معترك الأقران في إعجاز القرآن (فصل في قواعد مُهمّة يحتاج المفسّر إلى
معرفتها)
أولها: قاعدة في الضمائر:
ألَّف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين،
وأصْلُ وضع
الضمائرِ للاختصار، ولهذا قام قوله: (أعَدّ الله لهم
مَغْفِرَةً وأجراً عَظيما)
، مقام خمسة وعشرين كلمة، لو أتى بها مظهرة.
وكذلك قوله: (وقُل للْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارهنَّ) :
قال مكي: ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها،
فإنَّ فيها خمسة وعشرين ضميراً، ومِنْ ثَمَّ لا يعدل إلى
المنفصل إلا بعد تعذر المتصل، بأن يقعَ في الابتداء، نحو:
(إياك نعبد) ، أو بعد (إلا) : نحو: (أمر ألاَّ تَعْبدوا إلاَّ
إيَّاه) .
مرجع الضمير
لا بد له من مرجع يعودُ إليه ملفوظا به سابقاً مطابقاً، نحو:
(ونادَى نوح
ابْنَه) ، (وعَصَى آدم رَبّه) .
(إذا أخْرجَ يدَهُ لم يَكدْ يَرَاها) .
أو متضمناً له، نحو: (اعْدِلُوا هو أقرب للتَقْوى) ، فإنه عائد
على العَدْل المتضمّن له (اعدلوا) .
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) .
أي المقسوم، لدلالة القسمة عليه، أو دالل عليه بالالتزام، نحو:
(إنّا أنزلناه في لَيْلَةِ القَدْر) ، أي القرآن، لأن الإنزال
يدلّ عليه التزاماً.
(فمن عُفِيَ له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأدَاء إليه
بإحسان) .
فعُفي يستلزم عافياً أُعيد عليه الهاء من (إليه) .
أو متأخر لفْظاً ورتبةً مطابقا، نحو: (فأوْجَس في نفسهِ خِيفةً
موسى) .
(ولا يُسْالُ عن ذنوبِهم المجرمون) .
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا
جَانٌّ) .
(3/463)
أو رتبة أيضاً في باب ضمير الشأن والقصة،
ونعم، وبئس.
والتنازع، أو متأخراً دالاًّ بالالتزام، نحو: (فلولا إذا
بلغَتِ الْحُلْقوم) .
(كلا إذا بَلَغتِ التَرَاقي) : أضمر الروح أو النفس، لدلالة
الحلقوم والتراقي عليها.
(حتى توارَتْ بالحجاب) ، أي الشمس لدلالة الحجاب عليها.
وقد يدلّ عليه السياق فيضمر ثقة بفَهْمِ السامع، نحو: (كل مَنْ
عليها
فان) .
(ما ترك على ظَهْرِها) ، أي الدنيا.
(ولَأبَوَيْه) ، أي الميت، ولم يتقدم له ذِكر.
وقد يعود على لفظِ المذكور دونَ معناه، نحو: (وَمَا يُعَمَّرُ
مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي
كِتَابٍ) ، أي معمَّر آخر.
وقد يعود على بعض ما تقدم، نحو: (يوصيكم الله في أولادكم) ..،
إلى قوله: (فإن كُنّ نساءً) .
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) ، بعد قوله:
(والمطلقات) ، فإنه خاصّ بالرجعيات.
والعائد عليه عامّ فيهنَّ وفي غيرهن.
وقد يعود على المعنى، كقوله في آية الكلاَلة: (فإنْ كانتَا
اثنتين) ، ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه.
قال الأخفش: لأن الكلاَلَة تَقع على الواحد والاثنين والجمع،
فثنّى الضمير الراجعَ إليها حَمْلاً على المعنى، كما يعود
الضمير جَمْعاً على " مَن " حمْلاً على معناها.
وقد يعود على لفظ شيء، والمراد به الجنس من ذلك الشيء.
قال الزمخشري كقوله: (إنْ يكن غنيًّا أو فَقِيراً فالله أوْلَى
بهما) ، أي بجنْس
الفقير والغني، لدلالة غنياً أو فقيراً على الجنسين، ولو رجع
إلى المتكلم به لوحَّده.
وقد يذكر شيئان ويعَاد الضمير إلى أحدهما، والغالب كونه الثاني
نحو:
(واستَعِينوا بالصبْر والصلاة وإنها لَكَبِيرة إلا على
الْخَاشِعين) .
(3/464)
فأعِيد الضمير للصلاة، وقيل للاستعانة
المفهومة من (استعينوا) .
و (جعل الشمْسَ ضياءً والْقَمر نُورا وقَدَّرَه منازِلَ) ، أي
القمر، لأنه
الذي يعلم به الشهور.
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، أي يرضوهما،
فأفرد، لأن داعِيَ الرسول هو دَاعِي العباد، والمخاطب لهم
شفاهاً.
ويلزم من رِضاه رضا ربَّه تعالى.
وقد يثنَّى الضمير ويعود على أحد المذكورين، نحو: (يخْرُجُ
منهما اللؤْلؤُ
والمرجَان) ، وإنما يخرج من أحدهما.
وقد يجيء الضمير متصلاً بشيء، وهو لغيره، نحو: (ولقد خلَقْنَا
الإنسانَ
من سُلاَلةٍ من طين) ، يعني آدَم، ثم قال: (ثم جعَلْنَاهُ
نُطفَةً) ، فهذا لولده، لأن آدَم لم يخلق من نُطْفة.
قلت: هذا هو باب الاستخدام، وقد قدّمْنَاه، ومنه: (لا تَسألُوا
عن أشياءَ
إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم) ، ثم قال: (قد سألها) ، أي أشياء أخر
مفهومة من لفظ أشياء السابقة.
وقد يعود الضمير على مُلاَبس ما هو له، نحو: (إلًا عَشِيَّة أو
ضُحَاها) ، أي ضحى يومها لا ضحى العشيَّة نفسها، لأنه لا ضُحى
لها.
وقد يعود على غير مشاهَدٍ محسوس، والأصلُ خلافه، نحو: (إِذَا
قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ،
فضمير له عائد على الأمر، وهو إذ ذاك غَيْر موجود، لأنه لما
كان سابقا في عِلْمِ الله كونه، كان بمنزلة المشاهد الموجود.
قاعدة في عود الضمير
الأصلُ عَوْده على أقرب مذكور، ومِنْ ثَمّ أخّرَ المفعول الأول
في قوله:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ
الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُورًا) .
(3/465)
ليعودَ الضمير عليه لقرْبهِ، إلا أنْ يكونَ
مضافاً ومضافاً إليه، فالأصلُ عَوْده للمضاف، لأنه المحدَّث
عنه، نحو: (وإنْ تعدُّوا نعمتَ الله لا تحْصوها) .
وقد يعودُ على المضاف إليه، نحو: (إلى إلهِ موسى وإني لأظنه
كاذباً) .
واختلف في: (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، فمنهم
مَنْ أعاده على المضاف، ومنهم مَنْ أعاده إلى المضاف إليه.
قاعدة
الأصل توافق الضمائر في المرجع حذَراً من التشتّت، ولهذا لما
جوَّزَ بعضهم
في: (أنِ اقْذِفِيه في التابوتِ فاقْذفيه في الْيَمِّ) ، أنَّ
الضمير في
الثاني للتابوت وفي الأول لموسى عابه الزمخشري، وجعله تنافُراً
مُخْرِجا للقرآن عن إعجازه، فقال: والضمائر كلها راجعة إلى
موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لا تؤدي
إليه من تنافُرِ النظْمِ الذي هو أمّ إعجاز القرآن، ومراعاته
أهم ما يجب على المفسر.
وقال في: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) . الضمائر
لله، والمراد بتعزيره تعزير دينه ورسله، ومَنْ فرَّق الضمائر
فقد أبعد.
وقد يخرج عن هذا الأصل، كما في قوله: (ولا تسْتَفْتِ فيهم منهم
أَحَداً) ، فإنَّ ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف.
(ومنهم) لليهود، قاله ثعلب والمبرد.
ومثله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ
وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) .
قال ابن عباس: ساء ظَنًّا بقومه وضاق ذَرْعاً بأضيافه.
وقوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)
الآية فيها اثنا عشر ضميراً كلها
(3/466)
للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ضمير:
(عليه) فلصاحِبه، كما نقله السهيلي عن الأكثرين، لأنه - صلى
الله عليه وسلم - لم تنزل عليه السكينة، وضمير (جعل) له تعالى.
وقد يخالَف بين الضمائر حذَراً من التنافر، نحو: (منها أربعةٌ
حُرُمٌ) ، الضمير للاثني عشر، ثم قال: (فلا تظلِموا فيهنَّ
أنْفسَكم) : أتى بصيغة ضمير الجمع مخالفاً لعَوْدِه على
الأربعة.
ضمير الفصل
ضمير بصيغة المرفوع مطابق لما قبله، تكلّما وخطاباً وغيبة،
إفرادا وغيره.
وإنما يقَع بعد مبتدأ أو ما أصلُه المبتدأ وقَبْلَ خبرٍ كذلك،
اسماً، نحو: (وأولئكَ هم الْمفْلحون) .
(وإنا لنَحْن الصَّافون) .
(كنْتَ أنْتَ الرقيبَ عليهم) .
(تَجِدوه عِنْد الله هو خَيْرًا) .
(إنْ تَرَن أنَا أقَلَّ منك مالاً) .
(هؤلاء بناتي هنَّ أطْهَر لكم) .
وجوَّز الأخفش وقوعَه بين الحال وصاحبها، وخرَّج عليه قراءة:
(هنَّ أطهَر
لكم) - بالنصب.
وجوَّز الجرجاني وقوعَه قبل مضارع، وجعل منه: (إنّه هو يبْدِئُ
ويعِيد) .
وجعل منه أبو البقاء: (ومَكر أولئكَ هو يَبور) .
ولا محلّ لضمير الفصل من الإعراب.
وله ثلاث فوائد: الإعلام بأنّ ما بعده خبر لا تابع.
