من الشاعر، وفي أن يقول الشاعران على الجملة في
معنى واحد، وفي الأشعار التي دوّنوها في هذا المعنى. ولو أنّهم
كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب، وتدبّروا ما فيها حقّ
التدبّر، لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم، وكشف الغطاء عن
أعينهم.
وقد أردت أن أكتب جملة من الشّعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد
قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين:
قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلا ساذجا، وترى
الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب.
وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر.
وأبدا بالقسم الأول الّذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلا،
وفي الآخر مصوّرا
__________
(1) البيت له في ديوانه (ص 140)، وفي التبيان للطيبي (ص 329)،
وخزانة الأدب (2/ 412)، والدرر (4/ 76)، وشرح أبيات سيبويه (1/
69)، وشرح شواهد المغني (1/ 378)، ومغني اللبيب (1/ 129)، وهمع
الهوامع (2/ 9)، وتاج العروس (جبن)، وبلا نسبة في شرح الأشموني
(3/ 562). يقول: قد أنست كلابهم بكثرة من يأتيهم، فلا تهر على
أحد أي: أن منازلهم لا تخلو من الطراق والعفاة، حتى تعودت
كلابهم أن ترى من يقصد منازلهم. لا يسألون عن السواد المقبل:
أي: أنهم في سعة لا يبالون من نزل بهم من الناس ولا يهمهم
الجمع الكثير، وهو السواد، إذا قصدوا إليهم.
(1/308)
مصنوعا، ويكون ذلك إمّا لأن متأخّرا قصّر
عن متقدم، وإمّا لأن هدي متأخّر لشيء لم يهتد إليه المتقدّم.
ومثال ذلك قول المتنبّي: [من السريع]
بئس اللّيالي سهدت من طربي ... شوقا إلى من يبيت يرقدها «1»
مع قول البحتري: [من الكامل]
ليل يصادفني ومرهفة الحشا ... ضدّين أسهره لها وتنامه «2»
وقول البحتري: [من البسيط]
ولو ملكت زماعا ظلّ يجذبني ... قودا لكان ندى كفّيك من عقلي
«3»
مع قول المتنبي: [من الطويل]
وقيّدت نفسي في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا
«4»
وقول المتنبي: [من الكامل]
إذا اعتلّ سيف الدّولة اعتلّت الأرض ... ومن فوقها والبأس
والكرم المحض «5»
__________
(1) البيت له في ديوانه (ص 50)، والتبيان (1/ 206)، وجاءت
الرواية بلفظ: «سهدت» بدلا من «سهرت»، وبئس للذّم. سهدت: سهرت.
أي: أنا أسهر الليالي أرقا متشوقا إلى الحبيب الذي ينام ملء
عينيه وهو غير مشوق لي. فهو يذم الليالي التي سهر فيها ولم ينم
لما أخذه من القلق وخفة الشّوق إلى من يحب.
(2) يمدح به ابن بسطام (الديوان 3/ 2037).
(3) الزّمع والزّماع: المضاء في الأمر والعزم عليه ويقال:
أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت عليه والزّماع هنا العزم على
الرحيل. والعقل: جمع عقال وهو الحبل الذي يشدّ به البعير.
(4) البيت في ديوانه (2/ 127)، والتبيان (1/ 202)، والبيت من
قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين
وأربعين وثلاث مائة (953 م) وأنشده إياها في ميدانه بحلب وهما
على فرسيها والقصيدة مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعوّدا ... وعادة سيف الدولة الطعن في
العدى
والذري الستر والكنف، والمعنى: يقول: أقمت عندك حبالك وبين سبب
الإقامة بالمصراع الأخير وأن إحسانه إليه هو الذي قيده وفيه
نظر إلى قول الطائي:
وتركي سرعة الصدر اغتباطا ... يدل على موافقة الورود
وكقوله:
هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة أن الوفاء إسار
(5) البيت له في ديوانه (2/ 114)، وفي شرح التبيان على ديوان
للعكبري (1/ 414)، وهو مطلع قصيدة قالها في سيف الدولة يعوده
من مرض، اعتل: مرض، ومن فوقها: البشر، والمحض:
الخالص، واليأس: الشدة والسّطوة. والمعنى: إذا اعتل سيف الدولة
اعتلت لعلته الأرض ومن
(1/309)
مع قول البحتري: [من الكامل]
ظللنا نعود الجود من وعكك الّذي ... وجدت وقلنا اعتلّ عضو من
المجد «1»
وقول المتنبي: [من الكامل]
يعطيك مبتدرا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرا كمن قد أجرما «2»
مع قول أبي تمام: [من الكامل]
أخو عزمات فعله فعل محسن ... إلينا ولكن عذره عذر مذنب «3»
وقول المتنبي: [من الطويل]
كريم متى استوهبت ما أنت راكب ... وقد لقحت حرب فإنّك نازل «4»
مع قول البحتريّ: [من البسيط]
ماض على عزمه في الجود لو وهب الشّ ... باب يوم لقاء البيض ما
ندما «5»
وقول المتنبي: [من الخفيف]
والّذي يشهد الوغى ساكن القل ... ب كأن القتال فيها ذمام «6»
__________
عليها من الناس والقوة والكرم الخالص لأنه قوام كل شيء فإذا
اعتلّ اعتلّ له كل شيء وهو منقول من قول لمسلم بن الوليد:
نالتك يا خير الخلائق علة ... يفديك من مكروهها الثقلان
فبكل قلب من شكاتك علة ... موصوفة الشكوى بكل لسان
(1) يمدح به إبراهيم بن المدبر (الديوان 2/ 234).
(2) البيت له في ديوانه (ص 57)، وفي التبيان (2/ 329)، وجاء
البيت بلفظ «مبتدئا» بدلا من «مبتدرا» والجرم: التعدّي،
مبتدرا: بادئا سابقا، والجرم: الذنب والجمع أجرام وقد جرم
وأجرم فهو مجرم وجريم. والمعنى: أنه يعطى من قبل أن تسأله فإن
أعجلته أعطاك معتذرا إليك كأنه قد أتى بذنب.
(3) البيت في الديوان (ص 31)، وجاء البيت في الديوان بلفظ:
«أزمات» بدلا من (عزمات).
والأزمات: الشدائد. والبيت من قصيدة قالها يمدح عياش بن لهيعة
الحضرميّ مطلعها:
تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي ... وليس حنيني إن عذلت بمصحبي
(4) البيت له في ديوانه (ص 130) من قصيدة قالها يمدح فيها سيف
الدولة بعد دخول رسول الروم عليه ومطلعها:
دروع لملك الروم هذي الرسائل ... يرد بها عن نفسه ويشاغل
ولحقت الحرب: نشبت، أي: لكرمك إذا سئلت فرسك في غمرة الحرب
وأنت بحاجة إليها فإنك تنزل عنها وتعطيها للسائل.
(5) في مدح رافع بن هزيمة (الديوان 2/ 84).
(6) البيت في ديوانه (2/ 9)، والتبيان (2/ 270)، والواو: عطف،
والوغى: الحرب وأصوات الحرب يقال بالعين والغين والحاء،
والذمام: العهد وساكن القلب: مطمئنه. والمعنى: يقول والذي يشهد
الحرب غير مضطرب الجأش كأن القتال عاهده أن لا يقتل فهو يسكن
إلى القتل سكونه إلى الذمام فهو يحضرها ثابت النفس غير حافل
بشدّتها.
(1/310)
مع قول البحتريّ: [من الطويل]
لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم ... على أنّ ذاك الزّيّ زيّ محارب
«1»
وقول أبي تمام: [من الكامل]
الصّبح مشهور بغير دلائل ... من غيره ابتغيت ولا أعلام «2»
مع قول المتنبي: [من الوافر]
وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل «3»
وقول أبي تمام: [من الوافر]
وفي شرف الحديث دليل صدق ... لمختبر على الشّرف القديم «4»
مع قول المتنبي: [من البسيط]
أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
«5»
__________
(1) الجأش: القلب. وفلان قويّ الجأش أي: القلب، ورجل رابط
الجأش أي: يربط نفسه عن الفرار يكفّها لجرأته وشجاعته.
(2) البيت من قصيدة له في ديوانه (ص 262) يهنئ الواثق بالخلافة
ويعزّيه بالمعتصم أبيه مطلعها:
ما للدموع تروم كلّ مرام ... والجفن ثاكل هجعة ومنام
والثاكل: الفاقد.
(3) البيت في ديوانه (2/ 95) من أبيات قالها يعارض بها بعض
الحاضرين في مجلس سيف الدولة ومنها:
أتيت بمنطق العرب الأصيل ... وكان بقدر ما عاينت قيلي
فعارضه كلام كان منه ... بمنزلة النساء من البعول
وهذا الدّرّ مأمون التشظّي ... وأنت السيف مأمون الفلول
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وجاءت الرواية بلفظ: «الأفهام» بدلا من «الأذهان».
(4) البيت في ديوانه (ص 271) من قصيدة له يمدح فيها بعض بني
عبد الكريم الطائيين مطلعها:
أرامة كنت مألف كلّ ريم ... لو استمتعت بالأنس القديم
ورامة: موضع بالبادية قد لهجت فيه الشعراء لطيب مكانه. والأنس:
الحيّ.
(5) البيت في ديوانه (1/ 216)، والتبيان (2/ 464) من قصيدة
يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب
الخصيبي وهو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية مطلعها:
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن ... يخلو من الهمّ أخلاهم من
الفطن
والمعنى يقول: هو معروف عند الناس بأفعاله الكريمة وقد عرف أنه
من ولد الخصيب فلو لم ينتسب مع أفعاله لعرفناه كما يستدل
بالغصن على الأصل، وهذا كقول حبيب:
فروع لا تزف إليك إلا ... شهدت لها على طيب الأروم
وكقول الآخر:
إذا جهلت من امرئ أعراقه ... وأصوله فانظر إلى ما يصنع
(1/311)
وقول البحتري: [من الكامل]
وأحبّ آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب «1»
مع قول المتنبي: [من الطويل]
وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب
«2»
وقول المتنبي: [من الطويل]
يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسّعد من لا ينجّم
«3»
مع قول البحتري: [من الكامل]
لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة ... حتّى يسلّمها إليه عداه «4»
وقول خالد الكاتب: [من المتقارب]
رقدت ولم ترث للسّاهر ... وليل المحبّ بلا آخر «5»
مع قول بشار: [من الطويل]
لخدّك من كفّيك في كلّ ليلة ... إلى أن ترى ضوء الصّباح وساد
تبيت تراعي اللّيل ترجو نفاده ... وليس لليل العاشقين نفاد «6»
__________
(1) البيت في التبيان (1/ 131)، وجاء البيت بلفظ «الفتى» بدلا
من «فتى».
