عددهن وأسماؤهن

قال ابن هشام ‏:‏وكن تسعاً عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، وسودة بنت زمعة بن قيس ، وزينب بنت جحش بن رئاب ، وميمونة بنت الحارث بن حزن ، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بنت حيي بن أخطب ، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم ‏.‏

زواجه خديجة

وكان جميع من تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث عشرة ‏:‏ خديجة بنت خويلد ، وهي أول من تزوج ، زوجه إياها أبوها خويلد بن أسد ، ويقال أخوها عمرو بن خويلد ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرين بكرة ، فولدت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم ، وكانت قبله عند أبي هالة بن مالك ، أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم حليف بني عبدالدار ، فولدت له هند بن أبي هالة ، وزينب بنت أبي هالة ، وكانت قبل أبي هالة عند عتيق بن عابد بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم ، فولدت له عبداللّه ، وجارية ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏جارية من الجواري ، تزوجها صيفي بن أبي رفاعة ‏.‏

عائشة

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة ، وهي بنت سبع سنين ، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر ، ولم يتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكراً غيرها ، زوجه إياها أبوها أبو بكر ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم ‏.‏

سودة

تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ، زوجه إياها سليط بن عمرو ، ويقال أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ود بن نصر بن مالك بن حسل ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ ابن إسحاق يخالف هذا الحديث ، يذكر أن سليطا وأبا حاطب كانا غائبين ، بأرض الحبشة في هذا الوقت ‏.‏

وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ابن نصر بن حسل ‏.‏

زينب بنت جحش

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية زوجه إياها أخوها أبو أحمد بن جحش وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم ، وكانت قبله عند زيد بن حارثة ، مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ففيها أنزل اللّه تبارك وتعالى ‏:‏ ‏(‏ فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ‏)‏ ‏.‏

أم سلمة

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية ، واسمها هند ، زوجه إياها سلمة بن أبي سلمة ابنها ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فراشا حشوه ليف ، وقدحا ، وصحيفة ، ومجشة ، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبدالأسد ، واسمه عبداللّه فولدت له سلمة ، وزينب ، ورقية ‏.‏

حفصة

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب ، زوجه إياها أبوها عمر بن الخطاب ، وأصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم ، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة السهمي ‏.‏

أم حبيبة

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان بن حرب ، زوجه إياها خالد بن سعيد بن العاص ، وهما بأرض الحبشة ، وأصدقها النجاشي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة دينار ، وهو الذي كان خطبها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت قبله عند عبيد اللّه بن جحش الأسدي ‏.‏

جويرية بنت الحارث

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية ، كانت في سبايا بني المصطلق من خزاعة ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس الأنصاري ، فكاتبها على نفسها ، فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تستعينه في كتابتها ، فقال لها ‏:‏ هل لك في خير من ذلك ‏؟‏

قالت ‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال ‏:‏ أقضي عنك كتابتك ، وأتزوجك ، فقالت ‏:‏ نعم ، فتزوجها ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏حدثنا بهذا الحديث زياد بن عبداللّه البكائي ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن ، عروة عن ، عائشة ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏

ويقال لما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ، ومعه جويرية بنت الحارث ، فكان بذات الجيش ، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة ، وأمره بالاحتفاظ بها ، وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء ، فرغب في بعيرين منها ، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق ،ثم أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال ‏:‏

يا محمد أصبتم ابنتي ، وهذا فداؤها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ فأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا ، فقال الحارث ‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك رسول اللّه ، صلى اللّه عليك ، فواللّه ما اطلع على ذلك إلا اللّه تعالى ، فأسلم الحارث ، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين ، فجاء بهما ، فرفع الإبل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ودفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت وحسن إسلامها ، وخطبها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربع مائة درهم ، وكانت قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند ابن عم لها ، يقال له عبداللّه ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال اشتراها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ثابت بن قيس ، فأعتقها ، وتزوجها ، وأصدقها أربعمائة درهم ‏.‏

صفية بنت حيي

وتزوج رسول اللّه صفية بنت حيي بن أخطب ، سباها من خيبر ، فاصطفاها لنفسه ، وأولم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليمة ، ما فيها شحم ولا لحم ، كان سويقاً وتمراً ، وكانت قبله عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ‏.‏

ميمون بنت الحارث

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن هزم بن رويبة بن عبداللّه بن هلال بن عامر بن صعصعة ، زوجه إياها العباس بن عبدالمطلب ، وأصدقها العباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة درهم ، وكانت قبله عند أبي رهم بن عبدالعزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ؛ ويقال إنها التي وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أن خطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم انتهت إليها وهي على بعيرها ، فقالت ‏:‏ البعير وما عليه للّه ولرسوله ،

فأنزل اللّه تبارك وتعالى ‏:‏ ‏(‏ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ‏)‏ ‏.‏

