دلائل الإعجاز ت هنداوي بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [تحليلي للنظم]
اعلم أنّك لن ترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم»،
وذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلّا وهو يعلم أن هاهنا نظما
أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصّرهم ذلك تسدر
أعينهم «1»، وتضلّ عنهم أفهامهم. وسبب ذلك أنهم أوّل شيء عدموا
العلم به نفسه، من حيث حسبوه شيئا غير توخّي معاني النحو،
وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني. فأنت تلقي الجهد حتى
تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضا مزمنا، وداء متمكّنا. ثم إذا
أنت قدتهم بالخزائم «2» إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخّي
معاني النحو، عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم، حتى يكادوا يعودون
إلى رأس أمرهم. وذلك أنّهم يروننا ندّعي المزيّة والحسن لنظم
كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصوّر أن يتفاضل
الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني
النحو ووجوهه على شيء نزعم أنّ من شأن هذا أن يوجب المزيّة
لكلّ كلام يكون فيه، بل يروننا ندّعي المزيّة لكل ما ندّعيها
له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع، وفي كلام
دون كلام، وفي الأقلّ دون الأكثر، وفي الواحد من الألف. فإذا
رأوا الأمر كذلك، دخلتهم الشّبهة وقالوا: كيف يصير المعروف
مجهولا؟ ومن أين يتصوّر أن يكون للشيء في كلام مزيّة عليه في
كلام آخر، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟
فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع ثم لا يقتضي
فضلا، ولا يوجب مزيّة، اتّهمونا في دعوانا ما ادّعيناه لتنكير
الحياة في قوله تعالى:
__________
(1) سدر بصره: تحيّر.
(2) حلق من شعر يشد بها.
(1/356)
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة:
179]، من أنّ له حسنا ومزيّة، وأنّ فيه بلاغة عجيبة، وظنّوه
وهما منّا وتخيّلا.
ولسنا نستطيع في كشف الشّبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو
الحقّ عندهم، ما استطعناه في نفس النظم، لأنّا ملكنا في ذلك أن
نضطرّهم إلى أن يعلموا صحّة ما نقول. وليس الأمر في هذا كذلك،
فليس الداء فيه بالهيّن، ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت
الإمكان فيه مع كلّ أحد مسعفا، والسّعي منجحا، لأنّ المزايا
التي تحتاج أن تعلمهم
مكانها وتصوّر لهم شأنها، أمور خفيّة، ومعان روحانيّة، أنت لا
تستطيع أن تنبّه السامع لها، وتحدث له علما بها، حتى يكون
مهيّئا لإدراكها، تكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق
وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق
أن تعرض فيها المزيّة على الجملة ومن إذا تصفّح الكلام وتدبّر
الشعر، فرّق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قوله: [من
السريع]
لي منك ما للنّاس كلّهم ... نظر وتسليم على الطّرق «1»
وقول البحتريّ: [من الكامل]
وسأستقلّ لك الدّموع صبابة ... ولو أنّ دجلة لي عليك دموع «2»
وقوله: [من الطويل]
رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها ... وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد
«3»
وقول أبي نواس: [من البسيط]
__________
(1) البيت لشمروخ، وهو: أبو عمارة محمد بن أحمد بن أبي مرة
المكي، وهي أبيات من معجم الشعراء (438)، والزهرة (10)، ومصارع
العشاق (174)، غير منسوب وأبياته هي:
يا من بدائع حسن صورته ... تثنى إليه أعنة الحدق
لي منك ما للناس كلهم ... نظر وتسليم على الطرق
لكنهم سعدوا بأمنهم ... وشقيت حين أراك بالفرق
سلموا من البلوى ولي كبد ... حرى ودمعة هائم ملق
«شاكر».
(2) البيت في الديوان (1/ 282) يودع إبراهيم بن حسن بن سهل.
(3) البيت في ديوانه، وفلتات الشيب أول ما أسرع إليه من الشيب.
