الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة الأنعام
{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ
ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ
تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَوَتِ وَفِى الأٌّرْضِ
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْءَايَةٍ مِّنْءَايَتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ
كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ
لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ
بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن
قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ مَا لَمْ
نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم
مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأٌّنْهَرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ
فَأَهْلَكْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ
قَرْناًءَاخَرِينَ * وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَباً فِى
قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَقَالُواْ
لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً
لَّقُضِىَ الأٌّمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَهُ
مَلَكاً لَّجَعَلْنَهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا
يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ
فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ
يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ ثُمَّ
انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ
السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَتِ وَالنُّورَ}
وقال الزمخشري {جعل} يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث
وأنشأ، كقوله: {جعل الظلمات والنور} وإلى مفعولين إذا كان
بمعنى صير كقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن
إناثاً} والفرق بين الخلق والجعل، أن الخلق فيه معنى التقدير
وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو
نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك { ... وجعل منها زوجها} {وجعل
الظلمات والنور} لأن الظلمات من الإجرام المتكاثفة والنور من
النار {وجعلناكم أزواجاً} أجعل الآلهة إلهاً واحداً؛ انتهى.
وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله: {وجعلوا الملائكة} لا
يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً، وإنما قال بعض النحويين: إنها
بمعنى سمى وقول الطبري {جعل} هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام
كما تقول: جعلت أفعل كذا فكأنه قال: وجعل إظلامها وإنارتها
تخليط، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر
وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد، فهما متباينان معنى
واستعمالاً.
{ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وقال ابن
عطية، ثم تدل على قبح فعل الذين كفروا وهذا الذي ذهب إليه ابن
عطية من أن {ثم} للتوبيخ، والزمخشري من أن {ثم} للاستبعاد ليس
بصحيح لأن {ثم} لم توضع لذلك، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد
مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول، ثم ولا أعلم أحداً من
النحويين ذكر ذلك بل {ثم} هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة
اسمية على جملة اسمية.
وقال الزمخشري (فإن قلت) : على م عطف قوله: {ثم الذين كفروا} .
(قلت) : إما على قوله: {الحمد لله} على عنى
أن الله حقيق بالحمد على ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة {ثم
الذين كفروا بربهم يعدلون} فيكفرون نعمه وإما على قوله {خلق
السموات والأرض} على معنى أنه خلق ما خلق، مما لا يقدر عليه
أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه؛ انتهى. وهذا
الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على
الصلة والمعطوف على الصلة صلة، فلو جعلت الجملة من قوله: {ثم
الذين كفروا} صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط
الصلة بالموصول، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن
الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر، فكأنه
قيل: {ثم الذين كفروا به يعدلون} وهذا من الندور، بحيث لا يقاس
عليه ولا يجمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب
الصحيح الفصيح.
{ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} وقال
الزمخشري: (فإن قلت) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب
تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله: {وأجل مسمى عنده} .
(قلت) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله: {ولعبد مؤمن
خير من مشرك} انتهى. وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة
لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ، لأنه يجوز أن
يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة، أن
يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وشق عندنا لم يحول
وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا
في موضع الصفة، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر.
وقال الزمخشري: (فإن قلت) : الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب
جيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك.
(قلت) : أوجبه أن المعنى وأي {أجل مسمى
عنده} تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب
التقديم؛ انتهى. وهذا لا يجز لأنه إذا كان التقدير وأي {أجل
مسمى عنده} كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي {أجل مسمى
عنده} ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها
وإبقاؤها، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز.
{وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَوَتِ وَفِى الأٌّرْضِ يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وقال أبو علي: {هو} ضمير الشأن
{والله} مبتدأ خبره ما بعده، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما
فر إلى هذه لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن، كان عائداً على الله
تعالى فيصير التقدير الله {والله} فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين
متحدين لفظاً ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية، وذلك لا يجوز
فلذلك والله أعلم تأول. أبو علي الآية على أن الضمير ضمير
الأمر {والله} خبره يعلم في {السماوات وفي الأرض} متعلق بيعلم
والتقدير الله يعلم {في السماوات وفي الأرض} {سركم وجهركم} .
ذهب الزجاج إلى أن قوله: {في السماوات} متعلق بما تضمنه اسم
الله من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق
والمغرب. قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها
إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى.
وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من
حيث المعنى، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن {في
السماوات} متعلق بلفظ {الله} لما تضمنه من المعاني ولا تعمل
تلك المعاني جميعها في اللفظ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل
فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها، وإن كان {في السماوات}
متعلقاً بها جميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يعمل في
المحرور ما تضمنه لفظ {الله} من معنى الألوهية وإن كان لفظ
{الله} علماً لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما
تضمنه من المعنى كما قال: أنا أبو المنهال بعض الأحيان. فبعض
منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض
الأحيان.
وقالت فرقة: {وهو الله} تم الكلام هنا. ثم استأنف ما بعده
وتعلق المجرور بـ {يعلم} وقالت فرقة: {وهو الله} تام و {في
السماوات وفي الأرض} متعلق بمفعول {يعلم} وهو {سركم وجهركم}
والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، وهذا يضعف
لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النجاس حيث
قال: هذا من أحسن ما قيل فيه، وقالت فرقة: هو ضمير الأمر والله
مرفوع على الابتداء وخبره {في السماوات} والجملة خبر عن ضمير
الأمر وتم الكلام. ثم استأنف فقال: {وفي الأرض يعلم سركم
وجهركم} أي: ويعلم في الأرض.
وقيل: يتعلق {في السماوات} بقوله: {تكسبون} هذا خطأ، لأن {ما}
موصولة بـ {تكسبون} وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى
الذي، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول. وقيل {في
السماوات} حال من المصدر الذي هو {سركم وجهركم} تقدم على ذي
الحال وعلى العامل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون {الله في
السماوات} خبراً بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات
والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما، لا يخفى عليه شيء منه كأن
ذاته فيها وهو ضعيف، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما
يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية.
وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف موقع قوله
{يعلم سركم وجهركم} (قلت) : إن أراد المتوحد بالإلهية كان
تقريراً له، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية، هو الله
وحده وكذلك إذا جعلت {في السماوات} خبراً بعد خبر وإلا فهو
كلام مبتدأ أو خبر ثالث، انتهى، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون
للمبتدأ أخباراً متعددة.
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْءَايَةٍ مِّنْءَايَتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ
كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} والجملة من قوله: {كانوا}
ومتعلقها في موضع الحال فيكون {تأتيهم} ماضي المعنى لقوله:
{كانوا} أو يكون {كانوا} مضارع المعنى لقوله: {تأتيهم} وذو
الحال هو الضمير في {تأتيهم} ، ولا يأتي ماضياً إلا بأحد شرطين
أحدهما: أن يسبقه فعل كما في هذا الآية، والثاني أن تدخل على
ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمراً.
{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ
يَسْتَهْزِءُونَ} والظاهر أن ما في قوله: {لما كانوا} موصولة
اسمية بمعنى الذي والضمير في {به} عائد عليها. وقال ابن عطية:
يصح أن تكون مصدرية التقدير {أنباء} كونهم مستهزئين فعلى هذا
يكون الضمير في {به} لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن {ما}
المصدرية اسم لا حرف، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية.
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ
مَّكَّنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ} و {يروا} هنا بمعنى يعلموا،
لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و {كم} في موضع المفعول
بـ {أهلكنا} و {يروا} معلقة والجملة في موضع مفعولها، و {من}
الأولى لابتداء الغاية و {من} الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها
واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله {من} الثانية بدلاً من
الأولى.
وأجاز أبو البقاء أن يكون {كم} هنا ظرفاً
وأن يكون مصدراً، أي: كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا؟
ومفعول {أهلكنا من قرن} على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز،
لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد، لو
قلت: كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً؟ لم يكن
مدلوله مدلول رجال، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو
المرات التي ضرب فيها رجل، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة
{من} لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام
المراد به النفي، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي.
والظاهر أن قوله {مكناهم} جواب لسؤال مقدر
كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: {مكناهم في الأرض} . وقال
أبو البقاء: {مكناهم} في موضع خبر صفة {قرن} وجمع على المعنى
وما قاله أبو البقاء ممكن، {وما} في قوله: {ما لم نمكن لكم}
جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين،
الذي {لم نمكن لكم} فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه، ويكون
الضمير العائد على {ما} محذوفاً أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا
يجوز، لأن {ما} بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وهن كان
مدلولها مدلول الذي، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف
لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز، فلو
قلت: الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة
لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم، وهذا أيضاً لا يجوز
لأن {ما} النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها، لو قلت: قمت ما أو
ضربت ما وأنت تريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز، وهذان
الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون {ما} مفعولاً
به بتمكن على المعنى، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم، وهذا
الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس، وأجاز أيضاً أن تكون {ما}
مصدرية والزمان محذوف أي مد {ما لم نمكن لكم} ويعني مدة انتفاء
التمكين لكم، وأجاز أيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية
بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم، وحذف العائد من الصفة على
الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه
وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام {مكنا ليوسف في الأرض}
{إنما مكنا له في الأرض} أو لم نمكن لهم.
{وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم
مَّدْرَاراً} و {السماء} السماء المظلة قالوا: لأن المطر ينزل
منها إلى السحاب، ويكون على حذف مضاف أي مطر {السماء} ويكون
{مدراراً} حالاً من ذلك المضاف المحذوف. وقيل: {السماء} المطر
وفي الحديث: «في أثر سماء كانت من الليل» ، وتقول العرب: ما
زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر وقال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رغيناه وإن كانوا غضبانا
{ومدراراً} على هذا حال من نفس {السماء} . وقيل: {السماء} هنا
السحاب ويوصف بالمدرار، فمدراراً حال منه.
{فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ
يَسْتَهْزِءُونَ} و {سخروا} استهزؤوا إلا أن استهزأ تعدّى
بالباء وسخر بمن كما قال: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما
تسخرون} وبالباء تقول: سخرت به وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي
ولم يتكرر في {ولقد استهزىء} فكان يكون التركيب، {فحاق بالذين}
استهزؤوا بهم لثقل استفعل، والظاهر في {ما} أن تكون بمعنى الذي
وجوّزوا أن تكون {ما} مصدرية، والظاهر أن الضمير في {منهم}
عائد على الرسل، أي {فحاق بالذين سخروا} من الرسل وجوز الحوفي
وأبو البقاء أن يكون عائداً على غير الرسل. قال الحوفي: في أمم
الرسل. وقال أبو البقاء: على المستهزئين، ويكون {منهم} حالاً
من ضمير الفاعل في {سخروا} وما قالاه وجوزاه ليس بجيد، أما قول
الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل، وأما
قول أبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى: {فحاق بالذين
سخروا} كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومة
من قوله {سخروا} وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال {ولقد
استهزىء} على أصل التقاء الساكنين. وقرأ باقي السبعة بالضم
اتباعاً ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن، وهو حاجز
غير حصين.
{قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَوَتِ
وَالأٌّرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ
الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
{ُقُل للَّهِ}
ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله.
{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ رَيْبَ
فِيهِ} وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة
الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرنا.
وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا: إنها تفسير للرحمة
تقديره: أن يجمعكم، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من
{الرحمة} وهو مثل قوله {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات
ليسجننه} المعنى أن يسجنوه، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون
الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال: وإنما تدخل في الأمر
والنهي وباختصاص من الواجب في القسم، انتهى. وهذا الذي ذكره لا
يحصر مواضع دخول نون التوكيد، ألا ترى دخولها في الشرط وليس
واحداً مما ذكر نحو قوله تعالى: {وإمّا ينزغنك} وكذلك قوله:
وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط
ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم
عليه، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل
ما ذكروه، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من
الإعراب، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً، فلأضربنّ لا موضع له
من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه، كانت جملة القسم
والمقسم عليه في موضع رفع.
{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ
لاَ يُؤْمِنُونَ} اختلف في إعراب {الذين} فقال الأخفش: هو بدل
من ضمير الخطاب في {ليجمعنكم} وردّه المبرد بأن البدل من ضمير
الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن
عطية. فقال: ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل
مترتبة من الثاني، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني،
وقوله::ّ {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال
{الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة
الوعيد، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، انتهى. وما ذكره ابن
عطية في هذا الردّ ليس بجيد، لأنه إذا جعلنا {ليجمعنكم} يصلح
لمخاطبة الناس كافة كان {الذين} بدل بعض من كل، ويحتاج إذ ذاك
إلى ضمير ويقدر {الذين خسروا أنفسهم} منهم وقوله فيفيدنا إبدال
{الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة
الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع
آخره لأنه من حيث الصلاحية، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص
الخطاب بهم يكون بدل كل من كل، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في
جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش، أنه يجوز ومذهب جمهور
البصريين أنه لا يجوز، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى
التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز، وهذا كله مقرر في علم النحو. وقال
الزجاج: {الذين} مرفوع على الابتداء والخبر قوله: {فهم لا
يؤمنون} ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل:
من يخسر نفسه فهو لا يؤمن، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة
جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون {الذين} منصوباً على
الذمّ أي: أريد {الذين خسروا أنفسهم} ؛ انتهى وتقديره بأريد
ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم باذم وأبعد من ذهب
إلى أن موضع {الذين} جر نعتاً للمكذبين أو بدلاً منهم.
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً
فَاطِرِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ
يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّى
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن
يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلاَ كَشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ
فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * قُلْ أَىُّ شَىْءٍ
أَكْبَرُ شَهَدةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لاٌّنذِرَكُمْ بِهِ
وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ
اللَّهِءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا
هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *
الَّذِينَءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ
فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِئَايَتِهِ إِنَّهُ لاَ
يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ
نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ *
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ
وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا
حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ
يُجَدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * وَهُمْ
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ
إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ
نُكَذِّبَ بِئَايَتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ
رُدُّواْ لَعَدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَذِبُونَ * وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ
قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا
كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً قَالُواْ يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ
سَآءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً
فَاطِرِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} وانتصاب غير على أنها مفعول
أول لاتخذ. وقرأ الجمهور {فاطر} فوجهه ابن عطية والزمخشري
ونقلها الحوفي على أنه نعت لله، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل
وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين
المنعوت والنعت، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل
وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية: أو
على الابتداء؛ انتهى. ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه
وقرىء شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على
إرادة التنوين أو بدل منه أو حال، والمعنى على هذا أأجعل {فاطر
السموات والأرض} غير الله، انتهى. والأحسن نصبه على المدح.
وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً.
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} أي وقيل لي والمعنى
أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية
على إضمار. وقيل لي: لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ {إني أمرت أن
أكون أول من أسلم} فيكون مندرجاً تحت لفظ {قل} إذ لو كان كذلك
لكان التركيب ولا أكون من المشركين. وقيل: هو معذوف على معمول
{قل} إذ لو كان كذلك لكان الترتيب ولا أكون من المشركين. وقيل:
هو معطوف على معمول {قل} حملاً على المعنى، والمعنى {قل إني}
قيل لي كن {أول من أسلم، ولا تكوننّ من المشركين} فهما جميعاً
محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول، وفيه معناه
فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على {قل} أمر بأن يقول
كذا ونهى عن كذا.
وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي. فقيل: هو شرط معترض لا
موضع له من الإعراب كالاعتراض بالقسم. وقيل: هو في موضع نصب
على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصياً ربي.
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمَهُ} قرأ حمزة وأبو بكر والكساني من يصرف مبنياً للفاعل
فمن مفعول به مقدم ويجوز أن يعرب {من} مبتدأ والضمير في {عنه}
عائد عليه، ومفعول {بصرف} محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية
قبل التقير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه، وعلى هذا
يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون {من} منصوباً بإضمار فعل
يفسره معنى {يصرف} ويجوز على إعراب {من} مبتدأ أن يكون المفعول
مذكوراً، وهو {يومئذ} على حذف أي هول يومئذ فينتصب {يومئذ}
انتصاب المفعول به. وقرأ باقي السبعة {من يصرف} مبنياً للمفعول
ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ
قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في
{يصرف} عائداً على {من} وفي {عنه} عائداً على العذاب أي أيّ
شخص يصرف عن العذاب، ويجوز أن يكون الضمير في {عنه} عائداً على
{من} ومفعول {يصرف} {يومئذ} وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في
موضع رفع بيصرف والتنوين في {يومئذ} تنوين عوض من جملة محذوفة
يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم، إذ يكونن الجزاء إذ لم
يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها، وتكلم
المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد
وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة {يصرف} مبنياً
للفاعل لتناسب {فقد رحمه} ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد
الله وأبي {من يصرف} الله ورجح الطبري قراءة {يصرف} مبنياً
للمفعول قال: لأنها أقل إضماراً. قال ابن عطية: وأما مكي بن
أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء
ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية: وهذا توجيه لفظي
يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛
انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين
المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا
العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى
الترجيح بين القراءات السبع. وقال: قال
ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم
أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام
الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا، أحمد بن يحيى كان عالماً
بالنحو واللغة متديناً ثقة.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} و {فوق} منصوب على الظرف
إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع
على أنه خبر ثان لهو وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال
كأنه قال: وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء،
وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع
بدلاً من القاهر.
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمَهُ} قرأ حمزة وأبو بكر والكساني من يصرف مبنياً للفاعل
فمن مفعول به مقدم ويجوز أن يعرب {من} مبتدأ والضمير في {عنه}
عائد عليه، ومفعول {بصرف} محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية
قبل التقير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه، وعلى هذا
يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون {من} منصوباً بإضمار فعل
يفسره معنى {يصرف} ويجوز على إعراب {من} مبتدأ أن يكون المفعول
مذكوراً، وهو {يومئذ} على حذف أي هول يومئذ فينتصب {يومئذ}
انتصاب المفعول به. وقرأ باقي السبعة {من يصرف} مبنياً للمفعول
ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ
قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في
{يصرف} عائداً على {من} وفي {عنه} عائداً على العذاب أي أيّ
شخص يصرف عن العذاب، ويجوز أن يكون الضمير في {عنه} عائداً على
{من} ومفعول {يصرف} {يومئذ} وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في
موضع رفع بيصرف والتنوين في {يومئذ} تنوين عوض من جملة محذوفة
يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم، إذ يكونن الجزاء إذ لم
يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها، وتكلم
المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد
وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة {يصرف} مبنياً
للفاعل لتناسب {فقد رحمه} ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد
الله وأبي {من يصرف} الله ورجح الطبري قراءة {يصرف} مبنياً
للمفعول قال: لأنها أقل إضماراً. قال ابن عطية: وأما مكي بن
أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء
ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية: وهذا توجيه لفظي
يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛
انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين
المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا
العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى
الترجيح بين القراءات السبع. وقال: قال
ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم
أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام
الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا، أحمد بن يحيى كان عالماً
بالنحو واللغة متديناً ثقة.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} و {فوق} منصوب على الظرف
إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع
على أنه خبر ثان لهو وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال
كأنه قال: وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء،
وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع
بدلاً من القاهر.
{قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} جملة من مبتدأ
وخبر.
{قل الله أكبر شهادة} وانتصب {شهادة} على التمييز. قال ابن
عطية: ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة
المشبهة باسم الفاعل؛ انتهى. وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه
على المفعول ولأن أفعل من لا يتشبه بالصفة المشبهة باسم
الفاعل، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة
باسم الفاعل لأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى
وتجمع، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة
فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل {أكبر} مشبهاً
بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولاً وهذا تخليط فاحش ولعله
يكون من الناسخ لا من المصنف.
{وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لاٌّنذِرَكُمْ بِهِ
وَمَن بَلَغَ} قرأ الجمهور {وأوحى} مبنياً للمفعول والقرآن
مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري {وأوحى}
مبنياً للفاعل و {القرآن} منصوب به.
والظاهر وهو قول الجمهور إن {من} في موضع نصب عطفاً على مفعول
{لأنذركم} والعائد على {من} ضمير منصوب محذوف وفاعل {بلغ} ضمير
يعود على {القرآن} .
وقالت فرقة: الفاعل بـ {بلغ} عائد على {من} لا على {القرآن} .
والمفعول محذوف والتقدير ومن بلغ الحلم،
ويحتمل أن يكون {من} في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في
{لأنذركم به} وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول
وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن.
{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِءَالِهَةً
أُخْرَى} وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة
المؤنثة، كقوله: {مآرب أخرى والأسماء الحسنى} ولما كانت الآلهة
حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى.
{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
أعرب الذين خسروا مبتدأ والخبر منهم لا يؤمنون.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ
أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ
تَزْعُمُونَ} قيل: {لوم} معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به
قاله ابن عطية وأبو البقاء. وقيل: المحذوف متأخر تقديره {ويوم
نحشرهم} كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في
التخويف قاله الزمخشري. وقيل: العامل انظر كيف كذبوا يوم
نحشرهم. وقيل: هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم.
وقيل: هو مطعوف على ظرف محذوف، والعامل فيه العامل في ذلك
الظرف والتقدير أنه لا يلفح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم
نحشرهم قاله الطبري.
وحذف مفعولاً {يزعمون} اختصاراً إذ دل ما قبله على حذفهما
والتقدير تزعمونهم شركاء، ويحسن أن يكون التقدير كما قال
بعضهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}
إنها تشفع لكم عند الله عز وجل.
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ
أَن قَالُواْ} وقرأ الجمهور {ثم لم تكن} وحمزة والكسائي بالياء
وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم، وطلحة وابن مطرف ثم
ما كان والابنان وحفص {فتنتهم} بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء،
و {فتنتهم} بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على
الأشهر قراءة ثم لم يكن {فتنتهم} بالياء بالنصب، لأن أن مع ما
بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما
دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما
دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى:
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا} {وما كان حجتهم إلا أن
قالوا} ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث
الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر، والفتنة
اسم يكن والخبر {إلا أن قالوا} جعل غير الأعرف الاسم والأعرف
الخبر ومن قرأ {ثم لم تكن} بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث
الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله، ومن قرأ {ثم لم تكن}
بالتاء {فتنتهم} بالنصب فالأحسن أن يقدر {إلا أن قالوا} مؤنثاً
أي {ثم لم تكن فتنتهم} إلا مقالتهم. وقيل: ساغ ذلك من حيث كان
الفتنة في المعنى. قال أبو علي: وهذا كقوله تعالى: {فله عشر
أمثالها} فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى. وقال
الزمخشري: وقرىء {تكن} بالتاء و {فتنتهم} بالنصب وإنما أتت {أن
قالوا} لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله: من كانت أمك؛ انتهى. وتقدم
لنا أن الأولى أن يقدر {أن قالوا} بمؤنث أي إلا مقالتهم. وكذا
قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام
أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من، لأن
من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع
وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى
أنه يجيء حيث لا خبر نحو ومنهم من يستمعون إليك. ونكن مثل من
يا ذئب يصطحبان. ومن تقنت في قراءة
التاء فليست أنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما
هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة
كانت أمك.
وقرأ الأخوان {والله ربنا} بنصب الباء على النداء أي يا ربنا،
وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه
إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت، وأجازوا فيه البدل
وعطف البيان.
{انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} الخطاب للرسول
عليه السلام والنظر قلبي و {كيف} منصوب بـ {كذبوا} والجملة في
موضع نصب بالنظر لأن {انظر} معلقة و {كذبوا} ماض وهو في أمر لم
يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي
فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ما قيل مصدرية
وقيل موصولة. والجملة عطف على كذبوا أو استئنافية.
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}
{وجعلنا} معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون
إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحال أي
وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة، في حد من قلبه في
كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى، فتتعلق
على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول
الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق، فيكون في موضع الحال لأنها في
موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدّمت صارت حالاًو {أن يفقهوه} في
موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه.
{حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَدِلُونَكَ
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ومجيء الجملة الشرطية {إذا} بعد
{حتى} كثير جدًّا في القرآن، وأوّل ما وقعت فيه قوله: {وابتلوا
اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة
لإذا ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط {حتى}
التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ، بل تكون تصلح أن
يقع بعدها المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى
زيداً ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوباً و
{حتى} إذا وقعت بعدها {إذا} يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل
أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا {جاؤوك يجادلونك}
يقول أو يكون التقدير {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي
آذانهم وقراً} أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن
يقولوا: {إن هذا إلا أساطير الأولين} في وقت مجيئهم مجادليك
لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط، وعلى هذين
المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى {حتى إذا}
وتركيب {حتى إذا} لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية
ونحو قوله: فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال: أقتلت، أو
كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام، نحو قوله: {آتوني زبر الحديا}
{حتى إذا} ساوى بين الصدقين قال: انفخوا حتى إذا جعله ناراً
التقدير فأتوه بها ووضعها بين الصدقين {حتى إذا} ساوى بينهما
قال: انفخوا فنفخه {حتى إذا} جعله ناراً بأمره وإذنه قال آتوني
أفرغ ولهذا قال الفراء {حتى إذا} لا بد أن يتقدمها كلام لفظاً
أو تقديراً، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتى مستوفاة
ودخولها على الشرط، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب
غيرهما. وقال الزمخشري: هنا هي {حتى} التي تقع بعدها الجمل
والجملة قوله: {إذا جاؤوك يقول الذين كفروا ويجادلونك} في موضع
الحال؛ انتهى. وهذا موافق لما ذكرناه، ثم قال: ويجوز أن تكون
الجارة ويكون {إذا جاؤوك} في
محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و
{يجادلونك} حال.
وما جوّزه الزمخشري في {إذا} بعد {حتى} من كونها مجرورة أوجبه
ابن مالك في التسهيل، فزعم أن {إذا} تجز بـ {بحتى} . قال في
التسهيل: وقد تفارقها، يعني {إذا} الظرفية مفعولاً بها ومجرورة
بـ {بحتى} أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجزيزه أن تكون
{إذا} مجرورة بـ {بحتى} ، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر
قولاً غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل،
وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك
فقال هنا أبو البقاء {حتى إذا} في موضع نصب لجوابها وهو {يقول}
وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية، كما لا تعمل في
الجمل و {يجادلونك} حال من ضمير الفاعل في {جاؤوك} وهو العامل
في الحال، يقول جواب {إذا} وهو العامل في إذا؛ انتهى.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وفي قوله:
{ينهون وينأون} تجنيس التصريف وهو أن يتنفرد كل كلمة عن الأخرى
بحرف فينهون انفردت بالها {وينأون} انفردت بالهمزة ومنه وهم
يحسبون أنهم يحسنون ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها
الخير، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحرف وهو أن يكون الحرف
فرقاً بين الكلمتين. وأنشد عليه:
إن لم أشن على ابن هند غارة
لنهاب مال أو ذهاب نفوس
وذكر غيره أن تجنيس التحريف، هو أن يكون الشكل فرقاً بين
الكلمتين كقول بعض العرب: وقد مات له ولد اللهم أني مسلم
ومسلم. وقال بعض العرب: اللهي تفتح اللهى.
{وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} إن نافية.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} وجواب {لو}
محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً شنيعاً وهولاً
عظيماً وحذف جواب {لو} لدلالة الكلام عليه جائز فصيح ومنه {ولو
أن قرآناً سيرت به الجبال} الآية. وقول الشاعر:
وجدّك لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه و
{نرى} مضارع معناه الماضي أي: ولو رأيت فإذ باقية على كونها
ظرفاً ماضياً معمولاً لترى وأبرز هذا في صورة المضي وإن كان لم
يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي، والظاهر أن
الرؤية هنا بصرية وجوزوا أن تكون من رؤية القلب.
ومعمول {ترى} محذوف تقديره {ولو ترى} حالهم {إذ} وقفوا.
وقيل: {ترى} باقية على الاستقبال و {إذ} معناه إذا فهو ظرف
مستقبل فتكون {لو} هنا استعملت استعمال أن الشرطية، وألجأ من
ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد.
{فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ
نُكَذِّبَ بِئَايَتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص {ولا نكذب} {ونكون} بالنصب فيهما وهذا
النصب عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من
أن المضمرة، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم
مقدر من الجملة السابقة والتقدير {يا ليتنا} يكون لنا رد
وانتفاء تكذيب وكون {من المؤمنين} وكثيراً ما يوجد في كتب
النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال
الزمخشري {ولا نكذب ونكون} بالنصب بإضمار أن على جواب التمني
ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن {من المؤمنين} انتهى، وليس كما
ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب، لأن الواو لا
تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط
وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم
قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي
المعية، ويميزها من الفاء، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها
وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها
الفاء فتوهم أنها جواب. وقال سيبويه: والواو تنصب ما بعدها في
غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى
الفاء مختلفان ألا ترى. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. لو أدخلت
الفاء هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان
وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى
انتهى كلام سيبويه ملخصاً. وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب
انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما
قبلها لما فيه من معنى الشرط، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت
الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى
متمناة على سبيل الجمع بينا لا أن كل واحد متمني وحده إذ
التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون
من المؤمنين. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر
في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن
عامر {ولا نكذب} بالرفع {ونكون} بالنصب ويتوجه ذلك على ما
تقدم؛ انتهى. وكان قد قدم أن رفع {ولا نكذب ونكون} في قراءة
باقي السبعة على وجهين أحدهما: العطف على {نرد} فيكونان داخلين
في التمني. والثاني الاستئناف والقطع، فهذان الوجهان يسوغان في
رفع {ولا نكذب} على هذه القراءة وف مصحف عبد الله فلا نكذب
بالفاء وفي قراءة أبي فلا {نكذب بآيات ربنا أبداً ونكون} .
وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن {نكون من المؤمنين} وجوزوا
في رفع {ولا نكذب ونكون} أن يكون في موضع نصب على الحال فتلخص
في الرّفع ثلاثة أوجه.
أحدها: أن يكون معطوفاً على {نرد} فيكون انتفاء التكذيب والكون
من المؤمنين داخلينن في التمني أي وليتنا لا نكذب، وليتنا نكون
من المؤمنينن، ويكون هذا الرفع مساوياً في هذا الوجه للنصب لأن
في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه، ففي النصب على مصدر من الرد
متوهم وفي الرّفع على نفس الفعل.
والثاني من وجوه الرّفع أن يكون رفع {ولا نكذب ونكون} على
الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجاً تحت القول أي
قالوا: يا ليتنا نرد وقالوا: نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال. فيصح على هذا
تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله:
دعني ولا أعود، بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني.
والثالث من وجوه الرّفع: أن يكون {ولا نكذب
ونكون} في موضع نصب على الحال، التقدير يا ليتنا نرد غير
مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيكون داخلاً قيداً في الرد
المتمني وصاحب الحال هو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله
{وإنهم لكاذبون} بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب {ولا نكذب
ونكون} إذا كانا معطوفين على نرد. وحكي أن بعض القراء قرأ {ولا
نكذب} بالنصب {ونكون} بالرفع فالنصب عطف على مصدر متوهم والرفع
في {ونكون} عطف على {نرد} أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف
فيه الحال لأنه مضارع مثبت فلا يكون حالاً بالواو إلا على
تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت، وأرهنهم مالكاً.
والأصح أن {يا} في قوله {يا ليت} حرف تنبيه لا حرف نداء
والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذف متعلقة رأساً
وذلك إجحاف كثير.
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} {بل}
هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق،
وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان ما بعدها من إخبار الله
تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم، تكون فيه للإضراب كقوله:
{بل افتراه بل هو شاعر} .
{وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} قال
الزمخشري ـــ معطوفة على لعادوا ـــ ويجوز العطف على وأنهم
لكاذبون.
وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن
المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر، أي
لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره
الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا، هكذا قال
بعض أصحابنا إنه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل
الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمي المجرور برب نحو
ربه رجلاً أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم
رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني
وضربت الزيدين، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت
به زيد قال: أو جعل خبره ومثله بقوله: {إن هي إلا حياتنا
الدنيا} التقديران الحياة إلا حياتنا الدنيا، فإظهار الخبر يدل
عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير
الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد
قائم خلالاً لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه
المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله: {حياتنا} .
{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية
التقدير {إذ وقفوا على ربهم} قائلاً لهم {أليس هذا بالحق} .
{حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ
يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا} وجوزوا في انتصاب {بغتة}
أن يكون مصدراً في موضع الحال من {الساعة} أي باغتة أو من
مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل
حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم
بغتة وما مصدرية وقيل موصولة.
{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} والواو في {وهم} واو الحال
وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو
الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى.
{أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} {ساء} هنا
تحتمل وجوهاً ثلاثة. أحدها: أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها
فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون، وتحتمل {ما} على
هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي، فتكون فاعلة ويحتمل أن
تكون {ما} مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا
ساءهم وزرهم. والوجه الثاني: أنها حوّلت إلى فعل بضم العين
وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما
أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما. والثالث: أنها أيضاً حوّلت
إلى فعل بضم العين، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية
لبئس في المعنى والأحكام، ويكون إطلاق الذي سبق في {ما} في
قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} جارياً فيها هنا، والفرق بين
هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما
يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ
وخبر، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين
والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر، وإن الكلام فيه
خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب فقط فقال: ساء ما
يزرون بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله: {ساء مثلاً القوم} ، وذكر
ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن {ساء} متعدية و
{ما} فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد. قال
كقول الشاعر:
رضيت خطة خسف غير طائلة
فساء هذا رضا يا قيس عيلانا
ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد؛ بل
يحتمل قوله: فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة.
{وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
يَتَّقُونَ} واللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل يقال: لهيت
عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي، فقال هذا: فيه ضعف
وبعد لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان ولام
الأول واو؛ انتهى. وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات
الواو تنقلب فيه الواو ياء كما تقول: شقي فلان وهو من الشقوة
فكذلك لهي، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياء لكسرة ما
قبلها فقالوا: لهي كما قالوا: خلى بعيني وهو من الحلو وأما
استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأن التثنية هي كالفعل
تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في
المفرد في قولهم: له اسم فاعل من لهي كما قالوا: شج وهو من
الشجو، وقالوا في تثنيته: شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من
هذا في المفردات. وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على
الإضافة، وقالوا: هو كقولهم: مسجد الجامع فقيل هو من إضافة
الموصوف إلى صفته. وقال الفراء: هي إضافة الشيء إلى نفسه
كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند
اختلاف اللفظين؛ انتهى. وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة
مقامه أي ولدار الحياة الآخرة، ويدل عليه وما الحياة الدنيا
وهذا قول البصريين، وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال
الأسماء فوليت العوامل كقوله {وإن لنا للآخرة والأولى} وقوله
{وللآخرة خير لك من الأولى} . وقرأ باقي السبعة {وللدار
الآخرة} بتعريف الدار بأل ورفع {الآخرة} نعتاً لها و {خير} هنا
أفعل التفضيلوحسن حذف المفضل عله لوقوعه خبراً والتقدير من
الحياة الدنيا، وقيل: {خير} هنا ليست للتفضيل وإنما هي كقوله:
{أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} إذ لا اشتراك بين المؤمن
والكافر في أصل الخير، فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن.
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّلِمِينَ بِئَايَتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا
كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ
مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ
الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ
فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأٌّرْضِ أَوْ
سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ وَلَوْ
شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ
مِنَ الْجَهِلِينَ} .
{قد} حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من
المتكلم كقولك: قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضياً أو
فعل حال بمعنى المضي فالتوقع كان عند السامع، وأما المتكلم فهو
موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذ المراد الاتصاف بالعلم
واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان؛ كقولهم: هو يعطي ويمنع. وقال
الزمخشري والتبريزي: قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة
الفعل وكثرته نحو قوله: ولكنه قد يهلك المال نائله؛ انتهى. وما
ذكره من أن قد تأتي للتكثير في الفعل والزيادة قول غير مشهور
للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلاً بقول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرًّا أنامله
كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصاد
وبقوله:
أخي ثقةٍ لا يتلف الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
والذي نقوله: إن التكثير لم يفهم من {قد}
وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن
واحد ولا بالكرم مرّة واحدة، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى
تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك، في
قوله: {قد نعلم} لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير،
وقوله: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته، والمشهور أن
ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها
الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها، ألا ترى أنها في
كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا
لعل عن الترجّي. قال بعض أصحابنا: فذكر بما في التقليل والصرف
إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال: هذا ظاهر قول
سيبويه، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى
المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله {قد نعلم إنه
ليحزنك} وقوله {لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم}
وقول الشاعر:
وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّه
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قوله: {قد نرى
تقلب وجهك} انتهى. وقال مكي: {قد} هنا وشبهه تأتي لتأتي لتأكيد
الشيء وإيجابه وتصديقه ونعلم بمعنى علمنا. وقال ابن أبي الفضل
في ري الظمآن: كلمة {قد} تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال
وتأتي للتقليل؛ انتهى، نحو قولهم: إن الكذوب قد يصدق وإن
الجبان قد يشجع والضمير في {أنه} ضمير الشأن، والجملة بعده
مفسرة له في موضع خبران ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه
ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير
الشأن مفرداً وذلك لا يجوز عند البصريين.
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ
فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَهُمْ
نَصْرُنَا} وما مصدرية ويحتمل {وأوذوا} أن يكون معطوفاً على
قله: {كذبت} ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله {فصبروا} ويبعد
أن يكون معطوفاً على {كذبوا} ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم
وإيذائهم.
{وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} والفاعل بجا.
قال الفارسي: هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين،
ويضعف هذا لزيادة من في الواجب. وقيل: معرفة وهذا لا يجوز إلا
على مذهب الأخفش، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض
نبأهم لا أنباؤهم، لقوله {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص
عليك} . وقال الرماني: فاعل جاءك مضمر تقديره: ولقد جاءك نبأ.
