قال ابن هشام : حدثنا زياد بن عبد اللّه البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي

قال : ثم أسْري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام ، بمكة في قريش، وفي القبائل كلها.

قال ابن إسحاق : كان من الحديث فيما بلغني عن مَسراه صلى اللّه عليه وسلم ، عن عبد اللّه بن مسعود، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ ومعاوية بن أبي سفيان ، والحسن بن أبي الحسن البصري ، وابن شهاب الزهري ، وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب ، ما اجتمع في هذا الحديث ، كل يحدِّث عنه بعض ما ذكر من أمرِه حين أسرى به صلى اللّه عليه وسلم، وكان في مسراه ، وما ذكر عنه بلاء وتمحيص ، وأمْر من أمر اللّه عز وجل في قدرته وسلطانه ، فيه عِبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق ، وكان من أمر اللّه سبحانه وتعالى على يقين ، فأسري به سبحانه وتعالى كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرتِه التي يَصنعُ بها ما يريد.

رواية ابن مسعود عن الإسراء

فكان عبد اللّه بن مسعود - فيما بلغنى عنه - يقول:

أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالبراق - وهى الدابة التي كانت تُحمل عليها الأنبياء قبلَه ، تضع حافرَها في منتهى طرفِها - فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبُه ، يرى الآياتِ فيما بين السماءِ والأرض ، حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيمَ الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جُمعوا له ، فصلى بهم. ثم أتى بثلاثة آنية، إناء فيه لبن ، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فسمعت قائلا يقول حين عُرضتْ علي : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمتُه ، وإن أخذ الخمر غَوي وغَوتْ أمتُه ، وإن أخذ اللبن هُدِىَ وهُديت أمتُه.

قال : فأخذتُ إناء اللبن ، فشربت منه ، فقال لي جبريل عليه السلام : هُديتَ وهُدِيت أمتُك يا محمد.

رواية الحسن

قال ابن إسحاق : وحُدثت عن الحسن أنه

قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: بينا أنا نائم في الحِجْر، إذ جاءنى جبريل ، فهمزني بقدمه ، فجلست فلم أرَ شيئاً فعدت إلى مضجعى، فجاءني الثانيةَ فهمزني بقدمه ، فجلست ، فلم أر شيئاً، فعدت إلى مضجعى فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه ، فجلست ، فأخذ بعضدي ، فقمت معه ، فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض ، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجله ، يضع يده في منتهى طرفه ، فحملني عليه ، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.

رواية قتادة

قال ابن إسحاق : وحُدثتُ عن قتادة أنه

قال : حُدثت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لما دنوت منه لأركبه شمس ، فوضع جبريل يده على مَعْرفته ،

ثم قال : ألا تستحى يا براق مما تصنع ، فواللّه ما ركبك عبد للّه قبل محمد أكرم عليه منه.

قال : فاستحيا حتى ارفضَّ عرقا، ثم قرَّ حتى ركبته.

عودة إلى رواية الحسن

قال الحسن في حديثه : فمضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومضى جبريل عليه السلام معه ، حتى انتهى به إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمَّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى بهم ، ثم أتي بإناءين ، في أحدهما خمر، وفى الآخر لبن.

قال : فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إناء اللبن ، فشرب منه ، وترك إناء الخمر.

قال : فقال له جبريل : هُديت للفطرة، وهُديَتْ أمتك يا محمد، وحُرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس : هذا واللّه الإِمْر البين ، واللّه إن العير لتطرد، شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة؟!

قال : فارتد كثير ممن كان أسلم ، وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له : هل لك يا أبا بكر في صاحبك ، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة.

قال : فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه ؛

فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس ؛ فقال أبو بكر: واللّه لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ! فواللّه إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه ، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال : يا نبي اللّه. أحدَّثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟

قال : نعم ؛

قال : يا نبى اللّه ، فصفه لي ، فإني قد جئته - قال الحسن : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فرفع لي حتى نظرت إليه - فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت ، أشهد أنك رسول اللّه ، كلما وصف له منه شيئاً، قال صدقت ، أشهد أنك رسول اللّه ، حتى إذا انتهى، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصِّدِّيقُ ؛ فيومئذ سماه الصديق.

قال الحسن : وأنزل اللّه تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}.[الإسراء: ٦٠]

فهذا حديث الحسن عن مَسرَى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وما دخل فيه من حديث قتادة.

رواية عائشة

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم

الإسراء رؤيا

فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن : إن هذه الآية نزلت في ذلك ،

قول اللّه تبارك وتعالى { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: ٦٠]، ولقول اللّه تعالى في الخبر عن إبراهيم عليه السلام إذ قال لابنه : { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: ١٠٢] ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي من اللّه يأتى الأنبياء أيقاظا ونياما.

