معاني القرآن للنحاس

تفسير سورة التوبة

مدنية وآياتها 129 آية

(3/177)


بسم الله الرحمن الرحيم سورة التوبة وهي مدنية قال سعيد بن جبير سالت ابن عباس عن سورة براءة فقال تلك الفاضحة ما زال ينزل ومنهم ومنهم حلى خفنا ألا تدع أحدا وقال يزيد الفارسي عن ابن عباس سألت عثمان بن عفان رحمة الله عليه لم عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فجمعتم بينهما ولم تفصلوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وجعلتموها مع السبع الطول فقال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم زمانا تنزل عليه السورة ذات العدد وفي بعض الروايات ذات الآيات وربما سألته فيقول ألحقوها في موضع كذا وهي تشبه قصة كذا وكانت براءة من آخر ما نزل وذهب عني ان أساله عنها فوقع بقلبي أنا شبه سورة الأنفال فجعلتها تليها ولم

(3/179)


أفصل بينهما بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو جعفر قال أبو إسحاق حدثني بعض أصحابنا عن صاحبنا محمد بن يزيد أنه قال لم يكتب في أول براءة بسم الله الرحمن
الرحيم لأن بسم الله افتتاح خير وبراءة أولها وعيد ونقض للعهود فلذلك لم يكتب في أولها بسم الله 1 - قال أبو جعفر ومعنى براءة تبرؤ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر (آية 2) أي فيقال لهم سيحوا في الأرض أي اذهبوا وجيئوا آمنين أربعة أشهر ثم لا أمان لكم بعدها

(3/180)


قال مجاهد وقتادة الأربعة الأشهر عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر وقال الزهري هن شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم 2 - ثم قال عز وجل واعلموا أنكم غير معجزي الله (آية 2) أي وإن أجلتم هذا الأجل سينصر المسلمون عليكم 3 - وقوله جل وعز وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر (آية 3) الأذان الإعلام روى شعبة عن الحكم عن يحيى بن الجزار قال خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العيد راكبا على دابة فلقيه رجل فقال له وأخذ بلجامه ما يوم الحج الأكبر فقال

(3/181)


هو يومك الذي أنت فيه خل عنها وكذلك روي الحديث عن علي وروى شعبة عن سليمان بن عبد الله بن سنان قال سمعت المغيرة بن شعبة يخطب على المنبر وهو يقول يوم الحج الأكبر يوم النحر وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن شداد قال الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة مع وقال عبد الملك بن عمير سألت عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر فقال يوم تهرق فيه الدماء ويحلق فيه الشعر وروى حماد بن يزيد عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال يوم الحج الأكبر يوم النحر وكذلك قال ابن عمر

(3/182)


وروى غير سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال هو يوم عرفة وروى ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه قال هو يوم عرفة وكذا قال مجاهد وقال ابن سيرين الحج الأكبر العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم اتفق فيه حج الملل قال أبو جعفر وأولاها القول الأول لجلة من قاله ويدلل على صحته حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بعثني أبو بكر رضي الله عنه فيمن

(3/183)


أذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد هذا العام مشرك وأيضا فإن عرفات قد يأتيها الناس ليلا وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أي يوم أحرم قالوا يوم الحج الأكبر قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام آحرمه سعيد يومكم هذا فدل على أنه يوم النحر لأن منى من الحرم وليست عرفات منه وقول يجوز ابن سيرين غلط لأن المسلمين والمشركين حجوا قبل ذلك بعام ونودي فيهم أن لا يحج بعد ذلك مشرك وقد يجوز أن يكون النداء كان بمنى وعرفات فيصح القولان

(3/184)


4 - وقوله جل وعز إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا (آية 4) وقرأ عطاء بن سنان ثم لم ينقضوكم شيئا يقال إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة ثم قال فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر وقوله جل وعز وخذوهم أي أسروهم ويقال للأسير أخيذ واحصروهم أي احبسوهم 5 - وقوله جل وعز وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله (آية 6)
أي استجارك من القتل حتى يسمع كلام الله فأجره 6 - وقوله جل وعز فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم (آية 7) أي فما أقاموا على العهد ولم ينقضوه فأوفوا لهم

(3/185)


7 - وقوله جل وعز كيف وإن يظهروا عليكم (آية 8) معناه كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ألإل بكر الله جل وعز وروى ابن جريج عن مجاهد قال الإل العهد وقال أبو عبيدة الإل العهد والذمة التذمم وقال قتادة الحلف والذمه العهد وقال الضحاك الإل القرابة والذمة العهد

(3/186)


قال أبو جعفر وهذا أحسنها والأصل في هذا أنه يقال أذن موللة أي محددة الألة الحربة فإذا قيل للعهد إل فمعناه أنه قد حدد وإذا قيل للقرابة فمعناه إن أحدهما يحاد صاحبه ويقاربه وأنشد أهل اللغة لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام فأما ما روي عن أبي مجلز ومجاهد أن الإل الله جل
وعز فغير معروف لأن أسماء الله جل وعز معروفة والذمة العهد

(3/187)


قول معروف ومنه أهل الذمة إنما هم أهل العهد وتذممت قد أن أفعل استحييت فصرت بمنزلة من عليه عهد 8 - وقوله جل وعز فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين (آية 11) أي فهم مثلكم قد غفر لهم نقضهم العهد وكفرهم 9 - ثم قال جل وعز وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم (آية 12) أي نقضوا وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أي رؤساءه وقيل هذا يوجب القتل على من طعن في الإسلام وإن كان له عهد لأن ذلك ينقض عهده 10 - ثم قال جل وعز إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (آية 12) روي عن عمار بن ياسر أنه قال أي لا عهد لهم وقرأ

(3/188)


الحسن (لا إيمان لهم) قال أبو جعفر وقراءته تحتمل معنيين أحدهما لا إسلام لهم على النفي كما تقول لا علم له والمعنى الآخر أي يكون مصدرا من قولك آمنته إيمانا أي لا تؤمنوهم ولكن اقتلوهم
11 - وقوله جل وعز وهم بدؤكم أول مرة (آية 13) قال مجاهد قاتلوا حلفاء رسول الله ثم قال أتخشونهم أي أتخشون عاقبتهم فالله أحق أن تخشوه أي تخشوا عاقبته ثم وعدهم النصر وذلك من علامات النبوة فقال قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين فدل بهذا على أن غيظهم كان قد اشتد

(3/189)