وقال ابن عطية: الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان، وتمام هذا
القول والذي قبله أن التقدير: ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي
نبأ أو بيان، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا
محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمر
تقديره هو و {من نبإ} في موضع الحال، وذوا لحال ذلك المضمر
والعامل فيها وفيه {جاءك} .
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ} وكان فيها ضمير الشأن، والجملة المصدرة بكبر
عليك إعراضهم في موضع خبر كان وفي ذلك دليل على أن خبر كان
وأخواتها يكون ماضياً ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد، لكثرة ما
ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب خلافاً لمن زعم أنه لا بدّ
فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافاً لمن حصر ذلك بكان دون
أخواتها، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعاً بكبر
كما في القول الأول وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض وهو في
موضع الخبر وهي مسألة خلاف، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى
عليه وتقديره فافعل كما تقول: إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره،
أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو المضارع المنفيّ
بلم لأنه ماض، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر.
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِءَايَةٌ
مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ
ءايَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا مِن
دَآبَّةٍ فِى الأٌّرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ
إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن
شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالَّذِينَ
كَذَّبُواْ بِئْايَتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَتِ مَن
يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى
صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَكُمْ
عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ
تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلْ إِيَّهُ تَدْعُونَ
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا
تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ
فَأَخَذْنَهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا
تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا
ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ
حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَهُمْ بَغْتَةً
فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ *
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ
وَأَبْصَرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الأٌّيَتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ
يُهْلَكُ
إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّلِمُونَ * وَمَا
نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
فَمَنْءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا
يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * قُل لاَّ
أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأٌّعْمَى
وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ
لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ
مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ
مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّلِمِينَ} .
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} والموتى يبعثهم الله قيل جملة اسمية من
مبتدأ وخبر.
وقيل ليس جملة بل الموتى معطوف على الذين يسمعون، ويبعثهم الله
جملة حالية.
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأٌّرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ} وقرأ ابن أبي عبلة {ولا طائر} بالرفع، عطفاً
على موضع {دابة} . وجوزوا أن يكون {في الأرض} في موضع رفع صفة
على موضع {دابة} ، وكذلك يقتضي أن يكون {يطير} ويتعين ذلك في
قراءة ابن أبي عبلة، والباء في {بجناحيه} للاستعانة كقوله:
«كتبت بالقلم» و {إلا أمم} هو خبر المبتدأ الذي هو {من دابة
ولا طائر} وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى
لأن المفرد هنا للاستغراق.
{مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىْءٍ}
والتفريط التقصير فحقه أن يتعدى بفي كقوله {على ما فرطت في جنب
الله} وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون
{من شيء} في موضع المفعول به و {من} زائدة، والمعنى: ما تركنا
وما أغفلنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الإلهية
والتكاليف، ويبعد جعل من هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما
فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف، وإن قاله بعضهم.
وجعل أبو البقاء هنا من شيء واقعاً موقع المصدر، أي تفريطاً.
{من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} مفعول
{يشأ} محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله {يضلله} ومن يشأ هدايته
{يجعله} ولا يجوز في من فيهما أن يكون مفعولاً بيشأ للتعاند
الحاصل بين المشيئتين، (فإن قلت) : يكون مفعولاً بيشأ على حذف
مضاف تقديره إضلال من يشاء الله وهداية من يشاء الله، فحذف
وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول. فالجواب: أن
ذلك لا يجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط
غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير
يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه، والضمير في {يضلله} إما أن
يكون عائداً على إضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على
إضلال فيكون كقوله {يغشاه موج من فوقه} إذ الهاء تعود على ذي
المحذوفة من قوله: أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه
يصير التقدير إضلال {من يشأ الله يضلله} أي يضلل الإضلال وهذا
لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلوا
الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اشم الشرط وذلك
لا يجوز.
(فإن قلت) : يكون التقدير من يشأ الله بالإضلال فيكون على هذا
مفعولاً مقدماً لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا. قال
الشاعر:
أرادت عرار بالهوان ومن يرد
عرار العمرى بالهوان فقد ظلم
فالجواب: أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية
شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في
معنى الشيء أن يعدى تعديته، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد
باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول: دخلت الدار ودخلت في غمار
الناس، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا وارداً في الفعل
الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى، وإذا تقرّر هذا فإعراب من
يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره
والثاني أن يكون مفعولاً بفعل محذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط
من حيث المعنى، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق
الله يشأ إضلاله ومن يسعد يشأ هدايته {يجعله على صراط مستقيم}
.
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَكُمْ عَذَابُ
اللَّهِ} قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن
تسأل الرجل أرأيت زيداً أي بعينك فهذه مهموزة، وثانيهما أن
تقول: أرأيت وأنت تقول أخبرني فيها هنا تترك الهمزة إن شئت وهو
أكثر كلام العرب تومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛
انتهى. وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف
المخاطب وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب، وتبقى
التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي
الفاعل وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن
اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة
الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول، ومذهب الفراء أن التاء
هي حرف خطاب التاء باختلاف المخاطب ولا يجوز إلحاق الكاف بها
وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني جاز أن تحقق الهمزة،
وبه قرأ الجمهور في {أرأيتكم} وأرأيتم وأرأيت وجاز أن تسهل بين
بين وبه قرأ نافع وروي عنه إبدالها ألفاً محضة ويطول مدّها
لسكونها وسكون ما بعدها، وهذا البدل ضعيف عند النحويين إلا أنه
قد سمع من كلام العرب حكاه قطرب وغيره وجاز حذفها وبه قرأ
الكسائي وقد جاء ذلك في كلام العرب. قال الراجز:
أريت إن جاءت به أملودا
بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب، قال
الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل
أرأيت زيداً أي بعينك فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول: أرأيت
وأنت تقول أخبرني فهاهنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام
العرب تومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ انتهى. وإذا
كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أن
تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب، وتبقى التاء مفتوحة
كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما
لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف
التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب
اللاحقة في موضع المفعول الأول، ومذهب الفراء أن التاء هي حرف
خطاب كهي في أنت وإن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل،
استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبدالاً
وتصحيحاً مذكور في علم النحو، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني
نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم.
وذلك تفسير معنى لا تفسير إعراب قالوا: فتقول العرب أرأيت
زيداً ما صنع فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب، ولا يجوز فيه
الرفع على اعتبار تعليق أرأيت وهو جائز في علمت ورأيت الباقية
على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني لأن أخبرني لا تعلق،
فكذلك ما كان بمعناها والجملة الاستفهامية في موضع المفعول
الثاني. قال سيبويه: وتقول أرأيتك زيداً أبو من هو وأرأيتك
عمراً أعندك هو أم عند فلان لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ألا
ترى أنك لو قلت أرأيت أبو من أنت وأرأيت أزيد ثم أم فلان، لم
يحسن لأن فيه معنى أخبرني عن زيد. ثم قال سيبويه: وصار
الاستفهام في موضع المفعول الثاني وقد اعترض كثير من النحاة
على سيبويه وخالفوه، وقالوا: كثيراً ما تعلق أرأيت وفي القرآن
من ذلك كثير منه {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم
الساعة أغير الله تدعون} {أرأيت إن كذب وتولى ألم
يعلم} . وقال الشاعر:
أرأيت إن جاءت به أملودا
مرجّلاً ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
وذهب ابن كيسان إى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيداً ما
صنع بدل من أرأيت، وزعم أبو الحسن إن أرأيتك إذا كانت بمعنى
أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي
بعده الاستفهام، لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام وزعم أيضاً
أنها تخرج عن بابها بالكلية وتضمن معنى أما أو تنبه وجعل من
ذلك قوله تعالى: قال {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} فإني نسيت
الحوت وقد أمعنا الكلام على أرأيت ومسائلها في كتابنا المسمى
بالتذييل في شرح التسهيل وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعاً في
كتاب فيوقف عليه فيه، ونحن نتكلم على كل مكان تقع فيه أرأيت في
القرآن بخصوصيته. فنقول الذي نختاره إنها باقية على حكمها من
التعدّي إلى اثنين فالأول منصوب والذي لم نجده بالاستقراء إلا
جملة استفهامية أو قسمية، فإذا تقرر هذا فنقول: المفعول الأول
في هذه الآية محذوف والمسألة من باب التنازع تنازع {أرأيتكم}
والشرط على عذاب الله فأعمل الثاني وهو {أتاكم} فارتفع عذاب
به، ولو أعمل الأول لكان التركيب عذاب بالنصب ونظيره اضرب إن
جاءك زيد على أعمال جاءك، ولو نصل لجاز وكان من أعمال الأول
وأما المفعول الثاني فهي الجملة الاستفهامية من {أغير الله
تدعون} والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره {أغير
الله تدعون} لكشفه والمعنى: قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو
الساعة إن أتتكم أغير الله تدعون لكشفه أو كشف نوار لها، وزعم
أبو الحسن أن {أرأيتكم} في هذه الآية بمعنى أما.
قال وتكون أبداً بعد الشرط وظروف الزمان
والتقدير أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت لا جواب
الشرط وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية، وقد ذكرنا
تخريجها على ما استقر فيها فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد،
وعلى ما زعم أبو الحسن لا يكون لأرأيت مفعولان ولا مفعول واحد،
وذهب بعضهم إلى أن مفعول {أرأيتكم} محذوف دل عليه الكلام
تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟
ودل عليه قوله: {أغير الله تدعون} . وقال آخرون لا تحتاج هنا
إلى جواب مفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وهذان
القولان ضعيفان، وأما جواب الشرط فذهب الحوفي إلى أن جوابه
{أرأيتكم} قدّم لدخول ألف الاستفهام عليه وهذا لا يجوز عندنا،
وإنما يجوز تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيد
والمبرد وذهب غيره إلى أنه محذوف فقدره الزمخشري فقال: إن
أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ وإصلاحه بدخول
الفاء أي فمن تدعون؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جواباً
للشرط فلا بد فيها من الفاء؟ وقدره غيره إن أتاكم عذاب الله أو
أتتكم الساعة دعوتم الله ودل عليه الاستفهام في قوله: {أغير
الله تدعون} .
وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق الشرط
بقوله: {أغير الله تدعون} كأنه قيل أغير الله تدعون إن أتاكم
عذاب الله؛ انتهى. فلا يجوز أن يتعلق الشرط بقوله: {أغير الله}
لأنه لو تعلق به لكان جواباً للشرط، فلا يجوز أن يكون جواباً
للشرط لأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يكون إلا
بهل مقدماً عليها الفاء نحو أن قام زيد فهل تكرمه؟ ولا يجوز
ذلك في الهمزة لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها، فلا
يجوز إن قام زيد فأتكرمه ولا أفتكرمه ولا أتكرمنه، بل إذا جاء
الاستفهام جواباً للشرط لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا
قبلها هكذا نقله الأخفش عن العرب، ولا يجوز أيضاً من وجه آخر
لأنا قد قرّرنا إن أرأيتك متعد إلى اثنين أحدهما في هذه الآية
محذوف وأنه من باب التنازع والآخر وقعت الجملة الاستفهامية
موقعة فلو جعلتها جواباً للشرط لبقيت {أرأيتكم} متعدّية إلى
واحد، وذلك لا يجوز وأيضاً التزام العرب في الشرط الجائي بعد
أرأيت مضى الفعل دليل على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يحذف
جواب الشرط إلا عند مضيّ فعله قال تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم
عذاب الله} {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} {قل أرأيتم
إن أتاكم عذابه بياتاً قل أرأيتم إن جعل الله} {أفرأيت إن
متعناهم سنين} {أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم} إلى غير ذلك من
الآيات، وقال الشاعر:
أرأيت إن جاءت به أملودا
وأيضاً فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام دليل
على أنها ليست جواب الشرط، إذ لا يصح وقوعها جواباً للشرط.
وتلخص في جواب الشرط من تدعون.
أحدها: أن مذكور وهو {أرأيتكم} المتقدّم الثاني أنه مذكور وهو
{أغير الله تدعون} .
والثالث: أنه محذوف تقديره من تدعون.
والرابع: أنه محذوف تقديره دعوتم الله، هذا
ما وجدنا منقولاً والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال وهو أن يكون
محذوفاً لدلالة {أرأيتكم} عليه وتقديره {إن أتاكم عذاب الله}
فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشه، كما تقول: أخبرني عن زيد
إن جاءك ما تصنع به؟ التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب
لدلالة أخبرني عليه، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت التقدير فأنت
ظالم فحذف فأنت ظالم وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه، وهذا
التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية.
{إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} وجواب {إن كنتم صادقين} محذوف تقديره
إن كنتم صادقين في دعواكم إن غير الله إله فهل تدعونه لكشف ما
يحل بكم من العذاب؟.
{بَلْ إِيَّهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا
تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}
{إياه} ضمير نصب منفصل وتقدم الكلام عليه في قوله: {إياك نعبد}
مستوفى. وقال ابن عطية: هنا {إياه} اسم مضمر أجري مجرى
المظهرات في أنه يضاف أبداً؛ انتهى، وهذا مخالف لمذهب سيبويه،
لأن مذهب سيبويه إن ما اتصل باباً من دليل تكلم أو خطاب أو
غيبة وهو حرف لا اسم أضيف إليه أياً لأن المضمر عنده لا يضاف
لأنه أعرف المعارف، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ويصير
إذ ذاك معرفة بالإضافة لا يكون مضمراً وهذا فاسد، ومجيئه هنا
مقدماً على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول وعند الزمخشري
إن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص، ولذلك قال: بل تخصونه
بالدعاء دون الآلهة، والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق
الكلام لا من تقديم المفعول على العامل و {بل} هنا للإضراب
والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما تضمنه الكلام
السابق من معنى النفي لأن معنى الجملة السابقة النفي وتقديرها
ما تدّعون أصنامكم لكشف العذاب وهذا كلام حق لا يمكن فيه
الإضراب يعني الإبطال، و {ما} من قوله {ما تدعون} الأظهر أنها
موصولة أي فيكشف الذي تدعون. قال ابن عطية: ويصح أن تكون
ظرفية؛ انتهى. ويكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة
دعائكم أي ما دمتم داعيه وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر
لغير حاجة، ويضعفه وصل {ما} الظرفية بالمضارع وهو قليل جدًّا
إنما بابها إن توصل بالماضي تقول ألا أكلمك ما طلعت الشمس
ولذلك علة، أما ذكرت في علم النحو، قال ابن عطية: ويصح أن تكون
مصدرية على حذف في الكلام. وقال الزجاج: وهو مثل واسأل القرية؛
انتهى. ويكون تقدير المحذوف فيكشف موجب دعائكم وهو العذاب،
وهذه دعوى محذوف غير متعين وهو خلاف الظاهر والضمير في {إليه}
عائد على {ما} الموصولة أي إلى كشفه ودعا بالنسبة إلى متعلق
الدعاء يتعدى بإلى قال الله تعالى: {وإذا دعوا
إلى الله} الآية. وقال الشاعر:
وإن دعوت إلى جلي ومكرمة
يوماً سراة كرام الناس فادعينا
وتتعدى باللام أيضاً قال الشاعر:
وإن أدع للجلي أكن من حماتها
وقال آخر:
دعوت لما نابني مسوراً
وقال ابن عطية: والضمير في {إليه} يحتمل أن يعود إلى الله
بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله؛ انتهى. وهذا ليس بجيد لأن
دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر
قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} أجيب دعوة الدّاع إذا دعان ومن
كلام العرب دعوت الله بمعنى دعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح
كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجأون، كأنه قيل فيكشف ما
يلجأون فيه بالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار
إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعذق تعالى
الكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل
لا يجب عليه شيء. قال الزمخشري: إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم
ولم تكن مفسدة؛ انتهى. وفي قوله: ولم تكن مفسدة دسيسة
الاعتزال، وظاهر قوله: وتنسون ما تشركون النسيان حقيقة والذهول
والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه
تجرد خاطره من كل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم، فيكاد
يصير كالمجلأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكر
غير الله القادر على كشف مادهم. وقال الزمخشري: {وتنسون ما
تشركون} وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد. وقال ابن عطية: تتركونهم
وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال: تتركونهم لعلمكم أنهم
في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون. وقال النحاس: هو مثل قوله
{لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى} . وقيل: يعرضون إعراض الناسي
لليأس من النجاة من قبله، و {ما} موصولة أي وتنسون الذي
تشركون. وقيل: {ما} مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجمل
بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن
عطية.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ
سَمْعَكُمْ وَأَبْصَرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ
إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} ومفعول {أرأيتم}
الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله،
والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول: أرأيتك زيداً
ما يصنع وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من
الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه.
قال الحوفي: وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال
والعامل في الحال {أرأيتم} كقوله: اضربه إن خرج أي خارجاً،
وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام؛ انتهى،
وهذا الإعراب تخليط.
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً
أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّلِمُونَ}
والجملة من قوله {هل يهلك} معناها النفي أي ما يهلك {إلا القوم
الظالمون} ولذلك دخلت إلا وهي في موضع المفعول الثاني لا
رأيتكم والرابط محذوف أي هل يهلك به؟ والأول من مفعولي
{أرأيتكم} محذوف من باب الإعمال لما قررناه.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ} وانتصب مبشرين ومنذرين على الحال.
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال الزمخشري (فإن قلت) : أعلم الغيب ما
محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفاً على محل قوله: {خزائن الله}
لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا
القول؛ انتهى. ولا يتعين ما قاله، بل الظاهر أنه معطوف على لا
أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث
فهي معمولة للأمر الذي هو قل.
{لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} قال
الزمخشري في محل نصب حال من يحشروا.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ} الجملة في موضع الحال.
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ
وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ} {ومن} في {من
حسابهم} وفي {من حسابك} مبعضة في موضع نصب على الحال في {من
حسابهم} وذو الحال هو من شيء لأنه لو تأخر من حسابهم لكان في
موضع النعت لشيء فلما تقدّم انتصب على الحال و {عليك} في موضع
الخبر لما إن كانت حجازية، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفاً
أو مجروراً وفي موضع خبر المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن
ما تميمية وأما في {من حسابك} فقيل: هو في موضع نصب على الحال
ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز
تقديمها عليه خصوصاً إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال.
وقيل: يجوز أن يكون الخبر {من حسابك} و {عليهم. صفة لشيء
تقدّمت عليه فانتصب على الحال وهذا ضعيف، لأن عليهم هو محطّ
الفائدة فترجح أن يكون هو الخبر ويكون من حسابك} على هذا
تنبيهاً لا حالاً ولا خبراً.
{فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّلِمِينَ} الظاهر أن قوله:
{فتطردهم} جواب لقوله {ما عليك من حسابهم من شيء} يكون النصب
هنا على أحد معنى النصب في قولك: ما تأتينا فتحدّثنا لأن أحد
معنى هذا ما تأتينا محدثاً إنما تأتي ولا تحدث، وهذا المعنى لا
يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي لا يقع
هذا فكيف يقع هذا وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون
حسابهم عليك فيكون وقع الطرد، وأطلقوا جواب أن يكون {فتطردهم}
جواباً للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جواباً والظاهر في قوله:
{فتكون من الظالمين} أن يكون معطوفاً على {فتطردهم} والمعنى
الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن
الطرد، وجوّزوا أن يكون {فتكون} جواباً للنهي في قوله: {ولا
تطرد} كقوله: {لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} وتكون
الجملتان وجواب الأولى اعتراضاً بين النهي وجوابه.
