المستنصر باللّه: أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر اللّه.
ولد في صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأمه جارية تركية.
قال ابن النجار: وبويع بعد موت أبيه في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة فنشر
العدل في الرعايا وبذل الإنصاف في القضايا وقرب أهل العلم والدين وبني المساجد
والربط والمدارس والمارستانات وقام منار الدين وقمع المتمردة ونشر السنن وكف الفتن
وحمل الناس على أقوم سنن وقام بأمر الجهاد أحسن قيام وجمع الجيوش لنصرة الإسلام
وحفظ الثغور وافتتح الحصون.
وقال الموفق عبد اللطيف: بويع أبو جعفر فسار السيرة الجميلة وعمر طرق المعروف
الدائرة وأقام شعار الدين ومنار الإسلام واجتمعت القلوب على محبته والألسن على
مدحه ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معاباً.
وكان جده الناصر يقربه ويسميه القاضي لهداه وعقله وإنكار ما يجده من المنكر.
وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: كان المستنصر راغباً في فعل الخير
مجتهداً في تكثير البر وله في ذلك آثار جميلة وأنشأ المدرسة المستنصرية ورتب فيها
الرواتب الحسنة لأهل العلم.
وقال ابن واصل: بنى المستنصر على دجلة من الجانب الشرقي مدرسة ما بنى على وجه
الأرض أحسن منها ولا أكثر منها وقوفاً وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة وعمل
فيها مارستاناً ورتب فيها مطبخاً للفقهاء ومزملة للماء البارد ورتب لبيوت الفقهاء
الحصر والبسط والزيت والورق والحبر وغير ذلك وللفقيه بعد ذلك في الشهر ديناراً
ورتب لهم حماماً وهو أمر لم يسبق إلى مثله واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها
أبوه ولا جده وكان ذا همة عالية وشجاعة وإقدام عظيم وقصدت التتار البلد فلقيهم
عسكره فهزموا التتار هزيمة عظيمة وكان له أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة وكان
يقول لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون وآخذ البلاد من أيدي التتار واستأصلهم
فلما مات المستنصر لم يرد الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفاً منه وأقاما
ابنه أبا أحمد للينه وضعف رأيه ليكون لهما
الأمر ليقضي اللّه أمراً كان مفعولا من هلاك المسلمين في مدته وتغلب التتار فإنا للّه
وإنا إليه راجعون.
قال الذهبي وقد بلغ ارتفاع وقوف
المستنصرية في العام نيفاً وسبعين ألف مثقال وكان ابتداء عمارتها في سنة خمس
وعشرين وتمت في سنة إحدى وثلاثين ونقل إليها الكتب وهي مائة وستون حملا من الكتب
النفيسة وعدد فقهائها مائتان وثمانية أربعون فقيهاً من المذاهب الأربعة وأربعة
مدرسون وشيخ حديث وشيخ نحو وشيخ طب وشيج فرائض ورتب فيها الخبز والطبيخ والحلاوة
والفاكهة وجعل فيها ثلاثين يتيماً ووقف عليها ما لا يعبر عنه كثرة ثم سرد الذهبي القرى والرباع الموقوفة عليها وقال: وفتحت يوم الخميس في رجب وحضر القضاة والمدرسون
والأعيان وسائر الدولة وكان يوماً مشهوداً.
ومن الحوادث في أيام المستنصر في سنة ثمان وعشرين أمر الملك الأشرف صاحب دمشق
ببناء دار الحديث الأشرفية وفرغت في سنة ثلاثين.
وفي سنة اثنتين وثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلا عن
قراضة الذهب فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة وفرشت الأنطاع وأفرغ
عليها الدراهم وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذا الدراهم
عوضاً عن قراضة الذهب رفقاً بكم وإنقاذاً لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي
فأعلنوا بالدعاء ثم أديرت بالعراق وسعرت كل عشرة بدينار فقال الموفق أبو المعالي
القاسم بن أبي الحديد:
لا عدمنا جميل رأيك فينا ... أنت باعدتنا عن التطفيف
ورسمت اللجين حتى ألفنا ... ه وما كان قبل بالمألوف
ليس للجمع كان منعك للصر ... ف ولكن للعدل والتعريف
وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة ولي قضاء دمشق شمس الدين أحمد الجوني وهو أول قاض رتب مراكز الشهود بالبلد وكان قبل ذلك
يذهب الناس إلى بيوت العدول يشهدونهم.
وفيها مات الإخوان السلطان الأشرف صاحب دمشق والكامل صاحب دمشق والكامل صاحب
مصر بعده بشهرين وتسلطن بمصر ولد الكامل قلامة ولقب العادل ثم خلع وتملك أخوه
الصالح أيوب نجم الدين.
وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة ولي خطابة دمشق الشيخ عز الدين بن عبد السلام
فخطب خطبة عرية من البدع وأزال الأعلام المذهبة وأقام هو عوضها سوداً بأبيض ولم
يؤذن قدامه سوى مؤذن واحد.
وفيها قدم رسول الأمين الذي تملك اليمن نور الدين عمر بن علي بن رسول
التركماني إلى الخليفة يطلب تقليد السلطنة باليمن بعد موت الملك المسعود ابن الملك
الكامل وبقي الملك في بيته إلى سنة خمس وستين وثمانمائة.
وفي سنة تسع وثلاثين وستمائة بنى الصالح صاحب مصر المدرسة التي بين القصرين
والقلعة التي بالروضة ثم أخرب غلمانه القلعة المذكورة سنة إحدى وخمسين وستمائة.
وفي سنة أربعين وستمائة توفي المستنصر يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة ورثاه
الشعراء فمن ذلك قول صفي الدين عبد اللّه بن جميل.
ومن مناقب المستنصر أن الوجيه القيرواني مدحه بقصيدة يقول فيها:
لو كنت في يوم السقيفة حاضراً ... كنت المقدم والإمام الأورعا
فقال له قائل بحضرته: أخطأت قد كان حاضرا العباس جد أمير المؤمنين ولم يكن
المقدم إلا أبو بكر فأقر ذلك المستنصر وخلع على قائل ذلك خلعة وأمر بنفي الوجيه
فخرج إلى مصر حكاها الذهبي.
وممن مات في أيام المستنصر من الأعلام: الإمام أبو القاسم الرافعي والجمال
المصري وابن معزوز النحوي وياقوت الحموي والسكاكي صاحب المفتاح والحافظ أبو الحسن
بن القطان ويحيى بن معطي صاحب الألفية في النحو والموفق عبد اللطيف البغدادي
والحافظ أبو بكر بن نقطة والحافظ عز الدين علي بن الأثير صاحب التاريخ والأنساب
وأسد الغابة وابن عتبي الشاعر والسيف الآمدي وابن فضلان وعمر بن الفارض صاحب
التائية والشهاب السهرودي صاحب عوارف المعارف والبهاء بن شداد وأبو العباس العوفي
صاحب المولد النبوي والعلامة أبو الخطاب بن دحية وأخوه أبو عمرو والحافظ أبو
الربيع بن سالم صاحب الإكتفاء في المغازي وابن الشواء الشاعر والحافظ زكي الدين
البرزالي والجمال الحصري شيخ الحنفية والشمس الجوبي والحراني وأبو عبد اللّه
الزيني وأبو البركات بن المستوفي والضياء بن الأثير صاحب المثل السائر وابن عربي صاحب
الفصوص والكمال ابن يونس شارح التنبيه وخلائق آخرون.