ويقال إن التي وهبت نفسها للنبي زينب بنت جحش ، ويقال أم شريك ، غزية بنت جابر بن وهب من بني منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي ، ويقال بل هي امرأة من بني سامة بن لؤي ، فأرجأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

زينب بنت خزيمة

وتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبداللّه بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وكانت تسمى أم المساكين ، لرحمتها إياهم ورقتها عليهم ، زوجه إياها قبيصة بن عمرو الهلالي ، وأصدقها رسول اللّه أربعمائة درهم ، وكانت قبله عند عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب بن عبد مناف ، وكانت قبل عبيدة عند جهم بن عمرو بن الحارث ، وهو ابن عمها ‏.‏

فهؤلاء اللاتي بنى بهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إحدى عشرة ، فمات قبله منهن ثنتان ‏:‏ خديجة بنت خويلد ، وزينت بنت خزيمة ، وتوفي عن تسع ، قد ذكرناهن في أول هذا الحديث ، وثنتان لم يدخل بهما أسماء بنت النعمان الكندية ، تزوجها فوجد بها بياضاً ، فمتعها وردها إلى أهلها ، وعمرة بنت يزيد الكلابية ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فلما قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استعاذت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ منيع عائذ اللّه ، فردها إلى أهلها ‏.‏ ويقال إن التي استعاذت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كندية بنت عم لأسماء بنت النعمان ، ويقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعاها ، فقالت ‏:‏ إنا قوم نؤتى ولا نأتي ، فردها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهلها ‏.‏

القرشيات منهن القرشيات من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ست ‏:‏ خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ، وعائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى بن عبداللّه بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ، وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ‏.‏

العربيات وغيرهن والعربيات وغيرهن سبع ‏:‏

زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان ابن أسد بن خزيمة ، وميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن هزم بن رويبة بن عبداللّه بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ، وزينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبداللّه بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ، وجويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار الخزاعية ، ثم المصطلقية ، وأسماء بنت النعمان الكندية ، وعمرة بنت يزيد الكلابية ‏.‏

ومن غير العربيات ‏:‏ صفية بنت حيي بن أخطب ، من بني النضير ‏.‏

تمريض رسول اللّه في بيت عائشة

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني يعقوب بن عتبة عن محمد بن مسلم الزهري ، عن عبيد اللّه بن عتبة ، عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم

قالت ‏:‏ فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمشى بين رجلين من أهله ‏:‏ أحدهما الفضل ابن العباس ، ورجل أخر ،عاصبا رأسه ، تخط قدماه ،حتى دخل بيتي ‏.‏ قال عبيد فحدثت هذا الحديث عبداللّه بن العباس فقال ‏:‏ هل تدري من الرجل الآخر ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ لا ،

قال ‏:‏ علي بن أبي طالب ‏.‏

اشتداد المرض

ثم غمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واشتد به وجعه ، فقال ‏:‏ هريقوا على سبع قرب من أبار شتى ، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم ‏.‏

قالت ‏:‏ فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول ‏:‏ حسبكم حسبكم ‏.‏

خطبة للنبي وتفضيله أبا بكر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال الزهري حدثني أيوب بن بشير أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد ، واستغفر لهم ، فأكثر الصلاة عليهم ،

ثم قال ‏:‏ إن عبداً من عباد اللّه خيره اللّه بين الدنيا بين ما عنده ،فاختار ما عند اللّه ،

قال ‏:‏ ففهمها أبو بكر ، وعرف أن نفسه يريد ، فبكى ، وقال ‏:‏ بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال ‏:‏ على رسلك يا أبا بكر ،

ثم قال ‏:‏ انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد ، فسدوها إلا بيت أبي بكر ، فأني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويروى إلا باب أبي بكر ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالرحمن بن عبداللّه ، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلى ‏:‏

أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يومئذ في كلامه هذا ‏:‏ فإني لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع اللّه بيننا عنده ‏.‏

أمره بإنفاذ بعث أسامة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ،وغيره من العلماء ‏:‏

أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد ، وهو في وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا ‏:‏ في إمرة أسامة ‏:‏ أمر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار ‏.‏

فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو له أهل ،

ثم قال ‏:‏ أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً لها ‏.‏

قال ‏:‏ ثم نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانكمش الناس في جهازهم ، واستعز برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجعه ، فخرج أسامة ، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف ، من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره ، وتتام إليه الناس ، وثقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقام أسامة والناس ، لينظروا ما اللّه قاض في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وصايته بالأنصار

قال ابن إسحاق ‏:‏

قال الزهري وحدثني عبداللّه بن كعب بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد ، وذكر من أمرهم ما ذكر ، مع مقالته يومئذ ‏:‏

