رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة جمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-
أسبابه طبيعته:
الأسباب:
يذكر العلماء من أسباب جمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله
عنه- أنه لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق
الأعلى، وتولى أبو بكر الخلافة، ارتدت بعض القبائل العربية عن
الإسلام، لأسباب مختلفة، ومنعوا بعض حقوق الإسلام كالزكاة،
وانضم بعضهم إلى مدعي النبوة: "مسيلمة الكذاب" فجهز أبو بكر
-رضي الله عنه- جيشا لقتال هؤلاء المرتدين، لردهم إلى حظيرة
الإسلام، فلم تمض إلا فترة قصيرة حتى عادت الجزيرة العربية
كلها إلى الإسلام.
وكان ممن شارك في إخماد تلك الفتنة كثير من حفاظ القرآن
الكريم، واستشهد في هذه الواقعة عدد كثير منهم والتي كانت تسمى
"موقعة اليمامة"1.
فلما رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما حدث لقراء القرآن
وخشي الموت على من بقي منهم في وقائع أخرى، أشار على أبي بكر
-رضي الله عنه- بجمع القرآن، حفاظا عليه من الضياع بموت حفظته.
روى البخاري بسنده عن زيد بن ثابت "ت450هـ" -رضي الله عنه-
قال: "أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل اليمامة، فإذا عمر بن
الخطاب عنده، قال أبو بكر -رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال:
إن القتل قد استحر2 يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن
يستحر القتل بالقراء
__________
1 مكان بنجد بينه وبين البحرين عشرة أيام -كما يقول ياقوت
الحموي- وكانت تسمى قبل ذلك بالعروض، فسميت باليمامة على اسم
"اليمامة بنت سهم بن طسم" انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي
"5/ 442".
2 استحر: اشتد.
(1/11)
بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى
أن تأمر بجمع القرآن. قلت: لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول
الله -صلى الله عليه وسلم؟!
قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله
صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت
تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن
فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي
مما أمراني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله
رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو والله خير، فلم يزل
أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر
وعمر -رضي الله عنهما- فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف،
وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة
الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة
براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر
حياته، ثم عند حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما"1.
طبيعة هذا الجمع:
من المعلوم أن زيد بن ثابت الذي اختير لهذا العمل كان حافظا
للقرآن الكريم، إلا أنه وضع لنفسه منهجا يسير عليه، يليق
بمكانة القرآن الكريم وصونه عن أن يضاف إليه ما ليس منه، أو
ينقص منه حرف أو كلمة، فكان لا يكتب آية إلا بشهادة اثنين من
الصحابة على أن تلك الآية كتبت بين يدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- وعلى أن ذلك المكتوب من الوجوه التي نزل بها القرآن، لا
من مجرد الحفظ، وأنه لم ينسخ، واستقر في العرضة الأخيرة2.
__________
1 صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، وفي كتاب
التوحيد، باب: "وكان عرشه على الماء ... " انظر: فتح الباري
"9/ 10-11، 13/ 404".
2 انظر: فتح الباري "10/ 388"، كتاب المصاحف للسجستاني "1/
181" تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان ط قطر.
(1/12)
ولا يقال: إن زيد بن ثابت خرق هذه القاعدة،
حيث اكتفى في إثبات آخر سورة التوبة بشهادة أبي خزيمة الأنصاري
وحده، وليس بشهادة اثنين، فقد اجتمع فيها زيد بن ثابت نفسه،
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
روى ابن أبي داود بسنده عن عبد الله بن الزبير، قال: "أتى
الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد
أني سمعتهما من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووعيتهما. فقال
عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما"1.
والسبب في اختيار زيد بن ثابت -رضي الله عنه- لهذه المهمة
الخطيرة: ما جاء في رواية البخاري السابقة، من قول أبي بكر
-رضي الله عنه- لزيد: "إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت
تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم".
فهذه المؤهلات: من كونه شابا، فيكون أقدر على العمل، وهو عمل
شاق، وكونه عاقلا، فيكون أوعى، وكونه غير متهم، فتركن النفس
إليه، وكونه كان يكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فيكون أكثر ممارسة ... وهذه هي الصفات التي جعلته يكون على رأس
القائمين بهذ العمل في نسخ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان
-رضي الله عنه- كما سيأتي2.
وقد استغرق هذا العمل الجليل ما يقرب من سنة، ما بين واقعة
اليمامة التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة
للهجرة، أو الأشهر الأولى من السنة الثانية عشرة، وبين وفاة
أبي بكر -رضي الله عنه- في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من
الهجرة النبوية، وكان ذلك قبل وفاته بقليل، إذ إن الروايات
تشير إلى أن الصحف التي جمع فيها القرآن أودعت عنده بقية
حياته، ثم انتقلت -بعد ذلك- إلى عمر بن الخطاب، ثم إلى السيدة
حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- بعد وفاة والدها، وظلت عندها
إلى أن أخذها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لنسخ المصاحف منها
-كما سيأتي3.
__________
1 انظر: فتح الباري "9/ 12".
2 انظر: فتح الباري "10/ 387"، رسم المصحف للدكتور غانم قدوري
ص104 ط العراق.
3 انظر: تاريخ الطبري "3/ 419"، البرهان للزركشي "1/ 238".
(1/13)
فيستفاد من كل ما تقدم:
أولا: أن السبب في جمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-
هو الخوف من ذهاب شيء منه بموت حفظته في الوقائع الحربية، على
غرار ما حدث في واقعة اليمامة.
ثانيا: يستفاد منه طبيعة هذا الجمع، وهي أنها مجرد نقل وتجميع
لما كان مكتوبا في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم
يكن مجموعا في مكان واحد، وإنما كان مفرقا في السعف واللخاف
والرقاع -كما تقدم. فأصبح مجموعا في مكان واحد، مرتب السور
والآيات، وأطلق عليه اسم "الصحف".
قال أبو عبد الله المحاسبي: "كتابة القرآن ليست محدثة، وإنما
أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق
وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن
منتشرا، فجمعها جامع، وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء"1.
وفي خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ظهرت بعض المصاحف
الخاصة التي كان يكتبها بعض الصحابة لأنفسهم أثناء السماع من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أثناء كتابة الوحي، مثل:
مصحف عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما.
وكانت هذه المصاحف تشتمل على بعض التفسيرات التي كانوا
يسمعونها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبعض الآيات،
والتي تسرب منها ما يسمى بالقراءات الشاذة فيما بعد.
الأمر الذي جعل الخليفة الثالث: عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
يأمر بحرقها عندما نسخ المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار
المختلفة -كما سيأتي2.
__________
1 انظر: البرهان "1/ 238"،الإتقان للسيوطي "1/ 60".
2 انظر: المصاحف "1/ 204"، الإتقان "4/ 158".
(1/14)
|