الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة الدخان
تسعة وخمسون آية مكية
وجواب القسم. وقال الزمخشري وغيره: قوله: إنا أنزلناه، على أن
الكتاب هو القرآن، ويكون قد عظمه تعالى بالإقسام به.
وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: يفرق، بفتح
الياء وضم الراء، كل: بالنصب، أي يفرق الله. ورفع حكيم، على
أنه الفاعل بيفرق.
وقال: وفي قراءة زيد بن علي: أمراً من عندنا {مُنذِرِينَ *
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، على أنّ هو أمراً،
وهي نصب على الاختصاص ومقبولاً له، والعامل أنزلنا، أو منذرين،
أو يفرق، ومصدراً من معنى يفرق، أي فرقاً من عندنا، أو من
أمرنا محذوفاً وحالاً، قيل: من كل، والذي تلقيناه من أشياخنا
أنه حال من أمر، لأنه وصف بحكيم، فحسنت الحال منه، إلا أن فيه
الحال من المضاف إليه، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب، ولا يجوز.
وقيل: من ضمير الفاعل في أنزلناه، أي أمرني. وقيل: من ضمير
المفعول في أنزلناه، أي في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن
يفعل. والظاهر أن من عندنا صفة لأمراً، وقيل: يتعلق بيفرق.
فالجملة المؤكدة مستأنفة. وقيل: يجوز أن يكون بدلاً من إنا كنا
منذرين {عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا} . وجوزوا في رحمة أن يكون
مصدراً، أي رحمنا رحمة، وأن يكون مفعولاً له بأنزلناه، أو
ليفرق، أو لأمراً من عندنا. وأن يكون مفعولاً بمرسلين.
وقرأ زيد بن علي، والحسن: رحمة، بالرفع: أي تلك رحمة من ربك.
وقرأ ابن محيصن، والأعمش، وأبو حيوة، والكوفيون: رب السموات
{مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ} ، بالخفض بدلاً من ربك؛ وباقي السبعة، والأعرج،
وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وشيبة: بالرفع على القطع، أي هو
رب.
وأحمد بن جبير الأنطاكي: ربكم ورب، بالنصب على المدح، وهم
يخالفون بين الإعراب، الرفع والنصب، إذا طالت النعوت.
وانتصب يوم نبطش، قيل: بذكراهم، وقيل: بننتقم الدال عليه
منتقمون، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل، وقيل: بمنتقمون. ورد
بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها.
يحتمل أن تكون أن تفسيرية، لأنه تقدم ما
يدل على معنى القول، وهو رسول كريم، وأن تكون أن مخففة من
الثقيلة أو الناصبة للمضارع، فإنها توصل بالأمر.
وقال الزمخشري: فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء، فقال: أسر
بعبادي، وأن يكون جواباً بالشرط محذوف؛ كأنه قيل: قال إن كان
الأمر كما تقول، فأسر بعبادي. انتهى. وكثيراً ما يجيز هذا
الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح؛
كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو، على خلاف في
ذلك.
وقال الزجاج: والمعنى: الأمر كذلك، فيوقف على كذلك؛ والكاف في
موضع رفع خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل: الكاف في موضع نصب، أي يفعل
فعلاً كذلك، لمن يريد إهلاكه.
قرأ أبو رجاء نعمة بالنصب عطفاً على كم.
ومن فرعون {وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ
وَرَبُّءَابَآئِكُمُ الأٌّوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ
يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ
بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
* رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ *
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ *
ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ *
إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ *
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ *
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ
رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ
إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى
اللَّهِ إِنِّىءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * وَإِنِّى
عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ
تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ
هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً
إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} : بدل {من العذاب} ، على حذف مضاف، أي
من عذاب فرعون. أولاً حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة.
وقيل: يتعلق بمحذوف، أي كائناً وصادراً من فرعون. وقرأ ابن
عباس: {من فرعون} ، من: استفهام مبتدأ، وفرعون خبره.
فعلى علم: حال، إما من الفاعل، أو من المفعول. وعلى ظهر: حال
من الفاعل في تعذرت، والعامل في ذي الحال.
