فوثب عليهم رجل من حِمْير لم يكن من بيوت المملكة، يقال.له: لَخْنيعة ينوف ذو شَنَاتر، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير للَخْنيعة:

تُقَتِّل أبنَاها وتنفى سَراتَها  وتبني بأيديها لها الذلّ حميرُ

تُدَمِّر دنياها بطيشِ حلومِها  وما ضَيَّعَتْ من دينها فَهْوَ أكثرُ

كذاك القرونُ قبلَ ذاك بظلمِها  وإسرافِها تأتي الشرورَ فتخسَرُ

فسوق لخنيعة: وكان لَخْنيعة امرءاً فاسقاً يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك، فيقع عليه في مَشْرَبة له قد صنعها لذلك. لئلا يُمَلَّك بعدَ ذلك، ثم يَطْلُع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، قد أخذ مِسواكا، فجعله في فيه، أي: فيعلمهم أنه قد فرغ منه، حتى بعث إلى زُرْعة ذي نُواس بن تُبان أسعد أخي حسان، وكان صبيا صغيرا حين قُتل حسان، ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله، عرف ما يريد منه، فأخذ سكينا جديداً لطيفاً، فخبأه بين قدمه ونعله، ثم أتاه، فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نُواس، فوجاه حتى قتله، ثم حزَّ رأسه، فوضعه في الكُوَّة التي كان يُشرف منها، ووضع مسواكه في فيه، ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذا نواس أرطْب أم يَباس فقال: " سَلْ نَحْماس اسْترطُبان ذو نواس اسْترطُبان لا باس ".

قال ابن هشام: هذا كلام حمير. ونحماس: الرأس. فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا في إثر ذي نواس حتى أدركوه،

فقالوا: ما ينبغي أن يملكنا غيرك، إذ أرحتنا من هذا الخبيث.

ملك ذي نواس: فملَّكوه، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير، وهو صاحب الأخدود، وتسمى: يوسف، فأقام في ملكه زماناً.

سبب وجود النصرانية بنجران

وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام على الإنجيل. أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له: عبد اللّه بن الثامر.

وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها، وذلك أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له: فَيْمِيون، وقع بين أظهرهم، فحملهم عليه، فدانوا به.

حديث فَيْمِيون

قال ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن مُنَبِّه اليماني أنه حدثهم: أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل ديِن عيسى ابن مريم يقال له فَيْمِيون، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا، مُجاب الدعوة، وكان سائحا ينزل بين القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يُعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه، وكان بنَّاء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا. وخرج إلى فلاة من الأرض يصلى بها حتى يمسي. قال: وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له: صالح، فأحبه صالح حُبّاً لم يحبه شيئاً كان قبله. فكان يتبعه حيث ذهب،ولا يفطن له فَيْميون، حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض - كما كان يصنع - وقد أتبعه صالح، وفَيْمِيون لا يدري ؛ فجلس صالح منه منظرَ العين مستخفيا منه، لا يحب أن يُعلم بمكانه، وقام فيميون يصلي فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين الحية ذات الرءوس السبعة فلما رآها فَيْمِيون دعا عليها فماتت، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه، فَعِيل عَوْلَه فصرخ: يا فَيْمِيون ! التنين قد أقبل نحوك، فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها، وأمسى، فانصرف، وعرف أنه قد عُرف، وعَرف صالح أنه قد رأى مكانه،

فقال له: يا فَيْمِيون ! تعلَّم واللّه ما أحببت شيئاً قطُّ حبَّك وقد أردت صحبتك، والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئتُ، أمري كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به الضرُّ دعا له فشفي، وإذا دُعى إلى أحد به ضر لم يأته، وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فَيْمِيون، فقيل له: إنه لا يأتى أحداً دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجْر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك، فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوباً ثم جاءه

فقال له: يا فيميون، إنى قد أردت أن أعمل في بيتي عملا، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته،

ثم قال له: ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال: كذا وكذا، ثم انتشط الرجلُ الثوبَ عن الصبى،

ثم قال له: يا فَيْمِيون، عبد من عباد اللّه أصابه ما ترى، فادعُ اللّه له ؟ فدعا له فَيْمِيون ؛ فقام الصبي ليس به بأس.

