دلائل الإعجاز ت الأيوبي

التعريف بكتاب دلائل الإعجاز بقلم الشارح: محمد رشيد رضا
حمداً لمن علَّم بالقلم، فلولا القلمُ لما وصلَ علمُ الأولين إلى الآخِرين، ثم حمداً لمن علَّم الإنسانَ من صناعة الطبع ما لم يكن يَعْلم؛ ولولا الطباعةُ لما سهلَ انتشارُ العلوم في العالَمينَ، وصلاةً وسلاماًَ على مَنْ أرشدَ جميعَ الأُمم إلى الاختراع والابتداع في أمور الدنيا، والاتِّباع في أمر الدين، بقوله: "مَنْ سَنَّ سُنةً حسنةً فله أَجْرُها وأَجر مَنْ عمِلَ بها إلى يوم الدين" وقوله: "عليكُم بِسُنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين".
وبعد، فيقول ناشرُ هذا الكتاب ومصححُه (محمد رشيد رضا بن السيد علي رضا الحسيني الحسني) منشئ مجلة "المنار" الإسلامي بمصر القاهرة:
إنَّ كتاب "دلائل الإعجاز" الذي ننشره اليوم، هو صنْو كتاب "أسرار البلاغة" الذي نشرناه في أول العام الماضي (عام 1320 هـ). وقد صدَّرتُ ذلك الكتابَ، بمقدمة بيَّنْتُ فيها حقيقةَ معنى اللغة ومعنى "البيان" فيها، ومكانةَ ذلِك الكتابِ من البيان وعِلْمه، ومِنْ سائر كتبه، مع الإلمام بشيء من تاريخ البلاغة أثبتُّ فيه أن الإمام الشيخ عبد القاهر الجرجاني هو مؤسسُ علمَيْ البلاغة، ومقيم ركْنَيْها "المعاني والبيان" بكتابيه أسرار البلاغة، ودلائلِ الإعجاز. وأنَّ السكاكيَّ ومَنْ دونه مِن علماء هذا الشأن عِيالٌ عليه؛ وذكرتُ ثمةً أنني لمَّا هاجرتُ إلى مصر لإنشاء مجلة "المنار" الإِسلامي في سنة 1315هـ، وجدت الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، رئيسَ جمعية إِحياء العلوم العربية، ومفتي الديار المصرية، مشتغلاً بتصحيح كتاب "دلائل الإعجاز" وقد استحضرَ نُسخةً من المدينة المنوَّرة، ومن بغدادَ، ليقابلها على النسخة التي عنده.
وأَزيدُ الآن: أنه قد عُنِيَ بتصحيحه أتَمَّ عنايةٍ وأَشركَ معه فيها إمامَ اللغة وآدابها في هذا العصر (الشيخَ محمد محمود التركزي الشنقيطي)؛ وناهيك بكتاب اجتمع على تصحيح أصله علاَّمتا المعقول والمنقول. وبعد أن أتمَّ الأستاذُ الإمامُ تدريسَ كتاب "أسرار البلاغة" في الجامع الأزهر، عهِدَ إليَّ بأن أطبع كتاب "دلائل الإعجاز" ليقرأه بعده. فشرعتُ في الطبع وشرع هو في التدريس. وقد بذلت الجهد في تصحيحه، وفسرت بعض الكلمات الغريبة فيه وفي شواهده بالاختصار، وأشرت إلى اختلاف النسخ، أَخْذاً مما كتبه الأستاذ على هامش النسخة التي طبعنا عنها وقد بدأنا طبع الكتاب في مطبعة الموسوعات، ثم أنشأنا لمجلة "المنار" مطبعة خاصة فأتممنا طبعه فيها.


تم طبع الكتاب، ولمَّا يُتِمَّ الأستاذُ الإمامُ تدريسه، وقد علمنا منه أنه يَظهر له فيه أحياناً، قليلٌ من الغلط. فعزَمْنا على طبع جدول لتصحيح الخطأ الذي يُحصيه الإمامُ في نسخة التدريس، بعد إتمام الكتاب وإعطائه لمن يطلبه من الذين يبتاعونه، بغير ثمن ليصححوا نُسَخهم عليه. وبذلك يصحِ لنا أن نحكم أن هذا الكتاب، من أصح الكتب العربية المطبوعة، إن لم نقل أصحها؛ إذ لا طريق إلى كمال التصحيح مثلُ قراءة الكتاب درساً، لا سيما إذا كان المدرِّسُ مثْلَ الأستاذ الإمام في سَعة العِلم، وصحة الحُكْم، وحُسن التقرير، والحرص على الإفهام، والمعرفة بصناعة الطبع. ولا شك أن من يقرأ الشيء وحده، ويحاول تصحيحه، يكون عرضة للسهو والذهول عن بعض الكلم، ولا سيما إذا كان معنى الكلام الذي يقرأه واضحاً جلياً كجلاء كلام الشيخ عبد القاهر رحمه الله تعالى.


مكانة الكتاب بقلم الشارح: محمد رشيد رضا
أما الكتاب، فيعرف مكانَتَه مَنْ يَعرف معنى البلاغة، وسرَّ تسمية هذا الفن "بالمعاني". وأما من يجهل هذا السر، ويحسب أنَّ البلاغة صناعة لفظية محضة، قِوامها انتقاءُ الألفاظ الرقيقة أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالَج بهذا الكتاب. فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية وأريحية نفسية رُجيَ أن يبرأ من علَّته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته؛ وإن بقيَ على ضلاله القديمه وجَهْلِه المقيم، فاحْكُمْ بإعضال دائه، وتعذُّر شفائه. إنما وُضعَ الكلامُ لإفادة المعاني. والبلاغةُ فيه هي أن تَبلغ به ما تُريد من نَفْس المخاطَب، من إقناع وترغيب وترهيب، وتشويق، وتعجيب، أو إدخال سرور أو حزن أو غير ذلك وكلُّ هذه المقاصد أمور روحانية، يُتَوصل إليها بالكلام. فمعرفة قوانين النحو والمعاني والبيان شَرْطٌ فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا بدّ من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثِّراً، وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في المعنى الواحد، والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى، ويختلفان في التأثير، كقول المُعبِّر الأول لذلك الملكِ الذي رأى في نومه أنه فقدَ جميع أسنانه، أَنَّ جميعِ أهلِكَ وذوي قرباك يَهلِكون؛ وقولِ المعبِّر الثاني له: الملك يكون أَطولَ أهلهِ عُمراً. وهذا المذهب هو الذي ذهبَ إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة). وقد خلَفَ من بعده خلَفٌ جعلوا البلاغة صناعةً لفظية محْضة، فقالوا: الُمسْنَد يُعرَّف لكذا وكذا، ويُنكَّر لكذا وكذا الخ. ولم يُبَيِّنوا السرَّ في ذلك، ولم يوازنوا بين مسند منكرٍ عرفتْهُ البلاغة، وآخرُ أنكرتُه وهو مثله، ويبينوا السبب في ذلك؛ ولم يُعْنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه الأزمنة الأخيرة، هذه الكتب المجْدِبة القاحلة، على مِثْل كتب عبد القاهر الخصبة الحافلة، لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين؛ فكان أثرها فيهم أن حُرِموا من البلاغة والفصاحة، حتى إنَّ أعلَمَهم بهذه الكتب، وأكثرَهُم اشتغالاً بها، هم أعياهم وأعجزُهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابة.
ولا غرو، فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة: إن بعض فحول هذا الفن (البلاغة) ليسوا بلغاء!! ففَصلَ بين البلاغة وعِلْمها، وجعله غير مؤدِّ إليها؛ فلم يبق إلا أنه ابتُدعِ لِيُتَعبَّدَ به. ولولا أَنْ قيَّض اللهُ للعربية، في هذا العصر، أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فطفقَ يُحْيى كتبَ السلف النافعة، وعلومهم، لَكُنَّا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة، بعدما قضى عليها حَفَظَتُها وأُساتها.
نسأل الله تعالى أنْ يمدَّ في أيامه، ويُكثر من أنصاره وأعْوانه. آمين.