وقرىء: ميقاتهم، بالنصب، على أنه اسم إن، والخبر يوم الفصل.
{إلا من رحم الله} ، قال الكسائي: من رحم:
منصوب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم
ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين. قيل: ويجوز أن يكون
الاستثناء متصلاً، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه
يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون
بدلاً من مولى المرفوع، ويكون يغني بمعنى ينفع. وقال الزمخشري:
{من رحم الله} ، في محل الرفع على البدل من الواو في {ينصرون}
، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله؛ وقاله الحوفي قبله.
{إلا الموتة الأولى} : هذا استثناء منقطع.
سورة الجاثية
سبعة وثلاثون آية مكية.
وقال أبو عبد الله الرازي: وقوله: العزيز الحكيم، يجوز جعله
صفة لله، فيكون ذلك حقيقة؛ {وإن جعلناه} صفة للكتاب، كان ذلك
مجازاً؛ والحقيقة أولى من المجاز، مع أن زيادة القرب توجب
الرجحان. انتهى. وهذا الذي ردّد في قوله: {وإن جعلناه} صفة
للكتاب لا يجوز. لو كان صفة للكتاب لوليه، فكان يكون التركيب:
تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله، لأن من الله، إما أن يكون
متعلقاً بتنزيل، وتنزيل خبر لحم، أو لمبتدأ محذوف، فلا يجوز
الفصل به بين الصفة والموصوف، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط
الفاضل؛ أو في موضع الخبر، وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل بين
الصفة والموصوف أيضاً، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل، والتركيب
الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها.
{وما يبث من دابة} ، أي في غير جنسكم، وهو
معطوف على: {وفي خلقكم} . ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض
من غير إعادة الخافض، أجاز في {وما يبث} أن يكون معطوفاً على
الضمير {في خلقكم} ، وهو مذهب الكوفيين، ويونس، والأخفش؛ وهو
الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين. وقال الزمخشري:
يقبح العطف عليه، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين،
قال: وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا: مررت بك أنت وزيد.
انتهى. وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام.
وقرأ الجمهور: آيات، جمعاً بالرفع فيهما؛ والأعمش، والجحدري،
وحمزة، والكسائي، ويعقوب: بالنصب فيهما؛ وزيد بن علي؛ برفعهما
على التوحيد. وقرأ أبي، وعبد الله: لآيات فيهما، كالأولى.
فأما: آيات لقوم يعقلون {الرِّيَاحِءّايَتٌ لِّقَوْمٍ} رفعاً
ونصباً، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش، ومن أخذ
بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو، وهي مسألة فيها أربعة
مذاهب، ذكرناها في (كتاب التذييل والتكميل لشرح التهسيل) .
فأما ما يخص هذه الآية، فمن نصب آيات بالواو عطفت، واختلاف على
المجرور بفي قبله وهو: {وفي خلقكم وما يبث} ، وعطف آيات على
آيات، ومن رفع فكذلك، والعاملان أولاهما إن وفي، وثانيهما
الابتداء وفي. وقال الزمخشري: أقيمت الواو مقامهما، فعملت
الجر، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات، وإذا رفعت
والعاملان الابتداء، وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح، لأن
الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل؛ ومن منع العطف على
مذهب الأخفش، أضمر حرف الجر فقدر. وفي اختلاف، فالعمل للحرف
مضمراً، ونابت الواو مناب عامل واحد؛ ويدل على أن في مقدرة
قراءة عبد الله: وفي اختلاف، مصرحاً وحسن حذف في تقدمها في
قوله: {وفي خلقكم} ؛ وخرج أيضاً النصب في آيات على التوكيد
لآيات المتقدمة، ولإضمار حرف في وقرىء واختلاف بالرفع على خبر
مبتدأ محذوف، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضاً.
ونتلوها في موضع الحال، أي متلوة. قال
الزمخشري: والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه، وهذا
بعلى شيخاً. انتهى، وليس نحوه، لأن في وهذا حرف تنبيه. وقيل:
العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه، أي تنبه. وأما تلك،
فليس فيها حرف تنبيه عاملاً بما فيه من معنى التنبيه، لأن
الحرف قد يعمل في الحال: تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه.
