رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن
الكريم 10- ملاحق
البحث:
الملحق الأول: قبسات من الإبانة في
سبب اختلاف القراءة
وفيه أُورد ما ذكره مكي بن أبي طالب في كتابه "الإبانة عن
معاني القراءات"1 في سبب اختلاف القراءة فيما يحتمله خط
المصحف.
وسنرى مكيًّا يرجع ذلك إلى أن الصحابة -رضوان الله عليهم-
قرءوا القرآن بما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعلّمهم إياه، وكان الصحابي لا ينكر على أخيه قراءة تتخالف هي,
وقراءته لقوله عليه الصلاة والسلام: "نزل القرآن على سبعة
أحرف، كل شافٍ كافٍ".
ولما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفرّق الصحابة في
الأمصار، يفقّهون الناس في الدين، ويقرءونهم القرآن، أقرأ كل
واحد منهم أهل مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي، وعلى ما
تلقاه عنه، فاختلفت قراءة أهل الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة
الصحابة الذين علموهم، وتلقوا عنهم.
فلما وجهت إليهم المصاحف التي كتبها عثمان, وكانت خالية من
النقط والشكل, قرأ أهل كل مصر مصحفهم على ما كانوا يقرءون قبل
وصول المصاحف إليهم، وكانت قراءتهم متصلة السند بالصحابة الذين
تلقوا عن الرسول ... إلى جانب أنها لا تختلف مع خط المصحف ...
هذا هو التفسير الصحيح لاختلاف القراءات، ومن ذلك التفسير
يتبين أن القراءات المتخالفة سابقة لرسم المصحف، وأن الصحابة
ومن تلقى عنهم من أهل الأمصار قرءوا المصاحف التي وجهت إليهم
على حسب ما تلقوه متصلًا سنده بالرسول، واختلفت قراءة أهل كل
مصر عن الآخرين من أجل ذلك؛ لأنهم تخالفوا بسبب خلو المصاحف من
النقط والشكل ...
وإليك ما قاله مكي في هذا الموضوع، قال2:
فإن سأل سائل: ما السبب الذي أوجب أن تختلف القراءة فيما يحتمل
__________
1 حقّقه المؤلف ونشرته مكتبة نهضة مصر، سنة 1379هـ, 1960م.
2 ص14.
(1/87)
خط المصحف، فقرءوا بألفاظ مختلفة في السمع
والمعنى واحد, نحو: جذوة وجذوة وجذوة1, وقرءوا بألفاظ مختلفة
في السمع وفي المعنى, نحو: يسيركم، وينشركم2, وكل ذلك لا يخالف
الخط في رأي العين؟
فالجواب عن ذلك: أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان قد تعارف
بينهم من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الإنكار على من
خالفت قراءته قراءة الآخر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"أنزل القرآن على سبعة أحرف, فاقرءوا بما شئتم".
ولقوله: "نزل القرآن على سبعة أحرف، كل شاف كاف".
ولإنكاره -صلى الله عليه وسلم- على من تمارى في القرآن.
والأحاديث كثيرة، سأذكر منها طرفًا في آخر هذا الكتاب, إن شاء
الله.
فكان كل واحد منهم يقرأ كما عُلِّم, وإن خالف قراءة صاحبه؛
لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا كما علمتم".
وحديث عمر3 مع هشام بن حكيم4 مشهور، إذ تخاصم معه إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- في قراءة سمعه يقرؤها، فأنكرها عمر عليه،
وقاده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ملبَّبًا بردائه5,
فاستقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كل واحد منهما، فقال له:
"أصبت"، ثم قال:
"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف, فاقرءوا بما شئتم".
فكانوا يقرءون بما تعلموا، ولا ينكر أحد على أحد قراءته.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وجّه بعضهم إلى البلدان؛
ليعلموا الناس القرآن والدين.
__________
1 في قوله تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ
جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: آية
29] .
وقرأ عاصم: {جَذْوَةٍ} بفتح الجيم، وقرأ حمزة وخلف بضمها،
والباقون بكسرها, وهي لغات ثلاث في الفاء كالرشوة والربوة.
"إتحاف فضلاء البشر: 342".
2 في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ} [يونس: آية 22] .
قرأ ابن عامر وأبو جعفر: "ينشركم" من النشر ضد الطي أي:
يفرقكم، والباقون {يُسَيِّرُكُمْ} أي: يحملكم على السير,
ويمكنكم منه "الإتحاف: 248".
3 عمر بن الخطاب, ثاني الخلفاء الراشدين.
4 هشام بن حكيم صحابي, لم يترجم له ابن الجزري في طبقات
القراء.
5 جمع ثيابه عند نحره, ثم جره مخاصما له.
(1/88)
ولما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج
جماعة من الصحابة في أيام أبي بكر1 وعمر إلى ما افتُتح من
الأمصار؛ ليعلموا الناس القرآن والدين، فعلم كل واحد منهم أهل
مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
فاختلفت قراءة أهل الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة الصحابة
الذين علّموهم.
فلما كتب عثمان المصاحف وجّهها إلى الأمصار2 وحملهم على ما
فيها، وأمرهم بترك ما خالفها، قرأ أهل كل مصر مصحفهم الذي وجه
إليهم على ما كانوا يقرءون قبل وصول المصحف إليهم, مما يوافق
خط المصحف، وتركوا من قراءتهم التي كانوا عليها ما يخالف خط
المصحف، فاختلفت قراءة أهل الأمصار لذلك بما لا يخالف الخط،
وسقط من قراءتهم كلهم ما يخالف الخط.
ونقل ذلك الآخر عن الأول في كل مصر، فاختلف النقل لذلك، حتى
وصل النقل إلى هؤلاء الأئمة السبعة على ذلك، فاختلفوا فيما
نقلوا على حسب اختلاف أهل الأمصار، لم يخرج واحد منهم عن خط
المصحف فيما نقل، كما لم يخرج واحد من أهل لأمصار عن خط المصحف
الذي وجه إليهم.
