معترك الأقران في إعجاز القرآن

 (حرف التّاء المثناة)
(تَلَقَّى آدَمُ) ، أي أخذ، وقبل، على قراءة الجماعة.
وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذه من اللقاء.
(تَوَّاب) : من أسماء الله.
والتوَّاب من العبْد: كثير التوبة.
(تاب) ، إذا رجع.
وتاب الله على العبد: ألهمه التوبة، أو قبل توبتَه.
(تَجْزي) : تقضي وتغْنِي.
ومنه: (لا تجْزِي نَفْسٌ عن نَفْسٍ شيئاً) .
يقال جزاه فلان دَيْنَه إذا قضاه.
وتجازى فلان ديْن فلان: أي تقاضاه.
والمتجازي: المتقا ضي.
(تَتْلون) : تقرؤون.
(تنسون) : تتركون.
(تَلبِسون) ،: تخلطون.
(تَعْثَوا) : تفسدوا.
(تعقلون) العاقل الذي يحبس نفسَه ويردها عن هواها.
ومن هذا قولهم: اعتقل لسان فلان، إذا حبس ومنع من الكلام.
(تَسْفِكون) تصبّون.
(تَظَاهَرون) : تتعاونون.
(تقتلون أنفسَكم) في هذا وفيما بعدها جاء مضارعاً مبالغة، لأنه أريد
استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لولا أن الله عَصَمه.
وضمير هذه الآية لقرَيظة، لأنهم كانوا حلفاء الأوس، والنَضير حلفاء الخزرج، وكان كلّ فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، وينفيه من موضعه إذا ظفر به.

(2/96)


(تَهْوَى أنفسكم) ، أي تميل.
ومنه: (أفرأيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هَوَاه) ، أي ما تميل إليه نفسه.
(تشابهت قلوبُهم) ، الضمير للذين لا يعلمون والذين من
قبلهم، وتشابُة قلوبهم في الكفر، وفي طلب ما لا يصح أن يُطْلب.
وهو قولهم يكلِّمنا الله.
(تصريفِ الريَاحِ) ،: تحويلها من حال إلى حال جنوباً
وشمالاً ودَبُّوراً وصَباً وما بينها بصفات مختلفة، فمنها ملقِحَةٌ للشجر، وعقيم
وصر، وللنصر وللهلاك، كأنه تعالى يقول: خلقت الخفاش من الريح، وحفظت ملك سليمان فوق الريح، وأهلكت قوم عادٍ بالريح، ولقحت الشجر بالريح، ونحتّ ورَقها بالريح.
ونظيره: أخرجت ناقة صالح من الحجر، وأدخلت ولدها في الحجر.
وأهلكت قوم لوط بالحجر.
ونظيره: خلقت إبليس من النار، وحفظت إبراهيم في النار، وعذّبت الكفار
في النار.
ونظيره: خلقت آدَم من التراب، وحفظت أصحاب الكهف في التراب.
وأهلكت قوم عاد بالتُّراب، كلُّ ذلك إشارة لكم أنه ملك قادر وصابر قاهر.
(تَهْلُكة) : هلاك.
قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد.
وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العَيْلة.
وقيل: لا تقْنَطوا من الغربة.
وقيل: لا تقتحموا الهالك.
(تَرَبُّص أربعةِ أشهر) .، أي تمكث.
والآية في الإيلاء، إلا أنَّ مالكاً جعل مدة إيلاء العبْد شهرين، خلافاً للشافعي.
ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافاً للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهُه أنها اليمين الشرعية.
ولا يكون مُوليآ عند مالك والشافعي

(2/97)


إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر.
وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا.
فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف.
ولفظ الآية يحتمل القولين.
(تَختَانونَ أنفسَكم) ، أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان.
(تَعْضُلُوهُنَّ) : تمنعوهن من التزويج.
وأصله من عضلت المرأة إذا نشب ولدُها في بطنها وعند خروجه.
(تَيَمَّموا) ، أي تقصدوا الرديء للنفقة.
(تَسْأموا) : تملَّوا من الكتابة إذا ترددت وكثرَت، سواء كان الحق صغيراً
أوكبيرا.
(تَرْتَابوا) : تشكّوا.
(توراة) معناه الضياء والنور.
(تأويل) : مصير ومَرْجع وعاقبة.
يقال فلان تأوَّل الآية، أي نظر إلى ما يؤول معناها إليه.
وقد قدمنا الأخبار عن انفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن وذَمَّه لمن
طلب عِلْمَ ذلك من الناس، وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم والانقياد
والاعتراف بالعجز عن معرفته.
(تَخْلق من الطِّين) ، أي تقدِّر، يقال لمن قدر شيئاً
فأصلحه قد خلقه، فأما الخَلْق الذي هو الإحداث فهو لله وحده.
قيل إن عيسى لم يخلق غير الخفاش.
(تَقْوى) : مصدر مشتقّ من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه الخوف.
والتزام طاعةِ الله، وتَرْك معاصيه، فهو جِمَاع كل خير.
(تَهنُوا) : تضعفوا، وفيه تقوية للمؤمنين.

(2/98)


(تَفرَّقوا) ، من الفرقة، وهي القطيعة، فنهى المؤمنين عن التدابُر والتقاطع.
إذ كان الأوس والخَزرَج يقتتلان لما رأى اليهود إيقاعَ الشر بينهم.
(تَمنَّوْن الموت) ، من التمنِّي.
وخُوطب به قوم فاتتهم غزوة بَدْرٍ فتمنَّوْا حضورَ قتال الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستدركوا ما فاتهم من
الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد، وهو سبب الموت.
فإن قلت: قد صح النهي عن تمَنِّي لقاء العدو.
فالجواب: إنما نهي عن تمني لقائهم مع العدد القليل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "وسَلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا للقائهم، وتمنَّوا الشهادة في سبيل الله لنصرَةِ دينه".
(تَحُسُّونَهُمْ) ، تقتلونهم قتلاً ذَرِيعاً، يعني في أول الأمر.
(تنَازَعْتم) ، يعني وقع التنازع بين الرّماة، فَثبت بعضُهم كما أمِروا، ولم
يثبت بعضهم، فعفا الله عنهم بفضله ورحمته.
(تَعُولوا) ،: تميلوا.
وفي الآية إشارة إلى الاقتصار على الواحدة.
والمعنى أن ذلك أقرب إلى أن تَعولوا.
وقيل: يكثر عيالكم، وهذا غير معروف في اللغة.
(تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ، تجاوزوا الحدَّ، وترتفعوا عن الحق.
وهذا الخطاب للنصارى، لأنهم غلوا في عيسى حتى قالوا ابن الله.
(تَسْتَقْسِموا) : تستفعلوا، وهو طلب ما قسم له، وذلك أنهم
كانوا يكتبون على الأزلام - وهي السِّهَام - على أحدها: افْعَلْ، وعلى الآخر: لا تَفْعَلْ، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يفعل أمراً جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج الذي فيه " افعل " فعل، وإن خرج الذي فيه " لا تفعل " تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب.
ومن هذا المعنى أخذ

(2/99)


الفأل في المصحف والقرعة وزَجْر الطير، ونحوها مما لا يجوز فعله.
وقد شدَّدَ ابن العربي في النظر في شيء منها حتى جعلها من الكفر والعياذ بالله، مستدلاًّ بالآية: (ذلكم فِسْقٌ) .
وإنما حرّمه الله وجعله فِسْقاً لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها لما يُرام به من الاطلاع على الغيوب.
(تَنْقِمون منَّا) : أي تُنكرون منّا إلا إيماننَا بالله، وبجميع
كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يُعاب.
ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذين
يؤمن بهم، فتلا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... إلى آخر الآية.
فلما ذكر عيسى قالوا لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به.
(تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : أي تنصرف بإثمي إذا قتلتني، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قُرْبانك.
أو بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي.
وإنما تحمَّل القاتل الإثمين لأنه ظالم، فذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: المستبان ما قالاَ فهو على البادي.
وقيل بإثمي، أي تحمل عنّي سائر ذنوبي، لأن الظالم تجعل عليه
في يوم القيامة ذنوب المظلوم.
(تُصغي) : تميل.
ومنه: (فقد صَغَت قلوبُكما) .
(تَلقَف) ، وتلقَم وتلهم بمعنى تبتلع.
ويقال: تلقّفه والتَقَفَهُ، إذا أخذه أخذاً سريعا.
وروي أن الثعبان أكَلَ ما صوَّروا من كذبهم، ملء الوادي، من حبالهم وعصيِّهم، ومدَّ موسى يده إليه فصار عصاً كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحْرِ، وليس في قُدْرة البشر، فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام.
(تجلّى) ، أي ظهر وبان، أما تجلّي الرب للجَبَل فإنما كان ذلك لأجل
موسى، لأنه سأل رُؤيته، فقال له: لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلّى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد، فإن استقر وأطاق الصبْر لرؤيتي ولهَيْبَتي أمكنَ أنْ ترى

(2/100)