(1/357)
ركب تساقوا على الأكوار بينهم ... كأس
الكرى، فانتشى المسقيّ والسّاقي
كأنّ أعناقهم، والنّوم واضعها ... على المناكب، لم تعمد بأعناق
«1»
وقوله: [من الكامل]
يا صاحبيّ عصيت مصطبحا ... وغدوت للّذّات مطّرحا
فتزوّدوا منّي محادثة، ... حذر العصا لم يبق لي مرحا «2»
وقول إسماعيل بن يسار: [من السريع]
حتّى إذا الصّبح بدا ضوؤه ... وغابت الجوزاء والمرزم
خرجت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم «3»
- أنق لها، وأخذته الأريحيّة عندها، وعرف لطف موقع «الحذف» و
«التنكير» في قوله:
نظر وتسليم على الطّرق وما في قول البحتري: «لي عليك دموع» من
شبه السّحر، وأنّ ذلك من أجل تقديم «لي» على «عليك»، ثم تنكير
«الدّموع» وعرف كذلك شرف قوله:
وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد وعلوّ طبقته، ودقّة صنعته.
والبلاء، والدّاء العياء، أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى
إنّه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر
يقوله، أو رسالة يكتبها، الموقع
__________
(1) البيتان في ديوانه (123)، في آخر باب المدائح (الفصل
الثالث)، (ط) دار العرب للبستاني وهما في أربعة أبيات ينعت
قوما قد سكروا من النعاس فمالت أعناقهم والبيتان بعدهما:
ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة ... حتى أناخوا إليكم قبل إشراق
من كل جائلة النسعين ضامرة ... مشتاقة حملت أنفاس مشتاق
(2) البيتان لأبي نواس في ديوانه (246)، في باب الخمريات وهما
يتصدران مجموعة أبيات آخرها:
يثني العجاج على مفارقة ... بمعقب لم يعد أن وقحا
ولقد حزنت فلم أمت حزنا ... ولقد فرحت فلم أطر فرحا
(3) البيتان في الأغاني (4/ 408، 409، 410)، لإسماعيل بن يسار
وغنى الوليد بن يزيد في شعر لإسماعيل بن يسار فقال: من يقول
هذا؟ قالوا: رجل من أهل الحجاز يقول له: إسماعيل بن يسار
النسائي، فكتب في إشخاصه إليه، فلما دخل عليه استنشده القصيدة
التي منها هذان البيتان فأنشده، فطرب الوليد حتى نزل عن فرشه
وسريره، وأمر المغنين فغنوه الصوت وشرب عليه أقداحا، وأمر
لإسماعيل بكسوة
وجائزة سنية، وسرحه إلى المدينة.
(1/358)
الحسن. ثم لا يعلم أنه قد أحسن. فأمّا
الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه، فلست تملك إذا من أمرك شيئا
حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته وري، وقلب إذا أريته رأى، فأمّا
وصاحبك من لا يرى ما تريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام في
غير مرمى، ومعنّ نفسك في غير جدوى، وكما لا تقيم الشعر في نفس
من لا ذوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التي
بها يفهم، إلّا أنه إنما يكون البلاء إذا ظنّ العادم لها أنّه
أوتيها، وأنه ممّن يكمل للحكم، ويصحّ منه القضاء، فجعل يقول
القول لو علم غبّه لا ستحيى منه. فأمّا الذي يحسّ بالنقص من
نفسه، ويعلم أنه قد عدم علما قد أوتيه من سواه، فأنت منه في
راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلّف ما
ليس بأهل له.
وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة، وقوانين مضبوطة قد
اشترك الناس في العلم بها، واتّفقوا على أن البناء عليها، إذا
أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه، لم تستطع ردّه عن هواه، وصرفه
عن الرأي الذي رآه، إلا بعد الجهد، وإلا بعد أن يكون حصيفا
عاقلا ثبتا إذا نبّه انتبه، وإذا قيل: إنّ عليك بقيّة من
النظر، وقف وأصغى، وخشي أن يكون قد غرّ، احتاط باستماع ما يقال
له، وأنف من أن يلجّ من غير بيّنه، ويستطيل بغير حجّة، وكان من
هذا وصفه يعزّ ويقلّ فكيف بأن تردّ الناس عن رأيهم في هذا
الشأن، وأصلك الذي تردّهم إليه، وتعوّل في محاجّتهم عليه،
استشهاد القرائح، وسبر النفوس وفليها، وما يعرض فيها من
الأريحيّة عند ما تسمع، وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم، ويكشف
الغطاء عن أعينهم، ويصرف إليك أوجههم، وهم لا يضعون أنفسهم
موضع من يرى الرأي ويفتي ويقضي، إلّا وعندهم أنهم ممّن صفت
قريحته، وصحّ ذوقه، وتمّت أداته. فإذا قلت لهم: «إنكم قد أتيتم
من أنفسكم»، ردّوا عليك مثله وقالوا: «لا، بل قرائحنا أصحّ،
ونظرنا أصدق، وحسّنا أذكى، وإنّما الآفة فيكم لأنّكم خيّلتم
إلى أنفسكم أمورا لا حاصل لها، وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا
لأحد النظمين المتساويين فضلا على الآخر، من غير أن يكون ذلك
الفضل معقولا» فتبقى في أيديهم حسيرا لا تملك غير التعجّب.