(2) البيت في ديوانه (2/ 232)، من قصيدة له يمدح فيها سيف
الدولة في شوّال سنة سبع وأربعين وثلاث مائة (958 م) مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل
أعجب
أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب
والبيت في التبيان (1/ 131)، ويولي الجميل: يصنعه ويعطيه.
والمعنى: يريد أن الممدوح يوليه الجميل ويحبه فهو عنده طيب
يختاره على أهله قال ابن جني: كل من حصل في خدمتك علا قدره
ومثال البيت قول البحتري:
وأحب أوطان البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
(3) البيت في الديوان (2/ 54)، وفي التبيان (1/ 276)، ويقرّ:
يعترف. ومن لا يودّه: المقصود عدوّه، ويقال: رجل منجّم: هو
الذي ينظر في النجوم. والمعنى: يقول من لا يودّه يقرّ بفضله
ولا يدفعه لبيانه ومن لا ينجم يقضي له بالسعد ولا ينكره
لاتصاله فلظهوره ووضوحه لا ينكر فضله ولظهور آثار السعادة عليه
يحكم له بالسعادة من لا يعرف أحكام النجوم من السعادة والنحوسة
وهو مأخوذ من قول الآخر:
والفضل ما شهدت به الأعداء
(4) قاله البحتري في مدح صاعد بن مخلد (الديوان 1/ 191).
(5) أمالي القالي (1/ 100)، ومعه بيت آخر:
ولم تدر بعد ذهاب الرّقاد ... ما صنع الدّمع من ناظري
(6) (الديوان 3/ 127).
(1/312)
وقول أبي تمام: [من الوافر]
ثوى بالمشرقين لها ضجاج ... أطار قلوب أهل المغربين «1»
وقول البحتري: [من الطويل]
تناذر أهل الشّرق منه وقائعا ... أطاع لها العاصون في بلد
الغرب «2»
مع قول مسلم: [من البسيط]
لمّا نزلت على أدنى ديارهم ... ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد
«3»
وقول محمد بن بشير: [من البسيط]
افرغ لحاجتنا ما دمت مشغولا ... فلو فرغت لكنت الدّهر مبذولا
«4»
مع قول أبي علي البصير: [من الطويل]
فقل لسعيد أسعد الله جدّه ... لقد رثّ حتّى كاد ينصرم الحبل
فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتّصل
الشّغل «5»
وقول البحتري: [من الكامل]
من غادة منعت، وتمنع وصلها ... فلو انّها بذلت لنا لم تبذل «6»
مع قول ابن الرومي: [من مجزوء الكامل]
ومن البليّة أنّني ... علّقت ممنوعا منوعا «7»
وقول أبي تمام: [من الطويل]
__________
(1) البيت في ديوانه (ص 304) من قصيدة له يمدح إسحاق بن
إبراهيم ويذكر إيقاعه بالمعمرة وأصحاب بابك وكانوا تواعدوا إلى
موضع علم به فوقف لهم فيه فكل من جاء قتل وجزت أذنه حتى وجّه
إلى المعتصم بستين ألف أذن. والقصيدة مطلعها:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
والضجاج مثل الضّجيج: هو الفزع والصياح مصحوب بالاستغاثة.
(2) يقال: تناذر القوم: أنذر بعضهم بعضا وخوّف بعضهم بعضا.
الوقائع: جمع وقيعة: الحرب والقتال قيل: المعركة وقيل: الوقعة
والوقيعة: صدمة الحرب.
(3) من قصيدة في مدح داود بن يزيد المهلبي (الديوان 161).
(4) تقدم التعريف بقائله.
(5) انظر معجم الشعراء للمرزباني (314).
(6) الديوان يمدح محمد بن علي بن عيسى القمي الكاتب، وفي
الديوان وردت «وصلها» بدل «نيلها».
(7) (الديوان 4/ 1462).
(1/313)
لئن كان ذنبي أنّ أحسن مطلبي ... أساء ففي
سوء القضاء لي العذر «1»
مع قول البحتري: [من البسيط]
إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
«2»
وقول أبي تمام: [من البسيط] قد يقدم العير من ذعر على الأسد
«3» مع قول البحتري: [من الطويل]
فجاء مجيء العير قادته حيرة ... إلى أهرت الشّدقين تدمى أظافره
«4»
وقول معن بن أوس: [من الطويل]
إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر
تقبل «5»
مع قول العباس بن الأحنف: [من البسيط]
نقل الجبال الرّواسي من أماكنها ... أخفّ من ردّ قلب حين ينصرف
«6»
وقول أميّة بن أبي الصلت: [من الطويل]
عطاؤك زين لامرئ إن أصبته ... بخير وما كلّ العطاء يزين «7»
__________
(1) البيت في ديوانه (ص 483) من قصيدة له مطلعها:
تصدّت وحبل البين مستحصد شزر ... وقد سهّل التوديع ما أوعر
الهجر
(2) (الديوان 2/ 182) طبعة الجوائب يمدح علي بن مرّ الأرمني.
(3) عجز بيت له في ديوانه من بعض أبيات قالها في محمد بن يزيد
وصدره:
أطلت روعك حتى صرت لي غرضا
(4) العير: الحمار والجمع أعيار وعيار. والهرت: سعة الشّدق
والهريت: الواسع الشّدقين والمقصود الأسد. ودمي يدمى كرضي يرضى
من الرضوان: خرج منه دم. قال الشيخ محمد رشيد رضا: ولعلّ
المعنى هنا يصيب أظافره دم الفرائس.
(5) شرح الحماسة للمرزوقي (3/ 1131).
(6) (الديوان 211) طبعة صادر وروايته في الديوان:
نقل الجبال الرواسي عن مواضعها ... أخف من نقل نفس حين تنصرف
(7) البيت لأمية بن أبي الصلت قاله حينما أعطاه ابن جدعان
جارية فلام القوم أميّة على أخذها لأن ابن جدعان في حاجة إليها
لتخدمه فرجع بها أميّة إليه فأخبره ابن جدعان بما قاله القوم
وقال له فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أميّة البيتين هذا أولهما
وثانيهما قوله:
وليس بشين لامرئ يذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين
والبيت في الأغاني (8/ 342)، وهو في ديوانه (ص 63)، والاشتقاق
(144)، وديوان المعاني (1/ 46)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص
831).
(1/314)
مع قول أبي تمام: [من البسيط]
تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا
ما زلت منتظرا أعجوبة عنتا ... حتّى رأيت سؤالا يجتني شرفا «1»
وقول جرير: [من الطويل]
بعثن الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهنّ صديق «2»
مع قول أبي نواس: [من الطويل]
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق
«3»
وقول كثير: [من الطويل]
إذا ما أرادت خلّة أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل
«4»
مع قول أبي تمام: [من الكامل]
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل
«5»
وقول المتنبي: [من الطويل]
وعند من اليوم الوفاء لصاحب ... شبيب وأوفى من ترى أخوان «6»
__________
(1) البيتان لأبي تمّام في ديوانه (ص 190) قالهما يمدح فيهما
أبا دلف القاسم بن عيسى العجليّ مطلعها:
أمّا الرسوم فقد اذكرن ما سلفا ... فلا تكفّن عن شانيك أو يكفا
والوفر: الكثير. والعنن: الظاهرة معترضة يقال: عنّ الشيء: أي
اعتراض.
(2) البيت في ديوانه (ص 299)، من قصيدة يمدح فيها الحجاج
مطلعها:
بتّ أرائي صاحبيّ تجلّدا ... وقد علقتني من هواك علوق
وجاء البيت بلفظ: «دعون» بدلا من «بعثن».
(3) (الديوان 621).
(4) (الديوان 255).
(5) البيت في ديوانه (ص 463)، وهو في الإيضاح (205)، ونسبه ابن
جني في كتابه الخصائص للطائي الكبير (ص 117)، والبيت من بعض
أبيات منها:
البين جرّعني نقيح الحنظل ... والبين أثكلني وإن لم أثكل
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وضينه أبدا لأول منزل
والحنظل: نبت ثمره شديد المرارة.
(6) البيت في ديوانه (2/ 240). والمعنى لم يعد أحد من الناس
جديرا بأن تأمنه فإن أو فى الأصحاب مثل شبيب غادر وهو أخوه
بالغدر.
(1/315)
مع قول أبي تمام: [من الطويل]
فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها ... سجيّة نفس كلّ غانية هند
«1»
وقول البحتري: [من الطويل]
فلم أر في رنق الصّرى لي موردا ... فحاولت ورد النّيل عند
احتفاله «2»
مع قول المتنبي: [من الطويل]
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا
«3»
وقول المتنبي: [من المنسرح]
كأنّما يولد النّدى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم «4»
مع قول البحتري: [من الطويل]
عريقون في الإفضال يؤتنف النّدى ... لناشئهم من حيث يؤتنف
العمر «5»
__________
(1) البيت في ديوانه (ص 115) من قصيدة له يمدح محمد بن الهيثم
بن شبانة، مطلعها:
تجرّع أسى قد أقفر الجرع الفرد ... ودع حسي عين يحتلب ماءه
الوجد
والسّجيّة: الطبيعة والخلق.
(2) البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 514)، والرّنق: تراب في
الماء من القذى، وترنّق: كدر، وماء رنق: كدر، والصّرى والصّرى:
الماء الذي طال استنقاعه وجاء في نسخة الشيخ رشيد:
الصّرى: نهر.
(3) البيت في ديوانه (ص 204)، وفي شرح التبيان للعكبري على
ديوان المتنبي (2/ 514)، وهو من قصيدة قالها يمدح كافورا وذلك
بعد أن استقبله فأخلى له دارا وخلع عليه وحمل إليه آلافا من
الدراهم فقال يمدحه وأنشده إيّاها في جمادى الآخرة سنة ست
وأربعين وثلاث مائة (957 م)، ومطلعها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وقواصد: حال من الجرد، ويعني بالبحر كافورا وبالسواقي: غيره من
الملوك وهي جمع ساقية وهي النهر الصغير. والمعنى: يريد أن
الجرد وهي التي تحتنا (يقصد الخيل قليلة الشعر) قاصدة هذا
البحر وتركت السواقي وطالب البحر بغير خلاف يرى غيره لأن
السواقي تستمد من البحر ويقال:
أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت قال له الويل جعلني ساقية
وجعل الأسود بحرا وإن كان المتنبي قصد هذا فلقد أبان عن نقض
عهد وقلة مروءة لأنه مدح خلقا فلم يعطه أحد ما أعطاه علي بن
حمدان ولا كان فيهم من له شرفه وفضله لأنه عربي من سادات تغلب
عالم بالشعر ولم يمدح مثله من الشرف والحسب إلا محمد بن عبد
الله الكوفي الحسني.
