دلائل الإعجاز ت الأيوبي

الكلام في النحو
وأَمَّا زُهْدُهم في النحو، واحتقارُهم له، وإصغارُهم أَمْرَه وتَهاوُنُهم به: فَصنيعُهُم في ذلك، أَشْنَعُ من صَنيعهم في الذي تَقدَّم، وأَشْبَهُ بأن يكون صَدّاً عن كتاب الله، وعن معرفة معانيه. ذاكَ لأَنهم لا يَجدِون بُدًّا من أن يَعترفوا بالحاجة إليه فيه. إذْ كان قد عُلم أنَّ الألفاظَ مُغْلقةٌ على معانيها، حتى يكونَ الإعرابُ هو الذي يَفْتحُها، وأن الأَغراضَ كامنةٌ فيها، حتى يكونَ هو المستخرجَ لها، وأنه المِعيارُ الذي لا يَتَبيَّنُ نقصانُ كلامٍ ورجحانه، حتى يُعْرَضَ عليه، والمقياسُ الذي يُعْرف صحيحٌ من سقيمٍ حتى يَرْجِعَ إليه، ولا يُنكِرُ ذلك إلاَّ من يُنكِر حِسَّه، وإلاَّ مَنْ غالطَ في الحقائق نَفْسَه.
وإذا كان الأَمرُ كذلك، فليتَ شِعري، ما عُذْرُ مَن تَهاونَ به وزَهِدَ فيه، ولم يَرَ أنْ يستَسْقيَهُ مِنْ مَصبِّه، ويأَخذَه من مَعْدِنه، ورضيَ لنفسه بالنقص، والكمالُ لها معرضٌ، وآثرَ الغَبينةَ وهو يَجد إلى الربح سَبيلاً؟
فإن قالوا: إنَّا لم نَأْبَ صحَّةَ هذا العلم، ولم نُنْكِر مكانَ الحاجة إليه، في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أَنْكَرنا أَشياءَ كَثَّرْتُمُوه بها، وفُضولَ قولٍ تكلَّفْتموها، ومسائلَ عويصةٌ تجشَّمْتُم الفِكْرَ فيها، ثم لم تَحْصلوا على شيء أكثرَ مِنْ أن تُغْرِبوا على السامعين، وتُعَايُوْا بها الحاضرين، قيلَ لهم: خَبِّرونا عَمَّا زَعْمتم أنَّه فُضُولُ قولٍ وعَوِيصٌ لا يَعود بطائلٍ، ما هو؟ فإنْ بدأوا فذَكروا مسائلَ التصريف التي يَضَعُها النحويون للرياضة، ولِضَرْبٍ مِنْ تَمْكينِ المَقاييس في النفوس، كقولهم: كيف تَبْنِي مِنْ كذا، كذا؟ وكقولهم: ما وَزْنُ كذا؟ وتَتَبُّعهم في ذلك الألفاظَ الوحشية، كقولهم: ما وَزْنُ عِزْوِيت، وما وَزْن أَرْوَنَان؟ وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سمَّيْتَ رَجلاً بكذا، كيف يكون الحكم؟ وأشباه ذلك. وقالوا: أَتَشُكُّون أنَّ ذلك لا يُجْدِي إلاَّ كَدَّ الفكرِ وإضاعةَ الوقتِ؟


قلنا لهمِ: أمَّا هذا الجنسُ، فلَسْنا نعيبُكم إن لم تَنْظروا فيه، ولم تُعْنوا به. وليس يهَمُّنا أمرُه؛ فقُولوا فيه ما شِئْتم، وضَعُوه حيث أَرَدْتُم. فإنْ تَرَكوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أَغراض واضعِ اللغة، وعلى وَجْه الحكمةِ في الأوضاع، وتقرير المقاييس التي اطَّردَتْ عليها، وذكْرِ العِلل التي اقْتَضَتْ أن تجري على ما أُجريت عليه، كالقول في المعتلِّ، وفيما يَلْحَقُ الحروفَ الثلاثة التي هي: (الواوُ والياءُ والألفُ) مِن التغيير بالإبدال والحَذْف والإسكان. أو ككَلامِنا مَثلاً على التَّثْنِية وجَمْع السلامة: لِمَ كان إعرابُهما على خلاف إعراب الواحد؟ ولم تَبعَ النصبُ فيهما الجَرَّ؟. وفي (النون): إنَّه عِوَضٌ عن الحركة والتنوين في حال، وعن الحركة وحدها في حال؟ والكلامِ على ما يَنْصرفُ وما لا يَنْصرف، ولم كان مَنْعُ الصَّرف؟ وبيانِ العلَّةِ فيه، والقولِ على الأسباب التسعة، وأَنها كلَّها ثَوانٍ لأُصول؟ وأَنه إذا حصَلَ منها اثنانِ في اسم، أو تكرَّرَ سَبَبٌ، صار بذلك ثانياً من جهتين، وإذا صار كذلك، أَشْبَهَ الفعل، لأنَّ الفعل ثانٍ للاسم، والاسمِ المقدَّم والأَوَّل، وكلِّ ما جرى هذا المجرى!