والتأكيد، ولهذا سماه الكوفيون دعامة، لأنه يدْعَم به الكلام،
أي يَقْوَى ويؤكد، وبَنَى عليه بعضهم أنه لا يجمع بينه وبينه،
فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل، والاختصاص.
وذكر الزمخشري الثلاثة في: (وأولئك المفلحون) ، فقال: فائدته
الدلالة على أنَّ ما بعده خبر لا صِفَة، والتوكيد، وإيجاب أن
فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دونَ غيره
(3/467)
ضمير الشأن والقصة
ويسمى ضمير المجهول، قال في المغني: خالف القياس من خمسة أوجه:
أحدها عَوْده على ما بعده لزوماً، إذ لا يجوز للجملة المفسّرة
له أن تتقدَّم عليه، ولا شيء منها.
والثاني أنَّ مفسّره لا يكون إلا جملة.
والثالث أنه لا يتبع بتابع فلا يؤكد، ولا يُعطف عليه، ولا
يبْدَل منه.
والرابع أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو ناسخ.
والخامس أنه ملازمٌ للإفراد، ومن أمثلته: (قلْ هو الله أحَد) .
(فإذا هِيَ شاخِصَةٌ أبصارُ الذين كفروا) .
(فإنّها لا تَعْمَى الأبصارُ) .
وفائدته الدلالةُ على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه، بأن يذكر
أولاً مبْهَماً ثم يُفَسر.
تنبيه:
قال ابن هشام: متى أمكن الحَمْلُ على غير ضمير الشأن فلا ينبغي
أن يُحْملَ
عليه، ومِنْ ثَمَّ ضعف قول الزمخشري في: (إنَّهُ يَرَاكم هُوَ
وقَبيلهُ) : إن اسم (إن) ضمير الشأن، والأوْلى كونه ضمير
ْالشيطان، ويؤيده قراءة: (وقَبِيلَه) بالنصب، وضمير الشأن لا
يعطف عليه.
قاعدة
جمع العاقلات لا يعودُ عليه الضمير غالباً إلا بصيغة الجَمْع،
سواء كان للقلَّة
أو للكثرة، نحو: (والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ) ، (والمطلَقَاتُ
يَتَرَبَّصْن) .
وورد الإفراد في قوله: (وأزْوَاجٌ مُطَهَّرة) ، ولم يقل
مطهرات.
وأما غَيْر العاقل فالغالب في جمع الكثرة الإفراد، وفي القلّة
الجمع.
(3/468)
وقد اجتمعا في قوله: (إنَّ عِدَّةَ
الشّهُورِ عند الله اثْنَا عشَر شَهْراً في كتاب الله) . . .
إلى أن قال: (منها أرْبعَة حُرُم) ، فأعاد (منها) بصيغة
الإفراد على الشهور وهي للكثرة، ثم قال: (فلا تظْلموا فِيهنَّ
أنْفُسَكم) ، فأعاده جمعاً على (أربعة حُرُم) وهي للقلّة.
وذكر الفراء لهذه القاعدة سرًّا لطيفاً، وهو أنَّ المميّز مع
جمع الكثرة - وهو
ما زاد على العشرة - لما كان واحداً وحّد الضمير، ومع القلّة،
وهو العشرة وما دونها، لمّا كان جمعاً جمع الضمير.
قاعدة
إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللَّفْظِ والمعنى بُدِئَ باللفظ
ثُمَّ بالمعنى، هذا هو
الجادّة في القرآن، قال تعالى: (ومِنَ الناس مَنْ يقول) ، ثم
قال: (وما هم بمؤمنين) .
أفردَ أوّلاً باعتبار اللفظ، ثم جمع باعتبار المعنى.
وكذا: (ومِنْهمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليكَ وجَعلْنَا على قلوبهم
أكِنةً) .
(ومنهم مَنْ يَقُول ائْذَنْ لي ولا تفْتِنِّي ألا في الفتنة
سقَطوا) .
قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجئ في القرآن البداءة
بالحمل
على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا
فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا
وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) ، فأنَّثَ (خَالِصَةٌ)
حَمْلاً على معنى ما ثم راعى اللفظَ فذكّر فقال: (وَمُحَرَّمٌ)
.
قال ابن الحاجب في أماليه: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده
على المعنى.
وإذا حمل على المعنى ضعف الحَمْل بعده على اللفظ، لأن المعنى
أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ، ويضعف بعد
اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف.
وقال ابن جنّي في المحتسب: لا تجوز مراجعةُ اللفظ بعد انصرافه
عنه
إلى المعنى، وأورد عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) ، إلى قوله:
(حتى إذا جاءنا) ، فقد راجع اللفظَ بعد الانصراف عنه إلى
المعنى.
(3/469)
وقال محمود بن حمزة في كتاب العجائب: ذهب
بعض النحويين إلى أنه لا
يجوز الحَمْل على اللفظ بعد الحَمْل على المعنى، وقد جاء في
القرآن بخلاف ذلك، وهو قوله: (خالدِين فيها أبَداً قد أحسنَ
الله له رِزْقاً) .
وقال ابن خالويه في كتاب " ليس "، القاعدة في (من) ونحوه
الرجوع من
اللفظ إلى المعنى، ومن الواحد إلى الجمع، ومن المذكر إلى
المؤنث، نحو: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتَعْمَلْ صَالِحًا) ، و (منْ أسْلَم وجْهَه للهِ وهو محسن) ،
إلى قوله: (ولا خَوْف عليهم ولا هم يحزنون) ، أجمع على هذا
النحويون.
قال: وليس في كلام العرب ولا في شيء من العربية الرجوع من
المعنى إلى
إلى اللفظ، إلا في حرف واحد استخرجه ابْن مجاهد، وهو قوله
تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) ، وَحَّد في (يؤمن) و (يعمل) و
(يدخله) ، وجمع في قوله: (خالدين) ، ثم وَحَّدَ في قوله: (أحسن
الله له رِزْقاً) ، فرجع بعد الجمع إلى التوحيد.
قاعدة التذكير والتأنيث
التأنيث ضربان: حقيقي وغيره، فالحقيقيُّ لا تُحذَفُ تاء
التأنيث من فعله
غالباً إلا إنْ وقع فَصْلٌ، وكلما كثر الفصل حسنَ الحذف،
والإثبات مع الحقيقي أولى، ما لم يكن جمعاً.
وأما غَيْر الحقيقي فالحذفُ فيه مع الفَصْل أحسن نحو: (فمنْ
جاءَه موعِظة مِنْ ربِّه) ، (قد كانَ لكم آية) ، فإن كثر
الفَصْل ازداد حسناً، نحو، (وأخذ الّذِين ظَلَموا الصّيحةُ) ،
والإثبات أيضاً حسن، نحو: (وأخذت الذين ظَلَموا
الصّيحةُ) ، فجمع بينهما في سورة هود.
(3/470)
وأشار بعضهم إلى ترجيح الحَذْفِ، واستدلّ
عليه بأنَّ الله قدَّمه على الإثبات
حيث جمع بينهما.
ويجوز الحذف أيضاً مع عدم الفَصْل حيث الإسناد إلى ظاهره، فإن
كان إلى
ضميره امتنع.
وحيث وقع ضميرٌ أو إشارة بين مبتدأ وخبر أحدهما مذَكَّر والآخر
مؤنث، جاز في الضمير والإشارة التذكير والتأنيث، كقوله تعالى:
(هَذَا رَحْمَة مِنْ رَبي) ، فذكّر والخبر مؤنث لتقدم السَّدِّ
وهو مذَكّر.
وقوله تعالى: (فذَانكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ) .
ذكَّر والمشار إليه اليد والعصا، وهما مؤنثان لتذكير الخبر وهو
برهانان.
وكلّ أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير والتأنيث حَمْلاً على
الجماعة، كقوله:
(أعْجازُ نخْلٍ خاويةٍ) ، و (أعجاز نَخْل منْقَعِر) ، (إنَّ
البَقَرَ تشابَه علينا) .
وقرئ: تشابهت.
(السماءُ مُنْفَطِرٌ بهِ) ، (إذا السماءُ انفطرَتْ) .
وجعل منه بعضُهم: (جاءَتْها رِيح عاصِفٌ) .
(ولسليمان الريح عاصفةً) .
وقد سئل، ما الفرق بين قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) .
وقوله: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ
الضَّلَالَةُ) ؟
وأجيب بأنّ ذلك لوجهين: لفظي، وهو كثرةُ حروف الفاصل في
الثاني.
والحذف مع كثرة الحواجز أكثر.
ومعنويّ، وهو أن " مَنْ " في قوله: (مَنْ حقَّتْ) راجعة إلى
الجماعة، وهي
مؤنثةٌ لفظاً، بدليل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا) ، ثم قال: (ومنهم من حقَّتْ عليه الضلالة) : أي من
تلك الأمم، ولو قال: ضلّت لتعيَّنتِ التاء، والكلامان واحد،
وإذا كان معناهما واحداً كان إثبات التاءِ أحسن مِنْ تَرْكها،
لأنها ثابتة فيما هو من معناه.
(3/471)
وأما: (فريقاً هَدى) الآية.
فالفريقُ مذكّر، ولو قال: فريقاً ضلّوا لكان بغير تاء، وقوله:
(حَق عليهم الضلالةُ) في معناه، فجاء بغير تاء، وهذا أسلوب
لطيف من أساليب العرب أن يَدَعُوا حُكْمَ اللفظِ الواجب في
قياس لغتهم إذا كان في مرتبةِ كلمةٍ لا يجب لها ذلك الحكم.
قاعدة في التَّعريف والتَّنكير
اعلم أنَّ لكل منهما مقاماً لا يليقُ بالآخر.
أما التنكير فله أسباب:
أحدها: إرادةُ الوحدة، نحو: (وجاء رَجُل مِنْ أقصا المدينة
يسْعَى) ، أي رجل واحد.
و (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) .
الثاني: إرادة النوع، نحو: (هذا ذكْر) ، أي نوع من الذكر.