(4) البيت له في ديوانه (1/ 139)، وفي شرح التبيان (ص 354)،
والندى: الكرم، عاذر فاعل عذر، والهرم: الكبر والعجز عن
التصرّف. والمعنى: يقول كرمهم موجود معهم فهم أجواد في أوائل
أعمارهم وأواخرهم وهو منقول من قول البحتري:
عريقون في الأفضال يؤتنف الندى ... لناشئهم من حيث يؤتنف العمر
(5) البيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (2/ 354).
(1/316)
وقول البحتري: [من الطويل]
فلا تغلين بالسّيف كلّ غلائه ... ليمضي فإنّ الكفّ لا السّيف
تقطع «1»
مع قول المتنبي: [من الطويل]
إذا الهند سوّت بين سيفي كريهة ... فسيفك في كفّ تزيل
التّساويا «2»
وقول البحتري: [من الكامل]
ساموك من حسد فأفضل منهم ... غير الجواد وجاد غير المفضل
فبذلت فينا ما بذلت سماحة ... وتكرّما وبذلت ما لم تبذل «3»
مع قول أبي تمام: [من الطويل]
أرى النّاس منهاج النّدى بعد ما عفت ... مهايعه المثلى ومحّت
لواحبه
ففي كلّ نجد في البلاد وغائر ... مواهب ليست منه وهي مواهبه
«4»
وقول المتنبي: [من البسيط]
بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها ... وعزّ ذلك مطلوبا إذا طلبا «5»
مع قول البحتري: [من الكامل]
__________
(1) (الديوان 1/ 197) والرواية فيه «يقطع» بدلا من «تقطع».
(2) البيت في الديوان (2/ 206)، وفي التبيان على شرح ديوان
المتنبي للعكبري (2/ 519)، والكريهة: الشدّة في الحرب،
والمعنى: قال أبو الفتح: إذا طبعت الهند سيفين فجعلتهما سواء
في الحدّة والمضاء فالسّيف الذي يصاحبك يكون أمضى لأنك تزيل
مساواتهما بشدّة الضرب وكذا قال الواحدي وقال الخطيب: هذا
المعنى ثم قال ويحتمل معنى آخر وهو أن الهند سوّت بين السيفين
فإذا ضربت بالسيف علم أن فضيلته في المضاء أعظم من فضيلة السيف
المضروب به.
(3) أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه «فعل مشاركة من السموّ»
في العطاء فبذلوا ولا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة
الصادر منه مباشرة وبذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه
(رشيد).
(4) البيتان في الديوان (ص 49) من قصيدة قالها يمدح أبا العباس
عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مطلعها:
هنّ عوادي يوسف وصواحبه ... فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه
وعفت: أي درست. والمهايع: الطرق الواسعة البينة واللواحب:
الجمع لاحب وهو الطريق الواضح.
(5) البيت في الديوان (1/ 141) يمدح المغيث بن علي بن بشر
العجلي، وشرح التبيان للعكبري (1/ 83). والحلة: الثوب، مطلوبا:
تمييز والمعنى: يقول: من لين حديثها ورقتها وجمالها تطمع
العاشق بنفسها فإذا طلب عزّ ذلك الطلب فهو صعب المنال لعفافها
وصيانتها.
(1/317)
تبدو بعطفة مطمع حتّى إذا ... شغل الخليّ
ثنت بصدفة مؤيس «1»
وقول المتنبي: [من الكامل]
إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجما «2»
مع قول أبي تمام: [من الخفيف]
وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي «3»
وقول أبي تمام: [من الكامل]
فنعمت من شمس إذا حجبت بدت ... من خدرها فكأنّها لم تحجب «4»
مع قول قيس بن الخطيم: [من المنسرح]
قضى لها الله حين صوّرها ال ... خالق أن لا يكنّها سدف «5»
وقول المتنبي: [من الخفيف]
راميات بأسهم ريشها الهد ... ب تشقّ القلوب قبل الجلود «6»
مع قول كثير: [من الطويل]
رمتني ريشه الكحل لم يجز ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح «7»
__________
(1) الصّدوف: الميل عن الشيء، صدف عنه يصدف صدفا وصدوفا: عدل.
(2) البيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 332)، والمعنى: يقول
مثلك إذا لم أذكره حاجتي فهو تذكار له لأنه يعلم ما يريد فلا
يحتاج إلى من يترجم له عمّا في مرادي فترك أذكاره أذكار.
(3) البيت في الديوان (ص 176)، وجاء في شرح التبيان للعكبري
(2/ 332)، والبيت من قصيدة قالها يمدح أحمد بن أبي دؤاد
ومطلعها:
بدّلت عبرة من الإيماض ... يوم شدّوا الرحال بالأغراض
والإيماض: مسارقة النظر. والأغراض: أداة الرحل.
(4) (الديوان 1/ 101) يمدح طوق بن مالك بن طوق «من خدرها» وردت
في الديوان «من نورها».
(5) البيت في الأغاني (3/ 24)، من أبيات قالها قيس بعد حرب
قامت بين مالك بن العجلان وبني عمرو بن عوف. ومن هذه الأبيات:
ردّ الخليط الجمال فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنهم وقفوا
لو وقفوا ساعة نسائلهم ... ريث يضحّي جماله السّلف
والسدف: الظلمة يقال أسدف الليل إذا أرخى ظلمته.
(6) البيت في الديوان (1/ 62)، وراميات: نعت بدورا. الأسهم:
يعني بها النظرات والعيون، الهدب:
الرمش، شبهها بريش السهم في مؤخرته، وهذه الأسهم تختلف عن
غيرها بأنها تشق القلوب دون أن تخترق الجلود والصدور.
(7) الديوان: (188).
(1/318)
وقول بعض شعراء الجاهلية، ويعزى إلى لبيد:
[من الكامل]
ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السّلامة داء «1»
مع قول أبي العتاهية: [من الرجز]
أسرع في نقص امرئ تمامه ... تدبر في إقبالها أيّامه «2»
وقوله: [من مجزوء الكامل]
أقلل زيارتك الحبي ... ب تكون كالثّوب استجدّه
إنّ الصديق يملّه ... أن لا يزال يراك عنده «3»
مع قول أبي تمام: [من الطويل]
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد
«4»
وقول الخريميّ: [من الرمل]
زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك محقور صغير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند النّاس مشهور كبير «5»
مع قول المتنبي: [من المنسرح]
تظنّ من فقدك اعتدادهم ... أنّهم أنعموا وما علموا «6»
__________
(1) البيت للنمر بن تولب في ملحق ديوانه (ص 400) وللبيد بن
ربيعة في نهاية الأرب (3/ 70)، ولعمرو بن قميئة في ملحق ديوانه
(ص 204)، وزهر الآداب (1/ 223)، ولبعض شعراء الجاهلية في
الكامل (1/ 284)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص 75)، وكتاب
الصناعتين (ص 39) ط 1 دار الكتب العلمية. ويسبقه بيت يقول فيه:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء
(2) (الديوان: 23 مع اختلاف في روايته).
(3) لم أقف عليهما في ديوان أبي العتاهية.
(4) البيت في الديوان (ص 98)، من قصيدة له مطلعها:
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد ... وعاد قتادا عندها كلّ مرقد
والقتاد: شجر ذو شوك كالإبر. وهذه القصيدة يمدح فيها أبا سعيد
محمد بن يوسف الطائي.
والديباجة من الديباج: ضرب من الثياب والجمع دبابيج وديابيج.
(5) البيتان في الشعر والشعراء لابن قتيبة (33) وشرح ديوان
المتنبي للواحدي (152)، مع اختلاف الرواية. الخريميّ هو: «أبو
يعقوب: إسحاق بن حسان بن قوهي الأعور».
(6) البيت في الديوان (1/ 139)، والمعنى: أي عند ما تراهم لا
يعتدّون بما يفعلون من جميل تعتقد أنهم لم يعلموا بصنيعهم
للمعروف.
(1/319)
وقول البحتري: [من الوافر]
ألم تر للنّوائب كيف تسمو ... إلى أهل النّوافل والفضول «1»
مع قول المتنبي: [من البسيط]
أفاضل النّاس أغراض لذا الزّمن ... يخلو من الهمّ أخلاهم من
الفطن «2»
وقول المتنبي: [من الطويل]
تذلّل لها واخضع على القرب والنّوى ... فما عاشق من لا يذلّ
ويخضع «3»
مع قول بعض المحدثين: [من مجزوء الكامل]
كن إذا أحببت عبدا ... للّذي تهوى مطيعا
لن تنال الوصل حتّى ... تلزم النّفس الخضوعا «4»
وقول مضرّس بن ربعيّ: [من الطويل]
__________
(1) (الديوان 1/ 31) يمدح الفتح بن خاقان.
(2) البيت في الديوان (1/ 213)، وفي شرح التبيان للعكبري (2/
459)، والبيت من قصيدة يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد
الله بن محمد الخطيب الخصيبي وهو يومئذ يتقلّد القضاء
بأنطاكية. وهذا البيت هو مطلع هذه القصيدة. والأغراض: الأهداف
والمفرد غرض، والفطن:
جمع فطنة وهي العقل والذكاء. والمعنى: يقول: الفضلاء من الناس
أهداف للزمان يرميهم بنوائبه وصروفه ويقصدهم بالمحن فلا يزالون
محزونين، وإنما يخلو من الحزن والفكر من كان خاليا من الفطنة
والبصيرة وهذا من أحسن الكلام وهو من كلام الحكيم، قال الحكيم:
على قدر الهم تكون الهموم وذلك أن العاقل يفكّر في عواقب
الأمور فلا يزال مهموما وأمّا الجاهل فلا يفكر في شيء من هذا
وقد أكثر الشعراء فيه، قال ذو الأصبع:
أطاف بنا ريب الزمان فداسنا ... له طائف بالصالحين بصير
وقال البحتري:
ألم تر للنوائب كيف تسمو ... إلى أهل النوافل والفضول
(3) البيت في الديوان (1/ 74)، وفي شرح التبيان للعكبري على
ديوان المتنبي (1/ 429).
والنوى: البعد. والمعنى: الزم الطاعة والانقياد في القرب
والبعد وارض وسلم لفعلها فهذا من علامة الحب وقد أكثرت الشعراء
من هذا المعنى فمنه قول أبي نواس:
سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن
وقوله:
كن إذا أحببت عبدا ... للذي تهوى مطيعا
لن تنال الوصل حتى ... تلزم النفس الخضوعا
(4) البيتان أوردهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي. وفي
التبيان (1/ 429)، ونسبهما إلى أبي نواس.