أَنتَ، وإن لم يُطقْ فأحرى ألاَّ ترى أنتَ، فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالاً
لموسى.
وقال قوم: المعنى سأتجلَّى لك على الجبل، وهو ضعيف، يبطله قوله:
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) .
وروِيَ أن طائرين ذكراً وأنثى كانا في الجبل، فلما سمعا طلبَ موسى الرؤية
قال لها الذَّكَر: نَفِرُّ من هذا الجبل، لأنَّا لا نقدر على رؤية الحق.
فقالت له: نقرُّ فيه لنفوز بحظ الرؤية، فيكون لنا فَخْر على سائر الطيور.
فقال لها الذكر: إذاً فيكون ذلك لك.
فلما تجلى الحقُّ للجبل تفتَّتَ حتى صار غبارا، وساخ في الأرض، وأفضَى إلى البحر، ولهذا كان رأي الأنثى فاسداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
شاوِروهنّ وخالفوهن.
(تَأَذَّنَ رَبُّكَ) : أعلم.
وتَفَعّل يأتي بمعنى أفعل، كقولهم أوعدني وتوعّدني.
(تَغَشَّاها) : علاها بالنكاح.
فسبحانَ مَنْ خاطب العرب بلغاتهم، إذ كانوا يتصرّفون بالتسمية لمسمى واحد، كالجماع، فتارة كنى عنه سبحانه بالسر والقُرْب
والنكاح.
وكانوا يوسعون في التسمية لاختلاف أحواله بأسماء، كتسمية طِفْلِ بني آدم
ولدا، ومن الخيل فَلُوًّا وفهْراً، ومن الإبل حواراً وفَصِيلاً، ومن البقر عِجْلاً، ومن الغنم سَخْلة، ومن الأرْنَب خِرْنقا، ومن الغزال خَشْفاً، ومن الكلب جَروا، إلى غير ذلك.
ويداً تلوّثَتْ بلحم غَمِرة، وبطين لثِقَة، وبطيب عَبِقة، وبوسخ وَضِرَة، إلى
غير ذلك.
وكطعنته بالرمح، وضربته بالسيف، ورميته بالسهم، ووكَزْتُه بالعصا وباليد، وَركَلْته بالرِّجل، إلى غير ذلك.
ويدل علي اتِّساع اللغة وكثرة فنونها أنهم قد جعلوا بألفاظها شبهاً بمعنى،

(2/101)


فقالوا: خَلاَ، ولِمَا كثرَت حلاوته احْلَوْلَى، وللخشن إذا زادت خشونته
اخشَوْشَن.
ولثوبٍ خلقٍ إذا زاد رثاثةً اخلَوْلَق.
ولحائط مَيْل - بإسكان وسطه ليكون ميله ثابتاً، وحرّكوه فيما يتحرك كشجرة مَيل، وكالنّزَوَان وكالرَمَلان والْغَلَيان ليشبه لفظه معناه.
وبدائع اللغة كثيرةٌ، وحكمها وإعجازها في القرآن، ولا يحيط بجميعها إلا
نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(تَصْدِية) : تصْفيق بإحدى يديه على الأخرى، فيخرج
بينهما صوتٌ، وكانوا يفعلونها عند البيت إذا صلَّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم.
(تَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) : تجْبنوا وتذهب دولتكم، وهو استعارة.
(تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) : تظفر بهم، والضمير عائد على بني قرَيظة، لأنهم نقضوا العهد.
(تَفْتِنِّي) ، أي تؤثمني.
وقائل هذه المقالة الجَدُّ بن قَيْس، وكان من المنافقين لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غَزوة تَبوك، فقال: ائذن لي في
القعود ولا تفْتِنِّي برؤية بني الأصفر، فإني لا أصبر على النساء.
(تزهَق أنفسهم) ، أي تهلك، وهذا إخبار بأنهم يموتون على
الكفر.
(تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) ، أي تميل عن الحقّ.
وهذا الضمير راجع إلى من اتّبعه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة العُسْرة لما رأوا من الضّيق والمشقّة، فتاب الله عليهم عما كانوا يفعلون فيه.
(تَفِيض مِنَ الدمْعِ) ، أي تبكي وتسيل أعينهم بالدموع
حين قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: لا أجد ما أحملكم عليه في غزوة تبوك.
وفي هذا مدح لبني مُقرن.

(2/102)


وقيل سبعة نَفَر مِنْ بطون شتى، ويكفيك وصفهم بالإحسان ونصْحهم لله
ولرسوله.
(تَبْلو) : تختبر ما قدمت من الأعمال.
وقرئ تتلو - بتاءين، بمعنى تتبع، أو تقرؤه في المصاحف.
(تَغْنَ بالأمْس) : تعمر.
والغاني: النازل التي يعمرها الناس بالنزول.
(تَرْهقهم) : تغشَاهم.
والضمير للذين كسبوا السيئات فلا يعصمهم أحد من عذاب الله.
ومنه قولهم: غلام مُرَاهِق، أي غشي الاحتلام.
(تَبْدِيل) : تغيير الشيء عن حاله، والإبدال جعل الشيء
بمكان شيء.
وقد استدل ابن عمر بهذه الآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن
يبدِّله.
(تَخْرُصون) ،: تحدسون وتحزرون.
(تلْفِتَنا) ، أي تصرفنا وتردَّنا عن دين آبائنا.
(تَزْدَري أعْيُنكم) ، أي تحتقر.
والمراد من قولك زريت على الرجل عبته.
والضمير في (لكم) عائد على ضعفاء المؤمنين.
(تَتْبِيب) : تخسير، أي كلما دعوتكم إلى هذا ازددتم
تكذيباً، فزادت خسارتكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن خبير في قوله: (ولِيُتبِّروا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) .
قال: تبره بالنبطية.
(تَرْكَنوا) ، أي تركنوا إليهم وتسكنوا إلى كلامهم.
ومنه قوله: (لقد كِدْتَ ترْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً) .
وفي الحديث: يُجَاءُ بالظَّلَمَةِ ومَنْ بَرَى لهم قلماً أو أَلَانَ لهم دواة فيلقون في توابيت مِنْ نارٍ فيلقى بهم في النار.
وانظر كيف عطف عدمَ نصرتهم بـ ثمَّ لبُعْد النصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون

(2/103)


على عدم نصرتنا لدين الله وشَرَهنا لموالاة الظلمة، وجمعنا لجِيَفهم كالكلب الشره لها، ولم تعلموا أنه كالنفظ في جوف خشبة الجسم، فإذا هبَّتْ عواصفُ المنون التهب وفات التدارك، اللهم إنا عاجزون عن إصلاح أنفسنا، فمُنَّ علينا بهداية تجبر بها حالنا المظلمة، لأنك لا تحب الظالمين، ورحمتك قريب من المحسنين.
(تَعْبُرون) ، أي تعرفون تأويل الرؤيا، يقال عبرت الرؤيا - بتخفيف الباء.
وأنكر بعضهم التشديد، وهو مسموع من العرب.
(تأويل الأحاديث) : تفسير الرؤيا
(تركْتُ مِلّةَ قَوْم) ، أي رغبت عنها.
والتركُ على ضربين:
أحدهما - مفارقة ما يكون الإنسان عليه.
والآخر - ترك الشيء رغبة عنه من غير دخولٍ كان فيه.
ويحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلاً لما قبله من قوله: (علمني ربي) .
أو يكون استئنافاً.
(تَبْتَئِس) : تحزن، وهو من البؤس.
(تَفَتأ) : أي لا تفتأ، والمعنى لا تزال.
وحذف حرف النفي، لأنه تلبَّس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتاً لكان مؤكداً باللام والنون.
(تثرِيب) ، أي تعيير وتوبيخ.
والمراد عفو جميل.
وقوله (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه، وهو يتعلق بالتثريب، أو بالمقدَّر في (عليكم) من معنى الاستقرار.
وقيل: إنه يتعلق بـ يغفر، وذلك بعيد، لأنه تحكم على الله.
وإنما يغفر دعاء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: (لا تَثرِيبَ عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقَّه.
(تَحَسَّسُوا) - بالمهملة والمعجمة: طلبُ الشيء بالحواس السمع والبصر، أي
تعرفوا يوسف وأخيه، وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختياراً منه.
لأن يوسف وأخاه كانا أحبَّ إليه.
(تَيْئَسوا) : تقنطوا.
(تَغِيض الأرحام وما تَزْدَاد) ، أي تنقص، وتزداد من

(2/104)


الزيادة، فقيل: إن الإشارة إلى دم الحيض، فإنه يقل ويكثر.
وقيل للولد، فالغيض السقط أو الولادة لأقل من تسعة أشهر.
والزيادة البقاء أكثر من تسعة أشهر.
ويحتمل أن تكون " ما " في قوله ما تحمل وما تغيض وما تزداد
موصولة أو مصدرية.
(تَهْوِي إليهم) : تقصدهم بجد وإسراع، ولهذه الدعوة
حبّب الله حَبَّ البيت إلى الناس، على أنه قال: (من الناس) بالتبعيض.
قال بعضهم: لو قال أفئدة الناس لحجَّته فارس والروم.
(تَسْرَحون) ، أي حين ترُدُّونها بالغداة إلى الرعي.
(وتريحون) ، حين تردُّونها بالعَشِيِّ إلى المنازل، وإنما قدم
تريحون لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر، لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها
حافلة.
(تَمِيد) ، تتحرك، وهو في موضع مفعول من أجله.
والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض.
وروي أن الله لما خلق الأرض جعلت تَفور، فقالت الملائكة: لا يستقر على ظهرها أحد، فأصبحت وقد أُرسيت بالجبال.
(تَخَوُّفٍ) ، فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ معناه على تنقّص، أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئاً بعد شيء
حتى يهلكوا من غير أن يُهلكلهم جملة واحدة، ولهذا أشار بقوله: (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، لأن الأخذ هكذا أخفّ من غيره.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذَيل: التخوف التنقص في لغتنا.
الوجه الثاني: أنه من الخوف، أي يهلك قوماً قَبْلَهم فيتخَوَّفوا همْ ذلك
فيأخذهم بعد أن توقَّعوا العذاب وخافوه، وذلك خلاف قوله: وهم لا
يشعرون.