يا معشر المهاجرين ، استوصوا بالأنصار خيراً ، فإن الناس يزيدون ، وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد ، وأنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ‏.‏

قال عبداللّه ‏:‏ ثم نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدخل بيته ، وتتام به وجعه حتى غمر ‏.‏

شأن اللدود

قال عبداللّه فاجتمع إليه نساء من نسائه ‏:‏ أم سلمة ، وميمونة ، ونساء من نساء المسلمين ، منهن أسماء بنت عميس ، وعنده العباس عمه ، فأجمعوا أن يلدوه ، وقال العباس ‏:‏لألدنه ‏.‏

قال ‏:‏ فلدوه ، فلما أفاق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال ‏:‏ من صنع هذا بي ‏؟‏ قالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، عمك ،

قال ‏:‏هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض ، وأشار نحو أرض الحبشة ،

قال ‏:‏ ولم فعلتم ذلك ‏؟‏

فقال عمه العباس ‏:‏ خشينا يا رسول اللّه أن يكون بك ذات الجنب ، فقال ‏:‏ إن ذلك لداء ما كان للّه عز وجل ليقذفني به ، لا يبق في البيت أحد إلا لد إلا عمي ، فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة ، لقسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، عقوبة لهم بما صنعوا به ‏.‏

دعاؤه لأسامة بالإشارة

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني سعيد بن عبيد بن السباق ، عن محمد بن أسامة ، عن أبيه أسامة بن زيد ،

قال ‏:‏ لما ثقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي ، فأعرف أنه يدعو لي ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال ابن شهاب الزهري حدثني عبيد بن عبداللّه بن عتبة ، عن عائشة ،

قالت ‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيراً ما أسمعه يقول ‏:‏ إن اللّه لم يقبض نبيا حتى يخيره ،

قالت ‏:‏ فلما حضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كان أخر كلمة سمعتها وهو يقول ‏:‏ بل الرفيق الأعلى من الجنة ،

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ إذا واللّه لا يختارنا ، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا ‏:‏ إن نبياً لم يقبض حتى يخير ‏.‏

أبو بكر يصلي بالناس

قال الزهري وحدثني حمزة بن عبداللّه ابن عمر ،أن عائشة

قالت ‏:‏ لما استعز برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ مروا أبا بكر فليصل بالناس ،

قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ يا نبي اللّه إن أبا بكر رجل رقيق ، ضعيف الصوت ، كثير البكاء إذا قرأ القرآن ،

قال ‏:‏ مروه فليصل بالناس ‏.‏

قالت ‏:‏ فعدت بمثل قولي ، فقال ‏:‏

إنكن صواحب يوسف ، فمروه فليصل بالناس ،

قالت ‏:‏ فواللّه ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف ذاك عن أبي بكر ، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً ، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان ، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال ابن شهاب حدثني عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبيه ، عن عبداللّه بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد

قال ‏:‏ لما استعز برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين ،

قال ‏:‏ دعاه بلال إلى الصلاة ، فقال ‏:‏ مروا من يصلي بالناس ‏.‏

قال ‏:‏فخرجت فإذا عمر في الناس ، وكان أبو بكر غائباً ، فقلت ‏:‏ قم يا عمر ، فصل بالناس ،

قال ‏:‏ فقام ، فلما كبر ، سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صوته ، وكان عمر رجلاً مجهراً ،

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

فأين أبو بكر ‏؟‏ يأبى اللّه ذلك والمسلمون ، يأبى اللّه ذلك والمسلمون ،

قال ‏:‏ فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس ،

قال ‏:‏ قال عبداللّه بن زمعة ‏:‏ قال لي عمر ‏:‏ ويحك ‏!‏ ماذا صنعت بي يا بن زمعة ، واللّه ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صليت بالناس ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ واللّه ما أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، ولكني حين لم أرى أبا بكر ، رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس ‏.‏

اليوم الذي قبض اللّه فيه رسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال الزهري حدثني أنس بن مالك ‏:‏

أنه لما كان يوم الإثنين الذي قبض اللّه فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، خرج إلى الناس ، وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر ، وفتح الباب ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رأوه ، فرحا به ، وتفرجوا ، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم ؛

قال ‏:‏ فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سروراً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ، وما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة ‏.‏

قال ‏:‏ ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أفرق من وجعه ، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏

وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن القاسم بن محمد ‏:‏

أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ، حين سمع تكبير عمر في الصلاة ‏:‏ أين أبو بكر ‏؟‏ يأبى اللّه ذلك والمسلمون ، فلولا مقالة قالها عمر عند وفاته ، لم يشك المسلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد استخلف أبا بكر ، ولكنه قال عند وفاته ‏:‏ إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني ، وإن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني ، فعرف الناس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يستخلف أحداً ، وكان عمر غير متهم على أبي بكر ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني أبو بكر بن عبداللّه بن أبي مليكة