{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن
بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّكِرِينَ *
وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَتِنَا فَقُلْ
سَلَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الأٌّيَتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ
أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ
الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى
وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ
الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ
الْفَصِلِينَ * قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ
بِهِ لَقُضِىَ الأٌّمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِالظَّلِمِينَ} .
{لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ} اللام ــــ في ليقولوا ـــ لام كي،
ومن رأى لام الصيرورة فهي هذه عنده.
{فَقُلْ سَلَمٌ عَلَيْكُمْ} قال ابن عطية: لفظه لفظ الخبر وهو
في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء
بالنكرة إذ قد تخصصت؛ انتهى. والتخصيص الذي يعنيه النحاة في
النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو
الإضافة، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض
النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص
والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد
تخصصت أي استعملت، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها
الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.
{أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين
فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره
أنه أي أن الله غفور رحيم له، ووهم النحاس فزعم أن قوله {فإنه}
عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم، لأن
{من} مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلا
خبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر
تقديره عليه أنه من عمل. وقيل: فإنه بدل من أنه وليس بشيء
لدخول الفاء فيه ولخلو {من} من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو والإخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير
للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب.
{وبجهالة} في محل نصب على الحال.
ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وإن أنه في موضع نصب
لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول
{كتب} .
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} واستبان يكون لازماً
ومتعدّياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها.
وقرأ العربيان وابن كثير وحفص {ولتستبين} بالتاء سبيل بالرفع.
وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء سبيل بالرفع فاستبان
هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المحرمين. وقرأ نافع {ولتستبين} بتاء
الخطاب {سبيل} بالنصب فاستبان هنا متعدية.
{يقضى بالحق} وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به.
وقيل: يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي:
وعليهما مسدودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق، ويؤيده قراءة عبد الله
وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر
وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاء الساكنين.
{وَهُوَ خَيْرُ الْفَصِلِينَ} قيل خير أفعل تفضيل وقيل ليس
كذلك.
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ
يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا
وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الأٌّرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ
يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الَّذِى
يَتَوَفَّكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ
مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ
يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ
الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَسِبِينَ *
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَنَا مِنْ
هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ
تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ
بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الأٌّيَتِ لَعَلَّهُمْ
يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل
لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِىءَايَتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى
حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَنُ فَلاَ
تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ *
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ
وَلَكِن ذِكْرَى
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ
شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ
شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ
يَكْفُرُونَ * قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ
يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَبِنَا
بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ
الشَّيَطِينُ فِى الأٌّرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَبٌ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ
هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ *
وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ
وَالأٌّرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى
الصُّوَرِ عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ} .
{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الأٌّرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ
إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ} في موضع الحال من {ورقة} وهي حال
من النكرة. كما تقول: ما جاء أحد إلا راكباً.
وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله:
ولا حبة {ولا رطب ولا يابس} معطوف على قوله {من ورقة}
والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا
أكرمته ولا امرأة، فالمعنى إلا أكرمتها ولكنه لما طال الكلام
أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميقع {ولا رطب ولا يابس}
بالرفع فيهما والأولى أن يكونا معطوفين على موضع {من ورقة}
ويحتمل الرفع على الابتداء وخبره {إلا في كتاب مبين} .
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم
حَفَظَةً} وظاهر {ويرسل} أن يكون معطوفاً على {وهو القاهر} عطف
جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار الهر. وجوز أبو البقاء
أن تكون معطوفة على قوله: {يتوفاكم} وما بعده من الأفعال وأن
يكون معطوفاً على {القاهر} التقدير وهو الذي يقهر ويرسل، وأن
يكون حالاً على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير
في {القاهر} وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب،
{وعليكم} ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله: {يرسل عليكما شواظ}
ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك
علينا ويحتمل أن يكون متعلقاً بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي
يحفظون عليكم أعمالكم، كما قال: وإن عليكم لحافظين كما تقول:
حفظت عليك ما تعمل. وجوّزوا أن يكون حالاً لأنه لو يتأخر لكان
صفة أي حفظه كائنة عليكم.
{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ} وقرأ
الحسن والأعمش {لحق} بالنصب والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على
المدح وجوز نصبه على المصدر تقديره الرد الحق.
{تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} انتصباً على الحال.
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} وقرأ أبو عبد
الله المدني {يلبسكم} بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس
فعلى فتح الياء يكون شيعاً حالاً. وقيل: مصدر والعامل فيه
{يلبسكم} من غير لفظه؛ انتهى. ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل
من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم
الفتنة شيعاً ويكون شيعاً حالاً، وحذف المفعول الثاني ويحتمل
أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناس يلبسهم بعضهم بعضاً
كما قال الشاعر:
لبست أناساً فأفنيتهم
وغادرت بعد أناس أناسا
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءَايَتِنَا} و
{رأيت} هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال
محذوفة أي {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} وهم خائضون فيها
أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة. وقيل: {رأيت} علمية لأن
الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه
يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير
{وإذا رأيت الذين يخوضو في آياتنا} خائضين فيها وحذفه اقتصاراً
لا يجوز وحذفه اختصاراً عزيز جداً حتى أن بعض النحويين منعه.
{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَنُ} قال ابن عطية: وأما شرط
ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم كما قال الشاعر:
أما يصبك عدو في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى. وهذه
المسألة فيها خلاف، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن
ما لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى
أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل
الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى
مواردها في القرآن وكونها لم تجيء فيها بعد أما إلا الثقيلة.
وقرأ ابن عامر {ينسينك} مشدّداً عداه بالتضعيف وعداه الجمهور
بالهمزة. وقال ابن عطية: وقد ذكر القراءتين إلا أن التشديد
أكثر مبالغة؛ انتهى. وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية
والهمزة ومفعول {ينسينك} الثاني محذوف تقديره {وإما ينسينك
الشيطان} نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على
فعلى وألفه للتأنيث ولم يجيء مصدر على فعلى غيره.
{فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} وذكرى يحتمل أن تكون في
موضع نصب أي ولكن تذكرونهم، ومن قال الإباحة كانت بسبب
العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي
ولكن عليهم ذكرى وقدّره بعضهم ولكن هو ذكرى أي الواجب ذكرى.
وقيل: هذا ذكرى أي النهي ذكرى. قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون
عطفاً على محل من شيء كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن
قوله: {من حسابهم} يأبى ذلك؛ انتهى. كأنه تخيل إن في العطف
يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في
شيء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على {من شيء}
على الموضع لأنه يصير التقدير عنده و {لكن ذكرى} من حسابهم
وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشيء لا يلزم في
العطف بولكن ما ذكر تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق وما
عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن
رجل جاهل فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل
كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو
ودخلت {لكن} للاستدراك.
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ
لَعِباً وَلَهْواً} انتصب لعباً ولهواً على المفعول الثاني
{لاتخذوا} .
{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} اتفقوا
على أن {تبسل} في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة {أن تبسل}
ومخافة {أن تبسل} ولئلا {تبسل} ويجوز عندي أن يكون في موضع جر
على البدل من الضمير، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما
في الإضمار من التفخيم كما أضمر الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو
الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما
قالوا: اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم وقد أجاز ذلك سيبويه قال:
فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من قال: أكلوني
البراغيث أو يحمله على البدل من المضمر وقال أيضاً: فإن قلت
ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل
هاهنا البدل كما جعلته في الرفع؛ وقد روي قوله:
تنخل فاستاكت به عود أسحل
بجر عود على أنه بدل من الضمير.
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} وهذه
الجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و {من} لابتداء
الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة؛ انتهى، وهو ضعيف.
{وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} وانتصب
{كل عدل} على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به
المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على المصدر لأنه لا يسند إليه
الأخذ وأما في {لا يؤخذ منها} عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده
إليه ويجوز أن ينتصب كل عدل على المفعول به أي {وإن تعدل}
بذاتها {كل} أي كل ما تفدى به {لا يؤخذ منها} ويكون الضمير على
هذا عائداً على {كل عدل} .
{لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} الأظهر أنها
جملة استئناف إخبار ويحتمل أن تكون حالاً وشراب فعال بمعنى
مفعول كطعام بمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول، لا يقال:
ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول.
{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا
لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَبِنَا
بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} أي من دون الله النافع الضار
المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر إذ هي
أصنام خشب وحجارة وغير ذلك {ونرد} إلى الشرك {على أعقابنا} أي
رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا
إلى طريق الحق وإلى المشية السجح الرفيعة {ونرد} معطوف على
{أندعوا} أي أيكون هذا وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي لا يقع
شيء من هذا وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال أي ونحن
نرد أي أيكون هذا الأمر في هذه الحال وهذا فيه ضعف لإضمار
المبتدأ ولأنها تكون حالاً مؤكدة.
{كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَطِينُ فِى الأٌّرْضِ
حَيْرَانَ} وموضع {كالذي} نصب قيل: على أنه نعت لمصدر محذوف أي
رداً مثل رد الذي والأحسن أن يكون حالاً أي كائنين كالذي والذي
ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي.
وظاهر قوله {في الأرض} أن يكون متعلقاً باستهوته. وقيل: حال من
مفعول {استهوته} أي كائناً في الأرض. وقيل: من {حيران} . وقيل:
من ضمير {حيران} و {حيران} لا ينصرف ومؤنثه حيرى و {حيران} حال
من مفعول {استهوته} . وقيل: حال من الذي والعامل فيه الرد
المقدر والجملة من قوله {له أصحاب} حالية أو صفة لحيران أو
مستأنفة و {إلى الهدي} متعلق بيدعونه.
{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} الظاهر أن
اللام لام كي ومفعول {أمرنا} الثاني محذوف وقدروه {وأمرنا}
بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم {لرب العالمين} والجملة داخلة في
المقول معطوفة على {إن هدى الله هو الهدي} . وقال الزمخشري: هو
تعليل للأمر فمعنى {أمرنا} قيل لنا: اسلموا لأجل أن نسلم. وقال
ابن عطية: ومذهب سيبويه أن {لنسلم} في موضع المفعول وإن قولك:
أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى. فعلى ظاهر كلامه تكون اللام
زائدة وكون أن نسلم هو متعلق {أمرنا} على جهة أنه مفعول ثان
بعد إسقاط حرف الجر. وقيل: اللام بمعنى الباء كأنه قيل
{وأمرنا} بأن نسلم ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب، وما ذكره
ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر بل ذلك مذهب الكسائي والفراء
زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت، قال تعالى:
{يريد الله ليبين لكم} {يريدون ليطفئوا} أي أن يطفئوا {إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس} أريد لأنسى ذكرها ورد ذلك عليهما
أبو إسحاق، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف
وأن الفعل قبلها يراد به المصدر والمعنى الإرادة للبيان واومر
للإسلام فهما مبتدأ وخبر فتحصل في هذه اللام أقوال: أحدها إنها
زائدة، والثاني أنها بمعنى كي للتعلل إما لنفس الفعل وإما لنفس
المصدر المسبوك من الفعل، والثالث أنها لام كي أجريت مجرى أن،
والرابع أنها بمعنى الباء وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب
التكميل.
{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَاتَّقُوهُ}
أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه، قال الزجاج هو معطوف على
قوله: لنسلم تقديره لأن نسلم و {أن أقيموا} . قال ابن عطية:
واللفظ يمانعه لأنّ {نسلم} معرب و {أقيموا} مبني وعطف المبني
على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى،
وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المغرب وأنّ ذلك لا يجوز
ليس كما ذكر، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا، وقال تعالى: {يقدم
قومه يوم القيامة فأوردهم النار} غاية ما في هذا أن العامل إذا
وجد المعرب أثر فيه وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام
زيد ويقصدني أحسن إليه، بجزم يقصدني فإنْ لم تؤثر في قام لأنه
مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب، ثم قال ابن عطية: اللهم إلا
أن يجعل العطف في إن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر
قوله: {أن أقيموا} بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك
من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على
المعنى، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول
فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى،
وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهم إلا أن إلى آخره هو
الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ {أن أقيموا} معطوف على أن
نسلم وأنّ كلاهما علة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن
عطية لأنه أراد بقاء أن أقيموا على معناها من موضوع الأمر وليس
كذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها
ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر،
وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة
للمضارع بالماضي وبالأمر، قال سيبويه: وتقول: كتبت إليه بأن
قم، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله: لنسلم وأن أقيموا
في تقدير للإسلام، ولإقامة الصلاة وأما تشبيه ابن عطية بقوله:
ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو
أزيل عنه
الضمير أن يتسلط على ما بعده، بخلاف أن
فإنها توصل بالأمر فإذاً لا شبه بينهما. وقال الزمخشري (فإن
قلت) : على عطف قوله: {وإن أقيموا} (قلت) : على موضع {لنسلم}
كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير
أنّ {أنْ نسلم} في موضع المفعول الثاني لقوله: وأمرنا وعطف
عليه وأن أقيموا فتكون اللام على هذا زائدة، وكان قد قدّم قبل
هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل
أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله {أن نسلم} أنه في
موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك، ويجوز أن يكون التقدير
وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة انتهى،
وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول:
لاتحد قولاه وذلك خلف، وقال الزجاج: ويحتمل أن يكون {وأن
أقيموا} معطوفاً على {أتنا} . وقيل: معطوف على قوله: {إن هدى
الله هو الهدى} والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان
جدًّا، ولا يقتضيهما نظم الكلام، قال ابن عطية: يتجه أن يكون
بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا؛ انتهى.
وكان قد قدّر: وأمرنا بالإخلاص أو بازيمان لأن نسلم وهذا قول
لا بأس به وهو أقرب من القولين قبلة إذ لا بد من تقدير المفعول
الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى تقول: أضربت
زيداً فتجيب نعم وعمراً التقدير ضربته وعمراً وقد أجاز الفراء
جاءني الذي وزيد قائمان التقدير جاءني الذي هو وزيد قائمان
فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في {واتقوا} عائد
على رب العالمين.
{وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ
الْحَقُّ} جوزوا في {يوم} أن يكون معمولاً لمفعول فعل محذوف
وقد روه واذكر الإعادة يوم يقول: كن أي يوم يقول للأجساد كن
معادة ويتم الكلام عند قوله: كن، ثم أخبر بأنه يكون قوله: الحق
الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة فيكون قوله فاعلاً بفيكون
أو يتم الكلام عند قوله: كن فيكون ويكون {قوله الحق} مبتدأ
وخبراً. وقال الزجاج {يوم يقول} معطوف على الضمير من قوله
{واتقوه} واتقوا عقابه والشدائد ويوم فيكون انتصابه على أنه
مفعول به لا ظرف. وقيل: {ويوم} معطوف على {السموات والأرض}
والعامل فيه خلق، وقيل: العامل اذكر أو معطوفاً على قوله بالحق
إذ هو في موضع نصب ويكون {يقول} بمعنى الماضي كأنه قال وهو
الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها كن ويتم الكلام
عند قوله فيكون، ويكون {قوله الحق} مبتدأً وخبراً أو يتم عند
{كن} ويبتدىء {فيكون قوله الحق} أي يظهر ما يظهر وفاعل يكون
{قوله} و {الحق} صفة و {يكون} تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة
ينبو عنها التركيب وأقرب ما قيل ما قاله الزمخشري وهو أن قوله
الحق مبتدأ والحق صفة له و {يوم يقول} خبر المبتدأ فيتعلق
بمسْتقر كما تقول يوم الجمعة القتال.
وجوز الزمخشري وجهاً آخر وهو أن يكون قوله الحق فاعلاً بقوله
فيكون فانتصاب يوم بمحذوف دل عليه قوله بالحق كأنه قيل: كن يوم
بالحق وهذا إعراب متكلف.
{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ} قيل {يوم}
بدل من قوله {ويوم يقول} ، وقيل: منصوب بالملك.
{عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ} أي هو
عالم أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بيقول أو بينفخ
محذوفة يدل عليه ينفخ نحو رجال بعد قوله: {يسبح} بفتح الباء
وشركاؤهم بعد {زين} مبنياً للمفعول ورفع قتل ونحو ضارع لخصومة
بعد ليبك يزيد التقدير يسبح له رجال وزينه شركاؤهم ويبكيه ضارع
أو نعت للذي أقوال أجودها الأول والغيب والشهادة يعمان جميع
الموجودات، وقرأ الأعمش عالم بالخفض ووجه على أنه بدل من
الضمير في له أو من رب العالمين أو نعت للضمير في له، والأجود
الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس
مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ
لأًّبِيهِءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماًءَالِهَةً إِنِّى
أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِى
إِبْرَهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى
كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا
أُحِبُّ الأٌّفِلِينَ * فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً
قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ
يَهْدِنِى رَبِّى لأّكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ *
فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَآ
أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ
مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى
فَطَرَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ * وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى
فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ
بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ
شَىْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ
أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَناً
فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأٌّمْنِ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ
إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأٌّمْنُ وَهُمْ
مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَآءَاتَيْنَهَآ إِبْرَهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ *
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى
وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّلِحِينَ *
وَإِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ
فَضَّلْنَا عَلَى الْعَلَمِينَ * وَمِنْ ءابَائِهِمْ
وَذُرِّيَّتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَهُمْ
وَهَدَيْنَهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى
اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ
أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَفِرِينَ *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرَى لِلْعَلَمِينَ * وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن
شَىْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى
نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَطِيسَ
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ
تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ
ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَبٌ
أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى
صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ
يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ
أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ
الْمَوْتِ وَالْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ
أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا
كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْءَايَتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا
خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَكُمْ
وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد
تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ
تَزْعُمُونَ} .
وقال الصاغاني: حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب وك ب عند حذاق
النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها
في تركيب ك وب ولعله تبع فيه الليث فإنه ذكره في الرباعي
ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى. وليت شعري من حذاق النحويين
الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في
أول كلمة، فأما قولهم هندي وهند كي في معنى واحد وهو المنسوب
إلى الهند قال الشاعر:
ومقرونة دهم وكمت كأنها
طماطم يوفون الوفاز هنادك
فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها
في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هو من باب سبط وسبطر،
والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به
فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير
من لغة بعضهم في لغة بعض، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب
إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي
قندكي وإلى شواء: شوكي وإلى الفرس: الفرسكي وربما أبدلت تاء
مكسورة قالوا في النسب إلى جبري: جبرتي، وقد تكلمت على كيفية
نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة المسمى بجلاء الغبش
عن لسان الحبش، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة
الحبش في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب نحوية كحروف المضارعة
وتاء التأنيث وهمزة التعدية.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ
لأًّبِيهِءَازَرَ} آزر وهو عطف بيان أو بدل، وقال مجاهد: هو
اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق
على عبيد الله بن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ
رقية. فقيل ابن قيس الرقيات، وكما قال بعض المحدّثين:
أدعى بأسماء تترى في قبائلها
كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
ويكون إذ ذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباً بفعل مضمر أي
تتخذ آزر.