قال ابن إسحاق : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - يقول : تنام عيناي وقلبي يقظان. واللّه أعلم أي ذلك كان قد جاءه ، وعاين فيه ما عاين ، من أمر اللّه ، على أي حاليه كان نائما، أو يقظان ، كل ذلك حق وصدق.

وصفه صلى اللّه عليه وسلم إبراهيم وموسى وعيسى

قال ابن إسحاق : وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصف لأصحابه إبراهيمَ وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة،

فقال : أما إبراهيمُ ، فلم أر رجلا أشبه قط بصاحبكم ، ولا صاحبكم أشبه به منه ؛

وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة ؛

وأما عيسى ابن مريم ، فرجل أحمر، بين القصير والطويل ، سبط الشعر، كثير خيلان الوجه ، كأنه خرج من ديماس : تخال رأسه يقطر ماء، وليس به ما أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفى.

علي يصف الرسول صلى اللّه عليه وسلم :

قال ابن هشام : وكانت صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما ذكر عمر مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد بن على بن أبي طالب

قال : كان علي بن أبي طالب عليه السلام : إذا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لم يكن بالطويل الممغَّط ، ولا القصير المتردِّد، وكان رَبْعة من القوم ، ولم يكن بالجعْد القطط ولا السبط : كان جعداً رجلا، ولم يكن بالمطهَّم ولا المكلثم. وكان أبيض مشربا ، أدعج العينين ، أهدب الأشفار ، جليل المشاش والكتد ، دقيق المسربة ، أجرد ، شثن الكفين والقدمين : إذا مشى. تقلع ، كأنما يمشى في صبب ، وإذا التفت التفت معاً. بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين. أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله ، صلى اللّه عليه وسلم.

رواية أم هانئ عن الإسراء

قال محمد بن إسحاق : وكان فيما بلغنى عن أم هانئ بنت أبي طالب رضى اللّه عنها، واسمُها هند، في مسرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنها كانت تقول ما أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا وهو في بيتي : نائم عندي تلك الليلة في بيتي ، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبَّنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فلما صلى الصبح وصلينا معه ،

قال : يا أم هانئ ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين ، ثم قام ليخرج ، فأخذت بطرف ردائه ، فتكشف عن بطنه كأنه قبطية مطوية، فقلت له : يا نبى اللّه : لا تحدث بهذا للناس فيكذبوك ويؤذوك ؛

قال : واللّه لأحدثنهموه.

قالت : فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تسمعى ما يقول للناس ، وما يقولون له. فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الناس أخبرهم ، فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط ؛ قال آية ذلك إني مررت بعير بنى فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فندَّ لهم بعير، فدللتهم عليه ، وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بنى فلان : فوجدت القوم نياماً، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشىء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه. ثم غطيت عليه كما كان ؛ وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوِّب من البيضاء، ثنية التنعيم ، يقدمها جمل أورق ، عليه غرارتان : إحداهما سوداء، والأخرى برقاء.

قالت : فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم ، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءاً ماءً ثم غطوه ، وأنهم هبوا فوجدوه مغصَّ كما غطوه ، ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين وهم بمكة،

فقالوا: صدق واللّه ، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وندّ لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه ، حتى أخذناه.

قصة المعراج

الرسول صلى اللّه عليه وسلم يصعد إلى السماء الأولى

و قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أنه

قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : لما فرغت مما كان في بيت المقدس ، أتي بالمعراج ، ولم أر شيئا قط أحسن منه : وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حُضر؟ فأصعدنى صاحبى فيه ؛ حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له : باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة، يقال له : إسماعيل ، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك ، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك

قال : يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين حَدَّث بهذا الحديث : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: ٣١] فلما دُخل بي

قال : من هذا يا جبريل ؟

قال : محمد.

قال : أوَقد بُعث ؟

قال : نعم.

قال : فدعا لي بخير: وقاله.

صفة مالك خازن النار

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أنه

قال : تلقتنى الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا، يقول خيرا ويدعو به حتى لقينى ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به ، إلا أنه لم يضحك ، ولم أر منه البشر مثل ما رأيت من غيره ، فقلت لجبريل : يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك ، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت من غيره ؟

قال : فقال لي جبريل : أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك ، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك ، لضحك إليك ، ولكنه لا يضحك ، هذا مالك صاحب النار.

من صفات جهنم أعاذنا اللّه منهما: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فقلت لجبريل ، وهو من اللّه تعالى بالمكان الذي وُصف لكم { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} :[التكوير: ٣١] ألا تأمره أن يرينى النار؟

فقال : بلى، يا مالك ، أرِ محمداً النار.

