المستعصم باللّه: أبو أحمد عبد اللّه بن
المستنصر باللّه آخر الخلفاء العراقيين.
ولد سنة تسع وستمائة وأمه أم ولد اسمها هاجر وبويع له بالخلافة عند موت أبيه
وأجاز له على يد ابن النجار المؤيد الطوسي وأبو روح الهروي وجماعة وروى عنه بالإجازة جماعة: منهم النجم البادرائي والشرف
الدمياطي وخرج له الدمياطي أربعين حديثاً رأيتها بخطة وكان كريماً حليماً سليم
الباطن حسن الديانة.
قال الشيخ قطب الدين: كان متديناً متمسكاً بالسنة كأبيه وجده ولكنه لم يكن
مثلهما في التيقظ والحزم وعلو الهمة وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في
الشجاعة والشهامة وكان يقول: إن ملكني اللّه الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون
وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم فلما توفي المستنصر لم ير الدويدار والشرابي
والكبار تقليد الخفاجي الأمر وخافوا منه وآثروا المستعصم للينه والقيادة ليكون لهم
الأمر فأقاموه ثم ركن المستعصم إلى زيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي فأهلك الحرث
والنسل ولعب بالخليفة كيف أراد وباطن التتار وناصحهم وأطعمهم في المجيء إلى العراق
وأخذ بغداد وقطع الدولة العباسية ليقيم خليفة من آل علي وصار إذا جاء خبر منهم
كتمه عن الخليفة ويطالع بأخبار الخليفة التتار إلى أن حصل ما حصل.
وفي سنة سبع وأربعين من أيامه أخذت الفرنج دمياط والسلطان الملك الصالح مريض
فمات ليلة نصف شعبان فأخفت جاريته أم خليل المسماة شجرة الدر موته وأرسلت إلى ولده
توران شاه الملك المعظم فحضر ثم لم يلبث أن قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين
وستمائة وثب عليه غلمان أبيه فقتلوه وأمروا عليهم جارية أبيهم شجرة الدر وحلف لها
الأتراك ولنائبها عز الدين أيبك التركماني فشرعت شجرة الدر في الخلع للأمراء
والأعطيات.
ثم استقل عز الدين بالسلطنة في ربيع الآخر ولقب الملك المعز ثم تنصل منها وحلف
العسكر للملك الأشرف بن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الكامل وله ثمان سنين وبقي
عز الدين أتابكه وخطب لهما وضربت السكة باسمهما.
وفي هذه السنة أعني سنة ثمان استردت دمياط من الفرنج.
وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة ظهرت نار في أرض عدن وكان يطير شررها في الليل
إلى البحر ويصعد منها دخان عظيم في النهار.
وفيها أبطل المعز اسم الملك الأشرف واستقل بالسلطنة.
وفي سنة أربع وخمسين ظهرت النار بالمدينة النبوية.
قال أبو شامة: جاءنا كتب من المدينة فيها لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى
الآخرة ظهر بالمدينة دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة فكانت ساعة بعد ساعة إلى خامس الشهر
فظهرت نار عظيمة في الحرة قريباً من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها
عندنا وسالت أودية منها إلى وادي شطا سيل الماء وطلعنا نبصرها فإذا الجبال تسيل
ناراً وسارت هكذا وهكذا بين نارين كأنها الجبال وطار منها شرر كالقصر إلى أن أبصر
ضوءها من مكة ومن الفلاة جميعهما واجتمع الناس كلهم إلى قبر الشريف مستغفرين
تائبين واستمرت هكذا أكثر من شهر.
قال الذهبي: أمر هذه النار متواتر وهي مما
أخبر به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم حيث قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز
تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى في الليل ورأى
أعناق الإبل في ضوئها.
وفي سنة خمس وخمسين وستمائة مات المعز أيبك سلطان مصر قتلته زوجته شجرة الدر
وسلطنوا بعده ولده الملك المنصور على هذا والتتار جائلون في البلاد وشرهم متزايد
ونارهم تستعرة والخليفة والناس في غفلة عما يراد بهم والوزير العلقمي حريص على
إزالة الدولة العباسية ونقلها إلى العلوية والرسل في السر بينه وبين التتار
والمستعصم تائه في لذاته لا يطلع على الأمور ولا له غرض في المصلحة.
