معترك الأقران في إعجاز القرآن

 (حرف السين المهمَلة)
(سليمان بن داوود) .
قال كعب: كان أبيض، جسيما، وَسِيماً، وَضيئاً.
جميلا، خاشعاً متواضِعاً، وكان أبوه يشاوِرُه في كثير من أموره مع صِغَر سنه
لوفور عقله وعلمه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: ملك الأرض
مؤْمنان: سليمان، وذو القرنين.
وكافران: النُّمرود، وبخت نصّر.
قال أهل التاريخ: ملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة، وابتدأ بناءَ بيت المقدس بعد مُلكه بأربع سنين، ومات وله ثلاث وخمسون سنة.
(سواءَ السّبِيل) :
هو الطريق، وجمعه سبُل، ثم استعمل في طرايق الخير والشر.
وقد قدمنا أنَّ سبيلَ الله الجهاد، وابن السبيل الضيف.
وسوَاء بالفتح - والهمز من التسوية بين الأشياء.
وسواء الجحيم وَسطها، وسيأتي معناها آخر الحرف.
(سَنَزِيد المحسنين) :
أي يزيدهم أجراً إلى المغفرة.
(سَلْوى) :
طائر يشبه السُّمَاني، كان ينزل على بني إسرائيل من المنّ.
(سجَّداً) :
معناه رُكعاً، لأن الدخول لا يتأتّى مع السجود.
وقيل: متواضعين.
وقد قدمنا أنَّ سجودَ الملائكة لآدم كان بِوَضْع جباههم في
الأرض، وأول مَن سجد إسرافيل، ولذا جازاه اللهُ بولاية اللوح المحفوظ.
(سفِه نفسه) : منصوب على التشبيه بالمفعول به.
وقيل: الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب.
وقيل تمييز، ومعناه أهلكها وأوْبقها.

(3/183)


(سيَقول السفهاءُ) :
ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه.
وقال ابن عباس: نزلَتْ بعد قولهم، والمراد بهم اليهود أو المشركون أو المنافقون.
وأما: (ولا تُؤْتوا السفهاءَ أموالَكم) .
فالمراد بهم أولاد الرجل ونساؤه لأنهم يبذَرون.
وقيل السفهاء المحجورون، وأموالكم، أي أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وهي تحتَ ولايتهم.
(سِرًّا) ، وسروراً بمعنى واحد.
(تسليما) : ملاطفة وقَصْداً.
(سلَف) الأمر، أي تقدم، وأسلفت الرجل أي قدمته، ومنه: (بما
أسْلَفْتم في الأَيام الخالية) .
(سَلم) - بفتح السين: السلامة، والمراد به عقد الذمة بالجزية.
وقرئ بكسر السين بمعنى الدخول في الإسلام.
وأما السَّلَم بغير ألف فهو الانقياد.
ومنه: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) ، وقرئ بالألف بمعنى
التحية.
(سارعوا) :
بغير واو استئناف، وبالواو عطف على ما تقدم، ومعناه المبادرة إلى الأمر.
(سَعِيراً) :
اتقادا، وهو اسْم من أسماء جهنم.
(سلام) :
اسم من أسماء الله، وهو بمعنى الخير، (فاصْفَحْ عنهم وقل سلام) .
وبمعنى الثناء: (سلام على نوح في العالَمِين)
وبمعنى السلامة: (اهْبِط بسلام منَّا) .
(لهم دار السلام عند رَبهم) .
وبمعنى الشجر العظام، واحدتها سَلَمَة.
(أسلم) :
له ثلاثة معان:
الدخول في الإسلام، والإخلاص للهِ، والانقياد.
ومنه: (أسلمت لرب العالمين) .
(فلما أسْلَما وَتَلَّه للْجَبِين) .

(3/184)


سكينة) : وقار وطمائينة.
وقال الراغب في مفرداته قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الفتح: 4،: إنه ملك يسكن قَلْب المؤمن ويؤمنه، كما روي: إن السكينة تنطِقُ على لسان عمَر.
وقيل في سكينة
تابوت بني إسرائيل: إن لها وجهاً مثل وَجه الإنسان، ثم هي بعد
ريح هفَّافة.
وقيل: رأس مثل رأس الهرّ وجناحان، وهي من أمر الله.
(سكن)
يسكن: له معنيان، من السكون ضد الحركة.
ومن السكنى في الموضع، ومنه: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ) .
فإن قلت: إذا كان من السكون الذي معناه الإقامة، فما معنى عطف الأكل في البقرة بالواو بخلاف آية الأعراف؟
والجواب أنَّ مورد الآيتين مختلف في الموضعين، لأن الواردَ.
في البقرة قُصد به مجرد الإخبار والإعلام به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جرى في قصة آدم عليه السلام
وابتداء خلقه، وأمر الملائكة له بالسجود، وما جرى من إبايَة إبليس عن
السجود، ثم ما أمر به آدم من سكنى الجنة والأكل منها، ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانيّ أو تحديد غايةٍ، فناسبَهُ الواو، وليس موضع الفاء.
وأما آية الأعراف، فمقصودُها تعدادُ نِعَم الله تعالى على آدم وذُرّيته، ألا
ما تقدَّمها من قوله تعالى: (ولقد خلَقْنَاكم ثم صوَّرْنَاكم) .
وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفْرِداً لإبليس: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) ، مفرداً بذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعا بالتأنيس له ووصية الذرية في قوله: (يا بني آدمَ لا يفتنَنَّكم الشيطانُ) ، فناسب هذا القصد العطف بالفاء الْمُحْرِزة معنى الترتيب.
والواو لا تقتضي ذلك، وإنما بابُها الْجَمع حيث لا يُراد ترتيب، وليس موضع شرط وجزاء، فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورد ها هنا لما ذكرتُه من قصد تجريد التفضيل المحصّل لتعديد النعم.
ولما اختلف القَصْدَان اختلفت العبارة فيهما.

(3/185)


(سعى) يسعى: له ثلاثة معان، عمل عملاً، ومنه: (وأن ليس للإنسان
إلاّ ما سعى) .
ومشى، ومنه: (فاسعَوْا إلى ذِكْر الله) .
وأسرع في مشيه، ومنه: (وجاء رجلٌ من أقْصَا المدينة يسْعَى) .
فإن قلت: ما وَجْه تقديم الرجل في هذه الآية وتأخيره في آية يس؟
والجواب إنما أخره في يس لأوجه، منها: أنه كان يعبد الله في جَبَل، فلما
أسمع خبر الرجل سعى مستعجلا.
وقيل: حيث قدّم الظرف على رجل أراد أن ينبه أن الرجل من المدينة
نَفْسها، وحيث أخَّر الظرف لم يرد أن يُنَبّه على المعنى المذكور.
وقيل: لما كانت مقالة الرجل في سورة يس تقتضي الإِرشادَ أخر ذكْرَه ليكون موالياً لإسناد قوله إليه، وليعلم القائل أنَّ مقالته تقتضي الإنذار قدم ذكره وفصَل بينه وبين مقالته ليبعد إسنادها إليه، إذ المقالة تقتضي الإخفاء، وهو أيضاً كذلك، فكان بعد إسناد المقالة إليه فيه ضربٌ من إخفائه.
وقيل غير هذا من الوجوه حذفناه لطوله
(سَوْءَةَ أخيه) ، أي عورته، وخصها بالذكر لأنها أحق
بالستر من سائر البدن، والضميرُ في (أخيه) عائد على ابن آدم، وأما قوله:
(فبَدَتْ لهما سَوْءاتُهما) ، فقد قدمنا أنه زال عنهما اللباسُ الذي
كان عليهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.
(سَمَّاعونَ للكذبِ سَمَّاعُون لقوم آخَرِين) ، أي لقوم
آخرين من اليهود الذين لا يأتُون النبي - صلى الله عليه وسلم - لإفراط البغْضَةْ والمهاجرة.
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذا السماع هنا؟
فالجواب أنه إن كان سمّاعون الأول استنئاف إخبار عن المنافقين والذين
هادُوا فيكون الثاني في اليهود خاصة، وإن كان من الذين هادوا استئنافاً منقطعاً

(3/186)


عما قبله فيكون سمّاعون الأول راجِعاً إليهم خاصة، فكرّر الثانية تأكيداً.
وبالجملة - فالآيةُ خطابٌ للنبى - صلى الله عليه وسلم - على وجه التسلية.
وأما قوله في براءة:
(فيكم سمّاعون لهم) ، فمعناه خطاب للصحابة بأنهم يسمعون
كلامَ المنافقين في إخبارهم بابتغائهم فتنتكم، وتنقلونها لإخوانكم المؤمنين، وهم معْ لك طالبون فسادكم.
وقيل سمّاعون، أي يتجسسون لهم الأخبار.
(سأرِيكم دارَ الفاسقين) ، أي دار فرعون وقومه، وهو مصر، فالمعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلَكُوا.
وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدمة ليعتبروا بها.
وقيل جهنم.
وقرأ ابن عباس بالثاء المثلثة -: " سأورثكم " من الوراثة، وهي على هذا مصر كما قدمنا.
(سأصْرِف عن آياتي الذين يتكبَّرُون في الأرض بغير الحقّ) :
يحتمل أن يريد بها آيات القرآن وغيره من الكتب فيطمس الله فَهْمَها.
والتدبّر في معانيها على المتكبرين، وهذا كقوله: (واتَّقُوا اللهَ ويعلِّمُكم الله) .
وفي الحديث: العلم نور يضَعُه الله في قلْبِ الخائف.
وفيه: " مَن عمل بما علم أورثه الله عِلْمَ ما لم يعْلم ".
مَنْ لم يتّق الله يصرفه عن فَهْم آياته، ويصده عن الإيمان عقوبة له على تكبّره.
وقيل: الصرف منعهم عن إبطالها.
(سكتَ عَنْ موسى الغَضَب) ، أي سكن، وبذلك قرأ بعضهم
والغضب: شعلة نار، وهو مذموم، مَنْ وجده فليستعِذْ بالله منه، وإن
كان قائما جلس، وإن كان جالساً فليَضْطَجع، وغضبُ موسى إنما كان لله في غضبه ِعلى اتخاذ العِجْل في غيبته إلى الطور، فلما رجع ألْقَى الألواحَ التي كانت عنده لما لحقه من الدهش، وأخذ برأس أخيه هارون يجرُّه، لأنه ظن أنه فرَّط في كفِّ الذين عبَدُوا العجل، فقال: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) ، الآية، فسكن حينئذ موسى.
وإنما دعاه هارن بأمِّهِ، لأنه أدْعَى إلى العطف والحنوّ.
وقرئ ابن أمِّ بالكسر على الإضافة

(3/187)


إلى ياء المتكلم وحذفت الياء، وبالفتح تشبيهاً بخمسة عشر، جعل الاسمان اسماً واحداً.
وفي الآية تنبيه على أنَّ الغضبَ للَه من النصرة لدين الله، فلا يغفل المرء عن
الحبِّ في الله والبغْض في الله.
وإنما غضب موسى على مَنْ ظنّ منه الإفادة والانتهاء عما هو فيه.
وأما مَن ظن عدم ذلك فلا ينبغي إلا هجرانُه وطرْدة.
ولعمري هل فيك نفحة من هذه النفحات فتغضب على أهلك ووَلَدك وما
ملكت يمينك إذا رأيتهم خالفوا أَمْرَ ربهم، كَلاّ لو فهموا منك تغضباً لتَرْكِ
دينهم كما تغضب عليهم إذا ضيعوا دنياك لانْتَهَوا، ولكنك لا تغضب عليهم
لعدم صِدْقك مع الله فلم يزيدوا إلا طغياناً كبيراً.
(سَيَّارة) :
قوم مسافرون.
ورُوي أنَّ السيارة التي أخرجت يوسف كانت من مَدْين.
وقيل أعراب السيارة طلبوا الماءَ فوجدوا يوسف.
وسليمان طلبَ السمكةَ فوجد الخاتم، وموسى طلب النارَ فوجد الجبّار.
وأنْتَ يا عبدَ الله، هَلاَّ ترمي شبكةَ الندامة في بَحْر
الاستغفار وتَصطاد لنفسك الضعيفةِ حوتَ السلامة من الفرقة والقطيعة، فإن
كنت أحذق فعليكَ بالأوفق، لا يشغلك شاغل عن الطاعة بجهد الاستطاعة، فإن وقعتَ في ظلمة أو وَحلة يخرجك كما أخرج يوسف، وإن صيّره ملكاً فيصيّرك ملكا كريماً في دارِ ضيافته، ويكشف لك عن كمال ذاته، فتنظر إلى جماله.
(سيِّدَها) :
قد قدمنا أن السيد يراد به الرئيس والذي يفوق في الخير قومَه.
والسيد في الحقيقة هو المالك.
ولذا أضاف امرأةَ العزيزِ إليه، لأنه مالكها، فلما رأته خجلَت واستحيت وقالت: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، قتلًا أو ضرباً وَجيعاً.
قالت ذلك ضجَرًا لِمَا فاتها منه، ولما ظنت أن يَنْسب إليها من ذلك.
وأنتَ يا عبد الله، تفوتك من مولاك اغتنام الطاعات، ولا تبكي على فَقْدها،

