اليهود - لعنهم اللّه - يعرفونه ويكفرون به

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه ،

قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام ، مع رحمة اللّه تعالى وهُداه ، لما كنا نسمع من رجال يهود، كُنا أهلَ شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلْنا منهم بعض ما يكرهون ، قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبى يُبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وِإرَم ، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم.

فلما بعث اللّه رسولَه صلى اللّه عليه وسلم أجبناه ، حين دعانا إلى اللّه تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه ، فآمنا به ، وكفروا به ، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩].

قال ابن هشام : يستفتحون : يستنصرون ، ويستفتحون أيضاً: يتحاكمون ، وفي كتاب اللّه تعالى : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:٨٩]

سلَمة يذكر حديثَ اليهودي الذي أنذر بالرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثني صالحُ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف ، عن محمود بن لَبيد أخى بنى عبد الأشْهل عن سَلَمة بن سلامة بن وقش - وكان سَلَمة من أصحاب بدر -

قال : كان لنا جار من يهود في بنى عبد الأشْهل ،

قال : فخرج علينا يوماً من بيته ، حتى وقف على بنى عبد الأشهل - قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سنّاً، علىَّ بُردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي - فذكر القيامةَ والبعث والحسابَ والميزان والجنةَ والنار،

قال : فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان ، لا يرَوْن أن بعثاً كائن بعد الموت ، فقالوا له : ويحكَ يا فلان !! أوَترى هذا كائناً، أن الناس يُبْعثون بعدَ موتِهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم ؟

قال : نعم ، والذي يحلَف به ، ولَوَدَّ أن له بحظِّه من تلك النار أعظمَ تَنور في الدار، يحمونه ثم يُدخلونه إياه فيطينونه عليه ، بأن ينجوَ من تلك النار غداً، فقالوا له : ويحك يا فلان ! فما آيةُ ذلك ؟

قال : نبى مبعوث من نحو هذه البلاد - وأشار بيده إلى مكة واليمن.

فقالوا: ومتى تراه ؟

قال : فنظر إليَّ ، وأنا من أحدثهم سناً،

فقال : إن يَسْتنفدْ هذا الغلام عمرَه يدركْه قال سلمة : فواللّه ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللّه محمداً رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو حَىٌّ بين أظهرنا، فآمنا به ، وكفر به بغياً وحسداً.

قال : فقلنا له. وَيْحك يا فلانُ !! ألستَ الذي قلتَ لنا فيه ما قلتَ ؟

قال : بلى ولكن ليس به.

ابن الهيبان اليهودي يتسبب في إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبيد

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر ابن قتادة عن شيخ من بنى قريظة

قال : قال لي : هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سَعْية وأسِيد بن سَعْية وأسد بن عبيد نفر من بنى هَدْل ، إخوة بنى قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام ،

قال : قلت : لا،

قال : فإن رجلاً من يهود من أهل الشام ، يقال له : ابن الهيَبان ، قَدِم علينا قُبَيْل الإسلام بسنين ، فَحَلَّ بينَ أظهرنا، لا واللّه ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس أفضلَ منه ، فأقام عندنا فكنا إذا قحَط عنا المطر قلنا له : اخرج يا ابن الهيِّبان فاستسق لنا، فيقول : لا واللّه ، حتى تُقدِّموا بين يدَيْ مخرجِكم صدقةً، فنقول له : كم ؟ فيقول : صاعا من تمر، أو مُدَّيْن من شعير.

قال : فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حَرَّتنا، فيستسقي اللّه لنا، فواللّه ما يبرح مجلسه ، حتى تمرَّ السحابةُ ونُسْقَى، قد فعل ذلك غيرَ مرة ولا مرتين ولا ثلاث.

قال : ثم حضرته الوفاةُ عندَنا، فلما عَرَف أنه ميِّت ،

قال : أيا معشر يهود، ما ترونَه أخرجني من أرضِ الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟

قال : قلنا: إنك أعلم ،

قال : فإنى إنما قدمت هذه البلدة أتوكَّف خروج نبى قد أظلَّ زمانه. وهذه البلدة مُهاجَرُه ، فكنتُ أرجو أن يُبْعث ، فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه ، فلا تُسْبَقُنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء، وسبى الذراري والنساء ممن خالفه ، فلا يمنعكم ذلك منه.

