رؤيا ربيعة:
قال
ابنُ إسحاق : وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضْعَاف ملوك التبابعة،
فرأى رؤيا هالته ، وفظع بها، فلم يَدَعْ كاهناً، ولا ساحراً، ولا عائفاً، ولا
منجِّما من أهل مملكته إلا جمعه إليه ،
فقال
لهم : إنى قد رأيت رؤيا هالتني ، وفَظِعْت بها ؛
فأخْبرونى بها وبتأويلها، قالوا له : اقصصها علينا نخبرْك بتأويلها،
قال
: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبرِكم عن تأويلها،
فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم : فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سَطيحٍ
وشِقٍّ، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.
واسم سطيح : ربيع بن ربيعة، بن مسعود، بن مازن ، بن ذئب ، بن عدي ، بن مازن
غسان ، وشق : بن صَعْب ، بن يَشْكُر، بن رُهْم ، بن أفْرَك ، ابن قَسْر، بن
عَقْبَر، بن أنمار، بن نزار. وأنمار أبو بجيلة وخثعم.
قال ابن هشام : وقالت اليمن : وبجيلة بنو أنمار، ابن إراش بن لَحْيان ، بن عمرو، بن الغَوْث ، بن نَبْت ، بن مالك ، بن زيد، ابن كهلان ، بن سبأ.
ويقال : إراش بن عمرو، بن لحْيان ، بن الغَوْث. ودار بجيلة وخثعم يمانية.
قال إبن إسحاق : فبعث إليهما، فقدم عليه سَطيح قبلَ شِقٍّ،
فقال له : إني رأيت رؤيا هالتنى، وفظِعْت بها، فأخبرْنى بها، فإنك إن أصبتَها أصبتَ تأويلَها.
قال : أفعلُ. " رأيتَ حُمَمَة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بأرض تَهَمة، فأكلت منها كلُّ ذاتِ جُمْجُمة ".
فقال له الملك : ما أخطأتَ منها شيئا يا سطيحُ ؛ فما عندَك في تأويلها ؟
فقال : أحلف بما بين الحَرَّتَيْن من حَنَش ، ليهبِطنَّ أرضَكم الحبش، فليملكن ما بين أبيَن إلى جُرَش ،
فقال له الملك : وأبيك يا سطيح ، إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن ، أفى زماني هذا. أم بعده ؟
قال :لا، بل بعده بحين ، اكثر من ستين أو سبعين ، يمضين من السنين.
قال : أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع ؟
قال : لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ، ثم يُقتلون ويخرجون منها هاربين.
قال : ومن يلي ذلك من قتْلِهم وإخراجهم ؟
قال : يليه إرَمُ ذي يَزن ، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك أحداً منهم باليمن.
قال : أفيدوم ذلك من سلطانه ، أم يقطع ؟
قال : لا، بل ينقطع.
قال : ومن يقطعه ؟
قال : نبيّ زكىّ، يأتيه الوحى، من قِبَلِ العلي.
قال : وممن هذا النبي ؟
قال : رجل من ولد غالب بن فهْر بن مالك
ابن النَّضْر، يكون المُلك فى قومه إلى آخر الدهر.
قال : وهل للدهر من آخر؟
قال : نعم ، يومٌ يُجْمَع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون ،
ويشقى فيه المسيئون.
قال : أحق ما تخبرني ؟
قال : نعم. والشَّفق والغَسق ، والفَلَق إذا اتَّسق ، إن ما أنبأتك به لحق.
. ثم قدم عليه شِق ،فقال له كقوله لسطيح ،وكتمه ما قال سطيح ،لينظر أيتفقان أم يختلفان.
فقال : نعم ، رأيت حُمُمة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بين رَوْضة
وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
قال : فلما قال له ذلك ، عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما واحد.
إلا أن سطيحاً
قال : " وقعت بأرض تَهَمة، فأكلت منها كل ذات جُمْجُمة".
وقال شِق : " وقعت بينَ روضة وأكمة، فأكلتْ منها كلُّ ذات نسمة".
فقال له الملك : ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك فى تأويلها ؟
قال : أحلف بما بين الحَرَّتين من إنسان ، لينزلن أرضَكم السودان ، فليغلبن على كل طَفْلة البنان ، وليملكُن ما بين أبيَن إلى نَجْران.