قلنا: إنا نَسْكت عنكم في هذا الضرب أيضاً، ونَعْذُركم فيه ونُسامِحكم، على عِلْم منَّا بأنْ قد أَسأتُم الاختيار، ومنَعْتم أنْفسَكم ما فيه الحظُّ لكم، ومنعتموها الاطِّلاعَ على مدارج الحِكْمة، وعلى العلوم الجمَّة. فدَعُوا ذلك، وانظروا في الذي اعترفْتُم بصحَّته وبالحاجة إليه: هل حَصَّلْتموه على وجهه؟ وهل أَحَطْتم بحقائقه؟ وهل وَفَيْتُم كلَّ بابٍ منه حقه، وأَحْكَمتوه إحكاماً يؤمِّنُكم الخطأَ فيه، إذا أنتم خُضْتم في التفسير، وتعاطَيْتم عِلْم التأويل، ووازَنْتم بين بَعْضِ الأقوال وبَعْض، وأردتم أن تَعرفوا الصحيحَ من السقيم؛ وعُدْتُم في ذلك وبدأتم، وزِدْتم ونَقَصْتم؟ وهل رأيتم إِذْ قد عرَفْتُم صورة المبتدأ والخبر، وأنَّ إعرابَهما الرفعُ، أن تتجاوزوا ذلك إلى أن تَنْظروا في أَقسام خبره، فتَعْلموا أنه يكون مُفْرداً وجُملةً، وأَنَّ المفرد يَنْقسم إلى ما يَحْتمِل ضميراً له، وإلى ما لا يَحْتمل الضميرَ؛ وأَنَّ الجملة على أربعة أَضْربٍ، وأنه لا بد لكلِّ جُملةٍ وَقَعتْ خبراً لمبتدأ، من أن يكون فيها ذِكْرٌ يَعودُ إلى المبتدأ، وأن هذا الذكْرَ، ربما حُذِفَ لفظاً وأريدَ معنىً، وأنَّ ذلك لا يكونُ حتى في الحال دليلٌ عليه؟ إلى سائرِ ما يتَّصل بباب الابتداءِ، من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بد منها؟ وإذا نظَرْتم في الصفة مثلاً، فعَرَفْتم أنها تَتْبع الموصوفَ، وأَنَّ مِثالها قولُك: (جاءنِي رجلٌ ظريفٌ، ومررتُ بزيدٍ الظريف). هل ظَننتُم أنَّ وراءَ ذلك أمراً، وأنَّ هاهنا صِفةً تُخصِّص وصفةً تُوضح وتُبين، وأن فائدةَ التخصيص غيرُ فائدةِ التوضيح؛ كما أن فائدة الشِّياع، غيرُ فائدة الإبهام، وأنَّ مِنَ الصفة صفةً لا يكون فيها تخيصيصٌ ولا توضيحٌ، ولكنْ يُؤْتى بها مؤكَّدةً، كقولهم (أَمسِ الدابرُ)، وكقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، وصفةً يُراد بها المدحُ والثناءُ، كالصفات الجارية على اسْم الله تعالى جَدَّه؟.


