مناهل العرفان في علوم القرآن
المبحث
العاشر: في كتابة القرآن ورسمه ومصاحفه وما يتعلق بذلك
الكتابة
...
المبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه
ومصاحفه وما يتعلق بذلك
1- الكتابة
معروف أن الأمة العربية كانت موسومة بالأمية مشهورة بها لا تدري ما
الكتابة ولا الخط. وجاء القرآن يتحدث عن أميتها هذه فقال: {هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
ولن يشذ عن هذه القاعدة إلا أفراد قلائل في قريش تعلموا الخط ودرسوه
قبيل الإسلام
(1/361)
وكأن ذلك
كان إرهاصا من الله وتمهيدا لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وتقرير دين
الإسلام وتسجيل الوحي المنزل عليه بالقرآن لأن الكتابة أدعى إلى حفظ
التنزيل وضبطه وأبعد عن ضياعه ونسيانه.
وكادت تتفق كلمة المؤرخين على أن قريشا في مكة لم تأخذ الخط إلا عن
طريق حرب بن أمية بن عبد شمس. لكنهم اختلفوا فيمن أخذ عنه حرب. فرواية
أبي عمرو الداني تذكر أنه تعلم الخط من عبد الله بن جدعان وفيها يقول
زياد بن أنعم قلت لابن عباس معاشر قريش هل كنتم تكتبون في الجاهلية
بهذا الكتاب العربي تجمعون فيه ما اجتمع وتفرقون فيه ما افترق هجاء
بالألف واللام والميم والشكل والقطع وما يكتب به اليوم؟ قال ابن عباس:
نعم. قلت: فمن علمكم الكتابة؟ قال حرب بن أمية قلت: فمن علم حرب بن
أمية؟ قال عبد الله بن جدعان قلت: فمن علم عبد الله بن جدعان؟ قال: أهل
الأنبار قلت: فمن علم أهل الأنبار؟ قال: طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن
من كندة قلت: فمن علم ذلك الطارئ؟ قال: الخلجان بن الموهم كان كاتب هود
نبي الله عز وجل.
أما رواية الكلبي فتقص علينا أن حربا تعلم الكتابة من بشر بن عبد الملك
وفيها يقول عوانة: أول من كتب بخطنا هذا وهو الجزم مرامر بن مرة وأسلم
بن سدرة وكذا عامر بن جدرة وهم من عرب طيىء تعلموه من كاتب الوحي
لسيدنا هود عليه السلام ثم علموه أهل الأنبار ومنهم انتشرت الكتابة في
العراق والحيرة وغيرهما. فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد
الملك صاحب دومة الجندل وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في
بلاد العراق فتعلم حرب منه الكتابة ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج
الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان فتعلم منه جماعة من أهل مكة ا هـ.
(1/362)
ومن هنا
وجد عدد يحذق الخط والكتابة قبيل الإسلام ولكنهم نزر يسير بجانب تلك
الكثرة الغامرة من الأميين. وفي ذلك يمتن رجل من أهل دومة الجندل على
قريش فيقول:
لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو ... فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم1 حتى حفظتمو ... من المال ما قد كان شتى مبعثرا
فأجريتم الأقلام عودا وبدأة ... وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتمو عن مسند الحي حمير ... وما زبرت في الصحف أقلام حميرا
أولئك أهل مكة. أما أهل المدينة فكان بينهم أهل الكتاب من اليهود وقد
دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها يهودي يعلم الصبيان
الكتابة وكان فيها بضعة عشر رجلا يحذقون الكتابة منهم المنذر بن عمرو
وأبي بن وهب وعمرو بن سعيد وزيد بن ثابت الذي تعلم كتابة اليهود بأمر
من النبي صلى الله عليه وسلم.
شأن الكتابة في الإسلام:
ثم جاء الإسلام فحارب فيما حارب أمية العرب وعمل على محوها وطفق يرفع
من شأن الكتابة ويعلي من مقامها. وإن كنت في شك فهذه أوائل آيات نزلن
من القرآن الكريم يشيد الحق فيها بالقلم وما يعلم الله عباده بوساطة
القلم إذ يقول جلت حكمته: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
إلى أن قال: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ,
عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وهذه سورة ن يحلف العلي الأعلى فيها بالقلم وما يسطرون إذ يقول: {نْ
وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ} . وهذا من أروع ألوان التنبيه إلى جلال الخط والكتابة
ومزاياهما.
__________
1 سمي بالجزم لأنه جزم- أي قطع- من الخط المسمى بالمسند, وهو خط حمير.
(1/363)
وهذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يدفع أصحابه دفعا إلى أن يتعلموا الخط ويحذقوا
الكتابة ويهيىء لهم السبل بكل ما يستطيع من وسيلة مشروعة.
حتى لقد ورد أن المسلمين في غزوة بدر أسروا ستين مشركا فكان مما يقبل
الرسول صلى الله عليه وسلم في فداء الواحد منهم أن يعلم عشرة من أصحابه
الكتابة والخط. وهكذا أعلن الرسول بعمله هذا أن القراءة والكتابة
عديلان للحرية وهذا منتهى ما تصل إليه الهمم في تحرير شعب أمي من رق
الأمية.
وبمثل هذه الطريقة أخذت ظلمات الأمية تتبدد بأنوار الإسلام شيئا فشيئا
وحل محلها العلم والكتابة والقراءة.
وهذا من أدل الأدلة على أن الإسلام دين العلم والحضارة والمدنية.
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب:
حتى لقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف القراءة والكتابة في آخر
أمره بعد أن قامت حجته. وعلت كلمته وعجز العرب في مقام التحدي عن أن
يأتوا بسورة من مثل القرآن الذي جاء به وكأن الحكمة في ذلك هي الإشارة
إلى شرف الخط والكتابة. وأن أمية الرسول صلى الله عليه وسلم في أول
أمره إنما كانت حالا وقتية اقتضاها إقامة الدليل والإعجاز واضحا على
صدق محمد في نبوته ورسالته وأنه مبعوث الحق إلى خليقته ولو كان وقتئذ
كاتبا قارئا وهم أميون لراجت شبهتهم في أن ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس
وأثر نظر في الكتب وبحث.
وفي هذا المعنى يقول سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ
كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ
(1/364)
الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} .
قال العلامة الألوسي بعد تفسيره لهذه الآية ما نصه: واختلف في أنه صلى
الله عليه وسلم أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا فقيل إنه عليه الصلاة
والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال: إنه
الأصح. وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن
كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية فلما نزل القرآن
واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب1 تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن أبي
شيبة وغيره: ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ ونقل هذا للشعبي
فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن
ماجه عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي مكتوبا
على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر" .
ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح
الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب
فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث.
وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري
وأبو الوليد الباجي من المغاربة وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتابا
وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة
وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب به إلى
علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه ومعرفة الكتاب بعد أميته صلى الله
عليه وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم.
__________
1 لعل مراده بهذه الكلمة, ظهور فساد الارتياب وأنه لا قيمة له.
(1/365)
وقد رد
بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: إنا أمة أمية لا نكتب
ولا نحسب. وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله كتب فمعناه أمر بالكتابة
كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ}
على قوله سبحانه: {وَلا تَخُطُّهُ} كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام
لم يكتب مطلقا.
وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى
ما قبله وما بعده فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا
على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام
خلوا عن الفائدة. وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر
الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته.
ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه:
ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا
نحسب" ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام. ولعل
ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو وأكثر من بعث إليهم وهو
بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء
وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة
فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلا عن القاضي
عياض إن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب كالنص في
أنه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة
إليه ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على
الأخرى في هذا. فالله تعالى أعلم ا هـ.
وأقول إن التشنيع ليس من دأب العلماء ولا من أدب الباحثين. والمسألة
التي نحن بصددها مسألة نظرية. والحكم في أمثالها يجب أن يكون لما رجح
من الأدلة لا للهوى
(1/366)
والشهوة.
ونحن إذا استعرضنا حجج هؤلاء وهؤلاء نلاحظ أن أدلة أميته صلى الله عليه
وسلم قطعية يقينية.
وأن أدلة كونه كتب وخط بيمينه ظنية غير يقينية ولم يدع أحد أنها قطعية
يقينية. ثم إن التعارض ظاهر فيما بين هذه وتلك. غير أنه تعارض ظاهري
يمكن دفعه بأن نحمل أدلة الأمية على أولى حالاته صلى الله عليه وسلم
وأن نحمل أدلة كتابته على أخريات حالاته وذلك جمعا بين الأدلة. ولا ريب
أن الجمع بينها أهدى سبيلا من إعمال البعض وإهمال البعض ما دام في كل
منها قوة الاستدلال وما دام الجمع ممكنا على أية حال. أما لو لم يمكن
الجمع فلا مشاحة حينئذ في قبول القطعي ورد الظني لأن الأول أقوى من
الثاني {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . هذا هو
الميزان الصحيح لدفع التعارض والترجيح فاحكم به عند الاختلاف والاشتباه
{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
كتابة القرآن:
بعد ما قصصنا عليك من تلك الفذلكة التاريخية في الخطوط والكتابة
العربية نلفت نظرك إلى أن كتابة القرآن وفيناها بحثها في مبحث جمع
القرآن من ص 232 إلى ص 256 وذكرنا هناك كيف كتب القرآن؟ وفيم كتب؟ على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم على عهد عثمان رضي الله عنهما.
ومنه تعلم أن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكتابة القرآن
كانت عناية فائقة يدلك على هذه العناية أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان له كتاب يكتبون الوحي منهم الأربعة الخلفاء ومعاوية وأبان بن سعيد
وخالد بن الوليد وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس وأرقم بن أبي
وحنظلة بن الربيع وغيرهم. فكان صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه شيء
يدعو أحد كتابه هؤلاء ويأمره بكتابة ما نزل عليه ولو كان كلمة كما روي
أنه
(1/367)
لما نزل
عليه قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قال ابن أم مكتوم وعبد الله بن جحش:
يا رسول الله إنا أعميان فهل لنا رخصة؟ فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بالكتف
والدواة" وأمر زيدا أن يكتبها. فكتبها فقال زيد كأني أنظر إلى موضعها
عند صدع الكتف. ورواية البخاري اقتصرت هنا على عبد الله بن أم مكتوم
وليس فيها ابن جحش.