وعَرف فيميون أنه قد عُرِف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: يا فَيْمِيون ! قال نعم. قال: ما زلت أنظرك، وأقول: متى هو جاء ؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لا تبرحْ حتى تقوم عليَّ فإني ميت الآن. قال: فمات، وقام عليه حتى واراه، ثم انصرف، وتبعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدُوا عليهما، فاختطفتهما سَيَّارةٌ من بعض العرب، فخرجوا بهما، حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب، يعبدون نخلةً طويلة بين أظهرِهم لها عيد في كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحُلىَّ النساء، ثم خرجوا إليها، فعكفوا عليها يوماً.

فابتاع فَيْمِيونَ رجلٌ من أشرافهم، وابتاع صالحاً آخرُ، فكان فيمِيون إذا قام من الليل - يتهجد في بيت له أسكنه إياه سيده - يصلي، استسرج له البيتُ نوراً حتى يصبح من غير مصباح، فرأى ذلك سيده، فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده، لأهلكها وهو اللّه وحده لا شريك له، قال: فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما نحن عليه. قال فقام فَيْمِيون، فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا اللّه عليها، فأرسل اللّه عليها ريحاً فَجَعَفَتْها من أصلها فألقتها، فاتَّبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.

قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن مُنَبِّه عن أهل نجران.

عبد اللّه بن الثامر والاسم الأعظم

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، وحدثني أيضاً بعض أهل نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران - ونجران: القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فَيْمِيون - ولم يسموه لى باسمه الذي سماه به وهب بن منبه،

قالوا: رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران، وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر، يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامرُ ابنَه عبدَ اللّه بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى منه من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم، فوحَّد اللّه وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه، جعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعْلمُه - فكتمه إياه وقال له: يا ابن أخي ! إنك لن تحملَه، أخشى عليك ضعفَك عنه. والثامر أبو عبد اللّه لا يظن إلا أن ابنَه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمانُ، فلما رأى عبدُ اللّه أن صاحبَه قد ضَنَّ به عنه، وتخوَّف ضَعْفَه فيه، عمد إلى قِداح فجمعها، ثم لم يُبق للّه اسماً يعلمه إلا كتبه في قِدْح، لكلِّ اسم قِدْح، حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قِدْحاً قِدْحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدْحه، فوثب القِدْح حتى خرج منها لم تضره شيئاً، فأخذه ثم أتى صاحبه، فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال: وما هو ؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابنَ أخي ! قد أصبته فأمسكْ على نفسِك، وما أظنُّ أن تفعلَ.

عبد اللّه بن الثامر يدعو إلى التوحيد

فجعل عبد اللّه بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال: يا عبد اللّه، أتوحِّدُ اللّه، وتدخل في ديني، وأدعو اللّه، فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول: نعم، فيوحد اللّه ويُسْلم، ويدعو له فيُشْفَى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضُر إلا أتاه فاتَّبعه على أمره، ودعا له فعوفِيَ، حتى رفع شأنه إلى مَلك نجران، فدعاه

فقال له: أفسدت عليَّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائى، لأمثلنَّ بك. قال: لا تقدر على ذلك. قال: فجعل يُرسل به إلى الجبل الطويل، فيُطرَح على رأسه، فيقع إلى الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحورٍ لا يقع فيها شئ إلا هلك، فيُلْقَى فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال له عبد اللّه بن الثامر: إنك واللّه لن تقدر على قتلي حتى توحد اللّه فتؤمن بما آمنتُ به، فإنك إن فعلت ذلك، سُلِّطْتَ عليَّ فقتلتنى، قال: فوحَّد اللّه تعالى ذلك الملك، وشهد شهادة عبد اللّه بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده، فشجه شجة غير كبيرة، فقتله ثم هلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد اللّه بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحُكمه، ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران - واللّه أعلم بذلك.

قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القُرَظيّ، وبعض أهل نجران عن عبد اللّه بن الثامر - واللّه أعلم أي ذلك كان.

ذو نواس يدعو أهل نجران إلى اليهودية

فسار إليهم ذو نواس بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخدَّ لهم الأخدود، فحرق من حرق بالنار، وقتل من قتل بالسيف، ومثَّل بهم، حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نُواس وجنده تلك أنزل اللّه تعالى على رسوله سيدنا محمد - صلى اللّه عليه وسلم : {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ. وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّه الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . [البروج:٤-٨]