(وعلى أبصارِهم غشاوَة) ، أى نوع غريب من الغِشَاوة لا يتعارفه
الناس، بحيث غطّى ما لا يُغَطيه شيء من الغشاوات.
(ولتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ الناسِ على حياةٍ) ، أي نوع منها،
وهو الازدياد في المستقبل، لأن الحِرْص لا يكون على الماضي ولا
على الحاضر.
ويحتمل الوحدة والنوعية معاً قَوْلُه تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ
كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ، أي كل نوع من أنواع الدواب من
نوع من أنواع الماء، وكلّ فردٍ من أفراد الدواب من فرد من
أفراد النّطف.
الثالث: التعظيم، بمعنى أنه أعظم من أنْ يعينَ ويُعرف، نحو:
(فأذَنُوا
بحَرْب من الله) ، (ولهم عَذَاب أليم) .
(وَسَلاًم علَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) .
(سلام على إبراهيم) .
(أنَّ لَهمْ جَنَّاتٍ) .
(3/472)
الرابع: التكثير، نحو: (أئنَّ لَنَا
لأجْراً) ، أى وافراً جزيلاً.
ويحتمل التعظيم والتكثير معاً: (وإنْ يكذِّبوكَ فقد كُذبَتْ
رُسل من قبلكَ) ، أي رسل عظام ذَوو عدَد كثير.
الخامس: التحقير، بمعنى انحطاط شأنه إلى حَدٍّ لا يمكن أن
يعرف، نحو:
(إنْ نَظنُّ إلاَّ ظَنًّا) ، أي ظنًّا حقيراً لا يُعبَأ به،
وإلا اتبعوه.
لأن ذلك دَيْدَنهم، بدليل: (إنْ يتّبِعونَ إلا الظَّنَّ) .
(مِنْ أَيِّ شيءٍ خَلَقه) ، أي من شيء حقير مهين، ثم بيّنَه
بقوله: (مِنْ
نطْفَةٍ خَلَقه) .
السادس: التقليل، نحو (ورِضْوان من الله أكبر) ، أى رضوان قليل
منه أكبر من الجنّات، لأنه رأس كل سعادة:
قليل منك يكفيني ولكن ... قَلِيلُك لا يُقالُ له قليل
وجعل منه الزمخشري: (سبحان الذي أسْرَى بعَبْدِه ليلاً) ، أي
بعض ليل.
وأُورِد عليه أنَّ التقليل رد الجنس إلى فردٍ من أفراده، لا
تنقيص فرد إلى
جزء من أجزائه.
وأجاب في عروس الأفراح بأنَّا لا نُسلّم أن الليلَ حقيقة في
جميع الليلة، بل كل جزء من أجزائها يسمّى ليلاً.
وعدّ السكاكي من الأسباب ألا يعرف من حقيقته إلا ذلك، وجعل منه
أنْ
تقصدَ التجاهلَ وأنكَ لا تعرف شخصه، كقوله: هل لكم في حيوان
على صورة إنسان يعمل كذا، وعليه من تجاهل الكفار: (هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، كأنهم لا
يعرفونه.
وعدّ غيره منها قَصْد العموم بأن كانت في سياق النفي، نحو: (لا
رَيْبَ
فيه) .
(فلا رَفَثَ) . الآية.
(3/473)
أو الشرط، نحو: (وإنْ أحد مِنَ المشركين
استجارَكَ) .
والامتنان، نحو: (وأنْزَلْنَا مِنَ السماءَ ماءً طَهوراً) .
وأما التَّعريف فله أسباب، فبالإضمار، لأنَّ المقام مقام
التكلم أو الخطاب أو
الغيبة.
وبالعَلمية لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختصّ
به، نحو: (قل
هو الله أحد) .
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) .
أو لتعظيم أو إهانة حيث علمه يقتضي ذلك، فمن التعظيم ذكر يعقوب
بلقبه إسرائيل لما فيه من المدح والتعظيم، ولكونه صفوة الله،
أوْ سريّ الله، كما قدمنا في حرف الألف.
ومن الإهانة قوله: (تَبتْ يَدَا أبي لَهَب) ، وفيه أيضاً نكتة
أخرى، وهي الكناية به عن كونه جهنمياً.
وبالإشارة لتمييزه أكملَ تمييزٍ بإحضارِه في ذهن السامع حسًّا،
نحو: (هذا
خَلْق الله فأَرونِي ماذا خلَق الذين مِنْ دونه) .
وللتعريض بغباوة السامع، حتى إنه لا يتميز له الشيء إلا بإشارة
الحسِّ.
وهذه الآية تصلح لذلك.
ولبيان حاله في القرب والبعد، فيؤْتَى بالأول بنحو هذا، وفي
الثاني بنحو
ذلك وأولئك.
ولقَصْد تحقيره بالقرب: (أهَذَا الذِي يَذْكرُ آلِهَتَكم) .
(أهذَا الذي بعَثَ الله رسولاً) .
(ماذا أَرادَ الله بهذَا مَثَلاً) ، وكقوله تعالى: (وما هَذِهِ
الحياة الدّنْيَا إلا لَهْو ولعِب) .
ولقصد تعظيمه بالبُعْد، نحو: (ذلك الكتاب لا رَيْبَ فيه) ،
ذهاباً إلى بُعْدِ دَرجته.
(3/474)
وللتنبيه بعد ذِكْر المشارِ إليه بأوصافٍ
قبله على أنه جدير بما يرد بعده من
أجلها، نحو: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وبالموصولة لكراهةِ ذِكْرِه بخاصّ اسمه، إمّا سَتْراً عليه، أو
إهانة، أو لغير
ذلك، فيؤْتَى بالذي ونحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول،
نحو:
(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) .
(وراوَدَتْه التي هو في بيتها) .
وقد تكون لإرادةِ العموم، نحو: (إنَّ اتَذِينَ يَسْتَكبِرون عن
عبادتي) الآية.
وللاختصار، نحو: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) ، أي قولهم إنه آدر، إذ
لو عدّد أسماء القائلين لطال، وليس للعموم، لأن بني إسرائيل
كلهم لم يقولوا في حقه ذلك.
وبالألف واللام إشارة إلى معهودٍ خارجيّ أو ذِهني أو حضوريّ.
وللاستغراق حقيقة أو مجازًا، أو لتعريف الماهية.
وقد مرَّتْ أمثلتها في حروف المعجم.
وبالإضافة لكلونها أخصر طريق.
ولتعظيم المضافِ، نحو: (إن عِبَادِي ليس لكَ عليهم سلْطان) .
(ولا يَرْضَى لعِبَادِه الكفْرَ) ، أي الأصفياء في الآيتين،
كما قال ابن عباس وغيره.
ولقصد العموم نحو: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالفون عن أمْرِه) .
أي كل أمر لله.
(3/475)
فائدة
سئلتُ عن الحكمة في تنكير (أَحَدٌ) وتعريف (الصَّمَدُ) في قوله
تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) .
وألّفت في جوابه تأليفاً مودَعاً في الفتاوى، وحاصله أن في ذلك
أجوبة:
أحدها: أنه نكر للتعظيم، والإشارة إلى أنَ مدلوله - وهو الذات
المقدسة -
غير ممكن تعريفها والإحاطة بها.
الثاني: أنه لا يجوز إدخال (أل) ، كغير وكل وبعض، وهو فاسد،
فقد
قرئ: قل هو الله الواحد الصمد.
حكى هذه القراءة أبو حاتم في كتاب الزينة عن جعفر بن محمد.
الثالث: مما خطر لي أنَّ هو مبتدأ واللَه خبر، وكلاهما معرفة،
فاقتضى
الحَصْر، فعرِّفَ الجزآن في: (اللَّهُ الصَّمَدُ) ، لإفادة
الْحَصْر ليطابقَ الجملة الأولى، واستغني عن تعريف (أَحَدٌ)
لإفادة الحصر دونه، فأتي به على أصله من التنكير، على أنه خبر
ثان.
وإن جعل الاسْم الكريم مبتدأ و (أَحَدٌ) خبر ففيه من ضمير
الشأن ما فيه من التفخيم والتعظيم، فأتي بالجملة الثانية على
نحو الأولى، بتعريف
الجزأين للحَضْر تفخيمًا وتعظيمًا.
قاعدة أخرى تتعلق بالتعريف
والتنكير
إذا ذكر الاسْم مرتين فله أربعة أحوال: لأنه إمَّا أنْ يكونا
معرفتين، أو
نكرتين، أو الأول نكرة والثاني معرفة، أو بالعكس، فإنْ كانا
معرفتين فالثاني
هو الأوَّلُ غالباً، دلالة على المعهود الذي هو الأصل في اللام
أو الإضافة، نحو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخَالِصُ) .
(3/476)
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ
نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
(158) .
(وَقِهمُ السيئاتِ ومن تَقِ السيئَاتِ) .
(لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ
السَّمَاوَاتِ) .
وإن كانا نكرتين، فالثاني غَيْر الأول غالباً، وإلا لكان
المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً، نحو:
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ، فإن المرادَ
بالضعف الأول النطفة، وبالثاني الطفولية، وبالثالث الشيخوخية.
وقال ابن الحاجب: في قوله تعالى: (غُدُوُّها شَهر ورَوَاحُها
شَهْر) .
الفائدة في إعادةِ لفْظِ الشهر الإعلام بمقدار زَمَنِ الغدوّ
وزمن الرواح.
والألفاظ التي تأتي مبيّنة للمقادير لا يحسنُ فيها الإضمار،
ولو أضْمِر فالضمير
إنما يكونُ لما تقدّم باعتبار خصوصيته، فإذا لم يكن له وجب
العدولُ عن المضمر إلى الظاهر.
وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
فالعسْرُ الثاني هو الأول، واليسر الثاني غير الأول، ولهذا قال
- صلى الله عليه وسلم - في الآية: " لن يغلب عُسْر يسرَين ".
وإن كان الأول نكرة والثاني معرفة، فالثاني هو الأولُ حَمْلاً
على العهد.
نحو: (أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى
فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) .
(فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) .
(إلى (صِرَاطٍ مستقيم. صِرَاطِ الله) .