فقال له الملك : وأبيك يا شِقُّ ، إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن ؟ أفى زمانى، أم بعده ؟
قال : لا، بل بعده بزمان ، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ، ويذيقهم أشد الهوان.
قال : ومن هذا العظيم الشان ؟
قال : غلام ، ليس بدَنِيّ ، ولا مُدَنّ، يخرج عليهم من بيت ذي يَزَن ، فلا يترك أحداً منهم باليمن.
قال : أفيدوم سلطانه أم ينقطع ؟
قال : بل ينقطع برسول مُرْسَل يأتى بالحق والعدل ، بين أهل الدين والفضل ، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل.
قال : وما يوم الفصل ؟
قال : يومٌ تُجْزَى فيه الولاةُ ويُدْعى فيه من السماء بدعوات ، يسمع منها الأحياء والأموات ، ويُجمع فيه بين الناس للميقات ، يكون فيه لمن اتقى الفوزُ والخيرات.
قال : أحق ما تقول ؟
قال : إي وربِّ السماء والأرض ، وما بينهما من رَفْعٍ وخَفض ، إن
ما أنبأتك به لحق ، ما فيه أمض.
قال ابن هشام : أمض. يعني شكّاً : هذا بلغة حمير. وقال أبو عمرو: أمض أي : باطل. فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه ، وأهل بيته إلى العراق بما يصلهم ، وكتب لخم إلى ملك من ملوك فارس يقال له : سابور بن خرَّزاد فأسكنهم الحيرة.
فمن بقية ولد ربيعة ابن نصر : النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعِلْمِهم
: النعمانُ بنُ المنذر بن عَمرو بن عَدِي بن ربيعة بن نَصْر، ذلك الملك.
قال ابن
هشام : النعمان بن المنذر، بن المنذر، فيما أخبرنى
خلف الأحمر.
استيلاء أبي
كرب تبان أسعد على مُلك اليمن وغزوه إلى يثرب
قال ابن
إسحاق : فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع مُلك اليمن كلِّه إلى حسان بن
تُبان أسعد أبى كرب - وتُبان أسعد هو : تُبَّع الآخر، ابن كَلْكى كرَب بن زيد،
وزيد هو تُبَّع الأول بن عمرو ذي الأذعار ابن أبرهة ذي المنار ابن الرّيْش
قال ابن
هشام :
ويقال : الرائش.
قال ابن
إسحاق : ابن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر، بن كَعْب ، كَهْف الظُّلم
، ابن زَيْد بن سَهْل ، بن عَمرو، بن قَيْس ، بن معاوية، بن جُشَم ، بن عبد شمس ،
بن وائل ، بن الغَوْث ، بن قَطَن ، بن عَرِيب ، بن زهير، بن أيمن ، بن الهَمَيْسَع
، بن العَرَنْجَج. والعَرَنْجَج : حِمْيَر بن سبأ الأكبر بن يَعْرُب ، بن يَشْجُب
، بن قحطان.
قال ابن
هشام : يَشْجُب : بن يَعْرُب بن قَحْطان.
قال ابن
إسحاق : وتُبان أسعد : أبو كَرِب الذي قدم المدينة، وساق
الحَبْرَيْن من يهود المدينة إلى اليمن ، وعثر البيت الحرام وكساه ، وكان مُلكه
قبل مُلك ربيعة بن نصر.
قال ابن
هشام : وهو الذي يُقال له :
ليت
حظي من أبى كــــَرِب أن يسدّ خيرُه خبلَهْ
قال ابن
إسحاق : وكان قد جعل طريقه - حين أقبل من المشرق - على المدينة
وكان قد مَرَّ بها فى بدأته ، فلم يهج أهلَها، وخلف بين أظهرهم ابناً له ، فقُتل
غِيلةً، فقدمها، وهو مُجمع لإخرابها، واستئصال أهلها، وقطع نخلها، فجمع له هذا
الحيُّ من الأنصار، ورئيسهم عمرو ابن طَلَّة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول ، واسم مبذول : عامر، بن مالك بن
النجار. واسم النجار : تيم اللّه بن ثعلبة، بن عمرو، بن الخزرج ، بن حارثة، بن
ثعلبة، ابن عمرو، بن عامر.