قال ‏:‏ لما كان يوم الاثنين ، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاصباً رأسه إلى الصبح ، وأبو بكر يصلى بالناس ، فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تفرج الناس ، فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنكص عن مصلاه ، فدفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ظهره ، وقال ‏:‏ صل بالناس ، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جنبه ، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر ، فلما فرغ من الصلاة ، أقبل على الناس ، فكلمهم رافعا صوته ، حتى خرج صوته من باب المسجد ، يقول ‏:‏

أيها الناس سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإني واللّه ما تمسكون علي بشيء ، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن ، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن ‏.‏

قال ‏:‏ فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كلامه ، قال له أبو بكر ‏:‏ يا نبي اللّه ، إني أراك قد أصبحت بنعمة من اللّه وفضل كما تحب ، واليوم يوم بنت خارجة ، أفآتيها ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ، ثم دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح ‏.‏

شأن علي والعباس قبل وفاته

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري وحدثني عبداللّه بن كعب بن مالك ، عن عبداللّه بن عباس ،

قال ‏:‏خرج يومئذ علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه على الناس من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له الناس ‏:‏ يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏

قال ‏:‏ أصبح بحمد اللّه بارئاً ،

قال ‏:‏ فأخذ العباس بيده ،

ثم قال ‏:‏ يا علي ، أنت واللّه عبد العصا بعد ثلاث ، أحلف باللّه لقد عرفت الموت في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كما كنت أعرفه في وجوه بني عبدالمطلب ، فانطلق بنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ، وإن كان في غيرنا أمرناه ، فأوصى بنا الناس ‏.‏

قال ‏:‏ فقال له علي ‏:‏ إني واللّه لا أفعل ، واللّه لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده ‏.‏

فتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أشتد الضحاء من ذلك اليوم ‏.‏

سواك الرسول قبل وفاته

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة

قال ‏:‏ قالت ‏:‏ رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع في حجري ، فدخل علي رجل من آل بكر ، وفي يده سواك أخضر ،

قالت ‏:‏ فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده ،

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ يا رسول اللّه أتحب أن أعطيك هذا السواك ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ،

قالت ‏:‏ فأخذته فمضغته له حتى لينته ، ثم أعطيته إياه ،

قالت ‏:‏ فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ، ثم وضعه ، ووجدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يثقل في حجري ، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول ‏:‏ بل الرفيق الأعلى من الجنة ،

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ،

قالت ‏:‏ وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبداللّه بن الزبير ، عن أبيه عباد ،

قال ‏:‏ سمعت عائشة تقول ‏:‏

مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي ، لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء ، وأضرب وجهي ‏.‏

مقالة عمر بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري وحدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة

قال ‏:‏ لما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قام عمر بن الخطاب ، فقال ‏:‏ إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه قد توفي ، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ، كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، وواللّه ليرجعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مات ‏.‏

شأن أبي بكر بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ وأقبل أبو بكر ، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال ‏:‏ ثم أقبل عليه فقبله ،

ثم قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً ،

قال ‏:‏ ثم رد البرد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم خرج ، وعمر يكلم الناس ، فقال ‏:‏

على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبي إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه ، وتركوا عمر فحمد اللّه وأثنى عليه ،

ثم قال ‏:‏ أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبداللّه فإن اللّه حي لا يموت ،

قال ‏:‏ ثم تلا هذه الآية ‏(‏ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر اللّه شيئا وسيجزى اللّه الشاكرين ‏)

قال ‏:‏فواللّه لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ‏.‏

قال وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ، وقال ‏:‏ فقال أبو هريرة ‏:‏ قال عمر ‏:‏ واللّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد مات ‏.‏

أمر سقيفة بني ساعدة

الاختلاف بين المهاجرين والأنصار

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللّه في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير ، في بني عبدالأشهل ، فأتي آت إلى أبي بكر وعمر ،فقال ‏:‏

إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته لم يفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهله ، قال عمر ‏:‏ فقلت ‏:‏ لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، حتى ننظر ما هم عليه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبداللّه بن أبي بكر حدثني ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد اللّه بن عبداللّه بن عتبة بن مسعود ، عن عبداللّه بن عباس ،

قال ‏:‏ أخبرني عبدالرحمن بن عوف ،

قال ‏:‏ وكنت في منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر في أخر حجة حجها عمر ، قال فرجع ‏:‏ عبدالرحمن بن عوف من عند عمر فوجدني في منزله بمنى أنتظره ، وكنت أقرئه القرآن ، قال ابن عباس ‏:‏ فقال لي عبدالرحمن بن عوف ‏:‏

لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين ، فقال ‏:‏ يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول ‏:‏ واللّه لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا ، واللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت ‏.‏

قال ‏:‏ فغضب عمر ، فقال ‏:‏ إني إن شاء اللّه لقائم العشية في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم ‏.‏

قال عبدالرحمن ‏:‏ فقلت ‏:‏ يا أمير المؤمنين ، لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم ، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وإني أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ، ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة ، فإنها دار السنة ، وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا ، فيعي أهل الفقه مقالتك ، ويضعوها على مواضعها ‏.‏

قال ‏:‏ فقال عمر ‏:‏ أما واللّه إن شاء اللّه لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة ‏.‏

عمر يذكر البيعة لأبي بكر

قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زالت الشمس ، فأجد سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب ، فلما رأيته مقبلاً ، قلت لسعيد بن زيد ‏:‏ ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ، قال فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك ، وقال ‏:‏ ما عسى أن يقول مما لم يقل قبله ، فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذنون ، قام ، فأثنى على اللّه بما هو أهل له ،

ثم قال ‏:‏ أما بعد ‏:‏ فإني قائل لكم اليوم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، ولا أدرى لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب علي ‏.‏

إن اللّه بعث محمداً ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان يقول قائل ‏:‏

واللّه ما نجد الرجم في كتاب اللّه ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه ، وإن الرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، وإذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ‏.‏

ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه ‏:‏ ‏(‏ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ‏)‏ ، ألا إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم ، وقولوا عبداللّه ورسوله ‏.‏

ثم إنه قد بلغني أن فلانا

قال ‏:‏ واللّه لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا ، فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، وإنها قد كانت كذلك إلا أن اللّه قد وقى شرها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فإنه ، لا بيعة له هو ، ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ‏.‏

إنه كان من خبرنا حين توفي اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن الأنصار خالفونا ، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلف عنا علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر ‏:‏

انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقال ‏:‏ أين تريدون يا معشر المهاجرين ‏؟‏ قلنا ‏:‏ نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا ‏:‏ فلا عليكم ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم ‏.‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ واللّه لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل ، فقلت ‏:‏ من هذا ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ سعد بن عبادة ، فقلت ‏:‏ ما له ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ وجع ‏.‏

فلما جلسنا تشهد خطيبهم ، فأثنى على اللّه بما هو له أهل ،

ثم قال ‏:‏ أما بعد ‏:‏ فنحن أنصار اللّه ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين ، رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم ،

قال ‏:‏ وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ‏.‏

فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فقال أبو بكر ‏:‏ على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم وهو كان أعلم مني ، وأوقر ، فواللّه ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها قي بديهته ، أو مثلها أو أفضل حتى سكت ‏.‏

قال ‏:‏ أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئا مما قاله غيرها ، كان واللّه أن أقدم فتضرب عنقي ، لا يقربني ذلك إلى أثم ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ‏.‏

قال قائل من الأنصار ‏:‏ أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ،

قال ‏:‏ فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى تخوفت الاختلاف ، فقلت ‏:‏ ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم ‏:‏ قتلتم سعد بن عبادة ،

قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ قتل اللّه سعد بن عبادة ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري أخبرني عروة بن الزبير ‏:‏

أن أحد الرجلين اللذين لقوا من الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة عويم بن ساعدة ، والآخر معن بن عدي ، أخو بني العجلان ، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الذين قال اللّه عز وجل لهم ‏:‏ ‏(‏ فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين ‏)‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ نعم المرء منهم عويم بن ساعدة ،

وأما معن بن عدي ، فبلغنا أن الناس بكوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين توفاه اللّه عز وجل ،

وقالوا ‏:‏ واللّه لوددنا أن متنا قبله ، إنا نخشى أن نفتتن بعده ، قال معن بن عدي ‏:‏ لكني واللّه ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حياً ، فقتل معن يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر ، يوم مسيلمة الكذاب ‏.‏

خطبة عمر بعد البيعة لأبي بكر

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني الزهري ،

قال ‏:‏ حدثني أنس بن مالك

قال ‏:‏لما بويع أبو بكر في السقيفة ، وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر ، فتكلم قبل أبي بكر ، فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، بما هو أهله ،

ثم قال ‏:‏ أيها الناس ، إني كنت قلت لكم أمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب اللّه ، ولا كانت عهداً عهد إلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولكني قد كنت أرى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيدبر أمرنا ، يقول ‏:‏ يكون آخرنا وإن اللّه قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فإن اعتصمتم به هداكم اللّه لما كان هداه له ، وإن اللّه قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ، فقوموا فبايعوه ، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة ، بعد بيعة السقيفة ‏.‏

خطبة أبي بكر بعد البيعة

فتكلم أبو بكر ، فحمد اللّه ، وأثنى عليه بالذي هو أهله

ثم قال ‏:‏ أما بعد ‏:‏ أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء اللّه ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه إن شاء اللّه ، لا يدع قوم الجهاد في سبيل اللّه إلا ضربهم اللّه بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم اللّه بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت اللّه ورسوله ، فإذا عصيت اللّه ورسوله فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم اللّه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني حسين بن عبداللّه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس

قال ‏:‏ واللّه إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له ، وفي يده الدرة ، وما معه غيري ،

قال ‏:‏ وهو يحدث نفسه ، ويضرب وحشي قدمه بدرته ،

قال ‏:‏ إذا التفت إلي ، فقال ‏:‏ يا ابن عباس هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ لا أدري ، يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم ‏.‏

قال ‏:‏ فإنه واللّه أن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية ‏(‏ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ‏)‏ فواللّه إن كنت لأظن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبقى في أمته حتى يشهد عليها بأخر أعمالها ، فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت ‏.‏

جهاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودفنه

من تولى غسله صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما بويع أبو بكر رضى اللّه عنه أقبل الناس على جهاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الثلاثاء ، فحدثني عبداللّه بن أبي بكر ، وحسين بن عبداللّه ، وغيرهما من أصحابنا ، أن علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، وقثم بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وشقران ، مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، هم الذين ولوا غسله ‏.‏

وإن أوس بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج قال لعلي بن أبي طالب ‏:‏ أنشدك اللّه يا علي ، وحظنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان أوس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأهل بدر ،

قال ‏:‏ ادخل فدخل ‏.‏

فجلس وحضر غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه ، وكان أسامة بن زيد ، وشقران ، مولاه هما اللذان يصبان الماء عليه ، وعلي يغسله ، قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، لا يفضي بيده إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وعلي يقول ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أطيبك حياً وميتاً ، ولم ير من رسول اللّه شيء مما يرى من الميت ‏.‏

كيفية غسله صلى اللّه عليه وسلم

وحدثني يحيى بن عباد بن عبداللّه بن الزبير ، عن أبيه عباد ، عن عائشة قالت ، لما أرادوا غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا ‏:‏ واللّه ما ندري أنجرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ثيابه ، كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه ‏؟‏

قالت ‏:‏ فلما اختلفوا ألقى اللّه عليهم النوم ، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت ، لا يدرون من هو ، أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه ،

قالت ‏:‏ فقاموا إلى رسول اللّه ، فغسلوه وعليه قميصه ، يصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم ‏.‏

تكفينه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ من غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كفن في ثلاثة أثواب ، ثوبين صحاريين ، وبرد حبرة ، أدرج فيها إدراجاً ‏.‏ كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده علي بن الحسين ، والزهري عن ،علي بن الحسين ‏.‏

قبره صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني حسين بن عبداللّه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس

قال ‏:‏ لما أرادوا أن يحفروا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان أبو عبيدة بن الجراح ، يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد بن سهل ، هو الذي يحفر لأهل المدينة ، يلحد فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما ‏:‏ اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح ، وللأخر اذهب إلى أبي طلحة ، اللّهم خر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة ، فجاء به فلحد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

الصلاة عليه ودفنه صلى اللّه عليه وسلم

فلما فرغ من جهاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الثلاثاء ، وضع في سريره في بيته ، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه ، فقال قائل ‏:‏ ندفنه في مسجده ، وقال قائل ‏:‏ بل ندفنه مع أصحابه ، فقال أبو بكر ‏:‏ إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ‏:‏ ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض ، فرفع فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي توفي عليه ، فحفر له تحته ، ثم دخل الناس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلون عليه أرسالاً ، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ، حتى فرغ النساء أدخل الصبيان ، ولم يؤم الناس على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد ‏.‏

ثم دفن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبداللّه بن أبي بكر ، عن امرأته فاطمة بنت عمارة ، عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عائشة رضى اللّه عنها ،

قالت ‏:‏ ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي ، من جوف الليل من ليلة الأربعاء ‏.‏

قال محمد بن إسحاق ‏:‏ وقد حدثتني فاطمة هذا الحديث ‏.‏

من تولى دفنه صلى اللّه عليه وسلم

قال محمد بن إسحاق ‏:‏ وكان الذين نزلوا في قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، علي بن أبي طالب ، والفضل بن عباس ، وقثم بن عباس ، وشقران ، مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب ‏:‏ يا علي أنشدك اللّه ، وحظنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال له ‏:‏ انزل ، فنزل مع القوم ، وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حفرته ، وبنى عليه ، قد أخذ قطيفة ، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلبسها ويفترشها ، فدفنها في القبر ، وقال ‏:‏ واللّه لا يلبسها أحد بعدك أبداً ‏.‏

قال ‏:‏ فدفنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

أحدث الناس عهدا به صلى اللّه عليه وسلم

وقد كان المغيرة بن شعبة يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يقول ‏:‏ أخذت خاتمي فألقيته في القبر ، وقلت ‏:‏ إن خاتمي سقط مني ، وإنما طرحته عمداً لأمس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأكون أحدث الناس عهداً به صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني أبي إسحاق بن يسار ، عن مقسم أبي القاسم مولى عبداللّه بن الحارث نوفل ، عن مولاه عبداللّه بن الحارث ،

قال ‏:‏ اعتمرت مع علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه في زمان عمر ، أو زمان عثمان ، فنزل على أخته أم هانىء بنت أبي طالب ، فلما فرغ من عمرته ، رجع فسكب له غسل ، فاغتسل ، فلما فرغ من غسله ، دخل عليه نفر من أهل العراق ، فقالوا ‏:‏

يا أبا الحسن جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه ،

قال ‏:‏ أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم ، أنه كان أحدث الناس عهداً برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قالوا ‏:‏ أجل عن ذلك جئنا نسألك ،

قال ‏:‏ كذب

قال ‏:‏ أحدث الناس عهداً برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قثم بن عباس ‏.‏

التحذير من اتخاذ القبور مساجد

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عبيد اللّه بن عبداللّه بن عتبة أن عائشة حدثته ،

قالت ‏:‏ كان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خميصة سوداء حين اشتد به وجعه ،

قالت ‏:‏ فهو يضعها مرة على وجهه ، ومرة يكشفها عنه ، ويقول ‏:‏ قاتل اللّه قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر من ذلك على أمته ‏.‏

آخر ما عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني صالح ابن كيسان ، عن الزهري ، عن عبيد اللّه بن عبداللّه بن عتبة ، عن عائشة

قالت ‏:‏ كان أخر ما عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن

قال ‏:‏ لا يترك بجزيرة العرب دينان ‏.‏

افتتان المسلمين بعد موته

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين ، فكانت عائشة - فيما بلغني - تقول ‏:‏ لما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ارتد العرب ، واشرأبت اليهودية والنصرانية ، ونجم النفاق ، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ، لفقد نبيهم صلى اللّه عليه وسلم ، حتى جمعهم اللّه على أبي بكر ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏حدثني أبو عبيدة ، وغيره من أهل العلم ، أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ هموا بالرجوع عن الإسلام ، وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى ، فقام سهيل بن عمرو فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ثم ذكر وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ‏:‏ إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ، فمن رابنا ضربنا عنقه ، فتراجع الناس ، وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد ‏.‏

فهذا المقام الذي أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوله لعمر بن الخطاب ، إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه ‏.‏

شعر حسان بن ثابت في رثاء الرسول

وقال حسان بن ثابت يبكي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيما حدثنا ابن هشام ، عن أبي زيد الأنصاري ‏:‏

بطيبة رسم للرسول ومعهد * منير وقد تعفو الرسوم وتهمد

ولا تمتحى الآيات من دار حرمة * بها منبر الهادي الذي كان يصعد

وواضح آثار وباقي معالم * وربع له فيه مصلى ومسجد

بها حجرات كان ينزل وسطها * من اللّه نور يستضاء ويوقد

معارف لم تطمس على العهد آيها * أتاها البلى فالآي منها تجدد

عرفت بها رسم الرسول وعهده * و قبرا بها واراه في الترب ملحد

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت * عيون ومثلاها من الجفن تسعد

يذكرن آلاء الرسول وما أرى * لها محصيا نفسي فنفسي تبلد

مفجعة قد شفها فقد أحمد * فظلت لآلاء الرسول تعدد

وما بلغت من كل أمر عشيره * ولكن لنفسي بعد ما قد توجد

أطالت وقوفا تذرف العين جهدها * على طلل القبر الذي فيه أحمد

فبوركت يا قبر الرسول وبوركت * بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد

وبورك لحد منك ضمن طيبا * عليه بناء من صفيح منضد

تهيل عليه الترب أيد وأعين * عليه وقد غارت بذلك أسعد

لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة * عشية علوه الثرى لا يوسد

وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم * وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

يبكون من تبكي السماوات يومه * ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد

وهل عدلت يوما رزية هالك * رزية يوم مات فيه محمد

تقطع فيه منزل الوحي عنهم * وقد كان ذا نور يغور وينجد

يدل على الرحمن من يقتدي به * وينقذ من هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحق جاهدا * معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا

عفوا عن الزلات يقبل عذرهم * وإن يحسنوا فاللّه بالخير أجود

وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله * فمن عنده تيسير ما يتشدد

فبينا هم في نعمة اللّه بينهم * دليل به نهج الطريقة يقصد

عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى * حريص على أن يستقيموا ويهتدوا

عطوف عليهم لا يثني جناحه * إلى كنف يحنو عليهم ويمهد

فبينا هم في ذلك النور إذ غدا * إلى نورهم سهم من الموت مقصد

فأصبح محمودا إلى اللّه راجعا * يبكيه حتى المرسلات ويحمد

وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها * لغيبة ما كانت من الوحي تعهد

قفارا سوى معمورة اللحد ضافها * فقيد يبكينه بلاط وغرقد

ومسجده فالموحشات لفقده * خلاء له فيه مقام ومقعد

وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت * ديار وعرصات وربع ومولد

فبكى رسول اللّه يا عين عبرة * ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد

وما لك لا تبكين ذا النعمة التي * على الناس منها سابغ يتغمد

فجودي عليه بالدموع وأعولي * لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد

وما فقد الماضون مثل محمد * و لا مثله حتى القيامة يفقد

أعف وأوفى ذمة بعد ذمة * و أقرب منه نائلا لا ينكد

وأبذل منه للطريف وتالد * إذ ضن معطاء بما كان يتلد

وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى * وأكرم جدا أبطحيا يسود

وأمنع ذروات وأثبت في العلا * دعائم عز شاهقات تشيد

وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا * وعودا غذاه المزن فالعود أغيد

رباه وليدا فاستتم تمامه * على أكرم الخيرات رب ممجد

تناهت وصاة المسلمين بكفه * فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند

أقول ولا يلقى لقولي عائب * من الناس إلا عازب العقل مبعد

وليس هواي نازعا عن ثنائه * لعلي به في جنة الخلد أخلد

مع المصطفى أرجو بذاك جواره * وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد

وقال حسان بن ثابت أيضا يبكي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

ما بال عينك لا تنام كأنما * كحلت ما فيها بكحل الأرمد

جزعا على المهدي أصبح ثاويا * يا خير من وطئ الحصى لا تبعد

وجهي يقيك الترب لهفي ليتني * غيبت قبلك في بقيع الغرقد

بأبي وأمي من شهدت وفاته * في يوم الاثنين النبي المهتدي

فظللت بعد وفاته متبلدا * متلددا يا ليتني لم أولد

أأقيم بعدك بالمدينة بينهم * يا ليني صبحت سم الأسود

أو حل أمر اللّه فينا عاجلا * في روحة من يومنا أو من غد

فتقوم ساعتنا فنلقي طيبا * محضا ضرائبه كريم المحتد

يا بكر آمنة المبارك بكرها * ولدته محصنة بسعد الأسعد

نورا أضاء على البرية كلها * من يهد للنور المبارك يهتدي

يا رب فاجمعنا معا ونبينا * في جنة تثني عيون الحسد

في جنة الفردوس فاكتبها لنا * يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد

واللّه اسمع ما بقيت بهالك * إلا بكيت على النبي محمد

يا ويح أنصر النبي ورهطه * بعد المغيب في سواء الملحد

ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا * سودا وجوههم كلون الإثمد

ولقد ولدناه وفينا قبره * وفضول نعمته بنا لم نجحد

واللّه أكرمنا به وهدى به * أنصاره في كل ساعة مشهد

صلى الإله ومن يحف بعرشه * والطيبون على المبارك أحمد

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال حسان بن ثابت يبكي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

نب المساكين أن الخبر فارقهم * مع النبي تولي عنهم سحرا

من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي * ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا

أم من نعاتب لا نخشى جنادعه * إذ اللسان عتا في القول أو عثرا

كان الضياء وكان النور نتبعه * بعد الإله وكان السمع والبصرا

فليتنا يوم واروه بملحده * وغيبوه وألقوا فوقه المدرا

لم يترك اللّه منا بعده أحدا * ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا

ذلت رقاب بني النجار كلهم * وكان أمرا من أمر اللّه قد قدرا

واقتسم الفيء دون الناس كلهم * وبددوه جهارا بينهم هدرا

وقال حسان بن ثابت يبكي رسول اللّه صلى اللّه عليه سلم أيضا ‏:‏

آليت ما في جميع الناس مجتهدا * مني إليه بر غير إفناد

تاللّه ما حملت أنثى ولا وضعت * مثل الرسول نبي الأمة الهادي

ولا برا اللّه خلقا من بريته * أوفى بذمة جار أو بميعاد

من الذي كان فينا يستضاء به * مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد

أمسى نساؤك عطلن البيوت فما * يضربن فوق قفا ستر بأوتاد

مثل الرواهب يلبسن المباذل قد * أيقن بالبؤس بعد النعمة البادي

يا أفضل الناس إني كنت في نهر * أصبحت منه كمثل المفرد الصادي

قال ابن هشام ‏:‏عجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق ‏.‏