وكان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جداً وكان مع ذلك يصانع التتار
ويهادنهم ويرضيهم فلما استخلف المستعصم كان خلياً من الرأي والتدبير فأشار عليه
الوزير بقطع أكثر الجند وأن مصانعة التتار وإكرامهم يحصل به المقصود ففعل ذلك.
ثم إن الوزير كاتب التتار وأطعمهم في البلاد وسهل عليهم ذلك وطلب أن يكون
نائبهم فوعدوه بذلك وتأهبوا لقصد بغداد.
قال الموفق عبد اللطيف في خبر التتار: هو حديث يأكل الأحاديث وخبر يطوي الأخبار وتاريخ ينسي التواريخ ونازلة تصغر كل نازلة وفادحة تطبق الأرض وتملؤها ما بين الطول والعرض وهذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند لأنهم في جوارهم وبينهم وبين مكة أربعة أشهر وهم بالنسبة إلى الترك عراض الوجوه واسعو الصدور خفاف الأعجاز صغار الأطراف سمر الألوان وسريعو الحركة في الجسم والرأي تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم وقلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم لأن الغريب لا يتشبه بهم وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم ونهضوا دفعة واحدة فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه ولا عسكر حتى يخالطوه فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل وتضيق طرق الهرب ونساؤهم يقاتلن كرجالهم والغالب على سلاحهم النشاب وأكلهم أي لحم وجد وليس في قتلهم استثناء ولا إبقاء ويقاتلون الرجال والنساء والأطفال وكان قصدهم إفناء النوع وإبادة العالم لا قصد الملك والمال.
وقال غيره: أرض التتار بأطراف بلاد الصين وهم سكان براري ومشهورون بالشر والغدر. وسبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر وهو ست ممالك ولهم ملك حاكم على الممالك الست وهو القان الأكبر المقيم بطمغاج وهو كالخليفة للمسلمين.
وكان سلطان إحدى الممالك الست وهو دوش خان قد تزوج بعمة جنكزخان فحضر زائراً لعمته وقد مات زوجها وكان قد حضر مع جنكزخان كشلوخان فأعلمتهما أن الملك لم يخلف ولداً وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه فقام وانضم إليه خلق المغول ثم سير التقادم إلى القان الأكبر فاستشاط غيظاً وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت وطردها وقتل الرسل لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة بتملك إنما هم بادية الصين فلما سمع جنكزخان وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد وأظهرا الخلاف للقان وأتتهما أمم كثيرة من التتار وعلم القان قوتهم وشرهم فأرسل يؤانسهم ويظهر مع ذلك أنه ينذرهم ويهددهم فلم يغن ذلك شيئاً ثم قصدهم وقصدوه فوقع بينهم ملحمة عظيمة فكسروا القان الأعظم وملكوا بلاده واستفحل شرهم واستمر الملك بين جنكزخان وكشلوخان على المشاركة.
ثم سار إلى بلاد شاقون من نواحي الصين فملكاها فمات كشلوخان فقام مقامه ولده فاستضعفه جنكزخان فوثب عليه وظفر به واستقل جنكزخان ودانت له التتار وانقادت له واعتقدوا فيه الإلهية وبالغوا في طاعته.
ثم كان أول خروجهم في سنة ست وستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان الذي أباد الملوك وأخذ الممالك وعزم على قصد الخليفة فلم يتهيأ له كما تقدم فأمر أهل فرغانة والشاش وكاسان وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والجفلى إلى سمرقند وغيرها ثم خربها جميعاً خوفاً من التتار أن يملكوها لعلمه أنه لا طاقة له بهم.
ثم صارت التتار يتخطفون ويتنقلون إلى سنة خمس عشرة فأرسل فيها جنكزخان إلى السلطان خوارزم شاه رسلا وهدايا وقال الرسول: إن القان الأعظم يسلم عليك ويقول لك ليس يخفى علي عظم شأنك وما بلغت من سلطانك ونفوذ حكمك على الأقاليم وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات وأنت عندي مثل أعز أولادي وغير خاف عنك أنني تملكت الصين وأنت أخبر الناس ببلادي وأنها مثارات العساكر والخيول ومعادن الذهب والفضة وفيها كفاية عن غيرها فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة وتأمر التجار بالسفر لتعلم المصلحتين فعلت فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه وبشر جنكزخان بذلك واستمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار.
وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر ومعه عشرون ألف فارس فشرهت نفسه إلى أموال التجار وكاتب السلطان يقول إن هؤلاء القوم قد جاءوا بزي التجار وما قصدهم إلا التجسس فإن أذنت لي فيهم فأذن له بالاحتياط عليهم فقبض عليهم وأخذ أموالهم فوردت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول إنك أعطيت أمانك التجار فغدرت والغدر قبيح وهو من سلطان الإسلام أقبح فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا وإلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به فحصل عند خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله فتجلد وأمر بقتل الرسل فقتلوا.
فيا لها من حركة لما أهدرت من دماء المسلمين وأجرت بكل نقطة سيلا من الدم.
ثم سار جنكزخان إليه فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور ثم ساق إلى برج همذان رعباً من التتار فأحدق به العدو فقتلوا كل من معه ونجا هو بنفسه فخاض الماء إلى جزيرة ولحقته علة ذات الجنب فمات بها وحيداً فريداً وكفن في شاش فراش كان معه وذلك في سنة سبع عشرة وملكوا جميع مملكة خوارزم شاه.
قال سبط ابن الجوزي: كان أول ظهور التتار بما وراء النهر سنة خمس عشرة فأخذوا بخارى وسمرقند وقتلوا أهلها وحاصروا خوارزم شاه ثم بعد ذلك عبروا النهر وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان فلم تجد التتار أحداً في وجههم فطاروا في البلاد قتلا وسبياً وساقوا إلى أن وصلوا همذان وقزوين في هذه السنة.
وقال ابن الأثير في كامله: حادثة التتار من الحوادث العظمى والمصائب الكبرى التي عقمت الدهور عن مثلها وعمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل إن العالم منذ خلقه اللّه تعالى إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها.
ومن أعظم ما يذكرون فعل بختنصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا؟.
فهذه الحادثة التي استطار شرها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاد شاغرق ثم منها إلى بخارى وسمرقند فيملكونها ويبيدون أهلها ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها هلكاً وتخريباً وقتلا وإبادة وإلى الري وهمذان إلى حد العراق ثم يقصدون أذربيجان ونواحيها ويخربونها ويستبيحونها في أقل من سنة أمر لم يسمع بمثله ثم ساروا من أذربيجان إلى دربند شروان فملكوا مدنها وعبروا من عندها إلى بلاد اللان واللكز فقتلوا وأسروا ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم أكثر من الترك عدداً فقتلوا من وقف وهرب الباقون واستولى التتار عليها.
ومضت طائفة أخرى غير هؤلاء إلى غزة وأعمالها وسجستان وكرمان ففعلوا مثل هؤلاء بل أشد.
هذا لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة وإنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحداً وإنما رضي بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأعمره في نحو سنة ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه.
ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة ومددهم يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل يأكلون لحومها ولا غير.
وأما خيلهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تعرف الشعير.
وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئاً ويأكلون جميع الدواب وبني آدم ولا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد.
ولما دخلت سنة ست وخمسين وصل التتار إلى بغداد وهم مائتا ألف ويقدمهم هلاكو فخرج إليهم عسكر الخليفة فهزم العسكر.
ودخلوا بغداد يوم عاشوراء فأشار الوزير لعنه اللّه على المستعصم بمصانعتهم وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح فخرج وتوثق بنفسه منهم وورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يريد إلا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع سلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه فليجيب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد والرأي أن تخرج إليه فخرج إليه في جمع من الأعيان فأنزل في خيمة.
ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم وصار كذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار.
ثم مد الجسر وبذل السيف في بغداد واستمر القتال فيها نحو أربعين يوماً فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف نسمة ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة وقتل الخليفة رفساً.
قال الذهبي: وما أظنه دفن وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وأسر بعضهم وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها ولم يتم للوزير ما أراد وذاق من التتار الذل والهوان ولم تطل أيامه بعد ذلك وعملت الشعراء قصائد في مراثي بغداد وأهلها وتمثل بقول سبط التعاويذي:
بادت وأهلوها معاً فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب
وقال بعضهم:
يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ... حزناً على ما تم للمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي
وكان آخر خطبة ببغداد قال الخطيب في أولها: الحمد للّه الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وحكم بالفناء على أهل هذه الدار هذا والسيف قائم بها.
