دلائل الإعجاز ت الأيوبي

فصل: في النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع
واعلمْ أنَّ مما هو أَصلٌ في أنَ يدِقَّ النظرُ، ويَغْمُضَ المَسْلكُ في توخِّي المعاني التي عرفت، أنْ تتَّحِدَ أجزاءُ الكلام، ويَدخلَ بعضُها في بعض، ويشتدَّ ارتباطُ ثانٍ منها بأَوَّل، وأن يُحتاجَ في الجِملة إلى أن تضَعَها في النفس وَضْعاً واحداً، وأن يكون حالُكَ فيها، حالَ الباني يَضعُ بيمينه هاهنا، في حالِ ما يَضَعُ بيَسارِه هناك. نعم وفي حالِ ما يُبْصر مكانَ ثالثٍ ورابعٍ يَضعُهما بَعْدَ الأَوَّلَيْن. وليس لما شأْنهُ أن يجيءَ على هذا الوصف، حَدٌّ يَحْصرُه وقانونٌ يُحيطُ به، فإنه يجيء على وجوهٍ شتى وأنحاءَ مختلفة.
فمن ذلك أن تُزاوِجَ بين معنيينِ في الشرط والجزاء معاً، كقول البحتري [من الطويل]:
إذا ما نَهى الناهي فلجَّ بي الهوى ... أصاختْ إلى الواشي فلجَّ بها الهجرُ
وقوله [من الطويل]:
إذا حتربتْ يوماً ففاضتْ دماؤُها ... تذكَّرتِ القُرْبى ففاضتْ دموعُها
فهذا نوع. ونوع منه آخر قول سليمانَ بنِ داودَ القضاعي [من الوافر]:
فبينا المرءُ في علياءَ أَهْوى ... ومُنْحطِّ أُتيحَ له اعتلاءُ
وبيْنَا نِعْمةٌ إذ حال بُؤسٌ ... وبؤُسٌ إذْ تَعقَّبَه ثَراءُ
ونوع ثالث وهو ما كان، كقول كُثيِّر [من الطويل]:
وإني وتهيامي بعَزَّةَ بَعْدَ ما ... تخلَّيْتُ مما بيننا وتخلَّتِ
لَكالْمُرْتَجي ظلَّ الغمامةِ كلمَّا ... تَبَوَّأَ منها لِلْمَقيلِ اضْمَحلَّتِ
وكقول البحتري [من الطويل]:
لعَمرُكَ إنَّا والزمانُ كما جَنَتْ ... على الأَضْعفِ الموهون عاديةُ الأَقْوى
ومنه التقسيمُ وخصوصاً إذا قسمتَ ثم جمْعتَ، كقول حسَّان [من البسيط]:
قَومٌ إذا حارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حاوَلوا النفْعَ في أَشياعِهمْ نَفْعوا
سَجِيَّةٌ تلك منهمْ غيرُ مُحْدَثةٍ ... إنَّ الخلائقَ فاعْلمْ: شرُّها البِدَعُ
ومن ذلك، وهو شيءٌ في غايةِ الحُسْن، قولُ القائل [من البسيط]:
لو أنَّ ما أنتمُ فيهِ يدَومُ لكُمْ ... ظنَنْتُ ما أنا فيهِ دائماً أَبدا
لكنْ رأيتُ الليالي غيرَ تاركةٍ ... ما سَرَّ مِنْ حادثٍ أوْ ساءَ مُطَّرِدا
فقد سكَنْتُ إلى أَنِّي وأَنَّكُمُ ... سَنَسْتَجِدُ خِلافُ الحالتين غَدا


قوله "سنستجد خلاف الحالتين غدا" جمعٌ فيما قسَمَ، لطيفٌ. وقد ازدادَ لطفاً بحُسنِ ما بَناه عليه، ولُطْفِ ما توصَّل به إليه، من قوله "فقد سكنتُ إلى أني وأنكم".
وإذْ قد عرفتَ هذا النمطَ من الكلام، وهو ما تتَّحِدُ أَجزاؤه حتى يُوضَعَ وَضْعاً واحداً، فاعلمْ أَنه النمطُ العالي، والبابُ الأَعْظم والذي لا تَرى سلطان المزيةِ يَعْظُم في شيء، كَعِظَمه فيه.