فلهذه العلة اختلفت رواية القراء فيما نقلوا، واختلفت أيضًا
قراءة من نقلوا عنه لذلك.
واحتاج كل واحد من هؤلاء القراء أن يأخذ مما قرأ ويترك؛ فقد
قال نافع:
قرأت على سبعين من التابعين، فما اجتمع عليه اثنان أخذته، وما
شك فيه واحد تركته, حتى اتبعت هذه القراءة.
وقد قرأ الكسائي على حمزة، وهو يخالفه في نحو ثلاثمائة حرف؛
لأنه قرأ على غيره3، فاختار من قراءة حمزة ومن قراءة غيره
قراءة، وترك منها كثيرًا.
وكذلك أبو عمرو قرأ على ابن كثير، وهو يخالفه في أكثر من ثلاثة
آلاف حرف؛ لأنه قرأ على غيره4، واختار من قراءته ومن قراءة
غيره قراءة.
فهذا سبب الاختلاف الذي سألت عنه.
__________
1 أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أول الخلفاء الراشدين "رضوان
الله عليهم أجمعين".
2 البصرة، والكوفة، ومكة، والشام، واليمن، والبحرين، وأمسك
لنفسه مصحفًا الذي يقال له: الإمام "النشر: 1/ 8".
3 الإبانة عن معاني القراءة لمكي ص55، المكتبة الفيصلية.
4 المصدر السابق ص55.
(1/89)
الملحق الثاني:
مقتبسات تتصل بموضوعات البحث من الإبانة
وأورد فيه أسئلة ثلاثة ذكرها مكي بن أبي طالب في كتاب
"الإبانة" وأجاب عنها ... وهذه الأسئلة وأجوبتها تتصل بموضوع
هذا الكتاب الاتصال الوثيق.
وها هي ذي الأسئلة الثلاثة:
ما الذي يقبل من القراءات الآن فيقرأ به؟
وما الذي لا يقبل، ولا يقرأ به1؟
وما الذي يقبل ولا يقرأ به؟
قال مكي في الإجابة عن هذه الأسئلة: إن جميع ما روي من
القراءات, على ثلاثة أقسام:
1- قسم يقرأ به اليوم، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وهي:
أ- أن ينقل عن الثقات إلى النبي, صلى الله عليه وسلم.
ب- ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعًا.
جـ- ويكون موافقًا لخط المصحف.
فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به، وقطع على مغيبه
وصحته وصدقته؛ لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقته لخط المصحف،
وكفر من جحده.
2- والقسم الثاني: ما صح نقله في الآحاد، وصح وجهه في العربية،
وخالف لفظه خط المصحف.
فهذا يقبل، ولا يقرأ به لعلتين:
إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماع، إنما أخذ بأخبار الآحاد، ولا
يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد.
__________
1 الإبانة: ص18.
(1/90)
والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع
عليه، فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا تجوز
القراءة به، ولا يكفر من جحده, وبئس ما صنع إذ جحده.
3- والقسم الثالث: هو ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة, ولا وجه
له في العربية.
فهذه لا يقبل وإن وافق خط المصحف. ولكل صنف من هذه الأقسام
تمثيل تركنا ذكره اختصارًا1.
وقد قال إسماعيل القاضي في كتاب القراءات له:
إن عمر بن الخطاب قرأ: "غير المغضوب عليهم وغير الضالين"2.
قال: وهذا -والله أعلم- ما جاء: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
ثم قال إسماعيل: لأن هذا -وإن كان في الأصل جائزًا- فإنه إذا
فعل ذلك رغب في اختيار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- حين
اختاروا أن يجمعوا الناس على مصحف واحد؛ مخافة أن يطول بالناس
زمان، فيختلفوا في القرآن.
ثم قال إسماعيل: فإذا اختار الإنسان أن يقرأ ببعض القراءات
التي رويت مما يخالف خط المصحف, صار إلى أن يأخذ القراءة
برواية واحد عن واحد، وترك ما تلقته الجماعة عن الجماعة،
والذين هم حجة على الناس كلهم, يعني خط المصحف.
قال إسماعيل: وكذلك ما روي من قراءة ابن مسعود, وغيره ليس لأحد
أن يقرأ اليوم به, يعني مما يخالف خط المصحف من ذلك3.
__________
1 تمثيل لقراءة صح نقلها في الآحاد وصح وجهها في العربية،
وخالف لفظها خط المصحف, كقراءة عمر بن الخطاب: "غير المغضوب
عليهم وغير الضالين".
تمثيل ما نقله غير ثقة: "ذلك الكتاب لا زيت فيه" "انظر الفهرست
لابن النديم".
تمثيل ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية, وإن وافق خط المصحف,
كإسكان {بَارِئِكُمْ} ، و {يَأْمُرُكُمْ} ونحوه "انظر النشر:
1/ 10".
2 سورة الفاتحة: آية 7.
3 مثل قراءة ابن مسعود: "إن الله لا يظلم مثقال نملة". "انظر
المصاحف للسجستاني: 54".
(1/91)
قال إسماعيل: لأن الناس لا يعلمون أنها
قراءة عبد الله، وإنما هي شيء يرويه بعض من يحمل الحديث, يعني:
أن ما خالف خط المصحف من القراءات فإنما يؤخذ بأخبار الآحاد،
وكذا ما وافق خط المصحف الذي هو يقين إلى ما يخالف خطه, مما لا
يقع على صحته.
قال إسماعيل: فإن جرى شيء من ذلك على لسان من غير أن يقصد له,
كان له في ذلك سعة، إذا لم يكن معناه يخالف معنى خط المصحف
المجمع عليه. ويدخل ذلك في معنى ما جاء: أن القرآن أنزل على
سبعة أحرف.
قلت: فهذا كله من قول إسماعيل يدل على أن القراءات التي وافقت
خط المصحف هي من السبعة الأحرف كما ذكرنا، وما خالف خط المصحف
أيضًا هو من السبعة إذا صحت روايته ووجهه في العربية، ولم يضاد
معنى خط المصحف, لكن لا يقرأ به؛ إذ لا يأتي إلا بخبر الآحاد،
ولا يثبت قرآن بخبر الآحاد، وإذ هو مخالف للمصحف المجمع عليه.