وقيل: العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه
المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه، فلا يكون اسم الإشارة
عاملاً ولا حرف التنبيه، إن كان هناك.
فبأي حديث {يَعْقِلُونَ * تَلْكَءَايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ
وَءايَتِهِ يُؤْمِنُونَ} الآية، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد؛ {بعد
الله} : أي بعد حديث الله، وهو كتابه وكلامه، كقوله: {الله نزل
أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} ؛ وقال: فبأي حديث بعده يؤمنون؛
أي بعد حديث الله وكلامه. وقال الضحاك: بعد توحيد الله. وقال
الزمخشري: بعد الله وآياته، أي بعد آيات الله، كقولهم: أعجبني
زيد وكرمه، يريدون: أعجبني كرم زيد. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن
فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة؛ والعطف والمراد
غير العطف من إخراجه إلى باب البدل، لأن تقدير كرم زيد إنما
يكون في: أعجبني زيد كرمه، بغير واو على البدل؛ وهذا قلب
لحقائق النحو. وإنما المعنى في: أعجبني زيد وكرمه، أن ذات زيد
أعجبته، وأعجبه كرمه؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد، وقد رددنا
عليه مثل قوله هذا فيما تقدم.
قرأ طلحة، وابن محيصن، وأهل مكة، وابن كثير، وحفص: أليم
{رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ} ، بالرفع نعتاً
لعذاب؛ والحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وباقي
السبعة: بالجر نعتاً لرجز.
وهاء الكناية عائد على الله، وهو فاعل سخر على الإسناد
المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك، أو هو منه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون يعني منه خبر
مبتدأ محذوف تقديره: هي جميعاً منة، وأن يكون: وما في الأرض،
مبتدأ، ومنه خبره. انتهى. ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول
الأخفش، لأن جميعاً إذ ذاك حال، والعامل فيها معنوي، وهو الجار
والمجرور؛ فهو نظير: زيد قائماً في الدار، ولا يجوز على مذهب
الجمهور.
وقرأ الجمهور: ليجزي الله، وزيد بن عليّ، وأبو عبد الرحمن،
والأعمش، وأبو علية، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالنون؛
وشيبة، وأبو جعفر: بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول. وقد روي
ذلك عن عاصم، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول، على أن
يقام المجرور، وهو بما، وينصب المفعول به الصريح، وهو قوماً؛
ونظيره: ضرب بسوط زيداً؛ ولا يجير ذلك الجمهور. وخرجت هذه
القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر، أي وليجزي الجزاء
قوماً. وهذا أيضاً لا يجوز عند الجمهور، لكن يتأول على أن ينصب
بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً، فيكون جملتان، إحداهما: ليجزي
الجزاء قوماً، والأخرى: يجزيه قوماً.
وقرأ الجمهور: سواء بالرفع، ومماتهم بالرفع أيضاً؛ وأعربوا
سواء: مبتدأ، وخبره ما بعده، ولا مسوغ لجواز الابتداء به، بل
هو خبر مقدم، وما بعده المبتدأ. والجملة خبر مستأنف.
وقال الزمخشري: والجملة التي هي: سواء
محياهم ومماتهم، بدل من الكاف، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً؛
فكانت في حكم المفرد. ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم
ومماتهم كان سديداً؟ كما تقول: ظننت زيد أبوه منطلق. انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري، من إبدال الجملة من المفرد، قد
أجازه أبو الفتح، واختاره ابن مالك، وأورد على ذلك شواهد على
زعمه، ولا يتعين فيها البدل. وقال بعض أصحابنا، وهو الإمام
العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي، ويعرف
بابن العلج، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها، قال في كتابه
(البسيط في النحو) : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في
موضع البدل، كما كان في النعت، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير
الجامد، فيكون بدلاً، فيجتمع فيه تجوز أن، ولأن البدل يعمل فيه
العامل الأول، فيصح أن يكون فاعلاً، والجملة لا تكون في موضع
الفاعل بغير سائغ، لأنها لا تضمر، فإن كانت غير معمولة، فهل
تكون جملة؟ لا يبعد عندي جوازها، كما يتبع في العطف الجملة
للجملة، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي. انتهى.