فلما بُعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحاصر بنى قُرَيْظة، قال هؤلاء الفتية، وكانوا شباباً أحداثاً: يا بنى قريظة، واللّه إنه للنبى الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيِّبان ،

قالوا: ليس به ،

قالوا: بلى واللّه ، إنه لهو بصفته ، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.

قال ابن إسحاق : فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.

حديث إسلام سلمان رضي اللّه عنه

سلمان - رضي اللّه عنه - يتشوَّف إلى النصرانية بعد المجوسية

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاري ، عن محمود بن لَبيد، عن عبداللّه بن عباس ،

قال : حدثني سَلْمان الفارسي من فِيه

قال : كنتُ رجلاً فارسيّاً من أهل إصبهان من أهل قرية يقال لها: جَىّ، وكان أبى دِهْقَان قريته ، وكنتُ أحبَّ خلق اللّه إليه ، لم يزل به حبه إياي حتى حبسنى في بيته كما تُحبس الجارية. واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطْنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.

قال : وكانت لأبى ضَيْعة عظيمة،

قال : فشُغل في بنيان له يوما، فقال لي : يا بُنى، إنى قد شُغلت في بنيانى هذا اليوم عن ضَيْعتي فأذهب إليها، فاطَّلِعْها - وأمرني فيها ببعض ما يريد -

ثم قال لي : ولا تحتبسْ عني ؟ فإنك إن احتبست عنى كنتَ أهمَّ إليَّ من ضَيْعتي ، وشغلْتنى عن كل شيء من أمري.

قال : فخرجت أريد ضَيْعتَه التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كناش النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس ، لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعتُ أصواتَهم دخلت عليهم ، أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم ، أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في أمرهم ،

وقلت : هذا واللّه خير من الدين الذي نحن عليه ، فواللّه ما بَرِحْتُهم حتى غَرَبت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟

قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبى، وقد بعث في طلبي ، وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته

قال : أي بنى أين كنت ؟ أوَلَمْ أكن عهدتُ إليك ما عهدت ؟

قال : قلت له : يا أبت ، مررتُ بأناس يصلون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فواللّه ما زلت عندهم حتى غَرَبت الشمس ،

قال : أي بنى، ليس في ذلك الدين خيرٌ ، دينك ودين آبائك خير منه ،

قال : قلت له : كلاَّ واللّه ، إنه لخير من ديننا.

قال : فخافنى، فجعل في رجلىَّ قَيدا ؛ ثم حبسني في بيته.

سلمان يهرب إلى الشام :

قال : وبعثت إلى النصارى فقلت لهم : إذا قَدِم عليكم ركب من الشام فأخبرونى بهم.

قال : فقدم عليهم ركب من الشام تجارٌ من النصارى، فأخبروني بهم فقلتُ لهم : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعةَ إلى بلادِهم ، فآذِنونى بهم :

قال : فلما أرادوا الرجعةَ إلى بلادهم ، أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلىَّ، ثم خرجت معهم ، حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين علما؟

قالوا: الأسْقُفُّ في الكنيسة.

سلمان مع أسقف النصارى السيئ

قال : فجئته ، فقلت له : إني قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك ، وأخدمك في كنيستك ، فأتعلم منك ، وأصلى معك ،

قال : ادخل ، فدخلت معه.

قال : وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ، ولم يعْطه المساكين ، حتى جمع سبعَ قِلال من ذهب ووَرِق.

قال : فأبغضته بُغضاً شديداً، لما رأيته يصنع ، ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى، ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجلَ سوءٍ ، يأمركم بالصدقة، ويرغِّبكمٍ فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه ، ولم يعطِ المساكين منها شيئا.

قال : فقالوا لي : وما عِلْمُك بذلك ؟

قال : فقلت لهم : أنا أدلكم على كنزه ،

قالوا: فدُلنا عليه

قال : فأريتهم موضعَه ، فاستخرجوا سبعَ قِلال مملوءة ذهباً ووَرِقاً.

قال : فلما رأوها

قالوا: واللّه لا ندفنه أبداً.

قال : فصلبوه ، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه.

سلمان مع أسقف النصارى الصالح

قال : يقول سلمانُ : فما رأيتُ رجلاً لا يصلي الخمسَ ، أرى أنه كان أفضلَ منه ، وأزهدَ في الدنيا، ولا أرغبَ في الآخرة، ولا أدأبَ ليلا ولا نهاراً منه.

قال : فأحببتُه حبا لم أحبه شيئا قبله مثله.

قال : فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاةُ،

فقلتُ له : يا فلان ، إنى قد كنت معك ، وأحببتك حبّاً لم أحبه شيئاً قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر اللّه تعالى، فإلى من تُوصى بي ؟ وبم تأمرنى ؟

قال : أي بنى، واللّه ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه ، فقد هلك الناسُ ، وبدَّلوا وتركوا أكثرَ ما كانوا عليه ، إلا رجلاً بالمَوْصِل ، وهو على ما كنتُ عليه فالحق به.

سلمان يلحق بأسقف الموصل

فلما مات وغُيب لحقتُ بصاحب المَوْصل ، فقلت له يا فلان ، إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك ، وأخبرنى أنك على أمره ،

قال : فقال لي : أقم عندي ، فأقمت عنده : فوجدته خير رجل على أمرِ صاحبه ، فلم يلبثْ أن مات ، فلما حضرته الوفاة، قلت له يا فلان : إن فلاناً أوصى بي إليك ، وأمرنى باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر اللّه ما ترى ، فإلى من تُوصى بي ؟ وبم تأمرنى؟

قال : يا بنى، واللّه ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلا بنَصِيبين ، وهو فلان فالحق به.

سلمان يلحق بأسقف نصيبين : فلما مات وغُيب لحقت بصاحب نصيبين ، فأخبرته خبري ، وما أمرنى به صاحباي ،

فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل ، فواللّه ما لبث أن نزل به الموت. فلما حُضر، قلت له : يا فلان ! إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بى فلان إليك ، فإلى من تُوصى بى؟ وبم تأمرنى؟

قال : يا بنى، واللّه ما أعلمه بَقىَ أحدٌ على أمرِنا أمرك أن تأتيَه إلا رجلاً بعَمّورِية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته ، فإنه على أمرنا.

سلمان يلحق بصاحب عمورية

فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحب عَمُّورِية، فأخبرته خبري ،

فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل ، على هَدْي أصحابه وأمرِهم ،

قال : واكتسبتُ حتى كان لي بقرات وغُنَيْمة.

قال : ثم نزل به أمرُ اللّه ، فلما حُضِر، قلت له : يا فلانُ ، إنى كنت مع فلان ، فأوصى بى إلى فلان ، ثم أوصى بى فلان إلى فلان ، ثم أوصى بى فلان إليك ، فإلى من تُوصي بي ؟ وبم تأمرني ؟

قال : أي بني ، واللّه ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مِثل ما كنا عليه من الناس أمرك به أن تأتيَه ، ولكنه قد أظل زمانُ نبىٍّ ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب ، مُهَاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتَيْن ، بينهما نخل به علامات لا تخفي، يأكل الهديةَ، ولا يأكل الصدقةَ، وبين كتفيه خاتَمُ النبوة، فإن استطعتَ أن تلحقَ تجلك البلاد فافعلْ.

سلمان يذهب إلى وادي القرى

قال : ثم مات وغُيِّب ، ومكثت بَعَمُّورِية ما شاء اللّه أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كَلب تجار، فقلتُ لهم : احملونى إلى أرض العربِ ، وأعطيكم بقراتي هذه وغُنَيْمتى هذه ،

قالوا: نعم فأعطَيْتُهُموها، وحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلمونى، فباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده ، ورأيت النخلَ ، فرجوْتُ أن يكون البلدَ الذي وَصف لي صاحبى، ولم يحق في نفسى.

سلمان يذهب إلى المدينة : فبينا أنا عندَه ، إذ قدم عليه ابنُ عم له من بنى قُرَيْظة من المدينة، فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة، فواللّه ما هو إلا أن رأيتُها، فعرفتها بصفةِ صاحبى، فأقمت بها، وبُعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرقِّ ، ثم هاجر إلى المدينة.

سلمان يسمع بهجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة

فواللّه إنى لفي رأس عذْق لسيدي أعمل له فيه. بعض العمل وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل ابن عم له ، حتى وقف عليه ،

فقال : يا فلانُ ، قاتل اللّه بنى قَيْلة، واللّه إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعمون أنه نبي.

نسب قيلة

قال ابن هشام: قَيْلة : بنت كاهل بن عُذْرَة بن سعد ابن زيد بن ليث بن سَوْد بن اسْلم بن الْحاف بن قُضاعة، أم الأوْس والخزرج.

قال النعمان بن بشير الأنصارى يمدح الأوس والخزرج :

بهاليلُ من أولادِ قَيْلة لم يَجِدْ  عليهم خليط في مُخالطةٍ عُتْبا
مساميحُ أبطال يُرَاحُون للندَى   يَرَوْنَ عليهم فِعلَ آبائهم نحبا

 وهذان البيتان في قصيدة له.

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة الأنصارى، عن محمود بن لَبيد، عن عبداللّه بن عباس ، قال سَلْمان : فلما سمعتها أخذنى العُرَوْراء.

قال ابن هشام : العُرَوْراء: الرعدة من البرد والانتفاض ، فإن كان مع ذلك عرق فهي الرُّحَضاء، وكلاهما ممدود - حتى ظننت أني سأسقط على سيدي ، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول ؟ فغضب سيدي ، فلكمنى لكمة شديدة،

ثم قال : ما لك ولهذا؟ أقبلْ على عملك ،

قال : قلت : لا شئ ، إنما أردت أن أستثبته عما قال.

سلمان يستوثق من رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم

قال : وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ، ثم ذهبت به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بقُبَاء، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغنى أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيرِكم ،

قال : فقرَّبته إليه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه : كلوا، وأمسك يده ، فلم يأكل.

قال : فقلت في نفسي : هذه واحدة.

قال : ثم انصرفتُ عنه ، فجمعت شيئا، وتحول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئتُه به ، فقلت له : إني قد رأيتُك لا تأكل الصدقة، فهذه هديةٌ أكرمتُك بها.

قال : فأكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها، وأمر أصحابه ، فأكلوا معه. قال فقلت في نفسى: هاتان ثنتان ،

قال : ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ببقيع الغَرْقَد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه ، علىَّ شملتان لي ، وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استدبرته ، عَرَف أنى أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره. فنظرت إلى الخاتم فعرَفته ، فأكببتُ عليه أقبله ، وأبكي ، فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : تحول ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثى، كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم أن يسمع ذلك أصحابُه. ثم شَغل سلمانَ الرقُّ حتى فاته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدر وأحد.

سلمان يفتكُّ نفسه من الرق بأمر رسول اللّه ومساعدته صلى اللّه عليه وسلم

قال سلمان :

ثم قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كاتبْ يا سلمان ، فكاتبت صاحبى على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفَقِير، وأربعين أوقية. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه : أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين وَدِيَّة، والرجل بعشرين وَدِيَّة. والرجل بخمس عشرة وَدِيَّة، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلثمائة وَدِيَّة، فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقرْ لها، فإذا فرغت فأتنى، أكن أنا أضعها بيدي. قال ففقَّرْت ، وأعاننى أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم معى إليها، فجعلنا نقرب إليه الوَدِيَّ ، ويضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده ، ما ماتت منها وَدِيَّة واحدة.

قال : فأديت النخل ، وبقي عليَّ المال ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن ،

فقال : ما فعل الفارسي المكاتَب ؟

قال : فدُعيت له ،

فقال : خذ هذه ، فأدِّها مما عليك يا سلمان.

قال : قلت : وأين تقع هذه يا رسول اللّه مما علي ؟

فقال : خذْها، فإن اللّه سيؤدى بها عنك.