قال : فكشف عنها غطاءها،

فقال : ففارت وارتفعت ، حتى ظننت لتأخذن ما أرى.

قال : فقلت لجبريل يا جبريل ، مره فليردها إلى مكانها.

قال : فأمره ، فقال لها: اخْبِى، فرجعتْ إلى مكانها الذي خرجت منه. فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل. حتى إذا دَخلت من حيث خرجت رَد عليها غطاءَها.

عرض الأرواح على آدم عليه السلام : قال أبو سعيد الخدري في حديثه : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال : لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم ، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيراً ويُسَر به ، ويقول : روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه : أفّ ، ويعبس بوجهه ويقول : روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

قال : قلت من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أبوك آدم ، تُعرض عليه أرواح ذريته ، فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها

وقال : روح طيبة خرجت من جسد طيب. وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها، وساءه ذلك ،

وقال : روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.

أكلة أموال اليتامى ظلما:

قال : ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإِبل ، في أيديهم قطع من نار كالأفهار، يقذفونها في أفواههم ، فتخرج من أدبارهم.

فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما.

أكلة الربا:

قال : ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون ، يمرون عليهم كالإِبل المهيومة حين يُعرضون على النار، يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك.

قال : قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء أكلة الربا.

الزناة من بني آدم :

قال : ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب ، إلى جنبه لحم غث منتن ، يأكلون من الغث المنتن ، ويتركون السمين الطيب.

قال : قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء الذين يتركون ما أحل اللّه لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم اللّه عليهم منهن.

من نسبت ابنا لزوجها من غيره :

قال : ثم رأيت نساء معلقات بثديهن ،

فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟

قال : هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.

قال ابن إسحاق : وحدثني جعفر بن عمرو، عن القاسم بن محمد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : " اشتد غضب اللّه على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم ، فأكل حرائبهم ، وطلع على عوراتهم "

صعوده صلى اللّه عليه وسلم إلى السموات الأخر وما رأى منها : ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري ،

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة : عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا،

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر؛

قال : قلت : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أخوك يوسف ابن يعقوب.

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته :

من هو؟

قال : هذا إدريس

قال : يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " ورفعناه مكانا عليا "

قال : ثم أصعدنى إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العثنون ، لم أر كهلا أجمل منه ، قالت قلت : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا المحبَّب في قومه هارون ابن عمران.

قال : ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى، كأنه من رجال شنوءة ؛ فقلت له : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أخوك موسى بن عمران. ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة. لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ، ولا صاحبكم أشبه به منه ؛

قال : قلت : من هذا يا جبريل ؟

قال : هذا أبوك إبراهيم.

قال : ثم دخل بي الجنة، فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها: لمن أنت ؟ وقد أعجبتني حين رأيتها؛ فقالت : لزيد بن حارثة، فبشَّر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيد بن حارثة.

فرض الصلاة عليه صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : ومن حديث ابن مسعود رضى اللّه عنه ، عن النبى صلى اللّه عليه وسلم ، فيما بلغنى: أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها: من هذا يا جبريل ؟ فيقول : محمد؛ فيقولون : أوَقَدْ بعث إليه ؟ فيقول : نعم ؛ فيقولون : حيَّاه اللّه من أخ وصاحب ، حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه ، ففرض عليه خمسين صلاة في كل يوم.

موسى بن عمران عليه السلام يطلب منه عليه الصلاة والسلام سؤال ربه التخفيف عن أمته في أمر الصلاة

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فأقبلت راجعا، فلما مررت بموسى بن عمران ، ونعم الصاحب كان لكم ، سألنى: كم فُرض عليك من الصلاة؟

فقلت : خمسين صلاة كل يوم ؛

فقال : إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك ، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتى، فوضع عنى عشرا. ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك ؛ فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتى، فوضع عنى عشراً. ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك ؟ فرجعت فسألت ربى فوضع عني عشراً. ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك ، كلما رجعت إليه ،

قال : فارجع ، فاسأل ربك حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عنى، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك ،

فقلت : قد راجعت ربي وسألته ، حتى استحييت منه ، فما أنا بفاعل.

فمن أداهن منكم إيمانا بهن ، واحتسابا لهن ، كان له أجر خمسين صلاة.

المستهزئون بالرسول وكفاية اللّه أمرهم

قال ابن إسحاق : فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه تعالى صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى وكان عظماء المستهزئين ، كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، خمسة نفر من قومهم ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم.