آزر امتنع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل هو صفة.
وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجهه
الزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل: أذمّ
المخطىء، وقيل: انتصب على الحال وهو في حال عوج أو خطأ، وقرأ
الجمهور {آزر بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم
بضم الراء على النداء وكونه علماً ولا يصح أن يكون صفة لحذف
حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً، وأراك يحتمل أن
تكون بصرية وأن تكون علمية، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى
مفعولين.
أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلى اثنين، فالظاهر أنها
بصرية. قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى، ويحتاج
كون رأي بمعنى عرف ثم تعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك
عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى
مفعول واحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى
مفعولين.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ
هَذَا رَبِّى} هذه الجملة معطوفة على قوله: {وإذ قال ابراهيم}
على قول من جعل {وكذلك نرى} اعتراضاً وهو قول الزمخشري. قال
ابن عطية: الفاء في قوله {فلما} رابطة جملة ما بعدها بما
قبلها.
وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء
فوزنه فعفل نحو قوقل وهو تركيب قليل الكوكب، والظاهر أن جواب
{لما رأى كوكباً} وعلى هذا جوزوا في {قال هذا ربي} أن يكون
نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون
الجواب {قال هذا ربي} و {رأى كوكباً} حال أي جن عليه الليل
رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية، وقيل هي
استفهامية على جهة الإنكار حذف منها الهمزة كقوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان
{فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَآ
أَكْبَرُ} المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث
فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة
مراعاة ومناسبة للخبر، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة
التأنيث وأما من لم ير فيها إلا التأنيث. فقال ابن عطية: ذكر
أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش، هذا الطالع، وقيل: الشمس
بمعنى الضياء قال تعالى: {جعل الشمس ضياء} فأشار إلى الضياء
والضياء مذكر، وقال الزمخشري: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما
عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك وما كانت أمك، ولم
تكن فتنتعم إلا أن قالوا وكان اختيار هذه الطريقة واجباً
لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله:
علام ولم يقولوا علامة، وإن كان علامة أبلغ احترازاً من علامة
التأنيث انتهى، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في
الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم
للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى
المؤنث عندنا حين حكى كلام ابراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل
لو كان المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم وحين
أخبر تعالى عنها بقوله {بازغة} و {أفلت} أنث على مقتضى العربية
إذ ليس ذلك بحكاية.
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ
أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى} وقرأ نافع وابن
عامر بخلاف عن هشام {أتحاجوني} بتخفيف النون وأصله بنونين
الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف
منهما مذكور في علم النحو، وقد لحن بعض النحويين من قرأ
بالتخفيف وأخطأ في ذلك، وقال مكي: الحذف بعيد في العربية قبيح
مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذ
لا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى، وقيل: التخفيف لغة
لغطفان، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغم
هروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ
هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام، و {في الله}
متعلق بأتحاجوني لا بقوله وحاجة قومه والمسألة من باب الإعمال
إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثاني ونظير
{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} والجملة من قوله {وقد
هدان} حالية.
{وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ
رَبِّى شَيْئاً} وجوز أبو البقاء أن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا
أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي
أي لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال، وانتصب شيئاً على
المصدر أي مشيئة أو على المفعول به.
{وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً} وانتصب علماً على
التمييز المحول من الفاعل، أصله وسع علم ربي كل شيء.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جواب الشرط محذوف تقديره فأخبروني.
{ولم يلبسوا} يحتمل أن يكون معطوفاً على
الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلت واو الحال على الجملة المنفية
بلم كقوله تعالى: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} وما ذهب
إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن
خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال
خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب، وكلام
الله، وقرأ عكرمة: {ولم يلبسوا} بضم الياء ويجوز في {الذين} أن
يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو
{أولئك لهم الأمر} وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعلأولئك
فاصلة وهو النحاس والحوفي.
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآءَاتَيْنَهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}
الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله {فلما جن عليه
الليل} إلى قوله {وهم مهتدون} وهذا الظاهر، وأضافها إليه تعالى
على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم
و {آتيناها} أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من
الحجج العقلية، أو {آتيناها} بوحي منا ولقناه إياها وإن أعربت
وتلك مبتدأ وحجتنا بدلاً {وآتيناها} حال العامل فيها اسم
الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف
للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لم يجز ذلك
أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر
ومطلوبه، وأجاز الحوفي أن يكون {آتيناها} في موضع النعت لحجتنا
والنية فيها الانفصال والتقدير: وتلك حجة لنا آتيناها انتهى،
وهذا بعيد جداً. وقال الحوفي: وهاء مفعول أول وإبراهيم مفعول
ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي، وأما مذهب الجمهور فالهاء
مفعول ثان وابراهيم مفعول أول.
ويجوز أن يكون في موضع الحال وحذف مضاف أي {آتيناها إبراهيم}
مستعلية على حجج قومه قاهرة لها.
{نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَآءُ} ونوّن
درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو
على أنه مفعول ثان، ويحتاج هذا القول إلى تضمين نرفع معنى ما
يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} والجملة من قوله:
{ووهبنا} معطوفة على قوله: {وتلك حجتنا} عطف فعلية على اسمية،
وقال ابن عطية: {ووهبنا} عطف على {آتيناها} انتهى. ولا يصح هذا
لأن {آتيناهم} لها موضع من الإعراب إما خبر. وإما حال ولا يصح
في {ووهبنا} شيء منهما
{وَإِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً} وقرأ الجمهور
واليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان والليسع على
وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أم عجمي، فأما على
قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمي به
ولا ضمير فيه فأعرب ثم نكر وعرف بأل، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم
أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً
ولزمت كما لزمت في الآن، ومن قال: إنه أعجمي فقال: زيدت فيه أل
ولزمت شذوذاً، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي
وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن أل فهي كهي في الحارث
والعباس، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما
عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما
لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبد الله بن مالك
الجياني، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو
ارتجاله كاليسع والسموأل، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقد يجوز أن
يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله: إن اليسع
ليس منقولاً من فعل كما قال بعضهم.
{ومن آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم} المجرور في موضع نصب. فقال
الزمخشري: عطفاً على {كلاًّ} بمعنى وفضلنا بعض آبائهم.
{وَاجْتَبَيْنَهُمْ وَهَدَيْنَهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
عطف على {فضلنا} .
{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
وانتصب {حق قدره} على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق
ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر، والعامل في إذ
قدروا وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ {تعليلاً} .
{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى
نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} إن وانتصب {نوراً وهدى} على الحال
والعامل {أنزل} أو {جاء} .
{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {يلعبون} حال من
مفعول ذرهم أو من ضمير {خوضهم} و {في خوضهم} متعلق بـ {ذرهم}
أو بـ {يلعبون} أو حال من {يلعبون} .
{عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ} وحذف أهل
الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله: {واسأل
القرية} لأن القرية لا نسأل ولم تحذف من فيعطف حولها على أم
القرى وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو
عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به
وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عن الظرفية
وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم
الظرفية غير متصرف فيه بغيرها.
{وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ} جملة حالية.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}
جواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه
أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرف الماضي وهو {إذ
والملائكة باسطوا} جملة حالية و {أخرجوا} معمول لحال محذوفة أي
قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية.
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ} والكاف في كما في موضع نصب، قيل: بدل من فرادى، وقيل:
نعت لمصدر محذوف أي مجيأ {كما خلقناكم} يريد كمجيئكم يوم
خلقناكم.
{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ
عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} قرأ جمهور السبعة {بينكم}
بالرفع على أنه اتسع في الظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما
استعملوه اسماً في قوله: {ومن بيننا وبينك حجاب} وكما حكى
سيبويه هو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد
بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراوي
والمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين
بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآية أو على أنه أريد
بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد
تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك بالبين، وقرأ نافع
والكسائي وحفص {بينكم} بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل
ولكنه مبني على الفتح حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال
لإضافته إلى مبني كقوله: {ومنادون ذلك} وخرجه غيره على أن
منصوب على الظرف وفاعل تقطع التقطع، قال الزمخشري: وقع التقطع
بينكم كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على
إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى. وظاهره ليس بجيد
وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إن
أسنده إلى صريح المصدر، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع
هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير
الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام
هو أي القيام، وقيل: الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه
قوله: {شركاء} ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية
قال: ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره: لقد تقطع
الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره
الناس مجاهد والسدّي وغيرهما انتهى، وقوله إلى شيء محذوف ليس
بصحيح لأن الفاعل لا يحذف، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكم صفة
لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً
لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن
المسألة من باب الإعمال تسلط على {ما كنتم
تزعمون} تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في تقطع ضمير ما
هم الأصنام فالمعنى {لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون} وضلوا
عنكم كما قال تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} أي لم يبق اتصال
بينكم وبين {ما كنتم تزعمون} أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب
سهل لم يتنبه له أحد، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش {ما بينكم}
والمعنى تلف وذهب ما {بينكم} وبين {ما كنتم تزعمون} ومفعولاً
{تزعمون} محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما
كما قال الشاعر:
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
أي وتحسبه عاراً.
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الأٌّيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الأٌّيَتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ
السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ
فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً
مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَنٌ
دَانِيَةٌ وَجَنَّتٍ مِّنْ أَعْنَبٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَبِهٍ انْظُرُواْ
إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذلِكُمْ
لاٌّيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلُواْ للَّهِ
شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَنَهُ وَتَعَلَى عَمَّا
يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَنَّى يَكُونُ
لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ
شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * ذلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَلِقُ كُلِّ شَىْءٍ
فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ
تُدْرِكُهُ الأٌّبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأٌّبْصَرَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن
رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ
فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذلِكَ
نُصَرِّفُ الأٌّيَتِ وَلِيَقُولُواْ
دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ * اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ
شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلاَ تَسُبُّواْ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُواْ
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْءَايَةٌ
لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الأٌّيَتُ عِندَ اللَّهِ
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ *
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ
مِنَ الْحَىِّ} وعطف قوله: {ومخرج الميت} على قوله: {فالق
الحب} اسم فاعل على اسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله:
{فالق الحب والنوى} من جنس إخراج الحيّ من الميت لأن النامي في
حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله: {تحيي الأرض بعد موتها} فوقع
قوله: {يخرج الحيّ من الميت} من قوله: {فالق الحب والنوى} موقع
الجملة المبينة فلذلك عطف اسم الفاعل لا على الفعل ولما كان
هذا مفقوداً في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما
{يولج في النهار ويولج النهار في الليل} كان العطف بالفعل على
أنه يجوز أن يكون معطوفاً وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في
معناه كما قال الشاعر:
بات يغشيها بعضب باتر
يقصد في أسوقها وجائر
{ُ ِفَالِقُ
الْحَبِّ} وقرأ الحسن وعيسى أبو رجاء الأصباح بفتح الهمزة جمع
صبح وقرأت فرقة بنصب الأصباح وحذف تنوين فالق وسيبويه إنما
يجوز هذا في الشعر نحو قوله:
ولا ذاكر اللَّه إلا قليلاً
حذف التنوين لالتقاء الساكنين والمبرد يجوّزه في الكلام.
{وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
حُسْبَاناً} وقرأ الكوفيون {وجعل الليل} فعلاً ماضياً لما كان
فالق بمعنى المضي حسن عطف {وجعل} عليه وانتصب {والشمس والقمر
حسباناً} عطفاً على {الليل سكناً} ، وقرأ باقي السبعة {وجاعل}
باسم الفاعل مضافاً إلى الليل والظاهر أنه اسم فاعل ماض ولا
يعمل عند البصريين فانتصاب {سكناً} على إضمار فعل أي يجعله
سكناً لا باسم الفاعل هذا مذهب أبي علي فيما انتصب مفعولاً
ثانياً بعد اسم فاعل ماض وذهب السيرافي إلى أنه ينتصب باسم
الفاعل وإن كان ماضياً لأنه لما وجبت إضافته إلى الأول لم تكن
أن يضاف إلى الثاني فعمل فيه النصب وإن كان ماضياً وهذه مسألة
تذكر في علم النحو وأما من أجاز إعمال اسم الفاعل الماضي وهو
الكسائي وهشام فسكناً منصوب به، وقرأ يعقوب ساكناً، قال
الداني: ولا يصح عنه، وقرأ أبو حيوة بجر {والشمس والقمر}
حسباناً عطفاً على الليل سكناً وأما قراءة النصب وهي قراءة
الجمهور فعلى قراءة {جاعل الليل} ينتصبان على إضمار فعل أي
وجعل الشمس والقمر حسباناً، قال الزمخشري: أو يعطفان على محل
الليل، (فإن قلت) : كيف يكون لليل محل؟ والإضافة حقيقة لأن اسم
الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول زيد ضارب عمراً أمس
(قلت) : ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في
الأزمنة انتهى، وملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن
يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإعراب، وهذا على مذهب
البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وأما قوله إنما هو دال
على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون
للمجرور بعده موضع من
الإعراب فيعطف عليه {والشمس والقمر} وهذا
ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار فلا
يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل وقد نصوا على ذلك وأنشدوا:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان وإذا تقيد بزمان فإما أن يكون
ماضياً دون أل فلا يعمل إذ ذاك عند البصريين أو بأل أو حالاً
أو مستقبلاً فيجوز إعماله، والإضافة إليه على ما أحكم في علم
النحو وفصل وعلى تسليم أن يكون حالاً على الاستمرار في الأزمنة
وتعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره بل لو كان حالاً أو
مستقبلاً لم يجز ذلك على القول الصحيح وهو مذهب سيبويه، فلو
قلت: زيد ضارب عمرو الآن أو غداً أو خالداً لم يجز أن تعطف
وخالداً. على موضع عمرو وعلى مذهب سيبويه بل تقدره وتضرب
خالداً لأن شرط العطف على الموضع مفقود فيه وهو أن يكون الموضع
محرزاً لا يتغير، وهذا موضح في علم النحو وقرىء شاذاً {والشمس
والقمر} برفعهما على الابتداء والخبر محذوف تقديره مجعولان
حسباناً أو محسوبان حسباناً.
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ
بِهَا} {لتهتدوا} متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم أي جعل
ذلك لاهتدائكم وجعل معناها خلق فهي تتعدى إلى واحد، قال ابن
عطية: وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني من
{لتهتدوا} أي جعل لكم النجوم هداية انتهى، وهو ضعيف لندور حذف
أحد مفعولي باب ظن وأخواتها.
{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً
مُّتَرَاكِباً} و {فأخرجنا} معطوف على {فأخرجنا} وأجاز أبو
البقاء أن يكون بدلاً من {فأخرجنا} و {نخرج} جملة في موضع
الصفة لخضر أو يجوز أن يكون استئناف إخبار، وقرأ الأعمش وابن
محيصن يخرج منه حب متراكب على أنه مرفوع بيخرج ومتراكب صفة في
نصبه ورفعه.
{وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَنٌ
دَانِيَةٌ} وهذه الجملة مبتدأ وخبر j)
{من طلعها} بدل من {ومن النخل} والتقدير ز {فنوان دانية} كائنة
من طلع {النخل} .
وقال ابن عطية: {ومن النخل} تقديره نخرج من النخل ومن طلعها
{قنوان} ابتداء خبره مقدم والجملة في موضع المفعول بتخرج
انتهى. وهذا خطأ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في
موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها
مانع من أن يعمل في شيء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة
في علم النحو و {نخرج} ليست مما يعلق وليس في الجملة ما يمنع
من عمل الفعل في شيء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدّراً
لتسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج {من النخل من
طلعها} قنواناً دانية بالنصب، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون
الخبر محذوفاً لدلالة {أخرجنا} عليه تقديره ومخرجة من طلع
النخل قنوان انتهى، ولا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة
في الإخبار بدونه، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون {قنوان}
مبتدأ والخبر {من طلعها} وفي {من النخل} ضمير تقديره وينبت من
النخل شيء أو ثمر فيكون من طلعها بدلاً منه، ويجوز أن يرتفع
{قنوان} على أنه فاعل من طلعها فيكون في {من النخل} ضمير يفسره
{قنوان} وإن رفعت {قنوان} بقوله: {من النخل} على قول من أعمل
أول الفعلين جاز وكان في {من طلعها} ضمير مرفوع انتهى، وهو
إعراب فيه تخليط لا يسوغ في القرآن ومن قرأ {يخرج منه حب
متراكب} جاز أن يكون قوله: {من النخل من طلعها قنوان دانية}
معطوفاً عليه كما تقول يضرب في الدار زيد، وفي السوق عمرو وجاز
أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه.
{وَجَنَّتٍ مِّنْ أَعْنَبٍ} قرأ بالكسر الجمهور عطفاً على قوله
نبات.
وقرأ محمد بن أبي ليلى والأعمش وأبو بكر في
رواية عنه عن عاصم {وجنات} بالرفع وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم
هذه القراءة حتى قال أبو حاتم: هي محال لأن الجنات من الأعناب
لا تكون من النخل ولا يسوغ إنكار هذه القراءة ولها التوجيه
الجيد في العربية وجهت على أنه مبتدأ محذوف الخبر فقدره النحاس
ولهم جنات وقدره ابن عطية، ولكم جنات وقدره أبو البقاء ومن
الكرم جنات وقدره ومن الكرم لقوله: {ومن النخل} وقدره الزمخشري
وثم جنات أي مع النخل ونظيره قراءة من قرأ {وحور عين} بالرفع
بعد قوله: {طاف عليهم بكاس من معين} الآية وتقديره ولهم حور
وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ومثله كثير وقدر الخبر
أيضاً مؤخراً تقديره {وجنات من أعناب} أخرجناها ودل على تقديره
قوله قبل: {فأخرجنا} كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه التقدير
وأخوه أكرمته فحذف أكرمته لدلالة أكرمت عليه، ووجهها الطبري
على أن {وجنات} عطف على {قنوان} ، قال ابن عطية: وقوله ضعيف،
وقال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على {قنوان} لأن
العنب لا يخرج من النخل، وقال الزمخشري: وقد ذكر أن في رفعه
وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره وثم جنات
وتقدّم ذكر هذا التقدير عنه، قال: والثاني أن يعطف على {قنوان}
على معنى وحاصله أو ومخرجه من النخل قنوان {وجنات من أعناب} أي
من نبات أعناب انتهى، وهذا العطف هو على أن لا يلاحظ فيه قيد
من النخل فكأنه قال {من النخل قنوان دانية} {جنات من أعناب}
حاصلة كما تقول من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان.
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً
وَغَيْرَ مُتَشَبِهٍ} قرىء بالنصب إجماعاً. قال ابن عطية:
عطفاً على حباً. وقيل: عطفاً على نبات، وقال الزمخشري: وقرىء
وجنات بالنصب عطفاً على نبات كل شيء أي وأخرجنا به {جنات من
أعناب} وكذلك قوله: {والزيتون والرمان} . انتهى فظاهره أنه
معطوف على نبات كما أن {وجنات} معطوف عليه، قال الزمخشري:
والأحسن أن ينتصب على الاختصاص كقوله: {والمقيمين الصلاة} لفضل
هذين الصنفين انتهى.