قال : فأخذتها، فوزَنْت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقَّهم منها، وعُتق سلمان. فشهدتُ مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه وآله وسلم الخندقَ حُرّاً، ثم لم يفتني معه مشهد.

قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبد القيس عن سلمان : أنه

قال : لما قلتُ : وأين تقع هذه من الذي علىَّ يا رسول اللّه ؟ أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلبها على لسانِه ،

ثم قال : خذها فأوفهمْ منها، فأخذتها، فأوفيتُهم منها حقَّهم كله ، أربعين أوقية.

حديث سلمان مع الرجل الذي بعمورية

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة،

قال : حدثني من لا أتهم عن عمر ابن عبد العزيز بن مروان ،

قال : حُدثت عن سلمانَ الفارسِّي : أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أخبره خبره : إن صاحب عمورية قال له : أئت كذا وكذا من أرضِ الشام ، فإن بها رجلاً بين غَيْضتين ، يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزاً، يعترضه ذوو الأسقام ، فلا يدعو لأحد منهم إلا شُفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي ، فهو يخبرك عنه ، قال سلْمانُ : فخرجت حتى أتيتُ حيثُ وُصف لي ، فوجدت الناسَ قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك ، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزاً من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم ، لا يدعو لمريض إلا شُفِىَ، وغلبونى عليه ، فلم أخْلُص إليه حتى دخل الغَيْضةَ التي يريد أن يدخل ، إلا منكبه.

قال : فتناولته.

فقال : من هذا؟ والتفت إلىَّ،

فقلتُ : يرحمك اللّه ، أخبرني عن الحَنِيفيَّة دين إبراهيم.

قال : إنك لتسألنى عن شيء ما يسأل عنه الناسُ اليومَ ، قد أظلَّك زمانُ نبي يُبعث بهذا الدين من أهل الحرم ، فَأتِهِ فهو يحملك عليه.

قال : ثم دخل.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسلمان : لئن كنت صدقتني يا سلمان ، لقد لقيت عيسى ابن مريم.. على نبينا وعليه السلام.

ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى وعُبَيْد بن جحش وعثمان بن الحُوَيْرث

وزَيْد بن عمرو بن نُفَيْل

تشككهم في الوثنية

قال ابن إسحاق : واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ، ويعكفون عنده ، ويُديرون به ، وكان ذلك عيداً لهم في كل سنة يوماً، فخلَص منهم أربعة نفرنَجِيّاً،

ثم قال بعضهم لبعض : تصادقوا، وليكتم بعضُكم على بعض ،

قالوا: أجل ، وهم :

وَرَقةُ بن نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قُصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

وعُبَيْد اللّه بن جحش بن رِئاب بن يَعْمر بن صبْرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أسد بن خُزيمة، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب. وعثمان بن الحوَيْرث بن أسد بن عبد العزى بن قصى. وزيد بن عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العزى بن عبداللّه بن قُرْط بن رِياح بن رَزاح ابن عدي بن كعب بن لؤي. فقال بعضهم لبعض : تعلَّموا واللّه ما قومكم على شيء! لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم ، ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع ؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم ، فإنكم واللّه ما أنتم على شيء ، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم.

تنصر ورقة وابن جحش

فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتبَ من أهلها، حتى علم علما من أهل الكتاب.

وأما عُبَيد اللّه بن جحش ، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصَّر، وفارق الإِسلام ، حتى هلك هنالك نصرانيا.

ابن جحش يغري مهاجري الحبشة على التنصر:

قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير،

قال : كان عُبَيد اللّه ابن جحش- حين تنصر - يمر بأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم هنالك من أرض الحبشة فيقول : فقَّحْنا وصَأصَأتم ، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر، ولم تُبصروا بعد، وذلك أن ولد الكلب ، إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر، صأصأ، لينظر. وقوله : فقَّح : فتح عينيه

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخلف على زوجة ابن جحش بعد وفاته

قال ابن إسحاق : وخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن علي بنَ حُسين : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث فيها إلى النجاشى عَمْرَو بن أمية الضَّمْري ، فخطبها عليه النجاشى ؛ فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعمائة دينار. فقال محمد بن علي : ما نرى عبد الملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك. وكان الذي أملكها النبى صلى اللّه عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص.