وتبين من كلام هذا الإمام، أنه لا يجوز أن
تكون الجملة بدلاً من المفرد، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم
سواء محياهم ومماتهم، فيظهر لي أنه لا يجوز؛ لأنها بمعنى
التصيير. لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم، ولا صيرت زيداً غلامه
منطلق، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات، أو من وصف في الذات
إلى وصف فيها. وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة
مفعولاً ثانياً، ليس فيها انتقال مما ذكرنا، فلا يجوز والذي
يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها، أن تكون الجملة
في موضع الحال، والتقدير: أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل
المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم؟ ليسوا كذلك، بل هم
مفترقون، أي افتراق في الحالتين، وتكون هذه الحال مبينة ما
انبهم في المثلية الدال عليها الكاف، التي هي في موضع المفعول
الثاني. وقرأ زيد بن علي، وحمزة، والكسائي، وحفص: سواء بالنصب،
وما بعده مرفوع على الفاعلية، أجرى سواء مجرى مستوياً، كما
قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم. وجوز في انتصاب سواء وجهين:
{يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ
الأٌّمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ
شَيْئاً وَإِنَّ الظَّلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ
وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَئِرُ لِلنَّاسِ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ سَوَآءً
مَّحْيَهُمْ وَمَمَتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ
اللَّهُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَوَةً فَمَن
يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *
وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ
وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ
بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ مَّا كَانَ
حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِئَابَآئِنَآ إِن
كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ
رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال، وكالذين المفعول الثاني،
والعكس. وقرأ الأعمش: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب
أيضاً، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان، والعامل،
إما أن نجعلهم، وإما سواء، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم،
والمفعول الثاني سواء، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء. وقال
الزمخشري: ومن قرأ ومماتهم بالنصب، جعل محياهم ومماتهم ظرفين،
كمقدم الحاج وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم،
والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا
مماتاً، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله: وخفوق النجم ليس بجيد،
لأن خفوق مصدر ليس على مفعل، فهو في الحقيقة على حذف مضاف، أي
وقت خفوق النجم، بخلاف محيا وممات ومقدم، فإنها تستعمل بالوضع
مصدراً واسم زمان واسم مكان، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم
زمان، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه، لأنها موضوعة
للزمان وللمكان، كما وضعت للمصدر؛ فهي مشتركة بين هذه
المدلولات الثلاثة، بخلاف خفوق النجم، فإنه وضع للمصدر فقط.
وقال ابن عطية: هنا ما مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم.
ولتجزي {وَمَمَتُهُمْ سَآءَ مَا} : هي لام
كي معطوفة على بالحق، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان
للتعليل، فكان الخلق معللاً بالجزاء. وقال الزمخشري: أو على
معلل محذوف تقديره: ليدل بها على قدرته، {ولتجزى كل نفس} .
وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون لام الصيرورة.
وأفرأيت: هو بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو: من اتخذ
{يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ} ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن
اهتدى.
أي ما تكون حجتهم، لأن إذا للاستقبال، وخالفت أدوات الشرط بأن
جوابها إذا كان منفياً بما، لم تدخل الفاء، بخلاف أدوات الشرط،
فلا بد من الفاء. تقول: إن تزرنا فما جفوتنا، أي فما تجفونا.
وفي كون الجواب منفياً بما، دليل على ما اخترناه من أن جواب
إذا لا يعمل فيها، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها.
ائتوا {بَيِّنَتٍ مَّا كَانَ} : يظهر أنه خطاب للرسول
والمؤمنين، إذ هم قائلون بمقالته، أو هو خطاب له ولمن جاء
بالبعث، وهم الأنبياء، وغلب الخطاب على الغيبة. وقال ابن عطية:
إئتوا، من حيث المخاطبة له؛ والمراد: هو وإلهه والملك الوسيط
الذي ذكره هو لهم؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم.