ولعلك لم تنس حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: "ضعوا هذه في الموضع الذي يذكر
فيه كذا وكذا" . وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كتب عني شيئا غير
القرآن فليمحه" وقول أبي بكر لزيد بن ثابت: إنك رجل شاب لا نتهمك. وقد
كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أضف إلى ذلك أن الصحابة كانوا يكتبون القرآن فيما يتيسر لهم حتى في
العظام والرقاع وجريد النخل ورقيق الحجارة ونحو ذلك مما يدل على عظيم
بلائهم في هذا الأمر الجلل رضي الله عنهم أجمعين.
(1/368)
ب -
رسم المصحف
رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان رضي الله عنه في كتابة
كلمات القرآن وحروفه. والأصل في المكتوب أن يكون موافقا تمام الموافقة
للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير. لكن المصاحف
العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها
مخالفا لأداء النطق وذلك لأغراض شريفة ظهرت وتظهر لك فيما بعد.
وقد عني العلماء بالكلام على رسم القرآن وحصر تلك الكلمات التي جاء
خطها على غير مقياس لفظها. وقد أفرده بعضهم بالتأليف منهم الإمام أبو
عمرو الداني إذ ألف فيه كتابه المسمى المقنع. ومنهم العلامة أبو عباس
المراكشي إذ ألف كتابا أسماه: عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل. ومنهم
العلامة الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي إذ نظم أرجوزة سماها
اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم ثم جاء العلامة المرحوم الشيخ
محمد خلف الحسيني شيخ المقارىء بالديار المصرية فشرح تلك المنظومة وذيل
الشرح بكتاب سماه مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن.
قواعد رسم المصحف:
وللمصحف العثماني قواعد في خطه ورسمه حصرها علماء الفن في ست قواعد وهي
الحذف والزيادة والهمز والبدل والفصل والوصل وما فيه قراءتان فقرئ على
إحداهما. وهاك شيئا عنها بالإجمال ليكون الفرق بينها وبين مصطلح الخطوط
في عصرنا على بال منك:-
قاعدة الحذف: خلاصتها أن الألف تحذف من ياء النداء نحو {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ}
(1/369)
ومن ها
التنبيه نحو {هَا أَنْتُمْ} ومن كلمة نا إذا وليها ضمير نحو
{أَنْجَيْنَاكُمْ} 1 ومن لفظ الجلالة {اللَّهِ} ومن كلمة {إِلَهَ} ومن
لفظي {الرَّحْمَنِ وَسُبْحَانَ} وبعد لام نحو كلمة {خَلائِفَ} وبين
اللامين في نحو {الْكَلالَةِ} ومن كل مثنى نحو {رَجُلانِ} ومن كل جمع
تصحيح لمذكر أو لمؤنت نحو {سَمَّاعُونَ} {الْمُؤْمِنَاتِ} ومن كل جمع
على وزن مفاعل وشبهه نحو {الْمَسَاجِدِ} {وَالنَّصَارَى} ومن كل عدد
نحو {ثَلاثَ} . ومن البسملة ومن أول الأمر من سأل وغير ذلك إلا ما
استثني من هذا كله.
وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}
.
ومن هذه الكلمات {وَأَطِيعُونِ, وَاتَّقُونِ, وَخَافُونِ,
فَارْهَبُونِ, فَأَرْسِلُونِ, فَاعْبُدُونِ} إلا ما استثني.
وتحذف الواو: إذا وقعت مع واو أخرى في نحو: {لا يَسْتَوُونَ, فَأْوُوا
إِلَى الْكَهْفِ} .
وتحذف اللام: إذا كانت مدغمة في مثلها نحو: الليل والذي إلا ما استثني.
وهناك حذف لا يدخل تحت قاعدة كحذف الألف من كلمة مالك وكحذف الياء من
إبراهيم وكحذف الواو من هذه الأفعال الأربعة: ويدعو الإنسان ويمحو الله
الباطل يوم يدعو الداع سندعو الزبانية.
قاعدة الزيادة. خلاصتها أن الألف تزاد بعد الواو في آخر كل اسم مجموع
أو في حكم المجموع نحو: ملاقوا ربهم بنوا إسرائيل أولوا الألباب وبعد
الهمزة المرسومة واوا نحو {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} فإنها ترسم هكذا: تالله
تفتؤا. وفي كلمات مائة ومائتين والظنون والرسول والسبيل في قوله تعالى:
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}.
{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} .
__________
1 كل هذه الأمثلة ترسم بدون ألف هكذا: أنجينكم. الله. إله. الرحمن.
الخ.
(1/370)
وتزاد
الياء في هذه الكلمات: {نَبَأَ, آنَاءَ, مِنْ تِلْقَاءِ, بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ, بِأَيْدٍ} من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
بِأَيْدٍ} .
وتزاد الواو في نحو {أُولُو, أُولَئِكَ, أُولاءِ, أُولاتِ} .
قاعدة الهمز خلاصتها أن الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها
نحو {ائْذَنْ, اؤْتُمِنَ, الْبَأْسَاءِ} إلا ما استثني. أما الهمزة
المتحركة فإن كانت أول الكلمة واتصل بها حرف زائد كتبت بالألف مطلقا
سواء أكانت مفتوحة أم مكسورة نحو {أَيُّوبَ, أُولُو, إِذَا,
سَأَصْرِفُ, سَأُنْزِلُ, فَبِأَيِّ} إلا ما استثني.
وإن كانت الهمزة وسطا فإنها تكتب بحرف من جنس حركتها نحو { سَأَلَ,
سُئِلَ, تَقْرَأَهُ} إلا ما استثني. وإن كانت متطرفة كتبت بحرف من جنس
حركة ما قبلها نحو {سَبَأٍ, شَاطِئِ, لُؤْلُؤٌ} إلا ما استثني وإن سكن
ما قبلها حذفت1 نحو {مِلءُ الْأَرْضِ, يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلا ما
استثني. والمستثنيات كثيرة في الكل.
قاعدة البدل: خلاصتها أن الألف تكتب واوا للتفخيم في مثل الصلاة
والزكاة والحياة إلا ما استثني وترسم ياء إذا كانت منقلبة عن ياء نحو
{يَتَوَفَّاكُمْ يَا حَسْرَتَى يَا أَسَفَىْ} . وكذلك ترسم الألف ياء
في هذه الكلمات: {إِلَى, عَلَى, أَنَّى -بمعنى كيف- مَتَى, بَلَى,
حَتَّى, لَدَى} ما عدا {لَدَى الْبَابِ} في سورة يوسف فإنها ترسم ألفا.
وترسم النون ألفا في نون التوكيد الخفيفة وفي كلمة إذن.
وترسم هاء التأنيث تاء مفتوحة في كلمة {رَحْمَتَ} بالبقرة والأعراف
وهود ومريم والروم والزخرف. وفي كلمة {نِعْمَةَ} بالبقرة وآل عمران
والمائدة وإبراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور. وفي كلمة {لَعْنَةُ
اللَّهِ} . وفي كلمة
__________
1 أي حذفت من الحرف ورسمت مفردة.
(1/371)
معصية
بسورة قد سمع. وفي هذه الكلمات: إن شجرة الزقوم قرة عين جنة نعيم بقية
الله وفي كلمة امرأة أضيفت إلى زوجها نحو امرأة عمران امرأة نوح وفي
غير ذلك.
قاعدة الوصل والفصل: خلاصتها أن كلمة أن بفتح الهمزة توصل بكلمة لا إذا
وقعت بعدها. ويستثنى من ذلك عشرة مواضع. منها: أن لا تقولوا أن لا
تعبدوا إلا الله.
وكلمة من توصل بكلمة ما إذا وقعت بعدها. ويستثنى {مِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} في النساء والروم و {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} في سورة
المنافقين.
وكلمة من توصل بكلمة من مطلقا.
وكلمة عن توصل بكلمة ما. إلا قوله سبحانه {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} .
وكلمة إن بالكسر توصل بكلمة ما التي بعدها إلا قوله سبحانه: {وَإِنْ
مَا نُرِيَنَّكَ} .
وكلمة أن بالفتح توصل بكلمة ما مطلقا من غير استثناء.
وكلمة كل توصل بكلمة ما التي بعدها إلا قوله سبحانه {كُلَّ مَا رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ}, {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} .
وتوصل كلمات {نِعِمَّا, و رُبَمَا, وكَأَنَّمَا, وَيْكَأَنَّهُ}
ونحوها.
قاعدة ما فيه قراءتان: خلاصتها أن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم
أحدهما كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي: { مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ, يُخَادِعُونَ اللَّهَ, وَوَاعَدْنَا مُوسَى,
تُفَادُوهُمْ} ونحوها وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها. وكذلك رسمت
الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة وهي غيابة الجب أنزل عليه آية في
العنكبوت ثمرة من أكمامها في فصلت وهم في الغرفة آمنون
(1/372)
في سبأ.
وذلك لأنها جمعاء مقروءة بالجمع والإفراد. وغير هذا كثير وحسبنا ما
ذكرناه للتمثيل والتنوير.
مزايا الرسم العثماني:
لهذا الرسم مزايا وفوائد:
الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر
الإمكان وذلك أن قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان
أو أكثر كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر. فإن كان الحرف
الواحد لا يحتمل ذلك بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء
الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل وذلك ليعلم جواز القراءة به
وبالحرف الذي هو الأصل. وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف
الأصل رسمت به. مثال الكلمة تكتب بصورة واحدة وتقرأ بوجوه متعددة قوله
تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} رسمت في المصحف العثماني هكذا: إن
هدان لساحران من غير نقط ولا شكل ولا تشديد ولا تخفيف في نوني إن وهذان
ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال من هذان.
ومجيء الرسم كما ترى كان صالحا عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي
وردت كلها بأسانيد صحيحة.
أولها: قراءة نافع ومن معه إذ يشددون نون إن ويخففون هذان بالألف.
ثانيها : قراءة ابن كثير وحده إذ يخفف النون في إن ويشدد النون في
هذان.
ثالثها : قراءة حفص إذ يخفف النون في إن وهذان بالألف.
