دلائل الإعجاز ت الأيوبي

فصل: في الذي خصوصاً
إعْلَمْ أنَّ لك في "الذي" عِلماً كثيراً وأسراراً جمة وخفايا، إذا بحثْتَ عنها وتصوَّرْتَها، أطَّلَعْتَ على فوائدَ تُؤنِسُ النفسَ، وتُثلِجُ الصدرَ، بما يُفْضي بكَ إليه من اليقين، ويُؤدِّيه إليك من حُسْن التبيين؛ والوجْهُ في ذلك أن نتأمل عباراتٍ لهمْ فيه: لِمَ وُضِعَ، ولأيِّ غرَضٍ اجْتُلِبَ، وأشياءَ وصَفُوه بها.

فمن ذلك قولهم: إن "الذي"، اجْتُلِبَ ليكون وصْلَةً إلى وصْفِ المعارف بالجُمل، كما اجتُلِب "ذو" ليُتَوصَّل به إلى الوصْف بأسماء الأجناس: يعنون بذلك أنك تقول: (مررتُ بزيد الذي أبوه منطلقٌ، وبالرجل الذي كان عندنا أمسِ). فتَجُدك قد توصَّلْتَ بالذي إلى أن أَبَنْتَ زيداً مِنْ غَيره بالجملة التي هي قولك "أبوه منطلق" ولولا "الذي" لم تَصِلْ إلى ذلك. كما أنك تقول: (مررتُ برجل ذي مالٍ: فَيتَوصلُ بـ "ذي"، إلى أن يُبَيَّن الرجلُ من غيره بالمال. ولولا "ذو" لم يتأتَّ لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: (برجلٍ مالٍ) فهذه جملة مفهومة إلا أنَّ تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها؛ فمِنْ ذلك أنْ تَعلم من أين امتنَعَ أن توصَفَ المعرفةُ بالجلمة، ولِمَ لمْ يكُن حالُها في ذلك حالَ النكرة التي تصفها بها في قولك: (مررتُ برجل أبوه مُنطلِقٌ ورأيت إنساناً تُقادُ الجنائبُ بينَ يديه). وقالوا: إن السببَ في امتناع ذلكَ، أنَّ الجمل نكراتٌ كلُّها بدَلالةِ أنها تُستفادُ، وإنما يستفاد المجهولُ دون المعلوم. (قالوا)، فلما كانت كذلك كانت وَفقاً للنكرة، فجاز وصْفُها بها ولم يَجُزْ أن توصَفَ بها المعرفةُ إذ لم تكن وَفْقاً لها.


والقول المبينُ في ذلك أن يقال: إنه إنما اجتُلِبَ حتى إذا كان قد عُرِفَ رَجلٌ بقصةٍ وأمْرٍ جرى له، فتخصَّص بتلك القصة وبذلك الأمر عند السامع، ثم أُريدَ القصْدُ إليه، ذُكِرَ "الذي". تفسيرُ هذا أنك لا تَصِلُ "الذي" إلا بجملةٍ من الكلام قد سَبق مِن السامع عِلمٌ بها وأَمرٌ قد عرَفَه له، نحْوَ أن تَرى عنده رجلاً يُنشِدُه شعراً، فتقول له من غَدٍ: (ما فعلَ الرجلُ الذي كان عندَك بالأمسِ يُنْشِدُك الشعر؟) هذا حُكْم الجملة بعد "الذي" إذا أنتَ وصفْتَ به شيئاً؛ فكان معنى قولهم: إنه اجتُلب ليتوَصَّل به إلى وصْف المعارف بالجمل: أنه جيء به لِيَفْصل بين أن يُراد ذِكْرُ الشيء بجملةٍ قد عرَفها السامعُ له، وبين أن لا يكون الأمرُ كذلك. فإن قلت: قد يؤتى بعد "الذي" بالجملة غير المعلولة للسامع، وذلك حيث يكون "الذي" خبراً كقولك "هذا الذي كان عندَك بالأَمس، وهذا الذي قَدِمَ رسولاً من الحضرة" أنتَ في هذا وشَبَهه تُعْلِم المخاطَبَ أمراً لم يَسْبق له به علمٌ، وتُفِيده من المشار إليه شيئاً لم يكن عنده، ولو لم يكن كذلك، لم يكن "الذي" خبراً، إذْ كان لا يكون الشيءُ خبراً ح تى يُفاد به. فالقول في ذلك إنَّ الجملةَ في هذا النحو، وإن كان المخاطَبُ لا يَعْلَمها لعينِ مَنْ أشرتَ إليه، فإنه لا بدَّ مِن أن يكون قد عَلِمها على الجملة، وحُدِّثَ بها، فإنك على كل حال لا تقول: (هذا الذي قدِمَ رسولاً)، لمن لم يَعْلم أن رسولاً قَدِم، ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل. وكذا لا تقول: (هذا الذين كان عند أمسِ)، لمن قد نسيَ أنه كان عنده إنسانٌ وذهَبَ عن وَهْمه، وإِنما تَقولُه لمن ذاك على ذكرٍ منه، إلاَّ أنه رأى رجلاً يُقْبل مِن بعيد، فلا يعلم أنه ذاكَ، ويظنُّه إنساناً غيَرهُ.


وعلى الجملة فكلُّ عاقلٍ يَعلم بَوْنَ ما بين الخبرِ بالجملة مع "الذي"، وبينَها مع غيرِ "الذي". فليس مِنْ أَحَدٍ به طِرْقٌ إلاَّ وهو لا يَشكُّ أنْ ليس المعنى في قولك: (هذا الذي قَدِمَ رسولاً من الحَضْرة) كالمعنى إذا قلتَ: (هذا قدِمَ رسولا مِن الحَضْرة)؛ ولا: (هذا الذي يَسْكُن في محلَّةِ كذا). كقولك: (هذا يَسكنُ محلةَ كذا)، وليس ذاك، إلاَّ أنك في قولك "هذا قدم رسولاً من الحضرة" مبتدىءٌ خبَراً بأَمرٍ لم يَبْلْغِ السامعَ ولم يبلَّغْهُ، ولم يَعلَمْه أصلاً، وفي قولك: (هذا الذي قدِم رسولا) مُعْلِمٌ في أمرٍ قد بلَغَه أنَّ هذا صاحبُه، فلَم يَخْلُ إذن من الذي بدأنا به في أمْر الجملة مع "الذي"، مِنْ ينبغي أن تكون جملةً قد سبَقَ مِن السامع عِلْمٌ بها، فاعرْفه! فإِنَّه من المسائل التي مَن جَهلهَا، جَهِلَ كثيراً من المعاني ودخلَ عليه الغَلَظْ في كثيرٍ من الأمور، والله الموفِّق للصواب.