فهذا الذي نقول به ونعتقده، وقد بيناه كله.
(1/92)
الملحق الثالث:
أمثلة لاختلاف القراءة في سورة الحمد من الإبانة لمكى بن أبي
طالب القيسى
وأورد فيه ما ذكره مكي بن أبي طالب من أمثلة لاختلاف القراء في
سورة الفاتحة، وقد جعل ذلك في ثلاثة أقسام:
قسم ذكر فيه اختلاف القراء السبعة مما يقرأ به, ويوافق الخط.
وقسم ثانٍ ذكر فيه اختلاف الأئمة المشهورين غير السبعة في سورة
الحمد, مما يوافق المصحف ويقرأ به.
وقسم ثالث ذكر فيه اختلاف الأئمة المشهورين غير السبعة في سورة
الحمد, مما يخالف خط المصحف, فلا يقرأ به.
والحديث عن هذه الأقسام قوي الصلة بموضوع هذا البحث كما ترى.
وإليك ما أورده مكي من التمثيل لهذه الأقسام:
أولًا: ذكر اختلاف القراء السبعة المشهورين في سورة الحمد، مما
قرأت به، ويوافق الخط 1:
قرأ عاصم والكسائي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بألف.
وقرأ باقي القراء: "ملك" بغير ألف.
وقرأ ابن كثير في رواية قنبل2 عنه: "السراط" و"سراط" بالسين.
وقرأه حمزة في رواية خلف3 عنه: {الصِّرَاطَ} بين الصاد والزاي.
__________
1 الإبانة: ص73.
2 هو محمد بن عبد الرحمن أبو عمر المخزومي, مولاهم المكي
الملقب بقنبل, شيخ القراء بالحجاز. ولد سنة خمس وتسعين ومائة،
وأخذ القراءة عرضًا عن أحمد بن محمد بن عون النبال، وهو الذي
خلفه في القيام بها بمكة, روى القراءة عن البزي، وممن روى عنه
أحمد بن موسى بن مجاهد، واختلف في سبب تلقيبه قنبلًا، فقيل:
اسمه، وقيل: لأنه من بيت بمكة يقال لهم: القنابلة، وقيل:
لاستعماله دواء يقال له: قنبيل فلما أكثر منه عرف به، وحذفت
الياء تخفيفًا, وقد انتهت إليه رياسة الإقراء بالحجاز, مات سنة
إحدى وتسعين ومائتين عن ست وتسعين سنة "طبقات القراء: 2/ 166".
3 هو خلف بن هشام أبو محمد الأسدي, أحد القراء العشرة، وأحد
الرواة عن سليم عن حمزة. ولد سنة خمس ومائة، ومات سنة تسع
وعشرين ومائتين ببغداد "طبقات القراء: 1/ 272-274".
(1/93)
وقرأ ذلك باقي القراء بالصاد خالصة.
قرأ حمزة: "عليهُم" بضم الهاء.
وكسرها باقي القراء.
قرأ ابن كثير والحواني1 عن قالون2 عن نافع: "عليهمُ" بضم
الميم، ويصلانها بواو في الوصل خاصة.
وأسكنها باقي القراء.
قرأ أبو عمرو: "الرحيم مّلك" بالإدغام.
باقي القراء بالإظهار.
فهذا ما اختلف فيه القراء السبعة المشهورون في هذه السورة مما
قرأت به.
ثانيًا: ذكر اختلاف الأئمة المشهورين غير السبعة في سورة الحمد
مما يوافق المصحف، ويقرأ به:
ولما قرأ به إبراهيم بن أبي عبلة3: "الحمد لله" بضم اللام
الأولى.
وقرأ الحسن البصري4: "الحمدِ لله" بكسر الدال.
وفي القراءتين بعد في العربية، ومجازها الإتباع.
قرأ أبو صالح5: "مالكَ يوم الدين" بألف، والنصب على النداء.
__________
1 هو أحمد بن يزيد بن أزداذ الأستاذ أبو الحسن الحلواني, إمام
كبير عارف صدوق متقن ضابط, خصوصًا في قالون وهشام. توفي سنة
نيف وخمسين ومائتين "طبقات القراء: 149".
2 قالون هو عيسى بن مينا بن وردان.
3 اسمه شمر بن يقظان الشامي الدمشقي, ثقة تابعي, أخذ القراءة
عن أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت يحيى الأوصابية، وروى عنه مالك
بن أسن وخلق. توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة "طبقات القراء: 1/
19".
4 هو الحسن بن أبي الحسن يسار, أبو سعيد البصري. وروى عنه أبو
عمرو بن العلاء، توفي سنة 110 عن تسعين سنة "طبقات القراء: 1/
235".
5 هو محمد بن عمير بن الربيع, أبو صالح الهمذاني الكوفي
القاضي, مقرئ عارف بحرف حمزة. طال عمره وبقي إلى حدود عشر
وثلاثمائة.
(1/94)
وكذلك قرأ محمد بن السميفع اليماني1، وهي
قراءة حسنة.
وقرأ شريح بن يزيد الحضرمي أبو حيوة2: "ملكَ يوم الدين" بالنصب
على النداء من غير ألف.
وقرأ علي بن أبي طالب: "ملَكَ يومَ الدين" بنصب اللام والكاف،
ونصب "يوم" جعله فعلًا ماضيًا.
وروى عبد الوارث3 عن أبي عمرو أنه قرأ: "ملْك يوم الدين"
بإسكان اللام والخفض، ولم أقرأ بذلك له، وهي قراءة منسوبة إلى
عمر بن عبد العزيز, رضي الله عنه.
قرأ عمر بن فايد الأسواري4: "إيَاك نعبد وإيَاك نستعين" بتخفيف
الياء فيهما.
وقد كره ذلك بعض المتأخرين لموافقته لفظه لفظ إيا الشمس، وهو
ضياؤه.