(1/320)
لعمرك إنّي بالخليل الّذي له ... عليّ دلال
واجب لمفجّع
وإنّي بالمولى الّذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتّع
«1»
مع قول المتنبي: [من الطويل]
أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب
«2»
وقول المتنبي: [من البسيط]
مظلومة القدّ في تشبيهه غصنا ... مظلومة الرّيق في تشبيهه ضربا
«3»
مع قوله: [من الطويل]
إذا نحن شبّهناك بالبدر طالعا ... بخسناك حظّا أنت أبهى وأجمل
ونظلم إن قسناك باللّيث في الوغى ... لأنّك أحمى للحريم وأبسل
«4»
[القسم الثاني في البيتين صنعة وتصويرا]
ذكر ما أنت ترى فيه في كلّ واحد من البيتين صنعة وتصويرا
وأستاذيّة على الجملة فمن ذلك، وهو من النادر، قول لبيد: [من
الرمل]
__________
(1) ذكرهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي ونسبهما إلى
المضرّس وقال الشيخ شاكر: هكذا نسب الشعر لمضرّس بن ربعي وهو
خطأ وسهو فيما أرجح إنما هو للبراء بن ربعي الفقعسيّ، يرثي
أخاه سكيما، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 167، 168)، وفي
مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (43) اه.
(2) البيت في الديوان (2/ 229)، وفي شرح التبيان على ديوان
المتنبي (1/ 126)، وهو من قصيدة قالها يمدح فيها كافورا وكان
قد حمل إليه ستمائة دينار، ومطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل
أعجب
أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب
وتنائي: تبعد، والنأى: البعد ونأى ينأى: بعد، والنأي: المفارقة
وأنأيت الرجل: أبعدته، المعنى:
يقول هذه الأيّام مولعة بتقريب من أبغض وإبعاد من أحب، فما
تغلط مرّة بتقريب الحبيب وإبعاد البغيض، وذلك كما قيل في بخيل:
يا عجبا من خالد كيف لا ... يغلط فينا مرّة بالصواب
(3) البيت في الديوان (1/ 141)، وفي التبيان للعكبري في شرح
ديوان المتنبي (1/ 81)، وهو من قصيدة يمدح فيها المغيث بن عليّ
بن بشر العجلي. والقدّ: القامة. والضّرب بفتح الراء: العسل
الأبيض الغليظ. والمعنى: يريد أن من شبّهها بالغصن ظلمها ومن
شبّه ريقها بالعسل ظلمها لأنها ذات قوام أعدل وأحسن من الغصن
وذات رضاب أحلى من العسل الخالص.
(4) لعلي بن الجهم يمدح المتوكل، الديوان (165/ 166). ورواية
الديوان «للذمار» بدلا من «للحريم».
(1/321)
واكذب النّفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق
النّفس يزري بالأمل «1»
مع قول نافع بن لقيط:
وإذا صدقت النّفس لم تترك لها ... أملا ويأمل ما اشتهى المكذوب
«2»
وقول رجل من الخوارج أتي به الحجّاج في جماعة من أصحاب قطريّ
فقتلهم، ومنّ عليه ليد كانت عنده، وعاد إلى قطريّ، فقال له
قطريّ: عاود قتال عدوّ الله الحجّاج. فأبى وقال: [من الكامل]
أأقاتل الحجّاج عن سلطانه ... بيد تقرّ بأنّها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصّف واحتجّت له فعلاته
وتحدّث الأقوام أنّ صنائعا ... غرست لديّ فحنظلت نخلاته «3»
مع قول أبي تمام: [من الطويل]
أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذن لهجاني عنه معروفه عندي
«4»
وقول النابغة: [من الطويل]
إذا ما غدا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ... إذا ما التقى الصّفّان أوّل غالب
«5»
__________
(1) البيت في الديوان (ص 145)، وفي لسان العرب (كذب)، (خزا)،
وجمهرة اللغة (ص 596)، وتاج العروس (كذب)، (خزا)، وجمهرة
الأمثال (1/ 51)، وخزانة الأدب (5/ 112)، وفصل المقال (ص 173)،
وكتاب الأمثال (ص 116)، وكتاب الأمثال لمجهول (ص 22)،
والمستقصى (1/ 289)، ومجمع الأمثال (2/ 139).
(2) جاءت قصيدة طويلة له في لسان العرب (مرط) لكن البيت غير
موجود بها. والقصيدة مطلعها كما وردت في اللسان:
بانت لطيّتها الغداة جنوب ... وطربت إنك ما علمت طروب
ولقد تجاورنا فتهجر بيتنا ... حتى تفارق أو يقال مريب
(3) الحنظل: الشجر المرّ، وحنظلت الشجرة: صار ثمرها مرّا، قال
الشيخ شاكر: «الأبيات لعامر بن حطّان الخارجي وهو أخو عمران بن
حطّان».
(4) البيت في الديوان (ص 122) من قصيدة يمدح فيها موسى بن
إبراهيم الرافعي ويعتذر إليه، مطلعها:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد
وأقوت: خلت من السكان، والمغاني: المنازل جمع مغنى. محّ الثوب:
بلي. والوشائع: جمع وشيعة وهي الغزل الملفوف. والبرد: الثوب
المخطّط. وجاء البيت في الديوان بلفظ «أألبس» بدلا من «أسربل».
(5) البيتان في الديوان (ص 30)، وجاء البيت الأول بلفظ: «غزوا»
بدلا من «غدا» وجاء الثاني بلفظ «الجمعان» بدلا من «الصفان»،
والبيتان غير متتاليين في الديوان. وهما في الأغاني
(1/322)
مع قول أبي نواس: [من الرمل المجزوء]
وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت في صوره
راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره
تتأيّى الطّير غدوته ... ثقة بالشّبع من جزره «1»
المقصود البيت الأخير.
وحكى المرزباني قال: «حدثني عمرو الورّاق قال: رأيت أبا نواس
ينشد قصيدته التي أولها: [من الرمل المجزوء] أيّها المنتاب عن
عفره «2» فحسدته، فلما بلغ إلى قوله:
تتأيّى الطّير غدوته ... ثقة بالشّبع من جزره «3»
قلت له: ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول: «إذا ما غدا بالجيش»،
البيتين، فقال: اسكت، فلئن كان سبق فما أسأت الأتباع».
وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيّن في أن المعنى ينقل من صورة
إلى صورة.
__________
(25/ 120)، والأول منهما في خزانة الأدب (4/ 289)، والشعر
والشعراء (ص 175)، ولسان العرب (عصب)، (حلق)، وبلا نسبة في شرح
التصريح (2/ 227)، وشرح المفصّل (1/ 68).
والثاني: في أساس البلاغة (جنح)، ومقاييس اللغة (3/ 99). وفي
الأول: عصائب: الجماعة من الطير. أي: أن الجوارح من الطيور
تحلّق فوق القتلى لتنال منهم. وفي الثاني: جوانح: أي:
مائلات. وهذه القصيدة مطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
قالها يمدح فيها عمرو بن الحارث الأصفر بن الحارث الأعرج حين
لجأ إليه في الشام.
(1) الأبيات في الديوان (ص 66)، والأغاني (25/ 118) من قصيدة
له مطلعها:
أيها المنتاب من عفره ... لست من ليلى ولا سمره
يمدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور. والمفاضة:
الدرع الواسعة. والشبا: اسم جمع لشباة وهي إبرة العقرب شبه بها
ظفره والمراد قوته. والبيت الأخير من قولهم: تركوهم جزرا
للسباع: أي: قطعا من جزر الشيء يجزره جزرا: قطعه، وجزر الناقة:
نحرها وقطّعها، وفي هذا قال عنترة في ابني ضمضم:
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم
وتأيى الشخص: قصد شخصه وتعمّده، والتأيّي: التنظّر والتّؤدة
وتأيّيت عليه: تثبّت وتمكثت.
(2) مطلع قصيدة لأبي نواس وعجز البيت:
لست من ليلى ولا سحره
(3) سبق تخريجه.
(1/323)
ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى
شيئا، لكان قوله: «فما أسأت الاتّباع» محالا، لأنه على كل حال
لم يتّبعه في اللفظ. ثم إنّ الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل
المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى.
وذلك أنّ هاهنا معنيين:
أحدهما: أصل، وهو: علم الطّير بأن الممدوح إذا غزا عدوّا كان
الظفر له، وكان هو الغالب.
والآخر فرع، وهو: طمع الطير في أن تتّسع عليها المطاعم من لحوم
القتلى.
وقد عمد النابغة إلى «الأصل»، الذي هو علم الطير بأن الممدوح
يكون الغالب، فذكره صريحا، وكشف عن وجهه، واعتمد في «الفرع»
الذي هو طمعها في لحوم القتلى، وأنها لذلك تحلّق فوقه على
دلالة الفحوى.
وعكس أبو نواس القصّة، فذكر «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم
القتلى صريحا، فقال كما ترى:
ثقة بالشّبع من جزره «1» وعوّل في «الأصل»، الذي هو علمها بأن
الظفر يكون للممدوح، على الفحوى.
ودلالة الفحوى على علمها أنّ الظفر يكون للممدوح، هي في أن
قال: «من جزره»، وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح،
حتى تعلم أنّ الظفر يكون له.
أفيكون شيء أظهر من هذا في النّقل عن صورة إلى صورة؟
أرجع إلى النّسق- ومن ذلك قول أبي العتاهية: [من الخفيف]
شيم فتّحت من المدح ما قد ... كان مستغلقا على المدّاح «2»
مع قول أبي تمام: [من الكامل]
نظمت له خرز المديح مواهب ... ينفثن في عقد اللّسان المفحم «3»
__________
(1) عجز بيت لأبي نوّاس صدره:
يتأيى الطير غدوته والبيت سبق تخريجه.
(2) الديوان (515).
(3) البيت في ديوانه (ص 295) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين
محمد بن الهيثم بن شبانة مطلعها:
نثرت فريد مدامع لم تنظم ... والدمع يحمل بعض شجو المغرم
والنفث: البصاق اليسير. والمفحم: العييّ عن قول الشعر. وجاء
البيت في نسخة «المقحم» بالقاف ومعناها: الضعيف.
(1/324)
وقول أبي وجزة: [من الوافر]
أتاك المجد من هنّا وهنّا ... وكنت له بمجتمع السّيول «1»
مع قول منصور النّمري: [من البسيط]
إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع «2»
وقول بشار: [من البسيط]
الشّيب كره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود
«3»
مع قول البحتري: [من الوافر]
تعيب الغانيات عليّ شيبي ... ومن لي أن أمتّع بالمعيب «4»
وقول أبي تمام: [من الوافر]
يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس «5»
مع قول ابن الرومي: [من الطويل]
إمام يظلّ الأمس يعمل نحوه ... تلفّت ملهوف ويشتاقه الغد «6»
__________
(1) البيت أبي وجزة السعدي يزيد بن عبيد في ديوان المعاني
للعسكري (1/ 59).