وهل عَرَفتم الفَرْقَ بين الصفة والخبر، وبين كلِّ واحدٍ منها وبين الحال؟ وهل عرَفْتم أَنَّ هذه الثلاثة تَتَّفْقُ في أنَّ كافَّتَها لثُبوتِ المعنى لِلشيء، ثم تَخْتلفٌ في كيفية ذلك الثبوتِ؟
وهكذا ينبغي أن تُعْرَض عليهم الأبوابُ كلُّها: واحداً واحداً، ويُسْألوا عنها باباً باباً، ثم يُقال: ليس إلاَّ أَحدَ أمرين:
إمَّا أن تَقْتحموا التي لا يَرْضاها العاقلُ، فتُنْكِروا أن يكون بكم حاجةٌ في كتاب الله، وفي خبرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي معرفة الكلام جملةً إلى شيء من ذلك، وتَزْعموا أنكم إذا عَرفْتُم مَثلاً، أنَّ الفاعل رَفْعٌ، لم يَبْقَ عليكم في باب الفاعل، ما تحتاجون إلى مَعْرفته. وإذا نظرتم إلى قولنا: (زَيْدُ مُنْطلقٌ)، لم تُحْتاجوا مِنْ بَعده إلى شيء تَعْلمونه في الابتداء والخبر. وحتى تَزْعموا مثَلاً، أنكم لا تحتاجون في أَنْ تَعرفوا وَجْهَ الرفع في {والصابئون} [المائدة: 69] من سورة المائدة، إلى ما قاله العلماء فيه، وإلى استشهادهم بقول الشاعر:
وإلاَّ فاعْلَموا أَنَّا وأنتمْ ... بُغَاةٌ ما بَقينا في شِقاقِ
وحتى كان المُشْكِلُ على الجميع غيرَ مُشكلٍ عندكم، وحتى كأَنَّكم قد أُوتيتُمْ أَنْ تَسْتنبطوا مِن المسألة الواحدة مِن كل باب، مسائِلَهُ كلَّها، فتخرجوا إلى فَنِّ من التجاهل لا يَبْقى معه كلامٌ.
وإمَّا أَنْ تَعْلموا أنكم قد أَخطأتم، حينَ أَصْغَرْتم أمرَ هذا العلمِ، وظَننتُم ما ظَننتُمْ فيه، فتَرْجِعوا إلى الحق وتُسَلِّموا الفضلَ لأهله، وتدعوا الذي يُزري بكم، ويَفْتَحُ بابَ العيبِ عليكم، ويَطيلُ لسانَ القادحِ فيكم. وبالله التوفيق.


هذا - ولو أنَّ هؤلاءِ القوم، إذْ تَرَكوا هذا الشأْنَ، تركوه جُملة؛ وإذْ زَعَموا أنَّ قَدْرَ المْفْتَقَر إلِيه القليلُ منه، اقْتَصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفُسَهم بالتقوِّي فيه، والتصرُّف فيما لم يتعلموا منه، ولم يَخُوضوا في التفسير ولم يتعاطَوْا التأويلَ - لكان البلاءُ واحداً، ولكانوا إذا لم يَبْنُوا، لم يَهْدِموا، وإذا لم يصْلِحوا لمْ يَكونوا سَبباً للفساد، ولكنهم لم يفعلوا؛ فجَلبُوا مِن الداء ما أَعيى الطبيبَ، وحَيَّر اللبيبَ، وانتهى التخليطُ بما أَتَوْه فيه، إلى حدٍّ يُئسَ مِن تَلافيه، فلم يَبْق للعارف الذي يَكْره الشَّغَب إلا التعجبُ والسكوتُ. وما الآفةُ العُظمى إلا واحدةٌ، وهي أنْ يَجيءَ من الإنسان أنْ يَجْريَ في لفظه، ويَْمشي له، أن يُكْثِر في غير تحصيل؛ وأن يُحسِّن البناءَ على غير أساسٍ، وأن يقول الشيء لم يَقْتُلْه علماً.