وقرأ يحيى بن وثاب5: "نِستعين" بكسر النون، وهي لغة6 مشهورة
حسنة.
وروى الخليل بن أحمد7 عن ابن كثير أنه قرأ: "غيرَ المغضوب"
بالنصب, ونصبه حسن على الحال، أو على الاستثناء، أو على الصفة
من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
__________
1 هو محمد بن عبد الرحمن, كان من أفصح العرب. قرأ على أبي حيوة
شريح بن يزيد, وقيل: إنه قرأ على نافع "طبقات القراء: 2/ 162".
2 الحمصي مقرئ الشام وهو والد حيوة بن شريح الحافظ، روى
القراءة عن الكسائي، مات سنة 203 "طبقات القراء: 325".
3 هو عبد الوارث بن سعيد بن العنبري مولاهم البصري، إمام حافظ
مقرئ ثقة, ولد سنة 102 وعرض القرآن على أبي عمرو، ومات 180هـ.
4 هو عمر بن عيسى بن فايد البغدادي, روى القراءة عرضًا عن
إدريس الحداد "انظر طبقات القراء: 1/ 195".
5 يحيى بن وثاب الأسدي مولاهم الكوفي, تابعي ثقة كبير من
العباد الأعلام، وكان حسن القراءة, مات سنة 103 "طبقات القراء:
20/ 380".
6 وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة "انظر البحر المحيط: 23".
7 الخليل بن أحمد أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي البصري
النحوي, الإمام المشهور صاحب العروض وكتاب العين. مات سنة 170
"طبقات القراء: 1/ 275", وانظر إعراب "غيرَ" بالنصب على ما
رواه الخليل "في البحر المحيط: 1/ 29".
(1/95)
قرأ أيوب السختياني1: "ولا الضأَلين" بهمزة
مفتوحة في موضع الألف, هَمَز وحرَّك لالتقاء الساكنين، وهو
قليل في كلام العرب2.
وهذا كله موافق لخط المصحف، والقراءة به ممن رواه عن الثقات
جائزة؛ لصحة وجهه في العربية، وموافقته الخط إذا صح نقله.
ثالثًا: ذكر اختلاف الأئمة المشهورين غير السبعة في سورة الحمد
مما يخالف خط المصحف، فلا يقرأ به اليوم
قرأ أبو هريرة.3: "مليك يوم الدين" بياء بين اللام والكاف، وهو
معنى حسن؛ لأنه بناء للمبالغة، فهو أبلغ في الوصف والمدح من:
"ملك" ومن {مَالِكِ} .
قرأ ابن السوار4 الغنوي: "هياك نعبد وهياك نستعين" بالهاء في
موضع الهمزة، وهي لغة قليلة، أكثر ما تقع في الشعر.
روى الأصمعي5 عن أبي عمرو6 أنه قرأ: "الزراط" بزاي خالصة، وهو
حسن في العربية.
__________
1 الأصل السجستاني, ولم يرد في طبقات القراء سجستاني اسمه
أيوب. وقد أورد ابن الجزري أيوب السختياني من القراء "انظر
طبقات القراء: 1/ 322" كما أورده بهذا اللقب في النشر: 1/ 47،
عند نقله كلام مكي في الإبانة.
2 قال ابن الجزري في كتابه النشر: "كذا اقتصر مكي على نسبة هذه
القراءات لمن نسبها إليه، وقد وافقهم عليها غيرهم، وبقيت
قراءات أخرى عن الأئمة المشهورين في الفاتحة توافق خط المصحف،
وحكمها حكم ما ذكر. ذكرها الإمام الصالح الولي أبو الفضل
الرازي في كتاب اللوامع له, وأورد ابن الجزري ما ذكره الرازي"
"انظر النشر: 1/ 47 و48".
3 هو عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة الدوسي الصحابي الكبير, أخذ
القرآن عرضًا عن أبي بن كعب، وإليه تنتهي قراءة أبي جعفر
ونافع، توفي سنة سبع وقيل: سنة ثمانٍ وله ثمانٍ وسبعون سنة.
"طبقات القراء: 1/ 470".
4 في الأصل أبو البرار, والتصويب من البحر المحيط: 1/ 23.
5 هو عبد الملك بن قريب أبو سعيد الأصمعي الباهلي البصري, إمام
اللغة وأحد الأعلام فيها وفي العربية والشعر والأدب. روى
القراءة عن نافع وأبي عمرو والكسائي, مات سنة 215 عن إحدى
وتسعين سنة "طبقات القراء: 1/ 470".
6 هو أبو عمرو بن العلاء, أحد القراء السبعة.
(1/96)
قرأ الحسن البصري1: "اهدنا صراطًا
مستقيمًا" منونتين من غير ألف ولام فيهما, وبذلك قرأ الضحاك2,
وهو معنى حسن لولا مخالفته للمصحف.
قرأ جعفر بن محمد رضي الله عنه: "اهدنا صراطَ المستقيمِ"
بإضافة {الصِّرَاطَ} إلى {الْمُسْتَقِيمَ} من غير ألف ولام في
الصراط, وهو جائز في العربية كدار الآخرة.
قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "صراط مَنْ أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم وغير الضالين" فجعل "من" في موضع {الَّذِينَ}
و"غير" في موضع {لَا} , وهو في المعنى حسن كالذي قرأ الجماعة
في المعنى، وهو مروي أيضًا عن أبي بكر رضي الله عنهما.
قرأ ابن مسعود3: "أرشدنا الصراط" في موضع {اهْدِنَا} والمعنى
واحد.
قرأ ثابت البناني4: "بصِّرنا الصراط" في موضع {اهْدِنَا}
والمعنى واحد.
قرأ ابن الزبير5: "صراط مَنْ أنعمت عليهم" مثل قراءة عمر في
هذا الحرف وحده.
قلت: وهذا الاختلاف الذي يخالف خط المصحف وما جاء منه، مما هو
زيادة على خط المصحف، أو نقصان من خط المصحف، وتبديل لخط
المصحف -وذلك كثير جدا- هو الذي سمع حذيفة في المغازي، وسمع رد
الناس بعضهم على بعض، ونكير بعضهم لبعض، فجرّأه ذلك على إعلام
عثمان رضي الله عنه، وهو الذي حَدَا عثمان على جمع الناس على
مصحف واحد؛ ليزول ذلك الاختلاف فافهمه.
__________
1 هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري, إمام زمانه
علمًا وعملًا، روى عنه أبو عمرو بن العلاء وغيره. ولد سنة إحدى
وعشرين, توفي سنة عشر ومائة. "طبقات القراء: 1/ 315".
2 وكذلك قرأها عن الحسن, زيد بن علي ونصر بن علي, كقوله:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ
اللَّهِ} "البحر المحيط: 1/ 26". والضحاك هو ابن مزاحم
التابعي, سمع سعيد بن جبير، توفي سنة 105هـ "انظر طبقات
القراء: 1/ 337".
3 هو عبد الله بن مسعود.
4 هو ثابت بن أسلم أبو محمد البناني المصري، وردت عنه الرواية
في حروف من القرآن العظيم، توفي سنة سبع وعشرين ومائة "طبقات
القراء: 1/ 188".
5 هو عبد الله بن الزبير بن العوام.
(1/97)
قال أبو محمد: فهذا لا يجوز اليوم لأحد أن
يقرأ به؛ لأنه إنما نُقل إلينا بخبر الواحد عن الواحد، ولا
يقطع على صحة ذلك ولا على غيبه, وهو مخالف لخط المصحف الذي
عليه الإجماع، ويقطع على صحته وعلى غيبه، فخط المصحف أولى؛
لأنه يقين والخبر غير يقين، فلا يحسن أن ينتقل عن اليقين إلى
غير يقين.
وقد بيّنّا هذا من قول إسماعيل القاضي وغيره.
فهذا المثال من الاختلاف الثالث هو الذي سقط العمل به من
الأحرف السبعة, التي نص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو
الأكثر في القرآن عن الاختلاف.
وإنما قرئ بهذه الحروف التي تخالف المصحف قبل جمع عثمان -رضي
الله عنه- الناس على المصحف، فبقي ذلك محفوظًا في النقل, غير
معمول به عند الأكثر؛ لمخالفته للخط المجمع عليه.
(1/98)
الملحق الرابع: دفع
شبهات أثارها المغرضون
وأرجو أن أدفع في هذا الملحق بعض الشبهات التي أثارها المغرضون
حول كتابة المصحف، واتخذوها دليلًا لهم على وقوع اللحن في
القرآن، ووسيلة إلى الطعن في كتاب الله. أثاروا هذا حول ما
رواه سعيد بن جبير من أنه قال:
في القرآن أربعة أحرف لحنا: "والصابئون"1، {وَالْمُقِيمِينَ}
2، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} 3، "وإنّ هذان
لساحرانِ"4.
كما أثاروا نحو ذلك حول ما يروى من أنه "لما فرغ من المصحف أتي
به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم، وأجملتم، أرى فيه شيئًا من
لحن ستقيمه العرب بألسنتها"5.
وهذه الشبهات التي أثاروها مردودة بأمور: أولًا: المعنى اللغوي
لكلمة اللحن.
فاللحن: اللغة، والقراءة. قال عمر رضي الله عنه: "إنا لنرغب عن
كثير من لحن أُبي"، يعني: لغة أبي6.
وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "أُبي أقرأنا، وإنا لندع بعض
لحنه" أي: قراءته7.
ثانيًا: قياس العربية يصحح تلاوة هذه الكلمات بما رسمت به.
أ- فلا خطأ في قراءة {وَالصَّابِئُونَ} بالرفع كما رسمت في
المصاحف, فالصابئون رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنية به
التأخير عما في حيز إن
__________
1 في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} سورة 5، آية 69.
2 في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} سورة 4، آية 162.
3 سورة 63، آية 10 في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
4 سورة 20، آية 63.
5 المصاحف لأبي داود السجستاني: 32.
6 المصاحف: 32.
7 المقنع للداني: 128.
(1/99)
من اسمها وخبرها كأنه قيل: إن الذين آمنوا
والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا, والصابئون كذلك1.
وأنشد سيبويه شاهدًا له:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق2
أي: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك.
ومثله: فإني وقيار بها لغريب.
أي: فإني لغريب وقيار بها كذلك3.
ب- أما قراءة {وَالْمُقِيمِينَ} بالياء, فلها وجه من سنن
العربية والتوجيه الإعرابي؛ فهو منصوب على المدح بتقدير: أعني
المقيمين؛ وذلك لأن العرب تنصب على المدح عند تكرار العطف
والوصف. قال الخرنق:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة، وآفة الجزر
النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأرز
فنصب الطيبين على المدح، فكأنها قالت: أعني الطيبين4.
قال الشاعر:
إلى الملك القرم، وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور ... بذات الصليل، وذات اللجم5
فنصب ذا الرأي على المدح6.
قالوا: والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته؛ إذا تطاولت
بمدح
__________
1 تفسير الكشاف: 1/ 354.
2 الكتاب: 1/ 290.
3 انظر إعراب القرآن للعكبري: ص124.
4 الإنصاف في مسائل الخلاف: ص276.
5 القرم: المعظم, والمزدحم: ميدان القتال حيث يزدحم الشجعان.
تغم الأمور: تظلم. الصليل: صوت الحديد. وذات الصليل: كتيبة من
الرجالة يصل حديد سلاحها. وذات اللجم: كتيبة من الفرسان.
6 الإنصاف في مسائل الخلاف: 276، وتفسير الطبري: 2/ 353.
(1/100)
أو ذم؛ خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه
أحيانًا، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله, وربما أجروا إعراب
آخره على إعراب أوسطه، وربما أجروا ذلك على نوع واحد من
الإعراب1.