(مِنْ سَبِيل. إنّمَا السبيلُ) .
وإن كان الأول معرفة والثاني نكرة، فلا يُطلَق القول، بل يتوقف
على
القرائن، فتارة تقوم قرينة على التغاير، نحو: (وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا
غَيْرَ سَاعَةٍ) .
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) .
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى)
(3/477)
قال الزمخشري: المراد بالهدى جميع ما آتاه
الله من الدين والمعجزات والشرائع، وهدى الإرشاد.
وتارة تقوم قرينةٌ على الاتحاد: نحو: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا
لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا) .
تنبيه:
قال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح وغيره: الظاهر أنَّ هذه
القاعدة غَيْرُ
محرّرة، فإنها منتَقَضةٌ بآيات كثيرة، منها في القِسْم الأول:
(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) ، فإنهما
معرفتان.
والثاني غير الأول، فإنَّ الأول العمل والثاني الثواب.
(أنَّ النَّفْس بالنفس) ، أي القاتلة بالمقتولة.
وكذا سائر الآيات: (الحرّ بالحرِّ) .
(هل أتى على الإنسان حين من الدَّهْر) ، ثم قال: (إنَّا
خلقْنَا الإنسانَ من نُطْفَة) ، فإن الأول آدم، والثاني ولده.
(وكذلِكَ أنْزَلْنا إليك الكتاب فالذين آتَيْنَاهم الكتابَ
يُؤْمِنون به) .
فإنَّ الأولَ القرآن، والثاني التوراة والإنجيل.
ومنها في القسم الثاني: (وهوَ الَّذي في السماء إلهٌ وفي
الأرضِ إله) .
(يسألونكَ عن الشَّهْرِ الحرام قتالٍ فيه قُلْ قِتَال فيه
كبِير) ، فإنَّ الثاني فيهما هو الأول وهماَ نَكرتان.
ومنها في القسم الثالث: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) .
(ويُؤْتِ كلَّ ذِي فَضْل فَضْلَه) .
(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) .
(ليزْدَادوا إيماناً مع إيمانِهم) .
(زِدْنَاهم عذاباً فَوْقَ العذَابِ) .
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ
لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) .
(3/478)
فإن الثاني فيهما غير الأول.
وأقول لا انتقاضَ بشيء من ذلك عند التأمل، فإنَّ اللام في
الإحسان
للجنس فيما يظهر، وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة، وكذا آية
النّفْس والحر، بخلاف آية العسر، فإنَّ " أل " فيها إما
للعَهْد أو للاستغراق كما يفيد الحديث، وكذا آية الظن لا نسلم
أنَّ الثاني فيها غير الأول، بل هو عينه قطعاً، إذ ليس كلّ ظن
مذموماً، كيف وأحكام الشريعة ظنية، وكذا آية الصلح لا مانع من
أن يكونَ المراد منها الصلح المذكور، وهو الذي بين الزوجين.
واستحباب الصلح في سائرِ الأمور، ويكون مأخوذاً من السنَّة أو
من الآية بطريق القياس، بل لا يجوز القول بعموم الآية، وأنَّ
كلّ صلح خير، لأنَ ما أحلّ حراماً من الصلح، أو حرًم حلالاً
فهو ممنوع، وكذا آية القتال ليس الثاني فيها عَيْن الأول بلا
شك، لأن المراد بالأول المسؤول عن القتال الذَي وقع في سَرِيّة
ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة، لأنه سبب نزول الآية.
والمراد بالثاني جنسن القتال لا ذاك بعينه.
وأما آية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الْأَرْضِ إِلَهٌ) ، فقد أجاب عنها الطيبي بأنها من باب
التكرير لإفادة أمْر زائد، بدليل تكرير
ذكر الرب فيما قبله من قوله: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ) .
ووجه الإطناب في تنزيهه سبحانه عن نِسبةِ الولد إليه.
وشرط القاعدة ألاَّ يقصد التكرير.
وقد ذكر الشيخ بهاء الدين في آخر كلامه: أن المراد بذكر الاسم
مرتين
كونه مذكوراً في كلامٍ واحد أو كلامين بينهما تواصل بأن يكون
أحدهما
معطوفاً على الآخر، أوْ لَهُ به تعلّق ظاهر وتناسب واضح، وأن
يكون من متكلم واحد، ودفع بذلك إيراد آية القتال، لأن الأول
فيها محكيّ عن قول السائل، والثاني محكيّ من كلام النبي - صلى
الله عليه وسلم.
(3/479)
قاعدة في الإفراد
والجمع
من ذلك السماء والأرض: حيث وقع في القرآنِ ذكر الأرض فإنها
مفردة ولم
تجمَع بخلاف السماوات، لثقل جمعها وهو أرَضون، ولهذا لما
أُرِيد ذِكْر جميع
الأرض قال: (ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهنَّ) .
وأما السماء فذُكرت تارةً بصيغة الجمع، وتارة بصيغة الإفراد
لنكتةٍ تليقُ بذلك المحلّ، كما أوضحتُه في أسرار التنزيل.
والحاصل أنه حيث أريد العدد أتيَ بصيغة الجمع الدالة على سعة
العظمة، نحو: (سَبَّحَ لله ما في السماوات) ، أي جميع سكانها
على كثرتهم، (تُسَبِّحُ له السماوات) ، أي كلّ واحدة على
اختلاف عددها.
(قل لا يَعْلَم مَنْ في السماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ
الله) ، إذ المراد نَفْيُ علم الغيب عن كلِّ مَنْ هو في واحدة
من السماوات.
وحيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد، نحو: (وفي السماء رزْقُكم)
.
(أأمنْتم مَنْ في السماءِ أنْ يَخْسفَ بكم الأرض) ، أي من
فوقكم.
ومن ذلك الريح حيث ذكرت مجموعة ومفردة، فحيث ذُكِرت في سياقِ
الرحمة جمعت، أو في سياق العذاب أفردت.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبيّ بن كعب، قال: كل شيء في
القرآن من
الرياح فهو رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب.
ولهذا ورد في الحديث: " اللهم اجعلها رِياحاً ولا تجعلها
رِيحاً ".
وذكر في حكمةِ ذلك أنَّ رِياحَ الرحمة مختلفة الصفات والهبات
والمنافع، وإذا هاجَتْ منها رِيح أثير لها من مقابلها ما يكسر
سَوْرتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفَعُ الحيوان والنبات،
فكانت في الرحمة رياحاً، وأما في العذاب فإنها تأتي من وَجْهٍ
واحد، ولا معارض لها ولا دافع.
(3/480)
وقد خرَج عن هذه القاعدة قوله تعالى في
سورة يونس: (وَجَرَينَ بهم بِرِيح
طيِّبَة) .
وذلك لوجهين: لفظي، وهو المقابلة بقوله: (جاءتها ريحٌ عاصف) .
ورُبَّ شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالاً، نحو:
(ومَكَروا ومَكَر الله) .
ومعنوي، وهو أنَّ تمامَ الرحمةِ هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا
باختلافها.
فإنَ السفينةَ لا تسير إلا بريح واحدة من وجْهٍ واحد، فإذا
اختلفت عليها الرياح كان سبب الهلاك، والمطلوب هنا ريح واحدة،
ولهذا أكّد هذا المعنى بوصفها بالطيب، وعلى ذلك أيضاً جرى
قوله: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ
عَلَى ظَهْرِهِ) .
وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأنَّ سكونَ الريح عذابٌ
وشدة على أصحاب السفن.
ومن ذلك إفراد النور وجَمْع الظلمات، وإفراد سبيل الحق وجمع
سبيل
الباطل، في قوله: (ولا تَتَّبِعوا السّبلَ فتَفرًقَ بكم عن
سبيله) ، لأنَّ طريق الحقّ واحدة، وطرق الباطل متشعبة متعددة،
والظلمات بمنزلة طرق الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما
هما، ولهذا وحّد وَلِيّ المؤمنين، وجمع أولياءَ الكفار
لتعدّدهم في قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) .
ومن ذلك إفراد النار حيث وقعت والجنة حيث وقعت مجموعةً ومفردة،
لأن
الجنان مختلفة الأنواع، فحسُنَ جمعها، والنار مادة واحدة، ولأن
الجنة رحمة والنار عذاب، فناسب جَمْعَ الأولى وإفراد الثانية
على حدِّ الرياح والريح.
ومن ذلك إفراد السمع وجمع البَصر، لأنَّ السمْعَ غلب عليه
المصدرية.
فأفرد، بخلاف البصَر، فإنه اشتهر في الجارحة، ولأن متعلّق
السمع الأصوات، وهي حقيقة واحدة، ومتعلق البصر الألوان
والأكوان وهي حقائق مختلفة، فأشار في كل منهما إلى متعلقه.
ومن ذلك إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله: (فَمَا لَنَا
مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) .
(3/481)
وحكمته كثرة الشفعاءِ في العادة وقلَّة
الصديق.
قال الزمخشري: ألاَ ترى أنَّ الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت
جماعة
وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وإن لم يسبق له بأكَثرهم
معرفة.
وأما الصديق فأعزّ من بَيْضِ الأنوق.
ومن ذلك الألباب لم يقع إلا مجموعاً، لأن مفرده ثقيل لفظاً.
ومن ذلك مجيء المشرق والمغرب بالإفراد وبالتثنية وبالجمع، فحيث
أفردا.
فاعتباراً للجهة، وحيث ثنّيا فاعتبارا لمشرق الصيف والشتاء
ومغربهما، وحيث جُمعَا فاعتبار لتعدّد المطالع في كل فصل من
فصول السنة.
وأما وَجْه اختصاص كل موضع بما وقع فيه، ففي سورة الرحمن ورد
بالتثنية، لأنَّ سياقَ السورة سياق المزدوجين، فإنه سبحانه
ذكَر أولاً نَوْعَي
الإيجاد وهما الخَلق والتعليم، ثم ذكر سراجي العالم: الشمس
والقمر، ثم نَوْعي النبات: ما كان على ساق وما لا ساق له، وهما
النّجم والشجَر، ثم نوعي السماء والأرض، ثم نوعي العدل والظلم،
ثم نَوْعي الخارج من الأرض وهما الحبوب والرياحين، ثم نوعي
المكلّفين وهما الإنس والجان، ثم نوعي البحر: العذب والملح،
فلهذا حَسُن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجمعا في
قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ
إِنَّا لَقَادِرُونَ) .