ونَسْأل اللهَ الهدايةَ، ونرغَبُ إليه في العِصْمة.
ثم إنا وإِنْ كنا في زمانٍ، هو على ما هو عليه مِنْ إحالة الأُمور عن جِهَاتها، وتَحْويلِ الأشياءِ عن حالاتِها، ونَقْلِ النفوسِ عن طِبَاعها، وقَلْبِ الخَلائقِ المحمودةِ إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهلهِ لديه، إلا الشرُّ صِرْفاً والغَيْظُ بَحْتاً، وإلاَّ ما يُدهِشُ عقولَهم، ويسْلُبُهم مَعْقولَهم، حتى صار أَعجزُ الناس رأياً عند الجميع، مَنْ كانت له هِمَّةٌ في أن يَسْتَفِيدَ عِلْماً، أو يَزْدادَ فَهْماً، أو يَكْتَسب فَضْلاً، أو يَجْعلَ له ذلك بحالٍ شُغْلاً، فإنَّ الإلْفَ من طِباع الكريم؛ وإذا كان مِنْ حَقِّ الصديقِ عليكَ، ولا سيَّما إذا تقادمَتْ صُحْبتُه، وصحَّتْ صداقَتُه - أن لا تَجْفُوَه بأن تَنْكُبَكَ الأيامُ وتُضْجِرَكَ النوائبُ، وتُحْرِجَك مِحَنُ الزمان، فتتناساهُ جملةً، وتَطْويَه طَيَّا؛ فالعِلْمُ الذي هو صديقٌ لا يَحُول عن العَهد، ولا يَدْغِلُ في الوُدِّ، وصاحِبٌ لا يَصِحُّ عليه النكْثُ والغَدْر، ولا يُظَنُّ به الخيانةُ والمَكْر، أَولى منه بذلك وأَجْدَرُ، وحَقُّه عليك أَكْبَرُ.
تمهيد للكلام في الفصاحة والبلاغة


ثم إِنَّ التَّوقَ إلى أَن تقَرَّ الأُمورُ قَرارَها، وتُوضَعَ الأشياءُ مَواضِعَها، والنزاعَ إلى بَيانِ ما يُشْكل، وحلِّ ما يَنْعَقِد، والكَشْفِ عمَّا يَخْفَى، وتلخيصَ الصفةِ حتى يزدادَ السامعُ ثقةً بالحُجة، واستظهاراً على الشُّبْهة، واسْتِبانةً للدليل، وتَبْييناً للسبيل، شيءٌ في سُوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نَفْساً.
ولم أزل منذ خَدمْتُ العلم، أنظرُ فيما قاله العلماءُ في معنى الفصاحة والبلاغةِ، والبيانِ والبَراعة، وفي بيان المَغْزى من هذه العبارات، وتفسير المرادِ بها، فأَجِدُ بعضَ ذلك كالرمز والإيماءِ، والإشارة في خفاءٍ، وبعضَه كالتنبيه على مكان الخَبيء لِيُطْلَبَ، ومَوْضعِ الدفينِ ليُبحَثَ عنه فيُخْرَج، وكما يُفتَحُ لكَ الطريقُ إِلى المطلوب لتَسْلُكَه، وتُوضَعَ لك القاعدةُ لتَبْنيَ عليها؛ ووجدتُ المعوَّلَ عَلى أنَّ هاهنا نَظْماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغةً وتصويراً، ونَسْجاً وتَحْبيراً، وأنَّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هو مَجازٌ فيه، سَبيلُها في الأشياء التي هي حقيقةٌ فيها. وأنه كما يَفْضُلُ هناك النظْمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثم يَعْظُمُ الفضلُ، وتَكثُر المَزِيَّةُ، حتى يَفوقَ الشيءُ نظيرَه، والمجانِسَ له، درجاتٍ كثيرة، وحتى تَتفاوتَ القِيمُ التَّفاوُتَ الشديدَ، كذلك يَفْضُلُ بَعْضُ الكلام بَعضاً، ويتَقدَّمُ منه الشيءُ الشيءَ؛ ثم يَزدادُ مِن فضله ذلك، ويَترقَّى منزلةً فوق مَنزلةٍ، ويَعْلو مَرْقباً بعد مَرْقبٍ، ويَسْتأنِفُ له غايةً بعد غاية، حتى يَنتهيَ إلى حيث تَنْقطِعُ الأطماعُ، وتُحْسَرُ الظنونُ. وتَسقُطُ القِوى، وتستوي الأقدام في العجز.