وقد يكون موضع المقيمين في الإعراب خفضا على "ما" التي في
قوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ} , ويؤمنون بالمقيمين الصلاة2, والمقيمون الصلاة
هم الملائكة، قالوا: وإقامتهم الصلاة تسبيحهم ربهم واستغفارهم
لمن في الأرض. فمعنى الكلام: والمؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل
من قبلك، وبالملائكة3.
جـ- وأما قراءة: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
بجزم "أكن" فله وجه من الإعراب، ذلك أنه محمول على المعنى,
والتقدير: إن أخرتني أكن4.
د- وأما "إنّ هذان لساحران" فلا يلتفت لطعن الطاعن فيها؛ فهي
قراءة متواترة قرأ بها نافع، وابن عامر، وأبو بكر، وحمزة،
والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف5، على أن لها وجهًا فصيحًا
في العربية، ذلك هو إلزام المثنى الألف في جميع حالاته، ومنه
قول الشاعر العربي:
واها لسلمى ثم واها واها ... يا ليت عيناها لها وفاها
وموضع الخلخال من رجلاها ... بثمن يرضى به أباها
إن أباها، وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
وهذه لغة بني الحارث بن كعب، وقبائل أخر6.
وثالث الأمور التي نرد بها طعن الطاعنين: مكانة عثمان بن عفان
-رضي الله عنه- من الحفاظ على كتاب الله، ومحله من الدين،
ومكانه من الإسلام، وشدة اجتهاده في بذل النصيحة.
فهل يعقل أن يرى عثمان في المصحف لحنًا وخطأ ثم يتركه؛ ليتولى
من يأتي بعده تغييره؟!
__________
1 تفسير الطبري: 9/ 395، وإعراب القرآن للعكبري: 1/ 113.
2 انظر الإنصاف: 277، وتفسير الطبري: 9/ 396.
3 تفسير الطبري: 9/ 396، وانظر تفسير الكشاف: 1/ 313.
4 إعراب القرآن للعكبري: 2/ 138، وانظر تفسير الكشاف: 4/ 103.
5 إتحاف فضلاء البشر: 304.
6 شرح الأشموني: 1/ 143.
(1/101)
عثمان الذي تولى جمع المصحف مع سائر
الصحابة الأخيار، وتحرى في ذلك الدقة والأمانة وكمال الضبط؛
رغبة منه في جمع الأمة على مصحف إمام، فلا يقع اختلاف في
القرآن بينهم.... عثمان الذي هذا شأنه يرى في كتاب الله ثلمة
فيتركها ليسدها من بعدها؟
ثم، ما هذا التناقض الظاهر بين صدر النص: أحسنتم وأجملتم,
وآخره: أرى فيه شيئًا من لحن ...
كيف يصف نساخ المصحف بالإحسان والإجمال أولًا.... ثم يصف
المصحف الذي نسخوه بأن فيه لحنًا....؟ هل يقال للذين لحنوا في
المصحف: أحسنتم وأجملتم؟! 1 ألا إن مكانة عثمان ... والاضطراب
بين صدر النص وعجزه, كل هذا يدعونا إلى الاعتقاد بأن صدور ذلك
عن عثمان أمر بعيد عنه، مدسوس عليه.
__________
1 انظر المقنع للداني: 124؛ ومناهل العرفان: 380.
(1/102)
الملحق الخامس: هل
يلتزم رسم المصحف العثماني؟
هذا سؤال أجاب عنه بعض العلماء بالإيجاب، موجبين التزام الرسم
العثماني الذي جاء في المصحف الإمام، ورأوا أنه لا بد من
اتباعه والتقيد به.
وهناك فريق آخر رأى أنه يجوز كتابة المصحف بالرسوم الإملائية
المعروفة للناس.
ولزيادة الشرح والإيضاح، أقول: إن الفريق الأول يرى -مثلًا-
وجوب كتابة الكلمات الآتية كما وردت برسمها الآتي في المصحف
الإمام:
"ولا تقولن لشايء إني فاعل ذلك غدًا"1 بالكهف2.
"وأصحب لئيكة"3 في سورة ص4.
"وإيتائ ذي القربى"5 في النحل6.
"بأييكم المفتون"7 في سورة "ن"8.
"والسماء بنينها بأييد"9 بالذاريات10.
"سأوريكم ءايتي فلا تستعجلون"11 بالأنبياء12.
"ولأوضعوا خللكم"13 في براءة14.
يرى هذا الفريق التزام هذا الرسم، ويسوقون حججًا لما يرون؛
منها أن للرسم العثماني أسرارًا، فزيادة الياء -مثلًا- في رسم
كلمة "أييد" من قوله تعالى: {والسماء بنينها بأييد} يفسرها ما
جاء في البرهان للزركشي: "إنما
__________
1 شرح تلخيص الفوائد: 56.
2 آية: 23.
3 شرح تلخيص الفوائد: 75.
4 آية: 13.
5 شرح تلخيص الفوائد: 68.
6 آية: 90.
7 شرح تلخيص الفوائد: 68.
8 آية: 6.
9 شرح تلخيص الفوائد: 68.
10 آية: 47.
11 شرح تلخيص الفوائد: 70.
12 آية: 37.
13 شرح تلخيص الفوائد: 29.
14 آية: 47.
(1/103)
كتبت "بأييد" بياءين فرقًا بين "الأيد"
الذي هو القوة، وبين الأيدي "جمع" "يد". ولا شك أن القوة التي
بنى الله بها السماء هي أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي،
فزيدت الياء لاختصاص اللفظة بمعنى أظهر ... "1.
وزيادة الألف في: "لَأَاْذْبَحَنَّهُ"2 "وَلَأَوْضَعُوا
خِللَكُمْ"3 للتنبيه على أن المؤخر أشد في الوجود من المقدم
عليه لفظًا؛ فالذبح أشد من العذاب4، والإيضاع أشد فسادًا من
زيادة الخبال5.
وحذف الواو من قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} 6، {وَيَمْحُ
اللَّهُ الْبَاطِلَ} 7 للدلالة على سرعة وقوع الفعل وسهولته
على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود8.
