هشام- فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى
رسول اللّه
قالت: فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى
خلصت الجراحة إلى، أصابنى ابن قمئة- أقمأه اللّه تعالى- لما ولى الناس عن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت
فاعترضت له، فضربنى هذه الضربة، ولكن ضربته ضربات على ذلك، ولكن عدو اللّه عليه
درعان.
قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على
عاتقها جرحا أجوف له غور.
وتترس دون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى
ظهره وهو منحن عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك.
ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول
اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-. قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمى، حتى إنه
ليناولنى السهم ماله نصل فيقول: ارم به.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن
النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأخذها رسول اللّه بيده وردها إلى
موضعها و
قال: (اللّهم اكسه جمالا) فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا (١) . ورواه الدارقطنى بنحوه، ويأتى
لفظه- إن شاء اللّه تعالى- فى مقصد المعجزات.
ورمى أبو رهم كلثوم بن الحصين
بسهم فوقع فى نحره فبصق عليه صلى اللّه عليه وسلم- فبرىء.
وانقطع سيف عبد اللّه بن جحش،
فأعطاه- صلى اللّه عليه وسلم- عرجونا فعاد فى يده سيفا، فقاتل
به وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركى من أمراء
المعتصم باللّه فى بغداد بمائتى دينار.
وهذا نحو حديث عكاشة السابق فى
غزوة بدر إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العون، وهذا يسمى العرجون.
__________
(١) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٣/ ٢٥٢)
.
واشتغل المشركون بقتلى المسلمين
يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا
رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وأشراف أصحابه.
وكان أول من عرف رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- كعب بن مالك، قال عرفت عينيه
تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، هذا رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، فلما عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو
الشعب، معه أبو بكر وعمر وعلى ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو
يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول اللّه، يعطف عليه رجل
منا؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: دعوه، فلما دنا تناول- صلى اللّه عليه وسلم- الحربة من الحارث بن الصمة، فلما
أخذها منه- عليه السّلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه
تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله عليه الصلاة والسلام-، فطعنه طعنة وقع بها عن فرسه ولم
يخرج له دم فكسر ضلعا من أضلاعه.
فلما رجع إلى قريش
قال: قتلنى واللّه محمد، أليس قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك، فو اللّه لو بصق على
لقتلنى. فمات عدو اللّه بسرف وهم قافلون
به إلى مكة (١) . رواه البيهقى وأبو نعيم ولم يذكر: فكسر ضلعا من أضلاعه.
قال الواقدى: وكان ابن عمر يقول:
مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لى
لهبها فهبتها، وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول:
لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، هذا أبى بن خلف، ورواه البيهقى.
ولما انتهى- صلى اللّه عليه وسلم- إلى فم الشعب ملأ على بن أبى طالب
درقته من
__________
(١) أخرجه البيهقى فى (الدلائل) (٣/ ٢٥٨) .
المهراس- وهو صخرة منقورة تسع كثيرا من
الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد فجاء به إلى
رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو
يقول: اشتد غضب اللّه على من رمى وجه
نبيه (١) .
وصلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التى
أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة
اللاتى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يجد عن الأذان والأنف، وبقرت عن
كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
ولما أراد أبو سفيان الانصراف
أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل (٢) .
وكان أبو سفيان حين أراد الخروج
إلى أحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد، فلما
قال: أعل هبل، أى زد علوّا.
فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لعمر أجبه فقل: (اللّه أعلى وأجل) (٣) .
فقال أبو سفيان: أنعمت فعال، أى اترك ذكرها فقد صدقت فى فتواها
وأنعمت، أى أجابت بنعم.
فقال عمر: لا سواء، قتلانا فى
الجنة وقتلاكم فى النار.
فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم.
__________
(١) صحيح: أخرجه بنحوه البخارى (٤٠٧٣) فى المغازى، باب: ما أصاب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من الجراح يوم أحد، ومسلم (١٧٩٣) فى الجهاد والسير، باب: اشتداد غضب اللّه على من قتله
رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٤٣) فى المغازى، باب: غزوة أحد، من حديث البراء رضى
اللّه عنه-.
(٣) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.
فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (قولوا: اللّه مولانا ولا مولى لكم) (٣) .
ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه
نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال- صلى اللّه عليه وسلم- لرجل من أصحابه: (قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد) (١) .