عمرو ابن طلة وشبه :
قال ابن
هشام : عمرو ابن طَلَّة : عمرو بن معاوية، بن عمرو بن
عامر، بن مالك بن النجار، وطَلَّة : أمه : وهىِ بنت عامر بن زُرَيق ، بن عامر بن
زُرَيق ، بن عبد حارثة بن مالك ، بن غضْب ، ابن جُشَم ، بن الخزرج.
قال ابن إسحاق : وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له : أحمر، عدا على رجال من أصحاب تُبَّع في نزل بهم فقتله. وذلك أنه وجده فى عَذْق له يَجُدُّه فضربه بمنجله فقتله ،
وقال : إنما التمر لمن أبره ، فزاد ذلك تُبعاً حنقا عليهم ،
قال : فاقتتلوا، فتزعُم الأنْصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل ، فيعجبه ذلك منهم ، ويقول : واللّه إن قومَنا لكرام !!.
فبينا تُبع على ذلك من قتالهم ؛ إذا جاءه حَبران من أحبار اليهود، من بني قُرَيظة - وقريظة والنضير والنَّحَّام وعمرو - وهو هَدَل - بنو الخزرج بن الصريح بن التَّوْمان ، بن السِّبط بن اليسع ، بن سعد، بن لاوي ، بن خير ، بن النحام ، بن تنحوم ، بن عازر، عِزرى، بن هارون بن عمران ، بن يصهر، بن قاهث ، بن لَاويّ بن يعقوب - وهو إسرائيل - ابن إسحاق - بن إبراهيم خليل الرحمن - صلى اللّه عليهم - عالمان راسخان في العلم ، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له : أيها الملك ، لا تفعل ، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجلَ العقوبة، فقال لهما : ولم ذلك ؟ فقالا: هى مهاجَر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش فى آخر الزمان ، تكون دارَه وقرارَه ، فتناهى عن ذلك ، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، واتبعهما على دينهما، فقال خالد بن عبد العُزَّى بن غَزِيَّة بن عمرو بن عبد بن عوف بن غُنْم بن مالك بن النجار يفخر بعمرو ابن طَلَّة :
أصحا أم قد
نهى ذُكَــــرَهْ أم قضى من لذةٍ وسرهْ
أم تذكرْتَ الشبابَ ، ومــا ذِكرُك الشباب أو عُصُرَهْ
إنها حرب رَباعِيـــــةٌ مثلُها آتى الفتى عِبَره
فاسألا عمرانَ أو أســـدا إذ أتت عَدْواً مع الزُّهَرَهْ
فَيْلَقٌ فيها أبو كَـــــر بٍ سُبَّغ أبدانُها ذَفِرَهْ
ثم قالوا: من نؤم بهــــا أبنى عوف ، أم النجرَه ؟
بل بني النجار إنَّ لنــــا فيهم قتلى، وإنَّ تِرَهْ
فتلقَّتهم مُسايفــــــــــــــــــــة مَدُّها كالغيبةِ النَّثِرهْ
فيهم عَمْرُو ابنُ طَلَّةَ مَلَّـــــــــــــــى الإلهُ قومَه عُمُرَهْ
سَيْد سام الملوكَ ومـــــــــــــــــن رام عَمراً لا يكنْ قَدَرَهْ
وهذا الحى من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تُبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم ، وإنما أراد هلاكهم ، فمنعوهم منه ، حتى انصرف عنهم ، ولذلك قال فى شعره :
حَنقا على سِبْطين حلَّا يثربا أوْلى لهم بعقاب يوم مفسد
قال ابن هشام : الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع ، فذلك الذي منعنا من إثباته
وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكّة، وهي طريقهُ إلى
اليمن ، حتى إذا كان بين عُسْفان ، وأمَج أتاه نفر من هُذيل بن مُدركة ابن إلياس
بن مضر بن نزار بن معد ؛ فقالوا له : أيها الملك ألا ندلك على بيت مال دائر،
أغفلته الملوك قَبْلك ، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟
قال : بلى قالوا : بيت بمكة يعبده أهله ، ويصلون عنده. وإنما
أراد الهذليون هلاكه بذلك ، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغَى عنده.
فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين ، فسألهما عن ذلك فقالا له : ما أراد القوم
إلا هلاكَك وهلاك جندك. ما نعلم بيتاً للّه اتخذه في الأرض لنفسه غيره ، ولئن فعلت
ما دعوك إليه ، لتهلكن وليهلكن من معك جميعا،
قال : فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت إليه قالا : تصنع
عنده ما يصنع أهله : تطوف به وتعظمه وتكرِّمه ، وتحلق رأسك عنده وتذِل له ، حتى
تخرج من عنده ،
قال : فما يمنعكما أنتما من ذلك ، قالا : أما واللّه إنه لبيت أبينا إبراهيم ، وإنه لكما أخبرناك ، ولكن
أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حولَه ، وبالدماء التى يُهْرقون عنده
، وهم نَجِس أهلُ شرك – أو كما قالا له – فعرف نصحَهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هُذيل ، فقطع
أيديهم وأرجلهم ، ثم مضى
حتى قدم مكة، فطاف بالبيت ، ونحر عنده ، وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام – فيما
يذكرون – ينحر بها للناس ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل ، وأرِيَ فى المنام أن يكسو
البيت ، فكساه الخَصَف ثم أرِيَ أن يكسوه أحسنَ من ذلك فكساه المَعافرَ، ثم أري أن يكسوه أحسنَ من ذلك فكساه المُلاء والوصائل ، فكان
تُبع - فيما يزعُمون - أول من كسا البيت ، وأوصى به ولاته من جرهم ، وأمرهم
بتطهيره وألا يقربوه دما، ولا ميتة، ولا مئلات - وهى المحايض - وجعل له باباً ومفتاحاً،
وقالت سُبَيْعة بنت الأحَبِّ ، بن زَبينة، بن جذيمة، بن عوف ، بن معاوية، بن بكر،
بن هوازن ، بن منصور، بن عِكرمة، بن خَصَفة، بن قيس ، بن عيلان ، وكانت عند عبد
مناف بن كعب ، بن سعد، بن تَيْم ، بن مُرة، بن كعب ، بن لُؤَي ، بن غالب ، بن
فِهْر، بن مالك ، بن النضر، بن كنانة، لابن لها منه يقال له : خالد : تعظِّم عليه
حرمة مكة، تنهاه عن البغي فيها، وتذكر تُبَّعا وتذللّه له ، وما صنع بها :
أبنيَّ
: لاتَظْلم بمكــــــة لا الصغيرَ ولا
الكبيرْ
واحفظْ محارمَها بنــــــ ى ولا يغرَّنْك
الغَرورْ
أبُنَيَّ : من يَظلم بـــــمـ ـكةَ يُلقَ
أطرافَ الشرورْ
أبنَىَّ : يُضْرب وجهُـــــه وَيلُحْ
بخديْه السعيرْ
أبنى : قد جربتُهـــــــا فوجدتُ ظالمها
يبورْ
اللّه أمَّنها، ومــــــــا بُنيت
بعرْصَتها قصورْ
واللّه آمنَ طيرَهـــــــا والعُصْم
تأمن فى ثَبيرْ
ولقد غزاها تُبَّــــــــعٌ فكسا بنيتَها الحبيرْ
وأذلَّ ربي مُلكَــــــــهُ فيها فأوفى
بالنُّذورْ
يمشى إليها حافيـــــــاً بفنائِها ألفَا
بعير
ويظل يُطْعِمُ أهلَهــــــا لحمَ المهاري
والجَزُور
يسقيهم العسلَ المصــــــ فّى والرَّحيضَ
من الشعير
والفيلُ أهلك جيشُـــــــه يرمون فيها
بالصخورْ
والملْكُ في أقصى البــــلاد وفى الأعاجِم
والخَزِير
فاسمعْ إذا حُدِّثت ، وافــــ همْ كيف
عاقبةُ الأمورْ
قال ابن هشام : يوقف على قوافيها لا تعرب.
أصل اليهودية باليمن : ثم خرج منها متوجها إلى اليمن بمن معه
من جنوده وبالحَبْرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه
، فأبَوْا عليه ، حتى يحاكموه إلى النار التى كانت باليمن.