وهذه جملةٌ، قد يُرى في أول الأمر وبادئ الظنِّ: أنها تَكْفي وتُغْني. حتى إذا نظَرْنا فيها، وعُدْنا وبدَأْنا، وجَدْنا الأمرَ على خِلاف ما حَسِبْناه، وصادَفْنَا الحالَ على غير ما توهَّمْناه، وعلِمْنا أنهم لِئنْ أَقْصَروا اللفظ، لقد أطالوا المعنى، وإنْ لم يُغرقوا في النزع. لقد أَبْعدوا على ذاك في المَرْمى. وذاك، لأنه يقال لنا: ما زِدْتم على أن قِسْتُم قِياساً، فقُلْتم: نَظْمٌ ونَظْمٌ، وترتيبٌ وترتيب، ونَسْجٌ ونَسْج. ثم بنَيْتم عليه، أنه ينبغي أن تظهر المزيةُ في هذه المعاني هاهنا، حسَب ظهورها هناك، وأنْ يَعظُمَ الأمرُ في ذلك كما عَظُمَ ثَمَّ؛ وهذا صحيحٌ كما قلْتم. ولكنْ بقيَ أنْ تُعْلِمونا مكانَ المزية في الكلام، وتَصفوها لنا، وتذكروها ذِكْراً كما يُنَصُّ الشيءُ ويُعَيَّنُ، ويُكْشَفُ عن وجهه ويُبَيَّنُ. ولا يكفي أن تقولوا: إنَّه خُصوصيةٌ في كيفية النَّظْم، وطريقةٌ مَخْصوصةٌ في نَسَق الكَلِم بَعْضِها على بعض، حتى تَصِفوا تلك الخصوصيةَ وتُبَيِّنوها، وتَذْكُروا لها أمثلةً وتقولوا: مثْلَ كيتٍ وكَيْتٍ، كما يذْكُر لكَ مَنْ تَسْتوصِفُه عَمَلَ الديباج المنقَّش، ما تَعْلَم به وجْهَ دِقَّةِ الصنعة، أَوْ يَعْمَلهُ بين يديكَ، حتى تَرى عِياناً كيف تَذْهبُ تلك الخيوطُ وتَجيءُ، وماذا يَذْهَبُ منها طُولاً، وماذا يَذهب منها عَرْضاً؛ وبِم يَبْدَأ وبم يُثَنِّي وبم يُثَلِّثُ. وتُبْصِرُ من الحِسَابِ الدقيق، ومِنْ عَجيب تَصَرُّفِ اليَدِ ما تَعلمُ منه مكانَ الحِذْقِ ومَوضِعَ الأُستاذيَّة.
ولو كان قولُ القائل لك، في تَفْسير الفصاحة: إنها خصوصيةٌ في نَظْم الكَلِم وضَمِّ بَعْضِها إلى بعضٍ، على طريقٍ مخصوصة، أو على وُجوهٍ تَظْهَرُ بها الفائدةُ، أو ما أشبَهَ ذلكَ من القول المُجْمَل، كافياً في مَعْرفتها ومُغْنياً في العِلْم بها، لكفى مِثْلُه في معرِفة الصناعات كلِّها. فكان يَكْفي في معرفة نَسْج الديباج الكثيرِ التَّصاويرِ، أَنْ تَعْلم أنه تَرتيبٌ للغَزْل على وَجْهٍ مخصوص، وضَمٌّ لطاقاتِ الإبريسم بعضِها إلى بعضٍ، على طُرُقٍ شتى؛ وذلك ما لا يَقولُه عاقلٌ.