وانتصب {مشتبهاً} على أنه حال من {الرمان} لقربه وحذفت الحال
من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير {والزيتون} مشتبهاً
وغير متشابه {والرمان} كذلك هكذا قدره الزمخشري وقال كقوله:
كنت منه ووالدي بريئاً. انتهى.
فعلى تقديره يكون تقدير البيت كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي
بريئاً والبيت لا يتعين فيه ما ذكر لأن بريئاً على وزن فعيل
كصديق ورفيق، فيصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع
فيحتمل أن يكون بريئاً خبر كان على اشتراك الضمير، والظاهر
المعطوف عليه فيه إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما ولا يجوز أن
يكون حالاً منهما وإن كان قد أجازه بعضهم إذ لو كان حالاً
منهما لكان التركيب متشابهين وغيره متشابهين.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ
وَخَلَقَهُمْ} والجمهور على نصب {الجن} وأعربه الزمخشري وابن
عطية مفعولاً أولاً بجعلوا {وجعلوا} بمعنى صيروا {وشركاء}
مفعول ثان ولله متعلق بشركاء، قال الزمخشري (فإن قلت) : فما
فائدة التقديم (قلت) : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان
ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك، ولذلك قدم اسم الله على
الشركاء انتهى، وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون الجن
بدلاً من {شركاء} و {لله} في موضع المفعول الثاني و {شركاء} هو
المفعول الأول وما أجازاه لا يجوز، لأنه يصح للبدل أن يحل محل
المبدل منه فيكون الكلام منتظماً لو قلت وجعلوا لله الجن لم
يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين
أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول: وهذا لا يصح هنا
البتة كما ذكرنا وأجاز الحوفي أن يكون شركاء المفعول الأول
والجن المفعول الثاني كما هو ترتيب النظم، وأجاز أبو البقاء أن
يكون {لله شركاء} حالاً وكان لو تأخر للشركاء وأحسن مما أعربوه
ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن ابراهيم بن
الزبير الثقفي يقول فيه قال انتصب الجن على إضمار فعل جواب
سؤال مقدّر كأنه قيل من {جعلوا لله شركاء} قيل: الجن أي جعلوا
الجن ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن
بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال: من الذي جعلوه شريكاً
فقيل له: هم الجن.
{بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ
وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَحِبَةٌ} وقرأ المنصور: بديع بالجر رداً
على قوله: {جعلوا لله} أو على {سبحانه} . وقرأ صالح الشامي:
{بديع} بالنصب على المدح.
وقرأ النخعي: ولم يكن بالياء ووجه على أن فيه ضميراً يعود على
الله أو على أن فيه ضمير الشأن، والجملة في هذين الوجهين في
موضع خبر {تكن} أو على ارتفاع {صاحبة} بتكن وذكر للفصل بين
الفعل والفاعل كقوله:
لقد ولد الأخيطل أم سوء
وحضر للقاضي امرأة.
وقال ابن عطية: وتدكيرها وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك
في سائر الأفعال. انتهى، ولا أعرف هذا عن النحويين، ولم يفرقوا
بين كان وغيرها والظاهر ارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ أي هو
بديع فيكون الكلام جملة واستقلال الجملة بعدها، وجوزوا أن يكون
بديع مبتدأ والجملة بعده خبره.
{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا} أي
فالابصار لنفسه والعمى عليها قدره الزمخشري {فمن أبصر} الحق
وآمن {فلنفسه} أبصر وإيّاها نفع ومن عمى عنه فعلى نفسه عمي
والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين:
أحدهما: أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجار والمجرور
عمدة لا فضلة، وفي تقديره هو المحذوف جملة والجار والمجرور
فضلة، والثاني: وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم
تدخل الفاء سواء كانت من شرطاً أم موصولة مشبهة بالشرط لأن
الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً ووقع جواب شرط أو خبر
مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر
المبتدأ، لو قلت: من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديره فإنه
لا بد فيه من الفاء ولا يجوز حذفها إلا في الشعر.
{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} وقرأت طائفة
{وليقولوا} بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ
والوعيد، وقرأ الجمهور بكسرها وقالوا: هذه اللام هي التي تضمر
أن بعدها والفعل منصوب بأن المضمرة. قال ابن عطية: على أنها
لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله: {فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدواً وحزناً} أي لما صار أمرهم إلى ذلك، وقال
الزمخشري: و {ليقولوا} جوابه محذوف تقديره وليقولوا دارست
تصرفها (فإن قلت) : أي فرق بين اللامين في {ليقولوا} و
{لنبينه} (قلت) : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة
وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ولكنه
لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبه به فسيق
مساقه، وقيل {ليقولوا} كما قيل: {لنبينه} انتهى، وتسميته ما
يتعلق به قوله ليقولوا جواباً اصطلاح غريب ومثل هذا لا يسمى
جواباً لا تقول: في جئت من قولك: جئت لتقوم أنه جواب وهذا الذي
ذكره الزمخشري من تخريج {ليقولوا} عليه هو الذي ذهب إليه من
أنكر لام الصيرورة وهي التي تسمى أيضاً لام العاقبة والمآل وهو
أنه لما ترتب على التقاطه كونه صار لهم عدواً وحزناً جعل كأنه
علة لالتقاطه فهو علة مجازية، وقال أبو عليّ الفارسي: واللام
في {ليقولوا} على قراءة ابن عامر ومن وافقه بمعنى لئلا يقولوا
أي صرف الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه أساطير الأوّلين قديمة
قد تليت وتكرّرت على الأسماع واللام على سائر القراءآت لام
الصيرورة، وما أجازه أبو عليّ من إضمار لا بعد اللام المضمر
بعدها أن هو مذهب لبعض الكوفيين، وتقدير الكلام لئلا يقولوا
كما أضمروها بعد أن المظهرة في قوله: أن تضلوا ولا يجيز
البصريون إضمار لا إلا في القسم على ما تبين فيه، وقد حمله
بعضهم على أن اللام لام كي حقيقة فقال: المعنى تصريف هذه
الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفراً على
كفر وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيماناً على إيمان وننظيره {يضل به
كثيراً ويهدى به كثيراً} وأما الذين في
قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ولا يتعين ما ذكره
المعرّبون والمفسرون من أن اللام في {وليقولوا} لام كي أو لام
الصيرورة بل الظاهر أنها لام الأمر، والفعل مجزوم بها لا منصوب
بإضمار أن ويؤيده قراءة من سكن اللام والمعنى عليه متمكن كأنه
قيل: ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونك
درستها وتعلمتها أو درست هي أي بليت وقدمت فإنه لا يحفل بهم
ولا يلتفت إلى قولهم.
{للهاتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} لجملة بين
الأمرين اعتراضية أو موضع الحال المؤكدة.
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} و {فيسبوا}
منصوب على جواب النهي، وقيل: هو مجزوم على العطف كقولك: لا
تمددها فتشققها، وعدواً مصدر عدا وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى
أي ظلم، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله
بن يزيد بضم العين والدال وتشديد الواو وهو مصدر لعدا كما
ذكرناه، وجوّزوا فيهما انتصابهما على المصدر في موضع الحال أو
على المصدر من غير لفظ الفعل لأن سب الله عدوان أو على المفعول
له، وقال ابن عطية: وقرأ بعض المكيين وعينه الزمخشري فقال عن
ابن كثير: بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو أي أعداء وهو
منصوب على الحال المؤكدة وعدو يخبر به عن الجمع كما قال: هم
العدوّ.
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ} وانتصب جهد على
المصدر المنصوب بأقسموا أي أقسموا جهد إقساماتهم والأيمان
بمعنى الإقسامات كما تقول: ضربته أشد الضربات، وقال الحوفي:
مصدر في موضع الحال من الضمير في {أقسموا} أي مجتهدين في
أيمانهم، وقال المبرد: مصدر منصوب بفعل من لفظه وقد تقدم
الكلام على {جهد أيمانهم} في المائدة.
{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا
جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ما نافية وأن في هذه القراءة مصدرية
ولا على معناها من النفي، وجعل بعض المفسرين أن هنا بمعنى لكل
وحكي من كلامهم ذلك قالوا: إيت السوق إنك تشتري لحماير بدون
لعلك، وقال امرؤ القيس:
عوجاً على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن حرام وذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ولعل
تأتي كثيراً في مثل هذا الموضع قال تعالى: {وما يدريك لعله
يزكى} {وما يدريك لعل الساعة قريب} وفي مصحف أبي وما أدراكم
لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وضعف أبو علي هذا القول بأن التوقع
الذي يدل عليه لعل لا يناسب قراءة الكسر، وجعل بعضهم لا زائدة
فيكون المعنى وما يدريكم بإيمانهم كما قالوا: إذا جاءت وإنما
جعلها زائدة لأنها لو بقيت على النفي لكان الكلام عذراً للكفار
وفسد المراد بالآية قاله ابن عطية، قال وضعف الزجاج وغيره
زيادة لا، انتهى. قول ابن عطية والقائل بزيادة لا هو الكسائي
والفراء، وقال الزجاج: زعم سيبويه أن معناها لعلها إذا جاءت لا
يؤمنون وهي قراءة أهل المدينة، قال: وهذا الوجه أقوى في
العربية والذي ذكر أن لا لغو غالط لأن ما كان لغواً لا يكون
غير لغو ومن قرأ بالكسر فالإجماع على أن لا غير لغو فليس يجوز
أن يكون المعنى مرة إيجاباً ومرة غير ذلك في سياق كلام واحد،
وتأول بعض المفسرين الآية على حذف معطوف يخرج لا عن الزيادة
وتقديره {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} أو يؤمنون أي ما
يدريكم بانتفاء الإيمان أو وقوعه، ذكره النحاس وغيره، ولا
يحتاج الكلام إلى زيادة لا ولا إلى هذا الإضمار ولا لا يكون أن
بمعنى لعل وهذا كله خروج عن الظاهر لفرضه بل حمله على الظاهر
أولى وهو واضح سائغ كما بحثناه أولاً أي {وما يشعركم} ويدريكم
بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها، القراءة
الرابعة: فتح الهمزة والتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة، والظاهر
أنه خطاب للكفار
ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة لا أي
وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت كما أقسمتم عليه، وعلى تأويل
أن بمعنى لعل وكون لا نفياً أي وما يدريكم بحالهم لعلها إذا
جاءت لا يؤمنون بها وكذلك يصح المعنى على تقدير حذف المعطوف أي
وما يدريكم بانتفاء إيمانكم إذا جاءت أو وقوعه لأن مآل أمركم
مغيب عنكم فكيف تقسمون على الإيمان إذا جاءتكم الآية، وكذلك
يصح معناها على تقدير أي على أن تكون أنها علة أي {قل إنما
الآيات عند الله} فلا يأتيكم بها لأنها {إذا جاءت لا يؤمنون}
وما يشعركم بأنكم تؤمنون وأما على إقرار أن {أنها} معمولة
{ليشعركم} وبقاء {لا} على النفي فيشكل معنى هذه القراءة لأنه
يكون المعنى {وما يشعركم} أيها الكفار بانتفاء إيمانكم إذا
جاءتكم الآية المقترحة، والذي يناسب صدر الآية {وما يشعركم}
بوقوع الإيمان منكم إذا جاءت، وقد يصح أن يكون التقدير: وأيّ
شيء يشعركم بانتفاء الإيمان إذا جاءت، أي لا يقع ذلك في
خواطركم بل أنتم مصممون على الإيمان إذا جاءت، وأنا أعلم أنكم
لا تؤمنون إذا جاءت لأنكم مطبوع على قلوبكم. وكم آية جاءتكم
فلم تؤمنوا. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن ما في قوله {وما
يشعركم} نافية والفاعل بيشعركم ضمير يعود على الله، ويتكلف
معنى الآية على جعلها نافية، سواء فتحت أن أم كسرت. ومتعلق {لا
يؤمنون} محذوف وحسن حذفه كون ما يتعلق به وقع فاصلة، وتقديره
{لا يؤمنون} بها وقد اتضح من ترتيب هذه القراءات الأربع أنه لا
يصلح أن يكون الخطاب للمؤمنين على الإطلاق ولا للكفار على
الإطلاق، بل الخطاب يكون على ما يصح به المعنى التي للقراءة.
{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الكاف للتعليل
وقيل للجزاء.
وقيل: الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليباً لكفرهم، أي عقوبة
مساوية لمعصيتهم، قاله أبو البقاء.
وقال الحوفي: نعت لمصدر محذوف والتقدير: لا
يؤمنون به إيماناً ثانياً {كما لم يؤمنوا به أول مرة} انتهى.
والضمير عائد على الله أو القرآن أو الرسول، أقوال وأبعد من
ذهب إلى أنه يعود على القليب، وانتصب أول مرة على أنه ظرف
زمان.
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ
قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ
اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ * وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَطِينَ الإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ
مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى
حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ
مُفَصَّلاً وَالَّذِينَءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً
وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ * وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأٌّرْضِ
يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ * فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ
أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا
لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ
عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ *
وَذَرُواْ ظَهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ
يَقْتَرِفُونَ * وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَدِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ * أَوَمَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ
فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَفِرِينَ مَا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ أَكَبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا
يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا
جَآءَتْهُمْءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى
مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ
عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ *
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ
كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ
فَصَّلْنَا الآيَتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً} وقرأ نافع وابن
عامر قبلاً بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مقابلة أي عياناً
ومشاهدة. قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، ونصبه على الحال.
وقال المبرد: معناه ناحية كما تقول: زيد
قبلك، ولي قبل فلان دين، فانتصابه على الظرف وفيه بعد.
وقرأ أبيّ والأعمش قبيلاً بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها،
وانتصابه في هذه القراءة على الحال.
وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء وجواب لو {ما كانوا
ليؤمنوا} وقدره الحوفي لما كانوا قال: وحذفت اللام وهي مراده،
ولبس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جواباً للوفا لأكثر في
لسان العرب، أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما، فلا
تقول إن اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفى
بما بالموجب، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على
لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام و {ما كانوا
ليؤمنوا} أبلغ في النفي من لم يؤمنوا لأن فيه نفي التأهل
والصلاحية للإيمان، ولذلك جاءت لام الجحود في الخبر وإلا أن
يشاء الله استثناء متصل من محذوف هو علة. وسبب التقدير {ما
كانوا ليؤمنوا} لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله. وقدره بعضهم
في كل حال إلا في حال مشيئة الله ومن ذهب إلى أنه استثناء
منقطع كالكرماني وأبي البقاء والحوفي. فقوله فيه بعد إذ هو
ظاهر الاتصال.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَطِينَ
الإِنْسِ وَالْجِنِّ} وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو
البقاء هنا كإعرابهم {وجعلوا لله شركاء الجن} وجوزوا في شياطين
البدلية من عدواً، كما جوزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد
رددناه عليهم. والظاهر أن قوله {شياطين الإنس والجن} هو من
إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن
يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين.
وقيل: الإضافة ليست من باب إضافة الصفة
للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن، أي
متمردين مغوين لهم. وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي
والكلبي قالوا: ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي
مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، قسم إبليس جنده فريقاً
إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل
صاحبه بما أضل هو به صاحبه، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الإضافة
المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، ورجحت الإضافة السابقة بأن
المقصود التسلّي والائتسا بمن سبق من الأنبياء، إذ كان في
أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه، وهم شياطين
الإنس.
{زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وانتصب غروراً على أنه مفعول له
وجوزوا أن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغر بعضهم بعضاً أو
مصدراً في موضع الحال أي غارّين.
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِالأٌّخِرَةِ} واللام لام كي وهي معطوفة على قوله غروراً لما
كان معناه للغرور، فهي متعلقة بيوحي ونصب غرور لاجتماع شروط
النصب فيه، وعدى يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية
واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم وفاعل تصغى هو {أفئدة}
وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع
فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل فكأن كل واحد مسبب عما
قبله.
وقال الزمخشري: {ولتصغي} جوابه محذوف
تقديره، وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً على أن اللام لام
الصيرورة، وتسمية ما تتعلق به اللام جواباً اصطلاح غريب، وما
قاله هو قول الزجاج، قال: تقديره {ولتصغي إليه} فعلوا ذلك فهي
لام صيرورة. وذهب الأخفش إلى أن لام {ولتصغي} هي لام كي وهي
جواب لقسم محذوف تقديره. والله {ولتصغي} موضع ولتضغين فصار
جواب القسم من قبيل المفرد فتقول والله ليقول زيد التقدير أقسم
بالله لقيام زيد واستدل على ذلك بقول الشاعر:
إذا قلت قدني قال باللَّه حلفة
لتغني عني ذا أنائك أجمعا
وبقوله: {ولتصغي} والرد عليه مذكور في كتب النحو.
وقيل هي في {ولتصغي} لام كي سكنت شذوذاً، وفي {ليرضوه
وليقترفوا} لام الأمر مضمناً التهديد والوعيد، كقوله: {اعملوا
ما شئتم} .
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى
أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلاً} وجوزوا في إعراب
غير أن يكون مفعولاً بأبتغي وحكماً حال وعكسه وأجاز الحوفي
وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم كقولهم: إن لنا غيرها
إبلا وهو متجه. وحكاه أبو البقاء وجملة وهو الذي أنزل حالية.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} وأعرب الحوفي
والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء {صِدْقاً وَعَدْلاً} مصدرين
في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء. وقال ابن
عطية: هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} و {من} قيل في موضع جر على
إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا
يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف. وقال أبو
الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن
أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي: في
موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله
ما أنشده أبو زيد.
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها {يضل} وجوز أبو
البقاء أن تكون موصوفة بالفعل. وقال الكسائي والمبرد والزجاج
ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر {يضل} والجملة في
موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله {لنعلم أي الحزبين}
وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا
يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل
التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو. وقرأ الحسن
وأحمد أبي شريح {يضل} بضم الياء وفاعل {يضل} ضمير من ومفعوله
محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالاً أو
يخلق فيه الضلال.
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ودعوى زيادة لا هنا لا حاجة إليها
والمعنى على كونها نافية صحيح واضح، و {أن لا تأكلوا} أصله في
أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقة بما تعلق به لكم الواقع خبراً
لما الاستفهامية ونفى {أن لا تأكلوا} على الخلاف أهو منصوب أو
مجرور ومن ذهب إلى {أن لا تأكلوا} في موضع الحال أي تاركين
الأكل فقوله: ضعيف لأن أن ومعمولها لا يقع حالاً وهذا منصوص
عليه من سيبويه، ولا نعلم مخالفاً له ممن يعتبر وله علة مذكورة
في النحو والجملة من قوله: {وقد فصل} في موضع الحال قال هو
والحوفي، وهي في موضع نصب بالاستثناء أو الاستثناء منقطع. وقال
أبو البقاء: {ما} في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق
المعنى.
{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ} وجواب الشرط. زعم الحوفي أنه {إنكم لمشركون}
على حذف الفاء أي فإنكم وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في
القرآن وإنما الجواب محذوف و {إنكم لمشركون} جواب قسم محذوف
التقدير والله {إن أطعتموهم} لقوله: وإن لم ينتهوا عما يقولون
ليمسن وقوله: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن} وأكثر ما
يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على
إن الشرطية، كقوله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} وحذف جواب
الشرط لدلالة جواب القسم عليه.
{وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكَبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} قيل: هو معطوف
على {كذلك زين} فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير إليه بقوله:
{كذلك زين} و {جعلنا} بمعنى صيرنا ومفعولها الأول {أكابر
مجرميها} وفي كل قرية المفعول الثاني و {أكابر} على هذا مضاف
إلى {مجرميها} ، وأجاز أبو البقاء أن يكون {مجرميها} بدلاً من
{أكابر} وأجاز ابن عطية أن يكون {مجرميها} المفعول الأول و
{أكابر} المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر، وما أجازاه
خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل الثاني والتقدير
مجرميها أكابر، وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن
أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدرة أو مضافة إلى
نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أو مؤنث أو
مجموع، فإذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد
أمرين: إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا
فالقول بأن {مجرميها} بدل من {أكابر} أو أن {مجرميها} مفعول
أول خطأ لالتزامه أن يبقى {أكابر} مجموعاً وليس فيه ألف ولام
ولا هو مضاف إلى معرفة وذلك لا يجوز، وقد تنبه الكرماني لهذه
القاعدة فقال: أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا
مع الألف واللام أو مع الإضافة؛ انتهى. وكان ينبغي أن يقيد
فيقول: أو مع الإضافة إلى معرفة وقدر بعضهم المفعول الثاني
محذوفاً أي فساقاً {ليمكروا فيها} وهو ضعيف جداً لا يجوز أن
يحمل القرآن عليه، وقال ابن عطية: ويقال أكابرة كما قالوا أحمر
وأحامرة ومنه قول الشاعر:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت
مالي وكنت بهنّ قدماً مولعا
انتهى، ولا أعلم أحداً أجاز في الأفاضل أن
يقال الأفاضلة بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع
للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل، وقرأ ابن مسلم أكبر مجرميها
وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث
جاز أن يطابق وجاز أن يفرد كقوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على
حياة} وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو، ولاز
{ليمكروا} لام كي. وقيل: لام العاقبة والصيرورة.
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقالوا: حيث
لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا. قال الحوفي: لأنه تعالى لا
يكون في مكان أعلم منه في مكان فإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً
على السعة والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم لأنه لا يعمل
في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم. وقال أبو
البقاء: والتقدير يعلم موضع رسالاته وليس ظرفاً لأنه يصير
التقدير يعلم في هذا المكان كذا وليس المعنى عليه، وكذا قدره
ابن عطية. وقال التبريزي: {حيث} هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب
المفعول كما في قول الشماخ:
وحلأها عن ذي الأراكة عامر
أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواخر فجعل
مفعولاً به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكوى النواحر،
إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع؛ انتهى. وما قاله من أنه مفعول
به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو،
لأن النحاة نصوا على أن {حيث} من الظروف التي لا تتصرف وشذ
إضافة لدى إليها وجرها بالياء ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع
فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب {حيث}
على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها، والذي يظهر لي
إقرار {حيث} على الظرفية المجازية على أن تضمن {أعلم} معنى ما
يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً {حيث
يجعلرسالاته} أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه
رسالته، والظرفية هنا مجاز كما قلنا وروى {حيث} بالفتح. فقيل:
حركة بناء. وقيل: حركة إعراب ويكون ذلك على لغة بني فقعس فإنهم
يعربون {حيث} حكاها الكسائي. وقرأ ابن كثير وحفص رسالته
بالتوحيد وباقي السبعة على الجمع.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ
وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} وانتصب عند
{سيصيب} أو بلفظ {صغار} لأنه مصدر فيعمل أو على أنه صفة لصغار
فيتعلق بمحذوف، وقدّره الزجاج ثابت عند الله و {ما} الظاهر
أنها مصدرية أي بكونهم {يمكرون} . وقيل: موصولة بمعنى الذي.
{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ويحتمل أن يكون {يجعل}
بمعنى يخلق وينتصب {ضيقاً حرجاً} على الحال أي يخلقه على هذه
الهيئة فلا يسمع الإيمان ولا يقبله.
{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ} وتعدية {يجعل} بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما
تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير و {على} في
موضع المفعول الثاني.
{لَهُمْ دَارُ السَّلَمِ عِندَ رَبِّهِمْ
وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ
الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ
أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ
خَلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّلِمِينَ
بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَمَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كَانُواْ كَفِرِينَ * ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ
رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَفِلُونَ *
وَلِكُلٍّ دَرَجَتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَفِلٍ
عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا
يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍءَاخَرِينَ *
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ
يَقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدَّارِ
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ * وَجَعَلُواْ لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأٌّنْعَامِ نَصِيباً
فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا
فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا
يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ
أَوْلَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ
هَذِهِ أَنْعَمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن
نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا
وَأَنْعَمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
* وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَمِ خَالِصَةٌ
لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَجِنَا وَإِن يَكُن
مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ
أَوْلَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا
رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ
وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .
{وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} وإعرابه عندي
بدل كأنه قيل: الوقت الذي وحينئذ يكون جنساً ولا يكون إعرابه
نعتاً لعدم المطابقة.
{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا
شَآءَ اللَّهُ} وقال أبو علي: هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله
في الحال التي هي خالدين والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون
عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم؛ انتهى. ويصح قول الزجاج على
إضمار يدل عليه {مثواكم} أي يثوونن {خالدين فيها} قيل
الاستثناء متصل وقيل منقطع.
{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرَى} وجوّزوا في ذلك الرفع على أنه مبتدأ محذوف
الخبر أي ذلك الأمر، وخبر محذوف المبتدإ أي الأمر ذلك والنصب
على فعلنا ذلك وإن لم يكن تعليل ويحتمل أن تكون أن الناصبة
للمضارع والمخففة من الثقيلة أي لأن الشأن لم يكن ربك وأجاز
الزمخشري أن لا يكون {إن لم يكن} تعليلاً فأجاز فيه أن يكون
بدلاً من ذلك كقوله: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء
مقطوع} فإذا كان تعليلاً فهو على إسقاط حرف العلة على الخلاف
أموضعه نصب أو جر وإن كان بدلاً فهو في موضع رفع، لأن الزمخشري
لم يذكر في ذلك إلا أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي
الأمر ذلك.
{وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ} و {من} لابتداء
الغاية. وقال ابن عطية: للتبعيض. وقال الطبري: وتبعه مكي هي
بمعنى أخذت من ثوبي ديناراً بمعنى عنه وعوضه؛ انتهى، يعني إنها
بدلية.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدَّارِ}
والظاهر أن {من} مفعول {يتعلمون} وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم
استفهام وخبره {تكون} والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن
كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان يتعدّى
إلى مفعولين.
{سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} والظاهر أن {ساء}
هنا مجراة مجرى بئس في الذمّ كقوله: {قل بئسما يأمركم} والخلاف
الجاري في {بئسما} وإعراب ما جار هنا وتقدم ذلك مستوفى في
قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} في البقرة وعلى أن حكمها حكم
{بئسما} فسرها الماتريدي فقال: بئس الحكم حكمهم وأعربها الحوفي
وجعل ما موصولة بمعنى الذي قال والتقدير ساء الذي يحكمون
حكمهم، فيكون حكمهم رفعاً بالابتداء وما قبله الخبر وحذف
لدلالة يحكمون عليه. ويجوز أن يكون ما تمييزاً على مذهب من
يجيز ذلك في {بئسما} فيكون في موضع نصب التقدير {ساء} حكماً
حكمهم ولا يكون {يحكمون} صفة لما لأن الغرض الإبهام ولكن في
الكلام حذف بدل ما عليه والتقدير سا ما {ما يحكمون} . وقال ابن
عطية: و {ما} في موضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون ولا يتجه
عندي أن تجري هنا {ساء} مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا
بد من إظهاره باتفاق من النجاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس
في قوله: {ساء مثلاً القوم} لأن المفسر ظاهر في الكلام؛ انتهى.
وهذا قول من شدا يسير من العربية ولم يرسخ قدمه فيها بل إذا
جرى ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمها سواء لا يختلف في شيء
البتة من فاعل مضمر أو ظاهر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف
المخصوص بالمدح والذمّ والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه
فقوله: لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة
إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما
ذكر عجب عجاب.
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} وقرأ
الجمهور: {زين} مبنياً للفاعل ونصب {قتل} مضافاً إلى {أولادهم}
ورفع {شركاؤهم} فاعلاً بزين وإعراب هذه القراءة واضح، وقرأت
فرقة منهم السلمي والحسن وأبو عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن
عامر {زين} مبنياً للمفعول {قتل} مرفوعاً مضافاً إلى {أولادهم
شركاؤهم} مرفوعاً على إضمار فعل أي زينه شركاؤهم هكذا خرجه
سيبويه، أو فاعلاً بالمصدر أي {قتل أولادهم شركاؤهم} كما تقول:
حبب لي ركوب الفرس زيد هكذا خرجه قطرب، فعلى توجيه سيبويه
الشركاء مزينون لا قاتلون كما ذلك في القراءة الأولى، وعلى
توجيه قطرب الشركاء قاتلون. ومجازه أنهم لما كانوا مزينين
القتل جعلوا هم القاتلين وإن لم يكونوا مباشري القتل، وقرأت
فرقة كذلك إلا أنهم خفضوا شركائهم وعلى هذا الشركاء هم
المودودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، أو لأنهم قسيميو
أنفسهم وأبعاض منها. وقرأ ابن عامر: {كذلك} إلا أنه نصب
{أولادهم} وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل
بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها، فجمهور البصريين يمنعونها
متقدموهم ومتأخر وهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر، وبعض
النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة
المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن
عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها
أيضاً في لسان العرب في عذة أبيات قد ذكرناها في كتاب منهج
السالك من تأليفنا ولا التفات إلى قول ابن عطية وهذه قراءة
ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو
لشركاء ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء
العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر
كقوله:
كما خط الكتاب بكف يوماً
يهودي يقارب أو يزيل
فكيف بالمفعول في أفصح كلام ولكن وجهها على
ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش:
فزججته بمزجة
زج القلوس أبي مزادة
وفي بيت الطرماح وهو قوله:
يطفن بجوزي المراتع لم يرع
بواديه من قرع القسيّ الكنائن
انتهى كلام ابن عطية، ولا التفات أيضاً إلى قول الزمخشري: إن
الفصل بينهما يعني بين المضاف والمضاف إليه فشا لو كان في مكان
الضرورات وهو الشعر أكان سمجاً مردوداً فكيف به في القرآن
المعجز لحسن نظمه وجزالته؟ والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض
المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر {الأولاد}
والشركاء لأن {الأولاد شركاؤهم} في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة
عن هذا الارتكاب؛ انتهى ما قاله. وأعجب لعجمي ضعيف في النحو
يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان
العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة
الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد
اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم ولا التفات
أيضاً لقول أبي علي الفارسي: هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو
عدل عنها يعني ابن عامر كان أولى لأنهم لم يجزوا الفصل بين
المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف
وإنما أجازوه في الشعر؛ انتهى. وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف
والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب هو غلام إن شاء الله
أخيك فالفصل بالمفرد أسهل، وقد جاء الفصل في اسم الفاعل في
الاختيار. قرأ بعض السلف: مخلف وعده رسله بنصب وعده وخفض رسله
وقد استعمل أبو الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل
بالمفعول اتباعاً لما ورد عن العرب فقال:
بعثت إليه من لساني حديقة
سقاها الحيا سقي الرياض السحائب
وقال أبو الفتح: إذا اتفق كل شيء من ذلك
نظر في حال العربي وما جاء به فإن كان فصيحاً وكان ما أورده
يقبله القياس فالأولى أن يحسن به الظن، لأنه يمكن أن يكون ذلك
وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. وقال أبو عمرو
بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم
وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ونحوه ما روى ابن سيرين عن عمر بن
الخطاب أنه حفظ أقل ذلك وذهب عنهم كثيره يعني الشعر في حكاية
فيها طول. وقال أبو الفتح: فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على
الفصيح إذا سمع منه ما يخالف الجمهور بالخطا؛ انتهى، ملخصاً
مقتصراً على بعض ما قاله. وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن
عامر {زين} بكسر الزاي وسكون الياء على القراءة المتقدمة من
الفصل بالمفعول.
افتراءً على الله وانتصب {افتراء} على أنه مفعول من أجله أو
مصدر على إضمار فعل، أي يفترون أو مصدر على معنى وقالوا: لأنه
في معنى افتروا أو مصدر في موضع الحال.
{وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ
الأَنْعَمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى
أَزْوَجِنَا} وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك
وابن أبي عبلة: خالص بالرفع بغير تاء وهو خبر ما و {لذكورنا}
متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني خالصاً بالنصب بغير
تاء، وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على
الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على
العامل فيها؛ انتهى ملخصاً. ويعني بقوله: على الحال من {ما} أي
من ضمير {ما} الذي تضمنه خبر {ما} وهو {لذكورنا} ويعني بقوله:
في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفاً أو مجروراً
نحو زيد قائماً في الدار، وخبر {ما} على هذه القراءة هو
{لذكورنا} . وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضاً
{خالصة} بالنصب وإعرابها كإعراب خالصاً بالنصب وخرّج ذلك
الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباس أيضاً
وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري {خالصة} على
الإضافة وهو بدل من {ما} أو مبتدأ خبره {لذكورنا} والجملة خبر
ما.
{وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} وقرأ ابن
كثير: وإن يكن {ميتة} بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز
الأخفش أن تكون الناقصة وجعل الخبر محذوفاً التقدير وإن تكن في
بطونها ميتة وفيه بعد.
وقرأ باقي السبعة {وإن يكن} التذكير {ميتة} بالنصب على تقدير
وإن يكن ما في بطونها ميتة. قال أبو عمرو بن العلاء: ويقوي هذه
القراءة قوله: {فهم فيه شركاء} ولم يقل فيها؛ انتهى.
{وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّتٍ
مَّعْرُوشَتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ
أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ
تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ
الأَنْعَمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * ثَمَنِيَةَ أَزْوَجٍ مِّنَ
الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ
قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي
بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ
وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّكُمُ اللَّهُ
بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * قُل لاّ أَجِدُ فِى مَآ
أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ
أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا
لَصَدِقُونَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ
وَسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ
الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ
لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَآؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم
مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبَلِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
* قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ
مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِآيَتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ وَهُم
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا
حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَدَكُمْ
مِّنْ إمْلَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ
تَقْرَبُواْ الْفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ
أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا
قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
هلمّ: لغة الحجاز إنها لا تلحقها الضمائر
بل تكون هكذا للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فهي عند
النحويين اسم فعل ولغة بني تميم لحاق الضمائر على حدّ لحوقها
للفعيل، فهي عند معظم النحويين فعل لا تتصرف والتزمت العرب فتح
الميم في اللغة الحجازية وإذا كان أمراً للواحد المذكر في
اللغة التميمية فلا يجوز فيها ما جاز في ردّ، ومذهب البصريين
أنها مركبة من ها التي للتنبيه ومن المم ومذهب الفراء من هل
وأمّ وتقول للمؤنثات هلممن. وحكى الفراء هلمين وتكون متعدّية
بمعنى أخضر ولازمة بمعنى أقبل.
{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا
أُكُلُهُ} وانتصب مختلفاً على أنه حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت
الإنشاء مختلفاً. وقيل: هي حال مقارنة وذلك بتقدير حذف مضاف
قبله تقديره وثمر النخل وحب الزرع والضمير في {أكله} عائد على
{النخل والزرع} وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية قال معناه
الزمخشري: وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير
المتعاطفين. وقال الحوفي: والهاء في {أكله} عائدة على ما تقدّم
من ذكر هذه الأشياء المنشآت؛ انتهى. وعلى هذا لا يكون ذو الحال
{النخل والزرع} فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف
المأكول، ولو كان كما زعم لكان التركيب مختلفاً أكلها إلا إن
أخذ ذلك على حذف مضاف أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل:
{أكله} بالإفراد على مراعاته فيكون ذلك نحو قوله: {أو كظلمات
في بحر لجيّ} يغشاه موج أو كذي ظلمات، ولذلك أعاد الضمير في
{يغشاه} عليه، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو {الزرع} ويكون
قد حذفت حال {النخل} لدلالة هذه الحال عليها، التقدير {والنخل
مختلفاً أكله} والزرع مختلفاً أكله كما تأول بعضهم في قولهم:
زيد وعمرو قائم أي زيد قائم وعمرو قائم، ويحتمل أن يكون الحال
مختصة بالزرع لأن أنواعه مختلفة الشكل جدّاً كالقمح والشعير
والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك،
بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر.
{وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والظاهر أن {يوم حصاده}
معمول لقوله: {وآتوا} والمعنى واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت
الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكان الإيتاء فيه. ويجوز أن يكون
معمولاً لقوله: {حقه} .
{وَمِنَ الأَنْعَمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} هذا معطوف على {جنات}
.
{ثَمَنِيَةَ أَزْوَجٍ مِّنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ} وانتصب {ثمانية أزواج} على البدل في قول الأكثرين
من قوله: {حمولة وفرشاً} وهو الظاهر. وأجازوا نصبه بـ {كلوا
مما رزقكم الله} وهو قول عليّ بن سليمان وقدره كلوا لحم ثمانية
وبإنشأ مضمرة قاله الكسائي، وعلى البدل من موضع ما من قوله:
{مما رزقكم} وبـ {كلوا} مضمرة وعلى أنها حال أي مختلفة متعددة.
وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن وعيسى بن عمر: {من الضأن} بفتح
الهمزة. وقرأ الابنان وأبو عمرو: {ومن المعز} بفتح العين. وقرأ
أبي ومن المعزى. وقرأ أبان بن عثمان: اثنان بالرفع على
الابتداء والخبر المقدم.
{قُل لاّ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَّسْفُوحًا} والدم موصوف بقوله: {مسفوحاً} والفسق موصوفاً
بقوله: {أهل لغير الله به} .
و {محرماً} صفة لمحذوف تقديره مطعوماً ودل عليه قوله {على طاعم
يطعمه} ويطعمه صفة لطاعم.
وقرأ الباقر {بطعمه} بتشديد الطاء وكسر العين والأصل يطتعمه
أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيها فاء الكلمة. وقرأت عائشة وأصحاب
عبد الله ومحمد بن الحنفية تطعمه بفعل ماض وإلا أن يكون
استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون نصبه
بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز. وقرأ
الابنان وحمزة إلا أن تكون بالتاء وابن كثير وحمزة {ميتة}
بالنصب واسم {يكون} مضمر يعود على قوله: {محرماً} وأنث لتأنيث
الخبر. وقرأ ابن عامر {ميتة} بالرفع جعل كان تامة. وقرأ
الباقون بالياء ونصب {ميتة} واسم كان ضمير مذكر يعود على
{محرماً} أي {إلا أن يكون} المحرم {ميتة} وعلى قراءة ابن عامر
وهي قراءة أبي جعفر فيما ذكر مكي يكون قوله: {أو رماً} معطوفاً
على موضع {أن يكون} وعلى قراءة غيره، يكون معطوفاً على قوله:
{ميتة} .
و {أهل} صفة للفسق منصوبة المحل وأجاز
الزمخشري أن ينتصب {فسقاً} على أنه مفعول من أجله مقدم على
العامل فيه وهو {أهلّ} لقوله.
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
وفصل به بين أو وأهل بالمفعول له ويكون أو أهل معطوفاً على
{يكون} والضمير في {به} يعود على ما عاد عليه في {يكون} وهذا
إعراب متكلف جداً وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة وغير
جائز في قراءة من قرأ {إلا أن يكون ميتة} بالرفع فيبقى الضمير
في {به} ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى
يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شيء {أهل لغير الله به} لأن
مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَآ} أي شحوم الجنسين ويتعلق {من} بحرمنا المتأخرة
ولا يجب تقدمها على العامل، فلو كان التركيب وحرمنا عليهم من
البقر والغنم شحومها لكان تركيباً غريباً، كما تقول: من زيد
أخذت ماله ويجوز أخذت من زيد ماله، ويحتمل أن يكون {ومن البقر
والغنم} معطوفاً على {كل ذي ظفر} فيتعلق من بحرمنا الأولى ثم
جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في منن التبيعيضة من المحرم
فقال: {حرّمنا عليهم شحومها} . وقال أبو البقاء: لا يجوز أن
يكون {من البقر} متعلقاً بحرمنا الثانية بل ذلك معطوف على كل
{وحرمنا عليهم} تبيين للمحرّم من البقر والغنم وكأنه يوهم أن
عود الضمير مانع من التعلق إذ رتبة المجرور بمن التأخير، لكن
عن ماذا أما عن الفعل فمسلم وأما عن المفعول فغير مسلم وإن
سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع، بل يجوز
ذلك كما جاز ضرب غلام المرأة أبوها وغلام المرأة ضرب أبوها وإن
كانت رتبة المفعول التأخير، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير
الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو
والمجرور في رتبة واحدة أعني في كونهما فضلة فلا يبالي فيهما
بتقديم أيهما شئت على الآخر. وقال الشاعر:
وقد ركدت وسط السماء نجومها
فقدّم الظرف وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور
بالظرف.
{أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} معطوف على
ظهورها قاله الكسائي.
قال الزمخشري: وأو بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن
سيرين؛ انتهى. وقال النحويون: أو في هذا المثال للإباحة فيجوز
له أن يجالسهما معاً وأن يجالس أحدهما، والأحسن في الآية إذا
قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوفية للتفصيل فصل بها
ما حرم عليهم من البقر والغنم.
{ذلك جزيناهم ببغيهم} قال ابن عطية: {ذلك} في موضع رفع وقال
الحوفي: {ذلك} في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره الأمر ذلك،
ويجوز أن يكون نصب {بجزيناهم} لأنه يتعدّى إلى مفعولين
والتقدير جزيناهم ذلك. وقال أبو البقاء: {ذلك} في موضع نصب بـ
{جزيناهم} لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك. وقال
أبو البقاء: {ذلك} في موضع نصب بـ {جزيناهم} ولم يبين على أيّ
شيء انتصب هل على المصدر أو على المفعول بإذ؟ وقيل: مبتدأ
والتقدير جزيناهموه؛ انتهى، وهذا ضعيف لضعف زيد ضربت. وقال
الزمخشري: ذلك الجزاء {جزيناهم} وهو تحريم الطيبات؛ انتهى.
وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر، وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة
لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا واتبع بالمصدر فتقول: قمت
هذا القيام وقعدت ذلك العقود، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك،
فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر.
{لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَآؤُنَا} {ولا
آباؤنا} معطوف على الضمير المرفوع وأغني الفصل بلا بين حرف
العطف والمعطوف على الفصل بين المتعاطفين بضمير منفصل يلي
الضمير المتصل أو بغيره. وعلى هذا مذهب البصريين لا يجيزون ذلك
بغير فصل إلا في الشعر ومذهب الكوفيين جواز ذلك وهو عندهم فصيح
في الكلام.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَلِغَةُ}
الفاء عطف على محذوف يقدر بما يناسب المعنى.
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} و {هَلُمَّ} هنا على لغة الحجاز
وهي متعدية ولذلك انتصب المفعول به بعدها أي أحضروا شهداءكم.
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} و {ما} بمعنى
الذي وهي مفعولة باتل أي اقرأ الذي حرمه ربكم عليك. وقيل:
مصدرية أي تحريم ربكم. وقيل: استفهامية منصوبة بحرّم أي أي شيء
حرم ربكم، ويكون قد علق أتل وهذا ضعيف لأن أتل ليس من أفعال
القلوب فلا تعلق و {عليكم} متعلق بجرم لا بأتل فهو من أعمال
الثاني. وقال ابن الشجري: إن علقته باتل فهو جيد لأنه أسبق وهو
اختيار الكوفيين فالتقدير اتل عليكم الذي حرّم ربكم.
{ُ ِأَلاَّ
تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً}
الظاهر أن {أن} تفسيرية و {لا} ناهية لأن {اتل} فعل بمعنى
القول وما بعد {أن} جملة فاجتمع في أن شرطاً التفسيرية وهي أن
يتقدمها معنى لقول وأن يكون بعدها جمولة وذلك بخلاف أي فإنها
حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها،
وبعدها مفرد وجملة وجعلها تفسيرية هو اختيار الزمخشري.
(فإن قلت) : إذا جعلت أن مفسرة لفعل
التلاوة وهو معلق بما {حرم ربكم} وجب أن يكون ما بعده منهياً
عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما
يصنع بالأوامر؟ (قلت) : لما وردت هذه الأوامر مع النواهي
وتقدّمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم
أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإشارة إلى الوالدين وبخس
الكيل والميزان وترك العدل في القول وكث عهد الله؛ انتهى. وكون
هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم وكون التحريم
راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً وألغاز في المعاني ولا
ضرورة تدعو إلى ذلك، وأما عطف هذه الأامر فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنها معطوفة على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم
عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية بل هي معطوفة على قوله:
{تعالوا أتل ما حرم} أمرهم أولاً بأمر يترتب عليه ذكر مناه ثم
أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح، والثاني: أن تكون الأوامر
معطوفة على المناهي وداخلة تحت أن التفسيرية ويصح ذلك على
تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل عليه حذفه
والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرّم عليه،
لأن معنى {ما حرم ربكم عليكم} ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى {قل
تعالوا أتل} ما نهاكم ربكم عنه، وإذا كان التقدير هكذا صح أن
تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر
المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً
وأكرم عالماً إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر
كما قال امرؤ القيس:
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل
المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف
فيها خلافاً وقد جوزوا في أن {أن} تكون مصدرية لا تفسيرية
في موضع رفع وفي موضع نصب. فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل
عليه المعنى أو التقدير المتلو {أن لا تشركوا} . وأما
النصب فمن وجوه. أحدها: أن يكون منصوباً بقوله: {عليكم}
ويكون من باب الإعراء وتم الكلام عند قوله: {أتل ما حرم
ربكم} أي التزموا انتفاء الإشراك وهذا بعيد لتفكيك الكلام
عن ظاهره. الثاني: أن يكون مفعولاً من أجله أي {أتل ما حرم
ربكم عليكم} {أن لا تشركوا} وهذا بعيد لأن ما جاء بعده أمر
معطوف بالواو ومناه هي معطوفة بالواو فلا يناسب أن يكون
تبييناً لما حرم، أما الأوامر فمن حيث المعنى وأما المناهي
فمن حيث العطف. الثالث: أن يكون مفعولاً بفعل محذوف تقديره
أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله: {وبالوالدين إحساناً} محمول
على أوصيكم {بالوالدين إحساناً} وهذا بعيد لأن الإضمار على
خلاف الأصل. وهذه الأوجه الثلاثة لا فيها باقية على أصل
وضعها من النفي وهو مراد. الرابع: أن يكون في موضع نصب على
البدل من {ما حرم} أو من الضمير المحذوف من {ما حرم} إذ
تقديره ما حرمه وهذان الوجهان لا فيهما زائدة كهي في قوله:
{ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وهذا ضعيف لانحصار عموم
المحرم في الإشراك إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً من
المحرم ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعاء زيادة لا فيه
لظهور أن لا فيها للنهي.
وقال الزمخشري: (فإن قلت) هلا قلت هي التي
تنصب الفعل وجعلت {أن لا تشركوا} بدلاً من {ما حرم} (قلت)
: وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا
السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها وهي قوله: {وبالوالدين
إحساناً} لأن التقدير وأحسنوا {بالوالدين إحساناً} وأوفوا
وإذا قلتم فاعدلوا وبعهد الله أوفوا؛ انتهى. ولا يتعين أن
تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا
بينا جواز عطف {وبالوالدين إحساناً} على {تعالوا} وما بعده
معطوف عليه، ولا يكون قوله: {وبالوالدين إحساناً} معطوفاً
على {أن لا تشركوا} .
{وَأَنَّ هَذَا صِرَطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ تَمَامًا
عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ
فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن
تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى
طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن
دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ
أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَبُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ
فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَتِ
اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ
عَنْ آيَتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ
يَصْدِفُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيهُمُ
الْمَلَئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ
بَعْضُءَايَتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُءَايَتِ
رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ
تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا
خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا
لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ *
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن
جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى
إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ
وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ *
لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا
وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ
خَلَئِفَ الأٌّرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَكُمْ إِنَّ رَبَّكَ
سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} قرأ
الأخوان {وإن هذا} بكسر الهمزة وتشديد النون على
الاستئناف، {فاتبعوه} جملة معطوفة على الجملة المستأنفة.
وقرأ الباقون بفتحها وخفف ابن عامر النون وشدّدها الباقون.
وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق {وإن} كقراءة ابن عمر، فأما
تخفيف النون فعلى أنه حذف اسم إن وهو ضمير الشأن وخرجت
قراءة فتح الهمزة على وجوه: أحدها: أن يكون تعليلاً حذف
منها اللام تقديره ولأن هذا {صراطي مستقيماً فاتبعوه}
كقوله: {وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع الله أحداً} وقد
صرّح باللام في قوله: {لإيلاف قريش إيلافهم} {فليعبدوا} .
قال الفارسي: قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء
زائدة بمنزلتها في زيد فقام. الوجه الثاني: أن تكون معطوفة
على {ألا تشركوا} أي أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد وأتل
عليكم أن هذا صراطي وهذا على تقدير أن {أن} في {أن لا
تشركوا} مصدرية قاله الحوفي هكذا قرروا هذا الوجه فجعلوه
معطوفاً على البدل مما حرم وهو أن لا تشركوا. وقال أبو
البقاء: أنه معطوف على المبدل منه أي أتل الذي حرم وأتل أن
هذا {صراطي مستقيماً} وهو تخريج سائغ في الكلام، وعلى هذا
فالصراط مضاف للمتكلم وهو الرسول صلى الله عليه
وسلّموصراطه هو صراط الله. الوجه الثالث: أن يكون في موضع
جر عطفاً على الضمير في به قاله الفراء، أي وصاكم به وبأن
حذفت الباء لطول أن بالصلة. قال الحوفي: وهو مرادة ولا
يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها. وقال أبو البقاء:
هذا فاسد لوجهين. أحدهما: عطف المظهر على المضمر من غير
إعادة الجار والثاني أنه يصير المعنى وصاكم باستقامة
الصراط.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} وانتصب
فتفرق لأجل النهي جواباً له أي فتفرق فحذف التاء. وقرىء
{فتفرق} بتشديد التاء.
{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ
تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ
شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ
رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} {ثم} تقتضي المهلة في الزمان هذا
أصل وضعها ثم تأتي للمهلة في الإخبار. فقال الزجاج: هو
معطوف على أتل تقديره أتل ما حرم ثم أتل {آتينا} . وقيل:
معطوف على {قل} على إضمار قل أي ثم قال {آتينا} . وقيل:
التقدير ثم إني أخبركم إنا آتينا.
و {الكتاب} هنا التوراة بلا خلاف وانتصب تماماً على
المفعول له أو على لمصدر أتممناه {تماماً} مصدر على حذف
الزوائد أو على الحال إما من الفاعل والمفعول وكل قد قيل.
وقال بعض نحاة الكوفة: يصح أن يكون {أحسن} اسماً وهو أفعل
التفضيل وهو مجرور صفة للذي وإن كان نكرة من حيث قارب
المعرفة إذ لا يدخله أل كما تقول العرب: مررت بالذي خير
منك، ولا يجوز مررت بالذي عالم؛ انتهى. وهذا سائغ على مذهب
الكوفيين في الكلام وهو خطأ عند البصريين. وقرأ يحيى بن
معمر وابن أبي إسحاق {أحسن} برفع النون وخرج على أنه خبر
مبتدأ محذوف أي هو أحسن و {أحسن} خبر صلة كقراءة من قرأ
{مثلا ما بعوضة} أي تماماً على الذي هو أحسن دين وأرضاه أو
تامّاً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه
والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتم له الكتاب
على أحسنه. وقال التبريزي: {الذي} هنا بمعنى الجمع وأحسن
صلة فعل ماض حذف منه الضمير وهو الواو فبقي أحسن أي على
الذين أحسنوا، وحذف هذا الضمير والاجتزاء بالضمة تفعله
العرب. قال الشاعر:
فلو أن الأطباء كان حولي
وقال آخر:
إذا شاؤوا أضروا من أرادوا
ولا يألوهم أحد ضرارا وقال آخر:
شبوا على المجد شابوا واكتهل
يريد واكتهلوا فحذف الواو ثم حذف الضمير للوقف؛ انتهى.
وهذا خصه أصحابنا بالضرورة فلا يحمل كتاب الله عليه.
وانتصب تفصيلاً على المفعول له.
و {أنزلناه} و {مبارك} صفتان لكتاب أو
خبران عن هذا على مذهب من يجيز تعداد الأخبار. وإن لم يكن
في معنى خبر واحد.
{ُ ِأَن
تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى
طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} {أن تقولوا} مفعول من أجله
فقدره الكوفيون لئلا تقولوا ولأجل أن لا تقولوا وقدره
البصريون كراهة {أن تقولوا} والعامل في كلا المذهبين
{أنزلناه} محذوفة يدل عليها قوله قبل {أنزلناه} ، ولا يجوز
أن يكون العامل {أنزلناه} هذه الملفوظة بها للفاصل بينهما
وهو {مبارك} الذي هو وصف لكتاب أو خبر عن هذا فهو أجنبي من
العامل والمعمول. وظاهر كلام ابن عطية أن العامل فيه
{أنزلناه} الملفوظ بها. وقيل: {أن تقولوا} مفعول والعامل
فيه {واتقوا} أي {واتقوا أن تقولوا} لأنه لا حجة لكم فيه.
{ُ ِوَإِن
كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ} وإن هنا هي المخففة
من الثقيلة. وقال الكوفيون: إن نافية واللام بمعنى إلا
والتقدير وما كنا عن دراستهم إلا غافلين. وقال قطرب: في
مثل هذا التركيب إن بمعنى قد واللام زائدة وليس هذا الخلاف
مقصوراً على ما في هذه الآية، بل هو جار في شخصيات هذا
التركيب وتقريره في علم النحو. وقال الزمخشري: {وإن كنا}
هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين
النافية والأصل {وإن كنا عن دراستهم} غافلين على أن الهاء
ضمير؛ انتهى. وما ذهب إليه من أن أصله {وإن كنا} والهاء
ضمير الشأن يلزم منه أن إن المخففة من الثقيلة عاملة في
مضمر محذوف حالة التخفيف كما قال النحويون في أن المخففة
من الثقيلة والذي نص الناس عليه أن إن المخففة من الثقيلة
إذا لزمت اللام في أحد الجزأين بعدها أو في أحد معمولي
الفعل الناسخ الذي يليها، إنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا
مضمر لا مثبت ولا محذوف فهذا الذي ذهب إليه مخالف للنصوص
وليست إذا وليها الناسخ داخلة في الأصل على ضمير شأن
البتة.
و {عن دراستهم} متعلق بقوله: {لغافلين}
وهذا يدل على بطلان مذهب الكوفيين في دعواهم أن اللام
بمعنى إلا ولا يجوز أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها، وكذلك
اللام التي بمعناها ولهم أن يجعلوا عنها متعلقاً بمحذوف
ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق، فجاء أن
يتقدم معمولها عليها لما وقعت في غير ما هو لها أصل كما
جاز ذلك في أن زيداً طعامك لأكل حيث وقعت في غير ما هو لها
أصل ولم يجز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها
على المبتدأ.
{ُ ِفَقَدْ
جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} والفاء في قوله:
{فقد جاءكم} على ما قدره الزمخشري وغيره جواب شرط محذوف.
قال الزمخشري: والمعنى إن صدقتم فيما كنتم تعدجون من
أنفسكم.
{ُ ِفَقَدْ
جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فحذف الشرط وهو من
أحاسن الحذوف؛ انتهى.
{لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ
مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا خَيْرًا} وقال
الزمخشري: {آمنت من قبل} صفة لقوله: {نفساً} وقوله: {أو
كسبت في إيمانها خيراً} عطف على {آمنت} .
وانتصب يوم تأتي بقوله: {لا ينفع} وفيه دليل على تقدّم
معمول الفعل المنفي بلا على لا خلافاً لمن منع. وقرأ زهير
القروي {يوم يأتي} بالرفع والخبر {لا ينفع} والعائد محذوف
أي لا ينفع فيه وإن لم يكن صفة وجاز الفصل بالفاعل بين
الموصوف وصفته لأنه ليس بأجنبي إذ قد اشترك الموصوف الذي
هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز ضرب هنداً
غلامها التميمية ومن جعل الجملة حالاً أبعد ومن جعلها
مستأنفة فهو أبعد.
{ُ ِمَن جَآءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأنت عشراً وإن
مفرده مؤنث والتقدير فله عشر حسنات أمثالها ونظيره في
التذكير مررت بثلاثة نسابات راعى الموصوف المحذوف أي
بثلاثة رجال نسابات. وقيل: أنث عشراً وإن كان مضافاً إلى
ما مفرده مذكر لإضافة أمثال إلى مؤنث وهو ضمير الحسنة
كقوله: {يلتقطه بعض السيارة} قاله أبو عليّ وغيره.
وقرىء أمثالها بالرفع على النعت لعشر.
{ُ ِدِينًا
قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وانتصب {ديناً}
على إضمار عرفني لدلالة هداني عليه أو بإضمار هداني أو
بإضمار اتبعوا وألزموا، على أنه مصدر لهداني على المعنى
كأنه قال: اهتداء أو على البدل من إلى صراط على الموضع
لأنه يقال: هديت القوم الطريق. قال الله تعالى: {ويهديك
صراطاً مستقيماً} . وقرأ الكوفيون وابن عامر قيماً وتقدم
توجيهه في أوائل سورة النساء. وقرأ باقي السبعة قيماً كسيد
وملة بدل من قوله: {ديناً} و {حنيفاً} تقدم إعرابه في
قوله: {بل ملة إبراهيم حنيفاً} في سورة البقرة. وقال ابن
عطية: و {حنيفاً} نصب على الحال من إبراهيم.
|