ومما نَدرَ منه، ولطُفَ مأْخذُه، ودقَّ نظرُ واضعِه، وجلَّى لكَ عن شأوٍ قد تحسر دونه العِتاقُ، وغايةٍ يَعْيى مِنْ قَبْلها المذاكي القُرَّح، الأبياتُ المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين - بيتُ أمرئ القيس [من الطويل]:
كأنَّ قُلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابساً ... لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشفُ البالي
وبيتُ الفرزدق [من الكامل]:
والشيبُ يَنْهضُ في الشباب كأنَّهُ ... ليَلٌ يَصِيحُ بجانبَيْهِ نَهارُ
وبيتُ بشار [من الطويل]:
كأنَّ مُثارَ النقعِ فَوقَ رؤوسِنا ... وأسيافنَا، لَيْلٌ تَهَاوى كواكِبُهْ
ومما أَتى في هذا الباب، مأْتىً أَعْجَبَ مما مضى كله، قولُ زياد الأعجم [من الطويل]:
وإنَّما ما نُلْقي لنا إنْ هجَوْتَنا ... لَكالبحر مَهْما يُلْقَ في البحر يَغْرقِ
وإنما كان أعجبَ لأن عمله أدقُّ، وطريقه أغمض، ووجه المشابهة فيه أغربُ.
واعلمْ أنَّ مِن الكلام، ما أنتَ تَعلمُ إذا تدبَّرْتَهُ، أنْ لم يحتجْ واضعُه إلى فكْرٍ وروية حتى انتظَمَ، بل ترى سبيلَه في ضمِّ بعضِه إلى بعض، سبيلَ مَنْ عمدَ إلى لآلٍ، فخرَطَها في سلكٍ لا يبغي أكثرَ من أنْ يَمْنعَها التفرُّقَ. وكمَنْ نَضَدَ أشياءَ بعضُها على بعضٍ، لا يُريد في نَضَده ذلك، أن تجيءَ له منه هيئةٌ أو صورةٌ، بل ليس إلاَّ أنْ تكون مجموعةً في رأْي العينِ. وذلك إذا كان مَعْناكَ معنىً لا يَحتاجُ أن تَصْنَعَ فيه شيئاً، غيرَ أنْ تَعْطِفَ لفَظاً عَلَى مثله.


كقولِ الجاحظ: "جنّبَكَ اللهُ الشبهةَ، وعصَمَكَ من الحَيْرة، وجعَلَ بينكَ وبينَ المعرفةِ نَسَباً، وبينَ الصِّدْق سَبَباً، وحبَّبَ إليك التثبُّتَ، وزَيَّن في عينكَ الإنصافَ، وأذاقَكَ حلاوةَ التقوى، وأشْعَرَ قلبَكَ عزَّ الحقِ، وأوْدَعَ صدْرَكَ برْد اليقينِ، وطردَ عنك ذُلَّ اليأسِ، وعرَّفَكَ ما في الباطلِ من الذَّلَّة، وما في الجهل من القِلَّة".
وكقول بعضهم: "للهِ دَرُّ خطيبٍ قامَ عندك يا أميرَ المؤمنين! ما أفصحَ لسانَه، وأحسَنَ بيانَه، وأَمضى جَنانَه، وأَبلَّ ريقَه، وأسهل طريقَة! "
ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع: "أيفاخِرُك الملكُ اللخميُّ؟ فواللهِ لقَفاكَ خيرٌ من وجَهْهِ، ولَشِمالُكَ خيرٌ من يَمينه، ولأَخْمَصُكَ خيرٌ من رأْسه، ولَخَطَؤكَ خير من صَوابه، ولَعِيُّك خير من كلامه ولَخَدَمُكَ خير من قَوْمه! "
وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان. "اللسان أداةٌ يظَهر بها حُسْنُ البيان، وظاهرٌ يُخْبِر عن الضمير، وشاهدٌ يُنبئكَ عن غائب، وحاكِم يُفْصَل به الخِطابُ، وواعظٌ يَنْهى عن القبيح، ومُزَيِّنٌ يَدعو إلى الحُسْن، وزارعٌ يَحْرثُ المودَّة، وحاصدٌ يحصِدُ الضَّغينة، ومُلْهٍ يُونِق الأسماع". فما كانَ من هذا وشَبَهه، لم يَجِبْ به فضْلٌ إذا وجَبَ، إلاَّ بمعناه أو بمُتون أَلفاظِه، دون نَظْمه وتأليفه؛ وذلك لأنه لا فضيلةَ حتى تَرى في الأمر مَصْنعاً، وحتى تَجدَ إلى التخيُّر سبيلاً، وحتى تكونَ قد استدركْتَ صَواباً.