(1/373)
رابعها:
قراءة أبي عمرو بتشديد إن وبالياء وتخفيف النون في هذين فتدبر هذه
الطريقة المثلى الضابطة لوجوه القراءة لتعلم أن سلفنا الصالح كان في
قواعد رسمه للمصحف أبعد منا نظرا وأهدى سبيلا.
الفائدة الثانية:
إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة وذلك نحو قطع كلمة أم
في قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} ووصلها في
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إذ
كتبت هكذا أمن بإدغام الميم الأولى في الثانية وكتابتهما ميما واحدة
مشددة فقط أم الأولى في الكتابة للدلالة على أنها أم المنقطعة التي
بمعنى بل ووصل أم الثانية للدلالة على أنها ليست كتلك.
الفائدة الثالثة:
الدلالة على معنى خفي دقيق كزيادة الياء في كتابة كلمة أيد من قوله
تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} إذ كتبت هكذا {بِأَيْدٍ}
وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء وأنها لا تشبهها
قوة على حد القاعدة المشهورة وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:
ويدعو الإنسان ويمحو الله الباطل يوم يدعو الداع سندعوا الزبانية فإنها
كتبت في المصحف العثماني هكذا: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ, وَيَمْحُ
اللَّهُ الْبَاطِلَ, يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ, سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}
ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.
(1/374)
قالوا:
والسر في حذفها من {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ} هو الدلالة على أن هذا
الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير بل إثبات الشر
إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير. والسر في حذفها من {وَيَمْحُ
اللَّهُ الْبَاطِلَ} الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله.
والسر في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الإشارة إلى سرعة الدعاء
وسرعة إجابة الداعين. والسر في حذفها من {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}
الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش ويجمع هذه الأسرار
قول المراكشي:
والسر في حذفها من هذه الأربعة سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل
وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود ا هـ.
الفائدة الرابعة:
الدلالة على أصل الحركة مثل كتابة الكسرة ياء في قوله سبحانه
{وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إذ تكتب هكذا وإيتاءى ذي القربى ومثل
كتابة الضمة واوا في قوله سبحانه: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}
إذ كتبت هكذا سأوريكم ومثل ذلك الدلالة على أصل الحرف نحو الصلاة
والزكاة إذ كتبا هكذا: الصلوة الزكوة ليفهم أن الألف فيهما منقلبة عن
واو. من غير نقط ولا شكل كما سبق.
الفائدة الخامسة:
إفادة بعض اللغات الفصيحة مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة دلالة على
لغة طيىء وقد تقدمت الأمثلة لهذا النوع. ومثل قوله سبحانه: {يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كتبت بحذف الياء هكذا
يأت للدلالة على لغة هذيل.
(1/375)
الفائدة
السادسة:
حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال ولا يتكلوا على
هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة. وينضوي
تحت هذه الفائدة مزيتان إحداهما التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه
وحسن ترتيله وتجويده. فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من
المصحف مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته. فقد تخطئ المطبعة في الطبع
وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده كالقلقلة والإظهار والإخفاء
والإدغام والروم والإشمام ونحوها فضلا عن خفاء تطبيقها.
ولهذا قرر العلماء أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها. بل لا بد من
التثبت في الأداء والقراءة بالأخذ عن حافظ ثقة. وإن كنت في شك فقل لي
بربك: هل يستطيع المصحف وحده بأي رسم يكون أن يدل قارئا أيا كان على
النطق الصحيح بفواتح السور الكريمة؟ مثل {كهيعص، حم، عسق طسم} ؟ ومن
هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحانه {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا
عَلَى يُوسُفَ} من كلمة {لا تَأْمَنَّا} .
المزية الثانية اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك خاصة
من خواص هذه الأمة الإسلامية امتازت بها على سائر الأمم.
قال ابن حزم: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع
الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل. وأما مع الإرسال والإعضال
فيوجد في كثير من كتب اليهود ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد
صلى الله عليه وسلم. بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من
ثلاثين عصرا. إنما يبلغون إلى شمعون ونحوه. ثم قال: وأما النصارى فليس
عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق. وأما
(1/376)
النقل
المشتمل على طريق فيه كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود
والنصارى. وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا
صاحب نبي أو تابعي ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص.
ا هـ.
هل رسم المصحف توقيفي؟
للعلماء في رسم المصحف آراء ثلاثة:
الرأي الأول : أنه توقيفي لا تجوز مخالفته. وذلك مذهب الجمهور.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون الوحي وقد
كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم ومضى عهده صلى
الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل.
بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الدستور لكتاب الوحي في رسم
القرآن وكتابته. ومن ذلك قوله لمعاوية وهو من كتبة الوحي: "ألق الدواة
وحرف القلم وأنصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد
الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك" .
ثم جاء أبو بكر فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف ثم حذا حذوه عثمان في
خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف على تلك الكتبة وأقر أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وانتهى
الأمر بعد ذلك إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا
الرسم ولم ينقل أن أحدا منهم فكر أن يستبدل به رسما آخر من الرسوم التي
حدثت في عهد ازدهار التأليف ونشاط التدوين وتقدم العلوم. بل بقي الرسم
العثماني محترما متبعا في كتابة المصاحف لا يمس استقلاله ولا يباح
حماه.
وملخص هذا الدليل أن رسم المصاحف العثمانية ظفر بأمور كل واحد منها
يجعله
(1/377)
جديرا
بالتقدير ووجوب الاتباع. تلك الأمور هي إقرار الرسول صلى الله عليه
وسلم عليه وأمره بدستوره.
وإجماع الصحابة وكانوا أكثر من اثني عشر ألف صحابي عليه ثم إجماع الأمة
عليه بعد ذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين.
وأنت خبير بأن اتباع الرسول واجب فيما أمر به أو أقر عليه لقوله تعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والاهتداء بهدي الصحابة واجب
خصوصا الخلفاء الراشدين لحديث العرباض بن سارية وفيه يقول صلى الله
عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" ولا ريب أن إجماع الأمة
في أي عصر واجب الاتباع خصوصا العصر الأول. قال تعالى: {وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .
وممن حكى إجماع الأمة على ما كتب عثمان صاحب المقنع إذ يروي بإسناده
إلى مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقق عثمان رضي الله عنه المصاحف
فأعجبهم ذلك ولم يعبه أحد وكذلك يروي شارح العقيلة عن أنس بن مالك رضي
الله عنه أن عثمان أرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفا وأمرهم أن
يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أرسل إليهم. ولم يعرف أن أحدا خالف في رسم
هذه المصاحف العثمانية.
وانعقاد الإجماع على تلك المصطلحات في رسم المصحف دليل على أنه لا يجوز
العدول عنها إلى غيرها. ويرحم الله الإمام الخراز إذ يقول:
وبعده جرده الإمام ... في مصحف ليقتدي الأنام
ولا يكون بعده اضطراب ... وكان فيما قد رأى صواب
(1/378)
وقصة
اختلافهم شهيره ... كقصة اليمامة العسيره
فينبغي لأجل ذا أن نقتفي ... مرسوم ما أصله في المصحف
ونقتدي بفعله وما رأى ... في جعله لمن يخط ملجأ
أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني:
روى السخاوي بسنده أن مالكا رحمه الله سئل: أرأيت من استكتب مصحفا أترى
أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم. فقال: لا أرى ذلك ولكن
يكتب على الكتبة الأولى. قال السخاوي: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ
فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى ولا شك أن هذا هو
الأحرى بعد الأخرى. إذ في خلاف ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة
الأولى.
وقال أبو عمرو الداني: لا مخالف لمالك من علماء الأمة في ذلك. وقال أبو
عمرو الداني أيضا: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى
أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو: يعني
الألف والواو المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولوا.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو
ياء أو غير ذلك.
وجاء في حواشي المنهج في فقه الشافعية ما نصه: كلمة الربا تكتب بالواو
والألف كما جاء في الرسم العثماني ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف
لأن رسمه سنة متبعة.
وجاء في المحيط البرهاني في فقه الحنفية ما نصه: إنه ينبغي ألا يكتب
المصحف بغير الرسم العثماني.
(1/379)
وقال
العلامة نظام الدين النيسابوري ما نصه: وقال جماعة من الأئمة إن الواجب
على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف
فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب
وحيه.
وقال البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء
الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا
فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي أن نظن
بأنفسنا استدراكا عليهم ا هـ.
ويمكن مناقشة هذا الرأي الأول بأن الأدلة التي ساقوها لا تدل على تحريم
كتابة القرآن بغير هذا الرسم إذ ليس فيها زجر الإثم ووعيده ولا نهي
الحرام وتهديده. إنما قصاراها الدلالة على جواز الكتابة بالرسم
العثماني ووجاهته ودقته. وذلك محل اتفاق وتسليم.
الرأي الثاني:
أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي وعليه فتجوز مخالفته. وممن جنح إلى
هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته. وممن تحمس له القاضي أبو بكر في
الانتصار إذ يقول ما نصه:
وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا إذ لم يأخذ على كتاب
القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه إذ
وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف.
وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على
وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل
عليه ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية.
(1/380)
بل السنة
دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته. ولذلك
اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من
كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال.
ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول وأن يجعل
اللام على صورة الكاف وأن تعوج الألفات وأن يكتب على غير هذه الوجوه
وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين وجاز أن يكتب بالخطوط
والهجاء المحدثة وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة وكان
الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته وما هو
أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخذ في ذلك على
الناس حد محدود مخصوص كما أخذ عليهم في القراءة والأذان.
والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات
والعقود والرموز فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته
وتصويب الكاتب به على أي صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم
الحجة على دعواه. وأنى له ذلك؟ ا هـ بتلخيص.
ونوقش هذا المذهب:
أولا : بالأدلة التي ساقها جمهور العلماء لتأييد مذهبهم. وها هي بين
يديك عن كثب بعضها من السنة وبعضها من إجماع الصحابة والتابعين
وتابعيهم.