(2/105)


(تَقْفُ) ، المعنى: لا تقل ما لم تعم من ذمِّ الناس، وشبه ذلك.
واللفظ مشتقّ من قفوته إذا تبعته.
(تَبْذِيراً) : تفريقاً.
ومنه قولهم: بذرت الأرض، أي فرّقت البذر فيها.
أي الحب.
والتبذير في النفقة الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله.
والإخوة في قوله: (إخوان الشياطين) ، للمشاركة والاجتماع في
الفعل، كقولك: هذا الثوب أخو هذا، أي يشبهه.
ومنه قوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) .
أي من التي تشبهها وتواخيها.
(تَخْرِقَ الْأَرْضَ) : تقطعها وتبلغ آخرها.
وقيل معناه: لا تقدر أن تشقَّ في جميعها بالمشي.
والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيَلاء.
أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خَرْق الأرض ولا على مطاولة الجبال، فكيف تتكبَّر وتختال في مشيك، وإنما الواجب عليك التواضع
(تَبِيعاً) ، أي طالباً مطالبا.
(تَزَاوَرُ) : أي تميل وتَمُور، ولهذا قيل للكذب لأنه أميل
عن الحق.
(تقْرضهم) : تخلِّفُهم وتجاوزهم، وهو من القرض بمعنى القطع، ومعنى هذا
أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرِّها، فقيل: إن ذلك كرامة من الله لهم، وخَرْقُ عادة.
وقيل: كان باب الكهف شمالياً يستقبل
بنات نَعْش، فلذلك لا تصيبهم الشمس.
والأول أظهر، لقوله: ذلك مِنْ آياتِ الله.
والإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة، وإن كان لكون
بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى أمرهم بالجملة.
(تحسبهم) ، أي يظنهم من يراهم أيقاظاً.
(تَعْدُ عَيْنَاكَ) ، أي تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا.

(2/106)


قال الزمخشري: عَدَّاه إذا جاوزه، فهذا الفعل يتعدى بنفسه، وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمّن معنى نَبَت عينه عن الرجل إذا احتقره.
(تَذْروه الرِّياح) ، أي تفرقه.
ومعنى المثل تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضْرته.
(تَخِذْت) : بمعنى اتخذت، أي أخذت طعاما تأكله.
(تَنْفَد) ،: تفنى.
وفي الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى.
والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، فمعنى الآية: لو كتِبَ عِلْم اللَهِ بمداد البحر لنفِدَ البحر ولم يَنْفَد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر مثله، وذلك أن البحر متَنَاه وعلم الله غير متَناه.
(تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ،: أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي.
والإشارة إلى الكفر، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -.
(تَجْهر) : تعلن.
ومنه: (ولا تَجْهَرْ بصلاتك) .
وأما قوله تعالى: (وإن تَجْهَرْ بالقول) ، فطابق الشرط جوابه، كأنه
يقول: إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك، لأنه يعلم السر وأخفى.
(تذكرة) ، نصب على الاستثناء المنقطع.
وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من موضع (لتشقى) ، إذ هو في موضع مفعول من أجله، ومنع ذلك الزمخشري، لاختلاف الجِنْسَين.
ويصح أن ينصب بفعلٍ مضمر تقديره أنزلناه تذكرة.
(تنزيلاً) نصب على المصدرية، والعامل فيه مضمر.
وأما أنزلنا في لفظ السورة بلفظ المتكلم في قوله: ما أنزلنا، ثم رجع إلى الغيبة في قوله (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) ... الآية، فذلك هو الالتفات.
(تَسْعى) : تعمل.
ومنه: (لسعْيها راضية) .
(تَزِز وَازِرةٌ وِزْرَ أخرى) .

(2/107)


(تَعلو) من العلو، وهو الكبر والتجبُّر.
(تَرْدَى) ، تهلك، وهذا الفعل منصوب في جواب (لا يصدنك) .
(تَنِيَا) : أي تضعفا أو تقصرا.
والوني هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها.
(تَظْمَأ) : تعطش.
(تضْحَى) : تبرز للشمس.
(تَشْقَى) : تتعب.
وخص آدم بهذا الخطاب، لأنه كان المخاطب به أولاً، والمقصود بالكلام.
وقيل: إن الشقاء في معيشة الدنيا مختصٌ بالرجال.
(تَبْهَتُهُمْ) ، أي تفجؤهم.
وهذا الخطاب لمن استعجل القيامة أو نزولَ العذاب.
وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(تَقَطَّعوا أمْرَهم) : أي اختلفوا فيه، وهو استعارة من
جَعْل الشيء قطعاً.
والضمير لجميع الناس، أو المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم -.
والمعنى إنما بعثت الأنبياء المذكورين بما أمرت به من الدين، لأن جميع الرسل متفقين في العقائد فلم تقطعتم.
(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، يعني الزيت، وقرئ تنبت بفتح التاء.
فالمجرور على هذا في موضع الحال، كقولك جاء زيد بسلاحه.
وقرئ بضم التاء وكسر الباء، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها أن أنبت بمعنى نبت.
والثاني حذف المفعول، تقديره تنبت ثمرتها بالدهن.
والثالث زيادة الباء.
(تَتْرَا) ، وزنه فَعْلى، ومعناه التواتر والتتابع، وهو
موضوع موضعَ الحال، أي متواترين واحداً بعد واحد، فمن قرأه بالتنوين فألفه للإلحاق.
ومن قرأه بغير تنوين فألفه للتأنيث ولم ينصرف وتأنيثه لأن الرسل جماعة.

(2/108)


والتاء الأولى فيها بدل من واو، وهي فاء الكلمة.
ويجوز في قول الفراء أن تقول في الرفع تترا، وفي الخفض تترا، وفي النصب تترا، الألف بدل من التنوين.
(تَجْأرُونَ) : ترفعون أصواتكم بالدعاء.
ويحتمل أن يكلون
هذا القول حقيقة أو يكون بلسان الحال.
(تَنْكِصُونَ) ، أي ترجعون إلى وراء، وذلك عبارة عن
إعراضهم عن الآيات وهي القرآن.
(تَهْجُرُونَ) : مَنْ قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجْرَ
بضم الهاء، وهو الفحشاء من الكلام.
ومَنْ قرأ بفتح التاء وضم الجيم فهو من
الهجر بفتح الهاء، أي تهجرون الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين.
أو من قولك:
هجر المريض إذا هَذَى، أو يقولون اللغو من القول.
(تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) ، أي يأخذه بعضكم من بعض.
وخاطب بهذا الكلام معَاتبا لمن خاض في الإفْك، وإن كانوا لم يُصدقوه، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلِّية، فعاتبهم على ثلاثة أشياء، وهي تلقِّيه بالألسنة، أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول.
والثاني قولهم ذلك.
والثالث أنهم حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم.
وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن الحديث كان باللسان دون
القلب، إذ كانوا لم يعلموا ذلك حقيقة بقلوبهم.
وقرئ تلْقونه من الإلقاء، وهو استمرار اللسان بالكذب.
(تَبَارَك) ، تفاعل، من البركة، وهي الزيادة والنّمَاء والكثرة والاتساع، أي
البركة تُكتَسبُ وتُنالُ بذكره.
ويقال تبارك تقدَّس، أي تطهَّر.
ويقال تبارك تعاظم، وهو فِعْلٌ مختص بالله تعالى لم ينْطق له بمضارع.
(تشقَّق السماء) : تتفطَّر.
(تَغَيّظا) ، التغيظ: الصوت الذي يُهَمْهم به المتغايظ، والتغيظ لا يُسمع، وإنما يُسمع أصوات تدل عليه، ففي لفظه تجوُّزٌ.

