قال ابن إسحاق: وأفلت منهم رجل من سبأ. يقال له دَوْس ذو ثَعْلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم،

فقال له: بعدت بلادك منا، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك، وكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.

النجاشي ينصر دوسا

فقدم دوسٌ على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمَّر عليهم رجلا منهم يقال له: أرياط - ومعه في جنده أبرهة الأشرم - فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن، ومعه دَوْس ذو ثَعْلبان.

نهاية ذي نواس

وسار إليه ذو نُواس في حِمْير، ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه، وجه فرسه في البحر، ثم ضربه، فدخل به فخاض به ضَحْضَاح البحر، حتى أفضى به إلى غَمْرِه، فأدخله فيه، وكان آخر العهد به. ودخل أرياط اليمن، فملكها.

فقال رجل من أهل اليمن - وهو يذكر ما ساق إليهم دوس من أمر الحبشة:.

" لا كَدَوْس ولا كأعلاقَ رَحْله "

قول ذي جدن الحميري في هذه القصة

وقال ذو جدن الحميري:

هونكِ ليس يردُّ الدمعَ ما فاتا  لا تهلكي أسفاً في إثْر من ماتَا
أبعدَ بَيْنون لا عين ولا أثــرٌ وبعدَ سَلْحِين يبني الناسُ أبياتَا؟!

بينون وسلحين وغمدان: من حصون اليمن التي هدمها أرياط، ولم يكن في الناس مثلُها. وقال ذو جدن أيضاً:

دعينى-لا أبا لكِ -لن تطيقـــي  لحاكِ اللّه ! قد أنزفْتِ ريقي
لَدَى عَزفِ القيانِ إذ انتشينـــا  وإذْ نُسقى من الخمرِ الرحيق
وشُرْبُ الخمر ليس علىَّ عاراً   إذا  لم يَشْكُني فيها رفيقي
فإن الموتَ لا ينهاه نــــــــاهٍ   ولو شَرِبَ الشفاءَ مع النَّشوقِ
ولا مترهِّب في أسْطـــــــوان   يناطحُ جُدره بَيض الأنوق
وغُمْدان الذي حُدِّثت عنـــــه   بنوه مُسَمَّكا في رأسِ نِيق
بمَنْهَمَةٍ، وأسفلهُ جُــــــــرون   وحُر الموْحَلِ اللثق الزليق
مصابيح السَّليطِ تلوح فيه  إذا يُمْسي كَتَوْماضِ البُروقِ
ونخلتُه التي غُرِستَ إليه  يكاد البُسْرُ يَهْصِر بالعذوق
فأصبح بعد جِدَّته رماداً  وغيَّر حسنَه لهبُ الحريق
واًسلَمَ ذو نُواس مُسْتَكينا  وحذَّر قومَه ضَنْك المضيق

قول ربيعة ابن الذئبة الثقفي في هذه القصة

وقال عبد اللّه ابن الذئبة[١] الثقفي في ذلك

قال ابن هشام: الذئبة أمه، واسمه: ربيعة ابن عَبْد ياليل بن سالم بن مالك بن حُطَيْط بن جُشَم بن قَسِىّ.

لَعَمْرك ما للفتى من مقــر  مع الموت يلحقه والكِبَر
لعَمرك ما للفتى صُحْـــرة  لعمرك ما إنْ له من وزَر
أبعْدَ قبائلَ مِنْ حِمْيـــــَر  أبيدوا صباحاً بذات العَبَر
بألفِ ألوفٍ وحُرَّابـة  كمثلِ السماء قُبَيْلِ المطر
يُصِمُّ صياحُهم المقْربَات  وينفون من قاتلوا بالدّفرْ
سَعَالِىَ مثلُ عديد الترا  ب تَيْبس منهم رطابُ الشجرْ

قول عمرو بن معدى كرب الزبيدى في هذه القصة

وقال عمرو بن مَعْدي كرب الزُّبيْدي في شيء كان بينه وبين قيس بن مكشوح المرَاديّ، فبلغه أنه يتوعده، فقال يذكر حِمْير وعزها، وما زال من ملكها عنها:

أتوعِدني كأنك ذو رعيــــــن   - بأفضل عِيشةٍ - أو ذو نُوَاس
وكائن كان قبلَك من نعيـــــمٍ  ومُلكٍ ثابتٍ في الناس راسي
قديمٍ عهده من عهد عــاد      عظيم قاهر الجبروت قاسى
فأمسى أهلُه بادوا، وأمسى      يُحوَّل من أناسٍ في أناسِ

نسب زيد ومراد

قال ابن هشام: زُبَيْد بن سلمة بن مازن بن مُنَبِّه بن صعب بن سعد العشيرة بن مَذْحِج. ويقال: زُبيد بن منبِّه بن صعب بن سعد العشيرة، ويقال: زُبيد بن صعب بن سعد. ومراد: يُحابِر بن مُذْحج.

لماذا قال عمرو بن معدي كرب هذا الشعر

قال ابن هشام: وحدثنى أبو عبيدة قال: كتب عُمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - إلى سلْمان بن ربيعة الباهلى، وباهلة بن يعصر بن سعد بن قيس ابن عيلان. وهو بأرْمينية يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العِراب على أصحاب الخيل المقارف في العطاء فعرض الخيل، فمر به فرس عمرو بن معدى كرب، فقال له سلمان: فرسك هذا مُقْرف، فغضب عمرو، وقال: هجين عرف هجيناً مثله، فوثب إليه قيس فتوعده، فقال عمرو هذه الأبيات.

تصديق قول شق وسطيح

قال ابن هشام: فهذا الذي عنى سطيح الكاهن بقوله: " ليهبطن أرْضَكُم الحبش، فليملُكُنَّ ما بين أبْيَن إلى جُرَش " والذي عنى شق الكاهن بقوله: " لينزلن أرضكم السودان، فليغلُبن على كل طَفلة البنان وليملُكن ما بين أبْيَن إلى نجران ".

النزاع على اليمن بين أبرهة وأرياط

قال ابن إسحاق: فأقام أرْيَاط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدُهما إلى الاخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهةُ إلى أرياطَ: إنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئاً، فابرز إليَّ، وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبَه انصرف إليه جندُه، فأرسل إليه أرياط: أنصفتَ ؛ فخرج إليه أبرهة - وكان رجلا قصيراً لحيما، وكان ذا دين النصرانية - وخرج إليه أرياط وكان رجلا جميلا عظيما طويلا، وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام له، يقال له: عَتْودَة، يمنع ظهره، فرفع أرياطُ الحربة، فضرب أبرهة يريد يأفوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سُمى: أبرهة الأشرم، وحمل عَتْوَدة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جندُ أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وَوَدَى أبرهةُ أرياطَ.