تنصر ابن الحُوَيْرث وقدومه على قيصر

قال ابن إسحاق :

وأما عثمان بن الحُوَيْرث ، فقدم على قيصر ملك الروم فتنصَّر، وحسنت منزلتُه عندَه.

قال ابن هشام : ولعثمان بن الحُوَيْرث عند قيصر حديث ، منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار.

زيد يتوقف عن جميع الأديان :

قال ابن إسحاق :

وأما زيد ابن عَمرو بن نُفَيْل فوقف، فلم يدخل يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه ، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذْبَح على الأوثان.

ونهى عن قَتْل الموءودة،

وقال : أعبدُ ربَّ إبراهيم ، وبادَى قومه بعيْب ما هم عليه.

قال ابن إسحاق : وحدثني هشام بن عروة عن أبيه ، عن أمه أسماء بنت أبى بكر رضي اللّه عنهما،

قال : لقد رأيتُ زيدَ بن عمرو بن نُفَيْل شيخاً كبيراً مُسْنِداً ظهره إلى الكعبة، وهو يقول : يا معشرَ قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده : ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، ثم يقول : اللّهم لو أني أعلم أيَّ الوجوه أحبّ إليك عبدتُك به ، ولكني لا أعلمه ، ثم يسجد على راحته.

قال ابن إسحاق : وحُدثت أن ابنه سعيد بن زيْد بن عمرو بن نُفَيْل وعمر بن الخطاب ، وهو ابن عمه ، قالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أتستغفر لزيد بن عمرو؟

قال : نعم ، فإنه يُبْعث أمةً وحدَه.

شعر زيد في فراق الوثنية

وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه وما كان لقى منهم في ذلك:

أرَبّاً واحداً، أم ألفَ رب  أدِينُ إذا تُقُسمت الأمورُ
عَزَلْتُ اللاتَ والعُزَّى جميعاً  كذلك يفعلُ الجَلْدُ الصبورُ
فلا العُزَّى أدينُ ولا ابنتيْهـا  ولا صَنَمَيْ بنى عمرو أزورُ
ولا هُبَلاً أدين ، وكان ربًّا   لنا في الدهر إذ حِلمى يسيرُ
عجبت وفي الليالي مُعْجَبات  وفي الأيام يعرفها البصيرُ
بأن اللّه قد أفنى رجـالاً  كثيراً كان شأنَهمُ الفجورُ
وأبقى آخرين ببرِّ قوم   فَيَرْبِلُ منهمُ الطفلُ الصغير
وبَيْنا المرءُ يعثر ثابَ يوماً  كما يَتروَّح الغصنُ المطيرُ
ولكنْ أعبدُ الرحمنَ ربِّـى  ليغفرَ ذنبىَ الربُّ الغفورُ
فتقوى اللّه ربكم احفظوها  متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرارَ دارَهُم جِنانٌ  وللكفارِ حامية سعيرُ
وخزْي في الحياة وإن يموتوا  يلاقوا ما تضيقُ به الصدورُ
وقال زيد بن عمرو بن نُفَيل أيضا -

قال ابن هشام : هى لأمية ابن أبى الصلت في قصيدة له إلا البيتين الأولين ، والبيت الخامس ، وآخرها بيتا. وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق :

إلى اللّه أهْدِي مِدحتى وثنائيا  وقولاً رصيناً لا ينى الدهرَ باقيَا
إلى الملكِ الأعلى الذي ليس  فوقَه إلهٌ ولا رب يكونُ مُدانيَا
ألا أيها الإنسان إياك والرَّدَى  فإنك لا تخفى من اللّه خافيَا
وإياكَ لا تجعلْ مع اللّه غيرَهُ  فإن سبيلَ الرُّشْد أصبحَ باديَا
حَنَانَيْكَ إن الجنَّ كانت رجاءَهم  وأنتَ إلهى ربنا ورجَائيَا
رضيتُ بك -اللّهمَّ –ربًّا فلن  أرَى أدينُ إلها غيرك اللّه ثانيَا
وأنت الذي من فَضْل مَن ورحمةٍ بعَثتَ إلى موسى رسولاً مناديَا
فقلت له يا اذْهب وهارون فادْعُوَا إلى اللّه فرعونَ الذيِ كان طاغيا

وقولا له : آأنْتَ سَوَّيتَ هذه بلا وَتدٍ ، حتى اطمأنت كما وقولا له :

آأنْتَ رفعت هذه بلا  عَمَدٍ ، أرفقْ - إذاً - بك بانيَا وقولا. له :

آأنْتَ سوَّيت وَسْطَها  مُنيراً، إذ ما جَنَّه الليلُ هاديَا
 وقولا له : من يرسلُ الشمس غُدوةً فيُصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له : من يُنبتُ الحبَّ في  الثرَى فيصبحُ منه البقلُ يهتزُّ رابيَا
ويُخرج منه حبَّه في رءوسِه  وفي ذاك آياتٌ لمن كان وَاعيَا
وأنت بفضلٍ منك نجَّيت يونساً  وقد بات في أضعافِ حوتٍ لياليَا
وإني ولو سبحت باسمك ربنا  لأكْثِر - إلا ما غفرتَ - خطائيَا
فربّ العبادِ ألق سَيْباً ورحمةً  علىَّ، وباركْ في بَنىَّ وماليَا

وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحَضرَمي :

نسب الحضرمي

قال ابن هشام : واسم الحضرمى : عبداللّه بن عباد أحد الصَّدِف ، واسم الصَّدف : عمرو بن مالك أحد السَّكون ابن أشرس بن كِنْدى،

ويقال : كِندة بن ثَوْر بن مُرَتِّع بن عُفَير بن عَدي بن الحارث بن مُرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ،

ويقال : مُرَتِّع بن مالك بن زيد ابن كهلان بن سبأ.

زيد يعاتب زوجته لمنعها له عن البحث في الحنيفية

قال ابن إسحاق : وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم فكانت صفيةُ بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج ، وأراده ، آذنت به الخطاب بن نُفَيل ، وكان الخطاب بن نُفَيل عمه وأخاه لأمه ، وكان يعاتبه على فراق دين قومه ، وكان الخطاب قد وكَّل صفية به.

وقال : إذا رأيتيه قد هَمَّ بأمر فآذنيني به - فقال زيد:

لا تحبيني فى الهوان   صفي ما دابي ودابة

إني إذ١ا خفت الهوان   مشيع ذلل ركابه

دعمص أبواب الملوك   وجانب للخرق نابه

قطاع أسباب تذل  بغير أقران صعابه

وإنما أخذ الهوان  العير إذا يوهى إهابه

ويقول : إني لا أُذل  بصك جنبيه صلابه

وأخي ابن أمي ، ثم  عمي لا يواتني خطابه

وإذا يعاتبني بسوء  لست أعياني جوابه

ول شاء لقلت ما  عندي مفاتحه وبابه

قول زيد حين يستقبل الكعبة :

قال ابن إسحاق : وحُدثت عن بعض أهلِ زيدٍ بن عمرو بن نُفَيل أن : أن زيداً كان إذا استقبل الكعبة داخلَ المسجد،

قال : لبيك حقّاً حقّاً، تعبداً ورقّاً.

عُذتُ بما عاذ به إبراهيمْ    مستقبلَ القبلة، وهو قائم

إذ قال:

أنفى لك اللّهم عان راغم  مهما تجشمنى فإنى جاشم
البر أبغى لا الخـال   ليس مهجر كمن قال
قال ابن هشام: ويقال: البر أبقى لا الخال، ليس مهجر كمن قال. قال وقوله : " مستقبل الكعبة" عن بعض أهل العلم.