ثانيا : أن ما ادعاه من أنه ليس في نصوص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه
مردود بما سبق من إقرار الرسول كتاب الوحي على هذا الرسم ومنهم زيد بن
ثابت الذي كتب
(1/381)
المصحف
لأبي بكر وكتب المصاحف لعثمان والحديث الآنف وفيه يقول الرسول لمعاوية:
"ألق الدواة وحرف القلم" الخ. فإنه حجة على أنه صلى الله عليه وسلم كان
واضع دستور الرسم لهم.
ثالثا : أن قول القاضي أبي بكر: ولذلك اختلفت خطوط المصاحف الخ لا يسلم
له بعد قيام الإجماع وانعقاده ومعرفة الناس بالرسم التوقيفي وهو رسم
عثمان على ما قرروه هناك.
ونزيدك هنا ما ذكره العلامة ابن المبارك نقلا عن العارف بالله شيخه عبد
العزيز الدباغ إذ يقول في كتابه الإبريز ما نصه: رسم القرآن سر من
أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة قال ابن المبارك فقلت له: هل رسم
الواو بدل الألف في نحو "الصلاة، والزكاة، والحياة، ومشكاة". وزيادة
الواو في "سأوريكم، وأولئك، وأولاء، وأولات". وكالياء في نحو "هديهم،
وملائه، وبأبيكم، وبأييد". هذا كله صادر من النبي صلى الله عليه وسلم
أو من الصحابة؟ فقال: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي
أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا
على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن جماعة من
العلماء ترخصوا في أمر الرسم وقالوا: إنما هو اصطلاح من ا لصحابة مشوا
فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية. وإنما صدر ذلك من الصحابة
لأن قريشا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة وأهل الحيرة ينطقون بالواو في
الربا فكتبوا على وفق منطقهم. وأما قريش فإنهم ينطقون فيه بالألف
وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم وتقليد لهم حتى قال القاضي أبو بكر
الباقلاني: كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم
الحجة على دعواه فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما
يدل على ذلك؟. فقال:-
ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من
النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف
ونقصانها لأسرار
(1/382)
لا تهتدي
إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر
الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز وكيف تهتدي
العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة. وإلى سر زيادة الياء في
"بأييد وبأبيكم"؟ أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في "سعوا" بالحج
ونقصانها من "سعو" بسبأ؟ وإلى سر زيادتها في "عتوا" حيث كان ونقصانها
من "عتو" في الفرقان؟ وإلى سر زيادتها في "آمنوا" وإسقاطها من "باؤ،
جاؤ، تبوؤ فاؤ" بالبقرة؟ والى سر زيادتها في {يَعْفُوا الذي} ونقصانها
من {يَعْفُو عنهم} في النساء؟ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف
من كلمات متشابهة دون بعض كحذف الألف من "قرءانا" بيوسف والزخرف
وإثباتها في سائر المواضع؟ وإثبات الألف بعد واو "سموات" في فصلت
وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في "الميعاد" مطلقا وحذفها من الموضع
الذي في الأنفال وإثبات الألف في "سراجا" حيثما وقع وحذفه من موضع
الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض؟ فكل ذلك لأسرار
إلهية وأغراض نبوية. وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك
إلا بالفتح الرباني فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المتقطعة التي في أوائل
السور فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة. وأكثر الناس لا يهتدون إلى
أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها فكذلك أمر
الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف.
وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور فلا يخفى
ما في كلامه من البطلان لأن القرآن كتب في زمان النبي صلى الله عليه
وسلم وبين يديه. وحينئذ فلا يخلو ما اصطلح عليه الصحابة إما أن يكون هو
عين الهيئة أو غيرها فإن كان عينها
(1/383)
بطل
الاصطلاح لأن أسبقية النبي صلى الله عليه وسلم تنافي ذلك وتوجب
الاتباع. وإن كان غير ذلك فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم كتب على
هيئة كهيئة الرسم القياسي مثلا والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى
فلا يصح ذلك لوجهين: أحدهما نسبة الصحابة إلى المخالفة وذلك محال
ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز
زيادة حرف في القرآن ولا نقصان حرف منه. وما بين الدفتين كلام الله عز
وجل فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ألف الرحمن والعالمين مثلا
ولم يزد الألف في مائة ولا في ولأوضعوا ولا الياء في بأيد ونحو ذلك
والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم وحاشاهم من ذلك تصرفوا في
القرآن بالزيادة والنقصان ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل
لأحد فعله ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين لأنا مهما جوزنا أن
تكون فيه حروف ناقصة أو زائدة على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم
وعلى ما عنده وأنها ليست بوحي ولا من عند الله ولا نعلمها بعينها شككنا
في الجميع. ولئن جوزنا لصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا
أن نجوز لصاحبي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما وحينئذ تنحل
عروة الإسلام بالكلية.
ثم قال ابن المبارك بعد كلام.. فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيا بوحي
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن فلم لم ينقل تواترا
حتى ترتفع عنه الريبة وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن؟ فإنه ما من حرف
إلا وقد نقل تواترا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب. وأما الرسم فإنه
إنما نقل بالآحاد كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه. وما نقل بالآحاد وقع
الاضطراب بين النقلة في كثير منه. وكيف تضيع الأمة شيئا من الوحي؟.
فقال: ما ضيعت الأمة شيئا من الوحي والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظا
ورسما. فأهل العرفان والشهود والعيان حفظوا ألفاظه ورسمه ولم يضيعوا
منها شعرة واحدة وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر.
وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر واختلافهم
(1/384)
في بعض
حروف الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة كما لا يضر جهل العامة
بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه ا هـ.
الرأي الثالث:
يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز ابن
عبد السلام من أنه يجوز بل تجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على
الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم ولا تجوز كتابته لهم بالرسم
العثماني الأول لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن يجب في الوقت نفسه
المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا
الصالح فلا يهمل مراعاة لجهل الجاهلين بل يبقى في أيدي العارفين الذي
لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان في هذا المقام إذ يقول ما نصه:
وأما كتابته أي المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل
المشرق بناء على كونها أبعد من اللبس وتحاماه أهل المغرب بناء على قول
الإمام مالك وقد سئل. هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟
فقال: لا: إلا على الكتبة الأولى. قال في البرهان: قلت: وهذا كان في
الصدر الأول والعلم حي غض. وأما الآن فقد يخشى الالتباس ولهذا قال
الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم
الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن لا ينبغي
إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم. وشيء قد أحكمته
القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين. ولن تخلو الأرض من قائم لله
بحجة ا هـ.
أقول: وهذا الرأي يقوم على رعاية الاحتياط للقرآن من ناحيتين: ناحية
كتابته في كل عصر بالرسم المعروف فيه إبعادا للناس عن اللبس والخلط في
القرآن وناحية إبقاء
(1/385)
رسمه
الأول المأثور يقرؤه العارفون ومن لا يخشى عليهم الالتباس. ولا شك أن
الاحتياط مطلب ديني جليل خصوصا في جانب حماية التنزيل.
(1/386)
ج -
الشبهات التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه
الشبهة الأولى:
يقولون: روي عن عثمان أنه حين عرض عليه المصحف قال: أحسنتم وأجملتم إن
في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها.
ويقولون: روي عن عكرمة أنه قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد
فيها حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال:
ستعربها بألسنتها. لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه
هذه الحروف.
أورد أعداء الإسلام هاتين الروايتين وقالوا: إنهما طعنان صريحان في رسم
المصحف فكيف يكون مصحف عثمان وجمعه للقرآن موضع ثقة وإجماع من الصحابة؟
وكيف يكون توقيفيا؟ وهذا عثمان نفسه يقول بملء فيه: إن فيه لحنا.
ونجيب على هذه الشبهة أولا: بأن ما جاء في هاتين الروايتين ضعيف
الإسناد وأن فيهما اضطرابا وانقطاعا..
قال العلامة الألوسي في تفسيره: إن ذلك لم يصح عن عثمان أصلا ا هـ
ولعلك تلمح معي دليل سقوط هاتين الروايتين ماثلا فيهما
(1/386)
من جراء
هذا التناقض الظاهر بين وصفهما نساخ المصحف بأنهم أحسنوا وأجملوا
ووصفهما المصحف الذي نسخوه بأن فيه لحنا. وهل يقال للذين لحنوا في
المصحف: أحسنتم وأجملتم؟.
اللهم إلا إذا كان المراد معنى آخر.
ثانيا: أن المعروف عن عثمان في دقته وكمال ضبطه وتحريه يجعل صدور أمثال
هاتين الروايتين من المستحيل عليه. انظر إلى ما سبق من دستوره في جمع
القرآن. ثم انظر إلى ما أخرجه أبو عبيد عن عبد الرحمن بن هانئ مولى
عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبي
بن كعب فيها لم يتسن وفيها لا تبديل للخلق وفيها فأمهل الكافرين فدعا
بدواة فمحا أحد اللامين وكتب لخلق الله ومحا فأمهل وكتب فمهل وكتب لم
يتسنه فألحق فيها الهاء.
قال ابن الأنباري: فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه؟ وهو يوقف على
ما يكتب ويرفع الخلاف الواقع من الناسخين فيه فيحكم بالحق ويلزمهم
إثبات الصواب وتخليده ا هـ.
ثالثا: على فرض صحة ما ذكر يمكن أن نؤوله بما يتفق والصحيح المتواتر عن
عثمان من نسخ المصاحف وجمع القرآن ومن نهاية التثبت والدقة والضبط.
وذلك بأن يراد بكلمة لحنا في الروايتين المذكورتين قراءة ولغة. والمعنى
أن في القرآن ورسم مصحفه وجها في القراءة لا تلين به ألسنة العرب جميعا
ولكنها لا تلبث أن تلين به ألسنتهم جميعا بالمران وكثرة تلاوة القرآن
بهذا الوجه. وقد ضرب بعض أجلاء العلماء لذلك مثلا كلمة "الصراط" بالصاد
المبدلة من السين فتقرأ العرب بالصاد عملا بالرسم وبالسين عملا بالأصل.
(1/387)
الشبهة
الثانية:
يقولون: روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ}
ويقول هو من لحن الكتاب.
والجواب : على غرار ما سبق أي أن ابن جبير لا يريد بكلمة لحن الخطأ.
إنما يريد بها اللغة والوجه في القراءة على حد قوله تعالى:
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . والدليل على هذا التوجيه
أن سعيد بن جبير نفسه كان يقرأ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} فلو كان
يريد باللحن الخطأ ما رضي لنفسه هذه القراءة. وكيف يرضى ما يعتقد أنه
خطأ؟
وهذه الكلمة في آية من سورة النساء ونصها: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} فكلمة
{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} قرأها الجمهور بالياء منصوبا كما ترى.
وقرأها جماعة بالواو منهم أبو عمرو في رواية يونس وهارون عنه. ولكل من
القراءتين وجه صحيح فصيح في اللغة العربية فالنصب مخرج على المدح
والتقدير وأمدح المقيمين الصلاة. والرفع مخرج على العطف والمعطوف عليه
مرفوع كما ترى.
الشبهة الثالثة:
يقولون: ألا يكفي في الطعن على جمع القرآن ورسمه ما روي عن ابن عباس في
قوله تعالى. {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} أنه قال: إن الكاتب
أخطأ والصواب: حتى تستأذنوا.
(1/388)
ونجيب:
أولا : بما أجاب به أبو حيان إذ يقول ما نصه: إن من روي عن ابن عباس
أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك
القول ا هـ.
ثانيا : بما أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير
وابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر {تَسْتَأْنِسُوا} فقال: أي تستأذنوا
من يملك الإذن من أصحابها يعني أصحاب البيوت.
ثالثا : أن القراء لم يرووا غير قراءة {تَسْتَأْنِسُوا} فلو كان ذاك
النقل صحيحا عن ابن عباس لنقلوا عنه أنه قرأ تستأذنوا.
رابعا : إذا سلمنا للحاكم أن هذا الخبر صحيح عن ابن عباس فإننا نرده
برغم دعوى هذه الصحة لأنه معارض للقاطع المتواتر وهو قراءة
{تَسْتَأْنِسُوا} والقاعدة أن معارض القاطع ساقط وأن الرواية متى خالفت
رسم المصحف فهي شاذة لا يلتفت إليها ولا يعول عليها.
الشبهة الرابعة:
يقولون: ألا يكفي في الطعن على جمع القرآن ورسمه ما روي عن ابن عباس
أيضا أنه قرأ "أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس
جميعا". فقيل له: إنها في المصحف {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُوا} فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.
ونجيب : بأنه لم يصح ذلك عن ابن عباس. قال أبو حيان: بل هو قول ملحد
زنديق. وقال الزمخشري: ونحن ممن لا يصدق هذا في كتاب الله الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكيف يخفى هذا؟ حتى يبقى ثابتا
بين دفتي الإمام أي المصحف الإمام وهو مصحف عثمان وكان متقلبا بين أيدي
أولئك الأعلام المحتاطين
(1/389)
لدين الله
المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه خصوصا عن القانون الذي
إليه المرجع والقاعدة التي أقيم عليها البناء؟ هذا والله فرية ما فيها
مرية ا هـ. وقال الفراء: لا يتلى إلا كما أنزل: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} ا
هـ. وعلى ذلك تكون رواية ذلك في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس رواية
غير صحيحة. ومعنى {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} : أفلم يعلموا
قال القاسم بن معن: هي لغة هوازن. وجاء بها الشعر العربي في قول
القائل:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم1
أي ألم تعلموا.
الشبهة الخامسة:
يقولون: من وجوه الطعن أيضا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله
تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إنما هي
ووصى ربك التزقت الواو بالصاد وكان يقرأ: ووصى ربك ويقول: أمر ربك
إنهما واوان التصقت إحداهما بالصاد وروي عنه أنه قال: أنزل الله هذا
الحرف على لسان نبيكم. ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه. فلصقت إحدى
الواوين بالصاد فقرأ الناس: {وَقَضَى رَبُّكَ} ولو نزلت على القضاء ما
أشرك أحد.
ونجيب: عن ذلك كله أولا بما أجاب به ابن الأنباري إذ يقول: إن هذه
الروايات ضعيفة.
__________
1 قال في القاموس: زهدم كجعفر: فرس لعنترة, وفرس لبشر بن عمرو الرياحي-
إلى أن قال- والزهدمان أخوان من عبس: زهدم, وكردم.
(1/390)
ثانيا :
أن هذه الروايات معارضة للمتواتر القاطع وهو قراءة وقضى ومعارض القاطع
ساقط.
ثالثا : أن ابن عباس نفسه وقد استفاض عنه أنه قرأ: وقضى وذلك دليل على
أن ما نسب إليه في تلك الروايات من الدسائس الرخيصة التي لفقها أعداء
الإسلام. قال أبو حيان في البحر: والمتواتر هو {وَقَضَى} وهو المستفيض
عن ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه بمعنى
وصى ا هـ
إذن رواية وقضى هي التي انعقد الإجماع عليها من ابن عباس وابن مسعود
وغيرهما فلا يتعلق بأذيال مثل هذه الرواية الساقطة إلا ملحد ولا يرفع
عقيرته بها إلا عدو من أعداء الإسلام.
الشبهة السادسة:
يقولون: إن ابن عباس روي عنه أيضا أنه كان يقرأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً1} ويقول خذوا هذه الواو
واجعلوها في {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ} . وروي عنه أيضا أنه قال: انزعوا هذه الواو واجعلوها
في {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} .
ونجيب: أولا : بأن هذه الروايات ضعيفة؟ لم يصح شيء منها عن ابن عباس.
ثانيا : أنها معارضة للقراءة المتواترة المجمع عليها فهي ساقطة.
ثالثا : أن بلاغة القرآن قاضية بوجود الواو لا بحذفها لأن ابن عباس
نفسه فسر الفرقان في الآية المذكورة بالنصر وعليه يكون الضياء بمعنى
التوراة أو الشريعة. فالمقام للواو لأجل هذا التغاير.
__________
1 الآية في سورة الأنبياء- لكن اتصال الواو بكلمة {ضِيَاءً} . ونص
الآية الكريمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} .
(1/391)
الشبهة
السابعة:
يقولون: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}
أنه قال: هي خطأ من الكاتب. هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة.
إنما هي: مثل نور المؤمن كمشكاة.
ونجيب: أولا: بأنها رواية معارضة للقاطع المتواتر فهي ساقطة.
ثانيا: أنه لم ينقل عن أحد من القراء أن ابن عباس قرأ: مثل نور المؤمن
فكيف يقرأ رضي الله عنه بما يعتقد أنه خطأ ويترك ما يعتقد أنه صواب؟
ألا إنها كذبة مفضوحة ولو أنهم نسبوها لأبي بن كعب لكان الأمر أهون
لأنه روي في الشواذ أن أبي بن كعب قرأ: مثل نور المؤمن. والذي ينبغي أن
تحمل عليه هذه الروايات أن أبيا رضي الله عنه. أراد تفسير الضمير في
القراءة المعروفة المتواترة وهي مثل نوره. فهي روايات عنه في التفسير
لا في القراءة بدليل أنه كان يقرأ: {مَثَلُ نُورِهِ} .
دفع عام عن ابن عباس
كل ما روي عن ابن عباس في تلك الشبهات يمكن دفعه دفعا عاما بأن ابن
عباس قد أخذ القرآن عن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وهما كانا في جمع
المصاحف. وزيد بن ثابت كان في جمع أبي بكر أيضا. وكان كاتب الوحي وكان
يكتب ما يكتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره. وابن عباس كان
يعرف ذلك ويوقن به فمحال إذن أن ينطق لسانه بكلمة تحمل رائحة اعتراض
على جمع القرآن ورسم القرآن وإلا فكيف بأخذ عن زيد وابن كعب ثم يعترض
على جمعهما ورسمهما؟.
(1/392)
الشبهة
الثامنة:
يقولون: روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: سألت عائشة عن لحن
القرآن عن قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وعن قوله تعالى:
{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وعن قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ}
. فقالت: يا بن أخي هذا من عمل الكتاب قد أخطئوا في الكتاب. قال
السيوطي في هذا الخبر إسناده صحيح على شرط الشيخين. ويقولون أيضا: روي
عن أبي خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة فقال: جئت
أسألك عن آية في كتاب الله كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها؟ قالت: أية آية؟ قال: {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أو
"الّذِينَ يَأتُون مَا أَتوا". قالت: أيهما أحب إليك؟ قلت: والذي نفسي
بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا. قالت: أيهما؟ قلت: "الذين
يأتون ما أتوا". فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان
يقرؤها وكذلك أنزلت ولكن الهجاء حرف.
ونجيب: أولا: بأن هذه الروايات مهما يكن سندها صحيحا فإنها مخالفة
للمتواتر القاطع ومعارض القاطع ساقط مردود فلا يلتفت إليها ولا يعمل
بها.
ثانيا : أنه قد نص في كتاب إتحاف فضلاء البشر على أن لفظ هذان قد رسم
في المصحف من غير ألف ولا ياء ليحتمل وجوه القراءات الأربع فيها كما
شرحنا ذلك سابقا في فوائد رسم المصحف. وإذن فلا يعقل أن يقال أخطأ
الكاتب فإن الكاتب لم يكتب ألفا ولا ياء. ولو كان هناك خطأ تعتقده
عائشة ما كانت تنسبه للكاتب بل كانت تنسبه لمن يقرأ بتشديد إن وبالألف
لفظا في هذان. ولم ينقل عن عائشة ولا عن غيرها تخطئة من قرأ بما ذكر
وكيف تنكر هذه القراءة وهي متواترة مجمع عليها؟ بل هي قراءة الأكثر
ولها وجه فصيح في العربية لا يخفى على مثل عائشة. ذلك هو إلزام المثنى
الألف في جميع حالاته. وجاء منه قول الشاعر العربي:-
(1/393)
واها
لسلمى ثم واها واها ... يا ليت عيناها لنا وفاها
وموضع الخلخال من رجلاها ... بثمن يرضى به أباها
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
فبعيد عن عائشة أن تنكر تلك القراءة ولو جاء بها وحدها رسم المصحف.