وفي سورة الصافات للدلالة على سعة القدرة والعظمة.
فائدة
حيث ورد البارّ مجموعاً في صفة الآدميين قيل: أبرار، وفي صفة
الملائكة قيل
برَرَة، ذكره الراغب، ووجَّهه بأن الثاني أبلغ، لأنه جَمع
بارّ، وهو أبلغ من
"بر" مفرد الأول.
وحيث ورد الأخ مجموعا في النَّسَب قيل إخوة، وفي الصداقة قيل
إخوان،
(3/482)
قاله ابن فارس وغيره.
وأُورِد عليه في الصداقة: (إنما المؤمنون إخوة) ، وفي النسب:
(أو إخْوانهنَّ أوْ بَني إخْوَانهنَ أوْ بني أخواتهنَ) .
فائدة
ألّف أبو الحسن الأخفش كتاباً في الإفراد والجمع في القرآن ذكر
فيه جَمْعَ
ما وقع في القرآن مفرداً، ومفرد ما وقع فيه جمعاً، وأكثره من
الواضحات.
وهذه أمثلة مِنْ خَفِيّ ذلك:
المَن: جمع لا واحد له.
والسَّلْوَى: لم يسمع له بواحد.
النصارى: قيل جمع نصراني، وقيل نصير كنديم، وقَبيل.
العَوَان: جمعه عون.
الهدَى: لا واحدَ له.
الإعصار: جمعه أعاصير.
الأنصار: واحده نصير، كشريف وأشراف.
الأزلام: واحدها زلم، ويقال زلم، بالضم.
مِدْرار: جمعه مَدَارير.
أساطير: واحدها أسطورة، وقيل أسطار جمع سَطْر.
الصّور: قيل جمع صورة، وقيل واحد الأصوار.
فرَادى: جمع أفراد، جمع فرد.
وقِنْوان: جمع قِنْو.
وصنوان: جمع صنو.
وليس في القرآن جمع ومثنى بصيغة واحدة إلا هذان ولفظ ثالث لم
يقع في
القرآن، قاله ابن خالويه في كتاب ليس: الحوايا جمع حاوية، وقيل
حاوياء.
نشر جمع نَشور.
عِضين وعِزين جمع عِضه وعِزه.
المثاني جمع مثنى.
تارة جمعها تارات، وتيَر.
أيقاظ جمع يَقظ.
الأرائك جمع أريكة.
سري جمعه سِريان، كخصي وخصيان.
آناء الليل جمع إنَا، بالقصر كمِعَى.
وقيل إفى كقرد، وقيل إنوة كفِرقة.
الصيَاصي جمع صِيصية.
مِنْسأة جمع مناسي.
الحَرور جمعه حُرور بالضم.
غَرَابيب جمعه غِربيب.
أتراب جمع ترب.
الآلاَء: جمع إلَى كمِعَى، وقيل ألَى
كقَفَا، وقيل إلْي كقِرْد، وقيل ألو.
التراقي: جمع تَرْقُوة بفتح أوله.
الأمشاج: جمع مَشِج.
ألفافاً: جمع لِف - بالكسر.
العِشار: جمع عُشر.
الخُنس: جمع خانسة، وكذا الكنس.
الزبانية: جمع زبنية، وقيل زابن، وقيل زباني.
أشتاتا: جمع شتّ وشتيت.
أبابيل: لا واحد له، وقيل واحده إبّوْل مثل عِجَّول.
وقيل إبّيل مثل إكليل.
(3/483)
فائدة
ليس في القرآن من الألفاظ المعدولة إلا ألفاظ العدد: مثنى،
وثلاث ورباع.
ومن غيرها طوى فيما ذكره الأخفش في الكتاب المذكور.
ومن الصفات أخر.
قال تعالى: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .
قال الراغب وغيره: هي معدولة عن تقدير ما فيه الألف واللام،
وليس له نظير في كلامهم، فإن " أفعل " إما أن يذكر معه " من "
لفظاً أو تقديراً، فلا يثَنَّى ولا يجمع، ولا يؤنث، أو يحذف
منه " من " فتدخل عليه الألف واللام ويثنى ويجمع، وهذه اللفظة
من بين أخواتها جُوز فيها ذلك من غير الألف واللام.
وقال الكرماني في الآية المذكورة: لا يمنع كونها معدولة من
الألف واللام
كونها وصفاً لنكرة، لأن ذلك مقدر من وَجْه غير مقدر من وَجْه.
قاعدة
مقابلة الْجَمعِ بالجمع تارة تقتضي مقابلةَ كلّ فرد من هذا بكل
فرد من
هذا، كقوله: (واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهم) ، أي استغشى كلّ منهم
ثَوبَه.
(حرِّمَتْ عليكم أُمَّهاتكم) ، أي على كل من المخاطبين أمّه.
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، أي كل في أولاده.
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) ، أي كل وأحدة
ترضِع ولدها.
وتارة يقتضي ثبوتَ الجمع لكل فرد من أفراد المحكوم عليه، نحو:
(فاجْلدوهم ثمانين جَلْدَة) .
وجعل منه الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (وبَشَرِ الًذين آمنوا
وعَمِلوا الصالحات أنً لهم جنّات) .
وتارة يحتمل الأمرين، فيحتاج إلى دليل يعيِّن أحدهما.
وأما مقابلة الجمع بالفرد فالغالب ألا يقتضي تعميم الفرد، وقد
يقتضيه كما
في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ) .
(3/484)
المعنى على كلّ واحدٍ لكل يوم طعام مسكين.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ،
لأنه على كل واحد منهم ذلك.
قاعدة ألفاظ يظن بها الترادف وليست
منه
من ذلك الخوف والخشية، لا يكاد اللغوي يفرِّق بينهما، " لا شك
أنَّ الخشية أَعْلَى منه، وهي أشدّ الخوف، فإنها مأخوذة من
قولهم: شجرة خشية، أي يابسة، وهو فَوات بالكلية.
والخوف من قولهم ناقة خَوْفاء، أي بها داء وهو نَقْص، وليست
بفوات، ولذلك خصت الخشية بالله في قوله: (يَخْشَوْن رَبَّهم
ويَخَافونَ سوءَ الحسَابِ) .
وفُرق بينهما أيضاً بأنَّ الخشية تكون من عظم المخشى، وإن كان
الخاشي
قويًّا، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً
يسيراً.
ويدلّ لذلك أنَّ الخاء والشين والياء في تقاليبها تدُلُّ على
العظمة، نحو: شيخ للسيد الكبير.
وخيش لما غَلُظ من اللباس، ولذا وردت الخشية غالباً في حقِّ
الله، (مِنْ
خَشْيةِ الله) .
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
وأما (يخافون رَبهم مِنْ فَوْقهم) ففيه نكتة لطيفة، لأنه وصف
الملائكة، ولما ذكر قوتهم وشدة خلقهم عبَّر عنهم بالخوف لبيان
أنهم وإن كانوا غلاظاً شداداً فهم بين يديه تعالى ضعفاء، ثم
أردفهُ بالفوقية الدالة على
العظمة، فجمع بين الأمرين.
ولما كان ضَعْف البشر معلوما لم يحتج إلى التنبيه عليه.
ومن ذلك الشح والبخل.
والشحّ هو أشدّ البخل.
قال الراغب: الشح: بخل مع حِرْص.
وفرَّقَ العسكريّ بين البخل والضَّن بأن الضن أصله أن يكون
(3/485)
بالعَوَاري، والبخْل بالهبات، ولهذا يقال:
هو ضنين بعلمه، ولا يقال بخيل، لأنَّ العلم بالعارية أشبه
بالهِبة، لأن الواهب إذا وهب شيئاً خرج عن مِلْكه، بخلاف
العارية، ولهذا قال تعالى: (وما هو على الغَيْبِ بضنِين) ، ولم
يَقل ببخيل.
ومن ذلك السبيل والطريق، والأولُ أغلب وقوعاً في الخير، ولا
يكاد اسمُ
الطريق يرَاد به الخير إلا مقترناً بوصْف أو إضافة تخلِّصُه
لذلك، كقوله تعالى:
(يَهْدي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم) .
وقال الراغب: السبيل الطريق التي فيها سهولة، فهو أخص.
ومن ذلك جاء وأتى، فالأول يقال في الجواهر والأعيان.
والثاني في المعاني والأزمان، ولهذا ورد في قوله: (ولمنْ جاءَ
بهِ حمْل بَعِير) .
(وجاءوا على قَميصه بدَمٍ كذِب) .
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) .
وأتى في: ً (أتَى أمْرُ الله) ، (أتَاهَا أمْرُنا) .
وأما (وجاء ربك) ، أي أمره، فإن المراد به أهوال القيامة
والمشاهدة وكذا (فإذا جاء أجَلُهم) ، لأن الأجل كالمشاهد،
ولهذا عبِّر عنه بالحضور في قوله: حضره الموت، ولهذا فَرق
بينهما في قوله: (جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ
(63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) .
لأنَّ الأول العذاب، وهو مشاهد مرئيّ بخلاف الحق.
وقال الراغب: الإتيان: مجيء بسهولة، فهو أخصّ من مطلق المجيء.
ومنه قيل للسيل المارّ على وجهه أتاويّ، وأتيّ.
ومن ذلك مدَّ وأمدَّ، قال الراغب: أكثر ما جاء الإمداد في
المحبوب، نحو:
(وأَمْدَدْناهم بفاكهة) .
والمدُّ في المكروه، نحو: (ونمدّ له مِنَ العذَاب مَدًّا) .
ومن ذلك سقى وأسقى، فالأول لما لا كُلفَة فيه، ولهذا ذكر في
شراب
الجنة، نحو: (وسقَاهمْ رَبّهم شَرَاباً طَهورا) .
