دلائل الإعجاز ت الأيوبي

فصل: الكناية والاستعارة والتمثيل بالاستعارة
اعْلَم أنَّ لهذا الضرْبِ اتِّساعاً وتفنناً، لا إلى غاية إلاَّ أنَّه على اتِّساعه يَدورُ في الأَمْر الأعمِّ عَلى شيئين: الكناية والمجاز.
والمرادُ بالكناية هاهنا: أن يُريد المتكلمُ إثباتَ معنًى من المعاني، فلا يذكُرُه باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكنْ يَجيءُ إلى معنى هو تاليه ورِدْفُه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجَعلُه دلياً عليه؛ مثال ذلك قولهم: "هو طويل النجاد"، يريدونَ: طويلَ القامة. "وكثيرُ رمادِ القِدْر"، يَعْنون: كثيرَ القِرى، وفي المرأة: "نَؤومُ الضحى"، والمرادُ أنها مُتْرفةٌ مخَدْومة، لها مَنْ يكفيها أمْرَها، فقد أرادوا في هذا كله كما ترى، معنًى، ثمَّ لم يَذْكُروه بلفظه الخاصِّ به، ولكنهم تَوصَّلوا إِليه بِذِكْر معنًى آخر، مِنْ شأنِه أن يَرْدُفَه في الوجود، وأنْ يكونَ، إذا كان. أَفلا تَرى أنَّ القامةَ إذا طالتْ، طالَ النجادُ؟ وإذا كثُرَ القِرى، كثُرَ رَمادُ القِدْر؟ وإذا كانت المرأةُ مُتْرفةً، لها مَنْ يَكفيها أَمْرَها، رَدِف ذلك أَنْ تنام إلى الضحى؟
وأمَّا الَمجاز، فقد عوَّل الناسُ في حدِّه على حديث النَّقْل، وأنَّ كلَّ لفظٍ نُقِلَ عن موضوعه فهو مَجاز. والكلامُ في ذلك يَطولُ. وقد ذكرتُ ما هو الصحيحُ من ذلك في موضعٍ آخر.
وأنَا أَقْتصرُ هاهنا، على ذِكْر ما هو أشهرُ منه وأظهَرُ، والاسمُ والشهرةُ فيه لشيئين: الاستعارةُ والتمثيلُ، وإنما يكونُ التمثيلُ مَجازاً إذا جاء على حَدِّ الاستعارة.
فالاستعارة: أن تُريدَ تشبيهَ الشيءِ بالشيء، فَتَدعَ أنْ تُفْصحَ بالتشبيهِ وتُظْهرَه، وتجيءَ إلى اسم المشبَّه بهِ، فتعُيِرَه المِشبَّةَ، وتُجْرِيَه عليه. تريد أن تَقول: رأيتُ رجلاً هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء، فتَدَعُ ذلك، وتقول: (رأيتُ أسداً) وضَرْبٌ آخرُ من الاستعارة، وهو ما كان نحو قوله [من الكامل]:
إذْ أَصْبَحتْ بيد الشَّمال زِمامُها
هذا الضربُ وإِن كان الناس يَضمُّونه إِلى الأَوَّل، حيث يذكرون الاستعارة، فليسا سَواءً؛ وذاك أنكَ في الأول، تجعلُ الشيءَ، الشيءَ ليس به، وفي الثاني تجعل للشيء، الشيءَ له. تفسيرُ هذا أنك إذا قلت: (رأيتُ أسداً)، فقد ادَّعيت في إنسانٍ أنه أسدٌ وجعْلته إياه، ولا يكون الإِنسان أَسَداً.
وإذا قلتَ:
إذ أصبحَتْ بيد الشمال زمامها
فقد ادَّعيْتَ أن لِلشَّمال يداً؛ ومَعْلومٌ أنه لا يكون للريحِ يَدٌ.
وهاهنا أَصْلٌ يجبُ ضَبْطُه، وهو أَنَّ جعلَ المشبَّهة، المشبَّهَ به على ضرِبين: أَحدُهما أنْ تُنْزِلَه مَنزلةَ الشيءِ تَذكُرُه بأَمرٍ قد ثبتَ له، فأنتَ لا تحتاج إلى أَنْ تَعْمل في إثباته وتزجيته، وذلك حيث تُسْقِط ذكرَ المشبَّه من الشيئين، ولا تَذْكُرُه بوجهٍ من الوجوه. كقولك: رأيتُ أسداً.


والثاني أن تَجعلَ ذلكَ كالأمرِ الذي يَحتاجُ إلى أن تَعْمل في إثباته وتزجيته. وذلك حيث تُجْري اسْمَ المشبَّهِ به صراحةً على المشبَّه، فتقول: (زيدٌ أسَدٌ وزيدٌ هو الأسدُ)؛ أو تجيءُ به على وجهٍ يَرجعُ إلى هذا، كقولك: (إنْ لقيتَه لقيتَ به أسداً، وإنْ لقيتَه لَيَلْقيَنَّكَ منهُ الأسدُ)؛ فأنتَ في هذا كلِّه، تَعملُ في إثبات كونهِ أَسداً أو الأَسَدَ، وتَضعُ كلامَك له. وأمَّا في الأول، فتُخرِجُه مَخرجَ ما لا يَحْتاجُ فيه إلى إثبات وتقرير. والقياسُ يقتضي أنْ يُقال في هذا الضرب، أَعْني ما أنتَ تَعْملُ في إِثباتِه وتَزْجِيتهِ، أنَّه تَشبيهٌ على حد المبالغة؛ ويقتصرُ على هذا القدرِ ولا يُسمَّى استعارة.
وأمَّا التمثيل الذي يكون مجازاً، لمجيئك به على حَدِّ الاستعارة، فمِثالُه قولُك للرجل، يَتردَّدُ في الشيء بين فِعْله وتَرْكهِ: أَراكَ تقدِّمُ رِجْلاً وتُؤخِّر أُخرى؛ فالأصْل في هذا: أَراكَ في تَردُّدِك، كَمَنْ يُقَدِّمُ رجْلاً ويؤخِّر أخرى؛ ثم اخْتُصِرَ الكلام، وجُعِل كأنه يُقدِّم الرِّجْلَ ويُؤخِّرها على الحقيقة، كما كان الأصْلُ في قولك: رأيتُ أَسَداً: "رأَيتُ رجلاً كالأسد"، ثم جُعِل كأنه الأَسَدُ على الحقيقة. وكذلك تقولُ للرجل: يَعْمَل غيرَ مَعْمَل: أَراك تَنفُخُ في غير فحمٍ، وتَخُطُّ على الماء، فَتجْعلُه في ظاهر الأمر، كأنه يَنفخُ ويَخطُّ؛ والمعنىعلى أنك في فِعْلِك كمن يَفْعل ذلك. وتقولُ للرجل يُعمِلُ الحيلةَ حتى يُميلَ صاحبَه إلى الشيء، وقد كان يأباه ويَمْتنعُ منه: (ما زال يَفْتِل في الذِّروة والغارب، حتى بَلغَ منه ما أَراد) فتَجْعلُه بظاهر اللفظ، كأنه كان منه فَتْلٌ في ذِرْوَةٍ وغاربٍ، والمعنى على أنه لم يَزَلْ يَرْفِقُ بصاحبهِ رِفْقاً يُشبهُ حالُه فيه حالَ الرجل يَجيء إلى البعير الصَّعْب فيَحكُّه ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يَسْكنَ ويَسْتأنسَ. وهو في المعنى، نَظيرُ قولهم: (فلان يُقَرِّدُ فلاناً). يَعني به: أنه يتلطَّف له، فعلَ الرجل يَنْزَعُ القراد من البعير لِيَلَذَّ ذلك، فيَسْكُن ويَثْبتُ في مكانه، حتى يتمكن من أَخْذه.
وهكذا كل كلام رأيتَهم قد نَحَوْا فيه التمثيلَ، لم يُفْصحوا بذلك، وأَخرجوا اللفظ مخرَجَه، إذا لم يريدوا تمثيلاً.