ثالثا: أن ما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من تخطئة رسم المصحف في قوله
تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بالياء مردود بما ذكره أبو حيان في
البحر إذ يقول ما نصه: وذكر عن عائشة رضي الله عنها وعن أبان بن عثمان
أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف. ولا يصح ذلك عنهما لأنها عربيان
فصيحان وقطع النعوت مشهور في لسان العرب. وهو باب واسع ذكر عليه شواهد
سيبويه وغيره. وقال الزمخشري: لا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه خطأ في
خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب يريد كتاب سيبويه
ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان وخفي
عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل
كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في
كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحقهم.
رابعا: أن قراءة والصابئون بالواو لم ينقل عن عائشة أنها خطأت من يقرأ
بها ولم ينقل أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو. فلا يعقل أن تكون خطأت
من كتب بالواو.
خامسا: أن كلام عائشة في قوله تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} لا يفيد
إنكار هذه القراءة المتواترة المجمع عليها. بل قالت للسائل: أيهما أحب
إليك؟ ولا تحصر المسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قرأت هي
به. بل قالت: أنه مسموع ومنزل فقط.
(1/394)
وهذا لا
ينافي أن القراءة الأخرى مسموعة ومنزلة كتلك. خصوصا أنها متواترة عن
النبي صلى الله عليه وسلم. أما قولها: ولكن الهجاء حرف فكلمة حرف
مأخوذة من الحرف بمعنى القراءة واللغة والمعنى أن هذه القراءة
المتواترة التي رسم بها المصحف لغة ووجه من وجوه الأداء في القرآن
الكريم. ولا يصح أن تكون كلمة حرف في حديث عائشة مأخوذة من التحريف
الذي هو الخطأ وإلا كان حديثا معارضا للمتواتر ومعارض القاطع ساقط.
الشبهة التاسعة:
يقولون: روي عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه قال: قالوا لزيد يا أبا سعيد
أوهمت إنما هي ثمانية أزواج من الضأن اثنين1 اثنين ومن المعز اثنين
اثنين ومن الإبل اثنين اثنين ومن البقر اثنين اثنين. فقال: لا. إن الله
تعالى يقول: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}
فهما زوجان كل واحد منهما زوج. الذكر زوج والأنثى زوج ا هـ. قال أعداء
الإسلام: فهذه الرواية تدل على تصرف نساخ المصحف واختيارهم ما شاءوا في
كتابة القرآن ورسمه.
والجواب أن كلام زيد هذا لا يدل على ما زعموا. إنما يدل على أنه بيان
لوجه ما كتبه وقرأه سماعا وأخذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصرفا
وتشهيا من تلقاء نفسه.
وكيف يتصور هذا من الصحابة في القرآن وهم مضرب الأمثال في كمال ضبطهم
وتثبتهم في الكتاب والسنة. لا سيما زيد بن ثابت وقد عرفت فيما سبق من
هو زيد في حفظه
__________
1 يريدون آية سورة الأنعام ونصها: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ
الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ} الخ.
(1/395)
وأمانته
ودينه وورعه؟ وعرفت دستوره الدقيق الحكيم في كتابة الصحف والمصاحف فأنى
يؤفكون؟
الشبهة العاشرة:
يقولون: إن مروان هو الذي قرأ ملك يوم الدين من سورة الفاتحة بحذف
الألف من لفظ مالك. ويقولون: إنه حذفها من تلقاء نفسه دون أن يرد ذلك
عن النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يتواتر عنه قراءة ولفظا أو يصح
كتابة ورسما.
والجواب: أن هذا كذب فاضح أولا لأنه ليس لهم عليه حجة ولا سند.
ثانيا أن الدليل قام والتواتر تم والإجماع انعقد على أن النبي صلى الله
عليه وسلم قرأ لفظ مالك يوم الدين بإثبات الألف وحذفها وأخذ أصحابه عنه
ذلك. فممن قرأ بهما علي وابن مسعود وأبي بن كعب. وممن قرأ بالقصر أي
حذف الألف أبو الدرداء وابن عباس وابن عمر. وممن قرأ بالمد أي إثبات
الألف أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهؤلاء كلهم كانوا
قبل أن يكون مروان وقبل أن يولد مروان وقبل أن يقرأ مروان. وقصارى ما
في الأمر أن مروان اتفق أن روايته كانت القصر فقط. وذلك لا يضرنا في
شيء. كما اتفق أن رواية عمر بن عبد العزيز كانت المد فقط.
ثالثا أن كلمة مالك رسمت في المصحف العثماني هكذا ملك كما سبق.
خلاصة الدفاع:
والخلاصة أن تلك الشبهة وما ماثلها مدفوعة بالنصوص القاطعة والأدلة
الناصعة على أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثباته ورسمه ولم
ينسخه ناسخ في تلاوته وهو هذا الذي حواه مصحف عثمان بين الدفتين لم
ينقص منه شيء ولم يزد فيه شيء بل
(1/396)
إن ترتيبه
ونظمه كلاهما ثابت على ما نظمه الله سبحانه وتعالى ورتبه رسوله من آي
وسور. لم يقدم من ذلك مؤخر ولم يؤخر منه مقدم. وقد ضبطت الأمة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ترتيب آي كل سورة ومواقعها كما ضبطت منه نفس
القراءات وذات التلاوة على ما سبق وما سيجيء في الكلام على القراءات إن
شاء الله.
فليلاحظ دائما في الرد على أمثال تلك الشبهات أمران: أولهما: تلك
القاعدة الذهبية التي وضعها العلماء: وهي أن خبر الآحاد إذا عارض
القاطع سقط عن درجة الاعتبار وضرب به عرض الحائط مهما تكن درجة إسناده
من الصحة.
ثانيهما: خط الدفاع الذي أقمناه في المبحث الثامن حصنا حصينا دون النيل
من الصحابة واتهامهم بسوء الحفظ أو عدم التثبت والتحري خصوصا في كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
شبهة على التزام الرسم العثماني في هذا العصر:
يقولون: إن كثيرا من المتعلمين لا يحفظون القرآن ولا يحسنون قراءته في
المصحف لعدم معرفتهم الرسم العثماني. فلماذا نتقيد بهذا الرسم ولا نكتب
المصاحف اليوم باصطلاح الكتابة المعروف تسهيلا على الناشئة وتيسيرا على
الناس؟
والجواب: أولا: أن للعلماء آراء في ذلك بالجواز بل قال بعضهم وهو العز
بن عبد السلام بوجوب كتابة المصحف للعامة باصطلاح كتابتهم الحديث خشية
الالتباس كما يجب كتابته بالرسم العثماني محافظة على هذا التراث
العزيز. وقد سبق شرح آراء العلماء قريبا. وما هي منك ببعيد.
ثانيا: أن في الرسم العثماني مزايا وفوائد ذكرناها سابقا.
ثالثا: أن مذهب الجمهور قائم على أدلة متوافرة على وجوب التزام هذا
الرسم عندهم. وقد تقدمت تلك الأدلة أيضا.
(1/397)
رابعا: أن
مصطلح الخط والكتابة في عصرنا عرضة للتغيير والتبديل. ومن المبالغة في
قداسة القرآن حمايته من التغيير والتبديل في رسمه.
خامسا: أن إخضاع المصحف لمصطلحات الخط الحديثة ربما يجر إلى فتنة أشبه
بالفتنة التي حدثت أيام عثمان وحملته على أن يجمع القرآن. فربما يقول
بعض الناس لبعض أو بعض الشعوب لبعض عند اختلاف قواعدهم في رسم المصحف:
رسمي خير من رسمك أو مصحفي خير من مصحفك أو رسمي صواب ورسمك خطأ. وقد
يجر ذلك إلى أن يؤثم بعضهم بعضا أو يقاتل بعضهم بعضا.ومن المقرر أن درء
المفاسد مقدم على جلب المصالح.
سادسا: أن الرسم العثماني أشبه بالرسم العام الذي يجمع الأمة على كتابة
كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار كاللغة العربية فإنها اللسان العام
الذي يجمع الأمة على قراءة كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار. وما
يكون لنا أن نفرط في أمر هذا شأنه يجمع الشتات وينظم الأمة في سلك واحد
لا فرق بين ماض وحاضر وآت.
سابعا: أنه يمكن تسهيل القراءة على الناس بإذاعة القرآن كثيرا إذاعة
مضبوطة دقيقة وبإذاعة من التجويد في المدارس وفي أوساط المتعلمين
وأخيرا يمكن -كما قالت مجلة الأزهر- أن ننبه في ذيل كل صفحة من صفحات
المصحف على ما يكون فيها من الكلمات المخالفة للرسم المعروف والاصطلاح
المألوف. لا سيما أن رسم المصاحف العثمانية لا يخالف قواعدنا في الخط
والإملاء إلا قليلا وفي كلمات معدودة: أضف إلى ذلك أن الفرق بين
الرسمين لا يوقع القارئ اليقظ في لبس عند تأمله وإمعانه غالبا.
(1/398)
ولقد مرت
على الأمة أجيال وقرون وما شعرت بغضاضة في التزامها الرسم العثماني.
على أن المعول عليه أولا وقبل كل شيء هو التلقي من صدور الرجال.
وبالتلقي يذهب الغموض من الرسم كائنا ما كان. وليس بعد العيان بيان.
(1/399)
د -
المصاحف تفصيلا
لعلك لم تنس ما ذكرناه في المباحث السابقة عن نشأة المصاحف العثمانية
وكتابتها ورسمها وتحريق عثمان ما سواها من المصاحف الفردية التي كانت
لبعض الصحابة والتي كان يخالف بعضها بعضا على مقدار ما وصل إليه علم
الواحد منهم بأحرف القراءات وبما نسخ وما لم تنسخ تلاوته في العرضة
الأخيرة. ولأجل الإحاطة بما يتصل بالمصاحف العثمانية يجدر بنا أن نتحدث
عما يأتي:
الحروف السبعة في المصاحف العثمانية:
المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه كان مجموعها مشتملا على الحروف
السبعة التي نزل عليها القرآن كما بينا ذلك أو في بيان تحت عنوان خاص
في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف فارجع إليه إن شئت. ويؤيده هنا أن
هذه المصاحف نسخت من الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة.
ومن المتفق عليه أن هذه الصحف كتب فيها القرآن بحروفه السبعة التي نزل
عليها ولم يرد أن عثمان أمرهم أن يتركوا ستة أحرف منها ويبقوا حرفا
واحدا كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء. فلنستمسك بالمتفق عليه حتى يثبت
لدينا ما ينفيه. فما يكون لنا أن نترك اليقين للشك. ثم إن دفع الفتنة
وتوحيد الكلمة بين المسلمين لا يتوقف على ترك ستة
(1/399)
أحرف
وإبقاء حرف واحد من الأحرف التي نزل عليها القرآن بل إن الذي يدفع
الفتنة ويوحد الكلمة هو إقرار النازل كما نزل من تعدد حروفه إلى سبعة
رحمة بهذه الأمة. غاية ما يجب في هذا الباب هو إحاطة المسلمين علما
بهذه الحروف حتى يتركوا ما عداها ولا يعتمدوا سواها وحتى يعتمد كل منهم
صواب قراءة غيره ما دامت قراءته لا تتعداها. ومن هنا تجتمع كلمتهم
وتنطفئ فتنتهم على نمط ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتعلت
مثل هذه الفتنة بين بعض الصحابة فعالجهم بأن أفهمهم أن القرآن أنزل على
سبعة أحرف وقرر فيهم هذا المعنى وحكم بأن كلا من المختلفين على صواب في
قراءته وأنها هكذا أنزلت. وما كان لعثمان وجمهور الصحابة وجميع الأمة
أن يتركوا هدي الرسول في هذا وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه
وسلم.
بقي أن نفسر لك معنى قول عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم
أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم
ففعلوا فقد فهم بعضهم من هذه الجملة أن عثمان أمر أن يتركوا ستة أحرف
ويقتصروا في نسخ المصاحف على حرف قريش ولغتهم وحدهم. وهذا مردود بوجوه:
أحدها : أن اللفظ لا يؤدي ذلك المعنى.
ثانيها : أن القرآن فيه كلمات كثيرة من لغات قبائل أخرى وليست من لغة
قريش: انظر في ذلك ما قدمناه في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف أيضا
وما ذكره السيوطي في الإتقان في النوع السابع والثلاثين.
ثالثها: أن المصاحف العثمانية كانت مشتملة على الأحرف السبعة كما بينا
آنفا.
رابعها: أنه لم ينقل إلينا نقلا صحيحا صريحا أنهم تركوا من الأحرف
السبعة شيئا
(1/400)
فضلا عن
أن يتركوها ما عدا واحدا ولو فعلوا ذلك لنقل متواترا لأن هذا الأمر
الجلل مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره. وقصارى ما وصلنا من بعض
الطرق أنهم اختلفوا في كلمة التابوت في قوله تعالى في سورة البقرة:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الخ أيكتبونها بالتاء
المفتوحة أم بالهاء فأمرهم عثمان أن يكتبوها بالتاء المفتوحة لأنها
كذلك في لغة قريش.
وهذا يوضح لنا أن عثمان في كلمته تلك إنما يريد الاختلاف في الكتابة
والرسم لا في الألفاظ واللغات والحروف. أو يريد أن لغة قريش متوافر
فيها التواتر أكثر من غيرها فليأخذوا بها عند الاختلاف لهذا الغرض وحده
وهو التواتر الذي شرطوه في دستور كتابتهم وجمعهم. أضف إلى ذلك أن
المصاحف نقلت من الصحف التي جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن فيها
والتي ظفرت بالتواتر وإجماع الأمة كما قدمنا. فهل يرضى عثمان ويوافقه
الصحابة جميعا على أن يخرقوا هذا الإجماع ويعبثوا بذلك التواتر في أمر
جعل الله تعدد الوجوه والحروف فيه رحمة بالأمة إلى هذا اليوم؟ ذلك فهم
بعيد.
الصحف والمصاحف
قلنا: إن أبا بكر رضي الله عنه جمع القرآن في صحف وإن عثمان جمعه ونسخه
في مصاحف. والفرق بين الصحف والمصاحف في الأصل أن الصحف جمع صحيفة وهي
القطعة من الورق أو الجلد يكتب فيها.
أما المصحف فهو بزنة اسم المفعول من أصحفه أي جمع فيه الصحف. فكأن
المصحف ملحوظ في معناه اللغوي دفتاه وهما جانباه أو جلداه اللذان
يتخذان جامعا لأوراقه ضابطا لصحفه حافظا لها.
(1/401)
ولا يلحظ
هذا في معنى الصحف وإن كان يصح استعمال كلا اللفظين في كلا المعنيين
استعمالا متوسعا فيه.
هذا في أصل اللغة أما في الاصطلاح فالمراد بالصحف الأوراق المجردة التي
جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر وكانت سورا مرتبة آياتها فقط كل سورة
على حدة لكن لم يترتب بعضها إثر بعض. والمراد بالمصحف اصطلاحا الأوراق
التي جمع فيها القرآن مع ترتيب آياته وسوره جميعا على الوجه الذي أجمعت
عليه الأمة أيام عثمان رضي الله عنه. وقد أطلق بعضهم لفظ المصحف على
صحف أبي بكر وتوجيهه لا يخفى.
ولقد بقيت الصحف عند أبي بكر حتى حضرته الوفاة فدفعها إلى عمر لأنه وصى
له بالعهد ولما مات عمر انتقلت إلى ابنته أم المؤمنين حفصة بوصية من
عمر ثم طلبها عثمان ونسخ المصاحف منها وردها إليها وبقيت عندها حتى
توفيت رضي الله عنها.
وقد حضر جنازتها مروان والي المدينة وقتئذ ورغب إلى أخيها عبد الله بن
عمر أن يبعث إليه بالصحف فبعثها إليه وكان مروان قد طلبها من السيدة
حفصة من قبل فأبت رضي الله عنها. أخرج ابن أبي داود في رواية أن مروان
أحرق هذه الصحف؟ وفي رواية أنه غسلها وفي رواية شققها. ولا مانع من
الجمع بين هذه الروايات الثلاث بأنه غسلها أولا ثم شققها ثانيا ثم
أحرقها أخيرا مبالغة في التكريم والمحو كما روي أنه قال: إنما فعلت هذا
لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أي يظن
أن فيها ما يخالف المصاحف فإنها كانت صحفا منثورة لا تأخذ شكل المصاحف
المجموعة المنظومة.
عدد المصاحف
اختلفوا في عدد المصاحف التي استنسخها عثمان رضي الله عنه فصوب ابن
عاشر
(1/402)
أنها ستة:
المكي والشامي والبصري والكوفي والمدني العام الذي سيره عثمان رضي الله
عنه من محل نسخه إلى مقره والمدني الخاص به الذي حبسه لنفسه وهو المسمى
بالإمام. وقال صاحب زاد القراء: لما جمع عثمان القرآن في مصحف سماه
الإمام ونسخ منه مصاحف فأنفذ منها مصحفا إلى مكة ومصحفا إلى الكوفة
ومصحفا إلى البصرة ومصحفا إلى الشام وحبس مصحفا بالمدينة وهذا القول
كسابقه في أنها ستة وذهب السيوطي وابن حجر إلى أنها خمسة. ولعلمهما
أرادا بالخمسة ما عدا المصحف الإمام فيكون الخلاف لفظيا بينه وبين
سابقيه.
وقيل إنها ثمانية خمسة متفق عليها وهي الكوفي والبصري والشامي والمدني
العام والمدني الخاص وثلاثة مختلف فيها وهي المكي ومصحف البحرين ومصحف
اليمن. وقيل إن عثمان رضي الله عنه أنفذ إلى مصر مصحفا.
ولعل القول بأن عددها ستة هو أولى الأقوال بالقبول. والمفهوم على كل
حال أن عثمان رضي الله عنه قد استنسخ عددا من المصاحف يفي بحاجة الأمة
وجمع كلمتها وإطفاء فتنتها. ولا يتعلق بتعين العدد كبير غرض فيختلفوا
في هذا التعيين وما وسعتهم أدلة ذاك الاختلاف. والله تعالى أعلم
بالحقيقة.
كيف أنفذ عثمان المصاحف العثمانية؟
كان الاعتماد في نقل القرآن - ولا يزال- على التلقي من صدور الرجال ثقة
عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك اختار عثمان
حفاظا يثق بهم وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية واعتبر هذه المصاحف أصولا
ثواني مبالغة في الأمر وتوثيقا للقرآن ولجمع كلمة المسلمين. فكان يرسل
إلى كل إقليم مصحفه مع من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب روي أن عثمان
رضي الله عنه أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني وبعث عبد الله بن السائب
(1/403)
مع المكي
والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي وعامر بن
عبد القيس مع البصري. ثم نقل التابعون عن الصحابة فقرأ أهل كل مصر بما
في مصحفهم تلقيا عن الصحابة الذين تلقوه من فم النبي صلى الله عليه
وسلم فقاموا في ذلك مقام الصحابة الذين تلقوه من فم النبي صلى الله
عليه وسلم. ثم تفرغ قوم للقراءة والأخذ والضبط حتى صاروا في هذا الباب
أئمة يرحل إليهم ويؤخذ عنهم وأجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم واعتماد
روايتهم. ومن هنا نسبت القراءة إليهم وأجمعت الأمة - وهي معصومة من
الخطأ في إجماعها- على ما في هذه المصاحف وعلى ترك كل ما خالفها من
زيادة ونقص وإبدال لأنه لم يثبت عندهم ثبوتا متواترا أنه من القرآن.
أين المصاحف العثمانية الآن؟
وليس بين أيدينا دليل قاطع على وجود المصاحف العثمانية الآن فضلا عن
تعيين أمكنتها. وقصارى ما علمناه أخيرا أن ابن الجزري رأى في زمانه
مصحف أهل الشام ورأى في مصر مصحفا أيضا.
أما المصاحف الأثرية التي تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر ويقال
عنها إنها مصاحف عثمانية فإننا نشك كثيرا في صحة هذه النسبة إلى عثمان
رضي الله عنه لأن بها زركشة ونقوشا موضوعة كعلامات للفصل بين السور
ولبيان أعشار القرآن ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا
ومن النقط والشكل أيضا كما علمت.
