نواسخ القرآن ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي ... الباب
الثالث باب بيان حقيقة النسخ
النسخ في اللغة على معنيين:
الأول: الرفع والإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا رفعت ظل
الغداة بطلوعها وخلفه ضوؤها. ومنه قوله تعالى: فَيَنْسَخُ
اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: 52].
والثاني: تصوير مثل المكتوب في محل آخر، يقولون نسخت الكتاب،
ومنه قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29].
وإذا أطلق النسخ في الشريعة أريد به المعنى الأول، لأنه رفع
الحكم الذي ثبت تكليفه للعباد إما بإسقاطه إلى غير بدل أو إلى
بدل.
__________
(1) أخرجه البخاري (4481، 5005) وأحمد (5/ 113) بلفظ: «عليّ
أقضانا، وأبيّ أقرؤنا، وإنا لندع كثيرا من لحن أبي، وأبي يقول:
سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا أدعه لشيء، والله
تبارك وتعالى يقول: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.
(1/17)
وقال شيخنا علي بن عبيد الله (1): الخطاب
في التكليف على ضربين: أمر ونهي، فالأمر استدعاء الفعل، والنهي
استدعاء الترك. واستدعاء الفعل يقع على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما يكون على سبيل الإلزام والانحتام، إما بكونه
فرضا أو واجبا. ونسخ ذلك يقع على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يخرج من الوجوب إلى المنع، مثل ما كان التوجه إلى
بيت المقدس واجبا ثم نسخ بالمنع منه (2).
والثاني: أن ينسخ من الوجوب إلى الاستحباب، مثل نسخ وجوب
الوضوء لكل صلاة إلى أن جعل مستحبا.
والثالث: أن ينسخ من الوجوب إلى الإباحة، مثل نسخ وجوب الوضوء
مما غيرت النار إلى الجواز، فصار الوضوء منه جائزا.
والضرب الثاني: استدعاء على سبيل الاستحباب، فهذا ينتقل إلى
ثلاثة أوجه أيضا:
الأول: أن ينتقل من الاستحباب إلى الوجوب، وذلك مثل الصوم في
رمضان كان مستحبا فإن تركه وافتدى جاز، ثم نسخ ذلك بانحتامه في
حق الصحيح المقيم.
والثاني: أن ينسخ من الاستحباب إلى التحريم، مثل: نسخ اللطف
بالمشركين وقول الحسنى لهم (3)، فإنه نسخ بالأمر بقتالهم (4).
__________
(1) هو: علي بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل بن
الزّاغوني البغدادي أبو الحسن. شيخ الحنابلة، صاحب التصانيف.
حدّث عنه السّلفي وابن ناصر الدين وابن عساكر وابن الجوزي،
وغيرهم. كان من بحور العلم وأهل التقوى والزهد. وفاته سنة سبع
وعشرين وخمسمائة (527).
ترجمته في: «سير أعلام النبلاء» (19/ 605)، «وشذرات الذهب» (6/
133).
(2) انظر «الواضح في أصول الفقه» لابن عقيل (1/ 251).
(3) وذلك في قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ .. [العنكبوت: 46].
(4) وذلك في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5].
وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29].
(1/18)
والثالث: أن ينسخ من الاستحباب إلى
الاباحة، مثل: نسخ استحباب الوصية للوالدين (1) بالإباحة (2).
والضرب الثالث: المباح؛ وقد اختلف العلماء هل هو مأمور به؟
والصحيح أنه مأذون فيه غير مأمور به (3)، ويجوز أن يدخله النسخ
عن وجه واحد وهو النسخ إلى التحريم، مثاله: أن الخمر مباحة ثم
حرمت.
وأما نسخ الإباحة إلى الكراهة؛ فلا يوجد، لأنه لا تناقض. فأما
انتقال المباح إلى كونه واجبا فليس بنسخ، لأن إيجاب المباح
إبقاء تكليف لا نسخ.
وأما القسم الثاني من الخطاب: وهو النهي فهو يقع على ضربين:
الأول: على سبيل التحريم؛ فهذا قد ينسخ بالإباحة، مثل تحريم
الأكل على الصائم في الليل بعد النوم والجماع.
والثاني: على سبيل الكراهة، لم يذكر له مثال.
فصل
فأما الأخبار فهي على ضربين:
الأول: ما كان لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الأمر كقوله تعالى:
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] فهذا لاحق
بخطاب التكليف في جواز النسخ عليه.
والثاني: الخبر الخالص، فلا يجوز عليه، لأنه يؤدي إلى الكذب
وذلك محال. وقد حكي جواز ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
والسّدّي، وليس بشيء يعوّل عليه. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا
القول عظيم جدا يؤول إلى الكفر لأن قائلا لو قال: قام فلان ثم
قال: لم يقم، فقال: نسخته لكان كاذبا.
وقال ابن عقيل (4): الأخبار لا يدخلها النسخ، لأن نسخ الأخبار
كذب،
__________
(1) في سورة البقرة، الآية رقم (180).
(2) في آيتي النساء: 11، 12.
(3) وهو قول الجمهور؛ انظر «إحكام الأحكام» للآمدي (1/ 177) و
«المستصفى» للغزالي (1/ 75) و «التحصيل من المحصول» للأرموي
(1/ 314 - 315) و «المحصول» للرازي (2/ 210) و «نهاية الوصول
في دراية الأصول» للأرموي الهندي (2/ 629) و «التحقيقات في شرح
الورقات» (ص 108).
(4) هو: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد
الطفري البغدادي الحنبلي. مولده ببغداد سنة إحدى وثلاثين
وأربعمائة (431).
من العلماء الكبار المحققين، برع في علم الأصول وشتى أنواع
الفنون، وزاحم أهل عصره، وكان له مكانة عالية بين العلماء.
(1/19)
وحوشي القرآن من ذلك (1).
فصل
وقد زعم قوم: أن المستثنى ناسخ لما استثني منه، وليس هذا بكلام
من يعرف ما يقول، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وليس
ذلك بنسخ، وكذلك التخصيص (2)، وقد يجوّزه بعض السلف؛ فيقول:
هذه الآية نسخت هذه الآية؛ أي: نزلت بنسختها. |