وجملةُ الأمر: أنك لن تَعْلَم في شيءٍ من الصناعات عِلْماً تُمِرُّ فيه وتُحلْي، حتى تَكونَ ممن يَعْرفُ الخطأَ فيها مِن الصواب، ويَفْصِلُ بين الإساءة والإِحسان؛ بل حتى تُفاضِلَ بين الإحسان والإحسان، وتَعْرِفَ طبقاتِ المُحْسنين.
وإذا كان هذا هكذا، علمْتَ أنه لا يكفي في علمٍ الفصاحة أن تَنْصُبَ لها قياساً ما، وأن تَصِفها وصْفاً مُجْملاً، وتقولَ فيها قولاً مُرْسَلاً؛ بل لا تكونُ مِن مَعرفتها في شَيءٍ حتى تُفصِّل القولَ وتُحصِّلَ، وتضعَ اليدَ على الخصائص التي تَعْرِضُ في نَظْم الكَلِم، وتَعُدُّها واحدةً واحدة، وتُسمّيها شيئاً شيئاً. وتكونُ مَعْرفتُك معرفة الصَّنَع الحاذق الذي يَعْلم عِلمَ كلِّ خيطٍ من الإبرسيم الذي في الديباج، وكلَّ قطعةٍ من القِطَع المَنْجورة في الباب المُقَطَّع، وكلَّ آجرَّةِ من الآجرِّ الذي في البناء البديع.
وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظرَ، وطلَبْتَها هذا الطلبَ، احتجْتَ إلى صبرٍ على التأمُّل، ومواظَبةٍ على التدبُّر، وإِلى هِمَّة تَأْبى لكَ أن تَقْنَع إلاَّ بالتمام، وأنْ تَرْبَعَ إلاَّ بَعْد بلوغ الغاية. ومتى جَشَّمْتَ ذلك، وأَبيْتَ إِلاَّ أن تكونَ هنالك، فقد أَمَمْتَ إلى غرض كَريم، وتعرَّضْتَ لأمرٍ جَسيم، وآثَرْتَ التي هي أتَمُّ لدِينِكَ وفَضْلِك، وأَنْبَلُ عند ذوي العقول الراجحة لك؛ وذلك أنْ تَعرِفَ حُجَّة الله تعالى من الوَجْه الذي هو أَضْوَأُ لها وأَنْوَهُ لها، وأَخْلَقُ بأن يَزْدادَ نُورُها سطوعاً، وكوكبُها طُلوعاً؛ وأن تَسْلُكَ إليها الطريقَ الذي هو آمَنُ لكَ من الشكِّ، وأَبعَدُ مِن الرَّيْبِ، وأَصَحُّ لليقينِ، وأَحْرى بأن يُبْلِغَكَ قاصِيَة التبيينِ.
الكلام في إعجاز القرآن من التمهيد


واعْلَمْ أَنه لا سبيل إِلى أنْ تَعرِفَ صحَّةَ هذه الجملةِ، حتى يَبْلُغَ القولُ غايتَه، ويَنْتهيَ إلى آخر ما أَردْتَ جَمْعَه لك، وتَصويرَه في نفسك، وتَقْريرَه عندك. إِلا أنَّ هاهنا نُكْتةً إنْ أنتَ تأمَّلْتَها، تأَمُّلَ المُتَثَبِّتِ، ونظَرْتَ فيها نَظَر المتأنِّي، رجَوْتَ أنْ يَحْسُنَ ظَنُّك، وأنْ تَنْشَطَ للإِصغاء إلى ما أُورِدَه عليك، وهي: إنَّا إذا سُقْنا دليلَ الإعجاز فقُلْنا: لولا أَنهم حينَ سمعوا القرآنَ، وحينَ تُحدُّوا إِلى مُعَارضته، سَمِعوا كلاماً لم يَسْمعوا قطُّ مثْلَه، وأنهم قد رازوا أنْفُسَهم فأَحَسُّوا بالعَجْز على أنْ يأتوا بما يُوازيه أو يُدانيه، أو يقَعُ قريباً منه، لكان مُحالاً أن يَدَعُوا معارَضَتَه، وقد تُحُدُّوا إليه، وقُرِّعوا فيه، وطُولبوا به، وأن يتعرضوا لِشَبا الأَسِنَّة، وَيْقتحموا مواردَ الموتِ.