نعم إن المصحف المحفوظ في خزانة الآثار بالمسجد الحسيني والمنسوب إلى
عثمان رضي الله عنه مكتوب بالخط الكوفي القديم مع تجويف حروفه وسعة
حجمه جدا. ورسمه يوافق رسم المصحف المدني أو الشامي حيث رسم فيه كلمة
من يرتدد من سورة المائدة بدالين اثنين
(1/404)
مع فك
الإدغام وهي فيها بهذا الرسم. فأكبر الظن أن هذا المصحف منقول من
المصاحف العثمانية على رسم بعضها. وكذلك المصحف المحفوظ بتلك الخزانة
ويقال إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتبه بخطه يلاحظ فيه أنه مكتوب
بذلك الخط الكوفي القديم. بيد أنه أصغر حجما وخطه أقل تجويفا من سابقه
ورسمه يوافق غير المدني والشامي من المصاحف العثمانية حيث رسمت فيه
الكلمة السابقة من يرتد بدال واحدة مع الإدغام وهي في غيرهما كذلك. فمن
الجائز أن يكون كاتبه عليا أو يكون قد أمر بكتابته في الكوفة.
ثم إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئا ما دام المعول
عليه هو النقل والتلقي ثقة عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله
عليه وسلم. وذلك متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن حتى الآن.
على أن المصاحف العثمانية نسخت على غرارها الآلاف المؤلفة في كل عصر
ومصر مع المحافظة على الرسم العثماني كما سيجيء إن شاء الله فاصبر
{وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
المصاحف في دور التجويد والتحسين:
كانت المصاحف العثمانية أشبه بماء نزل من السماء فأصاب أرضا خصبة صالحة
ولكنها ظامئة متعطشة. فما كاد يصل إليها الماء حتى اهتزت وربت وأنبتت
من كل زوج بهيج كذلك المصاحف الشريفة ما كاد عثمان يرسلها إلى الآفاق
الإسلامية حتى أقبلت عليها الأمة من كل صوب وحدب وحتى اجتمعت عليها
الكلمة في الشرق والغرب وحتى نسخت على غرارها آلاف مؤلفة من المصاحف
المقدسة في كل جيل وقبيل.
(1/405)
ومما يلفت
النظر أن يد التجويد والصقل والتحسين أخذت تتناول المصاحف على ألوان
شتى وضروب متنوعة فهناك تحسينات مادية أو شكلية ترجع إلى النسخ والطبع
والحجم والورق والتجليد والتذهيب ونحو ذلك. وهذه لا تعنينا كثيرا لأن
أمرها هين وإن كان فيها بعض التيسير أو التشويق إلى القرآن الكريم.
وهناك تحسينات معنوية أو جوهرية ترجع إلى تقريب نطق الحروف وتمييز
الكلمات وتحقيق الفروق بين المتشابهات عن طريق الإعجام والشكل ونحوهما.
وفي هذه نسوق الحديث.
الإعجام :
إعجام الكتاب: نقطه. قال في القاموس: أعجم فلان الكلام: ذهب به إلى
العجمة والكتاب: نقطه كعجمه وعجمه أي بتخفيف الجيم وتضعيفها.
والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطا وذلك للمعنى الذي أسلفناه
وهو بقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها.
بيد أن المؤرخين يختلفون فمنهم من يرى أن الإعجام كان معروفا قبل
الإسلام ولكن تركوه عمدا في المصاحف للمعنى السابق. ومنهم من يرى أن
النقط لم يعرف إلا من بعد على يد أبي الأسود الدؤلي.
وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في
عهد عبد الملك بن مروان إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت واختلط العرب
بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة وبدأ اللبس والإشكال في قراءة
المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز
بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة. هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم
للإنقاذ فأمر الحجاج أن يعنى بهذا الأمر الجلل وندب الحجاج - طاعة
لأمير المؤمنين- رجلين يعالجان هذا المشكل هما نصر بن عاصم الليثي
ويحيى بن يعمر العدواني. وكلاهما كفء قدير على ما ندب له,
(1/406)
إذ جمعا
بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة
القرآن. وقد اشتركا أيضا في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي.
ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف
الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة والتزما ألا تزيد النقط في
أي حرف على ثلاث. وشاع ذلك في الناس بعد فكان له أثره العظيم في إزالة
الإشكال واللبس عن المصحف الشريف.
وقيل إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي وإن ابن سيرين كان له
مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر. ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا
الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية ثم تبعه ابن سيرين وأن عبد
الملك أول من نقط المصحف ولكن بصفة رسمية عامة ذاعت وشاعت بين الناس
دفعا للبس والإشكال عنهم في قراءة القرآن.
شكل المصاحف:
شكل الكتاب في اللغة رديف لإعجامه. وقد عرفت أن الإعجام هو النقط. قال
صاحب القاموس ما نصه: . . والكتاب أي وشكل الكتاب: أعجمه كأشكله كأنه
أزال عنه الإشكال ا هـ. ثم شاع استعمال الشكل في خصوص ما يعرض للحروف
من حركة أو سكون. والمناسبة بين المعنيين ظاهرة لأن في كل منهما إزالة
لإشكال الحرف ودفعا للبس عنه.
واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون شكل
الحروف والكلمات فضلا عن أن يشكلوها. ذلك لأن سلامة لغتهم وصفاء
سليقتهم وذلاقة ألسنتهم
(1/407)
كل أولئك
كان يغنيهم عن الشكل. ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة منهم العجم الذي
لا يعرفون العربية بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل إن أبا
الأسود الدؤلي سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} . فقرأها بجر اللام من كلمة رسوله. فأفزع
هذا اللحن الشنيع أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله. ثم
ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له وقد أجبتك إلى ما سألت. وكان زياد قد
سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله فتباطأ في الجواب حتى
راعه هذا الحادث.
وهنا جد جده وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف
وجعل علامة الكسر نقطة أسفله وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف
وجعل علامة السكون نقطتين.
طفق الناس ينهجون منهجه ثم امتد الزمان بهم فبدؤوا يزيدون ويبتكرون حتى
جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو
وسطها على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة. ودامت الحال على هذا
حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى بنافذ بصيرته أن يميز ذوات الحروف من
بعضها وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط على نحو ما تقدم
تحت العنوان السابق. وهنالك اضطر أن يستبدل بالشكل الأول الذي هو النقط
شكلا جديدا هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة
والسكون. والذي اضطره إلى هذا الاستبدال أنه لو أبقى العلامات الأولى
على ما هي عليه نقطا ثم جاءت هذه الأخرى نقطا كذلك لتشابها واشتبه
الأمر. فميز بين الطائفتين بهذه الطريقة. ونعما فعل.
حكم نقط المصحف وشكله
كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله مبالغا منهم
في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف وخوفا من أن يؤدي ذلك إلى
التغيير فيه.
(1/408)
ومن ذلك
ما روي عن ابن مسعود أنه قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وما روي
عن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم إلى غير ذلك.
ولكن الزمان تغير- كما علمت- فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله
لنفس ذلك السبب أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف وخوفا من
أن يؤدي تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه.
فمعقول حينئذ أن يزول القول بكراهة ذينك الإعجام والشكل ويحل محله
القول بوجوب أو باستحباب الإعجام والشكل. لما هو مقرر من أن الحكم يدور
مع علته وجودا وعدما. قال النووي في كتابه التبيان ما نصه: قال
العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله فإنه صيانة من اللحن فيه. وأما كراهة
الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه.
وقد أمن ذلك اليوم فلا يمنع من ذلك لكونه محدثا فإنه من المحدثات
الحسنة فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات
وغير ذلك. والله أعلم ا هـ.
تجزئة القرآن:
كانت المصاحف العثمانية مجردة من التجزئة التي نذكرها كما كانت مجردة
من النقط والشكل. ولما امتد الزمان بالناس جعلوا يفتنون في المصاحف
وتجزئتها عدة تجزئات مختلفة الاعتبارات. فمنهم من قسم القرآن ثلاثين
قسما وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء بحيث لا يخطر بالبال عند
الإطلاق غيره حتى إذا قال قائل: قرأت جزءا من القرآن تبادر إلى الذهن
أنه قرأ جزءا من الثلاثين جزءا التي قسموا المصحف إليها. وجرى على ذلك
أصحاب الربعات إذ طبعوا كل جزء نسخة مستقلة ومجموع النسخ الجامعة
للقرآن كله يسمونه ربعة ويوجد من هذا القبيل أجزاء مستقلة بالطبع بأيدي
صغار التلاميذ في المدارس وغيرهم.
(1/409)
ومن الناس
من قسموا الجزء إلى حزبين ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء سموا كل
واحد منها ربعا.
ومن الناس من وضعوا كلمة خمس عند نهاية كل خمس آيات من السورة وكلمة
عشر عند نهاية كل عشر آيات منها فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا
كلمة خمس فإذا صارت هذه الخمس عشرا أعادوا كلمة عشر وهكذا دواليك إلى
آخر السورة.
وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس ويكتب في موضع
الأعشار رأس العين بدلا من كلمة عشر. وبعض الناس يرمز إلى رؤوس الآي
برقم عددها من السورة أو من غير رقم. وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان
ينوه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية إلى غير ذلك.
وللعلماء في ذلك كلام طويل بين الجواز بكراهة والجواز بلا كراهة ولكن
الخطب سهل على كل حال ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل وما دام الأمر
بعيدا عن اللبس والتزيد والدخيل. {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}
.
احترام المصحف:
ليس فيما نرى ونسمع كتاب أحيط بهالة من الإجلال والتقديس كالقرآن
الكريم. حتى لقد وصفه الحق جل شأنه بأنه كتاب مكنون وحكم بأنه لا يمسه
إلا المطهرون وأقسم على ذلك إذ يقول: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وحتى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو إذا خيف
وقوع المصحف في أيديهم.
والحديث مروي في الصحيحين.
(1/410)
وحتى أفتى
العلماء بكفر من رمى به في قاذورة وبحرمة من باعه لكافر ولو ذميا
وقالوا بوجوب الطهارة لمسه وحمله وكذلك ما يتصل به من خريطة وغلاف
وصندوق على الصحيح.
واستحبوا تحسين كتابته وإيضاحها وتحقيق حروفها.
قال النووي: ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه لأن القيام يستحب
للعلماء والأخيار فالمصحف أولى ا هـ.
رزقنا الله الأدب معه ومع كتابه ومع كافة من اصطفاهم من عباده آمين.
(1/411)
|