قال بن إسحاق: وقال زيد بن عمرو بن نفيل:

وأسلمت وجهي لمن أسلمـت   له الأرض تحمل صخراً ثقالاً
دحاها فلما رآها استوت على  الماء ،أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمـت  له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلي بلـدة  أطاعت ، فصبت عليها سجالا

الخطاب يؤذي زيداً ويحاصره

وكان الخطاب قد آذى زيداً؛ حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابلَ مكة، ووكَّل به الخطاب شباباً من شباب قُريش وسفهاء من سفهائهم ،

فقال لهم : لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً منهم ، فإذا علموا بذلك ، آذنوا به الخطاب ، فأخرجوه ، وآذوه كراهيةَ أن يُفسدَ عليهم دينهم ، وأن يتابعه أحد منهم على فراقه فقال - وهو يعظم حرمته على من استحلَّ منه ما استحل من قومه :

لا هُمَّ إني مُحرِم لا حِلّهْ  وإن بيتى أوسطُ المَحِلَّهْ

عند الصَّفا ليس بذي مَضَلَّهْ

زيد يرحل إلى الشام وموته

ثم خرج يطلبُ دينَ إبراهيم عليه السلام ، ويسأل الرهبانَ والأحبار، حتى بلغ الموصِل والجزيرةَ كلَّها، ثم أقبل فجالَ الشامَ كلَّه ، حتى انتهى إلى راهب بميْفَعة من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه عِلْمُ أهلِ النصرانية فيما يزعمون ، فسأله عن الحنيفيةِ دين إبراهيم ،

فقال : إنك لتطلب دِيناً ما أنت بواجدٍ من يحملك عليه اليوم ، ولكن قد أظلَّ زمانُ نبي يخرج من بلادك التي خرجتَ مِنها، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحقْ بها، فإنه مبعوث الآنَ ، هذا زمانُه ، وقد كان شَامَّ اليهودية والنصرانية، فلم يرضَ شيئاً منهما، فخرج سريعاً، حين قال له ذلك الراهب ما قال ، يريد مكةَ، حتى إذا توسط بلادَ لخم ، عَدَوْا عليه فقتلوه.

ورقة يرثي زيدا: فقال ورقةُ بنُ نوفل بنِ أسد يبكيه :

رشدتَ ، وأنعمت ابن عمرو،  وإنما تجنبْتَ تنّوراً من النار حاميا

بدينك ربًّا ليس رب كمثلِه  وترككَ أوثانَ الطواغي كما هيَا
وإدراكك الدينَ الذي قد طلبتَه  ولم تكُ عن توحيدِ ربِّك ساهيَا
 فأصبحتَ في دارٍ كريمٍ مقامُها  تُعلَّلُ فيها بالكرامةِ لاهيا
تُلاقي خليلَ اللّه فيها، ولم تكنْ  من الناسِ جَبَّاراً إلى النارِ هاويَا
وقد تدركُ الإنسانَ رحمة ربِّه  ولوكان تحتَ الأرضِ سبعين واديَا

قال ابن هشام : يروى لأمية بن أبى الصَّلْت البيتان الأوَّلان منها، وآخرها بيتاً في قصيدة له. وقوله : " أوثان الطواغى " عن غير ابن إسحاق.

صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الإِنجيل

يُحَنَّس الحواري يثبت بعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الإِنجيل

قال ابن إسحاق : وقد كان - فيما بلغنى عما كان وَضعَ عيسى ابن مريم فيما جاءه من اللّه في الإِنجيل لأهل الإنجيل - من صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما أثبت يُحَنَّس الحواري لهم ، حين نسخ لهم الإِنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم أنه

قال : من أبغضنى فقد أبغض الربَّ ، ولولا أنى صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحدٌ قبلي ، ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِرُوا وظنوا أنهم يَعُزُّوننى، وأيضا للرب ، ولكن لا بد من أن تتم الكلمةُ التي في الناموس : أنهم أبغضوني مجانا، أي : باطلا. فلو قد جاء المنْحمنّا هذا الذي يرسله اللّه إليكم من عند الربِّ ، وروح القُدس هذا الذي من عند الرب خرج ، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضا؛ لأنكم قديما كنتم معي في هذا، قلت لكم : لكيما لا تشكوا.

والمُنْحَمَنَّا بالسريانية : محمد: وهو بالرومية: البرقْلِيطِس ، صلى اللّه عليه وسلم.