فقيل لنا: قد سَمِعْنا ما قلْتُم، فخَبِّرونا عنهم، عَمَّاذا عَجِزوا؟ أَعَنْ مَعانٍ في دقة مَعانيه وحُسْنهِا وصحتها في العقول؟ أمْ عن ألفاظٍ مِثْلِ ألفاظه؟ فإِنْ قلْتُم: عن الألفاظ. فماذا أَعْجَزَهم من اللفظ؟ أمْ ما بَهَرَهُم منه؟ فقلنا: أَعْجَزَتْهم مزايا ظَهَرَتْ لهم في نَظْمه، وخصائصُ صادَفُوها في سِياق لفظه، وبدائعُ راعَتْهم من مبادئ آيهِ ومَقَاطعها، ومَجاري ألفاظها ومَواقِعها، وفي مَضْرَبِ كلِّ مَثَلٍ، ومَساقِ كلِّ خبر، وصُورةِ كلِّ عِظَةٍ وتنبيهٍ وإعلام، وتَذكيرٍ وترغيبٍ وترهيبٍ، ومع كلِّ حُجَّةٍ وبرهانٍ، وصفةٍ وتِبْيان؛ وبَهَرهم أنهم تَأَمَّلوه سورةً سورةً، وعَشْراً عشْراً، وآيةً آية، فلم يَجدوا في الجميع كلمةً يَنْبُوا بها مكانُها، ولفظةً يُنْكَرُ شأنُها، أو يُرى أنَّ غيرَها أَصلحُ هناك أو أشْبَهُ، أو أَحْرى وأخْلَقُ؛ بل وَجدوا اتِّساعاً بَهَرَ العقولَ، وأَعْجَز الجُمهورَ، ونظاماً والتئاماً، وإتْقاناً وإحكاماً، لم يَدَعْ في نَفْسِ بليغٍ منهم - ولو حَكَّ بيافوخه السماء - مَوْضِعَ طمع، حتى خَرسَت الألسْنُ عن أنْ تدّعي وتقول، وخَلَدَتِ القُرومُ، فلم تَمْلِك أنْ تَصُولَ. نَعَمْ، فإذا كان هذا هو الذي يُذكَرُ في جواب السائل، فبنا أن نَنْظُر أيٌّ أَشْبَهُ بالفتى في عَقْله ودِينه، وأَزْيَدُ له في عِلْمه ويَقينه: أأنْ يُقَلِّدَ في ذلك، ويَحْفَظَ مَتْنَ الدليلِ وظاهرَ لفظِه، ولا يَبْحثَ عن تفسير المَزايا والخصائصِ، ما هي ومِنْ أيْنَ كَثُرَت الكثرةَ العظيمةَ، واتَّسَعتِ الاتِّساعَ المُجَاوِزَ لِوُسْعِ الخَلْق وطاقة البشر؟ وكيف يكونُ أنْ تَظْهَرَ في ألفاظٍ محصورة، وكَلِمٍ معدودةٍ معلومة، بأنْ يُؤتى ببعضها في إِثْْر بَعْضٍ، لطائفُ لا يَحْصُرها العدَدُ، ولا ينتهي بها الأمَدُ؟ أَمْ أن يَبْحَث عن ذلك كلِّه، ويَسْتقصيَ النظرَ في جَميعِهِ، ويَتَّبعه شيئاً فشيئاً، ويَسْتَقصِيَهُ باباً فباباً، حتى يَعْرِف كلاَ منه بشاهِدِهِ ودليله، ويَعْلَمَهُ بتفسيره وتأويله، ويُوثقَ بتصوره وتمثيله، ولا يكونَ كمن قيلَ فيه [من الطويل]:


يقولون أقوالاً، ولا يَعلْمونها ... ولو قيل: هاتُوا حقِّقوا لم يُحَقِّقوا