غضب النجاشي على أبرهة

فلما بلغ النجاشي غضب غضباً شديداً وقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف: لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته. فحلق أبرهة رأسَه وملأ جراباً من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه:

" أيها الملك، إنما كان أرْياطُ عبدَك، وأنا عبدُك، فاختلفنا في أمرِك، وكل طاعتُه لك، إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها، وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغنى قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرض، ليضعه تحت قدميه، فيبرّ قسمَه فيَّ ".

فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه: أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن.

" القليس " أو كنيسة أبرهة

ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْسَ بصنعاء، فبنى كنيسة لم يُر مثلُها في زمانها بشىء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: أنى قد بنيت لك أيها الملك كنيسةً لم يُبْنَ مثلُها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرفَ إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النَّسأة، أحد بني فُقَيْم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن الياس بن مضر.

النسأة: والنسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية، فيحلُّون الشهر من الأشهر الحرم، ويحرمون مكانَه الشهرَ من أشهرِ الحل، ليواطئوا عدةَ ما حرَّم اللّه. ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه} [التوبة:٣٧]

قال ابن هشام: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، تقول العرب: واطأتُك على هذا الأمر، أي وافقتك عليه، والإيطاء في الشعر: الموافقة، وهو اتفاق القافيتين من لفظ واحد وجنس واحد، نحو قول العَجّاج - واسم العَجاج: عبد اللّه بن رُؤبة أحد بني سعد بن زيد مَناة بن تميم ابن مُر بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار -:

في أثْعبان المَنْجَنون المرسَل

ثم قال:

مدّ الخليجِ في الخليجِ المرْسَل

وهذان البيتان في أرجوزة له.

أول من ابتدع النسيء

قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت منها ما أحلّ، وحرمت منها ما حرم القَلمس، وهو حُذَيفة بن عبد بن فُقَيْم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ابن حذيفة، ثم قام بعد عباد: قَلَع بن عبَّاد، ثم قام بعد قَلَع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عَوف بن أمية، ثم قام بعد عَوْف: أبو ثُمامة، جُنَادة بن. عَوْف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم. الأشهر الحرم الأربعة: رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. فإذا أراد أن يحل شيئاً أحلَّ المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفر فحرَّموه ؛ ليواطئوا عدَّةَ الأربعة الأشهر الحُرُم. فإذا أرادوا الصَّدَر قام فيهم فقال: " اللّهم إني قد أجللت لك أحد الصَّفرَيْن، الصفر الأول، ونسأت الآخرَ للعام المقبل " فقال في ذلك عُمَيْر بن قَيْس، جِذْل الطَّعان، أحدُ بنى فراس بن غَنْم بن ثعلبة بن بالك بن كنانة، يفخر بالنَّسأة على العرب:

لقد علمتْ مَعَد أن قومـــي  كرامُ الناسِ أنّ لهم كِرَامَا
فأيّ الناسِ فاتونا بوِتــــْر  وأيّ الناسِ لم نُعْلِكْ لجاما
ألسْنا النَّاسئين على مَعـــد  شهورَ الحِلِّ نجعلها حَراما؟

قال ابن هشام: أول الأشهر الحرم: المحرَّم.

الكناني يحدث في القليس

قال ابن إسحاق: فخرج الكنانيُّ حتى أتى القلَّيْس فقعد فيها -

قال ابن هشام: يعني أحدث فيها -

قال ابن إسحاق: ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة فقال:. من صنع هذا ؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العربُ إليه بمكة لما سمع قولك: "أصرف إليها حج العرب " غضب فجاء، فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهْل.

خروج أبرهة لهدم الكعبة

فغضب عند ذلك أبرهة وحلف: ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمَه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهَّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفَظِعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة، بيت اللّه الحرام.

أشراف اليمن يدافعون عن البيت

فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نَفْر، فدعا قومه، ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت اللّه الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، فَهُزم ذو نَفْر وأصحابه، وأخذ له ذو نَفْر، فأتى به أسيراً، فلما أراد قتله، قال له ذو نَفْر: أيها الملك، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائى معك خيراً لك من قتلى، فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليماً.

خثعم تجاهد أبرهة

ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خَثْعَم عَرَض له نُفَيْل بن حبيب الخَثْعمي في قَبيلَيْ خَثْعَم: شَهْران ونَاهِس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نُفَيْل أسيراً، فأتى به، فلما همَّ بقتله قال له نُفَيْل: أيها الملك، لا تقتلنى فإنى دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلى خَثْعم: شَهْران وناهس بالسمع والطاعة، فخلى سبيلَه.

وخرج به معه يدلُّه، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتِّب ابن مالك بن كعب بن عَمرو بن. سعد بن عَوْف بن ثقيف في رجال ثقيف.

نسب ثقيف

واسم ثَقِيف: قَسِيُّ بنُ النَّبيت بن منبه بن منصور

ابن يَقْدُم بن أفْصَى بن دُعْمىّ بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان.

قال أمية بن أبى الصَّلْت الثقفي:

قومى إياد لو أنهمْ أمَــم    أو: لو أقاموا فتُهْزَل النَّعَمُ
قوم لهم ساحةُ العراقِ إذا   ساروا جميعاً والقطّ والقَلم

وقال أمية بن أبى الصَّلْت أيضاً:

فإمَّا تَسْألي عني لُبَيْنَي   وعن نسبي - أخَبِّرْك اليقينا
فإنا للنَّبيتِ أبي قَســــــِي  لمنصورِ بنِ يَقْدُمَ الاقدمينا

قال ابن هشام: ثقيف: قَسِىُّ بن مُنبه بن بكر بن هَوازن بن منصور ابن عِكرمة بن خَصَفَة بن قَيْس بن عَيْلان بن مُضَر بن نزار بن معد بن عدنان، والبيتان الأوَّلان والآخران في قصيدتين لأمية.

ثقيف تهادن أبرهة:

قال ابن إسحاق، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدُك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما نريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.

اللات

واللات: بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة.

قال ابن هشام: أنشدني أبو عبيدة النحوي لضرار بن الخطاب الفِهْرِي:

وفَوَّت ثقيف إلى لاتِها  بمُنْقَلَب الخائبِ الخاسِر

وهذا البيت في أبيات له.

أبو رغال ورجم قبره

قال ابن إسحاق: فبعثوا معه أبا رغال يدلُّه على الطريق إلى مكة فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المُغَمِّس، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبرَه العربُ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمِّس.

الأسْود بن مقصود يهاجم مكة: فلما نزل أبرهة المغَمَّس، بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسْوَد بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموالَ تِهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهُذَيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.

رسول أبرهة إلى مكة: وبعث أبرهة حُناطة الحميريّ إلى مكة، وقال له: سَلْ عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يُرِدْ حربي فأتني به ؛ فلما دخل حُناطة مكة، سال عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه. فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: واللّه ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللّه الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام أو كما قال فإن يمنعه منه، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فواللّه ما عندنا دَفْع عنه. فقال له حُناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.

أنيس يشفع لعبد المطلب: فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نَفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه،

فقال له: يا ذا نَفْر هل عندك من غَناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نَفْر: وما غَناء رجل أسير بيدَيْ ملك ينتظر أن يقتله غُدوّاً أو عشياً ؟! ما عندنا غَناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنَيْسا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعْظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشبع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نَفْر إلى أنَيْس،

فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عِير مكة، يطعم الناس بالسَّهل، والوحوش في رءوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن عليه، وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل.

فكلّم أنَيْس أبرهةَ،

فقال له: أيها الملك: هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، وهو يُطعم الناس في السهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذنْ له عليك فيكلمْك في حاجته، قال: فأذن له أبرهة.

الِإبل لي والبيت له رب يحميه: قال: وكان عبد المطلب أوسمَ الناسِ وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجلَّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحتَه، وكره أن تراه الحبشةُ يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهةُ عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه،

ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال:

حاجتي أن يرد علىَّ الملك مائتى بعير أصابها لي، فلما قال به ذلك، قال أبرهةُ لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتُك، ثم زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتاً هو دينُك ودينُ آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه ؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربّاً سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك.

الوفد المرافق لعبد المطلب: وكان - فيما يزعمُ بعضُ أهل العلم - قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة، حين بعث إليه حُناطة، يَعْمَر بنُ نُفاثة بن عدي بن الدُّئل بن بكر بن مناة بن كنانة - وهو يومئذ سيد بني بكر - وخُوَيلد بن واثلة الهذلي - وهو يومئذ سيد هذيل - فعرضوا على أبرهة ثلثَ أموالِ تهامة، على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. واللّه أعلم أكان ذلك، أم لا. فردَّ أبرهةُ على عبد المطلب الِإبلَ التي أصاب له.

قريش تستنصر اللّه على أبرهة: فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب الى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز في شَعَفِ الجبال والشِّعاب تخوفا عليهم من مَعَرَّة الجيش، ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلْقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون اللّه، ويستنصرونه على أبرهة وجندِه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لاهُمَّ إن العبدَ يمنــــــــ   ـعُ رحلَه فامنعْ حلالَكْ
لا يَغْلِبَنَّ صليبُهـــــــــم   ومِحَالُهم غَدْواً مِحَالَكْ
إن كنتَ تاركَهم وقِبـــ   ـلتنا  فأمْر مَا بَدَا لَكْ

قال ابن هشام: هذا ما صح له منها.

عكرمة بن عامر يدعو على الأسود

قال ابنُ إسحاق: وقال عِكْرمة بنُ عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصَي:

لاهُمَّ أخزِ الأسوَدَ بنَ مقصودْ      الآخذَ الهجْمةَ فيها التقليد
بينَ حِراءَ وثبير فالْبِيـــدْ      يَحْبِسها وهي أولاتُ التّطْريدْ
فضَمَّها إلى طماطِمٍ ســودْ  أخْفِرْه يا ربِّ وأنت محمود

قال ابن هشام: هذا ما صح له منها، والطماطم: الأعلاج.

قال ابن إسحاق. ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال فتحرَّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.

أبرهة يهاجم الكعبة: فلما أصبح أبرهة تهيَّأ لدخول مكة، وهيأ فيلَه، وعبَّى جيشَه - وكان اسمُ الفيل محموداً - وأبرهة مُجْمِع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نُفَيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذه بأذنه، فقال: ابركْ محمود، أو ارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد اللّه الحرام، ثم أرسل أذنه. فبرك الفيل، وخرج نُفَيْل بن حبيب يشتد حتى أصْعَد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطَّبَرْزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجَن لهم في مَرَاقِّه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.

عقاب اللّه لأبرهة وجنده: فأرسل اللّه تعالى عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبَلَسان: مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعَدَس لا تصيب منهم أحداً إلا هلك، - وليس كلهم أصابت - وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسالون عن نُفَيْل بن حَبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نُفَيل حين رأى ما أنزل اللّه بهم من نقمته:

أين المفرُّ والِإلهُ الطالبُ  والأشرمُ المغلوبُ ليس الغالب

قال ابن هشام: قوله: " ليس الغالب " عن غير ابن إسحاق.

قال ابن إسحاق: وقال نفيل أيضاً:

ألا حُيِّيتِ عنا يا رُدَيْنَــا   نعمناكم مع الِإصباحِ عينَا

رُدَيْنةُ لو رأيتِ - ولا ترَيْه  لذي جَنْب المُحصَّبِ ما رأينا

إذاً لعذرتِني وحمدْتِ أمري  ولم تأسَيْ على ما فات بَيْنا
حَمِدْت اللّه إذ أبصرتُ طيراً  وخِفْتُ حجارةً تُلْقَى علينا
وكلّ القوم يسأل عن نُفَيل  كأن عَلَي للحُبْشانِ دَيْنَا

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلِكون بكلِّ مَهْلِك على كل مَنْهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهمٍ يسقط أنْملة أنْملة: كلما سقطت أنْملة، آتبعتها منه مده تَمُثُّ قيحاً ودماً، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فَرْخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدرهُ عن قلبه، فيما يزعُمون.

قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عُتبة أنه حُدِّث: أن أولَ ما رُؤيت الحصبةُ والجُدَرِي بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رُؤي بها مرائر الشجر: الحرمل والحنظل والعُشَر ذلك العام.

اللّه - جل جلاله - يذكر حادثة الفيل ويمتن على قريش

قال ابن إسحاق: فلما بعث اللّه تعالى محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - كان مما يَعُدُّ اللّه على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال اللّه تبارك وتعالى: { أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل:١ـ٥] وقال: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ. إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:١ـ٤] أي لئلا يغير شيئاً من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد اللّه بهم من الخير لو قبلوه.

تفسير مفردات سورتي الفيل وقريش

قال ابن، هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه

وأما السِّجِّيل، فأخبرني يونس النحوي وأبو عُبَيْدة أنه عند العرب: الشديد الصلب، قال رُؤبة بن العَجَّاج:

ومسَّهم ما مسَّ أصحابَ الفيلْ  ترميهمُ حجارة من سِجِّيلْ

ولعبتْ طير بهم أبابيل

وهذه الأبيات في أرجوزة له.

ذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية، جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو سَنْج وجِلّ يعني بالسنج: الحجر، وبالجل: الطين، يعنى الحجارة من هذين الجنسين: الحجر والطين. والعَصْف: ورق الزرع الذي لم يُقَصَّب، وواحدته عَصْفَة. قال: وأخبرنى أبو عُبَيدة النحوي أنه يقال له العُصافة والعَصيفة. وأنشدنى لعَلْقَمة بن عَبَدَة أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم:

تَسقى مَذانبَ قد مالت عَصيفتُها  حَدُورُها من أتِىِّ الماءِ مَطْمومُ

وهذا البيت في قصيدة له. وقال الراجز:

فَصُيِّروا مثلَ كعصْف مأكول

قال ابن هشام: ولهذا البيت تفسير في النحو.

وإيلاف قريش: إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم، وكانت لهم خَرْجتان: خَرْجة في الشتاء، وخَرْجة في الصيف. أخبرنى أبو زيد الأنصاري: أن العرب تقول: ألفت الشىء إلْفا، وآلفته إيلافا، معنى واحد: وأنشدني لذي الرُّمَّة:

من المؤْلِفات الرملَ أدماءُ حُرَّة   شُعاعُ الضُّحَى في لونِها يتوضَّحُ

وهذا البيت في قصيدة له. وقال مطرود بن كعب الخُزاعى:

المُنْعَمين إذا النجومُ تغيَّرت    والظاعنين لرحلةِ الإيلاف

وهذا البيت في أبيات له، سأذكرها في موضعها إن شاء اللّه تعالى. والإيلاف أيضاً: أن يكون للإنسان ألف من الإبل ؛ أو البقر، أو الغنم، أو غير ذلك. يقال: آلف فلان إيلافا. قال الكُمَيْت بن زيد، أحد بنى أسد ابن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ:

بعامِ يقول له المؤْلِفو      نَ هذا المُعيم لنا المُرْجلُ

وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضاً: أن يصير القوم ألفا، يقال: آلف القوم إيلافا. قال الكُمَيْت بن زيد:

وآل مُزيْقياء غَدَاةَ لاقَوْا  بني سَعْدِ بْنِ ضَبةَ مُؤْلفينا

وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضاً: أن تؤلف الشيء إلى الشيء فيألفه ويلزمه، يقال: الفته إياه إيلافا. والإيلاف أيضاً: أن تصيِّر ما دون الألف ألفاً، يقال: الفته إيلافا.

مصير قائد الفيل وسائسه:

قال ابنُ إسحاق: حدثني عبد اللّه ابن أبى بكر، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: " لقد رأيت قائد الفيل وسائسَه بمكة أعميين مُقعَدَيْن يستطعمان الناس ".

ما قيل في قصة الفيل من الشعر

قال ابن إسحاق: فلما رد اللّه الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل اللّه، قاتل اللّه عنهم وكفاهم مئونةَ عدوِّهم، فقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع اللّه بالحبشةِ، وما ردَّ عن قريش من كيدِهم.

شعر عبد اللّه بن الزِّبَعْرَى: فقال عبداللّه بن الزِّبَعْرَى بن عدي بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤى بن غالب بن فِهْر:

تنكَّلوا عن بطنِ مكةَ إنهــــا  كانت قديما لا يُرامُ حريمُها
لم تخلق الشعْرى لَيَاليَ حُرِّمَتْ   إذ لا عزيزَ من الأنامِ يرومُها
سائلْ أميرَ الجيشِ عنها ما رأى  ولسوفَ يُنْبِي الجاهلين عليمُها
ستونَ ألفا لم يَئُوبوا أرضَهـم  ولم يعش بعدَ الإياب سقيمُها
كانت بها عادٌ وجُرْهم قبلَهـم  واللّه من فوقِ العبادِ يقيمُها

قال ابنُ إسحاق: يعني ابن الزِّبَعْرَى بقوله:

بعد الإيابِ سقيمُها أبرهة، إذ حملوه معهم حين أصابه ما أصابه، حتى مات بصنعاء.

شعر ابن الأسْلَت: وقال أبو قَيْس بن الأسْلَت الأنصاري ثم الْخَطميّ، واسمه: صَيْفي

قال ابن هشام: أبو قيس: صَيْفيُّ بنُ الأسْلَت

ابن جُشَم بن وائل بن زَيْد بن قيس بن عامر بن مُرة بن مالك بن الأوس:

ومن صُنْعِه يومَ فيل الحبُــو   شِ إذ كلما بعثوه رَزَمْ
محاجنُهم تحتَ أَقرابِــــه  وقد شَرَّموا أنفَه فانخرَمْ
وقد جعلوا سَوْطَه مِغْـــوَلاً  إذا يمَّمُوهُ قَفاه كُلِم
فولَّى وأدبرَ أدراجَـــــه  وقد باءَ بالظلمِ من كان
ثَمْ
فأرسلَ من فوقِهم حاصبــاً  فلفَّهُمُ مثلَ لفِّ القُزُمْ
تحُضُّ على الصبرِ أحبارُهم  وقد ثأجُوا كَثُؤَاجِ الغَنَمْ

قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له. والقصيدة أيضاً تروى لأمية بن أبى الصَّلْت.

قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس بن الأسلت:

فقوموا فصلُّوا ربَّكم، وتمسَّحُوا   بأركان هذا البيتِ بينَ الأخاشبِ

فعندكمُ منه بلاء مُصَـــدَّق   غَدَاةَ أَبى يَكْسُومَ هادى الكتائبِ

كتيبتُه بالسهلِ تُمْسى وَرَجْلُه   على القاذفاتِ في رءوس المناقبِ

فلما أتاكم نصرُ ذي العرش ردَّهمْ جنودُ المليكِ بينَ سافٍ وحاصبِ

فولَّوْا سراعا هاربين ولم يــؤبْ   إلى أهْلِه مِلْحِبْش غيرُ عصائبِ

قال ابن هشام: أنشدني أبو زيد الأنصاري قوله:

على القاذفاتِ في رءوسِ المناقبِ

وهذه الأبيات في قصيدة لأبى قيس، سأذكرها في موضعها إن شاء اللّه. وقوله: " غداةَ أبى يَكْسوم " يعني: أبرهة، كان يُكْنَى أبا يكسوم.

شعر طالب بن أبي طالب

قال ابن إسحاق: وقال طالب بن أبى طالب بن عبد المطلب:

ألم تعلموا ما كان في حربِ داحس وجيش أبي يَكْسُومَ إذ مَلئوا الشِّعْبا

فلولا دفاعُ اللّه لا شيءَ غيـــرُه  لأصبحتمْ لا تَمنعون لكم سَرَبا

قال ابن هشام. وهذان البيتان في قصيدة له في يوم بدر، سأذكرها في موضعها إن شاء اللّه تعالى.

شعر أبي الصلت الثقفي

قال ابن إسحاق: وقال أبو الصَّلْت ابن أبى ربيعة الثَّقفي في شأن الفيل، ويذكر الحنيفيَّة دينَ إبراهيم عليه السلام.