(3/188)


ولا تهتم من عقوبة معصيته.
أما علمْتَ أنَّ عقوبةَ غيبة الحبيب أشدّ من عقوبة الغضب.
غضبت زليخا ساعةً فأورثها خزْناً طويلاً، كانت تقوم الليل وتقول: يا
يوْسف، هل أنتَ نائم أو ساهر، أما أنا فأنا ساهرة من حبك، ليتني لم أمر بك إلى ما ترى! وأنت لا تخاف من غضب مَنْ لا يقوم لغضبه شيء.
فلا تحسبنَّ إمهاله لكَ إهمالاً، أما سمعتَه يقول: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) ، أي نؤاخذُهم قليلاً ولا نباغتهم كما يرتقي الراقي الدرجةَ
ْفيتدرّجِ شيئاً بعد شيء حتى يصلَ إلى العلوّ، قال بعضهم: معناه كلما جدَّدوا
ْخطيئة جدّدنا لهم نعمةً حتى نأخذهم بغتة.
(سَبعٌ شِدَاد) : يعني ذات شدة وجوع سَبْعَ سنين.
هذا تعبير الرؤيا، وذلك أنه عبَّر البقرات السمان بسبع سنين مجْدبة، وكذلك السنبلات الخضر واليابسة.
فإن قلت: ما وجه اختلافِ العددَيْن في هذه الآية وآية البقرة في قوله:
(سبع سنابل) ؟
فالجواب أن بابَ ما يجمع بالألف والتاء أن يكون للقليل ما لم ينص عليه أو
يعرض عارض، لأن آية البقرة مبنية على ما أعدَّ الله تعالى للمنفق في سبيله وما يضاعف له من أخر إنفاقه، وأن ذلك ينتهي إلى سبعمائة ضعف، وقوله: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، قد يفهم الزيادة على ما نص عليه من
ذلك، كما أشارت إليه آياتٌ وأحاديث، فمَبْنى هذه الآية التكثير، فناسب
ذ ر ورود المفسّر على ما هو مِنْ أبنية الجموع للتكثير لحظاً للغاية المقصودة.
ولم يكن ما وَضْعه للقليل في الغالب لينَاسب ما لحظ فيه الغاية من التكثير.
أما آية يوسف فإنما بناؤها على إخبار الملك عن رؤياه: (سبع سنْبلات)
: فلا طريقَ هنا للَحْظِ قِلّة ولا كثرة، لأنه إخبار برؤيا، موَجْفه الإتيان
من أبنية الجموع بما يناسب المراد وهو قليلٌ، لأن ما دون العشرة قليل، فلحظ في آية البقرة وما بعدها مما يتضاعف إليه هذا العدد، وليس في آية يوسف ما يلحظ، فافترق القَصْدَان وجاء كلّ على ما يجب.

(3/189)


(سارِب) :
قد قدمنا أن (سَارِبٌ) عطف على (مُسْتَخْفٍ)
بالليل، لا على (مُسْتَخْفٍ) وحْدَه، وأما قوله: (فاتخذ سبيله في البحر سَرَبا)
، فمعناه أنَّ الحوتَ سار في البحر، فقيل: إن الحوتَ كان ميتاً
مملوْحاً ثم صار حيّا بإذن الله، ووقع في الماء، فسار فيه.
وقال ابن عباس: بل صار موضع سلوكه ماءً جامداً.
قال ابن عطية: وهؤلاء يتأوّلون سَرَباً بمعنى جَولاناً، من قولهم مَحَل سارب، أي مهمل يرْعَى فيه حيث شاء.
وقالت فرقة: اتخذ سَرَبا في التراب من المِكْتَل إلى البحر، وصادفَ في طريقه بَحْراً فثقبه.
وظاهر الأمر أن السرَب إنما كان في الماء.
ومن غريب ما رُوي في البخاري في قصص هذه الآيات أنَّ الحوت إنما حي
لأنه مستَه عَين هناك تَدْعى كين الحياة ما مستَتْ قطّ شيئاً إلا حيي.
ومن غريبه أيضاً أن بعضَ المفسرين ذكر أنَّ موضع سلوك الحوت عاد
حجرًا طريقاً، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفْضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر.
وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضَفة البحر يدلُّ عليه قوله: (فارْتَدَّا عَلَى آثارِهما قَصَصاً) .
وإنما ذَكر بعده: (واتَّخذ سبيله في البحر عَجَبا) - بالواو: لأنه يحتمل أن يكون من كلام يوشعَ لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجباً للناس.
ويحتمل أن يكون قوله تمام الخبر، تم استأنف التعجب، فقال
من قبل نفسه: عجباً لهذا الأمر.
وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأُكل شقّه الأيسر تم حيي بعد ذلك.
قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته فإذا هو شقه حوت وعين واحدة
وشق آخر ليس فيه شيء.
قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء
قشر له قشرة رقيقة تشفّ تحتها شوكة، وشقه الآخر.
ويحتمل أن يكون قوله: (واتخذَ سَبِيلَه) . الآية إخباراً من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذَ سبيلَ الحوتِ من البحر عجباً، أي تعجَّب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذَ سبيلَه عجباً للناس.

(3/190)


وقرئ: واتخاذ سبيله، فهذا مصدر معطوف على الضمير في (أن أذْكرَه)
(سَرَابِيلهم مِنْ قَطِران) ، بفتح القاف وكسر الطاء.
وبفتحهما وبسكون الطاء، وإنما جعل قُمص أهلِ النار من القَطران، وهو الذي تهنأ به الإبل، لأن للنار اشتعالاً شديداً.
فإن قلت: ما فائدة الإتيان بِمنْ، وقد كان يستغنى عنها؟
فالجواب أن فائدة الإتيالن بها نَفْيُ توهّم مجاز التشبيه، نحو زيد أسد.
وكقوله عليه السلام في صحيح مسلم: "إنَّ أحدَكم لا يزال راكباً ما انتعل".
ففرْق بين خاتم فضة ومِنْ فضة، فإن الأول يحتمل أنه تشبيه محذوف الأداة، والثاني نص لا يتطرق إليه احتمالٌ ألبتَّة.
وقد يقال: إن الإتيانَ بها هو الأصل، لأن الإضافةَ في مثله على معنى مِن.
نحو ثوب خز، وإنما يُستغنى بذكرها مع الإضافة، ولما تعذرَت الإضافة هنا
بإضافة السرابيل إلى ضمير المحدّث عنهم تعين الإتيان بها رجوعاً للأصل.
لتدل على التبعيض المقصود مِن هذا التركيب.
وفائدة قصْدِه هنا الإعلام بأن هناك قَطراناً غَيرَ ما جعل من السرابيل، ليصبّ عليه، فيزداد اشتعال النار - بذلك، أَو تجدد منه السرابيل إن ذهبت الأولى بذهاب الجلودِ التي طليت بما شبّه منه بالسرابيل: (كلما نَضِجَتْ جلودهم بدَّلْناهم جلوداً غيرها) .
أو يسوقونه فتحترق أفئدتهم كلما أَحرقَت جلودَهم (نار الله الموقدة التي تطَّلِع على الأفئدة) ، أو لغير ذلك، ولو لم تذكر (مِن) لما غم أنَ هناك منه غير ما جعلت السرابيل إلا بدليل آخر.
نَظير ما ذكرناه من فائدة قصد التبعيض هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حكاية عن قول
إبراهيم: (فاجعَلْ أفئدةً من الناس تَهْوِي إليهم وارْزقْهم من الثمرات) ، ولا يتأتى السربال حقيقة من القَطران إلا بأنْ تبدّل صفته من
المائعية إلى التجمد، وحينئذ يكون إخباراً، بخلاف الْمَعْهود منه.
ويشبه على هذا

(3/191)


الْجَعل أن يكون تنكيره للنوعية، أي نوع من القطران غير متعارف، فظهر من هذا أن احتمالَ التشبيه مع ذكْر " من " قائم كما هو مع حذفها.
ويحتمل أنه قصد التشبيه بالقطران لشدةِ سوادها واشتعال النار فيها ونَتنها
بحيث يقال إنها من القطران، وربما يكون من تلك السرابيل المسوح التي تقْبض فيها أرواحُ الكفار على ما ورد مرادًا بها الحقيقة في قراءة تنوين قَطرانٍ، ووصف بأنه أقرب، ويدل على أن التصريح بمن لا يُنافي التشبيه الإتيان بها مع صريحه، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كأنه من رجال شنوءة، وكأنه من رجال الزط".
(سبعاً من الْمَثَاني والْقرآنَ العظيم) :
قال بعضُ العَدديين:
إنما خص لَفظ السبع هنا لأنها أول العدد الكامل الزائد على العدد التام
الأجزاء، لأن الستة عدد تام الأجزاء، وهذا العدد له نسبة في المخلوقات
الجملة، كعدد السماوات والأرض والأيام والأعضاء، وأبواب جهنم.
وغير ذلك مما يطول ذكرها.
وذكر الله لهذه السورة أسماء كثيرة، وفيها سبع آيات، وهي
خالية من أحرف العذاب: الثاء: (لا تدعوا اليوم ثبُوراً واحداً) .
والخاء: (ألاَّ تخافوا ولا تحْزَنُوا) .
والشين: (ولا تَشثقَى) .
والجيم: (لهم نار جَهنم) - يعني الكفار.
والزاي: (إن شَجَرةَ الزّقّوم) .
والفاء: (يومئذٍ يتفرَقون) .
والظاء: (أو كظلُمَاتٍ) .
فسبحان من خصَّ هذه الأمة بمحامدَ وخصائص يجب عليهم شكْرُها إن عقلوا، ولو لم يكن لهم افتتاح هذا الكتاب المنزَّل عليهم بالحمد تعلما لهم وإرشاداً لحمده.
وكرَّر عليهم ذكر ذلك في كتابه:
كقوله لنبيه: (قل الحمد للَه الذي لم يتخذ وَلَداً) .
(قل الحمد للَه بل أكثرهم لا يعلمون) .
فإن قلت: لم أمر بالحَمْد للَه على عدم اتخاذِ الوَلد؟
والجواب أنه لو كان له ولد فلا بد من عبادته، وعبادة إلهين يشقّ علينا، ولو
كان له ولد لأعطاه أفضل الأشياء، فانفرد بالملك كلّه، ولو كان له ولد لكان

(3/192)


له إلى النساء حاجة، والمحتاج لا يستحق الربوبية: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ) .
فإن قلت: لم أمر عباده بالحمد قَبْلَ سائرْ الطاعات؟
والجواب لأن أول كل شيء منه نعمة، وهو الْخَلْق السويّ، والمعرفة.
والإسلام، والهداية، فأمرنا بالحمد ليكونَ جزاؤه فقد الإنسية فيشق علينا
أداؤه، وإذا أردت أن تعرف قيمةَ الحمد فتأمَّل إلى أهل الجنة حيث حمدوه إذا
فرغوا من الحساب: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وإذا عَبَرُوا على الصراط قالوا: (الحمد للَه الذي أذهَب عنّا الحزَن) فاطر:
، وإذا بلغوا بابَ الجنة قالوا: (الحمد للهِ الذي صدَقَنَا وعْدَه) ، فإذا نزلوا منازلهم قالوا: الحمد للَه (الذي أحلَّنا دارَ الْمقَامة من فَضْله) .
فإذا فرغوا من الطعام قالوا: (الحمد للَه ربّ العالمين)
قال تعالى: (وآخِر دَعْواهم أنِ الحمد للهِ رب العالمين) .
فانظر كيف لم يغفلوا عن الحمد في كل الأحيان مع أنَّ الله ختم لهم بالحسْنى.
ِفكيف تَغْفُل يا محمديّ عَمَّن ناصيَتك بيده، وأعطاكَ سورة لا بدّ لك من
ذكرها في صلاتك، كل ذلك لمحبته فيك، ألاَ ترى أنه قسمها بينك وبينه.
وجعل جوارِحَك سبعاً وأبواب جهنم سبعاً، فإذا قرأتها أعتق الله من النار سبعاً بسبع، وجمع لكَ ذِكر عشر نفرِ من الأنبياء قبل نبيك: نوح، قال: (إن أجريَ إلا على رب العالمين) .
وهود: (إن أجريَ إلا على الله) .
وموسى: (إني رسول ربّ العالمين) .
وإبراهيم: (أسلمتُ لربِّ العالمين) .
ونبيك: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وهارون: (إنّ ربكم الرحمن) .
وإبراهيم: (ومَنْ عصاني فإنكَ غفورٌ رحيم) .
ومحمد: (لكم دينكم وليَ دِين) .
وأولاد يعقوب لما سألهم قالوا:

(3/193)


(نعبد إلهكَ وإله آبائك) .
ومحد: (رَبَّنا الرحمن الْمُسْتَعانُ على ما تَصِفون) .
وموسى: (إنَّ معي رَبي سيَهْدين) .
وسليمان أمره الله بقوله: (أنْ أشْكُرَ نعمتَكَ التي أنعمْتَ عليَّ) .
وموسى: (رب بما أنعمتَ عليَّ) .
والمغضوب عليهم ذكره في الذين كفروا من بني إسرائيل في قوله إذ غضب
الله عليهم: (وباءُوا بغضبِ من الله) .
ولا الضالين ذكره في قصة داود عليه السلام تحذيرا له من الضلال وتطولاً
عليه كما تطوَّل علينا قوله: (ولا تَتَّبع الْهَوى فيضِلّك عن سبيلِ الله) .
وذكر الذين قتلوا أولادهم سفَهآ بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراء
على الله (قد ضَلّوا) .
وذكره عن كفرة بني إسرائيل:
(وضَلّوا عن سوَاءِ السبيل) .
فانظر كيف أمرك بالدعاء بها في كل صلاةٍ، واختصر لك فيها التوراةَ
والإنجيل، والزَبور، والفرقان، وصحفَ إدريس وإبراهيم وموسى، فلهذا مَنَّ الله بذكرها على نبيه بقوله: (ولقد آتيناكَ سَبعاً من المثاني) .
فإن قلت: إيتاء النعم والسكوت عنها وتَنَاسيها هو أكمل من إيتائها والمنة
بها، كما قال القائل:
وإنَّ اْمرَا أسدَى إليَّ بنعمة ... وذَكَّر فيها مرةً لبخيل
والجواب أن التذكير بالنعمة الماضية إنْ كان إشعاراً بورود نعمةٍ أخرى في
المستقبل فلا شيء فيه، وإنما يكون امتنانأ إذا! يشعر بورود نعمةٍ أخرى في
المستقبل، وعليه قوله تعالى: (ألَئ يجِدكَ يتيما فآوَى. ووجدك ضَالاً فهدَى) .
وأيضاً ذكَّر بها ليرتّبَ عليها أمراً تكليفياً فيكون أدخل في مقام الامتثال.

(3/194)


فإن قلت: الجملة الثانية كأنها مبيِّنَة عن الأولى
فهلاّ عطفت بالفاء، فكان يقال: " فلا تمدنً عينيك"؟
فالجواب أنه لما كانت السببية ظاهرة أغْنَتْ عن الإتيان بالفاء.
فإن قلت: ما سر تسمية الفاتحة بالسبع المثاني، والقرآن العظيم، والفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والوافية، والكافية، والكنْز، والأساس، وسورة الحمد، وسورة الشكر، والواقية، والشافية، والشفاء، وسورة الدعاء، وتعليم المسألة، وغير ذلك من أسمائها؟
فالجواب أن ذكر فضائلها وأسمائها يحتاج لمجلد مستقل كما قال الإمام عليّ
- رضي الله عنه -: لو شئت أن أَضع على الفاتحة وقْر سبعين بعيراً لفعلت، لكني أشير لك إلى ما فتح الله به من كتب ساداتنا وأئمننا رضي الله عنهم:
فسُميت بالمثان! لأنها تثنّى في كل ركعة أو في كل صلاة، أو بسورة أخرى.
أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها على قسمين: ثَنَاء، وَدعَاء، أو لأنها إدْا قرأ العبد منها آيةً ثناه الله بالإخبار عن فعله، كما في الحديث الصحيح: " إذا قال العبدُ: الحمد للَه رب العالمين قال الله: حَمَدني عَبدي ".
. . إلى آخر الحديث، أو لأنها جمع كل فيها فصاحة المباني وبلاغة المعاني، أو لأنها من الثُّنْيَا لأن اللهَ استثناها لهذه الأمة.
وإنما سُمِّيت بالقرآن العظيم، لاشتمالها على المعاني التي في أمّ القرآن.
فاتحة الكتاب، لأنها يُفتتح بها في المصاحف، وفي التعليم، وفي القراءةْ، وفي
الصلاة، أو لأنها أول سورة نزلت، أو لأنها أول سورة كتبت في اللوح
المحفوظ) أو لأنها فاتحة كل كلام.
وسميت بأم الكتاب وأم القرآن لحديث أبي هريرة: إذا قرأتم الحمدَ فاقرءُوا
بسم الله الر حمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب.
السبع المَثَاني - قال الماوردي: سُميت بذلك لتقدمها وتأخر ما سواها تَبَعاً

(3/195)


لها، لأنها أمَّتْه، أي تقدمَتْه، ولهذا يقال لراية الحرب أمّ، لتقدمها واتّباع الجيش لها.
ويقال لما مضي من سِني الإنسان أمّ لتقدمها، ولمكة امّ القرى لتقدمها على
سائر القرى.
وقيل أم الشيء أصْلُه، وهي أصل القرآن لانطوائها على جميع
أغراض القرآن وما فيه من العلوم والحكم وقيل: إنها أفضل السور كما يقال
لرئيس القوم أم القوم.
وقيل لأن حرمتها كحرمة القرآن كله.
وقيل لأن مَفْزعَ أَهل الإيمان إليها.
وقيل: لأنها محْكمة، لأن المحكمَات أم القرآن.
وسميت الوافية لأنها وافية بما في القرآن من المعاني، أو لأنها لا تقبل
التنصيف، فإن كلّ سورة من القرآن لو قرئ نصفُها في كل ركعة والنصف
الثاني في أخرى لجاز بخلافها.
وقال المرسي: لأنها جمعت ما لله والعبد.
وسميت بالكنز لما رَوى البيهقي في الشعب من حديث أنس مرفوعاً: إن الله
أعطاني فيما مَنَّ به عليَّ أني أعطيت فاتحة الكتاب.
وهي من كنوز العرش.
وفي رواية عن أبي أمامة، قال: أربع آيات نزلن من كَنْز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر، يعني خاصة به - صلى الله عليه وسلم.
وسميت الكافية، لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها.
والأساس، لأنها أَصل القرآن، وأول سورة فيه.
وسورة الحمد، وسورة الشكر، وسورة الحمد الأولى.
وسورة الحمد القصوى، والواقية، والشافية، والشفاء، والصلاة، لحديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، أي السورة.
وسورة الدعاء، لاشمالها عليه في قوله: (اهدنا الصراط) .
وتعليم المسألة، لأن فيها آداب السؤال، ولها أسماء غير هذه، وقد ذكر اللهُ
الحمد من سبعة نَفَر، فوجد كل واحد منهم كرامةً، لآدم حين عطس، قال: الحمد للهِ، فوجد الرحمةَ من الله بقوله: يرحمك الله.
ونوح قال: (الحمد لله الذي نَجّانا من القوم الظالمين) المؤمنون: 138، فوجد السلامة بقوله:

(3/196)


(يا نوح اهْبطْ بسلام مِنّا وبركات عليك) .
والخليل قال: (الحمد للَه الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق) ، فوجد الفداء: (وفدَيْنَاه بذبح عظيم) .
وداود وسليمان قالا: (الحمد للهِ الذي فَضلنا على كثير من عباده المؤمنين) ، فوجدا النبوءة والْملْك بقوله تعالى: (وكلاَّ آتيْنَا حكماً وعِلماً) .
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أمره الله تعالى بالحمد، فوجد الرِّفْعة والشرف بقوله تعالى: (ألم نشرح لكَ صَدْرَك) .
وأنت يا محمدي إذا أكثرتَ من هذه السورة وطلبتَ منه سبحانه شيئاً أتراك
لا تَنَاله وقد أعطاكَ الله ما أعطى الأنبياء، فاحْمَدِ اللهَ الذي هداكَ لها.
وخصكَ بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسم وعلى آله أفضل صلاة وأزكى
تسليم.
فإن قلت: هل للسور غيرها من القرآن هذه التسمية أوْ لهَا اسم واحد
يخصها؟
فالجواب: قد قدمنا في حرف اللام تسمية سوَر باسم واحد، ونذكر لكَ
الآن تسمية بعض السور بأسماء تتمةً للفائدة:
فالبقرة تسقى بفسطاط القرآن لما جمع فيها من الأحكام التي تذْكَر في
غيرها.
وسنام القرآن، لأنها أعلاه.
وآل عمران: اسمها في التوراة طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة
الزهراوين.
والمائدة: تسمى أيضاً العقود، والْمنْقذة، قال ابن الغرس: لأنها تنقذ
صاحبها من ملائكة العذاب.
والأنفال: تسمى سورة بَدْر.
وبراءة: تسمى التَّوبة، لقوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي) .
والفاضحة لأن فيها: ومنهم، ومنهم، قال ابن عباس:

(3/197)


حتى ظننا أنه لم يَبقَ منا أحد إلا ذكر فيها.
وسورة العذاب، قال حذيفة: تسمو بها سورة التوبة
وهي سورة العذاب.
وقال عمر: هي إلى العذاب أقرب، ما كادت تقلع عن
الناس حتى ما كادت تُبْقِي منهم أحداً.
والمقْشقشة لقول ابن عمر: ما كُنَّا ندعوها إلا المقْشقشة، أي البراءة من النفاق.
والنقرة لأنها نقرت عما في قلوب المشركين، قاله ابن عمر.
والبَحوث، بفتح الباء، لما أخرج الحاكم عن المقداد.
قيل له: لو قعدت العام عن الغَزْو! قال: أبَتْ علينا البَحوث، يعني براءة.
. . الحديث.
والحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، ذكره ابن الغرس.
والمثيرة
لما أخرج ابن أبي حاتم عن عبادة، قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة، فضحت المنافقين، وكان يقال لها المثيرة، أنبأتْ بمثالبهم وعَوْراتهم.
وحكى ابن الغرس من أسمائها المبعثرة، وأظنه تصحيف المنقرة، فإن صح كملت الأسماء عشرة، ثم رأيته كذلك، أعني المبعثِرة بخط السخاوي في جمال القراء، وقال: لأنها بعثرت عن أي أسرار المنافقين.
وذكر أيضاً فيه من أسمائها المخزية، والْمنَكَلَة.
والمشددة، والمدمدمة.
النحل: قال قتادة: تسمى سورة النعم، لأن الله عدّد فيها من النعم على
عباده.
الإسراء: تسمى سورة سبحان، وسورة بني إسرائيل.
الكهف: سماها ابن مَرْدَويه في الحديث سورة أصحاب الكهف.
ورَوَى البيهقي من حديث ابن عباس - مرفوعاَ - أنها تدْعى في التوراة الحائلة، تحول بين النار وبين قارئها.
طه: تسمى سورة الكليم، ذكره السخاوي في جمال القرّاء.
الشعراء: تسمى سورة الجامعة. ذكره الإمام مالك.
النمل: تسمى سورة سليمان.
السجدة: تسمى سورة المضاجع، لقوله تعالى: (تتجافَى جنوبهم عن
المضاجع) .