فليس الكلام إذن بمغن عنك، ولا القول بنافع، ولا الحجّة
مسموعة، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه،. ومن إذا أبى عليك
أبى ذاك طبعه فردّه إليك، وفتح سمعه لك، ورفع الحجاب بينك
وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة الّتي
أومأت، فاستبدل بالنّفار أنسا، وأراك من بعد الإباء قبولا.
ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلّا لأن ليس في أصناف العلوم
الخفية، والأمور
(1/359)
الغامضة الدقيقة، أعجب طريقا في الخفاء من
هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسك، وتكدّ فيه فكرك، وتجهد فيه كل
جهدك، حتى إذا قلت قتلته علما، وأحكمته فهما، كنت بالّذي لا
يزال يتراءى لك فيه من شبهة، ويعرض فيه من شك، كما قال أبو
نواس: [من الطويل]
ألا لا أرى مثل امترائي في رسم ... تغصّ به عيني ويلفظه وهمي
أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظنّي كلا ظنّ، وعلمي كلا علم
«1»
وإنّك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسّره، ولا ترى أنّ فيه
شيئا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفيّ لم تكن قد علمته، مثال
ذلك بيت المتنبي: [من الكامل]
عجبا له! حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
«2»
مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئا، ولا يقع لنا
أن فيه خطأ، ثمّ بان بأخرة أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن
يقول: «ما حفظ الأشياء من عاداتها»، فيضيف المصدر إلى المفعول،
فلا يذكر الفاعل، ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحفظ عن
أنامله جملة، وأنه يزعم أنّه لا يكون منها أصلا، وإضافته الحفظ
إلى ضميرها في قوله: «ما حفظها الأشياء»، ويقتضي أن يكون قد
أثبت لها حفظا.
ونظير هذا أنك تقول: «ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي»،
ولا تقول:
«ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي»، وكذلك تقول: «ليس ذمّ
النّاس من شأني»، ولا تقول: «ليس ذمّي الناس من شأني»، لأن ذلك
يوجب إثبات الذّمّ ووجوده منك. ولا يصحّ قياس المصدر في هذا
على الفعل، أعني أنه لا ينبغي أن يظنّ أنه كما يجوز أن يقال:
«ما من عادتها أن تحفظ الأشياء»، كذلك ينبغي أن يجوز: «ما من
عادتها حفظها الأشياء»، ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي
__________
(1) البيتان في ديوانه (313)، في باب الخمريات، وهما في مقدمة
سبعة أبيات وبعدهما:
فطب بحديث من نديم موافق ... وساقية سن المراهق للحلم
إذا هي قامت والسداسي طالها ... وبين النحيف الجسم والحسن
الجسم
(2) البيت في ديوانه (1/ 231) من قصيدة في مدح أبي أيوب أحمد
بن عمران ومطلعها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي ... بشرا رأيت أرق من عبراتها
والعنان: سير اللجام، الأنمل: رءوس الأصابع.
(1/360)
وجوده، وأنه قد كان منه، يبيّن ذلك أنك
تقول: «أمرت زيدا بأن يخرج غدا»، ولا تقول: «أمرته بخروجه
غدا».
ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله: [من البسيط]
ولا تشكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم
«1»
وذلك أنك إذا قلت: «لا تضجر ضجر زيد»، كنت قد جعلت زيدا يضجر
ضربا من الضّجر، مثل أن تجعله يفرط فيه أو يسرع إليه. هذا هو
موجب العرف. ثم إن لم تعتبر خصوص وصف، فلا أقلّ من أن تجعل
الضّجر على الجملة من عادته، وأن تجعله قد كان منه. وإذا كان
كذلك، اقتضى قوله:
شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم أن يكون هاهنا «جريح»، قد عرف
من حاله أن يكون له «شكوى إلى الغربان والرخم»، وذلك محال.