(2) البيت في الأغاني (13/ 163) من قصيدة أنشدها سلما بن عمرو
بن حمّاد وهو شاعر خليع ماجن وسمّي الخاسر لأنه باع مصحفا
واشترى بثمنه دفترا فيه شعر. والبيت له في تاريخ بغداد (13/
69) منها:
أي امرئ بات من هارون في سخط ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت امرأ فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمة ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع
(3) البيت في تاريخ بغداد (13/ 98)، وجاء برواية أخرى لفظها:
أكره شيبي وأخشى أن يزايلني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود
وهو لمسلم بن الوليد ويليه بيتان هما:
نام العواذل واستكفين لائمتي ... وقد كفاهن نهض البيض في
السّود
أمّا الشباب فمفقود له خلف ... والشيب يذهب مفقودا بمفقود
(4) (الديوان 1/ 250) يمدح هيثم بن هارون بن المعمر.
(5) البيت في الديوان (ص 159)، وجاء البيت بلفظ «جماله» بدلا
من «كماله» من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب مطلعها:
هل أثر من ديارهم دعس ... حيث تلاقى الأجراع والوعس
والدعس: الواضح من الآثار. والأجرع: جمع جرع وهو كثير الرمل
والوعس.
(6) (الديوان 2/ 660).
(1/325)
لا تنظر إلى أنه قال: «يشتاقه الغد»، فأعاد
لفظ أبي تمام، ولكن انظر إلى قوله:
يعمل نحوه تلفّت ملهوف وقول أبي تمام: [من الطويل]
لئن ذمّت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدّي شكرها الذّئب
والنّسر «1»
مع قول المتنبي: [من المتقارب]
وأنبتّ منهم ربيع السّباع ... فأثنت بإحسانك الشّامل «2»
وقول أبي تمام: [من البسيط]
وربّ نائي المغاني روحه أبدا ... لصيق روحي ودان ليس بالدّاني
«3»
مع قول المتنبي: [من الوافر]
لنا ولأهله أبدا قلوب ... تلاقى في جسوم ما تلاقى «4»
__________
(1) البيت في الديوان (ص 484) وبعده:
بها عرفت أقدارها بعد جهلها ... بأقدارها قيس بن عيلان والفزر
والفزر: سعد بن مناة بن تميم. وقيس عيلان: قبيلة عربية مشهورة.
والبيت من قصيدة مطلعها:
تصدّت وحبل البين مستحصد شزر ... وقد سهّل التوديع ما أوعر
الهجر
وتصدّت: تعرضت. والمستحصد: المفتول فتلا محكما. والشزر: الشديد
الفتل.
وقول البحتري: [من الطويل]
ومن ذا يلوم البحر إن بات زاخرا ... يفيض وصوب المزن إن راح
يهطل «1»
مع قول المتنبي: [من البسيط]
وما ثناك كلام النّاس عن كرم ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل
«2»
وقول الكندي: [من الكامل]
عزّوا وعزّ بعزّهم من جاوروا ... فهم الذّرى وجماجم الهامات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات
«3»
مع قول المتنبي: [من الطويل]
تفيت اللّيالي كلّ شيء أخذته ... وهنّ لما يأخذن منك غوارم «4»
__________
أبعد نأي المليحة البخل ... في البعد ما لد تكلّف الإبل
والبيت في التبيان شرح العكبري على ديوان المتنبي (2/ 175).
والمعنى قال أبو الفتح: بخلوا عند أنفسهم لأنهم لم يفعلوا
الواجب عليهم عندهم ويجوز أن يكون بخلوا نسبهم الناس إلى البخل
لاقتصارهم على ما دون أعمارهم أي: من عادتهم بذل أعمارهم
والأول أقوى اه.
(1) (الديوان 2/ 125) يمدح محمد بن عبد الله الطاهر.
(2) البيت في الديوان 2/ 91) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة
مطلعها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طل ... دعا فلبّاه قبل الركب والإبل
والبيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان أبي الطيب المتنبي
(2/ 82)، وثناه: ردّه وصرفه وثنيته عن حاجته: صرفته عنها
والعارض: السحاب، وفي الآية: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا
والهطل والهطلان: المطر المتفرق العظيم القطر، وفي التهذيب
الهطلان: تتابع القطر المتفرّق، والهطل: تتابع المطر والدمع
وسيلانه. اللسان (هطل). والمعنى: يقول: لا يصرفك كلام الناس في
إفساد ما بيننا كما لا يقدرون أن يصرفوك عن الكرم ومن يقدر على
هذا إلا كمن يقدر أن يرد صوب السحاب الممطر فالذي يصرفك عن
جودك كالذي يرد السحاب لأن جودك أغزر من فيض السّحاب.
(3) ربما للفيلسوف يعقوب بن إسحاق، والوتر: الظلم.
(4) البيت في الديوان (2/ 139) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة
ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاث مائة (954 م)
ومنها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام
المكارم
هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أيّ الساقيين الغمائم
والبيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 296) وتفيت: أي تجبره على
ترك، وفاعله للمخاطب وهو من الفوت. والغوارم: جمع غارمة.
والمعنى: قال الواحدي: الليالي إذا أخذت شيئا ذهبت به فإن أخذت
منك غرمت لأنك تلزمها الغرامة قال: ويجوز أن يكون تفيت مخاطبة
على رواية من روى أخذته بالتاء يقول: إذا سلبت الليالي شيئا
أفتّه عليها فلم تقدر على استرداده منك وهي إذا أخذت منك شيئا
عزمت يعني: أنت أقوى من الدهر فإنه لا يقدر على مخالفتك وهذا
من قول الآخر:
فما أدرك الساعون فينا بوترهم ... ولا فاتنا من سائر الفاس
واتر
(1/326)
وقول أبي تمام: [من الكامل]
إذا سيفه أضحى على الهام حاكما ... غدا العفو منه وهو في
السّيف حاكم «1»
مع قول المتنبي: [من الكامل]
له من كريم الطّبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصّفح
غامد «2»
فانظر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه، فإنك ترى عيانا أنّ
للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك، صورة وصفة غير
صورته وصفته في البيت الآخر وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا:
«إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك»، أنّ الذي يعقل من هذا لا
يخالف الذي يعقل من ذاك وأنّ المعنى عائد عليك في البيت الثاني
على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأوّل وأن لا فرق
ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه وأنّ حكم البيتين مثلا حكم
الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد، كالليث والأسد ولكن قالوا
ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشّيئين يجمعهما جنس واحد،
ثم يفترقان بخواصّ ومزايا وصفات، كالخاتم والخاتم، والشّنف
والشّنف، والسّوار والسّوار، وسائر أصناف الحلي التي يجمعها
جنس واحد، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل.
ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجيّ وبيت أبي تمام، فلا يعلم
أنّ صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا؟ كيف، والخارجيّ
يقول:
«واحتجّت له فعلاته» «3»
__________
(1) البيت في الديوان (ص 270) من قصيدة يمدح فيها أحمد بن أبي
دؤاد مطلعها:
ألم يأن أن تروى الظماء الحوائم ... وأن ينظم الشمل المبرّد
ناظم
لئن أرقأ الدمع اليعور وقد جرى ... لقد رويت منه خدود نواعم
(2) البيت في ديوانه (2/ 70) من قصيدة له مطلعها:
عواذل ذات الخال فيّ حواسد ... وإن ضجيع الخود منّي لماجد
والبيت في شرح التبيان على ديوان المتنبي للعكبري (1/ 188)
وانتضيت السيف: سللته وجردته، ونضا سيفه أيضا ونضوت البلاد:
قطعتها. قال تأبط شراّ:
ولكنني أروي من الخمر هامتي ... وأنضو الفلا بالشاحب المتشلشل
وغامد من غمد السيف. والمعنى: يقول كرم طبعه ينضيه ويغمده ما
تعوّد من العفو والإحسان فليس كسيوف الحديد التي تنتضى وتغمد.
(3) بعض بيت قاله رجل من الخوارج لفظه:
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجّت له فعلاته
وهو من مجموعة أبيات قالها لقطريّ بن الفجاءة حينما أمره أن
يقاتل الحجاج فأبى وأنشد الأبيات، وقال الشيخ شاكر: الأبيات
لعامر بن حطّان الخارجيّ وهو أخو عمران بن حطّان.
(1/329)
ويقول أبو تمام:
«إذن لهجاني عنه معروفه عندي» «1» ومتى كان «احتجّ» و «هجا»
واحدا في المعنى؟
وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه، فليس يتصوّر في نفس عاقل أن
يكون قول البحتري: [من الكامل]
وأحبّ آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب «2»
وقول المتنبي:
وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب «3» - سواء واعلم أن قولنا
«الصّورة»، إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي
نراه بأبصارنا، فلمّا رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من
جهة الصّورة، فكان تبيّن إنسان من إنسان وفرس من فرس، بخصوصيّة
تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في
المصنوعات، فكان تبيّن خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك، ثم
وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في
عقولنا وفرقا، عبّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا:
«للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك». وليس العبارة عن ذلك
بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في
كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: «وإنما الشعر صياغة وضرب من
التّصوير».
__________
(1) عجز بيت له في ديوانه (ص 122) وصدره:
أسربل هجر القول من لو هجوته ويروى «أألبس» بدلا من «أسربل»
وهو من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافقي ويعتذر إليه
مطلعها:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد
(2) ذكره العكبري في التبيان وهو يشرح ديوان المتنبي (1/ 131)،
في البيت الذي يقول:
وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب ... وكل مكان ينبت العزّ طيّب
وجاء البيت بلفظ «فتى» بدلا من «الفتى».
(3) عجز بيت في الديوان (2/ 232) وصدره:
وكل امرئ يولي الجميل محبّب وهو من قصيدة له يمدح فيها سيف
الدولة مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل
أعجب
والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 131)، ويولي الجميل يصنعه
ويعطيه، والمعنى: يريد أن الممدوح يوليه الجميل ويحبه فهو عنده
طيب يختاره على أهله.
(1/330)
واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين
يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر، وكان التّالي من
الشاعرين يجيئك به معادا على وجهه لم يحدث فيه شيئا، ولم يغيّر
له صفة، لكان قول العلماء في شاعر: «إنّه أخذ المعنى من صاحبه
فأحسن وأجاد»، وفي آخر: «إنّه أساء وقصّر»، ولغوا من القول، من
حيث كان محالا أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئا.
وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيرا للبيت ومناسبا له، خطأ منهم،
لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه، وأن يكون نظيرا لنفسه.
وأمر ثالث، وهو أنّهم يقولون في واحد: «إنه أخذ المعنى فظهر
أخذه»، وفي آخر: «إنّه أخذه فأخفى أخذه»، ولو كان المعنى يكون
معادا على صورته وهيئته، وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئا
غير أن يبدّل لفظا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالا، لأن
اللّفظ لا يخفي المعنى، وإنّما يخفيه إخراجه في صورة غير التي
كان عليها.
مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن «1»، ذكر فيما ذكر فيه «تناسب
المعاني»، بيت أبي نواس: [من الرمل المجزوء]
خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب «2»
وبيت عبد الله بن مصعب: [من الوافر]
كأنّك جئت محتكما عليهم ... تخيّر في الأبوّة ما تشاء «3»
وذكر أنّهما معا من بيت بشار: [من الطويل]
خلقت ما فيّ غير مخيّر ... هواي، ولو خيّرت كنت المهذّبا «4»
والأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر. ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد
تناوله فأخفاه وقال: [من الوافر]
__________
(1) يعني القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز في كتابه «الوساطة
بين المتنبي وخصومه» (الوساطة 160).
(2) البيت في الديوان (ص 349)، وهو من أبيات قالها يمدح فيها
امرأة تدعى جنان يقول:
ما هوى إلا له سبب ... يبتدي منه وينشعب
فتنت قلبي محجبة ... وجهها بالحسن منتقب
خليت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه ... واستزادت فضل ما تهب
(3) لعبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.
(4) (الديوان 1/ 246) من قصيدة يلوم فيها يحيى بن زيد.
(1/331)
فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من
كرم الطّباع «1»
ومن العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأمّلت قول أبي العتاهية:
[من الكامل]
جزي البخيل عليّ صالحة ... عنّي بخفّته على ظهري
أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعلت، ونزّه قدره قدري
ورزقت من جدواه عافية ... أن لا يضيق بشكره صدري
وغنيت خلوا من تفضّله ... أحنو عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرئ وضعت ... عنّي يداه مئونة الشّكر «2»
ثم نظرت إلى قول الذي يقول: [من المنسرح]
أعتقني سوء ما صنعت من الرّقّ ... فيا بردها على كبدي
فصرت عبدا للسّوء منك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد «3»
ومما هو في غاية النّدرة من هذا الباب، ما صنعه الجاحظ بقول
نصيب: [من الطويل] ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «4» حين نثره
فقال، وكتب به إلى ابن الزّيات: «نحن أعزك الله نسحر بالبيان،
ونموه بالقول، والناس ينظرون إلى الحال، ويقضون بالعيان، فأثر
في أمرنا أثرا ينطق إذا سكتنا، فإنّ المدّعي بغير بيّنة متعرّض
للتكذيب». وهذه جملة من وصفهم الشعر وعمله وإدلالهم به- أبو
حيّة النّميرى: [من الكامل]
إنّ القصائد قد علمن بأنّني ... صنع اللّسان بهنّ، لا أتنحّل
وإذا ابتدأت عروض نسج ريّض ... جعلت تذلّ لما أريد وتسهل
حتّى تطاوعني، ولو يرتاضها ... غيري لحاول صعبة لا تقبل «5»
__________
(1) البيت في الديوان (ص 324)، وهو من قصيدة يمدح فيها مهدي بن
أصرم، وقبله:
ورأيك مثل رأي السيف صحّت ... مشورة حدّه عند المصاع
والمصاع: المجالدة.
(2) الأبيات في أسرار البلاغة (ص 156)، وجاء البيت الأول بلفظ
«بخفته» بدلا من «لخفته»، وفي نسخة للشيخ رشيد رضا: «أن لا
يضيق» بدل من «عافية» وهذا في البيت الثالث.
(3) البيتان في أسرار البلاغة بلا نسبة (ص 156).
(4) عجز بيت لنصيب بن رباح، في ديوانه (ص 59) وصدره:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله وفي الأغاني (2/ 42)، وأمالي
المرتضى (1/ 61)، وخزانة الأدب (5/ 296)، وشرح شذور الذهب (ص
38)، والشعر والشعراء (1/ 418)، ولسان العرب (حدث).
(5) الأبيات لأبي حية النميري، شعره مجموع جمعه داود سلوم في
العراق.
(1/332)
تميم بن مقبل: [من الطويل]
إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها قائلا بعدي أطبّ
وأشعرا
وأكثر بيتا سائرا ضربت له ... حزون جبال الشّعر حتّى تيسّرا
أغرّ غريبا يمسح النّاس وجهه ... كما تمسح الأيدي الأغرّ
المشهّرا «1»
عديّ بن الرّقاع: [من الكامل]
وقصدة قد بتّ أجمع بينها ... حتّى أقوّم ميلها وسنادها
نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتّى يقيم ثقافة منادها «2»
كعب بن زهير: [من الطويل]
فمن اللقوافي، شانها من يحوكها، ... إذا ما توى كعب وفوّز جرول
«3»
يقوّمها حتّى تلين متونها ... فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل «4»
بشّار: [من الطويل]
عميت جنينا، والذّكاء من العمى، ... فجئت عجيب الظّنّ للعلم
موئلا
وغاص ضياء العين للعلم رافدا ... لقلب إذا ما ضيّع النّاس
حصّلا
وشعر كنور الرّوض لاءمت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشّعر
أسهلا «5»
__________
(1) الأغرّ المشهر: هو الفرس الذي يعرف بين الخيل وهذا مثل قول
جرير:
وغرّ قد نسقت مشهّرات ... طوالع، لا تطيق لها جوابا
(2) البيتان في الأغاني (9/ 360) من قصيدة له أنشدها الوليد بن
عبد الملك أوّلها:
عرف الديار توهّما فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها
والسّناد: من عيوب الشعر وهو في اصطلاح العروضيين اختلاف الحرف
الذي قبل الردف بالفتح والكسر، والردف هو حرف اللين الذي قبل
الروي. اللسان (سند). الثّقاف: حديدة تكون مع القواس والرماح
يقوّم بها الشيء المعوجّ أي: ما تسوّى به الرّماح. والمنآد:
المائل المعوج.
(3) البيت في ديوانه (ص 59)، والأغاني (2/ 157)، (17/ 88)،
ولسان العرب (فوز)، (ثوا)، والتنبيه والإيضاح (2/ 248)، وتاج
العروس (فوز)، (حوك)، (جرول)، (ثوى). وشانها: أي جاء بها شائنة
أي: معيبة، وتوى: مات وكذا فوّز، قال ابن برّي: لا يقال فوّز
حتى يتقدم الكلام كلام فيقال مات فلان وفوّز فلان بعده، وجرول:
يعني الحطيئة.
(4) البيت في الأغاني (2/ 158)، وهو لا يتبع البيت السابق بل
يفصل بينهما بيتان آخران هما:
يقول فلا تعيا بشيء يقوله ... ومن قائليها من يسيء ويعمل
كفيتك لا تلقى من الناس واحدا ... تنخّل منها مثل ما يتنخّل
(5) الأبيات في الأغاني (3/ 134)، والموئل: الملجأ وفي الآية:
لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال
(1/333)
وله: [من المنسرح]
زور ملوك عليه أبّهة ... يغرف من شعره ومن خطبه «1»
لله ما راح في جوانحه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه
يخرج من فيه للنّدى، كما ... يخرج ضوء السّراج من لهبه «2»
أبو شريح العمير: [من الوافر]
فإن أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمثّلينا
لذيذات المقاطع محكمات ... لو أنّ الشّعر يلبس لارتدينا «3»
الفرزدق: [من الوافر]
بلغنا الشّمس حين تكون شرقا ... ومسقط قرنها من حيث غابا
بكلّ ثنيّة وبكلّ ثغر ... غرائبهنّ تنتسب انتسابا «4»
ابن ميّادة: [من الطويل]
__________
الفرّاء: الموئل: المنجي وهو الملجأ. وغاض ضياء العين: غاب نور
العين. والنور: الزهر الأبيض واحدته نورة. وقال هذه الأبيات
بعد أن قال: إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل
بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسّه وتذكو قريحته. والحزن
والحزن: نقيض الفرح، والسّهل:
نقيض الحزن.
(1) الزور: الزائر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره
لأنه مفرد في الأصل.
(2) النديّ كالنّادي: مجلس القوم نهارا، والنادي مجتمع القوم
وأهل المجلس.
(3) قال الشيخ شاكر في تعليقه على هذين البيتين: لم أعرف أبا
شريح العمير، وهو في مجموعة المعاني (178) لشاعر جاهلي، وفي
البيان والتبيين (1/ 222)، وديوان المعاني (1/ 8)، وغير منسوب
وانفرد صاحب حماسة الشجري بنسبته إلى ابن ميادة وهذا خطأ أو
سهو؛ لأنه فيما أرجح أخذه من البيان والتبيين لأن الجاحظ عقد
بابا فقال: «ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب،
وكالعلل والمعاطف، والديباج والوشي وأشباه ذلك. وأنشدني أبو
الجماهير جندب بن مدرك الهلالي» وذكر أبياتا ثم قال: «وأنشدني
لابن ميادة:
نعم إنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد اليماني يربح البيع تاجره
وأنشد ثم ذكر البيتين، فاختلط الأمر على الشجري في نقله إلى
حماسته، فنسبه لابن ميادة. وهذا شعر فاخر انتهى كلام الشيخ-
رحمه الله-.
(4) البيتان في الديوان (1/ 104) من قصيدة قالها يناقض جريرا
مطلعها:
أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا
والثنية: واحدة الثنايا من السّنّ والثنيّة من الأضراس: أول ما
في الفم والثنية: طريق العقبة أو الطريقة في الحيل كالنّقب.
والثغر: الأسنان في منابتها. يريد أن يقول: إن غرائب قصائده
مشهورة فقد طافت بكل طريق وترددت على كل لسان فلم تترك مكانا
إلا هبطته ولا ثغرا إلا شرفته بنطقها وبين هذا وذاك فإن نسبتها
إليه معروفة غير مجهولة.
(1/334)
فجرنا ينابيع الكلام وبحره ... فأصبح فيه
ذو الرّواية يسبح
وما الشّعر إلّا شعر قيس وخندف ... وشعر سواهم كلفة وتملّح «1»
وقال عقال بن هشام القينيّ يردّ عليه: [من الطويل]
ألا أبلغ الرّمّاح نقض مقالة ... بها خطل الرّمّاح أو كان يمزح
لئن كان في قيس وخندف ألسن ... طوال وشعر سائر ليس يقدح
لقد خرق الحيّ اليمانون قبلهم ... بحور الكلام تستقى وهي طفّح
وهم علّموا من بعدهم فتعلّموا ... وهم أعربوا هذا الكلام
وأوضحوا
فللسّابقين الفضل لا يجحدونه ... وليس لمسبوق عليهم تبجّج «2»
أبو تمام: [من الطويل]
كشفت قناع الشّعر عن حرّ وجهه ... وطيّرته عن وكره وهو واقع
بغرّ يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع
يودّ ودادا أنّ أعضاء جسمه ... إذا أنشدت، شوقا إليها، مسامع
«3»
__________
(1) البيتان في الأغاني (2/ 303) من أبيات قالها حينما غمزه
عقال بن هاشم وصغّر من شأنه، وجاء البيت الثاني بلفظ: «قول»
بدلا من «شعر». وخندف: اسم قبيلة سميت كذلك لأن خندف امرأة
إلياس بن مضر بن نزار وهي ليلى بنت حلوان خندفت (هرولت) في أثر
إبل إلياس التي خرجت ليلا، وقالت خندف لزوجها: ما زلت أخندف
(أهرول) في أثركم. فقال: فأنت خندف فذهب اسما لها ولولدها نسبا
وسميت بها القبيلة. اللسان (خندف). والتملّح: تكلّف الملاحة
والظرف.