(3/198)


فاطر: تسمى سورة الملائكة.
يس: سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلْبَ القرآن.
وفي حديث أبي بكر - مرفوعاً:
سورة يس تدْعى في التوراة المعمَّة، تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة، وتدْعَى
الدافعة والقاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كلَّ حاجة.
الزمر: تسمى الغرف.
غافر: تسمى سورة الطَّوْل والمؤمن، لقوله فيها: (وقال رجل مؤْمِن) .
فُصلت: تسمى السجدة، وسورة المصابيح.
الجاثية: تسمى الشريعة، وسورة الدهر، حكاه الكرماني في العجائب.
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - تسمى القتال.
(ق) : تسمى الباسقات.
اقتربَتْ: تسمى القمر، وأخرج البيهقي عن ابن عباس أَنها تُدعى في التوراة المبيِّضة، تبيض وَجْهَ صاحبها يوم تسوَدُّ الوجوه.
الرحمن: سميت في حديثٍ عروس القرآن، أخرجه البيهقي عن علىّ مرفوعاً.
المجادلة: سُمِّيت في مصحف أبيٍّ الظهار.
الحشر: سمّاها ابنُ عباس سورة بني النَّضِير، قال ابن حجر: كأنه كرِه
تسميتها بالحشر، لئلا يظنّ أن المراد يوم القيامة، وإنما المراد به هنا إخراجُ بني النّضِير.
الممتحنة، قال ابن حَجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء، وقد
تكسر، فعلَى الأولى هي صفة المرأةِ التي نزلت السورة بسببها، وعلى الثاني هي صفة السورة كما قيل لبراءة الفاضحة.
وفي جمال القُرَّاء: تسمَّى أيضاً سورة الامتحان، وسورة المودَّة.
الصف: تسمى أيضاً سورة الْحَوَارِيين.
الطلاق تسمى سورة النساء القُصْرى.
لأن الطول والقصر أمر نسبي.
وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال:

(3/199)


طول الطوليَيْنِ، وأراد بذلك سورة الأعراف.
والتحريم يقال لها التحرّم، وسورة لم تحرِّم.
سورة الملك تسمى المانعة، لأنها تمنع صاحبها من عذاب القَبْر، وأخرج
الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعاً هي المانعة هي المنجية، تُنْجيه من عذاب القبر.
وقال ابن مسعود: كُنَّا نسميها في عَهْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المانعة.
وفي جمال القراء تسمى أيضاً الواقية والمنَّاعة.
سأَلَ: تسمى المعارج، والواقع.
عم: يقال لها النّبَأ، والتساؤل، والمعصرات.
لم يكن: تسمى سورة أهل الكتب، كذلك سُمِّيت في مصحف أبيٍّ.
وسورة البيّنة، وسورة القيامة، وسورة البرية، وسورة الانفكاك.
ذكر ذلك في جمال القراء.
أرأيت: تسمى سورة الدِّين، وسورة الماعون.
الكافرون: تسمى المقشقشة، وتسمى أيضاً سورة العبادة، وذكره في جمال القراء.
النصر: تسمى سورة التوديع، لما فيها من الإيماء إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -
تَبَّتْ: سورة الْمَسَد.
والإخلاص تسمى سورة الأساس، لاشمالها على توحيد الله، وهو أساس الدين.
قال: والفلق والناس يقال طما المعوذتان بكسر الواو، والمقشقشتان، من قولهم: خطيب مقشقش.
فهذا ما وقفتُ عليه.
وعلى القول بأن أسماء السور المفتتح بالحروف المقطعة هي أسْماء لها، لكن منها ما هو أحدي، كـ (ص) ، و (ن) ، و (ق) .
وثنائي، كـ (طه) ، و (يس) ، والحواميم، وثلاثي مثل
(الم) ، (طسم) .
ورباعي: (المر) ، (المص) .
وخماسي: (كهيعص) ، و (حم عسق) .
وقد أكثر الناس الكلام على هذه الحروف المقطعة.
والذي عندي أن الله وَضعها لإطفاء تشغيب الكفار حيث قالوا: (لا تَسْمَعوا لهذا القرْآن) ، فأتى الله بها ليسمعوها لغَرابتها، تم يبلغ الرسول رسالته.
كأنَّ الله يقول لهم: إن لم تصدقوه فأتوا بسورة من مثله في مثل هذه الحروف وأنتم لا تفهمون معناها.
وهذه دلالة لنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله ذكر في الكتب الماضية أنه يخرج في آخر الزمان رسول، وعلامته أن تكونَ بعض رؤوس سور كتابه الحروف المقطعة، وهي أسماء اللَهِ فرَّقها ووضعها على بعض السور لشرفها عنده.

(3/200)


(سائغاً للشَاربين) :
قد قدمنا أنه صفة للبن - سهلاً للشرب، حتى إنه لم يغَصّ به أحد.
وقد جعل فيه غنْية عن الطعام والشراب، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - حين شربه: اللهم زدْنا منه سَكَراً، يعني الخمر، ونزل ذلك قبل
تحريمها (1) .
فهي منسوخة بالتحريم.
وقيل: إن هذا على وَجْه المنفعة التي في الخمر، ولا تعَرُّضَ فيه لتحليل ولا تحريم، فلا نسخ.
وقيل السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخلّ والرب، والرزق الحسن: العنب والتمر والزبيب.
(سَرَابِيلَ تَقِيكم الحرَّ) :
قد قدمنا أن السرابيل القمص.
وذَكَر وقايةَ الحر ولم يذكر وقايةَ البرد، لأنه أهم عندهم لحرارة بلادهم.
والخطاب معهم.
(سبباً) :
هو الطريق الموصِّل إلى المقصود، من علم أو قدرة
أو غير ذلك.
وأصْل السبب الْحَبْل، ومنه: (فليَمْدد بسببٍ إلى السماء) .
(فأتْبَعَ سَبباً) ، فسمي الطريق سبباً، لأنه يتوصَّل
بسلوكه إلى المقصود.
وأما (أسباب السماوات) ، فمعناه أبوابها.
(سَمِيًّا) ، أي نظيرًا، وهذا مدح ليحيى عليه السلام، وسمَّاه الله قَبْلَ وجوده، وبهذه الآية احتجَّ أهل السنَّة على المعتزلة، لأنه لو كان الاسم
غير المسمَّى لكان المخاطب غير يحيى، وقد قال له: (يا يحيى خذِ الكتابَ
بِقُوَّةٍ) .
وقوله: (سبَح اسْمَ ربِّكَ الأعْلَى) لو كان الاسم غير المسمى لكان قد أمر بأن يسبّح الاسم دونه، وهذا لا يقوله محصل.
فدلّ ذلك على أن الاسمَ هو المسمَّى.
(ساوَى بين الصَّدَفَيْنِ) :
من التسوية بين الأشياء وجعلها سوية، بمعنى أتقن وأحسن، ومنه: (فسوَّاكَ فعدَلَك) .
(سَرِيَّا) :
قال مجاهد: هو بالسريانية: نهرًا.
وقال سعيد بن خبير: بالنبطية.
وحكى شَيْذلة أنه باليونانية، وعلى كل قولٍ ما كان قريباً من
__________
(1) لا يثبت ولا يصح.

(3/201)


جِذع النخلة، فسَّرَه عليه الصلاة والسلام بذلك.
وقيل يعني عيسى، فإن السري
الرجل الكريم.
(سوِيًّا) : أي قويما.
(سلامٌ عليكَ) :
إنما سلم إبراهيم سلام موَادعة ومفارقة لا تحيّة، لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز، فإذا سلّم عليه الكافر يقول له: وعليكم، أو عليك السِّلام، بكسر السين، وهي الحجارة.
وفي الحديث: إنَّ عائشة قالت ليهودٍ سلموا: وعليكم السام واللَّعْنة.
فقال لها عليه الصلاة والسلام:
مَهْلاً يا عائشة، فإن اللَهَ رفيق يحبُّ الرفْقَ.
فقالت: أو لم تسمع ما قالوا، قالوا: السام عليكم.
فقال: قد قلت لهم وعليكم.
(سأسْتَغفِر لكَ رَبِّي) :
لما طلب آزَرُ من إبراهيم الاستغفار وعده أنْ يدعوَ له.
قال ابن عطية: معناه سأدعو اللهَ أنْ يهديك، فيغفر لكَ بإيمانك.
وذلك لأن الاستغفارَ للكافر لا يجوز.
وقيل: وعَدَه أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم انَّ اللَهَ لا يغفر للكافر حتى أعلمه اللَّهُ بذلك.
ويقَوِّي هذا قوله: (واغْفرْ لأَبي إنه كان من الضالِّين) .
ومثل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: " لأستغفِرَنَّ لك ما لم أنْهَ عنك ".
وروي أنه لما نزلت: (إن تستَغْفر لهم سبعين مرة فلن يغفرَ اللَّهُ لهم) ، - قال
- صلى الله عليه وسلم -: " لأزيدنَّ على السبعين "، فلما فعل عبد اللَه بن أبي وأصحابه ما فعلوا، وقولهم: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، وتوليتهم عن استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم شدَّدَ اللَّهُ عليهم بقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .
وفي هذا نظر، لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني الْمصْطلق قَبْل الآية ِ الأخرى بمدة.
وروي أنه إذا كان يوم القيامة يجعل اللَّهُ آزَر تحت قدم إبراهيم على صورة كبش ملطَّخ بالدم ويُؤْمَرُ إبراهيم بذبحه، لأنه لما حملت أمّه بإبراهيم اشتهى أن يكونَ غلاماً فيذبحه تحت رِجل النمرود رضاءً له

(3/202)


فجازاه اللَّهُ بذلك، وحوَّله كبشاً، لأنه دعا ألَّا يخزيه في أبيه، كذلك أهل مصر تمنّى كلّ واحد منهم أن يكون يوسف عبداً له، فجعلهم الله عبيده.
وأنت يا عبد الله إذا كانت نِيَّتك ومرادك غَيْرَ عصيان الله يعاملك على نيتك
ومرادك فيجعل سيئاتك على الكفار، ويجعلهم فداءً لك عقوبةً لهم، وعلى إبليس الذي كان سبباً في إغوائك، ألا تراه سبحانه يقول لك: إذا قلت أذنبْتُ عَفَوْتُ وَصَفَحْتُ، وإذا قلت اللهم اغْفِرْ لِي يقول لك: قد غَفَرْتُ لكَ وأنا الغفور الرحيم.
(سنكتب ما يقول) :
من قوله: لئن بعثت كما يزعم محمد ليكوننّ لي هناك مال ووَلد، وإنما جعله مستقبلاً، لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل.
(سيكفرونَ بعبَادَتهم ويكونونَ عليهم ضِدًّا) :
الضمير للكفار، وفي عبادتهم للمعبودين، وهذا كقولهم: (ما كنتم إياه تعبدون) .
(سَيَجْعَل لهم الرحمن ودًّ أ) ، هو المحبة والقبول الذي يجعله
اللَه لمن أَطاعه.
وقد صحَّ في الحديث أن الله ينادي: يا أهل السماء، إني أحبّ
فلاناً فأحِبّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض.
وقال بعضهم: يكتب جبريل له صحبةً فيضعها في الماء المشروب منه.
وقيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب.
والأول أظهر لعمومه، والعيان يشهد بذلك، وهذه أولُ
كرامة يكرِمُ الله بها أولياءه.
(سنعِيدها سيرتَها الأولى) :
يعني أن موسى لا أخذ العصا
عادت كما كانت أَولَ مرة، وإنما أمره بالإلقاء أوَّلاً ليستَأنِس بها، وانتصب
(سيرتها) على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر.
(سلك لكمْ فيها سبلاً) .
أي أنهج لكم في الأرض طرقاً تمشون فيها.
وأما قوله تعالى آمراً للنحل: (فاسْلكي سبلَ رَبِّكِ ذلُلاً)

(3/203)


فقد قدمنا أنَّ الله أمرها بالرجوع.
وقيل بالذهاب، قال أبو حيان: إنْ أريد بالطريق الحسيّ فهو مفعول به، وإن أريد المعنوي فهو ظرف.
(سَحيق) : بعيد.
(سَخرْنَاهَا لكم) :
أي كما أمرناكم بهذا كلِّه سخرناها لكم.
وقال الزمخشري: التقدير مثل التسخير الذي علمتم سخَّرْنَاها لَكم.
(سَبْعَ طرائق) :
سموات، واحدتها طريقة، وسمِّيت بذلك، لأنها بعضها فوق بعض، كمطارقة النعل.
وقيل: يعني الأفلاك، لأنها طرق الكواكب.
(سامِرًا) :
مشتق من السمر، وهو الجلوسُ بالليل للحديث، وكانت قريش تجتمع في الليل بالمسجد يتحدثون بسبِّ رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم.
والمعنى أنهم سامرون بذكره وسبِّه.
و (سامِرًا) مفرداً بمعنى الجمع، وهو منصوب على الحال.
(سَراب) :
هو ما يرى في الفَلوات مِنْ ضوء الشمس في الهَجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وَجْه الأرض.
وشبَّه اللهُ به أعمال الكفار في الآخرة بأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب.
والتمثيل الثاني في قوله: (أو كظلمات) ، يقتضي بطلانَ أعمالهم في الدنيا.
وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمات التي بعضها فوق بعض.
(سنَا بَرْقِه) :
السنا - بالقصر الضوء، وبالمد المجد والشرف.
(سبَأ) :
قبيلة من العرب، سُمِّيت باسْمِ أبيها الذي تناسلت منه.
وقيل باسم أمها.
وقيل باسم موضعها، والأول أشهر، لأنه ورد في الحديث.
(سرْمَدا) :
دائماً، وفيه تعديد النعم على عبيده، بحيث جعل لهم اختلاف الملَوَان، هذا لراحتهم، وهذا لعنائهم وشغلهم، وخِلْفَةً لمَنْ أراد أن يذَّكرَ أو أرادَ شكوراً.

(3/204)


(سلَقُوكُم بألسنةٍ حِدَاد) .
أي إذا نصركم اللهُ أيها المؤمنون، فزال الخوفُ رجع المنافقون إلى إذَايَتكم بالسبِّ وتنقَّص الشريعة، وإذا جاء الخوفُ نظروا إليكم ولإخوانكم من شدة خوفهم، (تدُورُ أعينُهم كالذي يغْشَى عليه من الموت) ، وهو عبارة عن المتكلم بكلام مستَكْرَه.
ومعنى (حداد) فصحاء قادرين على رفع الصوت، لأن السلق والصّلق رفع الصوت.
(سابغات) :
كاملات، والضمير يعودُ على الدَّروع التي كان يعملها داود من الحديد، لأنه كان تَحْتَ يده كالعجين يصنَعُ به ما يشاء، وهو
المراد بقوله: (وقَدِّرْ في السَّرْدِ) ، أي قدِّرْها بألاَّ تعمل الحلْقَة
صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها.
وقيل: لا تجعل المِسْراد رقيقا ولا غليظاً.
والسرد: الخرز أيضاً.
ويقال للإشْفَى مِسْرد ومِسْرَاد.
(سيَهْدِين) :
هذا من قول إبراهيم بعد خروجه من النار، وأراد أنه ذاهب إلى الله، مهاجر إلى أرض الشام.
وقيل: إنه قال ذلك قبل أن يطْرَح في النار، وأراد أنه ذاهب إلى ربِّه بالموت، لأنه ظن أن النار تحرقه.
و (سيَهْدِين) على القول الأول يعني الهدي إلى صلاح الدين والدنيا.
وعلى القول الثاني إلى الجنة.
وقالت المتصوفة: معناه ذاهب إلى ربِّي بقلبي، أي مقبل
على الله بكليته، تاركٌ لما سواه.
(ساحة البيت) : فناؤه.
والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محذور.
(سواء) الطريق: الواضح والطريق اللائح.
(سَلَماً لِرَجل) : أي خالص.
وقرئ بألف، والمعنى واحد.
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) .
سماهم بالمخلفين لأنهم تخلَّفوا عن غَزْوة الحُدَيبية، والمراد بالأعراب أهل البوادِي، كمزَينة وجهينة، ومَنْ كان حول المدينة، لأنهم ظنوا أنه لا يرجع - صلى الله عليه وسلم - من

(3/205)


غَزْوَته تلك، ففضحهم اللهُ في هذه الآية، وأعلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم واغترارهم قبل رجوعهِ إليهم، فكان كما قال: (شَغَلَتْنَا أموالنا وأهلونا) الآية.
فإن قلت: لم أبرز الضمير في هذه الآية وحذَفه فيما بعدها؟
فالجواب أن المُخْبرَ عنهم من المخلَّفين طلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - الاستغفارَ لهم لتخلّفهم عنه، وأفردوه بخطابهم، إذ ليس ذلك من مطلوبهم لغيره، فوردت العبارةُ عن ذلك بإفراد الخطاب، وأعْلَم اللَهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بنِفَاقهم وكَذِبهم في اعتذارهم بقوله: (يقولون بألْسِنَتهم ما ليس في قلوبهم) .
وأما الآية الثانية فليس قولهم: (ذَرُونا نتَبِعكم) ، خطاباً خاصا له - صلى الله عليه وسلم -، بل له وللمؤمنين، والسياقُ يفصح بذلك، وما أمر به عليه
السلام من مجاوبته في قوله لهم: (لن تتَّبعونا) ، فلم يُرِد هنا
إفراده عليه السلام بخطابهم له كما ورد في الأول، وجاء كل على ما يناسبه.
فإن قلت: إن خطابهم له خاصّ كالأول، ولكن خاطبوه مخاطبة التعظيم
بقولهم: (ذَرُونا نَتَّبعكم) ؟
قلت: وعلى فرض هذا فمراعاةُ الألفاظ في النظم أكِيدة جدًّا، وبها إحرازه.
وعلى هذا لا يُلائم هنا الخطاب كيفما هو إلا بصورة ما للجميع.
والله أعلم بالمراد.
(سَكرَة الموت) :
أي غصصه ومشقّاته.
وقد قدمنا الحديثَ أنه أشد من سبعين ضربة بالسيف، ولما حضرته الوفاةُ جعل يدَه - صلى الله عليه وسلم - في إناءَ ماءٍ ومسح بها وجهه وقال: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم الرفيق الأعلى.
ولما بلغ روحه سرته قال: يا جبريل، ما أشدَّ مرارةَ الموت، فولَّى جبريل وجهه، فقال: يا جبريل، أكرِهْتَ النظَرَ إلى وجهي، فقال: يا حبيبَ الله، ومَنْ يقدر أن ينظر إليك وأنتَ تُعالج الموت!
هذا نبيك المعصوم قاسى منه ما سمعت، ووعك وعك رجلين كما صح،

(3/206)


فكيف بكَ أنها المغرور لا تبكي على نفسك، وتعالج هوَاك لعلّه يرحمك ويسمع أنينك!
(سائق وشَهيد) :
السائق: ملك يسوقه، والشهيدُ يشهَذ عليه.
وهو الأظهر.
وقيل صحائف الأعمال.
وقيل: جَوارح الإنسان، لقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
(سال، وسأل) ،: بالهمز: طلب الشيء والاستفهام عنه.
وسال بغير همز من المعنيين المذكورين، ومن السيل.
ومنه سأل سائل.
فمن قرأه بالهمز احتمل معنيين:
أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب، وتكون الإشارة إلى قول الكفار: (أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وكان الذي قالها النَّضْرُ بن الحارث.
والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار، أي سأل سائل عن عذابِ واقع، والباء على هذا بمعنى عن، وتكون الإشارةُ إلى قولهم: (متى هذا الوعْدُ إن كنْتُم صادقين) ، وشبه ذلك.
وأما مَنْ قرأ سال - بغير همز - فيحتمل وجهين:
الأول أن يكون مخفًفاً من المهموز، فيكون فيه المعنيان المذكوران.
والثاني أن يكون مِن سال السيل إذا جرى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس سال سيل، وتكون الباء على هذا كقولك: ذهبت بزيد.
وإذا كان من السيل احتمل وجهين:
أحدهما أن يكون شبّهَ في شدَّته وسُرْعَة وقوعه بالسيل.
وثانيهما أن يَكون حقيقة.
قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يقال له سايل.
فتلَخَّص من هذا أنه في القراءة بالهمز يحتمل وجهين، وفي القراءة بغير همز أربعة معان.
(سقْف مرفوع) :
يعني السماء.
(ساقِطاً يقولوا سَحَابٌ مركوم) :
كانوا قد طلبوا أن ينزَلَ عليهم كسْفاً من السماء، فأخبر اللهُ أنهم لو رأوه ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغْيان

(3/207)


والجهل والعناد أن يقولوا: ليس بكسف، وإنما هو سحاب مركوم، أي كثيف بعضه فوق بعض.
(سامِدُون) :
لاعبون ولاهون.
وقيل: غافلون.
والسامد: الساكت والحَزين الخاشع قَلْبه، فله على هذا خمسة معان.
(سائحات) :
من ساح في الأرض إذا ذهب فيها.
وقيل معناه صائمات، وقد روِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقيل معناه مهاجرات.
والسائحون من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة براءة، هم الذين اختاروا الحقَّ على كل شيء وثبتوا على ذلك، وتواصوا بالحق، وتواصَوْا بالصبر، وهؤلاء يقال لهم الأبدال وأرباب الكمال، وهم سبعة رجال قد تبدَّلتْ عوالمهم وتخلَّصَتْ من الشوائب البشرية جواهِرُهم، فأخذوا بالسياحة في البُلْدان لطلب لقاءِ الرجال، إذ هي كبيعة الخير، وفي الباطن لنيل المقامات والأحوال الواردة من عين الجود بالجلال والكمال والجمال.
وأما الساجدون فهم الذين أقعدت رسومهم، وفَنيت بالمجاهدة نفوسهم وجسومُهم، وهم أرباب الفناء المتجردون عن كل المناقد، تخلّصوا من رقِّ البشرية لتحقّقهم أنه اللطيف الخبير السَّميع البصير.
عاشوا عيشاً تاما كاملاً، فإنَ ترك التدبير للَه عيش، كما أن التدبير نصفُ
العيش، ويقال لهذا الوجه الأوتاد، وهم أربعة رجال، مقام كلّ واحد مقام ركن من الأركان: شرقاً، وغرباً، وجنوبا، وشمالاً، واحداً يتصرف عندهم
لتجريدك عن الكون وثبوتك بالحق.
ومنه قول الشيخ القطب ابن العريف: مَن شهد الخلق للفِعْل لهم فقد فاز، ومن شهدهم لا حياةَ لهم فقد جاز، ومن شهدهم عين العدم فقد وصل، والكلامُ هنا طويل، وعلى هذه الآية الكريمة ُ بُنِي التصوف، وسبيل التعرف، وقد صنَّف فيها من ذاق أهلها وعرفهم تأليفاً عجيباً ورتّبهم ترتيبًا غريباً لا ينبغي لنا أنْ نحومَ حولَ حمَاه، ولا نتعرض لما قد تعاطاه، لأنا لسنا منهم فنستغفر اللَهَ من الكلام معهم، وكان الأولى بنا اشتغالنا عن هذا
بالانتباه مِنْ رَقْدةِ الغَفْلة، وتخليصنا من وَرْطة الفترة، وإيقاظنا من السّكرَة،

(3/208)


لكن نسأله سبحانه أن يهَبَ لنا نُور التنبيه من ظلمة هذه النفس، فيظهر لنا
بمجيئها وقبيح ذَنْبها، فنقلع في الحال، ونعزم على ألاَّ نعود في الاستقبال.
ونبحث على ما خفي من دسائس النفس، ونستعد للمنازلة في الرَّمْس، ونشمِّر للمعاملة في المحبة، ونطلب ممن نظر في هذا الكتاب بالدعاء إلى العبادة ظاهراً وباطناً فإنما نحن به وله.
(سنَسِمه على الخرْطوم) :
أصل الخرطومٍ أتف السبع، ثم استعير للإنسان استخفافاً به وتقبيحاً له، والمعنى نجعل له سِمَة، وهي العلامة على خرطؤمه.
واختلف في هذه السِّمَة، فقيل: هي الضربة بالسيف يوم بَدْر.
وقيل علامة من نار تجعل على أنْفه في جهنم.
وقيل علامة تُجعل على أنفه يوم القيامة لِيعرف بها، كما يجعلون أهل الدنيا لمواشيهم علامة يعرفونها بها.
(سَلْهم أَيّهم بذلكَ زَعِيم) :
قد قدمنا أنَّ الزعيم الضامن.
ومعناها: سَلْ يا محمد قريشاً أنهم زَعِيمٌ بذلك الأمر.
(يَسْأمُ) : يسأم، أي يمل، ومنه: (وهم لا يسْأمون) ف.
(سبب) :
له خمسة معان: أحدها الحَبْل، وقد تقدم.
والاستعارة من الحبل في المودة والقرابة، ومنه: (وتقطَّعَتْ بهم الأسباب) .
والطريق، ومنه: (فأتْبَع سَبَباً) .
وسبب الأمر: موجبه.
(ساق) :
ما بين القدم إلى الركبة، وأما قوله: (يوم يُكْشَفُ عن ساق) .
فقد قدمنا أن ذلك عبارة عن هَوْل يوم القيامة وشدَّته.
وفي الحديث الصحيح أنه قال: " ينادِي منادٍ يوم القيامة لتتبع كلّ أمة ما كانت تعبد، فيتيع الشمسَ مَن كان يعبد الشمس، ويتبع القمر مَن كان يعبد القمر، ويتبع كلّ أحد ما كان يعبد، ثم تبقى هذه الأمة وغبَّراتٌ من أهل الكتاب معهم منَافِقوهم، فيقال لهم: ما شأنكم، فيقولون: ننتظر ربنا.
قال: فيجيئهم اللَّهُ في غير الصورة التي عرفوه، فيقول: أنا ربُّكم.
فيقولون: نعوذ باللهِ منك.
قال: فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها، فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق،

(3/209)


فيقولون: نعم، أنْتَ ربُّنا، ويخرون للسجود، فيسجد كل مؤمن، وترْفع
أَصلاب المنافقين عَظْماً واحداً فلا يستطيعون سجوداً.
وتأويل الحديث كتأويل الآية.
(سَبحاً طويلاً) :
السَّبْح هنا عبارة عن التصرف في الأشغال.
والمعنى يكفيك النهار في التصرّف في أشغالك، وتفرَّغْ في الليل لعبادة ربك.
وقيل المعنى: إنْ فاتك شيءٌ من صلاة الليل فاخلفه بالنهار، فإنه طويل يسَع فيه ذلك، وقرئت سبخاً، أي بالخاء المعجمة، أي سعة، يقال سبِّخي قطنك، أي وَسِّعيه، والتسبيخ أيضاً التخفيف، يقال: اللهم سبَخْ عنه الحُمَّى: أي خفّفها عنه.
(سأرهِقه) :
أي سأكلفه المشقَّةَ من العذاب في صَعود، وهي العقَبة الصعبة.
(سلَككم في سَقَر) :
ذكر الجواليقي أنها عجمية، ويحتمل أن يكون خطاب المسلمين لأهل النار أو الملائكة، فأجابوهم بقولهم: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) .
وإنما خصّ التكذيب بيوم الدين تعظيما له، لأنه أكبر جرائمهم.
(سَلْسَبِيلاً) :
اسم أعجمي، ومعناه سلساً منقادًا بجَرْيهِ.
وقيل سهل الانحدار في الحَلق، يقال شراب سلسل وسلسال وسَلْسَبِيل بمعنى
واحد، وزِيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلامته، فصارت الكلمة خماسية.
وقيل سل فعل أَمر وسبيلا مفعول به، وهذا في غاية الضعف.
فإن قلت: قد قال في الآية الأولى قبلها: (كان مِزَاجها كافورا) ، فهل يمزجان مع الخمر أم لا؟
والجواب أنه كالكافور في طِيب رائحته، وهو علم لذلك الماء.
واسم الثاني زنْجَبِيل، وقيل اسمها سلسبيل.
وقال بعضهم: سل من الله سلسبيلاً، فيجوز أن

(3/210)


يكونَ اسمها هذه الجملة! كقولهم: تَأبّط شرًّا، وبرقَ نَحْرُة.
ويجوز أن يكون معنى (تسمَّى) تُذْكَر، تم قال الله: سَلْ سبيلاً، واتصاله في المصحف لا يمنَعُ هذا التأويل لكثرة أمثاله فيه.
(ساهرة) :
قد قدمنا أنها وجه الأرض، وأصلها مسهورة ومسهور فيها، فصُرف من مفعوله إلى فاعله.
كما يقال عيشة راضية أي مرضيّة، ويقال الساهرة أَرض القيامة.
(سَفَرة) :
هم بالنبطية القراء، وبالعربية الملائكة الذين يسفرون بين الله وبين عباده، واحدهم سافر، وهم الملائكة، وقيل الذين يكتبون القرآن في الصحف، وقيل يعني القرَّاء من الناس.
وفي الحديث: "الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة".
أي أنه يعمل مثْلَ عملهم في كتابة القرآن وتلاوته، أوْ لَهُ من الأجر على القرآن مثل أجورهم.
وقد قدمنا أنه نزل جملة إلى بيت العِزّة في سماء الدنيا، وأن الملائكة
يتدارسونه بينهم لتعظيم شأن هذه الأمة عند الملائكة وتعريفهم عنايةَ الله بهم
ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة بتشييع سورة الأنعام.
(سرائر) :
جمع سريرة، وهي ما أسَّر العبْدُ في قلبه من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال، وبلاؤها هو تعرفها والاطلاع عليها.
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة، وهذه معظَمها، فلذلك خصَّها بالذكر، والعامل في (يوم) قوله: (رَجْعِهِ) ، أي يرْجعه يوم تبْلى السرائر.
واعترض بالفصل بينهما.
وأجيب بقوة المصدر في العمل.
وقيل العامل، قادر، واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم، لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أَن البعْثَ إنما يقَع في ذلك اليوم.
وقال من أحرز من الاعتراضين في القولين المتقدمين: الفاعل فعل مضمر من المعنى تقديره: يرجعه يوم تبْلى السرائر، وهذا

(3/211)


كلّه على المعنى صحيح في رَفْعه.
وأما على القول الآخر فالعامل في يوم مضمر
تقديره: اذكر.
(السماء ذات الرَّجْع) :
أي المطر، وسمّاه رَجْعاً بالمصدر، لأنه يرجع كل عام، أو لأنه يرجع إلى الأرض.
وقيل: الرَّجْع السحاب الذي فيه المَطَر.
وقيل: هو مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من منزلةٍ إلى
منزلة.
(سَعْيَكمْ لَشَتَّى) :
جمع شتيت، ومعناه مختلف، فمنه حسنات ومنه سيئات، وهذا جواب القسم في قوله: (والليل) .
(سجى) :
فيه أربعة أقوال: أدبر، وأقبل، وأظلم، وسكن، أي استقر، واستوى أو سكن فيه الناس والأصواتُ، ومنه: ليلة ساجية، إذا كانت ساكنة الريح، وطَرْفٌ ساج، أي ساكن غير مضطرب النظر.
وهذا أقرب في الاشتقاق، وهو اختيار ابن عطية.
(سبحان) : تنزيه.
وسبَّحت الله، أي نزَّهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأضداد.
(سُحْت) :
يعمُّ كلَّ حرام من رشوة ورِباً وغير ذلك.
(سُلَّما) ، بضم السين وفتح اللام مشددة: هو الذي يصْعَد
فيه، ولما كان - صلى الله عليه وسلم - شديدَ الحِرْصَ على إيمانهم قال الله له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء لتأتيَهم بآية يؤمنون بها فافعل، وأنْتَ لا تقدر على ذلك، فاستَسْلم لأَمر الله.
(سُقِطَ في أيديهم) .
أي نَدِموا، يقال: سُقِط في يد فلان إذا عجز عما يريد، ووقع فيما يكره.
وضمير الغيبة يعود على الذين عبدوا العجل.
ويحتمل أن يريد الذين لم يغيروا على مَنْ عبده.

(3/212)


(سوء الحساب) :
مناقشته والاستقصاء في السؤال، وهو عبارة عن مؤَاخذة العَبْد بخطاياه كلّها.
(سُوء الدار) :
يحتمل أن يريد بها في الدنيا والآخرة، وهو تَهكم بهم، لأن ذلك عليهم لا لهم، وكذلك قوله: (وبئس المهاد) ، تهكّم، لأن المِهاد هو ما يُفْرش ويُوطَأ.
(سُكِّرَت أبصارُنا) :
قد قدمنا أن الضمير لكفّار قريش المعاندين المختوم عليهم بالكفر، والمعنى أنهم لو رأوا أعظم آيةٍ لقالوا إنها تخيّل أو سِحر.
وقرئَ بالتشديد والتخفيف، ويحتمل أن يكون مشتقَّا من السكر.
ويكون معناه خدعت أبصارنا، فرأينا الأمر على غير حقيقته، أو من السكر
وهو السدّ فيكون معناه منعت أبصارُنا من النظر.
(سرَادِقها) :
قال الجواليقي: هو معرب، وأصله سرادار.
وهو الدهليز.
وقال غيره: الصواب أنه بالفارسية سرادره، أي ستر الدار.
وسرادق جهنم: حائط من نار، وقيل دخان.
(سنْدس وإِستبرق) :
قال الجواليقي، رقيق الديباج بالفارسية.
وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفَسِّرون في أنه معرب.
وقال شيذلة: هو بالهندية.
(سؤْلكَ) ، أي بغيتك.
(سلالة من طين) :
أي ما يَسيل من الشيء ويُستخرج منه، ولذلك قوله بعد هذا: (ثم جعلناه نطْفةً) - لا بد أن يرَاد به ابن آدم، فيكون الضمير على مَنْ ذكر أوّلاً، لكن يفسره سياق الكلام، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عَوْد الضمير عليه، ويكون معنى خَلَقَه من سلالَةٍ من طين أنه خلق أصْلَه وهو أبوه آدم.
ويحتمل عندي أن يريد بالجنس الذي يعمّ آدم وذريته، فأجملَ ذِكْرَ الإنسانِ أوّلاً ثم فصَّله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم، وهي من طين، وإلى الخلقة المختصة بذريته وهي النطفة.

(3/213)


فإن قلت: ما الفرق بين مِنْ ومِنْ؟
فالجواب ما قاله الزمخشري: إن الأولى للابتداء، والثانية للبيان، كقوله: من
الأوثان.
(سوق) :
جمع ساق، أي قايم الزرعُ على سوقه، ومنه: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) ، أي التفّت ساقه إلى ساقه الأخرى عند المساق.
وقيل ماتت ساقه فلا تحمله.
(سُعُر) :
جمع سعير في قول أبي عبيدة، ومعناه الجنون، يقال ناقة مسعورة إذا كان بها جنون.
(سور) : المحيط به.
وبالهمز: البقية من الشيء، ومنه قول أم سلمة رضي الله عنها: أسئروا لأمكم من هذا الشراب، وقوله: (فضرِب بينهم بسور له بابٌ) ، فمعناه أنه يضْرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصِل بينهم، وفي هذا السور بابٌ لأهل الجنة يدخلون منه، وقيل: إن هذا السور هو الأعراف، وهو سورٌ بين أهل الجنة والنار.
وقيل: هو الجِدار الشرقي من بيت المقدس، وهذا بعيد.
(سُحْقاً) :
انتصب بفعل مضمر على معنى الدعاء على أصحاب السعير.
ومعناه البعد، ومنه: (مكان سَحِيق) .
(سواع) :
اسم صنم كان يُعبَد في زمان نوح عليه السلام، وكذلك يَعوق ويَغوث وودّ.
ورُوي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صَدْر الدنيا، فلما ماتوا صَوَّرهم أهل ذلك العصر من حجَارة، وقالوا: ننظر إليها لنتذَكر أعمالهم، فهلك ذلك الجيل، وكَثُر تعظيم مَن بعدهم لتلك الصور حتى عبَدوها مِن دون الله، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها.
وقيل: بل الأسماءُ فقط إلى قبائل من العرب، فكان ودّ لكَلْب بِدوْمة الجندل، وكان سوَاع لهذيل، وكان يغوث لمراد، وكان يعوق لهَمْدَان، وكان نَسر لذي الكلاع من حِمْير.