أسماء المستهزئين : من بنى أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَى بن كلاب : الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغنى - قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ،

فقال : اللّهم أعم بصره ، وأثكله ولده.

ومن بنى زهرة بن كلاب : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة.

ومن بنى مخزوم بن يقظة بن مرة: الوليد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم.

ومن بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب : العاص بن وائل ابن هشام.

قال ابن هشام : العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم.

ومن بنى خزاعة : الحارث ابن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث ابن عبد عمرو بن ملكان.

فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الاستهزاء، أنزل اللّه تعالى عليه : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّه إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.[الحجر: ٩٤ـ٩٦]

ما فعل اللّه بالمستهزئين

قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم يطوفون بالبيت ، فقام وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود بن المطلب ، فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمى. ومر به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه ، فاستسقى بطنه فمات منه حَبْنا. ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله ، كان أصابه قبل ذلك بسنين ، وهو يجر سبله ، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يريش نَبلا له ، فتعلق سهم من نبله بإزاره ، فخدش في رجله ذلك الخدش ، وليس بشىء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص رجله وخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض به على شبارقة، فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث ابن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا،فقتله.

قصة أبي أزيهر الدوسي

وصية الوليد أولاده :

قال ابن إسحاق : فلما حضرت الوليد الوفاة دعا بنيه وكانوا ثلاثة : هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد ابن الوليد،

فقال لهم : أي بنى، أوصيكم بثلاث ، فلا تضيعوا فيهن : دمي في خزاعة فلا تطلنَّه ، واللّه إني لأعلم أنهم منه براء، ولكنى أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم ، ورباي في ثقيف ، فلا تدعوه حتى تأخذوه ، وعقري عند أبي أزيهر، فلا يفوتنكم به. وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتا، ثم أمسكها عنه ، فلم يدخلها عليه حتى مات.

عقل الوليد عند خزاعة : فلما هلك الوليد بن المغيرة وثب بنو مخزوم على خزاعة يطلبون منهم عقل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم - وكان لبنى كعب حلف من بني عبد المطلب ابن هاشم - فأبت عليهم خزاعة ذلك ، حتى تقاولوا أشعاراً، وغلظ بينهم الأمر - وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلا من بني كعب ابن عمرو من خزاعة - فقال عبد اللّه بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم :

ما قيل من الأشعار في مقتل الوليد:

إني زعيم أن تسيروا فتهربوا  وأن تتركوا الظهرَان تعوي ثعالبُهْ
 وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرقا   وأن تسألوا
أي الأراك أطايبه ؟

فإنا أناس لا تُطَلُّ دماؤنا  ولا يتعالى صاعداً من نحاربه

وكانت الظهران والأراك منازل بنى كعب ، من خزاعة. فأجابه الجون ابن أبي الجون ، أخو بني كعب بن عمرو الخزاعي ،

فقال :

واللّه لا نُؤتَى الوليد ظُلامةً  ولما تروا يوما تزول كواكبه
ويُصرع منكم مُسمن بعد مسمن   وتُفتح بعد الموت قسراً مشاربه
إذا ما أكلتم خبزكم وخزيركم    فكلكم باكى الوليد ونادبه

ثم إن الناس ترادوا وعرفوا إنما يخشى القوم السَّبة فأعطتهم خزاعة بعض العقل وانصرفوا عن بعض. فلما اصطلح القوم قال الجون بن أبي الجون :

وقائلةٍ لما اصطلحنا تعجبـــــا   لما قد حملنا للوليد وقائل
ألم تُقسموا تؤتوا الوليد ظلامـــة   ولما تروا يوما كثير البلابل
فنحن خلطنا الحرب بالسلم فاستوت   فأمَّ هواه آمنا كل راحل

ثم لم ينته الجون بن أبي الجون حتى افتخر بقتل الوليد، وذكر أنهم أصابوه ، وكان ذلك باطلا. فلحق بالوليد وبولده وقومه من ذلك

ما حذر، فقال الجون بن أبي الجون :

ألا زعم المغيرة أن كعبا  بمكة منهم قدر كبير
فلا تفخر مغير أن تراها  بها يمشي المعلهج والمهير
بها آباؤنا وبها وُلدنــا  كما أرسي بمثبته ثبير
وما قال المغيـرةُ ذاك إلا    ليعلمَ شأنَنا
أو يستثير
فإن دمَ الوليد يُطَلُّ إنــا  نطل دماء أنت بها خبير
كساه الفاتك الميمون سهما    زعافا وهْو ممتلئ بهير
فخر ببطن مكة مُسلحبـا  كأنه عند وجبته بعير
سيكفينى مطال أبي هشام  صغار جعدة الأوتار خور

قال ابن هشام : تركنا منها بيتا واحدا أقذع فيه.