ولتقي الدين بن أبى اليسر قصيدة مشهورة في بغداد وهي هذه:
لسائل الدمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ... فما بذاك الحمى والدار ديار
تاج الخلافة والربع الذي شرفت ... به المعالم قد عفاه إقفار
أضحى لعصف البلى في ربعه أثر ... وللدموع على الآثار آثار
يا نار قلبي من نار لحرب وغى ... شبت عليه ووافى الربع إعصار
علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنار
وكم حريم سبته الترك غاصبة ... وكان من دون ذاك الستر أستار
وكم بدور على البدرية انخسفت ... ولم يعد لبدور منه إبدار
وكم ذخائر أضحت وهي شائعة ... من النهاب وقد حازته كفار
وكم حدود أقيمت من سيوفهم ... على الرقاب وحطت فيه أوزار
ناديت والسبي مهتوك تجربهم ... إلى السفاح من الأعداد دعار
ولما فرغ هلاكو من قتل الخليفة وأهل بغداد وأقام على العراق نوابه وكان ابن العلقمي حسن لهم أن يقيموا خليفة علوياً فلم يوافقوه واطرحوه وصار معهم في صورة بعض الغلمان ومات كمداً لا رحمه اللّه ولا عفا عنه.
ثم أرسل هلاكو إلى الناصر صاحب دمشق كتاباً صورته يعلم السلطان الملك الناصر طال بقاؤه أنه لما توجهنا إلى العراق وخرج إلينا جنودهم فقتلناهم بسيف اللّه ثم خرج إلينا رؤوساء البلد ومقدموها فكان قصارى كلامهم سبباً لهلاك نفوس تستحق الإهلاك وأما ما كان من صاحب البلدة فإنه خرج إلى خدمتنا ودخل تحت عبوديتنا فسألناه عن أشياء كذبنا فيها فاستحق الإعدام وكان كذبه ظاهراً ووجدوا ما عملوا حاضراً أجب ملك البسيطة ولا تقولن: قلاعي المانعات ورجالي المقاتلات وقد بلغنا أن شذرة من العسكر التجأت إليك هاربة وإلى جنابك لائذة:
أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء
فساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضاً وطولها عرضاً والسلام.
ثم أرسل له كتاباً ثانياً يقول فيه خدمة ملك ناصر طال عمره أما بعد فإنا فتحنا بغداد واستأصلنا ملكها وملكها وكان قد ظن وقد فتن الأموال ولم ينافس الرجال أن ملكه يبقى على ذلك الحال وقد علا ذكره ونمى قدره فخسف في الكمال بدره:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم
ونحن في طلب الازدياد على ممر الآباد فلا تكن كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم وأبد ما في نفسك: إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره وتنل بره واسع إليه بأموالك ورجالك ولا تعوق رسلنا والسلام.
ثم أرسل إليه كتاباً ثالثاً يقول فيه أما بعد فنحن جنود اللّه بنا ينتقم ممن عتا وتجبر وطغى وتكبر وبأمر اللّه ما ائتمر وإن عوتب تنمر وإن روجع استمر ونحن قد أهلكنا البلاد وأبدنا العباد وقتلنا النسوان والأولاد فيا أيها الباقون أنتم بمن مضى لاحقون ويا أيها الغافلون أنتم إليهم تساقون ونحن جيوش الهلكة لا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام وملكنا لا يرام ونزيلنا لا يضام وعدلنا في ملكنا قد اشتهر ومن سيوفنا أين المفر:
أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والخلفاء
ونحن إليكم صائرون ولكم الهرب وعلينا الطلب:
ستعلم ليلى أي دين تداينت؟ ... وأي غريم بالتقاضي غريمها؟
دمرنا البلاد وأيتمنا الأولاد وأهلكنا العباد وأذقناهم العذاب وجعلنا عظيمهم صغيراً وأميرهم أسيراً وتحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون وعن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون وقد أعذر من أنذر.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين والدنيا بلا خليفة.