وإنما العبارة الصحيحة في هذا أن يقال: «لا تشكّ إلى خلق، فإنك
إن فعلت كان مثل ذلك أن تصوّر في وهمك أن بعيرا دبرا كشف عن
جرحه، ثم شكاه إلى الغربان والرّخم».
ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأوّل في الشيء تأويلا وقضى
فيه بأمر، فتعتقده اتّباعا له، ولا ترتاب أنه على ما قضى
وتأوّل، وتبقى على ذلك الاعتقاد الزّمان الطويل، ثم يلوح لك ما
تعلم به أن الأمر على خلاف ما قدّر. ومثال ذلك أن أبا القاسم
الآمديّ، ذكر بيت البحتري: [من البسيط]
فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق ... وحاك ما حاك من وشي وديباج «2»
ثم قال «3»: «صوغ الغيث وحوكه للنبات ليس باستعارة، بل هو
حقيقة، ولذلك لا يقال: «هو صائغ» ولا «كأنه صائغ»، وكذلك لا
يقال: «هو حائك»
__________
(1) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (2/ 262) من قصيدة
قالها بالكوفة يرثي أبا شجاع فاتك ويذكر مسيره من مصر.
ومطلعها:
حكام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على خف ولا قدم
ولا يحس بأجفان يحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لم ينم
تشك: أي تتشكى. الرخم: اسم طائر.
(2) الديوان (1/ 387) يمدح إسحاق بن كنداج.
(3) أي الآمدي صاحب كتاب الموازنة (1/ 497 - 498) طبعة دار
المعارف.
(1/361)
و «كأنّه حائك»، قال: «على أن لفظ «حائك»
في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه أبو تمام في قوله: [من
الطويل]
إذا الغيث غادى نسجه خلت أنّه ... خلت حقب حرس له وهو حائك «1»
قال: وهذا قبيح جدّا».
والذي قاله البحتري: «فحاك ما حاك»، حسن مستعمل، والسبب في هذا
الذي قاله أنه ذهب إلى أنّ غرض أبي تمّام أن يقصد «بخلت» إلى
«الحوك»، وأنه أراد أن يقول: «خلت الغيث حائكا»، وذلك سهو منه،
لأنه لم يقصد «بخلت» إلى ذلك، وإنما قصد أن يقول: إنّه يظهر في
غداة يوم من حوك الغيث ونسجه بالذي ترى العيون من بدائع
الأنوار وغرائب الأزهار، ما يتوهّم معه أن الغيث كان في فعل
ذلك وفي نسجه وحوكه، حقبا من الدهر. فالخيلولة واقعة على كون
زمان الحوك حقبا، لا على كون ما فعله الغيث حوكا، فاعرفه.
وممّا يدخل في ذلك ما حكي عن الصّاحب من أنه قال: «كان الأستاذ
أبو الفضل «2» يختار من شعر ابن الرومي وينقّط عليه، قال فدفع
إليّ القصيدة التي أوّلها:
[من الطويل] أتحت ضلوعي جمرة تتوقّد «3» وقال: تأمّلها
فتأمّلتها، فكان قد ترك خير بيت فيها، وهو: [من الطويل]
بجهل كجهل السّيف والسّيف منتضى ... وحلم كحلم السّيف والسّيف
مغمد «4»
فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعلّ القلم تجاوزه؟»
قال: «ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّا من تركه. قال: إنما
تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. قال الصاحب: لو لم يعده أربع
مرّات فقال: «بجهل كجهل السيف وهو منتضى، حلم كحلم السيف وهو
مغمد»، لفسد البيت.
__________
(1) البيت في ديوانه (211) من قصيدة في مدح أبي سعيد محمد بن
يوسف الثغري، ومطلعها:
قرى دارهم الدموع السوافك ... وإن عاد صبحي بعدهم وهو حالك
وإن بكرت في ظعنهم وحدوجهم ... زيانب من أحبابنا وعواقك
الحقبة: مدة من الدهر، الحرس: الدهر.
(2) يعني ابن العميد. والصاحب يعني ابن عباد. و «ينقط عليه»
يضع نقطة علامة على اختياره.
(3) (الديوان 2/ 484).
(4) هو في ديوانه القصيدة في (584).