قتل أبي أزيهر:

قال ابن إسحاق : ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر، وهو بسوق ذي المجاز وكانت عند أبي سفيان بن حرب عاتكة؛ بنت أبي أزيهر، وكان أبو أزيهر رجلا شريفا في قومه فقتله بعقر الوليد الذي كان عنده ، لوصية أبيه إياه ، وذلك بعد أن هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر، وأصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين ، فخرج يزيد بن أبي سفيان ، فجمع بنى عبد مناف ، وأبو سفيان بذي المجاز، فقال الناس : أخفر أبو سفيان في صهره ، فهو ثائر به. فلما سمع أبو سفيان بالذي صنع ابنه يزيد وكان أبو سفيان رجلا حليما منكراً يحب قومه حبا شديداً - انحط سريعاً إلى مكة، وخشى أن يكون بين قريش حدث في أبي أزيهر، فأتى ابنه وهو في الحديد، في قومه من بني عبد مناف والمطيبين ، فأخذ الرمح من يده ، ثم ضرب به على رأسه ضربة هدَّه منها،

ثم قال له : قبحك اللّه ! أتريد أن تضرب قريشاً بعضَهم ببعض في رجل من دَوْس. سنؤتيهم العَقْل إن قبلوه ، وأطفئ لك الأمرَ. فانبعث حسانُ بن ثابت يحرض في دم أبي أزَيْهر، ويعير أبا سفيان خُفْرَته ويُجْبِنه ،

فقال :

غدا أهلُ ضَوْجَىْ ذى المجاز كليهما  وجار ابنِ حربٍ بالمغمَّس ما يغدُو
ولم يمنع العيرُ الضَّروطُ ذمارَه  وما منعت مخزاةَ والدِها هندُ
كساك هشام بنُ الوليد ثيابَه  فأبْلِ وأخْلِفْ مثلَها جدداً بَعْدُ
قضى وطراً منه فأصبح ماجداً   وأصبحتَ رخواً ما تُخبُّ وما تعدُو
فلو أن أشياخاً ببدرٍ تشاهدوا  لَبَلَّ نعالَ القومِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ

فلما بلغ أبا سفيان قول حسان

قال : يريد حسان أن يضرب بعضنا ببعض في رجل من دوس ، بئس واللّه ما ظن.

ولما أسلم أهلُ الطائف كلَّم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالدُ بنُ الوليد في ربا الوليد، الذي كان في ثقيف ، لما كان أبوه أوصاه به.

خالد يطالب بتنفيذ وصية أبيه وما نزل في ذلك من القرآن

قال ابن إسحاق : فذكر لي بعضُ أهلِ العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد الربا: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٢٧٨] إلى آخر القصة فيها.

دوس تحاول الثأر لأبي أزيهر: ولم يكن في أبي أزيهر ثأر نعلمه ، حتى حجز الإسلام بين الناس إلا أن ضرار بن الخطاب بن مِرْداس الفِهْري خرج في نفر من قريش إلى أرض دَوْس، فنزلوا على امرأة يقال لها أمُّ غَيْلان ،- مولاة لدوس ، وكانت تمشِّط النساء، وتجهِّز العرائس ، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر، فقامت دونهم أمُّ غيلان ونسوة معها، حتى منعتهم ، فقال ضرار بن الخطاب في ذلك :

جزى اللّه عنا أمَّ غَيْلان صالحاً ونسوَتها إذ هن شُعْثٌ عواطلُ فهن
دفعن الموتَ بعدَ اقترابِه وقد برزتْ للثائرين المقاتلُ
دعت دعوةً دوساً فسالت شعابُها بعز وأدَّتها الشَّراجُ القوابلُ
وعَمراً جزاه اللّه خيراً فما وَنَى وما بردتْ منه لديَّ المفاصلُ فجردت
سيفى ثم قمتُ بنصلِـــــه وعن
أيِّ نفسٍ بعدَ نفسى أقاتل

قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة: أن التي قامت دون ضرار أمّ جميل ، ويقال أم غيلان؛

قال : ويجوز أن تكون أم غيلان قامت مع أم جميل فيمن قام دونه.

فلما قام عمر بن الخطاب أتته أم جميل ، وهي ترى أنه أخوه. فلما انتسبت له عرف القصة

فقال : إني لست بأخيه إلا في الإسلام ، وهو غازٍ ، وقد عرفت منَتّكَ عليه ، فأعطاها على أنها ابنة سبيل.

قال الراوي :

قال ابن هشام : وكان ضِرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعَرض الرمح ويقول : انج يا ابن الخطاب لا أقتلك؛ فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه.