نواسخ القرآن ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي

الباب الأول باب بيان جواز النسخ والفرق بينه وبين البداء
اتفق جمهور علماء الأمم على جواز النسخ عقلا وشرعا، وانقسم اليهود في ذلك ثلاثة أقسام (1):
فالقسم الأول: قالوا: لا يجوز عقلا ولا شرعا، وزعموا أن النسخ هو عين البداء (2).
والقسم الثاني: قالوا: يجوز عقلا وإنما منع الشرع من ذلك، وزعموا أن موسى عليه السلام، قال: إن شريعته لا تنسخ من بعده، وإن ذلك في التوراة.
ومن هؤلاء من قال: لا يجوز النسخ إلا في موضع واحد، وهو أنه يجوز نسخ عبادة أمر الله بها بما هو أثقل على سبيل العقوبة لا غير (3).
والقسم الثالث: قالوا: يجوز شرعا لا عقلا، واختلف هؤلاء في عيسى ومحمد صلى الله عليهما، فمنهم من قال: لم يكونا نبيّين لأنهما لم يأتيا بمعجزة، وإنما أتيا بما هو من جنس الشعوذة. ومنهم من قال: كانا نبيين صادقين، غير أنهما لم يبعثا بنسخ شريعة موسى ولا بعثا إلى بني إسرائيل إنما بعثا إلى العرب والأميين (3).

فصل
وأما الدليل على جواز النسخ عقلا؛ فهو أن التكليف لا يخلو أن يكون
__________
(1) وممن أنكره أيضا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني المعتزلي، وانظر «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني (2/ 341) و «رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار» ص 84.
(2) وهذه الفرقة تسمى ب «الشمعونية» نسبة إلى شمعون بن يعقوب. انظر: «الأحكام» للآمدي (2/ 245) و «رسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار» لأبي إسحاق الجعبري (ص 85) و «أصول السرخسي» (2/ 54) و «نهاية الوصول في دراية الأصول» (6/ 2244، 2245) و «التحقيقات في شرح الورقات» لابن قاوان الشافعي (ص 359) و «نهاية السول في شرح منهاج الوصول» للإسنوي (1/ 587) و «إرشاد الفحول» للشوكاني (3/ 618) وغيرها من كتب الأصول.
(3) انظر المصادر السابقة.

(1/13)


موقوفا على مشيئة المكلف أو على مصلحة المكلف، فإن كان الأول؛ فلا يمتنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها.
وإن كان الثاني؛ فجائز أن تكون المصلحة للعباد في فعل عبادة زمان دون زمان. ويوضح هذا أنه قد جاز في العقل تكليف عبادة متناهية كصوم يوم، وهذا تكليف انقضى بانقضاء زمان، ثم قد ثبت أن الله تعالى ينقل من الفقر إلى الغنى ومن الصحة إلى السقم، ثم قد رتب الحر والبرد والليل والنهار وهو أعلم بالمصالح وله الحكم.

فصل
والدليل على جواز النسخ شرعا؛ أنه قد ثبت أن من دين آدم عليه السلام وطائفة من أولاده، جواز نكاح الأخوات وذوات المحارم والعمل في يوم السبت، ثم نسخ ذلك في شريعة موسى. وكذلك الشّحوم؛ كانت مباحة ثم حرّمت في دين موسى، فإن ادّعوا أن هذا ليس بنسخ؛ فقد خالفوا في اللفظ دون المعنى.
فصل
وأما قول من قال: لا يجوز النسخ إلا على وجه العقوبة فليس بشيء، لأنه إذا أجاز النسخ في الجملة جاز أن يكون للرفق بالمكلف، كما جاز للتشديد عليه.
فصل
وأما دعوى من ادّعى أن موسى عليه السلام أخبر أن شريعته لا تنسخ؛ فمحال. ويقال: إن ابن الراوندي (1) علّمهم أن يقولوا: إن موسى قال: لا نبيّ بعدي.
ويدل على ما قلنا؛ أنه لو صحّ قولهم لما ظهرت المعجزات على يد عيسى عليه السلام، لأن الله تعالى لا يصدق بالمعجزة من كذّب موسى، فإن أنكروا معجزة عيسى لزمهم ذلك في معجزة موسى، فإن اعترفوا ببعض معجزاته، لزمهم تكذيب من نقل عن موسى عليه السلام، لأنه قال: لا نبي بعدي. ومما يدلّ على كذبهم فيما ادّعوا؛ أن اليهود ما كانوا يحتجّون على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بكل شيء.
__________
(1) هو: أحمد بن يحيى بن إسحاق الريوندي، الملحد، صاحب التصانيف في الحطة على الملة، وله كتب في الإلحاد والزندقة، كان أبوه يهوديا فأسلم. هلك سنة ثمان وتسعين ومائتين (298).
أخباره في: «سير أعلام النبلاء» (14/ 59) و «المنتظم» لابن الجوزي (6/ 99 - 105) و «البداية والنهاية» (11/ 112) و «النجوم الزاهرة» (3/ 175 - 177) و «شذرات الذهب» (4/ 7).

(1/14)


وكان نبينا صلّى الله عليه وسلّم مصدّقا لموسى عليه السلام، وحكم عليهم بالرّجم عملا بما في شريعة موسى (1) فهلّا احتجّوا عليه بذلك، ولو احتجّوا لشاع نقل ذلك، فدل على أنه قول ابتدع بعد نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.

فصل
وأما قول من قال: إن عيسى ومحمدا عليهما السلام كانا نبيين لكنهما لم يبعثا إلى بني إسرائيل؛ فتغفيل من قائله، لأنه إذا أقرّ بنبوة نبيّ فقد أقرّ بصدقه، لأن النبي لا يكذب، وقد كان عيسى عليه السلام يخاطب بني إسرائيل، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم يقول: «بعثت إلى النّاس كافة» (2) ويكاتب ملوك الأعاجم.
فصل
فأما الفرق بين النسخ والبداء، فذلك من وجهين:
الأول: أن النسخ: تغيير عبادة أمر بها المكلّف، وقد علم الآمر حين الأمر أن لتكليف المكلف بها غاية ينتهي الإيجاب إليها ثم يرتفع بنسخها.
والبداء: أن ينتقل الأمر عن ما أمر به وأراده دائما بأمر حادث، لا بعلم سابق.
والثاني: أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحّة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالا على إفساد الموجب لصحّة الأمر الأول، مثل: أن يأمره بعمل يقصد به مطلوبا، فيتبين أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل، فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه، وكلا الأمرين يدل على قصور في العلم، والحق عزّ وجلّ منزّه عن ذلك (3).