والثاني لما فيه
(3/486)
كلفة، ولهذا ذُكر في الدنيا، نحو:
(لأسْقَيْنَاهم ماء غَدَقا) .
وقال الراغب: الإسقاء أبلغ من السقي، لأنَّ الإسقاء أنْ يجعل
له ما يستقي منه، ويشرب.
والسقي أن يعطيه ما يشرب.
ومن ذلك عمل وفعل، فالأول لما كان مع امتداد زمان، نحو:
(يَعْمَلُون له
ما يشَاء) .
(مما عمِلَتْ أيدينا) ، لأنَ خلق الأنعام والثمارِ والزروع
بامتداد.
والثاني بخلافه، نحو: (كيف فعل رَبُّكَ بأصحاب الفيل) .
(كيف فَعَلَ رَبُّكَ بعَاد) .
(فَعَلْنَا بهم) ، لأنها إهلاكات وقعت من غير بطء.
(ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون) ، أي في طرفة عين.
ولهذا عبر بالأول في قوله: (وعَمِلوا الصالحاتِ) ، حيثُ كان
المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة أو بسرعة.
وبالثاني في قوله: (وافْعَلُوا الْخَيرَ) ، حيث كان بمعنى
سارعوا، كما قال: (فاسْتَبِقوا الخيراتِ) .
وقوله: (والذين هم للزكاة فاعِلون) ، حيث كان القَصْد يأتون
بها على سرعة من غير توان.
ومن ذلك القعود والجلوس، فالأوّل لما فيه لبث، بخلاف الثاني،
ولهذا يقال
قواعد البيت، ولا يقال جَوَالسه للزومها ولبثها، ويقال جليس
الملك ولا يقال قَعيده، لأن مجالس الملوك يستحب فيها التخفيف،
ولهذا استُعمل الأول في قوله: (مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، للإشارة إلى
أنه لا زوَال له، بخلاف:
(تَفَسَّحُوا في المجالس) ، لأنه يجلس فيه زماناً يسيراً.
ومن ذلك التمام والكمال، وقد اجتمعا في قوله: (أكْمَلْتُ لكم
دِينَكم
وأتممْتُ عليكم نعْمتي) ، فقيل الإتمام لإزالة نقصان الأصل،
والإكمال لإزالة نُقْصان العوارض بعد تمام الأصل، ولهذا كان
قوله تعالى:
(تلك عَشَرةٌ كامِلة) ، أحسن من " تامة "، لأنَّ التمام من
العدد
قد عُلم، وإنما نفى احتمال نَقْص في صفاتها.
وقيل: تَتمَ يشعر بحصول نقْص قبله،
(3/487)
وكمل لا يشعر بذلك.
وقال العسكري: الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به.
والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف، ولهذا يقالُ للقافية
تمام البيت، ولا يقل كماله.
ويقولون البيت بكماله أي باجتماعه.
ومن ذلك الإعطاء والإيتاء! قال الخويي: لا يكاد اللغويون
يفرقون بينهما.
وظهر لي بينهما فرق ينبئ عن بلاغةِ كتاب الله، وهو ان الإيتاء
أقوى من
الإعطاء في إثبات مفعوله، لأنَّ الإعطاء له مطاوع، تقول:
أعطاني فعطوتُ، ولا يقال في الإيتاء: أتاني فأتيت، وإنما يقال
آتاني فأخذت.
والفعل الذي له مطاوع أضعفُ في إثبات مفعوله من الذي لا مطَاوع
له، لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدلّ على أنَّ فعل الفاعل كان
موقوفاً على قبول في المحل، لولاه ما ثبت المفعول.
ولهذا يصح قطعته فما انقطع.
ولا يصح فيما لا مطاوعَ له ذلك، فلا يجوز ضربته فانضرب، أو فما
انضرب، ولا قتلته فانقتل ولا فما انقتل، لأن هذه أفعال إذا
صدرت من الفاعل ثبت لها المفعولُ في المحل، والفاعل مستقل
بالأفعال التي لا مطاوعَ لها، فالإيتاء أقوى من الإعطاء.
قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدتُ ذلك مراعى، قال
تعالى:
(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ) ، لأن الملك شيء عظيم لا يعطاه إلا مَنْ له قوة، وكذا
قوله: (يؤْتي الحكمةَ مَنْ يشاء) ، (آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ
الْمَثَانِي) ، لعظم القرآن وشأنه: وقال: (إنّا أعطيناكَ
الكوثر) ، لأنه مورود في الموقف مرْتحل عنه قريباً إلى منازل
العزّ في الجنة، فعبَّر فيه بالإعطاء، لأنة يُترك عن قرب،
وينتقل إلى ما هو أعظم منه.
وكذا (يعْطيكَ رَبُّكَ فَترْضَى) ، لما فيه من تكرر الإعطاء
والزيادة إلى أن يرضى كلّ الرضا، وهو مفسر أيضاً بالشفاعة، وهي
نظير الكوثر في الانتقال بعد قضاء الحاجة منه.
وكذا (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ، لتكرّر حدوثِ ذلك
باعتبار الموجودات.
حتى يعطوا الجِزْية، لأنها موقوفة على قبول - منا، وإنما
يعطونها عن
كُرْه.
(3/488)
فائدة
قال الراغب: خص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء، نحو: (أقاموا
الصلاةَ
وآتوا الزكاة) .
(وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة) .
قال: وكل موضع ذكر في وصف الكتاب "آتينا " فهو أبلغ من كل
موضع ذكر فيه " أوتوا "، لأن أوتوا قد يقال إذا أوتيَ من لم
يكن منه قبول.
وآتيناهم يقال فيمَنْ كان منه قبول.
ومن ذلك السَّنَة والعام، قال الراغب: الغالب استعمال السَّنَة
في الحَوْلِ الذي فيه الشدَّة والجَدب، ولهذا يعبر عن الجدب
بالسنة.
والعام ما فيه الرخاء والخصب، وبهذا تظهر النكتة في قوله:
(ألْفَ سَنة إلا خمسين عاماً) .
حيث عبر عن المستثنى بالعام، وعن المستثنى منه بالسنة.
قاعدة في السؤال والجواب
الأصل في الجواب أن يكونَ مطابقاً للسؤال إذا كان السؤال
متوجّهاً.
وقد يعْدَل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيهاً على أنه كان
مِنْ حقّ السؤال أن يكونَ كذلك، ويسميه السكاكي الأسلوب
الحكيم.
وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال.
وقد يجيء أنْقَص لاقتضاء الحال ذلك.
مثال ما عدل عنه قوله تعالى: (يَسألوتك عن الأهِلة قلْ هي
مَوَاقِيت للناس
والحَجِّ) ا.
سألوا عن الهلال لِمَ يَبْدو رقيقاً مثل الخيط، ثم يتزايَد
قليلاً قليلاً حتى يمتلىء ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ،
فأجيبوا ببيان حكمةِ ذلك تنبيهاً على أن الأهم السؤال عن ذلك
لا ما سألوا عنه.
كذا قال السكاكي ومَنْ أتى بعده، واسترسل التفتازاني في الكلام
إلى أن قال: ليسوا ممّن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة.
(3/489)
وأَقول: ليت شعري من أيْنَ لهم أنَّ السؤال
وقع عن غير ما حصل الجوابُ
به، وما المانِع من أن يكون إنما وقع عن حكمةِ ذلك ليعلموها،
فإنَّ نظْمَ الآية محتمل لذلك، كما أنه محتمل لما قالوه.
والجواب ببيان الحكمة دليلٌ على ترجيح الاحتمال الذي قُلْناه،
وقرينةٌ تُرْشد إلى ذلك، إذ الَأصلُ في الجواب المطابقة
للسؤال، والخروج عن الأصْلِ يحتاج إلى دليل، ولم يرد بإسنادٍ
لا صحيح ولا غيره أَنّ السؤال وقع عما ذكروه، بل ورد ما يؤيد
ما قلناه، فأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال: بلغنا أنهم
قالوا: يا رسولَ الله، لم خلقت الأهِلة، فأنزل الله (يسألونك
عن الأهِلّة) ، فهذا صريح في أنهم سألوه عن حكمة ذلك لا عَنْ
كيفيته من جهة الهيئة، ولا يظنّ ذو دِين بالصحابة الذي هم أدقّ
فهماً، وأغزر علماً، أنهم ليسوا ممن يطّلع على دقائق الهيئة
بسهولة، وقد اطلع عليها آحاد العجم
الذي أطبق الناس على أنهم أبلد أذهاناً من العرب بكثير.
هذا لو كان للهيئة أصل معتبر، فكيف وأكثرها فاسد لا دليل عليه.
وقد صنَّفْت كتاباً في نَقْض أكثر مسائلها بالأدلة الثابتة عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي صعد إلى السماء ورآها
عياناً، وعلم ما حوَتْه من عجائب الملكوت بالمشاهدة، وأتاه
الوَحْي مِنْ خالقها، ولو كان السؤال وقع عمّا ذكروه لم يمتنع
أنْ يجابوا عنه بلفظ يصل إلى أفهامهم، كما وقع ذلك لما سألوا
عن المجرة وغيرها من الملكوتيات.
نعم المثال الصحيح لهذا القسم جواب موسى لفرعون حيث قال:
(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) ، لأنه سؤال عن الماهية أو
الجِنس.
ولما كان هذا السؤال في حقِّ الباري تعالى خطأ لأنه لا جنس له،
فيذكر ولا تدرك ذاته، عدل إلى الجواب بالصواب ببيان الوصف
المرشد إلى معرفته، ولهذا تعجَّبَ فرعون من عدم مطابقته
للسؤال، فقال (ألاَ تستمعُون) : أي جوابه الذي لم يطابق
السؤال، فأجاب موسى: (ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين) ، المتضمّن
إبطال ما يعتقدونه من
(3/490)
ربوبية فرعون نصًّا، وإن كان دخل في الأول
ضمناًْ إغلاظاً، زاد فرعون في
الاستهزاء به، فلما رآهم موسى لم يتفطنوا أغلظَ في الثالث
بقوله: (إنْ كنْتم
تعقلون) .
ومثال الزيادة في الجواب قوله تعالى: (فلِ الله ينَجيكم منها
ومن كل
كرب) ، في جواب (مَنْ يُنَجيكم من ظُلماتِ البر والبَحْر) .
وقول موسى: (هي عَصَايَ أتَوَكَّأ عليها وَأهش بها على غَنمي)
، في جواب: (وما تلكَ بيمينك يا موسى) .
زاد في الجواب استلذاذا بخطاب الله.
وقول قوم إبراهيم: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا
عَاكِفِينَ) ، في جواب: (ما تَعْبدون) ، زادوا في الجواب
إظهارا للابتهاج بعبادتها والاستمرارِ على مواظبتها ليزداد
غيْظ السائل.
ومثال النقص منه قوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أُبَدِّلَهُ) ، في جواب: (ائْتِ بقرآن غَيْر هذا أو بدِّله) ،
أجاب عن التبديل دونَ الاختراع.
قال الزمخشري: لأن التبديلَ في إمكان البشر دون الاختراع،
فطوَى ذكْرَه للتنبيه على أنه سؤال محال.
وقال غيره: التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانَه
فالاختراع أولى.
تنبيه:
قد يُعْدَل عن الجواب أصلاً إذا كان السائل قَصْده التعنيت،
نحو:
(ويسألونَك عن الروح) .
قال صاحب الإيضاح: إنما سأل اليهود تعجيزاً أو تغليظا إذْ كان
الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان، والقرآن، وعيسى وجبريل،
وملك آخر، وصنف من الملائكة، فقصد اليهود أنْ يسألوه، فبأيّ
مسمّى أجابهم قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجمَلاً، وكان هذا
الإجمال كَيْداً يردّ به كيدهم.
(3/491)
قاعدة
قيل أصل الجواب أنْ يُعَادَ فيه نفس السؤال، ليكون وفْقَه،
نحو: (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ) ، فأنا
في جوابه هو " أنت " في
سؤالهم، وكذا (أأقْرَرْتُم وأخذْتُم على ذَلكم إصْري قالوا
أقْرَرْنَا) ، فهذا أصله، ثم إنهم أتوا عِوَض ذلك بحروف الجواب
اختصارا وترك التكرار.
وقد يحذف السؤال ثقةً بفهم السامع بتقديره، نحو: (قُلْ هَلْ
مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) .
فإنه لا يستقيم أن يكونَ السؤال والجواب من واحد، فتعيَّن أن
يكون (قُلِ اللَّهُ) جوابَ سؤال، فكأنهم سألوا لمَّا سمعوا
ذلك: مَنْ يبدأ الخلق ثم يعيده.
قاعدة
الأصل في الجواب أن يكون مشَاكِلاً للسؤال، فإن كان جملة اسمية
فينبغي
أن يكون الجواب كذلك، ويجيء كذلك في الجوابِ المقدَّر، إلا ابن
مالك قال: قولك زيد - في جواب مَنْ قرأ: إنه من باب حَذْف
الفعل، على جَعْل الجواب جملة فعلية.
قال: وإنما قدرته كذلك لا مبتدأ مع احتماله، جَرْياً على
عادتهم في
الأجوبة إذا قصدوا تمامها، قال تعالى (قَالَ مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
(ولئن سألْتهم مَنْ خَلقَ السماوات والأرضَ ليقولنَّ خَلَقهنّ
العزيز العليم) .
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ) .
فلما أتى بالجملة الفعلية مع فواتِ مشاكلة السؤال عُلم أنَّ
تقدير الفِعل أولى.
قال ابن الزَّمْلَكَاني في البرهان: أطلق النحويون القولَ بأن
زيداً في جواب مَنْ
قام، فاعل على تقدير قام زيد، والذي توجبه صناعة علم البيان
أنه مبتدأ.
لوجهين:
(3/492)
أحدهما: أنه يطَابق الجملةَ المسؤول بها في
الاسمية، كما وقع التطابق في قوله:
(وقيل للذين اتقَوْا ماذَا أنْزَلَ ربكم قالوا خَيْراً) ، في
الفعلية.
وإنما لم يَقَع التطابقُ في قوله: (ماذَا أنْزَل رَبُّكم قالوا
أساطِيرُ الأوَّلين) ، لأنهم لو طابقوا لكانوا مقرين بالإنزال
وهم من الإذعان به على مفاوز.
الثاني: أن اللَّبْس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل،
فوجب أن يتقدم
الفاعل في المعنى، لأنه متعلق غرَضِ السائل.
وأما الفعلُ فمعلوم عنده، ولا حاجة به إلى السؤال عنه، فحريٌّ
أنْ يقعَ في الأواخر التي هي محل التكملات والفَضَلات.
وأشكل على هذا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) ، - في جواب
(أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا) ، فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن
الفعل، فإنهم لم يستفهموه عن الكسر، بل عن الكاسر، ومع ذلك صدر
الجواب بالفعل.
وأجيب بأن الجوابَ مقدرٌ دلَّ عليه السياق، إذ " بل " لا يصلح
أن يصدر
بها الكلام، والتقدير: ما فعلته، بل فعله.
قال الشيخ عبد القاهر: ولما كان السؤال ملفوظاً به فالأكثر
ترْك الفعل في
الجواب والاقتصار على الاسم وحده، ولما كان مضمراً فالأكثر
التصريح به
لضعف الدلالة عليه.
ومن غير الأكثر: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ) - في قراءة البناء للمفعول.
فاعدة
أخرج البزار عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحابِ
محمد، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلَّها في القرآن.
وأورده الإمام الرازي بلفظ أربعة عشر حرفاً.
وقال: منها ثمانية في البقرة:
(3/493)
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) .
(يسألونكَ عن الأهلَّة) .
(يسألونكَ ما ينفِقُون قل ما أنْفَقْتُم) .
(يسألونك عن الشّهْرِ الحرام) .
(يسألونك عن الخَمْر والميْسر) .
(ويسألونك عن اليتامى) .
(ويسألونك ماذا ينْفقون قل العَفْو) .
(ويسألونك عن المحِيض) .
قال: والتاسع: (يسألونك ماذا أُحلَّ لهم) في المائدة.
والعاشر: (يسألونك عن الأنفال) .
والحادي عشر: (ويسألونك عن الساعة أيان مُرساها) .
والثاني عشر: (ويسألونك عن الجبال) .
والثالث عشر: (ويسألونك عن الرُّوحِ) .
والرابع عشر: (ويسألونك عن ذي القَرْنَيْنِ) .
قلت: السائلُ عن الروح وذي القَرْنين مشركو مكة أو اليهود، كما
في
أسباب النزول لا الصحابة، فالخالص اثنا عشر كما صحت به
الرواية.
فائدة
قال الراغب: السؤال إذا كان للتعريف تعدَّى إلى المفعول
الثاني، تارةً بنفسه، وتارة بعن، وهو أكثر، نحو (ويسألونكَ عن
الروح) .
وإذا كان لاستدعاء مال فإنه يعدَّى بنفسه أو بمن، وبنفسه أكثر،
نحو: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ) .
(واسألوا ما أنْفَقْتُم) .
(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) .
قاعدة في الخطاب بالاسم والخطاب
بالفعل
الاسمُ يدلّ على الثبوت والاستمرار، والفعلُ يدلُّ على التجدد
والحدوث، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر، فمن ذلك: قوله:
(وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) .
(3/494)
لو قيل " يبسط " لم يؤد الغرض، لأنه يؤذن
بمزاولة الكلب البَسْط، وأنه يتجدد له شيئاً بعد شيء، فباسط
أشعر بثبوت الصفة.
وقوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) ، لو
قيل: رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئاً بعد شيء،
ولهذا جاء الفعل
في صورة المضارع مع أنَّ العامل الذي يفيده ماضٍ، نحو:
(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) ، إذ المراد أنْ يفيد
صورة ما هم عليه وقْتَ المجيء.
وأنهم آخذون في البكاء يجدِّدونه شيئاً بعد شيء، وهو المسمّى
حكاية الحال
الماضية، وهذا هو سر الإعراضِ عن اسم الفاعل والمفعول، ولهذا
أيضاً عبَّر
بالذين ينفقون، ولم يقل المنفقون، كما قيل المؤمنون والمتّقون،
لأن النفقةَ أمر فِعْليّ شأنه الانقطاع والتجدد، بخلاف
الإيمان، فإن له حقيقةً تقوم بالقلب يدوم مقتضاها.
وكذلك التقوى والإسلام، والصبر والشكر، والهدى والضلال.
والعمى والبصر، كلّها لها مسمَّيَاتٌ حقيقية أو مجازية
تستمرُّ، وآثار تتجدد
وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين.
وقال تعالى في آية الأنعام: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) .
قال الإمام فخر الدين: لما كان الاعتناء بإخراج الحيّ من اليت
أشدّ أتى فيه بالمضارع ليدلَّ على التجدد، كما في قوله: (الله
يَسْتَهزئُ بهم) .
تنبيهات
الأول: المراد بالتجدد في الماضي الحصول، وفي المضارع أنَّ من
شأنه أنْ
يتكرر ويقع مرةْ بعد أخرى، صرح بذلك جماعة منهم الزمخشري في
قوله: (الله يستهزئُ بهم) .
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: وبهذا يتَّضِح الجواب عما يذكر
من نحو: علم الله كذا، فإنَّ علم الله لا يتجدد، وكذا سائر
الصفات الدائمة التي يستعمل فيها الفعل.
(3/495)
وجوابُه أنَّ معنى علم الله كذا وقع
عِلْمُه في الزمن الماضي، ولا يلزم أنه لم
يكنْ قَبْل ذلك، فإن العلم في زمن ماض أعمّ من المستمر على
الدوام قبل ذلك الزمن وبعده وغيره، ولهذا قال تعالى - حكاية عن
إبراهيم: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي
هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ، الآيات.
فأتى بالماضي في الخلق، لأنه مفروغ منه، وبالمضارع في الهداية
والإطعام والإسقاء والشفاء، لأنها متكررةٌ متجددة تَقَعُ مرةً
بعد أحْرى.
الثاني: مضمر الفعل فيما ذُكر كمظْهره، ولهذا قالوا: إنَّ سلام
الخليل أبلغُ
من سلام الملائكة حيث: (قالوا سلاما قال سلام) ، فإن نصب
سلاماً إنما يكون على إرادة الفعل، أي سلَّمنا سلاماً.
وهذه العبارةُ مؤْذنة بحدوث التسليم منهم، إذ الفعلُ متأخرٌ عن
وجود الفاعل، بخلاف سلام إبراهيم، فإنه مرتفع بالابتداء،
فاقتضى الثبوتَ على الإطلاق، وهو أولى مما يعرض له الثبوت،
فكأنه قَصد أن يحييهم بأحسن مما حيَّوه به.
الثالث: ما ذكرناه من دلالة الاسْم على الثبوت والفعل على
التجدد
والحدوث هو المشهورُ عند أهلِ البيان، وقد أنكره أبو المطرف بن
عميرة في
كتاب التمويهات على التبيان لابن الزَّمْلَكاني، وقال: إنه
غريب لا مستَند له
فإنَّ الاسْمَ إنما يدل على معناه فقط، أما كونُه يثبت المعنى
للشيء فلا، ثم أورد قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ
ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْعَثُونَ (16) .
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ (58) .
وقال ابن المنير: طريقةُ العربية تلوين الكلام، ومجيء الفعلية
تارة والاسمية
أخرى من غير تكلف لما ذكروه، وقد رأينا الجملةَ الفعلية تصدر
من الأقوياء
الخلص اعتمادا على أن المقصود حاصل بدون التأكيد، نحو:
(ربَّنَا آمَنَّا) ، ولا شيء بعد (آمَنَ الرسولُ) .
وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين، فقالوا: (إنما نحنُ
مُصْلِحون) .
(3/496)
قاعدة في المصدر
قال ابن عطية: سبيل الواجباتِ الإتيانُ بالمصدر مرفوعاً،
كقوله: (فإمْسَاكٌ
بمعروف أو تَسريح بإحْسان) .
(فاتَباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) .
وسبيلُ المندوبات الإتيانُ به منصوباً، كقوله: (فَضَرْب
الرِّقابِ) ، ولهذا اختلفوا: هل كانت الوصية للزوجات واجبة
لاختلاف القراءة في قوله تعالى: (وصِية لأزْوَاجهم) - بالرفع
والنصب.
قال أبو حيان: والأصلُ في هذه التفرقة قوله تعالى: (قالوا
سلاماً قال
سلام) ، فإنَّ الأول مندوب، والثاني واجب، والنكتةُ في ذلك أنّ
الجملة الاسمية أوْكد وأثبت من الفعلية.
قاعدة في العطف
هو ثلاثة أقسام: عطف على اللفظ، وهو الأصل، وشرْطُه إمكان
توجّه
العامل إلى المعطوف.
وعطف على المحل، وله شروط ثلاثة:
أحدها: إمكانُ ظهورِ ذلك الملّ في الفصيح، فلا يجوز مررتُ بزيد
وعمرًا، لأنه لا يجوز مررت زيداً.
الثاني: أن يكونَ الموضع بحق الأصالة، فلا يجوز: هذا الضارب
زيدا
وأخيه، لأن الأصل المستوفي لشروط العمل، والأصل إعماله لا
إضافته.
(3/497)
الثالث: وجود المحرز، أي الطالب لذلك
المحل، فلا يجوز إن زيداً وعمراً
قاعدان، لأن الطالب لرفع عمرو هو الابتداء، وقد زال بدخول " إن
".
وخالف في الشرط الكسائي مستدلاً بقوله تعالى: (إنَّ الذين
آمَنوا والذين
هَادوا والصَّابِئُون) .
وأُجيب بأن خبر (إن) فيها محذوف أي مأجورون، أو آمنون، ولا
تختص مراعاةُ الموضع بأن يكون عامل اللفظ زائداً.
وقد أجاز الفارسي في قوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
أن يكون يوم القيامة عطفاً على محل هذه.
وعطف التوهم، نحو: ليس زيد قائما ولا قاعدٍ - بالخفض، على
توهّم دخول الباء في الخبر.
وشرط جوازِه صحة دخول ذلك العامل المتوهم، وشرط حُسْنِه
كثرة دخوله هناك.
وقد وقع هذا العطف فَي المجرور في قول زهير:
بدَا لِيَ أَني لسْتُ مدْرِكَ ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا
كان جائيا
وفي المجزوم في قراءة غير أبي عمرو: (لولا أخرْتَنِي إلى أجل
قريب
فأصَّدقَ وأكنْ) ، خرجه الخليلُ وسيبويه على أنه عطف على
التوهم، لأن معنى (لولا أخرتني فأصدَّق) ومعنى أخرني أصَّدَّق
واحد.
وقراءة قنبل: (إنه مَنْ يتَّقي ويصبر) .
خرجه الفارسي عليه، لأن من الموصولة فيها معنى الشرط.
وفي المنصوب في قراءة حمزة وابن عامر: (ومِن وَرَاء إسحاقَ
يعقوب) .
وقال بعضهم في قوله تعالى: (وحِفظاً مِن كلِّ شيطان) : إنه عطف
على معنى (إنا زَينَّا السماء الدنيا) ، وهو إنا خلقنا
الكواكبَ في السماء الدنيا زينة
للسماء.
وقال بعضهم في قراءة: "وَدّوا لو تدهِنُ فيدهنوا ".
إنه على معنى ودّوا أن تدهن.
وقيل في قراءة حفص: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ)
(3/498)
- بالنصب: إنه عطفٌ على معنى لعلي أن أبلغ،
لأن خبر لعل يقترن بأن كثيرا.
وقيل في قوله تعالى: (ومِنْ آياتِه أنْ يُرْسلَ الرِّياحَ
مبشِّراب وليُذِيقكم) :
إنه على تقدير ليبشركم وليذيقكم.
تنبيه:
ظن ابنُ مالك أن المراد التوهم الغلط، وليس كذلك، كما نَبّه
عليه أبو حيان
وابن هشام، بل هو مقصود صواب، والمراد منه عطف على المعنى، أي
جوّز العربيّ في ذهنه ملاحظةَ ذلك المعنى في المعطوف عليه، لا
أنه غلط في ذلك، ولهذا كان الأدب أنْ يقال في مثل ذلك في
القرآن: إنه عطف على المعنى.
مسألة
اختلف في جواز عطْفِ الخبر على الإنشاء وعكسه، فمنعه
البيانيُّون وابنُ
مالك وابنُ عصفور، ونقله عن الأكثرين، وأجازه الصفّار وجماعة ٌ
مستدلين
بقوله تعالى: (وبَشِّرِ الذين آمَنُوا) .
(وبَشِّرِ الْمُؤْمنين) .
وقال الزمخشري في الأولى: ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى يطلب
له مشاكل، بل المرادُ عطف جملة ثوابِ المؤمنين على جملة ثواث
الكافرين.
وفي الثانية - أن العطف على تؤمنون، لأنه بمعنى آمنوا.
ورُدَّ بأن الخطاب به للمؤمنين وب (بَشِّر) للنبى - صلى الله
عليه وسلم -، وبأنَّ الظاهر في (يؤمنون) أنه تفسير للتجارة لا
طلب.
وقال السكاكي: الأمران معطوفان على " قل " مقدرة قبل يا أيها،
وحَذْف
القولِ كثير.
مسألة
اختلف في جواز عطف الاسمية على الفعلية وعكسه، فالجمهور على
الجواز.
وبعضُهم على المنع، ولقد لهج به الرازي في تفسيره كثيراً،
وردَّ به على الحنفية
(3/499)
القائلين بتحريم أكل متروك التسمية أخْذاً
من قوله تعالى: (ولا تأكلوا مِمَّا لم
يذْكر اسْمُ الله عليه وإنه لفِسْق) .
فقال: هي حجة للجواز لا للحرْمة، وذلك أن الواو ليست عاطفة
لتخالُف الجملتين بالاسمية والفعلية، ولا للاسئناف، لأن أصلَ
الواوِ أن تربط ما بعدها بما قبلها، فبقي أن تكونَ للحال،
فتكون جملة الحال مقيدة للنهي.
والمعنى: لا تأكلوا منه في حال كونه فسقاً.
ومفهومه جواز الأكلِ إذا لم يكن فسقاً، والفسقُ قد فسَّره الله
تعالى
بقوله: (أو فِسْقاً أهِلَّ لغير الله به) .
فالمعنى لا تأكلوا منه إذا سمِّيَ عليه غَيْرُ الله.
ومفهومه: فكلوا منه إذا لم يسمّ عليه غَيْرُ الله تعالى.
قال ابن هشام: ولو أبطل العطف بتخالف الجملتين بالإِنشاء
والخبر لكان صواباً.
مسألة
اختلف في جواز العطف على معمولي عاملين، فالمشهور عن سيبويه
المنع، وبه قال المبرد وابن السراج وابن هشام.
وجوَّزَه الأخفش والكسائي والزجاج.
وخرج عليه قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ
مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
إلى قوله: (وتصرِيف الرياح آيات لقوم يَعْقِلون) .
فيمن نصب آياتٍ الأخيرة.
مسألة
اختلف في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار،
فالجمهورُ
من البصريين على الْمَنْع، وبعضهم والكوفيون على الجواز، وخرج
عليه قراءة حمزة: (واتقوا الله الذي تَساءلون به والأرْحامِ) .
وقال أبو حيان في قوله: (وصَدّ عَنْ سبيل الله وكُفْر به
والمسجِدِ الحرام) :
إن المسجد معطوف على ضمير به، وإن لم يُعَد الجار.
قال: والذي نختاره جواز ذلك، لوروده في كلام العرب كثيراً
نظماً ونثراً، قال: ولسنا متعبّدين باتباع جمهور البصريين، بل
نتبع الدليل.
واللَه الموفق.
(3/500)
|