فإن قلْتَ: أفلَيْسَ هو كلاماً قد اطَّرد على الصواب، وسَلِم من العَيْب؟ أَفَما يكونُ في كثرة الصوابِ فضيلةٌ؟ قيل: أَمّا والصوابُ كما ترى، فَلاَ! لأنَّا لَسْنا في ذكْر تقويم الِلسان، والتحرُّز من اللَّحْن، وزَيْغ الإعراب، فنَعْتدَّ بمثل هذا الصواب، وإنما نحن في أمورٍ تُدرَك بالفِكَر اللطيفة، ودقائقَ يُوصلُ إليها بثاقِب الفَهْم؛ فليس دَركُ صوابٍ دَركاً فيما نحن فيه حتى يَشْرُفَ موضعُه، ويَصعُبَ الوصولُ إليه؛ وكذلك لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً، حتى يُحتاجَ في التحفظ منه إلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوة ذهن، وشدةِ تيقظٍ. وهذا باب يَنبغي أن تُراعِيَه، وأن تُعْنى به، حتى إذا وازنْتَ بين كلام وكلام، دريتْ كيف تَصْنعُ؛ فضمَمْتَ إلى كل شَكْلٍ شكْلَه، وقابلْته بما هو نظيرٌ له، وميَّزْتَ ما الصنعةُ منه في لفظه، مما هي منه في نظمه.
واعلمْ أنَّ هذا - أعني الفرق بين أن تكونَ المزيةُ في اللفظ، وبين أن تكون في النظم - بابٌ يَكْثُر فيه الغَلطُ؛ فلا تزَالُ تَرى مُستحسِناً قد أخطأَ بالاستحسانِ موضعَه، فينَحَلُ اللفظَ ما ليس له، ولا تزالُ تَرى الشُّبهةَ قد دخلتْ عليك في الكلام، قد حَسُنَ من لفظه ونظمه، فظننْتَ أنَّ حُسْنه ذلك كلَّه، لِلَّفظِ منه دون النظْم.
مثال ذلك أن تَنْظُر إلى قول ابن المعتز [من الطويل]:
وإنِّي على إشفاقِ عَيْني مِن العِدى ... لَتَجْمَح مني نَظرةٌ ثم أُطْرِقُ
فترَى أنَّ هذه الطَّلاوةَ وهذا الظَّرْفَ، إنما هو لأَنْ جعَلَ النظرَ يَجْمحُ، وليس هو لذلك، بل لأَنْ قال، في أول البيت "وإني"، حتى دخل اللام في قوله "لتجمح"، ثم قوله "مني"؛ ثم لأَنْ قال "نظرة" ولم يقل (النظر) مثلاً، ثُمَّ لمكان "ثُم" في قوله: "ثم أُطرِق"، ولِلطيفةٍ أُخرى نَصَرتْ هذه اللطائفَ، وهي اعتراضُه بين اسم إنَّ وخبرها، بقوله "على إشفاق عيني من العدى".