(2) الأبيات في الأغاني (2/ 303) قالها عقال بن هاشم يجيب ابن
ميادة، وسمّاه «الرّمّاح». وخطل خطلا فهو خاطل أي: أحمق سريع
الطّعن. وسهم خطل: يعجل فيذهب يمينا وشمالا لا يقصد قصد الهدف
فهو يريد أن يصفه بصفة الحمق والعجلة.
والقدح: العيب ومنها قدح في عرض أخيه: عابه. والمقصود: شعر غير
معيب. والتبجّح:
الافتخار.
(3) الأبيات في ديوانه (ص 489)، من قصيدة له يصف قومه ويفتخر
بهم مطلعها:
ألا صنع البين الذي هو صانع ... فإن تك مجزاعا فما البين جازع
وحرّ الوجه: ما أقبل عليك منه وقيل: الخدّ ومنه يقال: لطم حرّ
وجهه، وقيل: حرّ الوجه: ما بدا من الوجنة. وجاء البيت الأول
بلفظ «فكره» بدلا من «وكره». والضمير «هو» للشاعر في قوله قبل
البيت:
فكم شاعر قد رامني فقذعته ... بشعري وهو خزيان ضارع
وقذعته: رميته بسوء القول وشتمته، والضارع: الذليل. وذو الحجى:
صاحب العقل والفطنة والجمع أحجاء. والشاسع: البعيد.
(1/335)
وله: [من الكامل]
حذّاء تملأ كلّ أذن حكمة ... وبلاغة، وتدرّ كلّ وريد
كالدّرّ والمرجان ألّف نظمه ... بالشّذر في عنق الفتاة الرّود
كشقيقة البرد المنمنم وشيه ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد
يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي ... بردائها في المحفل المشهود
بشرى الغنيّ أبي البنات تتابعت ... بشرائه بالفارس المولود «1»
وله: [من الكامل]
جاءتك من نظم اللّسان قلادة ... سمطان، فيها اللؤلؤ المكنون
أحذاكها صنع الضّمير يمدّه ... جفر إذا نضب الكلام معين «2»
أخذ لفظ «الصّنع» من قول أبي حيّة:
بأنني صنع اللّسان بهنّ، لا أتنحّل «3» ونقله إلى الضمير. وقد
جعل حسّان أيضا اللسان «صنعا»، وذلك في قوله: [من البسيط]
أهدى لهم مدحا قلب مؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع «4»
__________
(1) الأبيات في ديوانه (ص 85)، وفصل بين البيت الأول والثاني
ببيت في الديوان يقول فيه:
كالطعنة النجلاء في يد ثائر ... بأخيه أو كالضّربة الأخدود
ففي الأول الحذاء: المقصود القصيدة التي لا عيب فيها ولا يتعلق
بها شيء لجودتها. والوريد:
عرق تحت اللسان، والوريدان عرقان في العنق يقال للغضبان: انتفخ
وريده. والوريد: عرق في صفحة العنق. وفي الثاني: الشّذر: قطع
من الذهب يلقط من المعدن من غير إذابة الحجارة وهو أيضا صغار
اللؤلؤ، وقيل: خرز يفصّل به النظم، وشذّر النظم: فصّله.
والرّؤد بالهمزة- من النساء:
الشابة الحسنة السريعة الشباب مع حسن غذاء. وفي البيت الثالث:
البرد: ثوب فيه خطوط والجمع أبراد وبرود. والنمنمة: خطوط
متقاربة قصار، وكتاب منمنم: منقش ونمنم الشيء أي:
زخرفه ورقشه.
(2) البيتان في الديوان (ص 312) من قصيدة له يمدح الواثق بالله
مطلعها:
وأبى المنازل إنّها لشجون ... وعلى العجومة إنها لتبين
والبيتان غير متتاليين في الديوان. وأحذاكها: ألبسك إيّاها،
والجفر: البئر ذات الماء، والمعين:
الماء الجاري على وجه الأرض.
(3) عجز بيت لأبي حية النميري صدره:
إن القصائد قد علمن بأنني
(4) الديوان (1/ 100).
(1/336)
ولأبي تمام: [من الطويل]
إليك أرحنا عازب الشّعر بعد ما ... تمهّل في روض المعاني
العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب
ولو كان يفنى الشّعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في السّنين
الذّواهب
ولكنّه صوب العقول، إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب «1»
البحتري [من الطويل]
ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع اللّيل
أنجما
ثناء كأنّ الرّوض منه منوّرا ... ضحى، وكأنّ الوشي منه منمنما
«2»
وله: [من البسيط]
أحسن أبا حسن بالشّعر، إذ جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتشر
فقد أتتك القوافي غبّ فائدة ... كما تفتّح غبّ الوابل الزّهر
«3»
وله: [من الطويل]
إليك القوافي نازعات قواصدا ... يسيّر ضاحي وشيها وينمنم
ومشرقة في النّظم غرّ يزينها ... بهاء وحسنا أنّها فيك تنظم
«4»
وله: [من الطويل]
بمنقوشة نقش الدّنانير ينتقى ... لها اللّفظ مختارا كما ينتقى
التّبر «5»
__________
(1) الأبيات له في الديوان (ص 47)، من قصيدة يمدح فيها أبا دلف
القاسم بن عيسى العجلي مطلعها:
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب
والعازب من الكلأ: الذي لم يرع قط ولا وطئ. وعازب الشعر: الشعر
ذو المعاني البعيدة المرمى التي لا يهتدي إليها إلا الفحول من
الشعراء. ويقال: راحت الإبل، فرواحها هاهنا أن تأوي بعد غروب
الشمس إلى مراحها الذي تبيت فيه. والفناء: هو ساحة أمام البيت.
(2) منمنما: مزخرفا ومنقشا.
(3) في نسخة «تنتثر» وهو الصحيح.
(4) تسيّر من السّيراء والسّيراء: ضرب من البرود، وقيل: هو ثوب
مسيّر فيه خطوط تعمل من القزّ كالسيور وقيل: برود يخالطها
حرير.
(5) الديوان (1/ 344) يمدح الخضر بن أحمد.
(1/337)
وله: [من الطويل]
أيذهب هذا الدّهر لم ير موضعي ... ولم يدر ما مقدار حلّي ولا
عقدي
ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والمجد
سوائر شعر جامع بدد العلى ... تعلّقن من قبلي وأتعبن من بعدي
يقدّر فيها صانع متعمّل ... لإحكامها تقدير داود في السّرد «1»
وله: [من الكامل]
تالله يسهر في مديحك ليله ... متململا وتنام دون ثوابه
يقظان ينتخل الكلام كأنّه ... جيش لديه يريد أن يلقى به
فأتى به كالسّيف رقرق صيقل ... ما بين قائم سنخه وذبابه «2»
ومن نادر وصفه للبلاغة قوله: [من الخفيف]
في نظام من البلاغة ما شكّ ... امرؤ أنّه نظام فريد
وبديع كأنّه الزّهر الضّاحك ... في رونق الرّبيع الجديد
مشرق في جوانب السّمع ما يخ ... لقه عوده على المستعيد
حجج تخرس الألدّ بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود
ومعان لو فصّلتها القوافي ... هجّنت شعر جرول ولبيد
جزن مستعمل الكلام اختيارا ... ونجنبن ظلمة التّعقيد
وركبن اللّفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
كالعذارى غدون في الحلل الصّف ... ر إذا رحن في الخطوط السّود
«3»
__________
(1) التبديد: التفريق؛ يقال: شمل مبدّد أي: مفرّق، وبدّد
الشيء: فرّقه، وجاءت الخيل بداد أي:
متفرقة. وتعلقن: أي فتنت الشعراء قبلي.
(2) السّرد: الثقب والمسرودة: الدرع وقيل: السّرد: الحلق. وفي
الآية: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ. والسّنخ:
الأصل من كل شيء وسنخ الكلمة أصل بنائها وسنخ السّكين: طرف
سيلانه الدّاخل في النصاب وسنخ السيف: سيلانه. والذباب: طرف
السيف.
(3) قال الشيخ شاكر معلقا على الأبيات: في ديوانه والأبيات
يقولها في بلاغة محمد بن عبد الملك الزيّات الكاتب الوزير،
وذكر قبل البيت الأوّل «عبد الحميد الكاتب» فقال لابن الزيّات:
لتفنّنت في الكتابة حتّى ... عطّل الناس فنّ عبد الحميد
والفريد: اللؤلؤ. وجرول: الحطيئة. ولبيد بن ربيعة: الفحل. وفي
الديوان والمطبوعة قوله: «حزن
(1/338)
الغرض من كتب هذه الأبيات، الاستظهار، حتى
إن حمل حامل نفسه على الغرر والتّقحّم على غير بصيرة، فزعم أن
الإعجاز في مذاقة الحروف، وفي سلامتها مما يثقل على اللّسان
علم بالنظر فيها فساد ظنّه وقبح غلطه، من حيث يرى عيانا أن ليس
كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال، ولا صفاتهم صفات تصلح له على
حال.
إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب «تميم» لحزون جبال الشعر،
لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان ولا كان تقويم «عديّ»
لشعره وتشبيهه نظره فيه بنظر المثقّف في كعوب قناته لذلك وأنّه
محال أن يكون له جعل «بشّار» نور العين قد غاض فصار إلى قلبه،
وأن يكون اللّؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه وأن ليس هو صوب
العقول «1» الذي إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب وأن ليس هو
الدّرّ والمرجان مؤلّفا بالشّذر في العقد ولا الذي له كان
«البحتري» مقدّرا «تقدير داود في السّرد». كيف؟ وهذه كلّها
عبارات عمّا يدرك بالعقل ويستنبط بالفكر، وليس الفكر الطريق
إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل، إنما الطريق إلى
ذلك الحسّ.
ولولا أنّ البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد، وأنّ الذين قد
استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شيء
يسمعونه، حتى لو أن إنسانا قال:
«باقلّى «2» حارّ»، يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم، لأقبلوا
بأوجههم عليه وألقوا أسماعهم إليه لكان اطّراحه وترك الاشتغال
به أصوب، لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتّة. ذاك لأنه
أول شيء يؤدّي إلى أن يكون القرآن معجزا، لا بما به كان قرآنا
وكلام الله عز وجل، لأنه على كل حال إنّما كان قرآنا وكلام
الله عز وجل بالنّظم الذي هو عليه. ومعلوم أن ليس «النّظم» من
مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان في شيء.
ثم إنّه اتّفاق من العقلاء أنّ الوصف الذي به تناهى القرآن إلى
حدّ عجز عنه المخلوقون، هو الفصاحة والبلاغة. وما رأينا عاقلا
جعل القرآن فصيحا أو بليغا، بأن
__________
مستعمل الكلام» بالحاء المهملة وهكذا يجري في الكتب وهو عندي
خطأ لا شك فيه وتصحيف مفسد للكلام والشعر معا، وإنما هي «جزن»
بالجيم المعجمة من «جاز المكان» إذا تعدّاه وتركه خلفه. يقول:
إن معانيه تعدّين مبتذل اللفظ والكلام وتركنه «وتجنّبن ظلمة
التعقيد وركبن اللفظ القريب» وهو اللفظ المختار الجيّد الذي لا
ابتذال فيه ولا تعقيد. وهو في بعض النسخ «جزن» بالجيم وهو
الصواب المحض، وأمّا «حزن» فهو تصحيف يتّقى، وكلام يرعب عن
مثله. وفي بعض نسخ الديوان: «كالعذارى غدون في الحلل البيض»
وهي جيدة. انتهى كلام الشيخ شاكر- رحمه الله-.
(1) الصّوب: نزول المطر، من صاب المطر صوبا: انصبّ.
(2) الباقلّى: الفول واحدته: باقلّاة وباقلاءة.
(1/339)
لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان، لأنه
لو كان يصحّ ذلك، لكان يجب أن يكون السّوقيّ الساقط من الكلام،
والسفساف الرّديء من الشعر، فصيحا إذا خفّت حروفه.
وأعجب من هذا، أنّه يلزم منه أن لو عمد عامد إلى حركات الإعراب
فجعل مكان كلّ ضمّة وكسرة فتحة فقال: «الحمد لله»، بفتح الدال
واللام والهاء، وجرى على هذا في القرآن كلّه، أن لا يسلبه ذلك
الوصف الذي هو معجز به، بل كان ينبغي أن يزيد فيه، لأنّ الفتحة
كما لا يخفى أخفّ من كلّ واحدة من الضمة والكسرة.
فإن قال: إن ذلك يحيل المعنى.
قيل له: إذا كان المعنى والعلّة في كونه معجزا خفّة اللّفظ
وسهولته، فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزا، لأنه إذا كان
معجزا لوصف يخصّ لفظه دون معناه، كان محالا أن يخرج عن كونه
معجزا، مع قيام ذلك الوصف فيه.
ودع هذا، وهب أنه لا يلزم شيء منه، فإنه يكفي في الدلالة على
سقوطه وقلّة تمييز القائل به، أنه يقتضي إسقاط «الكناية» و
«الاستعارة» و «التمثيل» و «المجاز» و «الإيجاز» جملة، واطّراح
جميعها رأسا، مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها،
والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها، والطّلبة التي يتنازعها
المحسنون، والرّهان الذي تجرّب فيه الجياد، والنّضال الذي تعرف
به الأيدي الشّداد، وهي التي نوّه بذكرها البلغاء ورفع من
أقدارها العلماء، وصنّفوا فيها الكتب، ووكّلوا بها الهمم،
وصرفوا إليها الخواطر، حتّى صار الكلام فيها نوعا من العلم
مفردا، وصناعة على حدة، ولم يتعاط أحد من الناس القول في
الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل
والمزيّة، وخصوصا «الاستعارة» و «الإيجاز»، فإنّك تراهم
يجعلونهما عنوان ما يذكرون، وأوّل ما يوردون.
وتراهم يذكرون من «الاستعارة» قوله عز وجل: وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، وقوله عزّ وجلّ:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37]،
وقوله عز وجل: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94]، وقوله:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80]،
وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» [محمد:
4]، وقوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16].
__________
(1) أوزار الحرب: أسلحتها: قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وقيل الأوزار: أثقال الشهداء لأنه عز وجلّ يمحّصهم من الذنوب.
(1/340)
ومن «الإيجاز» قوله تعالى: وَإِمَّا
تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى
سَواءٍ «1» [الأنفال: 58]، وقوله تعالى: وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14]، وقوله: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ
«2»
[الأنفال: 57]، وتراهم على لسان واحد في أن «المجاز» و
«الإيجاز» من الأركان في أمر الإعجاز.
وإذا كان الأمر كذلك عند كافّة العلماء الذين تكلّموا في
المزايا التي للقرآن، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه
إلى الغرور، فيزعم أنّ الوصف الذي كان له القرآن معجزا، هو
سلامة حروفه مما يثقل على اللسان، أيصحّ له القول بذلك إلّا من
بعد أن يدّعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه، والخطأ فيما
أجمعوا عليه؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يصحّ له ذلك إلّا بأن يقتحم
هذه الجهالة، اللهم إلّا أن يخرج إلى الضّحكة فيزعم مثلا أن من
شأن «الاستعارة» و «الإيجاز» إذا دخلا الكلام، أن يحدث بهما في
حروفه خفة، وتتجدّد فيها سهولة، ونسأل الله تعالى العصمة
والتوفيق.
واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل
على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكّد أمر
الإعجاز، وإنما الذي ننكره ونفيّل رأي من يذهب إليه، أن يجعله
معجزا به وحده، ويجعله الأصل والعمدة، فيخرج إلى ما ذكرنا من
الشناعات.
ثم إنّ العجب كلّ العجب ممن يجعل كلّ الفضيلة في شيء هو إذا
انفرد لم يجب به فضل البتّة، ولم يدخل في اعتداد بحال. وذلك
أنّه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها
مما يثقل على اللسان اعتداد، حتى يكون قد ألف منها كلام، ثم
كان ذلك الكلام صحيحا في نظمه والغرض الذي أريد به، وأنه لو
عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى، ويؤلّف
منها كلاما، لم تر عاقلا يعتدّ السهولة فيها فضيلة، لأن
الألفاظ لا تراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلّة على المعاني.
فإذا عدمت الذي له تراد، أو اختلّ أمرها فيه، لم يعتدّ
بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة وغير
السهولة فيها واحدا.
ومن هاهنا رأيت العلماء يذمّون من يحمله تطلّب السّجع والتجنيس
على أن
__________
(1) أي: إن كان بينك وبين قوم هدنة فخفت منهم نقضا للعهد فلا
تبادر إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت ما بينك وبينهم؛
فيكونوا معك في علم النقض والعود إلى الحرب مستوين.
(2) يقال: شرد البعير: نفر والتشريد: الطّرد. والمعنى: أي:
فرّق وبدّد جمعهم وقيل: فزّع بهم من خلفهم.
(1/341)
يضم لهما المعنى، ويدخل الخلل عليه من
أجلهما، وعلى أن يتعسّف في الاستعارة بسببهما، ويركب الوعورة،
ويسلك المسالك المجهولة، كالذي صنع أبو تمام في قوله: [من
البسيط]
سيف الإمام الّذي سمّته هييته ... لمّا تخرّم أهل الأرض مخترما
قرّت بقرّان عين الدين وانتشرت ... بالأشترين عيون الشّرك
فاصطلما «1»
وقوله: [من الكامل]
ذهبت بمذهبه السّماحة والتوت ... فيه الظّنون، أمذهب أم مذهب
«2»
ويصنعه المتكلفون في الأسجاع. وذلك أنّه لا يتصوّر أن يجب
بهما، ومن حيث هما، فضل، ويقع بهما مع الخلوّ من المعنى
اعتداد. وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام: «أمذهب أم مذهب»،
فاستضعفته، وإلى تجنيس القائل: [من البسيط] حتّى نجا من خوفه
وما نجا «3» وقول المحدث: [من الخفيف]
ناظراه فيما جنى ناظراه، ... أو دعاني أمت بما أو دعاني «4»
فاستحسنته، لم تشكّ بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللّفظ،
ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأوّل، وقويت في الثاني.
وذلك؛ أنّك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب ومذهب، على أن أسمعك
حروفا مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت، إلا متكلّفة متمحّلة،
ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن
__________
(1) البيتان في الديوان (ص 284) من قصيدة قالها يمدح إسحاق بن
إبراهيم المصعبي. ويفصل بين البيتين بيت آخر نصه:
إنّ الخليفة لما صال كنت له ... خليفة الموت في من جار أو ظلما
وتخرّم: تشقق ويقال: رجل مخروم: أي قطعت وترة أنفه. ويقال:
اخترم فلان عنا: مات وذهب، واخترمهم الدهر وتخرّمهم أي:
اقتطعهم واستأصلهم. وشترت العين: استرخت وانشقت، واصطلم:
استؤصل.
(2) البيت في ديوانه من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب ويصف غلاما
أهداه إليه.
(3) البيت في أسرار البلاغة غير منسوب، وقال الشيخ شاكر- رحمه
الله- في تعليقه: «نجا» الأولى من «النجو» وهو ما يخرج من
البطن من الغائط، يريد أنه من خوفه أحدث، ثم لم ينج من
«النجاة».
(4) البيت في أسراء البلاغة (ص 7)، وهو لشدّاد بن إبراهيم
الجزري أو لأبي الفتح البستي.
(1/342)
الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أن لم يزدك وقد أحسن الزيادة
ووفّاها. ولهذه النّكتة كان التجنيس، وخصوصا المستوفى منه، مثل
«نجا» و «نجا»، من حليّ الشّعر.
والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول، ولم
يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما، ولكن توكيد ما انتهى بنا
القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرّد السّهولة
وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان.
وجملة الأمر، أنّا ما رأينا في الدّنيا عاقلا اطّرح النّظم
والمحاسن التي هو السبب فيها من «الاستعارة» و «الكناية» و
«التمثيل»، وضروب «المجاز» و «الإيجاز»، وصدّ بوجهه عن جميعها،
وجعل الفضل كلّه والمزيّة أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل.
كيف؟ وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا.
واعلم أنه قد آن لنا نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض
الأهمّ، والّذي كأنّه هو الطّلبة، وكل ما عداه ذرائع إليه. وهو
المرام، وما سواه أسباب للتسلّق عليه، وهو بيان العلل التي لها
وجب أن يكون لنظم مزيّة على نظم، وأن يعظم أمر التفاضل فيه
ويتناهى إلى الغايات البعيدة. ونحن نسأل الله تعالى العون على
ذلك، والتوفيق له والهداية إليه. |