انتهى. ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر، وأنهم استدلوا
على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم،
ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي، وهو المميت لا
الدهر، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث، وهذا واجب
الاعتراف به إن أنصفوا، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان
بآبائهم.
العامل في ويوم تقوم {يَعْلَمُونَ *
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى
كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَبِهَا
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا
كِتَبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ
ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ
فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْءَايَتِى تُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
* وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ
رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن
نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ *
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا
كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ
كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْءَايَتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ
يُسْتَعَتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَتِ
وَرَبِّ الأٌّرْضِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ
فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ} :
يخسر، و {يومئذ} : بدل من يوم، قاله الزمخشري، وحكاه ابن عطية
عن فرقة. والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة، ولم تتقدم
جملة إلا قوله: {ويوم تقوم الساعة} ، فيصير التقدير: ويوم تقوم
يوم إذ تقوم إذ تقوم الساعة يخسر؛ ولا مزيد فائدة في قوله: يوم
إذ تقوم الساعة، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة. فإن كان
بدلاً توكيدياً، وهو قليل، جاز ذلك، وإلا
فلا يجوز أن يكون بدلاً. وقالت فرقة العامل: في ويوم تقوم ما
يدل عليه الملك، قالوا: وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست
بالسماء ولا بالأرض، لأن ذلك يتبدل، فكأنه قال: {ولله ملك
السموات والأرض} ، والملك يوم القيامة، فحذفه لدلالة ما قبله
عليه؛ ويومئذ منصوب بيخسر، وهي جملة فيها استئناف، وإن كان لها
تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض.
وقرأ يعقوب: {كل أمة تدعى} ، بنصب كل أمة على البدل، بدل
النكرة الموصوفة من النكرة.
وقرأ الجمهور: {والساعة} بالرفع على الابتداء، ومن زعم أن لاسم
إن موضعاً جوز العطف عليه هنا، أو زعم أن لأن واسمها موضعاً
جوز العطف عليه، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا. قال أبو
علي: ذكره في الحجة، وتبعه الزمخشري فقال: وبالرفع عطفاً على
محل إن واسمها، والصحيح المنع؛ وحمزة: بالنصب عطفاً على الله،
وهي مروية عن الأعمش، وأبي عمرو، وعيسى، وأبي حيوة، والعبسي،
والمفضل. {إن نظن إلا ظناً} ، تقول: ضربت ضرباً، فإن نفيت، لم
تدخل إلا، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد، فلا تقول: ما ضربت إلا
ضرباً، ولا ما قمت إلا قياماً. فأما الآية، فتأول على حذف وصف
المصدر حتى يصير مختصاً لا مؤكداً، وتقديره: إلا ظناً ضعيفاً،
أو على تضمين نظن معنى نعتقد، ويكون ظناً مفعولاً به. وقد تأول
ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها، وقال: التقديران نحن إلا
نظن ظناً. وحكى هذا عن المبرد، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن
العلاء وسيبويه من قول العرب:
ليس الطيب إلا المسك
قال المبرد: ليس إلا الطيب المسك. انتهى. واحتاج إلى هذا
التقدير كون المسك مرفوعاً بعد إلا وأنت إذا قلت: ما كان زيد
إلا فاضلاً نصبت، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس، احتاج
أن يزحزح إلا عن موضعها، ويجعل في ليس ضمير الشأن، ويرفع إلا
الطيب المسك على الابتداء والخبر، فيصير كالملفوظ به، في نحو:
ما كان إلا زيد قائم. ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا
التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما، فلم يعملوها إلا باقية
مكانها، وليس غير عامله. وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في
نحو ليس الطيب إلا المسك، ولا تميمي إلا وهو يرفع. في ذلك
حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، ذكرناها فيما
كتبناه من علم النحو.
وقرأ الجمهور: {رب} ، بالجر في الثلاثة على الصفة، وابن محيصن:
بالرفع فيهما على إضمار هو. |