(3/214)


سُدًى) :
مهملاً، عَبثاً، وهذا توبيخ، ومعناه أيظنّ الإنسان أن يَبقَى بغير حساب ولا جزاء، فهو كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) .
والإنسان هنا جنس.
وقيل نزلت في أبي جهل، ولا يبعد أن يكون سببها خاصًّا ومعناها عام.
(سُبَاتاً) : راحة.
وقيل معناه قطعاً للأعمال والتصرّف.
والسبَت القطع.
وقيل معناه موت، لأن النومَ هو الموت الأصغر، ولذلك لا ينام أهل الجنة، والسبات: ما يغيّب العقل والحواسّ حتى يظن الناظر أنه ميت وما هو بميت، وقد دفن بعضهم بهذا الداء لظنّهم موته تم قام من قبره، ورجع لداره بسبب حفرِ نَبّاش عليه لأخْذِه أكفانه، ولذلك يؤخر الميت عن دفنه لئلا يكون من هذا القبيل.
(سُجِّرَت) :
أصله من سجرت التنورَ إذا أحميته، والبحار إذا ملأتها، والمعنى أن البحار تفجر بعضها إلى بعض حتى تعودَ بَحراً واحداً.
وقيل إنها تملأ نارًا لتعذيب أهلها.
وقيل تفرغ ماؤها فتيبس.
والقول الأول والثاني أليق بالأصل.
وقد قدمنا أنَّ البحارَ سبعة لقوله: (والبحر يَمدّه من بعده سبعة أَبحر) :
بحر طبرستان، وبحر كرمان، وبحر عمان، وبحر القلزم، وبحر هندوستان، وبحر الروم، وبحر المغرب.
(سعَرَت) :
أوقدت وأحميت، يزَاد في حرها يوم القيامة على مَا هي عليه الآن، وهذه النار طيبت في الثلج سبعين سنة، ولولا ذلك لم ينتفع بها، فقِسْ حَرّها على ما يزاد فيها يوم القيامة، وإذا تأملت قوله: (ترمي بِشَرَر كالقَصر) ، تَفْهم منه أنها تأكل بعضها بعضاً من شدة غيظها، كما قال تعالى: (تَكَاد تَمَيَّز من الغَيْظ) : فأيُّ جسم يَقْوَى على هذه الأحوال لولا أن الله قَوَّاها، اللهم كن لنا حافظاً منها، فإنه لا طاقَة لنا عليها.

(3/215)


(سُطِحَتْ) .
أي بُسطت، والمرادُ بذكر هذه الأشياء الاستدلال بقُدْرة الخالق على هذه المخلوقات.
وقد قدمنا أن من العجائب ما قاله بعضُ المفسرين: إن من الأقاليم الستة عندهم ستة أشهر منها نهار وستة ليل خالص، وهذا مذكور في علم الهيئة، فانظره في حرف الميم.
وقال قتادة: الدنيا أربعة عشر ألف فرسخ للسودان، وثمانية آلاف فرسخ للروم، وثلاثة آلاف فرسخ لفارس، وألف فرسخ للعرب، وألف فرسخ لأهل الترك والصين.
وقال بعضهم: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، ثلاثمائة قفار، ومائة بِحَار، وثمانون لـ يأجوج ومأجوج، وثمانية عشر للسودان، وعامين للبيض.
وفي الخبر أن عبد الله بن سلام أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد: مِنْ أي شيء خَلَق اللَهُ الأرض؟ قال: مِنْ زَبَد.
قال: فمن أي شيء خلق الزبد؟
قال: من الْمَوْج.
قال: فمن أي شيء خلق الموج؟
قال: خلق من البحر.
قال: فمن أيِّ شيء خلق البحر؟
قال: من الظلمة.
قال: يا محمد، فقرار الأرض من أي شيء؟
قال: بالجبال.
قال: وقرار الجبال بأى شيء؟
قال: بجبل قاف.
قال: وجبل قاف من أي شيء؟
قال: من زمردة خضراء وخضرة السماوات منه.
قال: صدقت، فكم مسيرة علوه؟
قال: خمسمائة سنة.
قال: صدقت فكم مسيره حواليه؟
قال: مسيرة ألف سنة.
قال: صدقت.
فهل وراء جَبل قاف شيء؟
قال: وراءه سبعون أرضاً من المسك.
قال: فما وراءها؟
قال: سبعون أرضا من الذهب.
قال: وما وراءها؟
قال سبعون أرضاً من الحديد.
قال: فهل وراء هذه الأرضين شيء؟
قال عليه السلام: ومِنْ وراء هذه الأرضين سبعون ألف عالم، في
كل عالم ملائكةٌ لا يَعْلَم عددَهم إلا الله، وهذه الملائكة لا يعلمهم آدم وبنوه
ولا إبليس، وتسبيحهم سبْعُ كلمات: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
قال: صدقت، هل وراء هؤلاء شيء؟
قال: نعم، حية أدارت ذَنبها على هذه العوالم.
قال: صدقت.
ثم قال: أخبرني عن سكان الأرضين.
قال عليه السلام: في الأرض السابعة

(3/216)


ملائكة، وفي السادسة إبليس وأعوانُه، وفي الخامسة الشياطين، وفي الرابعة
الحيات، وفي الثالثة العقارب، وفي الثانية الجنّ، وفي الأولى الإنس قال: صدقت.
فهذه الأرضون على أي شيء؟
قال: على الثور.
قال: وكيف صفة الثور؟
قال: له أربعة آلاف رأس ما بين الرأسين مسيرة خمسمائة عام.
قال: صدقتَ.
أخبرني عن الصخرة على أي شيء هي؟
قال: على ظهر الحوت.
قال: والحوت على أي شيء؟
قال: على بحر، والبحر قَعْره مسيرة ألف سنة.
قال: صدقت.
أخبرني عن ماء البحر على أي شيء؟
قال: على الريح.
قال: والريح على أي شيء؟
قال: على الظلمة.
قال: والظلمة على أي شيء؟
قال: على نار جهنم.
قال: صدقت، ونار جهنم على أي شيء؟
قال: على الثرى.
قال: صدقت.
قال: فهل تحت الثرى شيء، قال عليه السلام: سؤالك هذا خطأ لا يعلم ما تحت الثرى إلا الله.
فانظر تصديقَ عبد الله حَبْر بني إسرائيل والمسلمين لسيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لوجود ذلك كله في التورأة التي جعل الله فيها تبيان كل شيء وتفصيله.
فإن قلت: أيّ فائدة في التحريض إلى ذكر الإبل وابتدائه بها في الآية، وهي
أدنى من خَلْقِه السماوات والأرض، ومن المعلوم الاستدلال بأعظم المخلوقات
أقوى؟
فالجواب لاعتناء العرب بها، إذ كانت معايشهم في الغالب منها في شُرْب
ألبانها، وهي أكْثَر المواشي في بلادهم، وأيضاً لما في خَلْقها من الاعتبار، لأنها
في خلقتها دالّة على وحدانية خالقها، شاهدةٌ بتدبير منشئها وحكمته، حيث
خلقها للنهوض بالأثقال، وجعلها تَبْرك حيث تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت، وسخَّرها منقادةً لكل مَنْ يقودها بأزمتها، حتى حُكي أن فأرة قادت ناقةً لا تمَاري ضعيفاً، ولا تمانع صغيراً، وبَرَاها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار.
وعن بعض الحكماء أنه لما حدَّث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ ببلاد

(3/217)


الإبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وصلة إلى العقدة التي جعل الله في صَدْرِها جامعةً للأعصاب، ومثلها في أعالي ظهورها، كلَّ ذلك زيادة في قواها، وحين أراد بها أن تكونَ سفائن البر صبرها على احتمال العطش حتى أن إضمارها ليرتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابتٍ في البراري والمفاوِز مما لا يَرْعاه سائر الحيوان، فهي يسيرة المؤونة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإبل عزّ لأهلها، والغَنم بركة، والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وكان لشريح القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكنَاسة حتى نَنْطر
إلى الإبل كيف خلقت.
قال القرافي في فروقه:
اعلم أنَّ النواهي تعتمد الفاسد، كما أنَّ الأوامر تعتمد المصالح، فما حرَّم الله تعالى شيئاً إلا لمفسدة، وما أمر بشيء إلا لمصلحة تحصل مِنْ تناوله.
وقد أجْرى الله تعالى أن الأغذية تنقل الأخلاق لخلق الحيوان المغذى به حتى
يقال: إن العرب لما أكثرَتْ من لحوم الإبل حصل عندها فَرْط الإيثار بأقواتها، لأن ذلك شأن الإبل، فيجوع الجميع من الإبل الأيامَ الكثيرة، ثم يوضع لها ما تأكله مجتمعةً فيضع كل منها فَمَه فيتناول منها حاجَته من غير مدَافعة عن ذلك الحبّ، ولا يطرد مَنْ يأكل معه، ولا تزال الإبل تأكل علفها كذلك بالرفق حتى يفنى جميعاً من غير مدافعة بعضها بعضاً، بل معْرِضة عن ذلك، وعن مقدار ما أكله غيرها ممن يجاوِرها.
وغيرها من الحيوانات تَقْتَتل عند الأغذية على حَوْز الغذاء، وتمنع من يأكلها
معها أن يتناول شيئاً، وذلك مشاهدٌ في السباع والكلاب والأغنام وغيرها.
فانتقل ذلك لخلق الأعراب، فحصل عندهم من الإيثار للضيف ما لم يحصل
عند غيرهم من الأمم، كما أنه حصل عندهم أيضاً الْحِقْد، لأن الجملَ يأخذ
ثأرَه ممن آذاه بعد مدة طويلة، ولا يزول ذلك مِن خاطره حتى يقال: إن أربعاً أكلت أربعاً، فأورثهم أربعاً، أكلت العرب الإبل فأفادتها الكرم والحقد.

(3/218)


وأكلت السودان القِردة فأفادتها الرقص.
وأكلت الفرنج الخنزير فأفادتها عدم الغيرة.
وأكلت الترك الخيل فأفادتها القساوة.
فإذا تقرر هذا فهذه السباع في غايةِ الظلم وقلَّة الرحمة تأكل الحيوانات من غير اكتراث واهتمام بها، بل تفسد تبيعها وتقطع لحومها، ولا تبالي بما تجده من الألم في تمزيق أعضائها، وتثب على ذلك وثوباً شديداً من غير توقّف لذلك في حاجة ولغير حاجة، وذلك لفَرْط ظلمها، وقلة الرحمة، تأكل الحيوانات من غير اكْتِراث، وذلك متوفّر في سباع الوحش أكثر منه في سباع الطير، فأين الأسد من العُقَاب والصقر، وأين النمر والفَهْد والسبع وغيرها من الحيوانات مِن الحدأ والغربان ونحوها، فلما عظمَت المفسدة والظلم في سِبَاع الوحش حرمت لئلا يتناولها بنو آدم فتصير أخلاقهم كذلك، ولا قَصرت مفسدة سباع الطير عن ذلك فمِن الفقهاء مَنْ نهض عنده ذلك للتحريم دَفْعاً لمفسدة سوءَ الأخلاق.
وإن قلَّت: ومنهم من لم ينهض عنده ذلك للتحريم لخفّة أمره، فاقتصر به على الكراهة.
(سرًّا)
له معان: ضد العلانية.
ومنه (الذين ينْفِقون أموالَهمْ بالليل والنهار سِرًّا وعَلاَنية) .
قال: قال أبو هريرة: نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، لأنه تصدّق بِدرْهم في الليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سراً وبدرهم علانية.
والنكاح، ومنه: (لا تواعِدوهنَّ سِرًّا) ، أي لا تواعدوهنَّ في العدة خيفةَ أن تتزوَّجوهن بعد العدة، وسر كل شيء خياره.
(سِنَة) .
هي ابتداء النوم، لا تفسد، كقول القائل: في عينه
سنَةٌ وليس بنائم.
فالسنَة في الرأس والنوم في القلب.
(سِنِين) :
جمع سَنَة، وهي عبارة عما أخذ الله بني إسرائيل
من القَحْط والجدب لعلهم يرجعون، فلم يزدهم ذلك إلا طغياناً.
(سيروا، وسيحوا) ، بمعنى واحد، وأمر اللهُ قريشاً بالسير في الأرض للاعتبار بمخلوقات الله، والنظرِ فيمَنْ تقدَّم من

(3/219)


الهالكين، وقد كانوا أشد منكم قوةً وأكثر جمعاً، وأخذ بعضُ الصوفية من هذا أنَّ مَنْ سافر للاعتبار في مخلوقاته ورؤية نباتِ الأرض وسَهْلها وجبالها وأنهارها فهو أَفضل من الإقامة، وكيف لا وقد قطع علائقَه بمعرفة عيوب نفسه بغربة ابتعاده، ألا ترى رفق الله بالمسافر، فرخص له القَصْر والجمع، والفِطْر في رمضان، ومزيد مدة مسح الخف، والتنفل راكباً، وترك الجمعة، وعدم قضاء المسافة لمضرات زوجة أخذه بالقرعة، واستجابة دعوته، وصحّ أنه ضيفُ الله ما لم يعصه، إلى غير ذلك من فوائد ذكرها أبو حامد في إحيائه.
فإن قلت: قد قال في الأنعام: (ثم انظروا) ، وعطف في غيرها بالفاء فما الفرق بينهما؟
فالجواب أنه لما كانت (ثم) للتراخي، فأمروا باستقراء الديار وتأمّل
الآثار، وفيها كثرة، فيقع ذلك سَيْرٌ بعد سيرٍ وزَمَان بعد زمان.
وقد قدمنا في حرف الفاء أن معنى (ثم انظروا) إباحة السّير للتجارة
وغيرها، فنبّه بـ (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح.
وأما تحديد السياحة في الأرض بأربعة أشهر فهو الأجل الذي جعل الله
لأمنِهم.
واختلف في وقتها، فقيل هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
لأن السورةَ نزلت حينئذ، وذلك عام تسْعَة.
وقيل: هي عيد الأضحى إلى تمام العشر من ربيع الآخر، لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ، وذلكَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث تلك السنة أبا بكر الصديق فحجَّ بالناس، ثم بعث بعده عليٌّ بن أبي طالب فقرأ بعده سورة براءة يوم عرفة.
وقيل يوم النحر.
(سيءَ بهم) :
أي أصابه سوء وضَجَر لما ظن أنهم من بني آدم وخاف عليهم من قومه.
(سِجِّيل) :
بالفارسية أوله حجارة وآخره طين، قاله مجاهد، يعني أنها كانت مثل الآجر المطبوخ.
وقيل: هو من سجله إذا أرسله.

(3/220)


(سقَاية) :
قد قدمنا أنه الصاع الذي كان يشرب به يوسف.
وأما قوله تعالى: (أجعلتم سِقَايةَ الحاجِ وعِمَارة المسجد الحرام)
فسببها أنَّ قوماً من قريش افتخروا بسقاية الحاج وبعمارة المسجد الحرام.
فَبيَّن الله أن الجهاد أفضلُ من ذلك.
ونزلت الآية في عليٍّ والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة - افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وعندي مَفَاتحه.
وقال العباس: أنا صاحبُ السقاية.
وقال علي: لقد أسْلمتُ قبل الناس وهاجرْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
(سجلّ) ، بلغة الحبشة: الرجل عند ابن عباس.
وعند ابن جني الكتاب، قال قوم: هو فارسي معرب.
وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن أبي جعفر الباقر، قال: السجل ملك، وكان هاروت وماروتُ من أعوانه.
وأخرج عن ابن عمر، قال السجل ملك.
وأخرج عن السدِّى، قال: ملك موكّل بالصحف.
ومعنى: (يوم تطْوِي السماء كطيِّ السجلِّ للكتب) أن اللهَ يْطوِي السماءَ كما يُطْوَى السجلُّ ليكتب فيه، أو لتصانَ الكتب التي فيه.
وقد ضعَّف بعضهم كونه ملك، ولا أدري ما وَجْه تَضعيفه.
وفيه ضعف.
(سَنَا) :
أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: (سَنَا) بالنبطية الحَسَن.
وقيل بالحبشية.
وفي الحديث سَنَهْ سَنَهْ، أي حسنة بالحبشية.
(سُخْريًّا) ، بضم السين من السخرة بمعنى التحول، وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء، وقد يقال هزءاً بالضم، وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين، على أن معنى الاستهزاء هنا أليق، لقوله: (وكنتم منهم تضحكون) ، وفي الزخرف استخدام بعضهم بعضاً أَليق، لقوله: (ورحمة رَبِّكَ خير مما يجمعون) .

(3/221)


(سِدْرٍ مَخْضود) :
قد قدمنا في حرف الميم أنه النبق الذي قطع شوكه.
(سجِّين) :
اسم علم منقول من صفة على وزن فعّيل للمبالغة.
وقد قيل عظم الله أمره بقوله: (وما أدْرَاك ما سجِّين) ، ثم فسره بقوله بأنه
كتاب مرقوم، أي مسطور بيِّن الكتابة، وهو كتابٌ جامع يكتب فيه أعمالُ
الشياطين والكفار والفجَّار، وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس، لأنه سبب
الْحَبْس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح في مكان والعذاب كالسجن، فقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأرض السفلى.
وروي أنه في بئر هنالك.
وحكى كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك.
وحكى البِكالي بسند صحيح عن رجل كان بمكة انتهت حاله في العبادة إلى مقام عظيم، ويقصده أصحاب الأموال التي تركها التجار بمكة، ويسافرون، فاتفق أنَّ رجلاً ذا مال جليل أراد السفَر من مكة إلى أرض بعيدة فدلَّ على ذلك الرجل في أن يترك عنده وَدِيعة، ففعل، وسافر، وقدم على الرجل لما حضرته الوفاة فأوصى بكل ما كان عنده لأربابه من الودائع، فتوفي، فأخذ الناس ودائِعَهم سوى ذلك الرجل فإنه لم يوجد له ذِكر، فحار دليل الرجل، فدلَّ على رجل كبير القدر أنْ يخبره بقصته، قال: وكل من أخبره عن المتوفي بشيء كان خيراً، قال: فلما انتهيت إلى الثاني وأخبرته قال لي: يا بني، ما عندي ما أدلك عليه إلا أنك تأتي ليلةَ الجمعة لبئر زمزم آخر الليل وتنَادي فيه: يا فلان بن فلان، فإنْ أجابكَ سَلْه عن مالك فإنه يخبرك كيف اتفق فيه، فإن لم يجِبْك فافعل ذلك سبع ليال من ليالي الجمعة، فإن أجابك فحَسَن، وإلا فأخبرني.
ففعلت، ولم يجبني أحد، فأخبرت الرجلَ بذلك، فقال: يا بني، ما أرى
الرجل إلا من أهل النار، فتسافر إلى أرض حضرموت، وتأتي إلى بئر هنالك
يقال له بئر برهُوت، فتنادي فيه باسم الرجل ليلةَ الأربعاء، فإنه يجيبك ضرورةً فاسأله يخبرك.

(3/222)


قال: فسرتُ إلى الوضع فناديتُ أول ليلة باسم الرجل، فأجابني، فسألته عن مالي، فأخبرني أنه نسي أنْ يُوصِيَ بمكانه حيث دفنه، قال: ولما أخبرني بمكانه من محلّ سكناه قال لي: بالله عليك إلا ما بلغت رسالة لأختي ببلد كذا من مكان كذا، واسم زَوْجها وابنتها، وأمارات، وقل لها: تجعلني في حِل من كوني فارقْتها من غير طيب نَفْس منها، ووقع بيني وبينها مهاجرة، فتضرَّعْ لها وأرغبها لعل اللَهَ يُنقذني من هذا المقام، فإني عُوقِبْتُ من سبب قطعي لرحمها.
وتمامُ الحكاية أنه وجد مالَه، واستعفي من الأخت لأخيها، وعاد الرجل إلى
مكة، ونادى ليلة الجمعة باسمِ الرجل، فأجابه وجزاه خَيْرًا، وأخبره أنَّ الله قد غفر له.
ومما يؤكّد صحة هذا أن الأرواحَ حيثما ذكر - ما ذكره القرطبي في سورة
قد أفلح: اختلف في مقر الأرواح على أقوال ذكر فيها قولا إن بئر زمزم
خاصّ بالسعداء وبئر برهوت خاص بالأشقياء.
قلت: وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الأرواح على أحوال مختلفة، فمنها
ما هو يعلق في ثمر الجنة، ومنها ما هو في قناديل معلقة تحت العرش، ومنها ما
هو في كفالة آدم، ومنها ما هو في كفالة إبراهيم، ومنها ما هو في أفْنِيَة قبورها تردّ على مَنْ يسلِّم عليها، ومنها ما هو لتلقّي أرواح المؤمنين من إخوانهم يسألونهم عنهم، فيقول بعضهم لبعض: دعوه يستريح مِنْ هَمِّ الدنيا وغمومها.
***
(السين) :
حرف يختص بالمضارع ويخلِّصه للاستقبال، ويتنَزل منه منزلةَ
الجزاء فلذا لم تعمل فيه.
وذهب البصريون إلى أن مدةَ الاستقبال معه أضيق منها
مع سوف، وعبارة المعربين فيها حرف تنفيس، ومعناها حرف توسع، لأنها
نقلت المضارعَ من الزمن الضيّق - وهو الحال - إلى الزمن الواسع، وهو
الاستقبال.
وذكر بعضهم أنها قد تأتي للاستمرار لا لِلاسْتِقبال، كقوله: (ستَجِدون
آخرين) .
(سيقول السّفَهَاء) .

(3/223)


لأن ذلك إنما نزل بعد قولهم: (ما وَلاَّهُمْ) فجاءت السينُ إعلاما
بالاستمرار لا بالاستقبال.
قال ابن هشام: وهذا لا يعرف النحويون، بل الاستمرار مستفاد من المضارع، والسين باقيةٌ على الاستقبال، إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل.
قال: وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة، ولم أر مَنْ فَهم وَجْه ذلك، ووجهه أنها تُفيد
الوعد بحصول الفعل، فدخولُها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض لتوكيده
وتثبيت معناه، وقد أومأ إلى ذلك في سورة البقرة، فقال: (فسيكفيكهم الله وهو السميعُ العليم) - معنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين.
وصرح به في سورة براءة فقال في قوله: (أولئك سيرحمهم الله) ،: السين مفيدة وجودَ الرَّحْمة لا محالة، وهي تؤكد الوعد، كما تؤَكد الوعيد في قولك: " سأنتقم منك ".
***
(سوف) :
كالسين أو أوسع زماناً منها عند البصريين، لأن كثرةَ الحروف
تدل على كثرة المعنى، ومرادفة عند غيرهم، وتنفرد عن السين بدخول اللام
عليها نحو: (ولَسَوْف يعطِيكَ ربُّك فَتَرْضَى) .
قال أبو حيان:
وإنما امتنع إدخال اللام على السين كراهةَ توالي الحركات في " لَسَيُدَحْرَج " ثم طرد الباقي.
قال ابن بابشاذ: والغالب على سوف استعمالها في الوعيد والتهديد، وعلى السين استعمالها في الوعد، وقد تستعمل سوف والسين في الوعيد.
و (سوَاء) : تكون بمعنى مستَوٍ، فتقصر مع الكسر، نحو: (مكاناً سِوًى)
، وتمد مع الفتح نحو (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ، وبمعنى الوسط فتمدّ مع الفتح نحو: (في سوَاءِ الجحيم) ، وبمعنى التمام نحو: (في أربعة أيام سواءً للسائلين) ، أي تماماً، ويجوز أن يكون منه: (واهدنا إلى سوَاء الصرَاط) ، ولم ترد في القرآن بمعنى غير.
وقيل وردت، وجعل منه في

(3/224)


البرهان: (فقد ضلَّ سواءَ السبيل) ، وهو وَهْم، وأحسنُ منه
قول الكلبي في قوله تعالى: (ولا أَنتَ مكانا سُوى) - إنها استثنائية، والمستثنى محذوف، أي مكاناً سوى هذا المكان، حكاه الكرماني في
عجائبه، وقال: فيه بُعْد، لأنها لا تستعمل غير مضافة.
***
(ساءَ) :
فعل للذم لا يتصرف.
(سبحان) : مصدر بمعنى التسبيح لازمَ النصب والإضافة إلى مفردٍ ظاهر.
نحو: (سبحان الله) .
(سبحان الذي أسرَى) ، أو مضمر، نحو: (سبحانه أن يكون له ولد) .
(سبحانكَ لا علم لنا) ، وهو مما أُمِيتَ فعله.
وفي العجائب للكرماني: من الغريب ما ذكره المفضّل أنه مصدر سبح إذا
رفع صوته بالدعاء والذكر، وأنشد:
قبح الله له وهوهَ تغلبَ ... كلَّما سَبَح الحجِيجُ وكبروا إهْلالا
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (سبحان الله) - قال: نزَه الله
نفسه عن السوء.

(3/225)