أخذ اللّه الميثاق على الرسل بالإِيمان به صلى اللّه
عليه وسلم:
قال : حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام ،
قال : حدثنا زياد بن عبداللّه البكائي - عن محمد بن إسحاق
المطلبى
قال : فلما بلغ محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربعين سنة بعثه اللّه تعالى رحمةً للعالمين ، وكافةً
للناس بشيراً، وكان اللّه تبارك وتعالى قد أخذ الميثاقَ على كلِّ نبي بعثه قبلَه
بالإِيمان به ، والتصديق له ، والنصر له على من خالفه ، وأخذ عليهم أن يؤدُّوا ذلك
إلى كلِّ من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من. ذلك ما كان عليهم من الحقِّ فيه. يقول
اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم : { وَإِذْ
أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران:٨١] : أي ثقل ما حملتكم من عهدي : { قَالُوا
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران:٨١] فأخذ اللّه ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له ، والنصر له
ممن خالفه ، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم ، وصدقهم من أهل هذين الكتابين.
قال ابن
إسحاق : فذكر الزهريُّ عن عُروة بن الزبير، عن عائشة رضى اللّه عنها أنها حدثته : أن أولَ ما بُدى به رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم من النبوة، حين أراد اللّه
كرامته ورحمة العباد به : الرؤيا الصادقةُ، لا يرى رسولُ اللّه
صلى اللّه عليه وسلم رؤيا في نومِه إلا جاءت
كفلق الصبح
قالتْ : وحبب اللّه تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن
يخلوَ وحدَه.
قال ابن إسحاق : وحدثني
عبد الملك بن عُبَيْد اللّه بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي ، وكان واعيةً، عن بعض أهل العلم :
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أراده اللّه بكرامته ، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى تحسَّرَ عنه البيوتُ ، ويُفضى إلى شِعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحجر ولا شجر، إلا
قال : السلامُ عليك يا رسولَ اللّه.
قال : فيلتفتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حولَه ، وعن يمينه وشماله وخلفه ، فلا يرى إلا الشجرَ والحجارة، فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ، ما شاء اللّه أن يمكثَ ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة اللّه ، وهو بحراء في شهر رمضان.
قال ابن
إسحاق : وحدثني ، وَهْب بن كَيْسان ، مولى آل الزبير.
قال : سمعتُ عبدَاللّه بن الزبير وهو يقول لعُبَيد ابن عُمَيْر
بن قَتادة الليثي : حدثنا يا عبيد، كيف كان بدْءُ ما ابتُدئ به رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النبوة،
حين جاءه جبريل عليه السلام ؟
قال : فقال عُبيد - وأنا حاضر يحدث عبداللّه بن الزبير، ومن عنده
من الناس : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاور في حِراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنَّث به
قريش في الجاهلية. والتحنث : التبرُّر.
قال ابن
إسحاق : وقال أبو طالب :
وثَوْر ومن أرسى ثَبِيراً مكانَه ورَاقٍ ليَرْقَى في حِراءَ ونازِلِ
التحنث
والتحنف
قال ابن
هشام : تقول العرب : التحنث والتحنف ، يريدون
الحَنِيفية فيبدلون الفاء من الثاء، كما
قالوا: جَدَفَ وجَدَث. يريدون : القبرَ. قال رؤبةُ بن العَجّاج :
لو كان أحجاري مع الأجْداف
يريد: الأجداث : وهذا البيت في أرجوزة له. وبيت أبي طالب في قصيدة له سأذكرها إن شاء اللّه في موضعها.
قال ابن
هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فم،
في موضع: ثم، يبدلون الفاء من الثاء.
قال ابن
إسحاق : حدثني وهب بن كيسان
قال : قال عُبَيد: فكان رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم يجاور ذلك الشهرَ من كل
سنة، يُطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم جوارَه ، من شهره ذلك ،
كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة، قبل أن يدخلَ بيتَه ، فيطوفُ
بها سبعاً، أو ما شاء اللّه من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته.
حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد اللّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من
السنة التي بعثه اللّه تعالى فيها، وذلك الشهرُ: شهرُ رمضان ، خرج رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حِراء،
كما كان يخرج لجوارِه ومعه أهلُه ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللّه فيها
برسالته ورحم العبادَ بها، جاءه جبريلُ - عليه السلام - بأمر اللّه
تعالى.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فجاءنى جبريلُ ، وأنا نائم ، بِنَمَطٍ من دِيباجٍ فيه كتاب ،
فقال : اقرأ،
قال : قلت : ما أقرأ قال فغتَّنى به ، حتى ظننت أنه الموتُ ، ثم أرسلنى؛
فقال : اقرأ، قال قلت : ما أقرأ؟
قال : فغتَّنى به ، حتى ظننتُ أنه الموتُ ، ثم أرسلني ،
فقال : اقرأ،
قال : قلت : ماذا أقرأ؟ قال فغتَّني به ، حتى ظننتُ أنه الموتُ ، ثم أرسلنى،
فقال : اقرأ،
قال : فقلت : ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بى.
فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ
الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.[العلق:١ـ٥]
قال : فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عنى، وهببت من نومي ، فكأنما كتبت في قلبي كتابا.
قال : فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسطٍ من الجبل سمعت صوتاً من
السماءِ يقول : يا محمدُ أنت رسولُ اللّه ، وأنا جبريلُ ،
قال : فرفعتُ رأسى إلى السماء أنظر، فإذا جبريلُ في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد، أنت
رسول اللّه وأنا جبريل.
قال : فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلتُ أصرفُ وجهي
عنه في آفاقِ السماء،
قال : فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلتُ واقفا
ما أتقدم أمامي ، وما أرجع ورائى حتى بَعثَتْ خدِيجةُ رُسلَهَا في طلبي ، فبلغوا
أعلى مكةَ، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عني.
وانصرفتُ راجعاً إلى أهلي ، حتى أتيتُ خديجةَ، فجلست إلى فخذها مُضيفا
إليها، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنتَ
؟ فواللّه لقد بعثت رسلي في طلبك ، حتى بلغوا مكةَ ورجعوا لي ، ثم حدثتها بالذي رأيتُ ، فقالت : أبشرْ يا ابن عمِّ واثبُتْ فوالذي نفس خديجة بيده إني
لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى ابن قُصي ، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصّر، وقرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل. فأخبرته بما أخبرها به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى وسمع. فقال ورقةُ بن نوفل : قدُّوس قدوس ، والذي نفس ورقةَ بيده لئن كنتِ صدقتيني يا خديجةُ لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبيُّ هذه الأمة. فقولى له : فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأخبرته بقول ورقةَ بن نَوْفَل. فلما قضى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم جوارَه وانصرف ، صنع كما كان يصنع : بدأ بالكعبة، فطاف بها. فلقيه ورقةُ بن نوفل ، وهو يطوف بالكعبة.
فقال : يا ابن أخى أخبرْنى بما رأيتَ وسمعتَ : فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقال له ورقةُ : والذي نفسى بيده ، إنك لنبىُّ هذه الأمة، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى. ولتُكَذِّبنهْ ، ولتُؤذَيَنَّهْ ، ولتُخْرَجَنهْ ، ولَتُقَاتلنَّهْ. ولئن أنا أدركتُ ذلك اليوم لأنصرنَّ اللّه نصراً يعلمه. ثم أدنى رأسَه منه ، فقبل يافوخَه ، ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى منزله.
قال ابن
إسحاق : وحدثني إسماعيلُ بن أبي حكيم مولى آلِ الزبير: أنه حُدِّث
عن خديجة رضي اللّه عنها أنها قالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم : أي ابن عَم ، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟
قال : نعم ،
قالت : فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريلُ عليه السلام ، كما كان يصنعُ ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخديجةَ: يا خديجةُ، هذا جبريلُ قد جاءنى ،
قالت : قم يا ابن عم فاجلسْ على فَخذي اليسرى،
قال : فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس عليها،
قالت : هل تراه ؟
قال : نعم ،
قالت : فتحولْ ، فاجلسْ على فخذي اليمنى،
قالت : فتحول رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس ، على فخذي اليمنى، فقالت : هل تراه ؟
قال : نعم ،
قالت : فتحولْ فاجلسْ على حجري ،
قالت : فتحول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلس في حجرها،
قالت : هل تراه ؟
قال : نعم ،
قال : فتحسَّرت وألقت خمارَها ورسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم جالس في حجرها،
ثم قالت له : هل تراه ؟
قال : لا، قالت يا ابن عم ، أثبت وأبشرْ، فواللّه إنه لملك وما
هذا بشيطان.
قال ابن
إسحاق : وقد حَدثتُ عبدَاللّه بن حسن هذا الحديث ،
فقال : قد سمعتُ أمى فاطمة بنت حُسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة،
إلا أني سمعتها تقول : أدخلتْ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عندَ ذلك جبريل ، فقالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن هذا لملك ، وما هو بشيطان.