قال ابن إسحاق : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه : خَبَّاب ، وعمار، وأبو فَكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن مُحرّث ، وصُهَيب ، وأشباههم من المسلمين ، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه ، كما ترون ؟ أهؤلاء مَنَّ اللّه عليهم من بيننا بالهدى والحق ! لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه ، وما خصهم اللّه به دوننا،

فأنزل اللّه تعالى فيهم : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.[الأنعام: ٥٢ـ٥٤]

ادعاء المشركين أنه يعلمه بشر ورد القرآن عليهم

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بلغنى كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مَبْيَعة غلام نصراني ، يقال له : جبر، عبد لبنى الحضرمي ، فكانوا يقولون : واللّه ما يعلم محمداً كثيراً مما يأتى به إلا جبر النصرانى، غلام بنى الحَضْرمى،

فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.[النحل: ١٠٣]

قال ابن هشام : يُلحِدون إليه : يميلون إليه. والإلحاد: الميل عن الحق. قال رؤبة بن العَجَّاج :

إذا تَبع الضحاكَ كُلُّ مُلْحِدِ

قال ابن هشام : يعنى الضحاك الخارجي ، وهذا البيت في أرجوزة له.

سبب نزول سورة الكوثر

نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل

قال ابن إسحاق : وكان العاص بن وائل السَّهْمي - فيما بلغنى - إذا ذُكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عَقِب له لو مات لا نقطع ذكرُه واسترحتم منه ،

فأنزل اللّه في ذلك : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: ١] ما هو خير لك من الدنيا وما فيها والكوثر: العظيم.

معنى الكوثر

قال ابن إسحاق : قال لَبيد بن ربيعة الكِلأبي :

وصاحبُ مَلْحوبٍ فُجعنا بيومِه وعندَ الرداعِ بيتُ آخر كوثر

يقول : عظيم.

قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له. وصاحبُ ملحوبٍ : عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب ، مات بملحوب. وقوله : " وعند الرداع بيت آخر كوثر ": يعنى شُرَيح بن الأحْوص بن جعفر بن كلاب ، مات بالرّداع. وكوثر: أراد: الكثير. ولفظه مشتق من لفظ الكثير. قال الكُميت بن زيد يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان :

وأنت كثير يابنَ مروان طيب   وكان أبوك ابنَ العقائل كوْثرا

وهذا البيت في قصيدة له. وقال أمية بن أبي عائذ الهُذلي يصف حمار وحش :

يُحامي الحَقيقَ إذا ما احتدَمْن  وحَمْحَمْنَ في كوثر كالجِلال

يعنى بالكوثر: الغبار الكثير، شبهه لكثرته عليه بالجلال. وهذا البيت في قصيدة له.

قال ابن إسحاق : حدثني جعفر بن عمرو -

قال ابن هشام : هو جعفر بن عمرو بن أمية الضمْري - عن عبد اللّه بن مسلم أخى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن أنس بن مالك

قال : " سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل له يا رسول اللّه : ما الكوثر الذي أعطاك اللّه ؟

قال : نهر كما بين صنعاء إلى أيْلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل.

قال : يقول عمرُ بن الخطاب : إنها يا رسول اللّه لناعمة،

قال : آكلُها أنعم منها".

قال ابن إسحاق : وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى اللّه عليه وسلم: من شرب منه لا يظمأ أبدا.

نزول { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: ٨]

قال ابن إسحاق : ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومَه إلى الإِسلام ، وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال زَمَعَة بن الأسود، والنضْر بن الحارث ، والأسود ابن عبد يَغوث ، وأبيُّ بن خلف ، والعاص بن وائل : لو جُعل معك يا محمد مَلَك يحدث عنك الناس ويُرَى معك !

فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : { وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}.[الأنعام: ٨،٩] نزول { وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}

قال ابن إسحاق : ومر اللّه صلى اللّه عليه وسلم- فيما بلغنى - بالوليد ابن المغيرة، وأمية بن خلف وبأبي جهل بن هشام ، فهمزوه واستهزءوا به ، فغاظه ذلك.

فأنزل اللّه تعالى عليه في ذلك من أمرهم : {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام: ١٠].