- فعدم التزام الرسم عند هذا الفريق يضيع لمح هذه الأسرار، إلى
أن هذا الرسم توفيقي، وما دام كذلك فلا تجوز مخالفته.
- ويستشهد هذا الفريق كذلك بقول إمامين جليلين من أئمة
المذاهب: فقد سئل الإمام مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدث
الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.
والإمام أحمد بن حنبل يقول: "تحرم مخالفة خط عثمان في ياء أو
ألف أو واو أو غيره"9.
- ويقول هذا الفريق: إن الرسم العثماني يدل على القراءات
المتنوعة في الكلمة الواحدة، ولتوضيح رأيهم هذا أسوق المثل
الآتي:
رسمت: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} 10 هكذا: "يكاد السموات
ييفطران" من غير ضبط ولا نقط، فهي برسمها هكذا تحتمل قراءة
نافع والكسائي بالياء: "يكاد السموات".
__________
1 البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 387.
2 سورة النمل: آية: 21.
3 سورة التوبة: آية 47.
4 في قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} .
5 في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا
خَبَالًا} ، وانظر البرهان 1/ 381.
6 سورة الإسراء: آية 11.
7 سورة الشورى: آية 24.
8 مناهل العرفان: 368.
9 المحكم: 15.
10 سورة مريم: آية 90، والشورى: آية 5.
(1/104)
كما تحتمل قراءة الباقين من السبعة بالتاء:
{تَكَادُ} ، وقراءة حفص والكسائي: "تتفطّرن" بالتاء، وفتح
الطاء مشددة.
وقراءة الباقين بالنون وكسر الطاء مخففة1.
ويمضي هذا الفريق المحافظ إلى آخر الشوط، فيكره نقط المصاحف،
ورووا عن الإمام مالك أنه قال: "جردوا القرآن، ولا تخلطوه
بشيء". أو قال: "ولا تخلطوا به ما ليس منه، إني أخاف أن يزيدوا
في الحروف وينقصوا"2.
كما كره هذا الفريق -كذلك- ذكر أسماء السور، ورسم فواتح السور،
وعدد آيها، قال أبو بكر السراج: قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي
سورة كذا وكذا؟
قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه, فيظنوا أنه من القرآن.
كما كره بعضهم أن يذكر خاتمة سورة كذا3 وكرهوا التعشير4،
والتفصيل5، وكان عبد الله بن مسعود يحك التعشير من المصحف6.
وقد أُثيرت هذه المسألة في زماننا، وكان للجنة الفتوى بالأزهر
إسهام فيها؛ إذ رأت الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف
وهجائه، واحتجت لما رأته: "بأن القرآن كتب في عهد النبي برسم
كتبت به مصاحف عثمان. واستمر المصحف مكتوبًا بهذا الرسم في عهد
الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين في
عصورهم المختلفة، ولم ينقل عن أحد من هؤلاء جميعًا أنه رأى
تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولًا إلى تلك القواعد التي حدثت
في عهد ازدهار التأليف في البصرة والكوفة ... "7.
ورأى حفني ناصف -عليه رحمة الله- وجوب المحافظة على الرسم
العثماني؛ "لمعرفة القراءة المقبولة والمردودة, وفي المحافظة
احتياط شديد لبقاء القرآن على أصله لفظًا وكتابة، فلا يفتح فيه
باب الاستحسان"8.
__________
1 التيسير: 150.
2 المحكم: 10, 11.
3 المحكم: 17.
4 التعشير: وضع علامة بعد كل عشر آيات من القرآن.
5 التفصيل: تفصيل ما جاء موجزًا في القرآن، وذلك بإثبات
المحذوف إيجازًا بين الكلم "المحكم: 15".
6 المحكم: 14.
7 انظر مجلة الرسالة: العدد 216، سنة 1937.
8 ملخص من مجلة المقتطف: يوليو "تموز" سنة 1933م.
(1/105)
هذا مجمل لما رآه الفريق المحافظ المتحفظ.
ولمخالف هذا الفريق أن يقول: إنه لا سر في زيادة الألف في
"لأاذبحنه" والياء في "بأييد" ... إلخ, بل إن ما قاله الفريق
المحافظ من الأسرار في ذلك ضرب من التكلف في التأويل، وإلا فما
السر في زيادة الألف في "ملاقوا ربهم" "بنوا إسرائيل" "أولوا
الألباب" وزيادة الياء في "نبإي المرسلين" "آناءي الليل" ...
إن ما في الرسم العثماني من زيادات, أو حذف لم يكن توقيفا أوحي
به من الله على رسوله ... ولو كان كذلك لآمنا به وحرصنا عليه،
بل إن هذا الفريق ليذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فيرى أن هذا
الرسم بما فيه من زيادات أو حذف أو غيرها هو خطأ من الكتاب.
"فقد كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من
الإحكام والإتقان والاجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من
البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في
رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في
الإجادة, فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط
عند أهلها"1.
ثم إذا كان الفريق المحافظ يرى التزام الرسم العثماني؛
احتياطًا لبقاء القرآن على أصله لفظًا وكتابة، فإن للفريق
الآخر أن يقول:
إننا نرى رسم المصحف بالإملاء المعاصر؛ حتى يقرأ القرآن
صحيحًا، ويحفظ صحيحًا ...
إن الطلبة في المدارس ... والمتعبدين -من غير توقيف- بتلاوة
القرآن من عامة الناس إذا قرءوا القرآن مرسومًا بالرسم
العثماني، فإنهم يقعون في الخطأ والتحريف.
أما إذا قرءوه مرسومًا بالرسم الذي تعارف عليه الناس؛ فإن
ألسنتهم تسلم من التحريف والتبديل ...
وخذ مثلًا الآيات الكريمة الآتية برسمها العثماني:
__________
1 مقدمة ابن خلدون ص419، ط مصطفى محمد.
(1/106)
"من نّبإِيْ المرسلين"1.
"من تلقائ نفسي"2.
"بأييكم المفتون"3.
"لا يايْئَس من روح الله"4.
"ونئا بجانبه"5.