قال ابن هشام: تروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي:

إن آياتِ ربِّنا ثَاقبـــات  لا يُمارِي فيهن إلا الكفورُ
خلقَ الليلَ والنهارَ فكــل  مستبين حسابُه مقدورُ
ثم يجلو النهارَ ربُّ رحيـم  بمَهاةٍ شُعاعُها منشورُ
حُبِس الفيلُ بالمُغمَّس، حتى  ظلَّ يحبو كأنه معقورُ
لازماً حَلْقةَ الجِرانِ كما قُطـ   ـر من صخر كَبْكَب محدور
حوله من ملوك كِندةَ أبطـا  ل ملاوِيث في الحروبِ صُقور
خَلَّفوه ثم ابذعَرُّوا جميعـاً  كلهم عظمُ ساقِه مكسورُ
كلُّ دينٍ يومَ القيامةِ عندَ اللـ   ـه إلا دين الحنيفةِ بورُ

شعر الفرزدق:

قال ابن هشام: وقال الفرزدق - واسمه همّام ابن غالب أحد بنى مُجَاشع بن دَارم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مَناة بن تميم - يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويهجو الحجاجَ ابن يوسف، ويذكر الفيلَ وجيشه:

فلما طغى الحجاجُ حين طغى به غِنى قال: إني مُرْتق في السلالم
فكان كما قال ابنُ نوح : سأرتقى   إلى جبل من خَشْيةِ الماءِ عاصم
رمى اللّه في جثمانِه مثلَ ما رمى   عن القبلةِ البيضاءِ ذاتِ المحارم
جنوداً تسوق الفيلَ حتى أعادهـم   هَباءً، وكانوا مُطْرَخِمي الطرَاخم
نُصِرْتَ كنصر البيتِ إذ ساق فيلَه   إليه عظيمُ المشركين الأعاجم

وهذه الأبيات في قصيدة له.

شعر ابن قيس الرقيات

قال ابن هشام : وقال عبدُ اللّه بن قَيْس الرقيَّات. أحدُ بني عامر بن لؤي بن غالب يذكر أبرهةَ - وهو الأشرم - والفيل :

كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ   ـل فولَّى وجيشُه مهزومُ
واستَهلَّتْ عليهمُ الطيرَ بالجنـــ   ـدلِ حتى كأنه مَرْجومُ
ذاك من يَغْزُهُ من النـــــاسِ  يَرجعْ ،وهو فَل من الجيوش ذميمُ

وهذه الأبيات في قصيدة له.

ولدا أبرهة

قال ابن إسحاق : فلما هلك أبرهة، ملك الحبشَةَ ابنُهُ يكسوم بنُ أبرهة، وبه كان يُكْنَى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمَن في الحبشة أخوه مسروقُ بن أبرهة.

خروج سيف بن ذي يزن ومُلك وهرز على اليمن

سيف يشكو لقيصر: فلما طال البلاءُ على أهل اليمن ، خرج سيفُ بن ذي يَزن الحميريُّ وكان يُكْنَى بأي مُرَّة، حتى قدم على قيصر ملك الروم ، فشكا إليه ما هم فيه ، وسأله أن يخرجهم عنه ، وَيليَهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم ، فيكون له ملك اليمن ، فلم يُشْكِه.

النعمان يتشفع لسيف عند كسرى

فخرج حتى أتى النعمانَ بنَ المنذِر وهو عامل كسرى على الحِيرة، وما يليها من أرض العراق -فشكا إليه أمر الحبشة، فقال له النعمان : إن لي على كسرى وِفادةً في كلِّ عام ، فأقمْ حتى يكونَ ذلك ، ففعل ، ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلِسه الذي فيه تاجُه ، وكان تاجه مثل الْقَنْقَل العظيم - فيما يزعمُون - يُضرَبُ فيه الياقوت واللؤلؤ والزبرجد بالذهب والفضة، معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك ، وكانت عنقُه لا تحمل تاجَه ، إنما يُستَر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ، ثم يُدْخِل رأسَه في تاجِه ، فإذا استوى فيٍ مجلسه كُشفت عنه الثيابُ ، فلا يراه رجل لم يره قبلَ ذلك ، إلا برك هَيبة له ، فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك.

معاونة كسرى لسيف

قال ابن هشام : حدثني أبو عُبيدة : أن سيفا لما دخل عليه طأطأ رأسه ، فقال الملك : إن هذا الأحمقُ يدخل عليَّ من هذا الباب الطويل ، ثم يطأطي رأسه ؟! فقيل ذلك لسيف ،

فقال : إنما فعلت هذا لهمِّي ، لأنه يضيقُ عنه كلُّ شيء.

قال ابن إسحاق :

ثم قال له : أيها الملك ، غَلَبَتْنا على بلادِنا الأغربةُ. فقال له كسرى : أي الأغربة : الحبشة أم السند ؟

فقال : بل الحبشة، فجئتك لتنصرني ، ويكون مُلك بلادي لك ،

قال : بَعُدَتْ بلادُك مع قلة خيرِها، فلم أكن لأورِّط جيشا من فارس بأرض العرب ، لا حاجة لي بذلك ، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف ، وكساه كسوةً حسنة، فلما قبض ذلك منه سيف خرج ؛ فجعل ينثر ذلك الوَرِقَ للناس ، فبلغ ذلك الملك ،

فقال : إن لهذا لشانا، ثم بعث إليه ،

فقال : عمدت إلى حباء الملك ثَنثُره للناسِ ،

فقال : وما أصنعُ بهذا ؟ ما جبالُ أرض التي جئتُ منها إلا ذهب وفضة - يرغِّبه فيها - فجمع كسرى مَرَازِبته،

فقال لهم : ماذا تَرَوْن في أمر هذا الرجل ، وما جاء له ؟ فقال قائل : أيها الملك ، إن في سجونك رجالا قد حبستَهم للقتل ، فلو أنك بعثتهم معه ، فإن يَهْلِكوا كان ذلك الذي أردت بهم ، وإن ظفروا كان مُلكاً ازدَدْتُه ، فبعث معه كسرى من كان في سجونه ، وكانوا ثمانمائةَ رجلٍ.

انتصار سيف

واستعمل عليهم رجلا يقال له وَهْرِز، وكان ذا سِنّ فيهم ، وأفضلهم حسبا وبيتا، فخرجوا في ثمانِ سفائن ، فغرقت سفينتان ، ووصل إلى ساحل عدن ستُّ سفائن، فجمع سيف إلى وَهْرِز من استطاع من قومه ، وقال له : رِجْلى مع رِجْلك حتى نموت جميعاً، أو نظفر جميعاً. قال له وَهْرِز : أنصفتَ. وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن ، وجمع إليه جنده ، فأرسل إليهم وَهْرِز ابنا له ؟ ليقاتلهم ، فيختبر قتالهم ، فقُتل ابنُ وَهْرِز ؟ فزاده ذلك حنقاً عليهم ، فلما توافق الناس على مَصَافِّهم ، قال وَهْرِز : أروني ملكَهم ، فقالوا له : أترى رجلا على الفيل عاقداً تاجَه على رأسه ، بين عينيه ياقوتة حمراء ؟

قال : نعم ، قالوا : ذاك مَلِكُهم ،

فقال : اتركوه ،

قال : فوقفوا طويلا،

ثم قال : علامَ هو ؟ قالوا : قد تحول على الفرس ،

قال : اتركوه. فوقفوا طويلا،

ثم قال : علامَ هو ؟ قالوا : قد تحول على البغلة. قال وهرز: بنتُ الحمار؟! ذُلَّ وذُلَّ مُلْكُه ، إنى سأرميه ، فإن رأيتم اًصحابَه لم يتحركوا، فاثبتوا حتى أوذِنَكم ، فإني قد أخطأت الرجلَ ، وإن رأيتم القومَ قد استداروا ولاثوا به ، فقد أصبتُ الرجل ، فاحملوا عليهم. ثم وتر قوْسَه ، وكانت فيما يزعمون لا يُوترها غيرُه من شدتها، وأمر بحاجبيه ، فعُصبا له ، ثم رماه ، فصك الياقوتةَ التي بين عينيه ، فتغلغلت النُشَّابةُ في رأسه حتى خرجت من قفاه ، ونُكِس عن دابته ، واستدارت الحبشةُ ولاثتْ به ، وحملت عليهم الفرسُ ، وانهزموا، فقُتلوا وهَربوا في كل وجهٍ ، وأقبل وَهْرِز، ليدخل صنعاء، حتى إذا أتى بابها،

قال : لا تدخل رايتي منكسة أبداً، اهدموا البابَ ، فهُدم ، ثم دخلها ناصبا رايته.

شعر سيف بن ذي يزن في هذه القصة : فقال سيف بن ذي يزن الحميري :

يظنُّ الناسُ بالْمَلكيــــ   ـنِ أنهما قدالتأما
ومن يسمعْ بلأمهمــــا  فإن الخطبَ قد فقما
قتلنا القَيْل مسروقــــاً  وروَّينا الكثيبَ دَمَا
وإن القَيْل قَيْل النــــا   سِ وَهْرِزَمُقْسِم قَسَمَا
يذوق مُشَعْشَعاً حتـــى  يُفىء السبيُ والنَّعَما

قال ابن هشام : وهذه الأبيات في أبيات له. وأنشدني خلاد بن قُرة السًّدُوسي آخرَها بيتاً لأعْشَى بنى قَيْس بن ثعلبة في قصيدة له ، وغيرُه من أهل العلم بالشعر يُنْكِرها له.

شعر أبي الصلت

قال ابن إسحاق ، وقال أبو الصلْت بن أبي ربيعهَ الثقفىُّ :

قال ابن هشام : وتُروى لأميَّة بْن أبي الصَّلْت. ،

ليطلب الوِتْر أمثالُ ابن ذي يزن   رَيَّمَ في البحر للأعداء أحوالَا
يمَّمَ قَيْصَرَ لما حان رحلتـــهُ  فلم يجدْ عندَه بعضَ الذي سالَا
ثم انثنى نحوَ كِسرى بعدَ عاشرةٍ   من السنين يُهين النفسَ والمالَا
حتى أتى ببنى الأحرارِ يحملهم  إنَّك عَمْرِي لقد أسرعتَ قِلْقَالَا
للّه دَرهُمُ من عُصبةٍ خرجوا  ما إن أرى لهم في الناسِ أمثالاَ
بِيضاً مَرَازِبةً، غُلْباً أسـاورةً  أسداً تُربب في الغَيْضاتِ أشبالَا
يَرمون عن شُدُفٍ كأنها غُبُط  بِزَمْخَر يُعْجل المرمِيَّ إعجالا
أرْسَلْتَ أسْداً على سودِ الكلاب فقد أضحَى شريدُهُمُ في الأرضِ فُلَّالَا
فاشربْ هنيئاً عليك التاجُ مُرْتَفِقاً  في رأس غُمدَانَ دارا منك مِحْلالاَ
واشربْ هنيئا فقد شالتْ نعامتُهم   وأسبِل اليومَ في بُرْسَيْكَ إسْبالاَ
تلك المكارمُ لا قَعْبان مـــن  لبنٍ شِيبا بماءٍ فعادَا بعدُ أبوالَا

قال ابن هشام : هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتاً قوله :

تلك المكارمُ لا قَعْبانَ من لبن

فإنه للنابغة الجعدي. واسمه : حِبَّان بن عبد اللّه بن قَيْس، أحد بنى جَعْدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن بَكر بن هوازن ، في قصيدة له.

شعر عدي بن زيد

قال ابن إسحاق : وقال عدي بن زيد الحيري ، وكان أحد بنى تميم.

قال ابن هشام : ثم أحد بني امرئ القيس بن زَيد مناة بن تميم ،

ويقال : عدَي من العباد من أهل الحيرة :

ما بعدَ صنعاءَ كان يَعْمُرها   ولاةُ مُلك جَزْلٍ مواهبُها
رفَّعها مَنْ بَنَى لدى قَزَع المُزْ  نِ وتَنْدَى مِسْكا مَحاربُها
مَحفوفةٌ بالجبالِ دونَ عُرَى الْـ   ـكائدِ ما تُرْتَقى غواربُها[٢]
يأنسُ فيها صوتُ النُّهــامِ إذا  جاوبَها بالعشىِّ قاصِبُها[٣]
ساقت إليه الأسبابُ جندَ بني الـ   ـأحرارِ فرسانُها مواكبُها
وفوزت بالبغالِ تُوسَقُ بالـ      ـحَتْفِ وتَسْعَى بها توالبُها[٤]
حتى رآها الأقْوالُ من طرفِ المَـن   ـقلِ مُخْضَرَّة كتائبُها[٥]
يوم يُنادون آل بَرْبـــــر  والْيَكْسوم لا يُفْلَحنَّ هاربُها[٦]
وكان يوم باقي الحديــث وزا   لت إمَّةٌ ثابت مراتبُها
وبُدِّل الفَيْج بالزرافةِ والأيــا  م جُونٌ جَم عجائبها
بعدَ بني تُبَّع نَخـــــاوِرة  قد اطمأنَّت بها مرازُبها

قال ابن هشام : وهذه الاًبيات في قصيدة له ، وأنشدنى أبو زيد الأنصاري ، ورواه لي عن المفضَّل الضبي ، قوله :

يوم ينادون آل بربر واليكسوم.. الخ.

وهذا الذي عنى سَطيح بقوله : " يليه إرم ذى يزن ، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك أحداً منهم باليمن ". والذي عنى شق بقوله : " غلام ليس بِدَني ولا مُدَنْ ، يخرج عليهم من بيت ذي يَزَنْ ".

ذكر ما انتهى إليه أمر الفُرس باليمن

مدة مكث الحبشة باليمن

قال ابن إسحاق : فأقام وَهْرِز والفرس باليمن ، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس : الأبناء الذين باليمن اليوم. وكان مُلْك الحبشة باليمن ، فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت من الحبشة، اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة : أرياط ، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة.

أمراء الفرس باليمن

قال ابن هشام : ثم مات وَهْرِز، فأمَّر كسرى ابنه المرْزُبان بن وهرز على اليمن ، ثم مات المرْزُبان ، فأمّر كسرى ابنه التينُجان بن المرزبان على اليمن ، ثم مات التينُجان ، فأمر كسرى بن التينجان على اليمن ، ثم عزله وأمَّر باذان ، فلم يزل باذان عليها حتى بعث اللّه محمداً النبي - صلى اللّه عليه وسلم.

محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) يتنبأ بموت كسرى

فبلغني عن الزهري أنه قال كتب كسرى إلى باذان : أنه بلغنى أن رجلا من قُريش خرج بمكة، يزعُم أنه نبي فَسِرْ إليه فَاسْتَتِبْهُ ، فإن تاب ، وإلا فابعث إلىَّ برأسه ، فبعث باذان بكتاب كسرى إلي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فكتب إليه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم : "إن اللّه قد وعدنى أن يُقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا " فلما أتى باذانَ الكتابُ توقف لينظر،

وقال : إن كان نبياً، فسيكون ما قال ، فقتلَ اللّه كسرى في اليوم الذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال ابن هشام : قُتل على يدَيْ ابنه شَيْرَويه ، وقال خالد بن حِق الشيبانيُّ:

وكسرى إذ تَقَسَّمه بنــــوه  بأسيافٍ كما اقتُسِم اللَّحامُ
تمخضتِ المنونُ له بيومٍ   أنى، ولكلِّ حاملةٍ تمام

إسلام باذان : قال الزهري : فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه ، وإسلام من معه من الفُرس إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فقالت الرسلُ من الفرس لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - إلى من نحن يا رسول اللّه ؟

قال : " أنتم منا وإلينا أهلَ البيت ".

قال ابن هشام : فبلغني عن الزهريِّ أنه

قال : فمن

ثَمَّ قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم : " سَلْمانُ منا أهل البيت ".

قال ابن هشام : فهو الذي عنى سطيح بقوله : " نبيّ زكي ، يأتيه الوحي من قبل العليّ "، والذي عنى شق بقوله : بل ينقطع برسول مُرْسَل ، يأتي بالحق والعدل ، من أهل الدين والفضل ، يكون المُلك في قومه إلى يوم الفصْل .

كتاب الحجر الذي في اليمن :

قال ابن إسحاق : وكان في حَجَر باليمن - فيما يزعُمون - كتاب بالزَّبور كُتب في الزمان الأول :

" لمن مُلك ذِمَار ؟ لِحمْير الأخيار، ولمن ملك ذِمار ؟ للحبشة الأشرار، لمن ملك ذِمار ؟ لفارس الأحرار، لمن ملك ذِمار ؟ لقريش التجار ".

وذِمار : اليمن أو صنعاء.

قال ابن هشام : ذَمار : بالفتح ، فيما أخبرني يونس.

الأعشى يذكر نبوءة شق وسطيح :

قال ابن إسحاق : وقال الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة في وقوع ما قال سطيح وصاحبه :

ما نظرتْ ذاتُ أشفارٍ كنظرتها   حقاً كما صدقَ الذئبيُّ إذ سجعا

وكانت العرب تقول لسطيح : الذئبي ؟ لأنه سطيح بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب

قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له.

قصة ملك الحضر

وحدثنى خلادُ بن قُرَّة بن خالد السَّدُوسى عن جَنَّاد، أو عن بعض علماء أهل الكوفة بالنسب : أنه يقال : إن النعمان بن المنذر من ولد سَاطِرون ملك الحَضْر. والحَضْر : حصن عظيم كالمدينة، كان على شاطئ الفرات ، وهو الذي ذكر عَدي بن زيد في قوله :

وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دِجْلة يُجْبَى إليه والخابورْ
شاده مرمراً وجللّه كِلْسا فللطَّيْرِ في ذُراه وُكورْ
لم يَهَبْه ريبُ المنون فبان الْمُلْكُ عنه فبابُه مهجورْ

قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له.

والذي ذكره أبو دواد الإياديُّ في قوله :

وأرى الموتَ قد تدلى من الحَضـ   ـر على رب أهله السَّاطُرون

وهذا البيت في قصيدة له ،

ويقال : إنها لخلَف الأحمر،

ويقال : لحماد الرَّاوية.

سابور يستولي على الحضر

وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا ساطِرون ملكَ الحَضْر، فحصره سنتين ، فأشرفت بنت ساطِرون يوما، فنظرت إلى سابور، وعليه ثياب ديباج ، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه ، أتتزوجني إن فتحت لك باب الحَضْر ؟

فقال : نعم. فلما أمسى ساطِرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران ، فأخذت مفاتيح باب الحَضْر من تحتِ رأسه ، فبعثت بها مع مولَى لها ففتح الباب ، فدخل سابور، فقتل ساطِرون ، واستباح الحَضْر وخرَّبه، و سار بها معه فتزوجها ؟ فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذا جعلت تتململ لا تنام ، فدعا لها بشمْع ، ففتش فراشَها، فوجد عليه ورقة آس ؛ فقال لها سابور : أهذا الذي أسهرَك ؟!

قالت : نعم ،

قال : فما كان أبوك يصنع بك ؟

قالت : كان يفرش لي الديباج ، ويلبسني الحريرَ، ويطعمني المخَّ ، ويسقيني الخمر، قال: أفكان جزاءُ أبيك ما صنعتِ به ؟! أنت إليَّ بذلك أسرعُ ، ثم أمر بها، فرُبطت قرون رأسها بذنَبِ فرس ، ثم ركض الفرس ، حتى قتلها، ففيه يقول أعشى بني قَيس بن ثَعْلبة :

قول أعشى قيس في قصة الحضر :

ألم ترَ للحَضْر إذ أهلُـــــه   بنُعْمَى،وهَل خالدٌ مَنْ نعمْ
أقام به شاهبورُ الجنـــــو   دَ حولين تضرب فيه القُدُم
فلما دعا ربَّه دعــــــوة   أناب إليه فلم ينتقمْ

وهذه الأبيات في قصيدة له.

قول عدي بن زيد : وقال عدى بن زيد في ذلك :

والحَضْر صابت عليه داهيــة   من فوقِه أيد مناكبها
رَبِيّة لم تُوَقِّ والدَهــــــا  لحَيْنها إذ أضاع راقبها
إذ غَبَقَتْه صَهْباءَ صافيـــــةً  والخمرُ وَهْلٌ يَهيم شاربُها
فأسْلمتْ أهلَها بليلتِهــــــا  تظنُّ أن الرئيسَ خاطبُها
فكان حَظ العَروسِ إذ جَشَر الصـ   ـبْحُ دماءً تجري سَبَائِبها
وخُرِّب الحَضْر، واستبيحَ ، وقدْ  أحْرِق في خدرِها مشاجبُها

وهذه الأبيات في قصيدة له.

ذكر ولد نِزار بن معد

قال ابن إسحاق : فولد نِزارُ بن معد ثلاثةَ نفر : مُضر بن نِزار، وربيعةَ بن نِزار، وأنمار بن نِزار.

قال ابن هشام : وإياد بن نزار. قال الحارث بن دَوْس الإيادي ، ويروى لأبي دُواد الإيادي ، واسمه : جارية بن الحجاج :

وفُتُؤ حسن أوجُهُهــــم  من إياد بن نِزار بن معد

وهذا البيت في أبيات له.

فأم مضر وإياد : سَوْدَة بنتُ عَكّ بن عدنان. وأم ربيعة وأنمار : شُقَيْقَة بنت عَك بن عدنان ،

ويقال : جُمْعَة بنت عك بن عدنان.

أولاد أنمار :

قال ابن إسحاق : فأنمار أبو خَثْعَم وبجيلة، قال

جرير بن عبداللّه البَجَلىّ وكان سيدَ بَجيلة، وهو الذي يقول له القائل :

لولا جرير هلكت بَجيله      نعم الفتى، وبئست القبيلهْ !!

وهو ينافر الفُرافِصة الكلبي إلى الأقرع بن حابس التميمى :

يا أقرعَ بن حابس يا أقرعُ إنك إن تَصْرعْ أخاك تُصرع

قال :

ابْنَيْ نزارٍ انصُرا أخاكما   إن أبى وجدْتُه أباكما

لن يُغلبَ اليومَ أخ وَالاكُما

وقد تيامنت ، فلحقت باليمن.

قال ابن هشام : قالت اليمن : وبَجيلة : أنمار بن إراش بن لِحْيان بن عمرو بن الغَوْث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.

ويقال : إراش بن عمرو بن لِحْيان بن الغوث. ودار بجيلة وخَثْعَم : يمانية.

ولدا مضر :

قال ابن إسحاق : فولد مضر بن نزار رجلين : إلياس

ابن مُضَر، وعَيْلان بن مضر.

قال ابن هشام : وأمهما جرهمية.

أولاد إلياس :

قال ابن إسحاق : فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مُدْرِكة بن إلياس ، وطابخة بن إلياس ، وقَمَعَة بن إلياس ، وأمهم : خِنْدف، امرأة من اليمن.

قال ابن هشام : خِنْدف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.

قال ابن إسحاق : وكان اسم مُدركة عامراً، واسم طابخة عَمْراً، وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيداً، فقعدا عليه يطبخانه ؟ وعَدَتْ عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو : أتدرك الإبل ، أم تطبخ هذا الصيد ؟ فقال عمرو : بل أطبخ ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها، فلما راحا على أبيهما حدثاه بشأنهما، فقال لعامر : أنت مُدْرِكة، وقال لعمرو : وأنت طابخة.

وأما قَمَعَة فيزعم نُساب مضر : أن خزاعة من ولد عَمرو بن لُحَيّ بن قَمَعة بن إلياس.

حديث عمرو بن لحيّ وذكر أصنام العرب

عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار :

قال ابن إسحاق : وحدثني عبداللّه بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم عن أبيه

قال : حُدثتُ أن رسولَ اللّه - صلى اللّه عليه وسلم-

قال : " رأيت عَمْرو بن لُحَى يجرُّ قصْبه في النار فسألته عمن بيني وبينه من الناس ،

فقال : هلكوا ".

قال ابن إسحاق. وحدثنى محمد بن إبراهيم الحارث التَيمِي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة.

قال ابن هشام : واسم أبي هريرة : عبداللّه بن عامر، ويقال اسمه : عبد الرحمن بن صخر - يقول : سمعتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن الخُزاعي : " يا أكثمُ ، رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعة ابن خِنْدِف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا بك منه. فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسولَ اللّه ؟

قال : لا، إنك مؤمنٌ وهو كافر، إنه كان أول من غيَّر دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وبَحَر البحِيرة وسيبَ السائبة، ووصل الوَصِيلة، وحمى الحَامِى ".

----------------------------------------------------------------------------

[١] واسمه: ربيعة بن عبد ياليل.

[٢] دون عرى الكائد، يريد : عرى السماء وأسبابها، ووقع في نسخة الشيخ : عرى بفتح العين ، وهي الناحية، وأضافها إلى الكائد، وهو الذي كادهم ، والبارى - سبحانه وتعالى - كيده متين ( وانظر الروض الأنف من تحقيقنا )

[٣] قوله : صوت النهام ، يريد ذكر البوم ، وقاصبها : الذى يزمر في القصب.

[٤] فَوّزَت بالبغال أي : ركبت المفاوز - الصحارى -. تُوسق بالحتف ، أي : أوسق البغال الحتوف ، وتوالبها : جمع تولب ، وهو ولد الحمار، والتاء في تولب بدل من واو ، كما هي في توءم وتولج وفي توراة على أحد القولين ، لاًن اشتقاق التولب من الوالبة، وهي ما يولده الزرع ، وجمعه : أوالب.

[٥] من طرف المَنْقَل : أي : من أعالى حصونها، والمنقال : الخِرج ينقل إلى الملوك من قرية إلى قرية، فكان المنقل من هذا، واللّه أعلم. وقوله : مخضرة كتائبها. يعنى من الحديد، ومنه الكتيبة الخضراء. ذلك أن الحديد عندما يصدأ يظهر فيه شبه الخضار.

[٦] ينادون آل بربر؛ لاًن البربر والحبشة من ولد حام. وقد قيل إنهم من ولد جالوت من العماليق. وقد قيل في جالوت إنه من الخزر، وان أفريقس لما خرج من أرض كنعان سمع لهم بربرة، وهي اختلاط الأصوات ، فقال : ما أكثر بربرتهم ! فسُمُّوا بذلك ، وقيل غير هذا.