وفيها نزل التتار على آمد وكان صاحب مصر المنصور علي بن المعز صبياً وأتابكه الأمير سيف الدين قطز المعزي مملوك أبيه وقدم الصاحب كمال الدين ابن العديم إليهم رسولا يطلب النجدة على التتار فجمع قطز الأمراء والأعيان فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكان المشار إليه في الكلام فقال الشيخ عز الدين إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا ثم بعد أيام يسيرة قبض قطز على ابن أستاذه المنصور وقال هذا صبي والوقت صعب ولا بد من أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد وتسلطن قطز ولقب بالملك المظفر.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين والوقت أيضاً بلا خليفة.
وفيها قطع التتار الفرات ووصلوا إلى حلب وبذلوا السيف فيها ثم وصلوا إلى دمشق وخرج المصريون في شعبان متوجهين إلى الشام لقتال التتار فأقبل المظفر بالجيوش وشاليشه ركن الدين بيبرس البندقداري فالتقوا هم والتتار عند عين جالوت ووقع المصاف وذلك يوم الجمعة خامس عشر رمضان فهزم التتار شر هزيمة وانتصر المسلمون وللّه الحمد وقتل من التتار مقتلة عظيمة وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطفونهم وينهبونهم وجاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر فطار الناس فرحاً ثم دخل المظفر إلى دمشق مؤيداً منصوراً وأحبه الخلق غاية المحبة وساق بيبرس وراء التتار إلى بلاد حلب وطردهم عن البلاد ووعده السلطان بحلب ثم رجع عن ذلك فتأثر بيبرس من ذلك وكان ذلك مبدأ الوحشة وكان المظفر عزم على التوجه إلى حلب لينظف آثار البلاد من التتار فبلغه أن بيبرس تنكر له وعمل عليه فصرف وجهه عن ذلك ورجع إلى مصر وقد أضمر الشر لبيبرس وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع على ذلك بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبه فاتفق بيبرس وجماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق في ثالث عشر شهر ذي القعدة وتسلطن بيبرس ولقب بملك القاهرة ودخل مصر وأزال عن أهلها ما كان المظفر قد أحدثه عليهم من المظالم وأشار عليه الوزير زين الملة والدين ابن الزبير بأن يغير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح: لقب به القاهر بن المعتضد فخلع بعد قليل وسمل ولقب به القاهر ابن صاحب الموصل فسم فأبطل السلطان هذا اللقب وتلقب بالملك الظاهر.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين والوقت أيضاً بلا خليفة إلى رجب فأقيمت بمصر الخلافة وبويع المستنصر كما سنذكره وكان مدة انقطاع الخلافة ثلاث سنين ونصف.
وممن مات في أيام المستعصم من الأعلام: الحافظ تقي الدين الصريفيني والحافظ أبو القاسم بن الطيلسان وشمس الأئمة الكردي من كبار الحنفية والشيخ تقي الدين ابن الصلاح والعلم السخاوي والحافظ محب الدين بن النجار مؤرخ بغداد ومنتخب الدين شارح المفصل وابن يعيش النحوي وأبو الحجاب الأقصري الزاهد وأبو علي الشلوبيني النحوي وابن البيطار صاحب المفردات والعلامة جمال الدين بن الحاجب إمام المالكية وأبو الحسن بن الديباج النحوي والقفطي صاحب تاريخ النحاة وأفضل الدين الخونجي صاحب المنطق والأزدي والحافظ يوسف بن خليل والبهاء ابن بنت الحميري والجمال بن عمرون النحوي والرضي الصغاني اللغوي صاحب العباب وغيره والكمال عبد الواحد الزملكاني صاحب المعاني والبيان وإعجاز القرآن والشمس الخسرو شاهي والمجد ابن تيمية ويوسف سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان وابن باطيش من كبار الشافعية والنجم البادرائي وابن أبي الفضل المرسي صاحب التفسير وخلائق آخرون.
ومات في مدة انقطاع الخلافة من الأعلام: الزكي عبد العظيم المنذري والشيخ أبو
الحسن الشاذلي شيخ الطائفة الشاذلية وشعبة المقرئ والفاسي شارح الشاطبية وسعد
الدين بن العزي الشاعر والصرصري الشاعر وابن الأبار مؤرخ الأندلس وآخرون.