وما عاناه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدهما

من كان يؤذي الرسول صلى اللّه عليه وسلم :

قال ابن إسحاق : وكان النفر الذين يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيته : أبا لهب ، والحَكم بن العاص ابن أمية، وعُقْبة بن أبي مُعَيْط ، وعَدِي بن حمراء الثقفى، وابن الأصْداء الهذلى؛ وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص ، فكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه صلى اللّه عليه وسلم رحِم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمته إذا نُصبت له ، حتى اتخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حِجْراً يستتر به منهم إذا صلى اللّه عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى كما حدثني عُمر بن عبد اللّه بن عروة بن الزبير، عن عروةبن الزبير يخرج به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على العود، فيقف به على بابه ، ثم يقول : يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا! ثم يلقيه في الطريق.

قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المصائب بهُلْك خديجة، وكانت له وزير صِدْق على الإسلام ، يشكو إليها؛ وبُهلْك عمه أبي طالب ، وكان له عَضَداً وحِرْزاً في أمره ، ومَنَعة وناصراً على قومه ، وذلك قبل مُهاجره إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب ، نالت قريش من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً.

قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير،

قال :

لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك التراب ، دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لها: لا تبكى يا بنية، فإن اللّه مانع أباك.

قال : ويقول بين ذلك : ما نالت منى قريش شيئاً أكرهه ، حتى مات أبو طالب.

المشركون يطلبون عهداً بينهم وبين الرسول قبل موت أبي طالب

قال ابن إسحاق : ولما اشتكى أبو طالب ، وبلغ قريشاً ثِقَلُه ، قالت قريش بعضُها لبعض : إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلِّها، فانطلِقوا بنا إلى أبي طالب ، فيأخذ لنا على ابن أخيه ، وليعطِه مِنَّا، واللّه ما نأمَن أن يبتزُّونا أمرَنا.

قال ابن إسحاق : فحدثني العباس بني عبد اللّه بن مَعْبد بن عباس عن بعض أهله ، عن ابن عباس ،

قال : مشوا إلى أبي طالب فكلموه؛ وهم أشرافُ قومه : عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب ، في رجال من أشرافهم

فقالوا: يا أبا طالب ، إنك منا حيث قد علمتَ ، وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفْنا عليك ، وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك ، فادْعه فخذ له منا، وخذ لنا منه ، ليكفَّ عنا، ونكفَّ عنه ، وليدعَنا ودينَنَا، وندَعه ودينَه؛ فبعث إليه أبو طالب ، فجاءه ،

فقال : يا ابن أخي ، هؤلاء أشرافُ قومك ، قد اجتمعوا لك ، ليعطوك ، وليأخذوا منك.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم ، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب ، وتدين لكم بها العجم.

قال : فقال أبو جهل : نعم وأبيكَ ، وعشر كلمات؛

قال : تقولون : لا إله إلا اللّه ، وتخلعون ما تعبدون من دونه

قال : فصفقوا بأيديهم ،

ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهةَ إلهاً واحداً، إن أمرَك لعَجب ! قال بعضهم لبعض : إنه واللّه ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون ، فانطلِقُوا وامضُوا على دين آبائكم ، حتى يحكم اللّه بينكم وبينه.

قال : ثم تفرقوا.

رجاء الرسول إسلام أبي طالب

فقال أبو طالب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : واللّه يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططاً،

قال : فلما قالها أبو طالب طمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له : أي عمّ ، فأنت فقُلْها أستحلّ لك بها الشفاعة يومَ القيامة

قال : فلما رأى حِرص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليه ،

قال : يا ابن أخى، واللّه لولا مخافة السُّبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جَزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرّك بها.

قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت

قال : نظر العباس إليه يحرك شفتيه ،

قال : فأصغى إليه بأذنِه ،

قال : فقال يا ابن أخى ، واللّه لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لم أسمعْ.

ما نزل فيمن طلبوا العهد على الرسول عند أبي طالب

قال : وأنزل اللّه تعالى في الرهط الذين كانوا قد اجتمعوا إليه ، وقال لهم ما قال ، وردوا عليه ما ردوا : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}.[ص: ١،٢] إلى قوله تعالى : {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } [ص: ٥ـ٧] يعنون النصارى، لقولهم : { إِنَّ اللّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: ٧٣] {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} ثم هلك أبو طالب.