قال مجاهد يعني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم 12 - ثم قال جل وعز ويتوب الله على من يشاء (آية 15) وهذا منقطع مما قبله 13 - وقوله جل وعز أم حسبتم أن تتركوا (آية 16) وذلك انهم لما أمروا بالقتال تبين نفاق المنافقين 14 - ثم قال جل وعز ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم (آية 16) وقد علم ذلك علم غيب وإنا تقع المجازاة على العلم المشاهد 15 - ثم قال جل وعز ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة (آية 16)

(3/190)


الوليجة البطانة من ولج يلج ولوجا إذا دخل فالمعنى دخيلة مودة من دون الله ورسوله
16 - وقوله جل وعز ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله (آية 17) هكذا قرأ ابن عباس وهو اختيار أبي عمرو واحتج بقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ومن قرأ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله فتحتمل قراءته معنيين أحدهما أن يكون لجميع المساجد والآخر أن يراد به المسجد الحرام خاصة وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس كما يقال قد صار فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا والقراءة مساجد أصوب لأنه يحتمل المعنيين وقد أجمعوا على قراءة قوله إنما يعمر مساجد الله على الجمع

(3/191)


17 - وقوله جل وعز أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر (آية 19) والمعنى أجعلتم أهل سقاية الحاج كما قال واسال القرية ومن قرأ أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام فهو عنده على غير حذف قال الشعبي نزلت في علي بن أبي طالب والعباس وقال الحسن نزلت في علي والعباس وعثمان بن طلحة الحجبي وشيبة
وقال محمد بن سيرين خرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه من المدينة إلى مكة فقال للعباس يا عم الا تهاجر الا تمضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنا أعمر البيت وأحجبه وفي فنزلت

(3/192)


أجعلتم سقاية الحاج إلى آخر الاية 18 - وقوله جل وعز أعظم درجة عند الله (آية 20) أي من غيرهم أي ارفع منزلة من سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام والجهاد هم الفائزون بالجنة الناجون من النار والفايز كل الذي ظفر بامنيته 19 - ثم قال جل وعز يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان (آية 21) أي يعلمهم في الدنيا ولهم في الآخرة

(3/193)


20 - وقوله جل وعز لقد نصركم الله في مواطن كثيرة (آية 25) أي في أماكن ومنه استوطن فلان المكان أي أقام به 21 - ثم قال جل وعز ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم (آية 26) أي ونصركم يوم حنين قال قتادة حنين اسم ماء بين مكة والطائف قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار وألفين من الطلقاء فقال رجل لن تغلبوا اليوم فتفرق أكثرهم ثم دعا
النبي صلى الله عليه وسلم فأجيب ونصر فأعلمهم الله جل وعز أنهم لم يغلبوا من كثرة وإنما يغلبون بأن ينصرهم الله

(3/194)


22 - وقوله جل وعز يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس (آية 28) يقال لكل مستقذر نجس فإذا قلت رجس نجس كسرت الراء والنون وأسكنت الجيم 23 - وقوله جل وعز فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (آية 28) روى ابن جريج عن عطاء قال يريد بالمسجد الحرام الحرم كله وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام إلا ان يكون عبد أو أحد من أهل الجزية وهذا مذهب الكوفيين ان المشركين في الآية يراد بهم من ليس له عهد وأن ذلك في سائر المساجد ومذهب المدنيين أن الآية عامة لجميع الكفار وانه يحال بينهم وبين جميع المساجد

(3/195)


ومذهب الشافعي ان المشركين ها هنا عام أيضا كقول مالك إلا أنه قال إنما ذلك في المسجد الحرام خاصة ومذهب المدنين في هذا أحسن لقول الله جل وعز في
بيوت أذن الله أن ترفع أي تصان فيجب على هذا ان ترفع عن دخولهم لأنهم لا يعظمونها في دخولهم 24 - وقوله جل وعز وإن خفتم عيلة (آية 28) والعيلة الفقر يقال عال يعيل عيلة ومنه ووجدك عائلا فأغنى وقال علقمة في مصحف عبد الله بن مسعود وإن خفتم عائلة ومعناه خصلة شاقة يقال عالني الأمر يعولني أي شق علي واشتد 25 - وقوله جل وعز قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (آية 29)

(3/196)


المعنى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إيما الموحدين لأن أهل الكتاب يؤمنون بالله ويقولون له ولد تعالى عن ذلك ويؤمنون بالآخرة ويقولون لا أكل فيها ولا شراب فهذا خلاف على ما أمر الله له جل وعز 26 - ثم قال جل وعز ولا يدينون دين الحق (آية 29) قال أبو عبيدة مجازه ولا يطيعون طاعة الحق قال أبو جعفر أي طاعة أهل الإسلام وكل مطيع ملكا فهو دائن له يقال دان فلان لفلان قال زهير لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت دوننا فدك

(3/197)


27 - ثم قال جل وعز من الذين أوتوا الكتاب (آية 29) وهم اليهود والنصارى وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجوس أن يجروا مجراهم 28 - ثم قال جل وعز حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (آية 29) روى أبو صالح عن ابن عباس في قوله جل وعز وهم صاغرون قال يمشون بها ملبين وروى عطاء عن أبي البختري عن سلمان قال مذمومين وروى محمد بن ثور عن معمر عن قتادة عن يد قال عن مهر وقيل معنى يد عن إنعام يد أي عن إنعام منكم

(3/198)


عليهم لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك وقيل وهو أصحها يؤدونها بأيديهم ولا يوجهون بها كما يفعل الجبارون وقال سعيد بن جبير يدفعها وهو قائم والذي يأخذها منه جالس وأكثر أهل اللغة على أن المعنى عن قهر وذلة كما تقول اليد في هذا لفلان ومذهب الشافعي في هذا أن تؤخذ الجزية منهم وأحكام
المسلمين جارية عليهم

(3/199)


ثم قال وهم صاغرون قال أبو عبيدة الصاغر الذليل الحقير وقال غيره الذي يتلتل ويعنف به 29 - ثم قال جل وعز ذلك قولهم بأفواههم (آية 30) يقال قد علم أن القول بالفم فما الفائدة في قوله بأفواههم والجواب عن هذا انه لا بيان عندهم ولا برهان لهم لأنهم يقولون اتخذ الله صاحبة ويقولون له ولد وقولهم بلا حجة 30 - ثم قال جل وعز يضاهون قول الذين كفروا من قبل (آية 30) أي يشابهون ويقتفون ما قالوا ويقرأ يضاهئون والمعنى واحد يقال امرأة ضهيا مقصورة وضهياء ممدود غير مصروف إذا كانت لا تحيض

(3/200)


ويقال هي التي لا ثدي لها والمعنى أنها قد أشبهت الرجال في هذه الخصلة فمن جعل الهمزة أصلا قال يضاهئون ومن جعلها زائدة وهو أجود قال يضاهون 31 - ثم قال تعالى قاتلهم الله أنى يؤفكون (آية 30) فخوطبوا بما يعرفون أي يجب أن يقال لهم هذا
ثم قال أنى يؤفكون أي من أن يصرفون عن الحق بعد البيان 32 - ثم قال جل وعز اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (آية 31) روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال سئل حذيفة عن قول الله جل وعز اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله هل عبدوهم فقال لا

(3/201)


ولكنهم أحلوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا عليهم الحلال فحرموه حدثنا أبو جعفر قال نا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن بنت أحمد بن منيع قال نا الحماني قال نا عبد السلام بن حرب عن غضيف وهو ابن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أبصر النبي صلى الله عليه وسلم في رقبتي صليبا من ذهب فقال اطرح هذا عنك قال وسئل عن قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال أما إنهم ما كانوا يعبدونهم ولكن كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيستحلونه ويحرمون عليهم ما احل الله لهم فيحرمونه 33 - وقوله جل وعز والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله (آية 34) يجوز أن يكون المعنى ولا ينفقون الكنوز لأن الكنوز تشتمل

(3/202)


على الذهب والفضة ها هنا
ويجوز أن يكون لأحدهما كما قال والله ورسوله أحق أن يرضوه وفي هذه الآية أقوال روى عكرمة عن ابن عباس وعطية ونافع عن ابن عمر أنهما قالا ما أديت زكاته فليس بكنز ويقوي ذلك أن ابن جريج روى عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت شره عنك وقيل إن هذه الآية نزلت في المشركين وقال أبو هريرة من خلف عشرة آلاف جعلت صفائح وعذب بها حتى ينقضي الحساب

(3/203)


وقال أبو أمامة من خلف بيضاء أو صفراء كوي بها مغفورا له أو غير مغفور له وإن حله السيف من ذلك وروى موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك ابن أوس بن الحدثان عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة لا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة وقال معاوية نزلت في أهل الكتاب فرد عليه أبو ذر وقال نزلت فينا وفيهم وحديث ابن عمر في هذا حسن على توقيه وهو جيد الإسناد رواه مالك وأيوب وعبيد الله عن نافع عن ابن عمر
وقد روي أيضا عن عمر أنه قال ليس كنزا ما أديت زكاته وكذلك قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز إلا أنه قال أراها منسوختا فلا لقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وليس في الخبر ناسخ ولا منسوخ

(3/204)


وروى أبو زبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا أتى له بماله فأحمي عليه في نار جهنم فتكوى به جنباه وجبهته وظهره حتى يحكم الله بين عباده وذكر الحديث 34 - وقوله جل وعز إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم (آية 36) الأربعة الحرم المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ثم قال جل وعز ذلك الدين القيم

(3/205)


الدين ها هنا الحساب أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفى وعن ابن عباس ذلك الدين القيم قال القضاء القيم وقال أبو عبيدة أي القائم
فلا تظلموا فيهن أنفسكم (آية 36) أكثر أهل التفسير على أن المعنى فلا تظلموا في الأربعة أنفسكم وخصها تعظيما كما قال فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران

(3/206)


عن ابن عباس فلا تظلموا فيهن أنفسكم في الاثني عشر وروى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال فيهن كلهن 35 - وقوله جل وعز إنما السئ زيادة في الكفر (آية 37) النسئ التأخير ومنه نسأ الله في أجلك 36 - ثم قال جل وعز يضل به الذين كفروا (آية 37) قال الزهري وقتادة والضحاك وأبو وائل والشعبي كانوا ربما أخروا تحريم المحرم إلى صفر قال قتادة وكانوا يسمونها الصفرين وقال مجاهد كان لهم حساب يحسبون فربما قالوا لهم الحج في هذه السنة في المحرم فيقبلون منهم ودل على هذا قوله ولا جدال في الحج أي إنه في ذي الحجة قال أبو جعفر وابين ما في هذا ما حدثناه بكر بن سهل قال نا أبو صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إنما النسئ زيادة في الكفر قال كان جنادة بن

(3/207)


أمية يوافي الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي الا إن ابا ثمامة لا يخاب ولا يعاب الا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس ويحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله جل وعز إنما النسئ زيادة في الكفر الآية قال والنسئ تركهم المحرم عاما وعاما يحرمونه وقرأ الحسن يضل به الذين كفروا يعني بالذين كفروا الحساب الذين يقولون لهم هذا ويروى عن عبد الله بن مسعود يضل به الذين كفروا أي يضل به الذين يقبلون من الحساب

(3/208)


ويحتج لمن قال بالقول الأول بقوله جل وعز يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله أي ليوافقوا فيحرموا أربعة كما حرم الله جل وعز أربعة 37 - وقوله جل وعز يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض (آية 38) قال مجاهد في غزوة تبوك أمروا بالخروج في شدة الحر وقد طابت الثمار وقالوا إلى الظلال 38 - ثم قال جل وعز أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة (آية 38) أي أرضيتم بنعيم الحياة الدنيا من نعيم الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
والمتاع المنفعة والنعيم 39 - وقوله جل وعز إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار (آية 40)

(3/209)


قال الزهري خرج هو وأبو بكر ودخلا غارا في جبل ثور فاقاما فيه ثلاثا والمعنى فقد نصره الله ثاني اثنين أي نصره الله منفردا إلا من أبي بكر رضي الله عنه 40 - وقوله جل وعز فأنزل الله سكينته عليه (آية 40) يجوز أن تكون تعود على أبي بكر والأشبه على قول أهل النظر ان تكون تعود على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت عليه السكينة وهي السكون والطمأنينة لأنه جل وعز أخبر عنه انه قال لا تحزن إن الله معنا وسأذكر هذا في الإعراب على غاية الشرح 41 - وقوله جل وعز انفروا خفافا وثقالا (آية 41)

(3/210)


في معنى هذا أقوال منها أن أنس بن مالك روى أن أبا طلحة تأولها شبابا وشيوخا وقال المقداد لا أجدني الا مخفا أو مثقلا وقال الحسن في العسر واليسر وروى سفيان عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي ملك الغفاري
قال أول ما نزل من سورة براءة انفروا خفافا وثقالا وقال أبو الضحى كذلك أيضا ثم نزل أولها وآخرها وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد انفروا خفافا وثقالا قال فيه الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل وانزل الله عز وجل انفروا خفافا وثقالا

(3/211)


وروى سفيان عن منصور في قوله انفروا خفافا وثقالا قال مشاغيل وغير مشاغيل وقال قتادة ومذهب الشافعي ركبانا ومشاة وقال قتادة نشاطا وغير نشاط وقال زيد بن أسلم المثقل الذي له عيال والمخف منه الذي لا عيال له وهذا حين كان أهل الإسلام قليلا ثم نزل وما كان المؤمنون لينفروا كافة قال أبو جعفر وهذه الأقوال متقاربة والمعنى انفروا على كل الأحوال ومن أجمع هذه الأقوال قول الحسن حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن محمد الكناني بالأنبار قال نا نصر بن علي قال أخبرني أبي قال نا شعبة عن منصور بن

(3/212)


زاذان عن الحسن انفروا خفافا وثقالا قال في العسر
واليسر وقول أبي طلحة حسن لأن الشاب تخف عليه الحركة والشيخ تثقل عليه 42 - وقوله جل وعز لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك (آية 42) العرض ما يعرض من منافع الدنيا أي لو كانت غنيمة قريبة وسفرا قاصدا أي سهلا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة والشقة الغاية التي يقصد إليها 43 - وقوله جل وعز عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (آية 43) أي حتى يتبين من نافق ومن لم ينافق قال مجاهد هؤلاء قوم قالوا نستأذن في الجلوس فإن أذن

(3/213)


لنا جلسنا وإن لم يؤذن لنا جلسنا وقال قتادة نسخ هذه الآية بقوله في سورة النور فإن استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم ثم بين أن أمارة الكفر الاستئذان في التخلف فقال تعالى لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم (آية 44) 44 - وقوله جل وعز ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم (آية 46) التثبيط رد الإنسان عما يريد أن يفعله
45 - وقوله جل وعز لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا (آية 47) الخبال الفساد وذهاب الشئ

(3/214)


46 - ثم قال جل وعز ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة (آية 47) الايضاع سرعة السير قال أبو إسحاق معنى خلالكم فيما يخل بكم وقال غيره بينكم وقيل الفتنة ها هنا الشرك 47 - ثم قال جل وعز وفيكم سماعون لهم (آية 47) فيه قولان أحدهما فيكم من يستمع ويخبرهم بما يريدون والقول الآخر فيكم من يقبل منهم مثل سمع الله لمن حمده

(3/215)


والقول الأول أولى لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام ومثله سماعون للكذب والقول الثاني لا يكاد يقال فيه إلا سامع مثل قائل 48 - وقوله جل وعز ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني (آية 49)
فيه قولان قال الضحاك ولا تكفرني وكذلك قال قتادة أي ولا تؤثمني ومعناه لا تؤثمني بالخروج وهو لا يتيسر لي فإذا تخلفت أثمت والقول الآخر وهو قول مجاهد أنه قيل لهم تغزون فتغنمون بنات الأصفر فقال بعضهم لا تفتني ببنات الأصفر

(3/216)


قال أبو إسحاق في الجد بن قيس أحد بني سلمة وهو الذي قال هذا 49 - وقوله جل وعز إن تصبك حسنة تسؤهم (آية 50) أي إن تظفر وتغنم يسؤوهم ذلك وإن تصبك مصيبة تهزم يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل أي قد أخذنا بالحزم إذ لم نخرج كذلك وقال مجاهد معناه حذرنا 50 - وقوله جل وعز قل لن يصيبنا إلا ما تحب كتب الله لنا (آية 51) في معناه قولان أحدهما إلا ما قدر الله علينا والآخر إلا ما أخبرنا به في كتابه من أنا نقتل فنكون شهداء أو نقتلكم وكذلك معنى قل هل تربصون بنا إلا إحدى
الحسنيين (آية 52)

(3/217)


51 - وقوله جل وعز فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا (آية 55) فيه تقديم وتأخير المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم في الآخرة وهذا قول أكثر أهل العربية ويجوز أن يكون المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم في الدنيا لأنهم منافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون ثم قال وتزهق أنفسهم أي تخرج 52 - وقوله جل وعز لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (آية 57) قال قتادة الملجأ الحصون والمغارات الغيران

(3/218)


والمدخل الأسراب قال أبو جعفر وهذا قول حسن عند أهل اللغة لأنه يقال للحصن ملجأ ولجأ والمغارات من غار يغور إذا استتر وتقرأ أو مدخلا بتشديد الدال والخاء وتقرأ أو مدخلا وتقرأ أو مدخلا ومعانيها متقاربة إلا أن مدخلا من دخل يدخل ومدخلا من أدخل يدخل أي
لو يجدون قوما يدخلونهم في جملتهم أو قوما يدخلون معهم أو مكانا يدخلون فيه لولوا إليه أي لو وجدوا أحد هذه الأشياء لولوا إليه وهم يجمحون أي يسرعون لا يرد وجوههم شئ ومنه فرس جموح 53 - وقوله جل وعز ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا (آية 58)

(3/219)


قال مجاهد أي يروزك ويسألك وقال قتادة أي يطعن عليك قال أبو جعفر والقول عند أهل اللغة قول قتادة يقال لمزه يلمزه إذا عابه ومنه فلان همزة لمزة أي عياب للناس ويقال اللمزة هو الذي يعيب في سر وإن الهمزة هو الذي يشير بعينيه وهذا كله يرجع إلى أنه يعيب 54 - وقوله جل وعز إنما الصدقات للفقراء والمساكين (آية 60) قال قتادة الفقير المحتاج الذي له زمانه والمسكين

(3/220)


الصحيح المحتاج وقال مجاهد والزهري الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل
حدثنا محمد بن إدريس بن أسود قال نا يونس قال أنبأنا ابن وهب قال أخبرني جرير بن حازم عن علي بن الحكم عن الضحاك قال الفقراء من المهاجرين والمساكين من الأعراب قال وكان ابن عباس يقول الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الذمة قال أبو جعفر الذي قاله الزهري ومجاهد حسن لأن المسكين مأخوذ من السكون والخضوع فالذين يسألون يظهر عليهم السكون والخضوع وإن كان الذي يسأل والذي لا يسأل يجتمعان في اسم الفقر

(3/221)


فإن الطي يظهر عليه مع الفقر ما ذكرنا وفقير في اللغة إنما يعرف بأن يقال إلى كذا فالمعنى والفقراء إلى الصدقة ومسكين عليه ذلة لأنه قد يكون به فقر إليها ولا ذلة عليه فيها وقال اهل اللغة لا نعلم بينهم اختلافا الفقير الذي له بلغة والمسكين الذي لا شئ له وأنشدوا أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد وقال يونس قلت لأعرابي أفقير أنت فقال لا بل مسكين

(3/222)


وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل ولا يفطن له فيعطى ولا يجد غنى يغنيه قال أبو جعفر قال علي بن سليمان الفقير مشتق من قولهم فقرت له فقرة من مالي أي أعطيته قطعة فالفقير على هذا الذي له قطعة من المال والمسكين مأخوذ من السكون كأنه بمنزلة من لا حركة له وقال بعض الفقهاء المسكين الذي له شئ واحتج بقول الله عز وجل أما السفينة فكانت لمساكين يعلمون في البحر قال أبو جعفر وهذا الاحتجاج لا يلزم لأنك تقول هذا التمر لهذه النخلة وهذا البيت لهذه الدار لا تريد الملك فيجوز أن يكون قيل لمساكين لأنهم كانوا يعلمون فيها

(3/223)


وقد قيل إنه إنما تمثيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض النساء يا مسكينة عليك السكينة 55 - ثم قال عز وجل والعاملين عليها (آية 60) وهم السعاة ومن كان مثلهم 56 - ثم قال تعالى والمؤلفة قلوبهم (آية 60) قال الشعبي هؤلاء كانوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم يتألفون فلما
ولي أبو بكر رضي الله عنه زال هذا قال أبو جعفر حديث الشعبي إنما رواه عنه جابر الجعفي وقد قال يونس سألت الزهري قال لا أعلم أنه نسخ من ذلك شئ فعلى هذا الحكم فيهم ثابت فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن يلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه

(3/224)


57 - ثم قال جل وعز وفي الرقاب (آية 60) أي وفي فك الرقاب قيل هم المكاتبون وقيل تبتاع الرقاب فيكون الولاء للمسلمين 58 - ثم قال جل وعز والغارمين (آية 60) قال مجاهد هم الذين أحرقت النار بيوتهم وأذهب السيل مالهم فادانوا: لعيالهم وروي عن ابي جعفر ومجاهد وقتادة قالوا الغارم من استدان لغير معصية قال أبو جعفر وهذا لا يكون غيره لأنه إذا كان ذا دين في

(3/225)


معصية فقضي عنه فقد اعين على المعصية والغرم في اللغة الخسران فكأن المستدين لا يجد قضاء دينه قد خسر ماله ومنه إن عذابها كان غراما أي
هلاكا وخسرانا ثم قال تعالى وفي سبيل الله أي في طاعة الله أي للمجاهدين والحجاج وابن السبيل روى جابر عن أبي جعفر أنه قال هو المجتاز من أرض إلى ارض قال أبو جعفر والسبيل في اللغة الطريق فابن السبيل هو الذي قطعت عليه الطريق أو جاء من أرض العدو وقد أخذ

(3/226)


ماله قالت الفقهاء ابناء السبيل الغائبون عن أموالهم الذين لا يصلون إليها لبعد المسافة بينهم وبينها حتى يحتاجوا إلى الصدقة فهي إذ ذاك لهم مباحة فقد صاروا إلى حكم من لا مال له روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين قال إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف واي صنف أعطيت منها أجزاك وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس إنما الصدقات لفقراء والمساكين قال في ايها وضعت أجزأ عنك 59 - وقوله جل وعز ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن (آية 61) قال مجاهد هؤلاء قوم من المنافقين ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نقول فيه فإن بلغه ذلك حلفن له فصدقنا

(3/227)


وكذلك الأذن في اللغة يقال هو أذن إذا كان يسمع ما يقال له ويقبله فالمعنى إن كان الأمر على ما يقولون أن يكون قريبا منكم يقبل اعتذاركم 60 - ثم قال جل وعز قل اذن خير لكم (آية 61) أي إن كان كما قلتم ثم أخبر انه يؤمن بالله ومن قرأ قل أذن خير لكم ذهب إلى ان معناه قل هو مستمع خير لكم 61 - وقوله جل وعز والله ورسوله أحق ان يرضوه (آية 62) المعنى عند سيبويه والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن

(3/228)


يرضوه ثم حذف كما قال الشاعر نحن بما عندنا وانت بما عندك راض والرأي مختلف وقال أبو العباس هو على غير حذف والمعنى والله أحق أن يرضوه ورسوله وقال غيرهما المعنى ورسول الله أحق اين يرضوه وقوله جل وعز والله افتتاح كلام كما تقول هذا لله ولك

(3/229)


62 - وقوله جل وعز الم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله (آية 63)
معناه يعادي ويجانب يقال حاد فلان أي صار في حد غير حده 63 - وقوله جل وعز يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم (آية 649) قال مجاهد هؤلاء قوم من المنافقين ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقالوا نرجو أن لا يفشي الله علينا 64 - وقوله جل وعز ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب (آية 65) فالمعنى ولئن سألتهم عما قالوا قال قتادة هؤلاء قوم من المنافقين قالوا في غزوة تبوك ايطمع محمد ان يدخل بلاد الروم ويخرب حصونهم فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فدعا بهم فقال اقلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب

(3/230)


وقال سعيد بن جبير قالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن حمير فأطلعه الله جل وعز على ما قالوا فسألهم فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب 65 - قال عز وجل قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (آية 65) أي قد ظهر منكم الكفر بعد ظهور الإيمان 66 - وقوله جل وعز ويقبضون أيديهم (آية 67) قال مجاهد أي لا يبسطونها في حق ولا فيما يجب
67 - ثم قال جل وعز نسوا الله فنسيهم (آية 67) قال قتادة أي نسيهم من الخير فأما من الشر فلم ينسهم والمعنى عند أهل اللغة تركوا أمر الله فتركهم من رحمته وتوفيقه يقال نسي الشئ إذا تركه

(3/231)


68 - وقوله جل وعز خالدين فيها هي حسبهم (آية 68) أي هي كافيهم أي هي على قدر أعمالهم ويقال أحسبني الشئ أي كفاني 69 - وقوله جل وعز فاستمتعوا بخلاقهم (آية 69) قال قتادة أي بدينهم والمعنى عند أهل اللغة فاستمتعوا بنصيبهم من الدنيا 70 - وقوله جل وعز والمؤتفكات (آية 70) قال قتادة هي مدائن قوم لوط وقال أهل اللغة سميت مؤتفكات لأنها ائتفكت بهم أي انقلبت وهو من الإفك وهو الكذب لأنه مقلوب ومصروف عن الصدق 71 - وقوله جل وعز يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم (آية 73)

(3/232)


قال الحسن أي جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان
وقال قتادة أي جاهد الكفار بالقتال والمنافقين بالإغلاظ في القول 72 - وقوله جل وعز يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامعم غير (آية 74) قال مجاهد سمعهم رجل من المسلمين وهم يقولون إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن حمير فقال لهم فنحن نقول ما جاء به حق فهل نحن حمير فهم المنافق بقتله فذلك قوله وهموا بما لم ينالوا (آية 74) وقال غير مجاهد هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله على ذلك 73 - ثم قال جل وعز وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله (آية 74) أي ليس ينقمون شيئا كما قال النابغة

(3/233)


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب 74 - وقوله جل وعز ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن (آية 75) قال قتادة هذا رجل من الأنصار قال لئن رزقني الله شيئا لأودين أحمد فيه حقه ولأتصدقن فلما آتاه الله ذلك فعل ما نص عليكم فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي
أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا

(3/234)


رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا فقال ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال ثم رجع إليه فقال يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا قال ويحك يا ثعلبة اما ترضى ان تكون مثل رسول الله والله لو سألت الله أن يسيل علي الجبال ذهبا وفضة لسالت ثم رجع فقال يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا فوالله لئن أتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالا اللهم ارزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت عليها أزقة المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نمت حتى تعذرت عليها مراعي المدينة فتنحى بها مكانا يشهد الجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نمت فتباعد بها فترك الجمع والجماعات فأنزل الله على رسوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فخرج مصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعهم وقال حتى القى رسول الله فانزل الله جل وعز ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله إلى آخر الآية القصة فأخبر ثعلبة فأقبل واضعا على رأسه التراب حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبل منه ثم أتى أبا بكر فلم يقبل منه ثم اتى عمر فأبى

(3/235)


أن يقبل منه ثم أتى عثمان فلم يقبل منه ومات في خلافته 75 - ثم قال جل وعز فأعقبهم نفاقا في قلوبهم (آية 77)
يجوز ان يكون المعنى فأعقبهم الله نفاقا ويجوز ان يكون المعنى فاعقبهم البخل لأن قوله بخلوا يدل على البخل 76 - وقوله جل وعز الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات (آية 79) قال قتادة أي يعيبون المؤمنين قال وذلك أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله وكان ماله ثمانية آلاف دينار فتصدق منها بأربعة آلاف فقال قوم ما أعظم رياه

(3/236)


فأنزل الله جل وعز الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمر فقالوا ما أغنى الله عن هذا فأنزل الله والذين لا يجدون إلا جهدهم قرئ جهدهم وجهدهم بالضم والفتح قال أبو جعفر وهما لغتان بمعنى واحد عند البصريين وقال بعض الكوفيين الجهد المشقة والجهد الطاقة 77 - ثم قال جل وعز فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب اليم (آية 79) ومعنى سخر الله منهم جازاهم الله على سخريتهم فسمى

(3/237)


الثاني باسم الأول على الازدواج
78 - وقوله جل وعز استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (آية 80) يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فترك الاستغفار لهم 79 - وقوله جل وعز فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا ان يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله (آية 81) الخلاف المخالفة والمعنى من أجل مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول جئتك ابتغاء العلم

(3/238)


ومن قرأ خلف رسول الله أراد التأخر عن الجهاد 80 - وقوله جل وعز قل نار جهنم أشد حرا (آية 81) فيه معنى الوعيد والتهديد 81 - ثم قال جل وعز فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (آية 82) قال أبو رزين يقول الله أمر الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا فإنهم سيبكون في النار بكاء لا ينقطع فذلك الكثير وقال الحسن فليضحكوا قليلا في الدنيا وليبكوا كثيرا في الآخرة في جهنم جزاء بما كانوا يكسبون 82 - وقوله جل وعز فاقعدوا مع الخالفين) (آية 83)

(3/239)


والخالف الذي يتخلف مع مال الرجل وفي بيته
83 - ثم قال جل وعز ولا تصل على أحد منهم مات أبدا (آية 84) روي عن أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم تقدم ليصلي على عبد الله بن ابي فاخذ جبريل بردائه فقال ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى على واحد منهم وقف على قبره فدعا له

(3/240)


84 - وقوله عز وجل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (آية 87) قال مجاهد وقتادة الخوالف النساء وقال غيرهما الخوالف أخساء بعد الناس وأردياؤهم يقول ويقال فلان خالفة اهله إذا كان دونهم قال أبو جعفر وأصله من خلف اللبن يخلف خلفة إذا حمض من طول مكثه وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه ومنه فلان خلف سوء فأما قول قتادة فاقعدوا مع الخالفين أي مع النساء فليس بصواب لأن المؤنث لا يجمع كذا ولكن يكون المعنى مع الخالفين للفساد على ما تقدم

(3/241)


ويجوز أن يكون المعنى مع مرضى الرجال وأهل الزمانة 85 - وقوله جل وعز وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم
(آية 90) وقرأ ابن عباس وجاء المعذرون قال أبو جعفر المعذرون يحتمل معنيين أحدهما أن يكون المعنى الأصل المعتذرون ثم أدغمت التاء في الذال ويكونون الذين لهم عذر قال لبيد إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

(3/242)


وقد يعتذر ولا عذر والقول الآخر ان يكون المعذرون الذين لا عذر لهم كما يقال عذر فلان وزعم أبو العباس أن المعذر هو الذي لا عذر له قال أبو جعفر ولا يجوز أن يكون بمعنى المعتذر لأنه إذا وقع الإشكال لم يجز الإدغام والمعذرون الذين قد بالغوا في العذر ومنه قد أعذر من أنذر أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك والمعذرون المعتذرون للإتباع والكسر على الأصل 86 - وقوله جل وعز ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع (آية 92) قال الحسن وبكر بن عبد الله نزلت في عبد الله بن

(3/243)


المغفل من مزينة اتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله 87 - وقوله جل وعز الأعراب أشد كفرا ونفاقا (آية 97) قال قتادة لأنهم ابعد عن معرفة السنن وقال غيره لأنهم أجفى وأقسى وأبعد عن سماع التنزيل 88 - ثم قال جل وعز وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله (آية 97) أي وأخلق بترك ما أنزل الله على رسوله

(3/244)


89 - وقوله جل وعز ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما (آية 98) أي غرما وخسرانا 90 - ثم قال جل وعز ويتربص بكم الدوائر (آية 98) الدوائر أي ما يدور به الزمان من المكروه وأصل الدوائر صروف الزمان مرة بالخير ومرة بالشر 91 - ثم قال جل وعز عليهم دائرة السوء (آية 98) وتقرأ عليهم دائرة السوء والسوء البلاء والمكروه والسوء الرداءة ويقال رجل سوء والرجل السوء

(3/245)


92 - وقوله جل وعز ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول (آية 99)
فالصلاة ها هنا الدعاء قال الضحاك وصلوات الرسول يقول واستغفار الرسول والصلاة تقع على ضروب فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة قال الله جل وعز هو الذي يصلي عليكم وملائكته والصلاة من الملائكة الدعاء وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة كما قال الشاعر تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

(3/246)


عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا 93 - وقوله جل وعز والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (آية 100) وروي عن عمر انه قرأ والأنصار فمن قرأ بالخفض ذهب إلى أن المعنى ومن الأنصار ومن قرأ بالرفع اراد الأنصار كلهم ولم يجعلهم من السابقين قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة والسابقون الذين صلوا القبلتين جميعا
وقال عطاء هم أهل بدر

(3/247)


وقال الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان 94 - ثم قال جل وعز رضي الله عنهم ورضوا عنه (آية 100) أي رضي الله أعمالهم ورضوا مجازاته عليها 95 - وقوله جل وعز وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق (آية 101) في الكلام تقديم وتأخير المعنى وممن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ومن أهل المدينة أي من أهل المدينة مثلهم 96 - ثم قال جل وعز لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين (آية 101) قال الحسن وقتادة عذاب الدنيا وعذاب القبر

(3/248)


قال قتادة ثم يردون إلى عذاب عظيم أي عذاب جهنم وقيل سنعذبهم مرتين يعني السباء والقتل وقال الفراء بالقتل وعذاب القبر وقال مجاهد بالجوع والقتل 97 - وقوله جل وعز وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا (آية 102) قال الضحاك هؤلاء قوم تخلفوا عن غزوة تبوك منهم أبو
لبابة فندموا وربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا اعذرهم الذي فانزل الله جل وعز وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم

(3/249)


وعسى من الله واجبة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم فابى أي يقبلها فأنزل الله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم قال أبي وصل عليهم واستغفر لهم وقيل هم الثلاثة الذين خلفوا والعمل الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالو لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا وآخر سيئا هو تخلفهم عن غزوة تبوك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول الصحيح 98 - وقوله جل وعز ألم يعلموا ان الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات (آية 104)

(3/250)


أي ويقبلها ومنه خذ العفو وأمر بالعرف ومنه الحديث الصدقة تقع في يد الله عز وجل أي يقبلها 99 - وقوله جل وعز وآخرون مرجون لأمر الله (آية 106)
أي مؤخرون يقال ارجأت الأمر وقد حكي أرجيت 100 - ثم قال جل وعز إما يعذبهم وإما يتوب عليهم (آي 106) وإما لأحد أمرين ليكونوا كذا عندهم

(3/251)


ويقال إن المرجئين ههنا هم الثلاثة الذين خلفوا وذكرهم الله عز وجل في قوله وعلى الثلاثة الذين خلفوا وقرأ عكرمة الذين خلفوا بفتح الخاء مخففا وقال أي خلفوا بعقب النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى خلفوا تركوا فلم تقبل توبتهم كما قرء على بكر ابن سهل عن ابي صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابيه كعب بن مالك وذكر الحديث وقال فيه وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن خلف له واعتذر إليه فقبل منه قال سهل بن سعد وكعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع العمري قال مجاهد هم من الأوس والخزرج 101 - وقوله جل وعز والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا (آية 107)

(3/252)


أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا أي مضارة
102 - ثم قال تعالى وتفريقا بين المؤمنين وإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل (آية 107) قال مجاهد هو أبو عامر خرج إلى الشام يستنجد قيصر على قتال المسلمين وكانوا يرصدون له وقال أبو زيد يقال رصدته في الخير وارصدت لأن له في الشر وقال ابن الأعرابي لا يقال إلا أرصدت ومعناه ارتقيت 103 - وقوله جل وعز لا تقم فيه أبدا لمسجد اسس على التقوى من أول يوم أحق ان تقوم فيه (آية 108)

(3/253)


يروى انهم دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فيه كما صلى في مسجد قباء قال سهل بن سعيد وأبو سعيد الخدري اختلف رجلان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد النبي وقال الآخر هو مسجد قباء فاتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسالاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو مسجدي هذا وفي حديث أبي سعيد وذلك خير كثير 104 - ثم قال جل وعز فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (آية 108)

(3/254)


يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن طهورهم فقالوا إنا
نستنجي بالماء فقال أحسنتم والهاء في قوله أحق أن تقوم فيه يعود على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والهاء في قوله فيه رجال يحبون أن يتطهروا يعود على مسجد قباء ويجوز ان تكون تعود على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم 105 - وقوله جل وعز أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم (آية 109) والشفا الحرف والحد والجرف ما جرفه السيل والهاري وقد المتهدم الساقط

(3/255)


106 - وقوله جل وعز لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم (آية 110) قال قتادة أي شكا كأنهم عوقبوا بهذا وقال السدي أي حزازة 107 - ثم قال جل وعز إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (آية 110) قال عطاء ومجاهد وقتادة إلا أن تقطع قلوبهم الا أن يموتوا وقال غيرهم أي إلا ان يتوبوا توبة يندمون فيها على ما فعلوا حتى يكونوا بمنزلة من قد قطع قلبه

(3/256)


وقرأ عكرمة إلى أن على الغاية 108 - وقوله جل وعز إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بان لهم الجنة (آية 111) هذا تمثيل كما قال جل وعز أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى 109 - وقوله جل وعز التائبون العابدون الحامدون السائحون (آية 112) قال الحسن أي التائبون من الشرك العابدون الله وحده السائحون روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال الصائمون وقد صح عن ابن مسعود

(3/257)


قال أبو جعفر وأصل السيح الذهاب على وجه الأرض ومنه قيل ماء سيح ومنه سمي سيحان وقيل للصائم سايح لأنه تارك للمطعم والمشرب والنكاح فهو بمنزلة السايح 110 - ثم قال جل وعز الراكعون الساجدون (آية 112) أي المؤدون الفرائض ثم قال جل وعز الآمرون بالمعروف أي بالإيمان بالله جل وعز ثم قال والناهون عن المنكر أي عن الكفر
ويجوز ان يكون المعنى ألاحرون علي بكل معروف والناهون عن كل منكر

(3/258)


والحافظون لحدود الله أي العاملون بأمر الله جل وعز ونهيه 111 - وقوله جل وعز ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى (آية 113) وروى أبو الخليل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال مررت برجل من المسلمين يستغفر لأبيه وقد مات مشركا قال فنهيته فقال قد استغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعده إياه إلى آخر الآيتين وفي بعض الروايات فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقرأ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآيتين

(3/259)


وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ابا طالب حين حضرته الوفاة وكان أبو جهل وعبد الله بن أمية عند فقال النبي صلى الله عليه وسلم أي عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب فابى ان يقول لا
إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك ما لم انه فانزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وأنزل إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء قال ابن مسعود ناجى النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه وبكى وقال إني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي ونزل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وقيل معنى إلا عن موعدة وعدها إياه إن أباه وعده

(3/260)


أن يسلم فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله بإقامته الكفر تبرأ منه وقال عبد الله بن عباس لما تبين له أنه عدو لله بان مات وهو كافر تبرأ منه 112 - وقوله عز وجل إن إبراهيم لأواه حليم (آية 114) روى أبو ظبيان عن ابن عباس أنه قال الأواه الموقن وروي عن عبد الله بن مسعود قولان أصحهما إسنادا ما رواه حماد عن عاصم عن زر عن ابن مسعود أنه قال هو الدعاء والآخر انه الرحيم وروي عن مجاهد أنه الفقيه وقال كعب إذا ذكر النار تأوه

(3/261)


قال أبو جعفر وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن هذه
كلها من صفات إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا ان أحسنها في اللغة الدعاء لأن التأوه إنما هو صوت قال المثقب إذا ما قمت ارحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين وقول كعب أيضا حسن أي كان يتأوه إذا ذكر النار وقال سعيد بن جبير المسبح وقيل الذي يتأوه من الذنوب فلا يعجل إلى معصية فلم يستغفر لأبيه إلا لوعده لأن الاستغفار للكافر ترك الرضا لأفعل الله عز وجل واحكامه 113 - وقوله جل وعز وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون (آية 115) قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله أي يحتج عليهم بامره كما قال تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها

(3/262)


ففسقوا فيها وقال مجاهد يبين لهم أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة وروي أنه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله عز وجل وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون 114 - وقوله جل وعز لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة (آية 179) قال عبد الله بن محمد بن عقيل بن ابي طالب خرجوا في
غزوة تبوك في حر شديد وكان الرجلان والثلاثة على البعير الواحد فعطشوا يوما عطشا شديدا فأقبلوا ينحرون الإبل ويشقون أكراشها ويشربون ما فيها

(3/263)


115 - ثم قال جل وعز من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم (آية 117) تزيغ تميل وليس ميلا عن الإسلام وإنما هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به 116 - وقول عز وجل وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت (آية 118) كان أبو مالك يقول خلفوا عن التوبة وحكي عن محمد بن يزيد معنى خلفوا تركوا لأن معنى خلفت فلانا فارقته قاعدا عما نهضت فيه

(3/264)


وقرأ عكرمة بن خالد خلفوا أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ خالفوا ومعنى رحبت وسعت ومعنى وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه وأيقنوا 117 - وقوله جل وعز ثم تاب عليم ليتوبوا (آية 118) فيه جوابان أحدهما أن المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة كما

(3/265)


قال تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا والآخر أنه فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم قال جل وعز فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم 118 - وقوله جل وعز يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (آية 119) قيل مع الصادقين الذين يصدقون في قولهم وعملهم وقيل الذين يصدقون في إيمانهم ويوفون بما عاهدوا عليه كما قال تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 119 - وقوله جل وعز ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ان يتخلفوا عن رسول الله (آية 120) وقد قال بعد هذا وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين (آية 122) قال قتادة أمروا ألا يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج

(3/266)


بنفسه فإذا وجه سرية تخلف بعضهم ليسمعوا الوحي والأمر والنهي فيخبروا به من كان غائبا وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وما كان المؤمنون لينفروا كافة انها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت
القبيلة تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد واجهدوهم حتى فأنزل الله عز وجل يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله سبحانه ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وبهذا الإسناد قال يعني ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده والتأويلان متقاربان والمعنى إنهم لا ينفرون كلهم ويدعون حفظ أمصارهم وعمرانها ومنع الأعداء

(3/267)


منها وعليهم حفظ نبيهم صلى الله عليه وسلم كما خفف عليهم حفظ أمصارهم من الأعداء 120 - ثم قال جل وعز ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا محمصة في سبيل الله (آية 120) ظمأ أي عطش ولا نصب وهو أشد التعب قال قتادة والمخمصة المجاعة 121 - وقوله جل وعز وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه إيمانا (آية 124) أي فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذ إيمانا لأنه إذا آمن بها فقد ازداد إيمانه 122 - ثم قال جل وعز وأما الذين في قلوبهم مرض (آية 125) أي شك فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي كفرا إلى كفرهم
123 - وقوله جل وعز أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين (آية 126)

(3/268)


قال الحسن أي يبتلون بالغزو في كل سنة مرة أو مرتين قال مجاهد أي يبتلون بالسنة والجدب 124 - وقوله جل وعز وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد (آية 127) لأنهم منافقون فكان بعضهم يومئ إلى بعض فيقول ايكم زادته هذه إيمانا ثم انصرفوا يجوز أن يكون المعنى ثم انصرفوا من موضعهم ويجوز أن يكون المعنى ثم انصرفوا عن الإيمان

(3/269)


125 - ثم قال جل وعز صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (آية 127) قال الزجاج أي أضلهم مجازاة على فعلهم 126 - وقول جل وعز لقد جاءكم رسول من أنفسكم (آية 128) روى جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال لم يكن في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ يعاب قال صلى الله عليه وسلم انا من نكاح لا من سفاح قال أهل اللغة يجوز أن يكون المعنى لقد جاءكم رسول
من أنفسكم أي بشر كما أنكم بشر فأنتم تفقهون عنه ويجوز أن يكون المعنى أنه من العرب فهو منكم فأنتم

(3/270)


تقفون على صدقه ومذهبه 127 - ثم قال جل وعز عزيز عليه ما عنتم (آية 128) أي شديد عليه عنتكم وأصل العنت الهلاك فقيل لما يؤدي إلى الهلاك عنت 128 ثم قال جل وعز حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (آية 128) قال قتادة أي حريص على من لم يسلم أن يسلم 129 - ثم قال جل وعز فإن تولو فقل حسبي الله (آية 129) أي يكفيني الله يقال أحسبني الشئ إذا كفاني

(3/271)


130 - ثم قال جل وعز لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (آية 129) وقرأ ابن محيصن وهو رب العرش العظيم وهي قراءة حسنة بينة وروي عن ابن عباس أن آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من انفسكم تمت سورة براءة والحمد لله

(3/272)