قال ابن
إسحاق : حدثنى أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القُرظى،
قال : سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه يحدث : أن
تُبعاً لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حِمْيَر بينه وبين ذلك وقالوا : لا تدخلها
علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه
وقال : " إنه خير من دين "،
فقالوا : فحاكمنا إلى النار
قال : نعم.
قال : وكانت باليمن - فيما يزعم أهل اليمن - نار تحكم بينهم فيما
يختلفون فيه ، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم ، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقرَّبون به
في دينهم ، وخرج الحَبْران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند
مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها،
فذَمَرهم من حضرهم من الناس ، وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم ، فأكلت
الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما فى
أعناقهما تعرق جباههما لم تضرّهما، فأصفقَتْ عند ذلك حمير على دينه ، فمن هنالك ،
وعن ذلك ، كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن
إسحاق : وقد حدثنى محدِّث أن الحَبْرين ، ومن خرج من حمير، إنما
اتبعوا النار ليردوها، وقالوا : من ردها فهو أولى بالحق ، فدنا منها رجال من
حِمْير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم ، فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها،
ودنا منها الحبران بعد ذلك ، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما، حتى ردَّاها إلى
مخرجها الذي خرجت منه ، فأصفَقَتْ عند ذلك حمير على دينهما. واللّه أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق : وكان رئام بيتاً لهم يعظمونه ، وينحرون عنده ، ويُكَلَّمون منه ، إذ كانوا على شركهم ، فقال الحبران لتُبع : إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخلِّ بيننا وبينه ، فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت ، فبقاياه اليوم - كما ذكر لي - بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
مُلك حسان بن تبان وقتله على يد أخيه عمرو
فلما ملك ابنه حسان بن تُبان أسعد أبى كَرِب ، سار بأهل اليمن ، يريد
أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم ، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق
قال ابن هشام : بالبحرين ، فيما ذكر لى بعض أهل العلم -
كرهت حِمْير وقبائل اليمن المسير معه ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم ، فكلموا أخاً له يقال له عمرو، وكان معه في جيشه ، فقالوا له اقتل أخاك حسان ، ونُملِّكْكَ علينا، وترجعْ بنا إلى بلادنا، فأجابهم ، فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رُعَيْن الحِمْيري فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه. فقال ذو رعَيْن :
ألا من
يشتري سهراً بنـــوم سعيدٌ من يبيتُ قريرَعينِ
فإما حِمْير غدرتْ ، وخانــت فمعذرةُ الِإله لذي رُعَيْن
ثم كتبهما فى رقعة، وختم عليها، ثم أتى بها عَمراً،
فقال له : ضع لي هذاالكتاب عندك ففعل ثم قَتل عمرو أخاه حسان ، ورجع بمن معه إلى اليمن. فقال رجل من حِمْير :
لاهِ عينا
الذي رأى مثلي حســـان قتيلاً فى سالف الأحقابِ
قتلته مقاول خشيةَ الحبـــس غداةَ
قالوا: لَبَاب لَبابِ
ميتُكم خيرُنا وحيُّكــــــم ربٌّ علينا، وكلُّكم أربابى
قال ابن إسحاق : وقوله : لَبَابِ لَبَابِ : لا بأس لا بأس بلغة حِمْير.
قال ابن هشام : ويروى : لِبابِ لِباب.
قال ابن
إسحاق : فلما نزل عمرو
ابن تُبان اليمن مُنع منه النوم ، وسُلط عليه السهر، فلما جهده ذلك سأل
الأطباء والحُزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم : إنه ما قتل رجل قط أخاه ، أو ذا رَحمه بغياً على مثل ما قَتلت أخاك عليه ، إلا ذهب نومه
، وسُلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف
اليمن ، حتى خلص إلى ذي رُعَيْن ، فقال له ذو رُعَيْن : إن لى عندك براءة، فقال وما هي ؟
قال : الكتاب الذي دفعتُ إليك ، فأخرجه فإذا البيتان ، فتركه ،
ورأى أنه قد نصحه وهلك عمرو، فمرج أمْر حمير عند ذلك وتفرقوا.