(2/109)


(تَبَسَّمَ) التبسم: أول الضحك الذي لا صوتَ له، وتبسّمه كان لأحد
أمرين: إما سروره لما أعطاه الله، أو لثناء الله عليه وعلى جنوده، فإن قولها:
(وهم لا يشعرون) وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضَرّة الحيوان.
(تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) : معطوف على ضمير المفعول في
قوله " يراك ".
والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد.
وقيل معناه: يرى صلاتك مع المصلين.
وفي ذلك إشارة إلى الصلاة في الجماعة.
وقيل: يرى تقلُّب بصرك في المصلين خَلْفك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى من وراء ظهره.
(تحتَك) : أي تحت رجليك.
وأما قوله: (فنادَاهَا مَنْ تحتها) - بفتح الميم وكسرها - فقد اختلف على القراءتين هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل.
قيل: إنه كان تحتها كالقابلة لها.
وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها.
قال أبو القاسم في لغات القرآن: فناداها من تحتها، أي بطنها
بالنبطية ونقل الكرماني في العجائب مثله عن مؤرّج.
(تقَاسَموا باللهِ) : أي حلفوا به.
وقيل: إنه فعل ماض، وذلك ضعيف.
والصحيح أنه فعل مضارع، والضمير يعود على قوم صالح، أي
قال بعضهم لبعض وتعاقدوا عليه لنقتلنِّه وأهله بالليل.
وهذا الفعل الذي حلفوا عليه.
(تَأْجُرَنِي) : تكون أجيراً لي.
وهذا الخطاب كان من شُعيب لموسى عليهما السلام حين زوَّجه بنته صَفورا على أن يخدمه ثمانية أعوام.
قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح، منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حدّ أوّل الأمَد، وجعل المهر إجارة.
وهذا لا ينهض، لأن التعيين يحتمل أن يكون عند عَقْد النكاح بعد هذه
المراودة.
وقد قال الزمخشري: إن كلامه معه لم يكن عَقْدَ نكاح، وإنما كان
مواعدة.
وأما ذِكْز أوّل الأمد فالظاهر أنه كان من حين العقد.

(2/110)


وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وقرره شَرْعُنَا حسبما ورد في الحديث
الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: قد زوجتكما بما معك من القرآن أي على أن تعلِّمَهَا ما معك من القرآن.
وقد أجاز النكاحَ بالإجارة الشافعيّ وابن حنبل وابن حبيب للآية والحديث.
ومنعه مالك، وقال: هذه قضية عينية.
(تذُودَان) : أي تمنعان الناس عن غنمهما.
وقيل: تذودان غنَمهماَ عن الماء حتى يسقِيَ الناس.
وهذا أظهر، لقولهما: (لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) ، أي كانت عادتهما لا يسقيان غَنَمهما إلا بعد الناس، لقوة الناس، أو لضعفهما، أو لكراهتهما التزاحم مع الناس.
(تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ، أي جلس في ظل سَمُرة لشدة ما نزل
به من الجوع والتعب الذي لحقه في سَقْي الغنم، وأكثَرُ ما يستعمل الذَّوْد في الغنم والإبل، وربما استعْمِل في غيرهما.
ويقال: سنَذودكم عن الجهل علينا، أي سنَكفَّكم ونمنعكم.
وفي حديث الحوض: إني على الحوض أنتظر مَنْ يرد عليّ
منكم فيجيء ناس ويُذادون عنه، فأقول: يارب، أمَّتي، أمَّتي، فيقال: أما
شعرت ما عملوا بعدك! إنهم ارتدّوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا
همل النعم.
وروى الترمذي عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، قال: قال لي رسول اللَه
- صلى الله عليه وسلم -: أعيذك باللهِ يا كعب بن عُجْرة من أمراء يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يَرِدُ عليَّ الحوض.
ومن غشي أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم ولم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فهو
مني وأنا منه، ويرد عليَّ الحوض.
يا كعب بن عُجرة، الصلاة برهان، والصبر جُنّة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
يا كعب بن عُجرة، لا يربو لهم نبت من سُحْت إلا كانت النار أولى به.

(2/111)


(تَصْطَلون) : معناه تستدفئون بالنار من البرد، ووزنه تفتعلون، وهو مشتق
من صَلِيَ بالنار، والطاء فيه بدل من تاء.
(تَنُوء بالعُصْبة) : معناه تثقل.
يقال: ناء به الجبل إذا أثقله.
وقيل: معنى تنوء تنهض بتحمّل وتكلف.
والوجه على هذا أن يقال إن العصْبة تنوء بالمفاتح، لكنه قَلْب، كما جاء قَلْبُ الكلام عن العرب كثيراً، ولا يحتاج إلى قَلْب على القول الأول.
(تَفْرح) الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطُّغيان.
ولذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ، أي الأشِرين.
وأما الفرح بمعنى السرور فيما يجوز فليس بمكروه.
(تَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، هو من الخلقة، يريد نَحْتَ الأصنام.
فسماه خِلْقَه على وَجْه التجاوز.
وقيل: هو من اختلاق الكذب.
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) : أي ترتفع.
والمعنى يتركون مَضَاجِعهم بالليل من كثْرة صلاتهم للنوافل.
ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فتد أخذ حظّه من هذا إن شاء الله.
(تطَئوهَا) ، هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمون قد
وطئوها حينئذ، وهي مكة واليمن والشام والعراق ومصر، فأورث الله المسلمين جميعَ ذلك وما وراءها إلى أقصى المغرب.
ويحتمل عندي أن يريد به أرض قرَيظة، لأنه قال أورثكم بالفعل الماضي، وهي التي كانوا قد أخذوها.
وأما غيرهما من الأرضين فإنما أخذوها بعد ذلك، فلو أرادها لقال يورِثكم، وإنما كررها بالعطف ليصفها بقوله: لم تطئوها، أي لم تدخلوها قبل ذلك.
(وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) : وهو إظهار الزينة، فنهى الله نساءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعلن مثْلَ ما كان نساء الجاهلية يفعلن من

(2/112)


الانكشاف والتعرض للنظر، وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام.
وقيل الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح.
وقيل ما بين موسى وعيسى.
(تَنَاوُشُ) - بالواو، والتناول أخوان، إلاَّ أنَّ التناوش تناوُل
سهل لكان قريب.
وقرئ بهمز الواو.
ويحتمل أن يكون المعنى واحداً، أو يكون المهموز بمعنى الطلب.
ومعنى الآية استِبْعاد وصولهم إلى مرادهم، والمكان البعيد عبارة عن تَعذّر
مقصودهم، فإنهم يطلبون ما لا يكون، أو يريدون أن يتناولوا ما لا يكون.
وهو رجوعهم إلى الدنيا، أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ.
(تَسَوَّروا) : نزلوا من ارتفاع، ولا يكون التسوُّر إلا من
فوق.
وجاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام، تنبيهاً للمخاطب، ودلالة على أنها
من الأخبار العجيبة التي ينبغي أن يُلْقى البال لها.
وجاء بضمير الجمع لأن التسوِّر للمحراب اثنان فقط، ونفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، وأقلّ الجمع اثنان.
ويحتمل أنه جاء مع كل واحد من الخصمين جماعة ٌ، فيقع على جميعهم.
والمحراب: الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد.
وروي أنهما جبريل وميكاييل، بعثهما الله ليضرب بهما المثل لداود، وهي نازلة وقع هو في مثلها، فأفتى بفُتْيَا هي واقعة عليه في نازلته.
ولما فهم المراد أناب واستغفر.
(تَوَارَتْ بالحِجَاب) : الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذِكْرها.
ولكنها تفهم من سياق الكلام، وذكْرُ العشيّ يقتضيها.
والمعنى حتى غابت الشمس.
وقيل الضمير للخيل.
والمعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها.
والأوّل أظهر وأشهر.
(تَرَكْنَا عليهِ في الآخِرين) ، يعني أبقينا له ثناء جميلاً في الناس إلى يوم القيامة.
(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ) : تنقَبضُ.
والضمير راجع للقرآن المتقدِّم الذكر لفصاحته وعدم اختلافه.

(2/113)


(تلِين جلودهم) ، أي تميل وتطمئن إلى ذكر الله.
فإن قيل: كيف يتعدَّى تلين بإلى؟
فالجواب أنه تضمَّن معنى فِعْلٍ يتعدى بإلى، كأنه قال: تسكن قلوبهم إلى
ذكر الله.
فإن قيل: لِمَ ذَكَر الْجلود أولاً وحدها، ثم ذكر " قلوبهم " بعد ذلك معها؟
فالجواب أنه لما قال أولاً (تقشعر) ذكر الجلود وحدها، لأن القَشْعريرة من
وصف الجلود لا من وصف غيرها.
ولما قال ثانياً، (تلين) ، ذكر الجلود والقلوب.
لأن اللين توصف به القلوب والجلود.
أما لين القلوب فهو ضد قسوتها، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها، فاقشعرتْ أولاً من الخوف، ثم لانت بالرجاء.
(تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) : أي تصرّفهم فيها للتجارة.
وفي هذا تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، كأَنه قال له: لا يحزنك يا محمد تصرّفهم وأمْنهم وخروجهم من
بلد إلى بلد، فإن الله محيط بهم قادر عليهم.
(تَخْتَصمون) : يعتي الاختصام في الدماء.
وقيل في الحقوق.
والأظهر أنه اختصام النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار في تكذيبهم له، فيكون مِنْ تمام ما قبله.
ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من التظالم
وغيرها.
ولما نزلت قال بعض الصحابة: أوَ تعاد علينا الخصومة يوم القيامة.
قال: نعم، حتى يُقَادَ للشاة الْجَلحَاء من الشاة القَرْنَاء.
(تلاق) : اللقاء، ومنه: (لينذرَ يوم التّلاَق) .
والمراد به يوم القيامة.
وسمِّي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه.
وقيل: لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض.
وقيل: لأنه يلتقي الخَلْق مع ربهم.
والفاعل بينذر ضمير
يعود على من يشاء، أو على الروح، أو على الله.
(تَنَاد) ، بالتشديد - من نَدّ البعير إذا مضى على وجهه.
وبالتخفيف من التنادي، وهو يوم يَتَنَادَى فيه أهل الجنة وأهل النار: أن قد
وجَدْنا ما وعدنا ربّنَا حقّا.
وأن أفيضوا علينا من الماء.

(2/114)


ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسماهم.
وينادي المنادي الناس.
ومنه قوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) .
(تَغَابن) : نقْص في المعاملة والمبايعة والْمقَاسمة.
وأما يوم التغابن فهو يَوْم يغْبن أهل الجنة أهل النار، لأنهم غبنوهم في منازلهم التي كانوا ينزلون فيها لو كانوا سعداء، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن، وليس على المتعارف في صيغة تفاعل من كونها بين اثنين، كقولك تضارب وتقابل، إنما هي فعل واحد، كقولك: تواضع، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: يعني نزول السعداء منازل الأشقياء، ونزول الأشقياء منازل السعداء والتغابن على هذا بين اثنين.
قال: وفيه تهكُّم بالأشقياء، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن
السعداء.
(لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) : تصْرِفنا عنها.
(تضَعَ الْحَرْبُ أوزارَها) : الأوْزَار في اللغة الآثام، لأن
الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين.
واختلف في الغاية المرادة هنا، فقيل حتى يسلم الجميع، وحينئذ تضع الحرب أوزارها.
وقيل: حتى تقتلوهم وتغلبوهم.
وقيل: حتى ينزل عيسى ابن مريم.
قال ابن عطية: ظاهر اللفظِ أنها استعارة يُرَاد بها التزام الأمر أبداً، كما تقول: إنما أفعل ذلك إلى يوم القيامة.
(تَعْساً) ، أي هلاكاً وعثارا، وانتصابه على المصدريّة، والعامل
فيه فِعلٌ مضمر، وعلى هذا الفعل عطف قوله: وأضلّ أعمالهم.
ويقال التعس أن يخرّ على وجهه.
والنكس أن يخر على رأسه.
(تَزَيَّلُوا) ، أي تَمَيزوا عن الكفار.
والضمير للمؤمنين المستورين الإيمان، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذّبْنَا الكفار.
(تَفِيء) : ترجع إلى الحق، وأمَرَ الله في هذه الآية بقتال
الفئة الباغية، وذلك إذا تبين أنها باغية، فأما الفتن التي تقَع بين المسلمين فاختلف العلماء فيها على قولين:

(2/115)


أحدهما: أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال.
هذا مذهب سعد بن أيي وقاص وأبي ذَرٍّ وجماعة من الصحابة، وحجّتهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: قِتَال المسلم كفْر.
وأمره عليه السلام بكسر السيوف في الفتن.
والقول الثاني: أن النهوضَ فيها واجب، لتكفَّ الفئة الباغية.
وهذا مذهب عليٍّ وطلحة وعائشة وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء.
وحجتهم هذه الآية، فإذا فرّعنا على القول الأول فإن دخل داخل على من
اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فعليه دَفْعُه عن نفسه، وإن أدّى ذلك
إلى قتله، لقوله عليه الصلاة والسلام: مَنْ قتل دون نفسه وماله فهو شهيد.
وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفِتَن، فقيل
مع السواد الأعظم.
وقيل مع العلماء.
وقيل مع مَنْ يرى أن الحقّ معه.
وحكم القتال في الفتن أَلا يُجهز على جريح، ولا يُطْلَب هارب، ولا يقتل أسير، ولا يقسم فَيء.
(تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : اللَّمْز العيْب، سواء كان بقولِ أو
إشارة أو غير ذلك.
(تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) : أي لا يَدعُ أَحدٌ أحدًا بلقبٍ.
وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة.
ولم يقصد النقص والاستخفاف.
(تَجَسَّسُوا) ، قد قدمنا أنه بالحاء المهملة والمعجمة.
وقيل بالمعجمة في الشر، وبالهملة في الخير.
وقيل بالمعجمة هو للمكان وبالمهملة الدخول والاستعلام.
(تَمُورُ السَّمَاءُ) : تجيء وتذهب.
وقيل: تدور، وقيل تشقق.
وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسي معرّب.
(تسير الجبال) : أي تسير مما يسير السحاب.

(2/116)


ومنه: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) .
ومرورها يكون في أول أحوال القيامة تم ينسفها اللَّهُ خلالَ ذلك فتكون كالعِهْنِ، ثم تصير هباءً منبثّا.
(تَأثيم) : أي لَغْو الكلام الساقط.
والتأثيم الذنب، فهو بخلاف خَمر الدنيا.
(تَمَارَوا) : تشككوا.
والضمير عائد على قوم لوط.
(تجرِي بأعيننا) ، قد قدّمنا أنه عبارة عن حفظ الله ورَعْيه
للسفينة.
(تَرَكْناها آية) : الضمير لقصة قَوْم نوح، أو الفعلة للسفينة.
وروي في هذا المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه
الأمة.
(تَنْزع الناسَ) : أي تقلع الريح قومَ عاد من مواضِعِهم.
(تَطْغوا في الميزان) : تجاوزوا القدر والعدل، وإنما كرر
الميزان اهتماماً بأمره.
وقيل: أراد العمل.
(تحرثون) : أي إصلاح الأرض بالحرث وإلقاء البذر فيها.
(تَخْلُقُونَهُ) هذا توقيف يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق.
(تعلمون) : معناه ننشئكم في خِلْقَةٍ لا تعلمونها على وجهٍ
لا تصل عقولكم إلى فهمه، فمعنى الآية أن الله قادر على أن يُهلكهم وعلى أن يبعثهم، ففيها تهديد واحتجاج على البعث، ولذا ختمها بقوله: (فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) .
وحض على التذكر، والاستدلال بالنَّشْأَةِ الأولى على النشأة الآخرة، وفي هذا دليل على صحة القياس.

(2/117)


(تزْرَعُونه) ، المراد بالزراعة هنا إنبات مما يُزرع، وتمام
خلقته، لأن ذلك مما انفرد الله به ولا يَدّعيه غيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقولنّ أَحَدكم زرعت، ولكن يقول حرثت.
وقد يقال لهذا زَارع".
ومنه قوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) .
(تَفَكَّهون) ، أي تطرحون الفاكهة، وهي المسرّة، يقال:
رجل فكه، إذا كان مسروراً منْبَسط النّفس.
ويقال تفكه إذا زالت عنه الفاكهة
فصار حزيناً، لأن صيغة تفعل تأتي لزوال الشيء، كقولهم: تحرّج وتأثّم إذا
جانب الحرج والإثْم، فالمعنى صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حُطَاماً.
وقد عبّر بعضهم عن تفكهون بأن معناه تفجعون.
وقيل: تندمون.
وقيل تعجبون.
وهذه معان متقاربة.
والأصل ما ذكرناه.
(تَذْكرة) ، أي تذكِّرُ بنار جهَنمّ.
(تجعلون رِزْقَكم) : قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أن
الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنَوْءِ كذا وكذا، فالمعنى تجعلون شكرَ
رزقكم التكذيبَ، فحذف شكراً لدلالة المعنى عليه.
وقرأ علي بن أبي طالب:
وتجعلون شكركم أنكم تكذبون.
وكذا قرأ ابن عباس، إلا أنه قرأ تكذبون - بضم التاء والتشديد، كقراءة الجماعة.
وقراءة علي بن أبي طالب بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب، أي يكذبون في قولهم: نزل المطر بِنَوْءَ كذا.
ومن هذا المعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وكافر بي مؤمن بالكوكب، فأما مَن قال مُطِرنا بفضل اللَه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما مَنْ قال مُطِرْنا بِنَوْء كذا وكذا
فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب.
والنهيّ عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكواكب تأثيرا في المطر، وأما
مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بَأْسَ به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نشأت تجرية ثم تشاءمت فتلك عَيْن غدَيْقَة.

(2/118)


وقال عمر للعباس - وهما في الاستسقاء: كم بقي من نَوْء الثريا، فقال
العباس: العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد.
سقوطها سبعاً.
قال ابن المسيَّب: فما مضت سبع حتى مطروا.
وقيل: إن معنى الآية تجعلون سببَ رزقكم تكذيبكم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يقولون إن آمنّا حرمنا اللهُ الرزق، كقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا، فأنكر الله عليهم ذلك.
وإعراب " أنكم " على هذا القول مفعول
بتجعلون على حَذْفِ مضاف، تقديره تجعلون رزقكم حاصلاً من أجل أنكم
تكذبون.
وأما على القول الآخر فإعراب أنكم تكذّبون مفعولاً لا غير.
(تشتكي إلى الله) : ضمير المؤنث يعود على خَوْلة بنت
حَكِيم على أحد الأقوال لمَا ظاهر منها أَوس بن الصامت الأنصاري، وكان
الظِّهَارُ في الجاهلية يوجب تحريماً مؤبَّدا، فلما فعل جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أوْساً أكل شبابي، ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي ظاهَرَ منّي.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أراكِ إلاَّ قد حَرُمْتِ عليه.
فقالت: يا رسول الله، لا تفعَلْ فإني وحيدة ليس لي أهْلٌ سواه.
فراجعها - صلى الله عليه وسلم - بمثْلِ مَقَالته، فرجعت إلى الله.
وقالت: اللهم إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفَقْري.
وقيل: إنها قالت اللهم إن لي منه صبيةً صغاراً إن ضَمَمْتهم إليّ جاعوا، وإن
ضممتهم إليه ضاعوا.
فأنزل الله كفّارة الظهار.
وهكذا عادته سبحانه في كل ملهوف يرجع إليه يفرج عنه.
(تَحَاوُرَكما) ، أي مراجعتكما.
وضمير التثنية يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخَولة.
قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان مَنْ وسِعَ سمعه الأصوات! لقد كنْتُ
حاضرةً، وكان بعض كلام خَولة يخفى عليَّ، وسمع الله كلامها، ونزل القرآن

(2/119)


في ذلك، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب زوجها، وقال له: أَتعتق رَقبةً، فقال: واللَه ما أملكها.
فقال: أتصوم شهرين متتابعين، فقال: والله ما أقدر.
فقال: أتطْعِمُ ستين مسكيناً، فقال: لا أجِد إلا أنْ يُعينني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعونة وصلاةٍ - يريد الدعاء، فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعاً، ودعا له، فكفّر بالإطعام، وأمسك زوجه.
(تَفَسَّحوا) : توسعوا، ونزلت الآية بسبب ازْدِحَام الناس في
مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحرصهم على القرْبِ منه.
وقيل نزلت في مقاعد الحرب والقتال.
وقيل: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً من مَجلسه ليُجلِسَ أشياخاً من أهل بدر في مواضعهم، فنزلت الآية.
تم اختلف: هل هي مقصورة على مجلسه - صلى الله عليه وسلم - أوْ هي عامَّةٌ في جميع المجالس.
فقال قوم: إنها مخصوصة، ويدل على ذلك قراءة " المجلس " بالإفراد.
وذهب الجمهور إلى أنها عامة، ويدلّ على ذلك قراءة " المجالس " بالجمع.
وهذا هو الأصحّ، ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس.
والتَّفَسّح المأمور به هو التوسع دون القيام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يَقوم أحدٌ من مجلسه، ثم يجلس الرجلُ فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا.
وقد اختلف في هذا النَّهْي عن القيام من المجلس لأحَدٍ، هل هو على التحريم
أو الكراهة.
(تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ، أي عتْقها، وجعل الله الكفّارةَ في الظهار
ثلاثة أنواع مرتبةً، لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجزَ عن الأول، ولا ينتقل إلى
الثالث حتى يعجز عن الثاني.
والرقبة ترجمة عن الإنسان، ولا يشترط فيها
الإيمان، بخلاف القَتْل واليمين.
(تَبَؤءُوا الدَّارَ) : لزموها واتخذوها مسكناً.
والدار: المدينة، والضمير يعود على الأنصار، لأنها كانت بلدهم.

(2/120)


فإن قيل: كيف تُبَوَّأُ الدارُ والإيمان، وإنما تتَبوَّأ الدارُ، أي تسكن ولا يُتَبَؤأ
الإيمان؟
فالجواب من وجهين - الأول: أن معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، فهو
كقوله: عَلَفْتهَا تبناَ وماءً بَارِداً، تقديره علفتها تِبنا وسقيْتها ماء باردا.
الثاني أن المعنى أنهما جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك.
فإن قيل: قوله: (من قبلهم) - يقتضي أن الأنصار سبقهوا
المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سَبْقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه، لأنها، كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل، لأن أكثر المهاجرين أَسلَموا قبل الأنصار.
فالجواب مِنْ وجهين:
أحدهما أنه أراد بقوله: (مِنْ قبلهم) : مِنْ قبل هجرتهم.
والآخر أند أراد تَبؤءوا الدار مع الإيمان معاً، أي جمعوا بين الحالتين قبل
المهاجرين، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بنزول الدار، فيكون الإيمانُ على هذا مفعولاً معه.
وهذا الوجه أحسنُ، لأنه جواب عن السؤال.
وعن السؤال الأول بأنه إذا @حان الإيمان مفعولاَ به لم يلزم السؤال الأول، إذ لا يلْزَم إلا إن كان الإيمان معطوفا على الدار.
(تعاسَرتم) ، أي تضايقْتُم.
والمعنى إن تشطّطت الأم علىِ الأب في أجرة الرضاع، وطلبَتْ منه كثيراً فللأبِ أنْ يستَرضع لولده امرأةً أخرى بما هو أَرْفَق به إلاَّ ألاَّ يقبل الطفل غير ثَدْيِ أمِّه فتُجْبَر حينئذ على رضاعه بأجْرَة مثلها، ومثل الزوج، فلا تضيع الزوجة ولا يكلّف هو ما لا يطيق.
وفي هذه الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف الناس، وهو مذهب

(2/121)


مالك، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر الكفاية.
ومَنْ عجز عَنْ نفقة امْرَأتِه فمذهب مالك دون الشافعي أنها تطلّق عليه خلافاً لأبي حنيفة، وإن عجز عن الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب.
(تَفاوُت) : أي مِنْ قلَّةِ تناسُب وخروج عن الإتقان.
والمعنى أن خلقة السماوات في غاية الإتقان، بحيث ليس فيها ما يَعيبها من
الزيادة والنقصان والاختلاف.
وقيل: أراد خِلْقَة جميع المخلوقات.
ولا شك أن جميع المخلوقات متقنةٌ، ولكن تخصيص الآية بخلقة السماوات والأرض لورودها
بعد قوله: (خلق سبْعَ سَموات طِبَاقا) ، فكأن قوله: " ما ترى
في خَلْق الرحمن من تفَاوت " بَيَان وتكميل لما قبله.
والخطاب في قوله: ما ترى، وارجع البصر، وما بعده للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب ليعتبر.
(تكاد تَمَيَّز من الغَيْظ) ،: أي تكاد جهنم تنفصل بعضها من
بعض لشدة غَيظها على الكفَّار، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها، ويحتمل أن يريد غَيظَ الزبانية.
والأول أظهر، لأن حال الزبانية يُذْكر بعد هذا.
وغيظُ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراكٍ يخلقه الله لها، أو يكون عبارة عن شدتها.
(تَعِيهَا أذنٌ وَاعِيَةٌ) : الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير
" لنجعلها "وهذا يقَوِّي أن يكون للفعلَةِ.
والأذُن الواعية: هي التي تحفظ ما تسمَعُ وتفهمه.
يقال: وعيت العلم إذا حصلته، ولذلك عبَّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله.
ورُوِي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليّ بن أبي طالب: إني دعوتُ الله أن يجعلها أذنك يا عليّ.
قال عليٌّ: فما نسيت بعد ذلك شيئاً سمعْته.
قال الزمخشري: إنما قال: أذن واعية - بالتوحيد والتنكير للدلالة على قِلَّةِ الوُعاة، ولتوبيخ الناس بقلة مَنْ يَعِي منهم، وللدلالة على أنَّ الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله فهي المعْتَبرة عند الله دون غيرها.

(2/122)


(تَرْجون للَهِ وَقاراً) فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أنَّ الوقَار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى ما لكم لا تَرْجون أن
يوقَركم الله في دار ثوابه.
قال ذلك الزمخشري.
وقوله: " لله " على هذا بيان للموقر، ولو تأخر لكان صفةً لوقارا.
والثاني: أن الوقار بمعنى التُّؤَدة والتثبيت.
والمعنى ما لكم لا ترجون للهِ تعالى متثبتين حتى تتمكّنوا من النظر بوقارا.
وقوله " لله " على هذا مفعول دخلت عليه اللام، كقولك: ضربت لزيد، فإعراب " وقارا " على هذا مصدر في موضع الحال.
الثالث: أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة.
والسلطان، فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمةَ الله وسلطانه، وللَه على هذا صفة للوقار في المعنى.
الرابع: أن الرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنى الاستقرار، من قولك وقَر في
المكان إذا استقرّ فيه.
والمعنى ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في
الجنة أو في النار.
(تحرَّوا رشَدا) : أي قصدوا الرشد.
واختار ابن عطيَّة أن يكون هذا ابتداءً لكلام الله، لا من كلام الجنّ.
(تَبَتَّلْ) : أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه.
وقيل التبتل رفْض الدنيا.
وقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - فكان قليلَ الأمل كثير العمل لم يشقق نهراً، ولا شيّد قصراً، ولا غرس نَخْلاً، ولم يضرب قطّ بيده إلا في سبيل الله وقام لله حتى توَرَّمتْ قدماه، فمن شاهد أحواله، وسمع أخلاقه وأفعاله وآدابه وبدائع تدبيره لصالح الخَلْق، ومحاسن إشارته في تفضيل ظاهر الشَّرْع المعجز للعلماء عن درك أوائل دقائقها طولَ أعمارهم لم يَبْقَ عنده رَيْبٌ في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة،

(2/123)


وأنه لا يتصور إلا بتأييد سماوي، إذ لا صمح لملبس، لأن شمائله - صلى الله عليه وسلم - شواهد قاطعة بصدقه، فسبحان من أعطى وأثنى بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، صلَّى الله عليه وسلَّم أفضل صلاة وأزكى تسليم.
(ترجفْ الأرضُ والجِبَالُ) : أي تَهْتَزّ وتتزلزل، وذلك يوم
القيامة المتقدم الذكر.
(تَتقُون إن كَفرتم) : أي كيف تتقون يوم القيامة وأهواله
إن كفرتم.
وقيل: هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم.
وقيل: هو ظرف: أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة! ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوفاً تقديره اذكروا.
(تصدَّى) : أي تعرَض له.
(تَلَهَّى) : تشتغل عنه بغيره، من قولك: لَهِيتُ عن الشيء إذا
تركته.
ورُوِي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأدَّبَ بما أدَّبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير، ولا تعرَّضَ لِغَنيٍّ، وكذلك اتبعه الفضَلاء من أصحابه.
وانظر كيف كان الفقراء في مجلس سفيان كالأمراء، وكان الأغنياء يتمنَّون أن يكونوا فقَراء.
ونحن عكسنا في القضية، وصرنا إلى أسوأ حال، لمخالفتنا الشريعة المحمدية.
(تذكرة) : فيها وجهان: أحدها - أن هذا الكلام المتقدم
تذكرة، أي موعظة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس، فلا
ينبغي أن يُؤْثر فيه أحد على أحد.
وهذا أرجح، لأنه يناسبه.
(تَرْهَقها) : تغشاها.
والضمير يعود على وجوه الكفَّار.
(تَنَفَّسَ) ، أي استطار واتسع ضوؤه.
والضمير يعود على الصبح، وهو استعارة.
(تَسنيم) : اسم عَلَم - لعَيْنٍ في الجنة يشرب به المقَرَّبون

(2/124)


صرفا، ويخرج منه الرحيق الذي يَشْرب منه الأبرار، فدلّ ذلك على أن درجات المقربين فوق درجات الأبرار، فالمقربون هم السابقون، والأبرار أصحاب اليمين.
ويقال: تسنيم عينٌ تجري مِنْ فوقهم تَتَسَنّمفمْ في منازلهم، تنزل عليهم من
عال.
يقال تسنّم الفحل الناقة إذا علاها.
(تَخَلت) : تفعلت، من الخلوة.
(تَرَائب) ، عظام الصدر، واحدها تَريبة.
وقيل هي الأطراف كاليدين والرجلين.
وقيل: هي عصارة القَلب.
ومنه يكون الولد.
وقيل: هي الأضلاع التي أسفل الصّلب.
والأول هو الصحيح المعروف في اللغة، ولذلك قال ابن عباس: هي موضع القِلاَدَةِ ما بين ثديي المرأة.
، يعني صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها.
وقيل: أراد صلب الرجل وترائب المرأة.
(تَزَكى) : تتطهر من الذنوب بالعمل الصالح.
(تردّى) : تميل وتسقط في القبر أو في جهنم، أو تردّى
بأكفانه من الرداء.
وقيل هذا الكلام في أبي سفيان بن حرب، وهذا ضعيف، لقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) .
وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك.
والصحيح أنه لم يخل بذلك الإطلاق.
(تَلَظَّى) : تلتهب - وأصله تتَلظى، فأسقصْ إحدى التاءين
استثقالا لهما في صدر الكلمة.
ومثله: فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى.
(تنزل الملائكة) ، أي إلى الأرض.
وقيل إلى سماء الدنيا، وهو تعظيم لليلة القدر.
وقي رحمة للمؤمنين القائمين فيها.
(تَقْهر) : أي على ماله وحقه لأجك ضعفه، أو لا تقهره
بالمنع من مصالحه.
ووجوه القهر كثيرة، والنهي يَعمُّ جميعها.

(2/125)


(تَنهَر) : من الانتهار والزجر، فالنهى عنه أمر بالقول
الحسن والدعاء للسائل، كما قال: فقُلْ لهم قولاً ميسورا.
(تَبَتْ) : أي خسرت.
(تُغْمضوا) : من قولك أغْمَض فلان عن بعض حقّه إذا لم يستوفه.
وأغمض بصره.
ومعنى الآية: لستم بآخذين الخبيث من الأموال ممن
لكم قبَله حقَّّ إلاَّ عَلَى إغماض أو مسامحة، فلا تؤدوا في حق الله ما لا ترضون مثله من كرمائكم.
ويقال تغمضوا فيه، أي ترخصوا فيه.
ومنه قول الناس للبائع: أغْمض وغَمّض، أي لا تستنقص، وكن كأنك لم تبصر.
(تبْدُوا ما في أنفسكم أو تُخْفُوه) : الإبداء الظهور، والإخفاء ضده.
ومقتضى الآية المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب سواء
أبدوه أو أخفوه، ثم المعاقبة على ذلك لمن شاء الله، أو الغفران لمن شاء الله.
وفي ذلك إشكال لمعارضته للحديث: إن الله تجاوز لأمي ما حدَّثت به أَنْفُسها.
ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه لما نزلَتْ شقّ ذلك على الصحابة.
وقالوا: هلكنا إنْ حُوسِبْنَا بخواطر أنْفُسنا.
فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا سمِعْنا وأطَعْنَا".
فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: (لا يُكلِّف الله نَفْسا إلا وُسْعَها) ، فكشف عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية.
وقيل: هي في معنى كتْم الشهادة وإبدائها، وذلك مُحَاسَب به.
وقيل يحاسب الله الخَلْق على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين ويعذِّبُ الكافرين والمنافقين.
والصحيح التأويل الأول لوروده في الصحيح.
وقد ورد أيضاً عن ابن عباس وغيره.
فإن قيل: الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ.
فالجواب أنَّ لفظ الآية خبَرٌ ومعناها حكم.
(تُولج اللَّيْلَ) : تدخل هذا في هذا، فما زاد في واحد
نقص من الآخر مثله.

(2/126)


(تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، أي الكافر من المؤمن
والمؤمن من الكافر.
وقيل: يعني الحيوان.
قال ابن مسعود: هي النّطْفة تخرج من الرجل ميّتةً وهو حَيّ، ويخرج الرجل منها حيّاً وهي ميتة.
وقال عكرمة: البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة.
وعلى كل فالحياة والموت على هذا استعارة.
(تؤَاخِذنا) من المؤاخذة بالذنب، وقد كان يحقّ أن
يؤاخذ الله بالنسيان، وهو الذهول الغالب على الإنسان والخطأ غير العمد، لولا أن الله رفعه فلم يبقَ إلا مَحْضُ التلفّظ بالآية على وجه العبادة.
وأما الاعتقاد فهو عدم المؤاخذة، للحديث: رفع عن أمتِي الخَطَأ والنسيان.
(تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ، في هذا الدعاء دليل على جواز
تكليف ما لا يُطاق، لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقَع.
ثم إنَّ الشرع رفع وقوعه.
وتحقيق ذلك أن ما لا يطاق أربعة أنواع: عقلي محض، كتكليف الإيمان لمن
علم الله أنه لا يؤْمِن، فهذا جائز ووقع باتفاق.
والثاني عادِيّ كالطَّيَران في الهواء.
والئالث عقلي وعاديّ كالجمع بين الضدّين، فهذان وقع الخلاف في جواز
التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه.
والرابع تكليف ما يشقّ ويصعب، فهذا جائز اتفاقاً.
وقد كلّفه الله مَنْ تقدم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمة المحمدية لحُرْمَةِ نبيِّها عنده.
(تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي تهىّء لهم المصافّ لقتال
أعداء الله، وذلك يوم السبت في غَزْوَة أحد.
وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف، لأنه لا يقال غدوة فما بعد الزوال إلاَّ عَلَى وجْهِ المجاز.
وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس،

(2/127)


وذلك ضعيف، لأنه لم يبَوّأ حينئذٍ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه يبَوِّئهم بالتدبير حين المشاورة.
(تُصْعِدون ولا تَلْوون على أحد) : الإصعاد: الابتداء في السفر.
والانحدار: الرجوع.
ولا تلوون مبالغة في صفة الانهزام.
وقرئ شاذاً: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد - بضم الحاء.
(تبسَلَ نَفْسٌ) : معناه تحبس. وقيل تفضح. وقيل تهلك.
وهو في موضع مفعول من أجله، أي كرهه كراهة أن تُبْسَل نَفْسٌ بما كسبت.
(تشِمت بي الأعْدَاءَ) : تسرهم، والشماتة: السرور بمكاره الأعداء.
(تُرْهِبون) : تخوفون به الأعداء.
(تفيضون) : تدفعون فيه بكثرة.
(تحْصِنون) : تخزنون وتَجْنُون.
(تُفَنِّدُون) : أي تلومونني، أو تردون عليَّ قولي.
معناه تقولون ذهب عقلُك، لأن الفند هو الخَرَف.
يقال أفند الرجل إذا خرف، وتغيَّرَ عقلُه، ولم يحصل كلامه.
ثم قيل: فند الرجل إذا جهل. والأصل ذلك.
(تسِيمون) : ترعون أنعامكم.
وقد قدمنا أن تريحون تردّونها بالعشيّ إلى المنازل.
(تُخَافِتْ بها) : تخْفِها.
وسبب الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جهر في القراءة في الصلاة فسمعه المشركون فَسَبُّوا القرآن ومَنْ أنزله، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالتوسط بين الجهر والإسرار، ليسمع أصحابه الذين يصلّون معه، ولا يسمع المشركون.
وقيل المعنى: لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها، واجعل منها سرّاً
وجَهْراً، حسبما أحكمته السنَّة.
وقيل الصلاة هنا الدعاء،

(2/128)


(تمَارِ) ، من المِرَاء، وهو الجدال والمخالفة والاحتجاج.
ومعنى الآية: لا تمار أصل الكتاب في عدّة أصحاب أهل الكهف إلا مراءً
ظاهرا، أي غير متعمقٍ فيه، من غير مبالغة ولا تَعْنيف في الردّ عليهم.
(تستَفْت) : تَسْأل، أي لا تسأل أحداً من أهل الكتاب
عن أصحاب الكهف، لأنَّ اللهَ قد أوْحَى إليك في شآنهم ما يغنيك عن السؤال.
(تصْنَع عَلَى عَيني) ، أي ترَبى ويحسن إليك بِمرْأى مِنّي
وحفظ، والعامل في لتصنع محذوف.
(تعذَبهم) : أي تمتهنهم، والضمير لبني إسرائيل، لأن فرعون كان
يستعبدهم ويُذلّهم.
(تخبتَ له قلوبهم) ، أي تخضع وتطمئن.
والمخبت: الخاضع المطمئن إلى ما دعي إليه.
والخبْت: المطمئن من الأرض.
(تُسْحَرُونَ) : أي تخدعون عن الحق، والخادع لهم الشيطان، وذلك شبيهٌ لهم بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل، ورتبت هذه
التوبيخات الثلاثة بالتدريج، فقال أولاً: (أفلا تذكَّرُون) .
، قال ثانياً: (أفلا تَتَقون) . وذلك أبلغ، لأن فيه زيادة تخويف.
ثم قال ثالثاً: (فأنّى تُسحرون) . وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره.
(تلْهيهم تجَارةٌ ولا بَيْع) ، أي تشغلهم، ونزلت الآية في
أهل الأسواق الذين إذا سَمِعُوا الندَاء بالصلاة تركوا كل شغل وبادرا إليها.
والبيع: من التجارة، ولكن خصَّه بالذكر تجريداً، كقوله: (فيها فاكهة ونخل
ورمّان) أو أراد بالتجارة الشراء.
(تَتَقَلَّبُ) ، أي تضطرب من شدة الهول والخوف.
وقيل تَفهْقَه القلوب وتبيض الأبصار بعد العمى، لأن الحقائق تنكشف حينئذ.
والأول أصح، كقوله (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) .

(2/129)


(تُصَعِّرْ خَدَّكَ للناس) ، أي تُعْرِض بوجهك عنهم.
والصعَر ما يأخذ البعير في رأسه فيقلب رأسه في جانب، فيشبّهُ الرجل الذي يتكبَّرُ على الناس به.
(تكنّ صدُورهم) ، أي تخفي صدورهم.
(تحيّتُهم يَوْمَ يلقَوْنَه سلام) ، قيل يوم سلام.
قيل: يوم القيامة.
وقيل: في الجنة، وهو الأرجح، لقوله: وتحيتهم فيها سلام.
ويحتمل أن يُرِيد تسليم بعضهم على بعض، أو قول الملائكة لهم سلام عليكم.
(تُرْجِي مَنْ تَشَاء منهنَّ وتُؤْوِي إليكَ من تشاء) - أي تؤخر وتبعد، وتضم وتقرب.
واختلف ما المراد بهذا الإرجاء والإيواء، فقيل:
إن ذلك في القسمة بينهنّ، أي تُكثر لمن شئْتَ وتقلِّلُ لمن شئت.
وقيل: إنه في الطلاق، أي تمسك مَنْ شئت وتطلق من شئت.
وقيل معناه تتزوج من شئت.
والمعنى على كل قول توسعة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإباحة له أن يفعل ما يشاء.
وقد اتفق الباقون على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل في قسمته بين نسائه أخذا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له.
والضمير في قوله (منهن) يعود على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أو على كل ما أحِلّ له على حسب الخلاف المتقدم.
(تُشْطِطْ) ، أى تجاوز في الحكم.
يقال أشطّ الحاكم إذا جار.
وقرئ في الشاذ: ولا تشطَط - بفتح الطاء، أي لا تبعد عن الحق.
يقال شَطّ إذا بَعُد.
(تُمَارُوته) ، أي تجادلونه.
والضمير عائد على قريش لمّا كذبته - صلى الله عليه وسلم - في قوله: أُسرِي بي.
والذي رأى جبريلُ على هيئته التي قد خلقه الله
عليها، قد سد الأفق.
وقيل الذي رأى ملكوت السماوات والأرض.

(2/130)


والأول أرجح لقوله: (ولقد رآه تزْلَةً أخْرَى) .
وقيل الذي رأى هو اللَه تعالى.
وقد أنكرت ذلك عائشة.
وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك، فقال:
نورا أنَّى أراه.
(تخْسِروا الميزان) ، تنقصون الوزن.
وقرئ بفتح التاء بمعنى لا تخسروا الثوَابَ الموزون يوم القيامة.
(تمْنون) ، من المنيّ، وهو الماء الدافق الذي يكون منه
الولد، رائحته كرائحة الطلع، أحد درجات التمر، لشبهها بخلقة الإنسان
فأشبهت الرائحة الأصل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: أكرموا عماتكم النخلة، وهذا
يتضمّن إقامةَ برهان على الوحدانية وعلى البعث، ويتضمن وعيداً وتعديد نعم.
(تورون) ، أي تقدحونها من الزناد.
والزناد قد يكون من حجرين، ومن حجر وحديدة، ومن شجر، وهو الرّخّ والعَفَار.
ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر قال الله لهم: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) ، أي الشجرة التي يَزْند النار منها.
وقيل: أراد بالشجرة نفس النار، كأنه يقول نوعها أو جنسها، فاستعار الشجرة لذلك.
(تدْهِنُ) ، من المداهنة وهو النّفاق.
والإدهان الإبقاء، وترك المناصحة والصدق، ومنه قوله: (أفَبِهَذَا الحديثِ أنْتُم مُدْهِنُون) . معناه متهاونون.
وأصله لين الجانب والموافقة بالظاهر لا بالباطن.
وروي أنَّ الكفار قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو عبدت آلهتنا لعبَدْنا إلهك، فنزلت الآية.
(ترَاث) ،: ما يورث عن الميِّت من المال.
والتاء فيه بدل من واو.
(تِلْقَاءَ أصحابِ النّار) : تجاه أصحاب النار، ونحو أهل
النار، وكذلك تلقاء مَدْيَن.
وقوله: من تلقاء نفسي، أي من عِنْد نفسي.

(2/131)


(تِبْيان) ، تِفْعال من البيان.
(تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) .
منها خروج يده بيضاء، والعصا، والسنون، ونقص الثمرات والطوفان، والجراد، والقمَّل والضفادع. والدم.
وحلّ العقدة من لسانه، وفرق البحر، ورفع الطور فوقهم، وانفجار الماء من
الحجر عند قوم.
وروي أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال " ألا تشركو بالله شيئا، ولا تَسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفْسَ التي حرم الله، ولا تسعو ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا يوم الزّحْف، وعليكم خاصة اليهود أْلا تعتدوا في السبت ".
(التِّين والزيتون) : جَبَلاَن بالشام ينْبِتَانِ التِّين والزيتون
يقال لهما طور تينا وطور زيتا بالسريانية، وهما اللذان كان فيهما مولد عيسى - صلى الله عليه وسلم -
أو مسكنه، فكأنه قال: ومنابت التين والزيتون، وهذا أظهر الأقوال، لأن الله ذكر بعد هذا الطّور الذي كلم عليه موسى - صلى الله عليه وسلم -، والبلد الذي بعث منه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، فتكون
الآية نظير ما في التوراة، أن اللهَ جاء من طور سينا وطلع من ساعير، وهو موضع عيسى - صلى الله عليه وسلم - وظههر من جبال فَارَان وهي مكة، وأقسم الله: بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين.
وقيل: إنه التين الذي يؤْكل والزيتون الذي يعْصر، أقسم الله بهما لفضيلتهما
على سائر الفواكه.
وروِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل مع أصحابه تيناً، فقال: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت هذه: لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوه فإنه " يقطع البوَاسير، وينفع من النقرس.

(2/132)


وقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم السّوَاك الزيتون من الشجرة المباركة، هي سِواكي وسواك الأنبياء من قبلي ".
(التاء حرْف جرّ) معناه حرف القسم يختص بالتعجّب، وباسم الله تعالى.
قال في الكشاف في قوله تعالى: (تاللهِ لأكِيدَنَّ أصْنَامَكم) :
الباء أصل أحرف القسم، والواو بدل منها، والتاء بدل من الواو، وفيها زيادة معنى التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد علىَ يديه وتأتِّيه مع عتو نمرود وقَهْره.
(تبارك) قد قدمنا أنه فعل لا يستعمل إلا بلفظ الماضي، ولا يستعمل
إلا للَه تعالى، أي لا يتصرف.
ومن ثم قيل إنه اسم فعل.

(2/133)