(1/362)
والأمر كما قال الصاحب، والسبب في ذلك أنك
إذا حدّثت عن اسم مضاف، ثم أردت أن تذكر المضاف إليه، فإن
البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر ولا تضمره.
تفسير هذا أنّ الذي هو الحسن الجميل أن تقول: «جاءني غلام زيد
وزيد»، ويقبح أن تقول: «جاءني غلام زيد وهو»، ومن الشاهد في
ذلك قول دعبل: [من البسيط]
أضياف عمران في خصب وفي سعة ... وفي حباء وخير غير ممنوع
وضيف عمرو وعمرو يسهران معا، ... عمرو لبطنته والضّيف للجوع
«1»
وقول الآخر: [من الطويل]
وإن طرّة راقتك فانظر، فربّما ... أمر مذاق العود والعود أخضر
«2»
وقول المتنبي
بمن نضرب الأمثال أم من نقيسه ... إليك، وأهل الدّهر دونك
والدّهر «3»
ليس بخفيّ على من له ذوق أنه لو أتى موضع الظّاهر في ذلك كله
بالضمير فقيل: «وضيف عمرو وهو يسهران معا»، و «ربّما أمرّ مذاق
العود وهو أخضر»، و «أهل الدهر دونك وهو»، لعدم حسن ومزيّة لا
خفاء بأمرهما، وليس لأن الشعر ينكسر، ولكن تنكره النفس.
وقد يرى في بادئ الرأي أن ذلك من أجل اللّبس، وأنك إذا قلت:
«جاءني غلام زيد وهو»، كان الذي يقع في نفس السامع أن الضمير
للغلام، وأنك على أن تجيء له بخبر، إلّا أنه لا يستمرّ، من حيث
أنّا نقول: «جاءني غلمان زيد وهو»، فتجد الاستنكار ونبوّ
النفس، مع أن لا لبس مثل الذي وجدناه. وإذا كان كذلك، وجب أن
يكون السبب غير ذلك.
__________
(1) البيتان في الكامل للمبرد (3/ 4) وهما منسوبان لدعبل.
(2) البيت بلا نسبة في أسرار البلاغة (118)، وطرّة الجارية: أن
يقطع لها في مقدم ناصيتها كالعلم أو كالطرة تحت التاج، تتجمل
به.
(3) البيت في ديوانه (1/ 108) وهو آخر بيت في قصيدة يمدح بها
عبد الله بن يحيى البحتري، ومطلعها:
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بقي برود وهو في كبدي جمر
أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة ... وذيا الذي قلته البرق
أم ثغر
(1/363)
والذي يوجبه التأمل أن يردّ إلى الأصل الذي
ذكره الجاحظ: من أنّ سائلا سأل عن قول قيس بن خارجة: «عندي قرى
كلّ نازل، ورضى كلّ ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن
تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى فيها من التقاطع»، فقال:
أليس الأمر بالصّلة هو النهي عن التقاطع؟ قال فقال أبو يعقوب:
أما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح
والتكشيف»، وذكرت هناك أن هذا الذي ذكر، من أن للتصريح عملا لا
يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:
105]، وقوله:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 -
2]، عمل لولاها لم يكن. وإذا كان هذا ثابتا معلوما، فهو حكم
مسألتنا.
ومن البيّن الجليّ في هذا المعنى وهو كبيت ابن الروميّ سواء،
لأنه تشبيه مثله بيت الحماسة: [من الهزج]
شددنا شدّة اللّيث ... غدا واللّيث غضبان «1»
ومن الباب قول النابغة: [من الرجز]
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما «2»
لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار، وأن له موقعا في
النفس، وباعثا للأريحية، لا يكون إذا قيل: «نفس عصام سودته»
شيء منه البتّة.
«تم الكتاب» «في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمسمائة
غفر الله لكاتبه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات برحمته
إنه أرحم الراحمين وخير الغافرين»
__________
(1) للفند الزماني (شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 1/ 13). وله
رواية أخرى «مشينا مشية الليث».
(2) البيت في ديوانه (69) في المدائح والاعتذاريات وهو أول
بيتين مفردين في الديوان وثانية:
وصيرته ملكا هماما ... حتى علا وجاوز الأقواما
نفس عصام: نفس شرفت بذاتها فنالت العلى بكدها واجتهادها. الكر:
القتال والمواجهة والإقدام.
(1/364)
|