إن القارئ الذي تعوّد قراءة الصحف والمجلات في زماننا بالرسم
الإملائي, إذا أراد أن يقرأ الآيات السابقة -ولم يكن لها
حافظًا- فإن قراءته ستتخالف مع التنزيل الموحى به من عند الله.
والحق أن كلا من الفريقين يريد بما ذهب إليه الحفاظ على كتاب
الله، وصونه من التغيير: من أراد التزام الرسم العثماني، ومن
أراد التحرر منه في بعض الحالات، ولكل وجهة هو موليها ... وكل
يستبق الخيرات ...
والرأي عندي:
كتابة القرآن للعامة بالرسم الإملائي الذي يتعارف عليه الناس؛
ولكن ليس معنى ذلك إهمال الرسم العثماني؛ بل يبقى أثرًا عن
أسلافنا الصالحين، يدرسه المتوفرون على البحث العلمي، ويقرؤه
الحافظون لكتاب الله الذين يأمنون التغيير والتحريف.
وللتدليل على هذا الرأي أقول:
إن كل دعوة لإضافة أي جديد للرسم العثماني كانت تتلقى بالتحرج
أولًا؛ ولكنها على الرغم من ذلك أخذت طريقها إلى الرسم؛
إيمانًا من القائمين بها بأن فيها بيانًا وتوضيحًا ...
لقد كان المصحف خاليًا من النقط، ولما اتجه بعضهم إلى نقطه
رأينا من
__________
1 سورة الأنعام: آية 34.
2 سورة يونس: آية 15.
3 سورة القلم: آية 6.
4 سورة يوسف: آية 87.
5 الإسراء: آية 83.
(1/107)
يقف دون ذلك, ويقول: جردوا القرآن ولا
تخلطوه بشيء، ثم كان أن ترخص العلماء فيه، وقالوا: العجم نور
الكتاب، وإنه لا بأس به ما لم تبغوا1.
وبدأ أبو الأسود بالنقط في الحركات والتنوين لا غير ... وجعل
الخليل بن أحمد الهمز والتشديد والروم والإشمام, ووقف الناس في
ذلك أثرهما؛ واتبعوا فيه سنتهما2.
وقال خلف بن هشام البزار: "كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يقرأ
على الناس، وينقطون مصاحفهم بقراءته عليهم"3.
ثم تدرجوا في النقط والتخميس والتعشير ... وكان البادئون هم
الصحابة وأكابر التابعين4، ثم أحدثوا النقط الثلاث عند منتهى
الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم5.
وها نحن أولاء نرى المصاحف قد تغيرت أنواع الخط فيها: فمن كوفي
غير منقوط إلى خط النسخ الشرقي أو المغربي ... كما رقمت
آياتها، ووضعت علامات لأوائل الأجزاء، والأحزاب، والأرباع،
والوقف، والوصل، وما لا ينطق به في الوصل ولا في الوقف،
والإدغام، والإظهار، والإخفاء، والمد الزائد، ومواضع السجدات،
وعلامات الإمالة، والإشمام، والتسهيل6....
وكان الغرض من كل هذه الزيادات التيسير، وصيانة القرآن الكريم
من اللحن والتصحيف، وأداءه أداء فيه ضبط وتحقيق.. فإذا رأى
فريق التزام الرسم العثماني حفاظًا على كتاب الله, فإننا نرى
عدم التقيد بالرسم العثماني في الميدان التعليمي, وللقارئين
-من غير توقيف- المتعبدين غير الحافظين؛ صيانة للقرآن من
التغيير والتحريف. وفيما يلي نماذج لرسوم بعض المصاحف.
أقول هذا، والنفس أميل إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني على كل
حال.
ولدينا التسجيلات القرآنية تغني, وتحفظ من الوقوع في الخطأ,
والله أعلم.
__________
1 المحكم: 12.
2 المحكم: 6.
3 المصدر السابق: 13.
4 النظر المحكم، ص2, 3.
5 انظر المحكم ص2، 17.
6 انظر خاتمة المصحف الأميري المطبوع سنة 1343هـ. وقد يقال: إن
هذه المستحدثات ليست من رسم المصحف. وأقول: إنها تجتمع مع رسم
المصحف في أنها تبين طريقة الأداء, وفي أن الهدف من إضافتها هو
الهدف نفسه الذي نبغيه من كتابة المصحف بالرسم الإملائي
المعتاد.
(1/108)
مصحف بالخط المغربي, وفيه علامات الإمالة:
نقطة تحت الحرف الممال وعلى يمينه.
(1/112)
رسم آخر لمصحف مغربي فيه علامات الإمالة:
نقطة تحت الحرف الممال وعلى يمينه, وليس فيه علامة الفصل بين
الآيات. ثم انظر طريقة رسم فواصل الآيات: تلظى, تولى,
الأشقى.... إلخ.
(1/113)
وزارة التربية والتعليم بمصر, ورسم المصحف:
وقد رأت وزارة التربية والتعليم أخيرًا أن يكتب ما يرد في
الكتب المدرسية بالرسم الإملائي المعروف. كما رأينا ما يعرض في
"التليفزيون" من آي الذكر الحكيم مكتوبًا بما تعارف عليه الناس
في زماننا من رسم إملائي وبالخط الرقعي، وبحواشٍ تفسر الكلمات
التي قد تغمض على العامة من الناظرين والسامعين، بل كتب
للمكفوفين بالرسم البارز على طريقة "بريل" ولم يعترض على هذا
علماؤنا والقائمون منا على سدانة هذا الدين.
ويؤيد ما ذهبت الوزارة إليه بما قال سلطان العلماء العز بن عبد
السلام: "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح
الأئمة؛ لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء
هذا على إطلاقه؛ لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته
القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم
لله بحجة"1.
تكفل الله بحفظ كتابه:
والله من قبل, ومن بعد قد تكفل بحفظ كتابه المبين، فقال وهو
خير القائلين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} .
__________
1 البرهان في علوم القرآن للزركشي: ص379.
(1/116)
|