وإن أردتَ أعجبَ من ذلك، فيما ذكرتُ لك، فانظرْ إلى قوله: - وقد تقدم إنشاده قَبْلُ -[من البسيط]:
سالتْ عليه شِعابُ الحيِّ حين دَعا ... أنصارَه بوجوهٍ كالدنانيرِ


فإنَّكَ تَرى هذه الاستعارة، على لُطْفها وغَرابتها، إنما تَمَّ لها الحسْنُ وانتهى إلى حيثُ انتهى، بما تُوخِّيَ في وضْع الكلام من التقديم والتأخير، وتَجدُها قد مَلُحَتْ ولَطُفتْ بمعاونةِ ذلك ومؤازرتِه لها. وإن شكَكْتَ، فاعمدْ إلى الجارَّيْن والظَّرْف، فأَزِلْ كلآ منها عن مكانه الذي وضَعَه الشاعرُ فيه، فقل: (سالت شعابُ الحيّ بوجوهٍ كالدنانير عليه حين دعا أنصاره). ثم انظرْ كيف يكونُ الحالُ، وكيف يَذهبُ الحسْنُ والحلاوةُ، وكيف تَعْدَم أرْيَحِيَّتَكَ التي كانت، وكيف تَذْهب النشوةُ التي كُنتَ تَجِدُها.
وجملةُ الأمر أنَّ هاهنا كلاماً حُسْنُه لِلَّفظ دونَ النظمِ، وآخرَ حُسْنُه للنظْم دونَ اللفظِ، وثالثاً قرَى الحُسْنَ من الجهتين، ووجبَتْ له المزيةُ بكلا الأمرين؛ والإشكال في هذا الثالث وهو الذي لا تَزالُ تَرى الغلَطَ قد عارضَك فيه، وتَراكَ قد حِفْتَ فيه على النظم فتركْتَه، وطمحْتَ ببصرِكَ إلى اللفظ وقدَّرْتَ في حُسْنٍ كان به، وباللفظ أنه لِلَّفظِ خاصة. وهذا هو الذي أردتُ حين قلتُ لك: إنَّ في الاستعارة، ما لا يُمكنُ بَيانُه إلاَّ مِنْ بَعد العلم بالنظْم، والوقوف على حقيقته.


ومن دقيق ذلك وخَفِيِّه، أنكَ ترى الناسَ، إذا ذَكَروا قولَه تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] لم يَزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم يَنْسبوا الشَّرَفَ إلاَّ إليها، ولم يروا لِلمزيَّة مُوجِباً سواها؛ هكذا تَرى الأمر في ظاهر كلامِهمْ؛ وليس الأَمرُ على ذلك. ولا هذا الشرفُ العظيمُ، ولا هذه المزيةُ الجليلة، وهذه الروعةُ التي تَدخلُ على النفوس، عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة، ولكنْ لأَنْ يُسلَك بالكلام طريقُ ما يُسْنَدُ الفعلُ فيه إلى الشيء، وهو لما هو، من سببه؛ فيُرفَعُ به ما يُسْنَد إليه، ويُؤتى بالذي الفعلُ له في المعنى، منصوباً بعده، مبيناً أَنًَّ ذلك الإسنادَ وتلك النسبةَ إلى ذلك الأولِ، إنما كان من أَجْل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسةِ كقولهم: (طابَ زيدٌ نفساً، وقَرَّ عَمرو عَيْناً، وتصبَّب عَرقاً، وكرُم أَصْلاً، وحَسُنَ وجْهاً). وأشباهِ ذلك مما تَجِد الفعل فيه منقولاً عن الشيء إلى ما ذلك الشيءُ من سببه. وذلك أَنَّا نَعلم أَنَّ "اشتعل" للشيبِ في المعنى، وإنْ كان هو للرأس في اللفظ، كما أنَّ "طاب" للنفس، و "قرَّ" للعين، و "تصبَّبَ" للعرق وإنْ أُسِند إلى ما أُسنِد إليه، يُبَيِّنُ أن الشرَفَ كان، لأَن سُلِكَ فيه هذا المسلكُ، وتُؤخِّيَ به هذا المذهبُ، أن تَدَع هذا الطريق فيه وتأخذَ اللفظَ فتُسنِده إلى الشيب صريحاً فتقول: (اشتعلَ شيبُ الرأسِ، والشيْبُ في الرأسِ)، ثم تنظر: هل تَجدُ ذلك الحُسْنَ وتلك الفخامة؟ وهل تَرى الروعةَ التي كنتَ تَراها؟ فإن قلْتَ: فما السببُ في أَنْ كان "اشتعل" إذا استُعيرَ للشيب، على هذا الوجه، كان له الفضْلُ، ولمَ بانَ بالمزيَّةِ منَ الوجهِ الآخرِ هذ البَيْنُونَة؟ فإنَّ السببَ أَنَّه يُفيدُ، معَ لمَعانِ الشيبِ في الرأس، الذي هو أَصْلُ المعنى: الشُّمولَ؛ وأَنَّه قد شاعَ فيه، وأَخذَه من نَواحيه، وأَنَّه قد استقَرَّ به، وعمَّ جُمْلَتَه، حتى لم يَبْقَ من السَّوادِ شيءٌ، أوْ لم يبْقَ منه إلاَّ ما لا يُعْتَدُّ به؛ وهذا ما لا يكون إذا قيل: (اشتعلَ شَيبُ الرأس، أو الشيب في الرأس).


بل لا يُوجِبُ اللفظُ حينئذٍ أكثرَ مِنْ ظهورهِ فيه على الجملة. وَوِزانُ هذا أنك تقول: (اشتعلَ البيْتُ ناراً) فيكونُ المعنى، أنَّ النارَ قد وقَعَتْ فيه وُقوع الشُّمولِ، وأنَّها قد استولَتْ عليه وأخذَتْ في طرفَيْه ووَسَطِه. وتقول: (اشتعلتِ النارُ في البيت) فلا يُفيد ذلك، بل لا يُقْتضَى أكثرُ من وقوعها فيه، وإصابتها جانباً منه. فأمَّا الشُّمول، وأنْ تكونَ قد استولتَ على البيت وابتزَّتْه، فلا يُعقلُ من اللفظ البتَّةَ.
ونَظيرُ هذا في التنزيل قولُه عزَّ وجل: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] التفجيرُ للعيون في المعنى، وأَوْقَعُ على الأرض في اللفظ، كما أُسنِد هناك، الاشتعالُ إلى الرأس. وقد حصَلَ بذلك منْ معنى الشمولِ هاهنا، مثْلُ الذي حصلَ هناك. وذلك أَنَّه قد أَفادَ أنَّ الأرضَ قد كانت صارتْ عُيوناً كلُّها، وأنَّ الماءَ قد كان يَفُور مِنْ كل مكانٍ منها. ولو أُجريَ اللفظُ على ظاهرهِ فقيل: (وفجَّرْنا عيونَ الأرضِ، أو العيونَ في الأرض)، لم يُفِد ذلك، ولم يَدُلَّ عليه، ولَكانَ المفهومُ منه، أنَّ الماء قد كان فارَ من عيونٍ متفرقةٍ في الأرض، وَتَبجَّس مِن أماكنَ منها.
واعلمْ أَنَّ في الآيةِ الأُولى، شيئاً آخرَ من جنْس النظّم، وهو تَعريفُ الرأسِ (بالأَلِف واللاَّم) وإفادةُ معنى الإضافةِ من غَيْر إضافةٍ، وهو أَحدُ ما أَوْجَبَ المزيةَ. ولو قيل: (واشتعلَ رأس) فَصُرِّح بالإضافة، لذَهَب بعضُ الحُسْنِ؛ فاعرِفْهُ! وأنا أكتبُ لك شيئاً مما سَبيلُ الاستعارة فِيه هذا السبيلُ، ليَستحْكِمَ هذا البابُ في نفسِك، ولِتأْنَسَ به.
فمِن عجيب ذلك قولُ بعضِ الأعراب [من الرجز]:
الليلُ داجٍ كَنَفَا جِلْبَابِهْ ... والبَيْنُ مَحجورٌ على غُرَابهْ


ليس كلُّ ما تَرى من الملاحَةِ، لأَنْ جعَلَ لِلَّيلِ جلْباباً، وحَجَر على الغراب، ولكنْ في أَنْ وضَعَ الكلامَ الذي تَرى؛ فجعَلَ "الليل" مبتدأً، وجعل "داجٍ" خبراً له، وفعلاً لما بَعْدَه وهو الكنَفانُ، وأضافَ (الجَلْبابَ) إلى ضمير "الليل" ولأَنْ جَعلَ كذلك "البين" مبتدأً وأَجْرى "محجوراً" خبراً عنه، وأنْ أَخرَجَ اللفظَ عَلَى مفعول. يُبيِّنُ ذلك، أَنَّكَ لو قلْتَ: (وغرابُ البينِ محجورٌ عليه أو: قد حُجرَ على غراب البين)، لم تَجِدْ له هذه المَلاحة. وكذلك لو قلت: (قد دَجا كَنَفَا جلبابِ الليل) لم يكن شيئاً.
ومن النادر فيه قول المتنبي [من الخفيف]:
غَصَبَ الدهرَ والملوكَ عليها ... فَبنَاها في وَجْنة الدهر خالا
قد تَرى في أَول الأمرِ أنَّ حُسْنه أَجْمَع، في أنْ جَعلَ للدهر وَجْنةً، وجعل البُنيَّة خالاً في الوجنة؛ وليسَ الأَمرُ على ذلك. فإنَّ مَوْضعَ الأُعجوبةِ في أنْ أَخْرج الكلام مخْرجَهُ الذي تَرى، وأَنْ أَتَى بالخال منصوباً على الحال، من قوله "فَبنَاها". أفَلاَ ترى أَنك لو قُلْتَ: (وهي خالٌ في وَجْنة الدهر)، لوجدْتَ الصورة غيرَ ما تَرى؟
وشبيهٌ بذلك أنَّ ابنَ المعتز قال [من المجتث]:
يا مِسْكةَ العطَّارِ ... وخالَ وَجْهِ النهارِ
وكانت المَلاحَةُ في الإضافة بعد الإضافة، لا في استعارة لفظة "الخال". إذْ معلومٌ أَنه لو قال: (يا خالا في وجه النهار) أو: (يا مَنْ هو خالٌ في وجْه النهار)، لم يكن شيئاً. ومِنْ شأنِ هذا الضربِ أن يَدْخلَه الاستكراهُ. قال الصاحب: إياكَ والإضافاتِ المتداخلة، فإنَّ ذلك لا يَحْسُن! وذكَر أنه يُستعملُ في الهجاء كقول القائل [من الخفيف]:
يا عليُّ بنُ حمزةَ بنِ عمارَةْ ... أنتَ واللهِ ثلجةٌ في خِيارَهْ
ولا شُبْهَة في ثِقَل ذلك في الأَكثر؛ ولكنه إذا سَلِمَ من الاستكراه، لطُفَ ومْلحَ. ومما حَسُنَ فيه، قول ابن المعتز أيضاً [من الطويل]:
وظَلَّتْ تُديرُ الراحَ أَيْدي جآذرٍ ... عتاقِ دنانير الوجوهِ مِلاحِ
ومما جاء منه حَسَناً جميلاً، قولُ الخالديِّ في صفة غلام له [من المنسرح]:
ويَعرِفُ الشِّعْرَ مثْلَ معرفتي ... وهْو عَلَى أنْ يَزيد مجتهدُ


وصيْرفيُّ القريضِ وَزَّانُ دِينا ... رِ المعاني الدقاقِ مُنْتقِدُ
ومنه قولُ أبي تمام [من الكامل]:
خُذْها ابْنَةَ الفكْرِ المهذَّب في الدجى ... والليلُ أَسْودُ رقعةِ الجلبابِ
ومما كثُرَ الحُسْنُ فيه بسبب النظْم، قولُ المتنبي [من الطويل]:
وقَيَّدتُ نَفْسي في ذَرَاك مَحَبةً ... ومَنْ وَجَدَ الإحسان قَيْداً تَقيَّدا
الاستعارة في أصْلها مُبْتذلة معروفة، فإنَّك ترَى العاميَّ يقول للرجل، يَكْثُر إحسانُه إليه وَبرُّهُ له، حتى يألَفَه ويختارَ المقامَ عنده: (قد قيَّدني بكثرة إحسانه إليَّ، وجميلِ فِعْله معي، حتى صارتْ نفسي لا تُطاوِعُني على الخروج من عنده). وإنما كان ما ترى من الحُسْن بالمَسْلك الذي سلَكَ في النظم والتأليف.