(6/489)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
وهي مدنية
في رواية مجاهد عن ابن عباس وروى الزهري عن عروة بن الزبير عن
المسور بن مخرمة ومروان قالا نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة
كلها في شأن الحديبية
1 - من ذلك قوله جل وعز (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) (آية 1) روى
قتادة عن أنس قال نزلت (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله
ما تقدم من ذنبك وما تأخر) بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم
من الحديبية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد نزلت علي
آية
(6/491)
أحب إلي من جميع الدنيا ثم تلاها فقال رجل
من المسلمين هنيئا مريئا هذا لك يا رسول الله فماذا لنا فأنزل
الله جل وعز
(ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنت تجري من تحتها الأنهار) إلى آخر
الآية قال مجاهد في قوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) قال
قضينا لك قضاء بينا قال سفيان (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك)
أي ما كان في الجاهلية (وما تأخر) قال ما كان في الإسلام مما
لم تعمله بعد
(6/492)
قال أبو جعفر في قوله جل وعز (إنا فتحنا لك
فتحا مبينا) ثلاثة أقوال: متقاربة أ: منها ما تقدم أنه فتح
الحديبية والحديبية بئر سمي المكان باسمها قال أبو جعفر ولا
أعرف أحدا من أهل اللغة يشدد الياء منها وكان في فتحها أعظم
الآيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي ورد على هذه
البئر وقد نزف ماؤها فتمضمض صلى الله عليه وسلم وتفل فيها
فأقبل الماء حتى شرب كل من كان معه ولم يكن بينهم إلا ترام حتى
كان الفتح هذا قول
(6/493)
ب - وقيل المعنى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)
باجتناب الكبائر (ليغفر لك الله) الصغائر ج - وقيل (إنا فتحنا
لك فتحا) بالهداية إلى الإسلام فهذه الأقوال متقاربة وقول
مجاهد يجمعها لأن فتح الحديبية
قضاء من قضاء الله وهداية من هدايته يهدي بها من شاء وكذلك
اجتناب الكبائر وقد روي عن ابن عباس ما يقويه قال ما كنت أدري
ما معنى (إنا فتحنا) حتى قالت لي ابنة مشرح فتح الله بيني
وبينك وقوله تعالى (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)
(6/494)
2 - وقد تكلم العلماء في قوله تعالى (ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (آية 2) فقال أبو حاتم
المعنى ليغفرن لك الله وقال أبو الحسن بن كيسان لا يجوز أن
تكون إلا (لام كي) قال قال الله جل وعز (إذا جاء نصر الله
والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك
واستغفره إنه كان توابا) فأمر الله أن يستغفره إذا كان الفتح
ووعده بالمغفرة فكان قوله (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك
الله) متعلقا بذاك وقيل (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما
تأخر) مما
(6/495)
كان أي مما كان مقدما ومؤخرا وقد وقع ذلك
كله وقيل (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) كله
للمستقبل أي لتقع المغفرة في الاستقبال فيما يكون من الذنوب
أولا وآخرا
3 - ثم قال جل وعز (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
وينصرك الله نصرا عزيزا) (آية 2، 3) أي نصرا ذا عز لا ذل معه 4
- ثم قال جل وعز (هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين
ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) (آية 4)
(6/496)
(السكينة) اي السكون والطمأنينة 5 - وقوله
جل وعز (ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما) (آية
4) أي كل ما فيها يدل على أن له خالقا وأنه واحد 6 - ثم قال جل
وعز (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)
(آية 5) أي فتح لك بالإسلام والهداية بهذا ويدل عليه أيضا قوله
سبحانه (ويعذب المنافقين
(6/497)
والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين
بالله ظن السوء) (آية 6) لأنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يرجع (عليهم دائرة السوء) أي الهلاك ويقرأ السوء
والفرق بينهما أن السوء الشئ بعينه والسوء الفعل 7 - وقوله جل
وعز (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) (آية 8)
قال قتادة أي شاهدا على أمتك (ومبشرا) المحسن منهم (ونذيرا)
المسئ قال أبو جعفر هذا قول حسن وهذه حال مقدرة
(6/498)
حكى سيبويه مررت برجل معه صقر صائدا به غدا
فالمعنى إنا أرسلناك مقدرين لشهادتك عبد يوم القيامة وعلى هذا
تقول رايت عمروا قائما غدا 8 - وقوله جل وعز (لتؤمنوا بالله
ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة واصيلا) (آية 9) روى شعبة
عن ابي بشر عن عكرمة في قوله تعالى (وتعزروه) قال وتقاتلوا معه
بالسيف قال قتادة وتنصروه وقرأ جويبر اي وتفخموه وقرأ عاصم
الجحدري (وتعزروه) وأصله في اللغة من التبجيل والتطهير ومنه
التعزير الذي هو دون الحد
(6/499)
وقرا محمد اليماني (وتعززوه) بزاءين
معجمتين يقال عززه أي جعله عزيزا وقواه ومنه قوله تعالى
(فعززنا بثالث) ويجوز أن يكون (وتعزروه وتوقروه) لله جل وعز
وحده ويجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم 9 - فأما قوله
تعالى (وتسبحوه بكرة وأصيلا) (آية 9)
فلا يجوز أن تكون إلا لله جل وعز لأنه ليس يخلو من أن يكون
معناه كما قال جويبر وتصلوا له أو يكون معناه وتعظموه وتنزهوه
(6/500)
10 - وقوله جل وعز (إن الذين يبايعونك إنما
يبايعون الله) (آية 10) أي عقدك عليهم البيعة عقد لله جل وعز
11 - ثم قال جل وعز (يد الله فوق أيديهم) (آية 10) أي يد الله
في الثواب وقيل في الوفاء وقيل في المنة عليهم بالهداية
(6/501)
(فوق أيديهم) في الطاعة (فمن نكث فإنما
ينكث على نفسه) يقال نكث إذا نقض ما اعتقده 12 - وقوله جل وعز
(سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر
لنا) (آية 11) قال مجاهد هم أعراب المدينة وجهينة ومزينة ثم
قال تعالى (شغلتنا أموالنا وأهلونا) أي ليس لنا من يحفظ
أموالنا ويقوم بأهالينا 13 - وقوله جل وعز (سيقول المخلفون إذا
انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم) (آية 15)
قال مجاهد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى مكة
فأبوا وقالوا كيف نخرج معه إلى قوم جاءوا إليه فقتلوا أصحابه
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما على غفلة ووجه
بهم قالوا (ذرونا
(6/502)
نتبعكم) 14 - ثم قال جل وعز (يريدون أن
يبدلوا كلام الله) (آية 15) وهو على قول ابن زيد قوله جل وعز
(فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) 15 - وقوله جل
وعز (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد
تقاتلونهم أو يسلمون) (آية 16) روى سفيان عن شعبة عن جعفر بن
إياس عن سعيد بن جبير قال سفيان أراه عن ابن عباس (ستدعون إلى
قوم أولي بأس شديد) قال هوازن
(6/503)
وقال عطاءهم فارس وقال الحسن فارس الروم
ومن أصح ما قيل فيه انهم بنو حنيفة الذين قوتلوا في الردة وكان
هذا مما يدل على صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه من القرآن
ويدلك على ذلك قوله تعالى (تقاتلونهم أو يسلمون) فليس هذا ممن
تؤخذ منهم الجزية
(6/504)
16 - وقوله جل وعز (وإن تتولوا كما توليتم
من قبل يعذبكم عذابا
أليما) (آية 16) أي كما توليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم 17
- قال عثمان بن المغيرة سألت الحسن عن قوله تعالى (ليس على
الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) (آية 17)
فقال هذا في الجهاد 18 - وقوله جل وعز (لقد رضي الله عن
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (آية 18) قال جويبر بايعوا
على أن لا يفروا
(6/505)
وقال قتادة كانوا ألفا وأربعمائة وكانت
الشجرة سمرة 19 - وقوله جل وعز (فعلم ما في قلوبهم فانزل
السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) (آية 18) (فعلم ما في
قلوبهم) من الإخلاص (فأنزل السكينة عليهم) قال قتادة الصبر
والوقار (وأثابهم فتحا قريبا) قال ابن أبي ليلى خيبر 20 -
وقوله جل وعز (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه
وكف أيدي الناس عنكم) (آية 20) قوله (فعجل لكم هذه) قال مجاهد
يعني خيبر
(6/506)
ثم قال تعالى (وكف أيدي الناس عنكم) لأنهم
خلفوا عيالاتهم فزعين عليهم فمنع الله منهم وكف أيدي الناس
عنهم 21 - وقوله جل وعز (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله
بها وكان الله على كل شئ قديرا) (آية 21) روى شعبة عن سماك
الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول في قوله تعالى (وأخرى لم تقدروا
عليها) هي الفتوح التي فتحت لكم وقال ابن أبي ليلى هي فارس
والروم وقال مجاهد هو ما يكون بعد إلى يوم القيامة وقال قتادة
هو فتح مكة
(6/507)
22 - ثم قال جل وعز (ولو قاتلكم الذين
كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) (آية 22) قال
قتادة كفار قريش قال أبو جعفر ولو قاتلكم من لم يقاتلكم منهم
لانهزموا لأن في سنة الله نصر أوليائه قال قتادة يعني في قوله
عز وجل (ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) ولا يجدون لهم وليا ولا
نصيرا من الله جل وعز 23 - وقوله جل وعز (وهو الذي كف أيديهم
عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) (آية 24)
(6/508)
كف أيدي المشركين عمن خلفه المؤمنون حين
خرجوا إلى الحديبية
قال قتادة في قوله تعالى (وكف أيديكم عنهم) تطلع رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم فرماه المشركون بسهم
فقتلوه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فأخذوا اثني عشر
فارسا فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم الكم عهد
أو ذمة قالوا لا فأطلقهم فأنزل الله تعالى (وهو الذي كف أيديهم
عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) قال قتادة يعني الحديبية
(6/509)
24 - وقوله جل وعز (هم الذين كفروا وصدوكم
عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) (آية 25) قال
قتادة (والهدي معكوفا) محبوسا 25 - وقوله جل وعز (أن تطئوهم
فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء) (آية
25) (أن تطئوهم) أي تقتلوهم (فتصيبكم منهم معرة) أي عيب يقول
المشركون قتلوا أهل دينهم ولو فعلتم لأدخلهم الله في رحمته
(6/510)
26 - وقوله جل وعز (لو تزيلوا لعذبنا الذين
كفروا منهم عذابا أليما) (آية 25) قال مجاهد (لعذبنا الذين
كفروا) بالسباء والقتل 27 - وقوله جل وعز (وألزمهم كلمة
التقوى) (آية 26)
قال علي بن أبي طالب وابن عمر وأبو هريرة (كلمة التقوى) لا إله
إلا الله 28 - ثم قال تعالى (وكانوا أحق بها وأهلها) (آية 26)
أي أن الله اختارهم لدينه 29 - وقوله جل وعز (لقد صدق الله
رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إنشاء الله آمنين
محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) (آية 27) قال مجاهد راى
النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قد دخل مكة هو وأصحابه
(6/511)
محلقين وقال قتادة هي رؤيا رآها النبي صلى
الله عليه وسلم بالحديبية كأنهم دخلوا مكة محلقين رؤوسهم
ومقصرين فاستبطأوا الرؤيا ثم دخلوا بعد ذلك فأما قوله تعالى
(إن شاء الله) ففيه اقوال: أ - منها إن المعنى إن شئت دخلتم
آمنين ب - وقيل هو حكاية لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ج -
وقيل خوطب العباد على ما يجب أن يقولوه كما قال تعالى (ولا
تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) د - وقيل
الاستثناء لمن مات منهم أو قتل
(6/512)
30 - وقوله جل وعز (فعلم ما لم تعلموا فجعل
من دون ذلك فتحا قريبا) (آية 27)
قال مجاهد رجعوا من الحديبية ثم فتح الله عليهم خيبر 31 -
وقوله جل وعز (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار
رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا
سيماهم في وجوههم من اثر السجود) (آية 29) قال سعيد بن جبير
ذلك اثر الطهور وثرى الأرض وقال عكرمة هو أثر التراب
(6/513)
قال ابن وهب أخبرني مالك في قوله تعالى
(سيماهم في وجوههم) قال هو ما يتعلق بالجهة من تراب الأرض فهذا
قول وقال مجاهد إنما هو الخشوع والتواضع وليس للمنافق هذا وقال
الحسن بياض يكون في الوجه يوم القيامة وقال عطية موضع الجبهة
يوم القيامة اشد بياضا من سائر الوجه وقال الضحاك هذا يوم
القيامة تبدو صلاتهم على
(6/514)
وجوههم وقال شمر بن عطية هو تهيج الوجه
وصفرته من سهر الليل وقال فتادة نعتوا بالصلاة اي يعرفون
بالصلاة
32 - ثم قال جل وعز (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل
كزرع أخرج شطأه) (آية 29) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
(مثلهم) يعني نعتهم (في التوراة والإنجيل) أي مكتوب فيهما وقال
قتادة فيما تقدم مثلهم في التوراة ولهم مثل آخر في الإنجيل وهو
(كزرع أخرج شطأه) قال الضحاك هما مثلان فالأول في التوراة
والثاني في الإنجيل وقال مجاهد هما مثل واحد والتمام على قول
مجاهد (في الإنجيل)
(6/515)
33 - ثم قال جل وعز (كزرع أخرج شطأه فآزره
فاستغلظ فاستوى على سوقه) (آية 29) (كزرع) أي هم كزرع (اخرج
شطأه) روى حميد عن أنس قال نباته فروخه قال أبو عبيدة يقال
أشطأ الزرع إذا خرجت فراخه قال الفراء الحبة تخرج العشر والسبع
والثماني من السنبل
(6/516)
ثم قال تعالى (فآزره) قال مجاهد أي شدده
وأعانه
(6/517)
ثم قال تعالى (فآزره) قال مجاهد أي شدده
وأعانه وقال الضحاك هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا
قليلا فكثروا وضعفاء فقووا 34 - ثم قال جل وعز (فاستغلظ فاستوى
على سوقه) (آية 29) جمع ساق (يعجب الزراع) تمثيل (ليغيظ بهم
الكفار) قال قتادة أي ليغيظ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
الكفار
(6/517)
35 - ثم قال جل وعز (وعد الله الذين آمنوا
وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (آية 29) يجوز ان
تكون من ههنا لبيان الجنس كما قال تعالى (فاجتنبوا الرجس من
الأوثان) ويجوز أن تكون للتبعيض أي وعد الله الذين ثبتوا على
الإيمان منهم مغفرا وأجرا عظيما
آخر السورة
والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا محمد رسوله وعلى آله وصحبه وسلم
انتهت سورة الفتح
تم الكتاب بعون الله وتوفيقه
في البلد الحرام " مكة المكرمة " عام 1409 هـ من هجرة خير
الانام
تم بعونه تعالى الكتاب
(6/518)