قد قطعتُ عذْرَ المتهاونِ ودَلَلَتْ على ما أضاعَ من حَظّه، وهَدَيْتُه لرشده؛ وصحَّ أنْ لا غنى بالعاقل، عن معرفة هذه الأمور، والوقوف عليها والإحاطة بها؛ وأنَّ الجهة التي منها يقف، والسببَّ الذي به يَعْرفُ استقراءَ كلامِ العرب، وتتبُّعَ أشعارهم والنظر فيها، وإذْ قد ثَبتَ ذلك، فينبغي لنا أنْ نبتدئ في بيان ما أرَدْنا بيانه ونأخذَ في شرحه والكشف عنه.


وجملة ما أردت أن أبينه لك الكلام في إعجاز القرآن أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظٍ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومة، وعلَّةٌ معقوله، وأن يكون لنا إِلى العبارة عن ذاك سبيلٌ، وعلى صحة ما أدِّعيناه من ذلك دليل، وهو باب من العلم، إذا أنت فتحتَه اطَّلعْتَ منه على فوائد جليلة، ومعانٍ شريفة، ورأيتَ له أثراً في الدين عظيماً، وفائدة جسيمة، ووجدْتَهُ سبباً إلى حَسْم كثيرٍ من الفساد فِيما يَعودُ إِلى التنزيِل، وإصلاح أنواعٍ من الخَلل فيما يتعلق بالتأويل؛ وأَنه ليؤمنك مِن أَنْ تُغَالَطَ في دعواك، وتدافَع عن مَغْزاك، ويرْبأ بك عن أن تستبين هُدًى ثم لا تهتدي إليه، وتُدِلَّ بعرفانٍ ثم لا تستطيع أن تَدُلَّ عليه، وأن تكون عالِماً في ظاهر مُقَلِّدٍ، ومُستبيناً في صورةِ شاكٍّ، وأن يسألك السائلُ عن حُجة يَلْقى بها الخصمَ في آيةٍ مِنْ كتاب الله تعالى أو غير ذلك، فلا ينصرفُ عنك بِمقْنَع، وأن يكون غايةُ ما لصاحبك منك أن تُحيله على نفْسِه، وتقول: قد نظرتُ فرأيتُ فضلاً ومزية، وصادفتُ لذلك أَريحيَّة، فانظرْ لتعرِفَ كما عرفتُ، وراجعْ نفْسَك، واسْبُرْ وذُقْ، لتجدَ مثل الذي وجدْتُ، فإنْ عَرفَ فذاك، وإلاَّ فبينكما التَّناكُر، تَنْسب إلى سوء التأمُّل، ويُنْسِبكَ إلى فساد في التَّخيُّل، وإنَّه على الجملة بحيث يَنْتقي لك من علم الإعراب خالصَه ولُبَّه، وَيأخُذ لك منه أَناسي العيونِ، وحبَّاتِ القلوب، وما لا يدَفْع الفضلُ فيه دافعٌ، ولا يُنْكِر رجحانَه في موازين العقول مُنْكِرٌ، وليس يَتأتَّى لي أن أُعْلِمَك مِنْ أول الأمر في ذلك آخِرَه، وأَنْ أسمِّي لك الفُصُولَ التي في نيَّتي أن أُحرِّرها بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك، فاعملْ على أنَّ هاهنا فصولاً يَجيء بعضُها في إثر بعضٍ. وهذا أَوَّلها: