لباب النقول في أسباب النزول بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي جعل لكل شئ سببا، وأنزل على عبده كتابا عجبا،
فيه من كل شئ حكمة ونبا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف
الخليقة عجما وعربا، وأزكاهم حسبا ونسبا، وعلى آله وأصحابه
السادة النجبا.
وبعد: فهذا كتاب سميته: لباب النقول في أسباب النزول لخصته من
جوامع الحديث والأصول، وحررته من تفاسير أهل النقول، وبالله
أسأل النفع به فهو أكرم مسؤول، وأعظم مأمول.
لمعرفة أسباب النزول فوائد واخطأ من قال لا فائدة له لجريانه
مجرى التاريخ ومن فوائدة الوقوف على المعنى أو إزالة الأشكال
قال الواحدي لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها
وبيان سبب نزولها وقال أبن دقيق العيد بيان سبب النزول طريق
قوي في فهم معاني القرآن وقال ابن تيميه معرفة سبب النزول يعين
على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب وقد أشكل
على جماعة من السلف معاني آيات حتى وقفوا على أسباب نزولها
فزال عنهم الإشكال وقد بسطت أمثلة ذلك في النوع التاسع من كتاب
الإتقان في علوم القرآن وذكرت له فوائد أخرى من مباحث وتحقيقات
لا يحتملها هذا الكتاب قال الواحدي ولا يحل القول في أسباب
نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا
على الأسباب وبحثوا عن علمها وقد قال محمد بن سيرين سألت عبيدة
عن آية من القرآن فقال أتق الله وقل سدادا ذهب الذين يعلمون
فيم أنزل القرآن وقال غيره معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة
بقرائن تحتف بالقضايا وربما لم يجزم بعضهم فقال
(1/3)
أحسب هذه الآية نزلت في كذا كما قال الزبير
في قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون الآية وقال الحاكم في علوم
الحديث إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من
القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى على هذا أبن
الصلاح وغيره ومثلوه بما أخرجه مسلم عن جابر قال كانت اليهود
تقول من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل
الله نساؤكم حرث لكم الآية وقال ابن تيميه قولهم نزلت الآية في
كذا يراد به تارة أنها سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل
في الآية وإن لم يكن السبب كما نقول عني بهذه الآية كذا وقد
تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا هل يجري
مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى
التفسير منه الذي ليس بمسند فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا
يدخله فيه واكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند احمد وغيره
بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في
المسند انتهى وقال الزركشي في البرهان قد عرف من عادة الصحابة
والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد
بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو
من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع
قلت والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه
ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم
الحبشة فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شئ بل هو من باب
الإخبار عن الوقائع الماضية كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء
البيت ونحو ذلك وكذلك ذكره في قوله واتخذ الله إبراهيم خليلا
سبب اتخاذه خليلا فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى
(1/4)
تنبيهات
الأول ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي
فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من
أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير
أو اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك.
الثاني كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعددة
وطريق الاعتماد في ذلك أن تنظر إلى العبارة الواقعة فإن عبر
أحدهم بقوله نزلت في كذا والآخر نزلت في كذا وذكر أمرا آخر فقد
تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول فلا منافاة بين
قولهما إذا كان اللفظ يتناولهما كما بينته في كتابي الإتقان
وحينئذ فحق مثل هذا أن لا يورد في تصانيف أسباب النزول وانما
يذكر في تصانيف أحكام القرآن وإن عبر واحد بقوله نزلت في كذا
وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد كما قال ابن عمر في
قوله نساؤكم حرث لكم إنها نزلت رخصة في وطء النساء في أدبارهن
وصرح جابر بذكر سبب خلافه فاعتمد حديث جابر وان ذكر وأحدا سببا
وآخر سببا غيره فقد تكون نزلت عقيب تلك الأسباب كما سيأتي في
آية اللعان وقد تكون نزلت مرتين كما سيأتي في آية الروح وفي
خواتيم النحل وفي قوله ما كان للنبي والذين آمنوا الآية مما
يعتمد في الترجيح النظر إلى الإسناد وكون راوي أحد السببين
حاضر القصة أو من الماء التفسير كابن عباس وأبن مسعود وربما
كان في أجدى القصتين فتلا فوهم الراوي فقال نزلت كما سيأتي في
سورة الزمر
الثالث أشهر كتاب في هذا الفن الآن كتاب الواحدي وكتابي هذا
يتميز
(1/5)
عليه بأمور أحدها الإختصار ثانيها الجمع
الكثير فقد حوى زيادات كثيرة على ما ذكر الواحدي وقد ميزتها
بصورة (ك) رمزا عليها ثالثها عزوة كل حديث إلى من خرجه من
أصحاب الكتب المعتبرة كالكتب الستة والمستدرك وصحيح إبن حبان
وسنن البيهقي والدارقطني ومسانيد أحمد والبزار وأبى يعلي
ومعاجم الطبراني وتفاسير أبن جرير وابن آبى حاتم وابن مردويه
وأبى الشيخ وابن حبان والفريابي وعبد الرزاق وابن المنذر
وغيرهم وأما الواحدي فتارة يورد الحديث بإسناده وفيه مع
التطويل عدم العلم بمخرج الحديث فلا شك أن عزوه إلى أحد الكتب
المذكورة أولى من عزوه إلى تخريج الواحدي لشهرتها واعتمادها
وركون الأنفس إليها وتارة يوزده لا مقطوعا فلا يدري هل له
إسناد أو لا رابعها تمييز الصحيح من غيره والمقبول من المردود
خامسها الجمع بين الروايات المتعددة سادسها تنحية ما ليس من
أسباب النزول
وهذا آخر المقدمة ومن هنا نشرع في المقصود بعون الملك المعبود.
(1/6)
|