وذكر الطبرانى: أنه لما انصرف المشركون، خرج
النساء إلى الصحابة يعنهم فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبى- صلى اللّه عليه وسلم- اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته
بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير أحرقته بالنار وكمدته به حتى
لصق بالجرح فاستمسك الدم (٢) .
ثم أرسل- عليه الصلاة والسلام- محمد بن مسلمة- كما ذكره الواقدى- فنادى فى القتلى: يا سعد بن الربيع، مرة بعد أخرى،
فلم يجبه، حتى قال إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أرسلنى إليك، فأجابه بصوت .....، فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق
ف
قال: أبلغ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- عنى السلام، وقل له: يقول لك، جزاك اللّه عنا خير ما
جزى به نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند اللّه أن يخلص إلى
نبيكم وفيكم (عين) تطرف، ثم مات (٣) .
وقتل أبو جابر، فما عرف إلا
ببنانه (٤) - أى أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها. بنانه.
وخرج- صلى اللّه عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى، قد
بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر- عليه السّلام- إلى شىء لم ينظر إلى شىء أوجع
لقلبه منه ف
قال: (رحمة اللّه عليك، لقد كنت فعولا للخير، وصولا للرحم،
أما واللّه لأمثلن بسبعين منهم مكانك)
قال: فنزلت عليه خواتيم سورة
__________
(١) انظر (السيرة النبوية) لابن هشام (٣/ ١٠٠) .
(٢) قلت: هو عند مسلم (١٧٩٠) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث سهل بن سعد- رضى اللّه عنه-.
(٣) أخرجه الحاكم فى (مستدركه) (٣/ ٢٢١) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى اللّه عنه- وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(٤) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (٤٠٤٨) فى المغازى، باب: غزوة أحد، ومسلم (١٩٠٣) فى الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، إلا أن المقتول عمه أنس بن
النضر- رضى اللّه عنه-، ولم أقف على رواية أبى جابر.
النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (١) الآية، فصبر وكفر عن يمينه وأمسك عما أراد (٢) .
وممن مثل به كما مثل بحمزة عبد
اللّه بن جحش، ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدع فى اللّه، وكان حين قتل ابن بضع
وأربعين سنة، ودفن مع حمزة فى قبر واحد.
ولما أشرف- صلى اللّه عليه وسلم- على القتلى
قال: (أنا شهيد على هؤلاء وما من جريح يجرح فى اللّه إلا
واللّه يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح المسك) (٣) .
وفى رواية عبد اللّه بن ثعلبة قال- صلى اللّه عليه وسلم- لقتلى أحد: (زملوهم بجراحهم) .
وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول
اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-
قال: (يا جابر ألا أخبرك: ما كلم اللّه تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم
أباك كفاحا، فقال سلنى أعطك، فقال أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال
الرب عز وجل: إنه سبق منى أنهم لا يرجعون إلى
الدنيا
قال: أى رب فأبلغ من ورائى، فأنزل اللّه وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْواتاً (٤) ) (٥) الآية.
__________
(١) سورة النحل: ١٢٦.
(٢) إسناده ..... ذكره الهيثمى فى (المجمع) (٦/ ١١٩) من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه- و
قال: رواه البزار والطبرانى وفيه صالح بن بشير المزنى، وهو .....، ا. هـ. قلت: وكذا ضعفه الحافظ ابن حجر فى (الفتح) (٧/ ٣٧١) .
(٣) صحيح بنحوه: أخرجه البخارى (٢٣٧) فى الوضوء، باب: ما يقع من النجاسات فى السمن
والماء، ومسلم (١٨٧٦)
فى الإمارة باب: فضل الجهاد والخروج فى سبيل
اللّه، من حديث أبى هريرة- رضى اللّه عنه-، بنحوه، وهو عند البيهقى فى (الدلائل) (٣/ ٢٩٠) بهذا اللفظ، ولكن من طريق آخر.
(٤) سورة آل عمران: ١٦٩.
(٥) حسن: أخرجه الترمذى (٣٠١٠) فى التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجه (١٩٠) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، و (٢٨٠٠) فى الجهاد، باب: فضل الشهادة فى سبيل اللّه، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٣٦١).
وعن ابن عباس قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-: (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم فى أجواف طير
خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما
وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه بنا لئلا يزهدوا فى
الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب،
قال اللّه تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل اللّه عز
وجل هذه الآيات وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا (١) ) (٢) .
قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوى إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ (٣) وإنما تأوى إلى تلك القناديل ليلا وتسرح نهارا، وبعد
دخول الجنة فى الآخرة لا تأوى إلى تلك القناديل، وإنما ذلك فى البرزخ.
وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من
ثمر الجنة وليسوا فيها.
وقد رد هذا القول، ويشهد له ما
وقع فى مسند ابن أبى شيبة وغيره:
أن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-
قال: (الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة،
فى قباب خضر يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيّا) (٤) .
قال الحافظ عماد الدين بن كثير:
كأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم فى الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر
بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى
عليهم برزقهم هناك ويراح.
قال: وقد روينا فى مسند الإمام أحمد حديثا فيه بشرى لكل مؤمن بأن
__________
(١) سورة آل عمران: ١٦٩.
(٢) حسن: أخرجه أبو داود (٢٥٢٠) فى الجهاد، باب: فى فضل الشهادة، وأحمد فى (مسنده) (١/ ٢٦٥) .
(٣) سورة الحديد: ١٩.
(٤) حسن: أخرجه أحمد فى (مسنده) (١/ ٢٦٦) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٤٦٥٨) ، والحاكم فى (مستدركه) (٢/ ٨٤) ، والطبرانى فى (الأوسط) (١٢٣) ، وفى (الكبير) (١٠/ ٣٣٣) ، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما- بسند حسن.
روحه تكون فى الجنة أيضا وتسرح
فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد اللّه لها من
الكرامة.
قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة
الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعى عن مالك بن أنس عن الزهرى عن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك عن أبيه يرفعه: (نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر
الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه) (١) .
وقوله يعلق، أى يأكل، وفى هذا الحديث أن روح
المؤمن تكون على شكل طائر فى الجنة، وأما أرواح الشهداء ففى حواصل طير خضر، فهى كالراكب بالنسبة
إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل اللّه الكريم المنان أن
يميتنا على الإيمان.
وقد استشهد يوم أحد من المسلمين
سبعون- فيما قاله مغلطاى. وغيره- وقيل خمسة وستون وأربعة من المهاجرين.
وروى ابن منده من حديث أبى بن كعب
قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين
ستة وصححه ابن حبان من هذا الوجه.
وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون
رجلا، وقتل- صلى اللّه عليه وسلم- بيده أبى بن خلف.
وحضرت الملائكة يومئذ، ففى حديث
سعد بن أبى وقاص عند مسلم فى صحيحه: (أنه رأى عن يمين رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما
قبل ولا بعد، يعنى جبريل وميكائيل يقاتلان كأشد القتال) (٢) .
__________
(١) صحيح: أخرجه أحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٥٥) ، وهو عند النسائى (٤/ ١٠٨)
فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وابن ماجة (٤٢٧١) فى الزهد، باب: ذكر القبر والبلى، ومالك فى (موطئه) (١/ ٢٤٠) ، وأحمد فى (مسنده) (٣/ ٤٥٥ و ٤٥٦ و ٤٦٠) .
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٠٥٤) فى المغازى، باب: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ
أَنْ تَفْشَلا وَاللّه وَلِيُّهُما..، ومسلم (٢٣٠٦) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم-، واللفظ له.
وفيه- كما قدمناه فى غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافا لمن
زعمه، كما نص عليه النووى فى شرح مسلم كما قدمته واللّه
أعلم.
ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر
بذلك المنافقون وظهر غش اليهود.
ذكر القاضى عياض فى الشفاء عن القاضى أبى عبد
اللّه بن المرابط من المالكية أنه
قال: من قال إن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- هزم يستتاب فإن تاب وإلا قتل،
لأنه تنقص، إذ لا يجوز ذلك عليه فى خاصته، إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته. انتهى.
وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال
العلامة البساطى من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة، أعنى حكم
الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل انتهى.
وقد كان فى قصة أحد، وما أصيب به
المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة.
منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهى،
لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذى أمرهم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ألايبرحوا منه.
ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العافية، والحكمة فى ذلك
أن لو انتصروا دائما لدخل المسلمين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو
انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز
الصادق من الكاذب. وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيّا عن المسلمين فلما جرت هذه
القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول حتى عاد التلويح تصريحا، وعرف
المسلمون أن لهم عدوّا فى دارهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها: أن فى تأخير النصر فى بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها
فلما ابتلى المسلمون صبروا وجزع المنافقون.
ومنها: أن اللّه تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا
تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.
ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها.
ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها
ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم فى إيذاء أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك
الكافرين.