العناية
شرح الهداية
بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا) (وَمَنْ تَكَلَّمَ
فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ،
وَمَفْزَعُهُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَدَمُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ
لَمَّا تَعَيَّنَ صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ
الْكُلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي خَاصَّةً
وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ مُسْتَخْلِفًا لَا
حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا لِمَا ذَكَرْنَا بَقِيَ الْإِمَامُ مُنْفَرِدًا
فَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي لِخُلُوِّ
مَكَانِ إمَامِهِ عَنْ الْإِمَامَةِ
[بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَمَا
يُكْرَهُ فِيهَا]
هَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ فِي الصَّلَاةِ
بِاخْتِيَارِ الْمُصَلِّي فَكَانَتْ مُكْتَسَبَةً، وَأَخَّرَهُ عَمَّا
تَقَدَّمَ لِكَوْنِهَا سَمَاوِيَّةً (وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ
عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
تَفْسُدُ فِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ إلَّا إذَا طَالَ الْكَلَامُ)
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ لِعَدَمِ
التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَالسَّهْوُ مَا
يَتَنَبَّهُ صَاحِبُهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ، وَالْخَطَأُ مَا لَا
يَنْتَبِهُ بِالتَّنْبِيهِ أَوْ يَتَنَبَّهُ بَعْدَ إتْعَابٍ،
وَالنِّسْيَانُ هُوَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُدْرِكُ مِنْ الْخَيَالِ عَلَى مَا
عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ (وَمَفْزَعُهُ) أَيْ مَلْجَؤُهُ (الْحَدِيثُ
الْمَعْرُوفُ) وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ حَقِيقَتَهُمَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ
لِوُجُودِهِمَا بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْإِفْسَادُ
مَرْفُوعًا (وَلَنَا) حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ «صَلَّيْت
خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَطَسَ
بَعْضُ الْقَوْمِ فَقُلْت يَرْحَمُك اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ
بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْت: وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَالِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ
إلَيَّ شَزْرًا؟ فَضَرَبُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَعَلِمْت
أَنَّهُمْ يُسْكِتُونَنِي، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ دَعَانِي،
فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ مَا
كَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قَالَ إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا
يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» الْحَدِيثَ.
جَعَلَ
(1/395)
وَإِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ
وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى
رَفْعِ الْإِثْمِ. بِخِلَافِ السَّلَامِ سَاهِيًا لِأَنَّهُ مِنْ
الْأَذْكَارِ فَيُعْتَبَرُ ذِكْرًا فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ وَكَلَامًا
فِي حَالَةِ التَّعَمُّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَدَمَ الْكَلَامِ فِيهَا مِنْ حَقِّهَا كَمَا جَعَلَ وُجُودَ الطَّهَارَةِ
فِيهَا مِنْ حَقِّهَا، فَكَمَا لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ لَا
يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْكَلَامِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا. فَإِنْ قِيلَ:
لَوْ كَانَ مُفْسِدًا لَأَمَرَ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ. قُلْنَا:
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالنَّفْيِ وَهُوَ بَاطِلٌ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ
الْعِلْمَ بِالنَّسْخِ شَرْطٌ وَلَمْ يَكُنْ فَلَمْ يَأْمُرْهُ
بِالْإِعَادَةِ كَمُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ. وَقَوْلُهُ: (وَمَا رَوَاهُ
مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ
بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حُكْمَ الْآخِرَةِ وَهُوَ
الْإِثْمُ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ الدُّنْيَا
مُرَادًا وَإِلَّا لَزِمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْمُقْتَضِي.
وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَقَوْلُهُ:
(بِخِلَافِ السَّلَامِ سَاهِيًا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ السَّلَامُ
كَالْكَلَامِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ. وَفِي السَّلَامِ
يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ كَالْكَلَامِ (لِأَنَّهُ مِنْ
الْأَذْكَارِ) إذْ الْمُتَشَهِّدُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْكَلَامِ بِكَافِ الْخِطَابِ،
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْخِطَابِ فِيهِ عِنْدَ الْقَصْدِ،
فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا أَلْحَقْنَاهُ بِالْأَذْكَارِ، وَإِذَا كَانَ
عَامِدًا أَلْحَقْنَاهُ بِالْكَلَامِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، بِخِلَافِ
الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يُنَافِي الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ
مُبْطِلًا لَهَا كَذَلِكَ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَفْعَالٍ تُنَافِي الصَّلَاةَ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا غَيْرُ
مُفْسِدٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ قَلِيلِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، إذْ فِي
الْحَيِّ حَرَكَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا تُفْسِدُ
حَتَّى تَدْخُلَ فِي حَيِّزِ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ
الْكَثِيرُ، وَلَيْسَ فِي الْحَيِّ كَلَامٌ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ
الِاحْتِرَازُ
(1/396)
(فَإِنْ أَنَّ فِيهَا أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ
بَكَى فَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ
النَّارِ لَمْ يَقْطَعْهَا) لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ
(وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ قَطَعَهَا) لِأَنَّ فِيهِ
إظْهَارُ الْجَزَعِ وَالتَّأَسُّفِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. وَعَنْ
أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَهُ آهٍ لَا يُفْسِدُ فِي
الْحَالَيْنِ وَأُوهِ يُفْسِدُ.
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى
حَرْفَيْنِ وَهُمَا زَائِدَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ
كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ تَفْسُدُ. وَحُرُوفُ الزَّوَائِدِ جَمَعُوهَا فِي
قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَنْهُ فَاسْتَوَى الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَنَّ فِيهَا أَوْ تَأَوَّهَ) الْأَنِينُ: صَوْتُ
الْمُتَوَجِّعِ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ آهٍ، وَالتَّأَوُّهُ أَنْ
يَقُولَ أَوْهٌ، وَارْتِفَاعُ الْبُكَاءِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ حُرُوفٌ،
وَكُلُّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ،
أَوْ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ
يَقْطَعْهَا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَإِنْ كَانَ
الثَّانِيَ قَطَعَهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْجَزَعِ وَالْمُصِيبَةِ،
فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى أَمْرٍ، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ
عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَرِيحٌ يُخَالِفُهَا، وَلَوْ
صَرَّحَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي
أَسَالِكُ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَوْ
صَرَّحَ بِإِظْهَارِ الْوَجَعِ فَقَالَ إنِّي مُصَابٌ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ،
فَكَذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ صَرِيحٌ يُخَالِفُهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ آهٍ لَمْ تَفْسُدْ فِي
الْحَالَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ، أَوْ
مِنْ وَجَعٍ وَمُصِيبَةٍ وَأَوْهٌ تُفْسِدُ.
وَقِيلَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى
حَرْفَيْنِ وَهُمَا زَائِدَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا لَا تُفْسِدُ، وَإِنْ
كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ تُفْسِدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كَلَامِ
الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى حَرْفٍ يُبْتَدَأُ بِهِ
وَحَرْفٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ وَحَرْفٌ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، فَالْحَرْفُ
الْوَاحِدُ أَقَلُّ الْجُمْلَةِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَلَامِ،
وَالْحَرْفَانِ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ الزَّوَائِدِ كَذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ نَظَرَ إلَى
(1/397)
وَهَذَا لَا يَقْوَى لِأَنَّ كَلَامَ
النَّاسِ فِي مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ يَتْبَعُ وُجُودَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ
وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حُرُوفٍ كُلُّهَا
زَوَائِدُ
(وَإِنْ تَنَحْنَحَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا
إلَيْهِ (وَحَصَلَ بِهِ الْحُرُوفُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ عِنْدَهُمَا،
وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَهُوَ عَفْوٌ كَالْعُطَاسِ) وَالْجُشَاءِ إذَا
حَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْأَصْلِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ
فَقَدْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَالْحُرُوفُ
الزَّوَائِدُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلُّ زَائِدٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ
مِنْهَا لَا عَكْسَهُ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ،
وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: آهٍ لَا تُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ
الزَّوَائِدِ، وَأَوْهٌ تُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى حَرْفَيْنِ
فَإِنَّهُ فِي الزَّوَائِدِ عَلَى حَرْفَيْنِ لَا يُنْظَرُ إلَى
الْأَصَالَةِ وَالزِّيَادَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا لَا يَقْوَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ
الْمُفْسِدُ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِي مُتَفَاهِمِ الْعُرْفِ يَتَّبِعُ
وُجُودَ الْهِجَاءِ وَإِفْهَامَ الْمَعْنَى وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي
حُرُوفٍ كُلِّهَا زَوَائِدَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنَّك إذَا قُلْت
أَنْتُمْ الْيَوْمَ سَأَلْتُمُونِيهَا فَإِنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ
وَفِعْلٌ وَفَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِهِ وَمَفْعُولٌ فِيهِ وَكُلُّهَا مِنْ
حُرُوفِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ مُفْسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ. قُلْت: هَذَا لَا
يَرِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْحَرْفَيْنِ لَا فِي الزَّائِدِ
عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِمَا قَوْلَهُ كَقَوْلِهِمَا
وَتَابَعَهُ الشَّارِحُونَ، وَأَقُولُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي حُرُوفٍ
كُلِّهَا زَوَائِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ فِيهِ
التَّثْنِيَةَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ كَلَامَ النَّاسِ
فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ وُجُودِ الْهِجَاءِ وَإِفْهَامِ الْمَعْنَى،
وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ حَرْفَانِ مِنْ حُرُوفِ
الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ كَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيَكُونُ
مُفْسِدًا.
(وَإِنْ تَنَحْنَحَ) وَحَصَلَ بِهِ حُرُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِعُذْرٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ
مَدْفُوعًا إلَيْهِ: أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ
الِامْتِنَاعُ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ
(1/398)
(وَمَنْ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ
يَرْحَمُك اللَّهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ
يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ، بِخِلَافِ
مَا إذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوْ السَّامِعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا
قَالُوا لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا
(وَإِنْ اسْتَفْتَحَ فَفَتْحَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
تُفْسِدُ عِنْدَهُمَا. قِيلَ إنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ
الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ التَّنَحْنُحُ لِإِصْلَاحِ
الصَّوْتِ لِلْقِرَاءَةِ، فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَا تُفْسِدُ؛
لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ مَعْنًى، كَالْمَشْيِ
لِلْبِنَاءِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ صَارَ مِنْ
الصَّلَاةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ فِي
الْمُحِيطِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُوعًا إلَيْهِ فِي التَّنَحْنُحِ
إلَّا أَنَّهُ فَعَلَ لِإِصْلَاحِ الْحَلْقِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ
الْقِرَاءَةِ إنْ ظَهَرَ لَهُ حُرُوفٌ كَقَوْلِهِ " أُحْ أُحْ "
وَتَكَلَّفَ لِذَلِكَ كَانَ الْفَقِيهُ إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ يَقُولُ:
يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهَا حُرُوفُ هِجَاءٍ، وَفِيهِ
نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، وَلَا
وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ
كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَهُمَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَحَصَلَ
بِهِ حُرُوفٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَمَذْهَبُهُ حِينَئِذٍ كَمَذْهَبِهِمَا
كَمَا مَرَّ فَلَا وَجْهَ لِإِفْرَادِهِمَا بِالذِّكْرِ، فَإِنْ حُمِلَ
الْجَمْعُ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى التَّنْبِيهِ انْدَفَعَ النَّظَرُ
الثَّانِي، وَيُقَالُ فِي دَفْعِ الْأَوَّلِ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ
نَقْلٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا
فَقَالَ يَنْبَغِي وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ عَفْوٌ: أَيْ مَعْفُوٌّ
كَالْعُطَاسِ وَالْجُشَاءُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَإِنْ
حَصَلَ بِهِ حُرُوفُ هِجَاءٍ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ عَطَسَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ يَرْحَمُك اللَّهُ وَهُوَ)
أَيْ الْقَائِلُ (فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي
فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ
بِقَوْلِهِ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَهُ الْعَاطِسُ بِنَفْسِهِ لَا
تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَرْحَمُنِي اللَّهُ
وَبِهِ لَا تَفْسُدُ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ (بِخِلَافِ
مَا إذَا قَالَ الْعَاطِسُ أَوْ السَّامِعُ الْحَمْدُ لِلَّهِ) فَإِنَّهُ
لَا يُفْسِدُ (عَلَى مَا قَالُوا) وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى
خِلَافِ الْبَعْضِ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ الْعَاطِسَ يَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ، فَإِنْ
حَرَّكَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ
لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ اسْتَفْتَحَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ) الِاسْتِفْتَاحُ طَلَبُ
الْفَتْحِ وَالِاسْتِنْصَارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ
قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} [البقرة: 89] أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَاهُنَا مُرَادًا وَالِاسْتِفْتَاحُ
أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَذَلِكَ؛
لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِحَ وَالْفَاتِحَ إمَّا أَنْ يَكُونَا فِي الصَّلَاةِ
وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، أَوْ يَكُونَا فِيهَا، أَوْ يَكُونُ
الْمُسْتَفْتِحُ فِيهَا دُونَ الْفَاتِحِ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ،
فَإِنْ كَانَا فِي الصَّلَاةِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ
مُتَّحِدَةً بِأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفْتِحُ إمَامًا وَالْفَاتِحُ
مَأْمُومًا أَوْ لَا يَكُونُ،
(1/399)
فِي صَلَاتِهِ تَفْسُدُ) وَمَعْنَاهُ أَنْ
يَفْتَحَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ
وَتَعَلُّمٌ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ، ثُمَّ شَرَطَ
التَّكْرَارَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ
فَيُعْفَى الْقَلِيلُ مِنْهُ، وَلَمْ يُشْرَطْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
لِأَنَّ الْكَلَامَ بِنَفْسِهِ قَاطِعٌ وَإِنْ قَلَّ (وَإِنْ فَتَحَ عَلَى
إمَامِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُفْسِدًا) اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ
مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ
مَعْنًى (وَيَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى إمَامِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ) هُوَ
الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا
(وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى تَفْسُدُ صَلَاةُ
الْفَاتِحِ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ) لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ
لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي
لِلْمُقْتَدِي أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ لَا
يُلْجِئَهُمْ إلَيْهِ بَلْ يَرْكَعَ إذَا جَاءَ أَوَانُهُ أَوْ يَنْتَقِلَ
إلَى آيَةٍ أُخْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَفِي الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (؛ لِأَنَّهُ
تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) قَالَ فِي
الْأَصْلِ: إذَا فَتَحَ غَيْرُ مَرَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَفِيهِ
إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ لَا تَفْسُدُ.
قَالَ (؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَيُعْفَى الْقَلِيلُ
مِنْهُ وَلَمْ يَشْرِطْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) التَّكْرَارَ (لِأَنَّ
الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ قَاطِعٌ وَإِنْ قَلَّ) قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ،
وَفِي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ كَلَامًا اسْتِحْسَانًا، إمَّا بِالْأَثَرِ
وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ
مِنْهَا كَلِمَةً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ؟ فَقَالَ بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلَّا
فَتَحْتَ عَلَيَّ، فَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَوْ نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ» وَإِمَّا
بِمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ
صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنَى. ثُمَّ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَنْوِي الْفَتْحَ عَلَى
إمَامِهِ أَوْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْوِي
بِالْفَتْحِ التِّلَاوَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْوِي الْفَتْحَ دُونَ
التِّلَاوَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (هُوَ الصَّحِيحُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ
الْأَوَّلَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ رُخِّصَ لَهُ فِي
الْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ وَمُنِعَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَدَعُ مَا
رُخِّصَ لَهُ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ
يَفْتَحَ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ فَإِنَّهُ يَنْوِي الْقِرَاءَةَ دُونَ
التَّعْلِيمِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ
مَا إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ
وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَقْرَأْ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِيَارًا
مِنْهُ لِلصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ إذَا فَتَحَ بَعْدَمَا قَرَأَ ذَلِكَ صَحَّ
وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَإِنْ فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ
لَمْ يَكُنْ كَلَامًا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى إصْلَاحِ
صَلَاتِهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ مَعْنًى، وَيَنْوِي
الْفَتْحَ عَلَى إمَامِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ
مُرَخَّصٌ فِيهِ وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ
انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَاتِحِ وَصَلَاةُ
الْإِمَامِ أَيْضًا إنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ
وَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ) وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ
الْمَشَايِخِ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا تَفْسُدُ (وَيَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَلَّا
يَعْجَلَ بِالْفَتْحِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَلَّا يُلْجِئَهُمْ
إلَيْهِ) بِأَنْ يُرَدِّدَ الْآيَةَ أَوْ يَقِفَ سَاكِتًا (بَلْ يَرْكَعُ
إذَا جَاءَ أَوَانُهُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى آيَةٍ أُخْرَى)
(1/400)
(وَلَوْ أَجَابَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ
بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا كَلَامٌ مُفْسِدٌ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ مُفْسِدًا) وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا
إذَا أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ. لَهُ أَنَّهُ ثَنَاءٌ بِصِيغَتِهِ فَلَا
يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَتِهِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ
مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ فَيُجْعَلُ جَوَابًا
كَالتَّشْمِيتِ وَالِاسْتِرْجَاعِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ (وَإِنْ
أَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ بِالْإِجْمَاعِ)
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَابَتْ
أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْأَوَانَ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِيهِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الِاسْتِحْبَابَ فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ
إذَا أُرْتِجَ أَنْ يَتَجَاوَزَ إلَى سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ يَرْكَعَ إذَا
كَانَ قَرَأَ الْمُسْتَحَبَّ صِيَانَةً لِلصَّلَاةِ عَنْ الزَّوَائِدِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْفَرْضَ فَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَتَرَدَّدَ فَيُلْجِئَ الْقَوْمَ أَنْ يَفْتَتِحُوا عَلَيْهِ إذَا كَانَ
قَرَأَهُ مِقْدَارَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ، وَإِذَا كَانَ
الْمُسْتَفْتِحُ وَحْدَهُ فِي الصَّلَاةِ وَفَتَحَ عَلَيْهِ الْخَارِجُ
وَأَخَذَ مِنْهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّنِ
وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ، فَإِنْ نَوَى تَعْلِيمَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ،
وَإِنْ نَوَى قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَمْ تَفْسُدْ، وَاشْتِرَاطُ
التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ قَدْ مَرَّ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَجَابَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ) إذَا قِيلَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَخْلُو، إمَّا أَنَّهُ أَرَادَ
جَوَابَهُ أَوْ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ثَنَاءٌ
بِصِيغَتِهِ: أَيْ بِمَا وُضِعَ لَهُ صِيغَتُهُ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ
لَا يَتَغَيَّرُ بِعَزِيمَةِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا إذَا أَرَادَ بِهِ
إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ
الثَّنَاءَ وَالْجَوَابَ فَكَانَ كَالْمُشْتَرَكِ، وَالْمُشْتَرَكُ يَجُوزُ
تَعْيِينُ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ بِالْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ كَالتَّشْمِيتِ
فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ ذِكْرٌ بِصِيغَتِهِ وَيَحْتَمِلُ الْخِطَابَ،
وَقَدْ أَلْحَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِكَلَامِ النَّاسِ حِينَ قَصَدَ بِهِ خِطَابَ الْعَاطِسِ. فَإِنْ قِيلَ:
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
فِي جَوَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى الدُّخُولِ وَهُوَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ
آمِنِينَ} [الحجر: 46] أَرَادَ جَوَابَهُ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. قِيلَ
أَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّهُ انْتَهَى بِالْقِرَاءَةِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَقِيَاسُهُ عَلَى
إرَادَةِ الْإِعْلَامِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى مَا
نَذْكُرُ، وَإِذَا قِيلَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاتَ فُلَانٌ فَقَالَ
إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَائِلُ لَا
يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ فَارِقٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ
هُوَ عَلَى الْوِفَاقِ: يَعْنِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَافَقَهُمَا فِي
أَنَّ الِاسْتِرْجَاعَ مُفْسِدٌ، وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ
(1/401)
(وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ
ثُمَّ افْتَتَحَ الْعَصْرَ أَوْ التَّطَوُّعَ فَقَدْ نَقَضَ الظُّهْرَ)
لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي غَيْرِهِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ (وَلَوْ
افْتَتَحَ الظُّهْرَ بَعْدَمَا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً فَهِيَ هِيَ
وَيَتَجَزَّأُ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ) لِأَنَّهُ نَوَى الشُّرُوعَ فِي
عَيْنِ مَا هُوَ فِيهِ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ وَبَقِيَ الْمَنْوِيُّ عَلَى
حَالِهِ
(وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا هِيَ تَامَّةٌ) لِأَنَّهَا
عِبَادَةٌ انْضَافَتْ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الِاسْتِرْجَاعَ لِإِظْهَارِ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ
لِأَجْلِهِ وَالتَّهْلِيلُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةُ
شُرِعَتْ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَفْسُدْ بِالْإِجْمَاعِ
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَابَتْ
أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ
لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ» .
قَوْلُهُ: (وَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ) يَعْنِي إذَا صَلَّى
رَجُلٌ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ ثُمَّ افْتَتَحَ افْتِتَاحًا ثَانِيًا فَلَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى أَوْ غَيْرَهَا،
فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ نَقَضَ الْأُولَى وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ
الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي
حَقِّ غَيْرِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْأُولَى فَتَبْطُلُ،
وَإِنْ كَانَتَا فَرْضَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي
صَاحِبَ تَرْتِيبٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ وَقَعَتْ الثَّانِيَةُ نَفْلًا،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَتْ فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهِيَ
الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ ثَانِيًا فَقَدْ لَغَتْ نِيَّتُهُ وَبَقِيَ
الْمَنْوِيُّ الْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَحْصِيلَ
الْحَاصِلِ وَيَكُونُ مَا صَلَّى مِنْ الْأُولَى مَحْسُوبًا حَتَّى لَوْ
صَلَّى بَعْدَهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلَوْ
صَلَّى أَرْبَعًا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْأُولَى انْتَقَضَتْ وَلَمْ يَقْعُدْ
فِي الثَّالِثَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْقَعْدَةَ
الْأَخِيرَةَ. وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ هَذَا إذَا نَوَى
بِقَلْبِهِ، أَمَّا إذَا نَوَى بِلِسَانِهِ وَقَالَ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ
الظُّهْرَ انْتَقَضَ مَا صَلَّى وَلَا يُجْتَزَأُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ مِنْ الْمُصْحَفِ) قَيْدُ
الْإِمَامِ اتِّفَاقِيٌّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُنْفَرِدِ كَذَلِكَ. قِيلَ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى
تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ، فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي
الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ
وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا قَرَأَ مِقْدَارَ
آيَةٍ تَامَّةٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ قِرَاءَةً،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا قَرَأَ مِقْدَارَ الْفَاتِحَةِ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ عِنْدَهُ فِي الْإِفْسَادِ
سَوَاءٌ، وَعِنْدَهُمَا فِي عَدَمِهِ سَوَاءٌ فَلِهَذَا أَطْلَقَهُ فِي
الْكِتَابِ (لَهُمَا أَنَّهَا) أَيْ الْقِرَاءَةَ (عِبَادَةٌ) وَهُوَ
وَاضِحٌ (انْضَافَتْ) أَيْ انْضَمَّتْ (إلَى عِبَادَةٍ) وَهُوَ النَّظَرُ
فِي الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أَعْطُوا
(1/402)
(إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ
تَشَبُّهٌ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ
الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّهُ تَلَقُّنٌ مِنْ الْمُصْحَفِ
فَصَارَ كَمَا إذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ
بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ،
وَلَوْ نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ وَفَهِمَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا
تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَأُ
كِتَابَ فُلَانٍ حَيْثُ يَحْنَثُ بِالْفَهْمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَالِكَ الْفَهْمُ، أَمَّا فَسَادُ
الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَعْيُنَكُمْ مِنْ الْعِبَادَةِ حَظَّهَا قِيلَ وَمَا حَظُّهَا مِنْ
الْعِبَادَةِ؟ قَالَ: النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ» ، وَالْعِبَادَةُ
الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّتْ إلَى أُخْرَى
(إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِصَنِيعِ أَهْلِ
الْكِتَابِ) وَنَحْنُ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهَا فِيمَا لَنَا
مِنْهُ بُدٌّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ
فِيهِ وَتَمْيِيزَ حَرْفٍ عَنْ حَرْفٍ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ
كَثِيرٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ لَا مَحَالَةَ؛ وَلِأَنَّهُ تَلَقُّنٌ مِنْ
الْمُصْحَفِ وَهُوَ كَالتَّلَقُّنِ مِنْ غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ
بِحَاصِلٍ عِنْدَهُ، وَالتَّلَقُّنُ مِنْ الْغَيْرِ مُفْسِدٌ لَا مَحَالَةَ
فَكَذَا مِنْ الْمُصْحَفِ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي
(لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ فِي مَكَان وَالْمَحْمُولِ) ؛
لِأَنَّهُمَا فِي التَّلَقُّنِ سَوَاءٌ (وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ)
؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهِ الْحَمْلُ، فَإِذَا فَاتَ بِالْوَضْعِ فَاتَ
بَعْضُ الدَّلِيلِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ جَعَلَ
التَّعْلِيلَ بِالتَّلَقُّنِ أَصَحَّ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ نَظَرَ إلَى مَكْتُوبٍ) يَعْنِي إذَا نَظَرَ إلَى
مَكْتُوبٍ سِوَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قُرْآنًا لَا خِلَافَ
لِأَحَدٍ فِي جَوَازِهِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْقُرْآنِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ
مَشَايِخِنَا: لَا تَفْسُدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَتَفْسُدُ عَلَى
قَوْلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ
فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ
لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ
الْغَرَضَ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِاللِّسَانِ الْفَهْمُ فَكَانَ الْفَهْمُ
كَالْقِرَاءَةِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تَكُونُ
بِاللِّسَانِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ قَالَ الْمُصَنِّفُ
(فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ) وَلَيْسَ
هَذِهِ كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْفَهْمُ
(أَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَبِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ)
(1/403)
(وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ بَيْن يَدَيْ
الْمُصَلِّي لَمْ تَقْطَعْ صَلَاتَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ إلَّا أَنَّ
الْمَارَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَالَ: (وَإِنْ مَرَّتْ امْرَأَةٌ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي) إنَّمَا
ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْمُصَلِّي شَيْءٌ
يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاتِهِ رَدًّا لِقَوْلِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ أَنَّ
مُرُورَ الْمَرْأَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يُفْسِدُ صَلَاتَهُ
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَقْطَعُ الْمَرْأَةُ
الصَّلَاةَ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ» قُلْنَا: أَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ
حِينَ بَلَغَهَا فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالشِّقَاقِ
وَالنِّفَاقِ قَرَنْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ، كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَأَنَا
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ، فَإِذَا سَجَدَ
خَنَسْت رِجْلِي، وَإِذَا قَامَ مَدَدْتهَا وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْكَلَامَ
فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا فِي الِاعْتِرَاضِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِدَوَامِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا
(1/404)
آثِمٌ» لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا
عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ» وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا
مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ عَلَى مَا قِيلَ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا
حَائِلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَالْمُرُورُ أَوْلَى، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي
مَوَاضِعَ: أَوَّلُهَا هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مُرُورَ شَيْءٍ لَا يَقْطَعُهَا
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ
مُرُورُ شَيْءٍ» .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَارَّ آثِمٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا
عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَوَقَفَ أَرْبَعِينَ» . قَالَ الرَّاوِي: لَا
أَدْرِي قَالَ أَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا، وَقِيلَ
صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَالثَّالِثُ أَنَّ مِقْدَارَ مَوْضِعٍ يُكْرَهُ الْمُرُورُ فِيهِ هُوَ
مَوْضِعُ السُّجُودِ عَلَى مَا قِيلَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ
الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ،
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا صَلَّى رَامِيًا بِبَصَرِهِ إلَى
مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَصَرُهُ لَا يُكْرَهُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِمِقْدَارِ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ
بِخَمْسَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِأَرْبَعِينَ، هَذَا إذَا كَانَ
فِي الصَّحْرَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ،
وَقِيلَ يَمُرُّ مَا وَرَاءَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُصَلِّي
وَالْمَارِّ (حَائِلٌ) كَأُسْطُوَانَةٍ أَوْ جِدَارٍ، أَمَّا إذَا كَانَ
فَلَا يَأْثَمُ وَتُحَاذِي أَعْضَاءُ الْمَارِّ أَعْضَاءَهُ
(1/405)
وَتُحَاذِي أَعْضَاءُ الْمَارِّ
أَعْضَاءَهُ لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الدُّكَّانِ
(وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَتَّخِذَ أَمَامَهُ
سُتْرَةً) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً»
(وَمِقْدَارُهَا ذِرَاعٌ فَصَاعِدًا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الدُّكَّانِ حَتَّى لَوْ كَانَ الدُّكَّانُ
بِقَدْرِ قَامَةِ الرَّجُلِ كَانَ سُتْرَةً فَلَمْ يَأْثَمْ، وَبَيْنَ
هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ: أَعْنِي قَيْدَ عَدَمِ الْحَائِلِ وَقَيْدَ
الْمُحَاذَاةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إذَا مَرَّ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ
مُنَافَاةً؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ وَالْأُسْطُوَانَةَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ
يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى
عَلَى الدُّكَّانِ لَا يُتَصَوَّرُ الْمُرُورُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ،
وَلَعَلَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ
مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَيُؤَوِّلُ إلَى مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى رَامِيًا بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ فَلَمْ يَقَعْ بِبَصَرِهِ عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ، وَهَذَا لَا
مُنَافَاةَ فِيهِ، فَلِهَذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إنَّهُ حَسَنٌ
(1/406)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ
يَكُونَ أَمَامَهُ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» (وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ
تَكُونَ فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَا يَبْدُو
لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ (وَيَقْرُبُ مِنْ
السُّتْرَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ
صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا» (وَيَجْعَلُ السُّتْرَةَ عَلَى
حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ عَلَى الْأَيْسَرِ) بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ
وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ السُّتْرَةِ إذَا أَمِنَ الْمُرُورَ وَلَمْ
يُوَاجِهْ الطَّرِيقَ
(وَسُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِلْقَوْمِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى بِبَطْحَاءَ مَكَّةَ إلَى عَنَزَةٍ
وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَ شَيْئًا إلَّا وَهُوَ
مُطَّرِدٌ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي حَازَ
قَصَبَاتِ السَّبْقِ فِي مَيْدَانِ التَّحْقِيقِ جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ
الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا.
وَالرَّابِعُ أَنْ يَأْخُذَ سُتْرَةً إذَا صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» وَالْخَامِسُ فِي
مِقْدَارِهَا وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ذِرَاعًا فَصَاعِدًا (لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى
فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ»
بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ لُغَةً فِي أَخَّرْته وَهِيَ
الْخَشَبَةُ الْعَرِيضَةُ الَّتِي تُحَاذِي رَأْسَ الرَّاكِبِ، وَتَشْدِيدُ
الْخَاءِ خَطَأٌ، وَهِيَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ
وَسَنَذْكُرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلَى
عَنَزَةٍ وَهِيَ مِقْدَارُ ذِرَاعٍ. وَقَوْلُهُ: (يَنْبَغِي) بَيَانُ
غِلَظِهِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُ مِنْ
السُّتْرَةِ السَّهْمُ. وَالسَّادِسُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ السُّتْرَةِ
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى إلَى
سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا» وَالسَّابِعُ أَنْ يَجْعَلَ السُّتْرَةَ
عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ وَرَدَ
بِهِ، رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى
إلَى شَجَرَةٍ وَلَا إلَى عُودٍ وَلَا إلَى عَمُودٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى
حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ وَلَمْ يَصْمُدْهُ صَمْدًا» أَيْ لَمْ يَقْصِدْهُ
قَصْدًا إلَى الْمُوَاجَهَةِ.
وَالثَّامِنُ أَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِلْقَوْمِ «؛ لِأَنَّهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِبَطْحَاءَ مَكَّةَ إلَى
عَنَزَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سُتْرَةٌ» أَيْ عَصًا ذَاتُ زَجٍّ.
وَالزَّجُّ الْحَدِيدَةُ فِي أَسْفَلِ الرُّمْحِ، وَهُوَ بِالتَّنْوِينِ؛
لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ نَكِرَةٌ. وَقَالَ فِي الْكَافِي: إنْ أُرِيدَ
بِهَا عَنَزَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ
غَيْرَ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا.
وَالتَّاسِعُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ
(1/407)
سُتْرَةٌ (وَيُعْتَبَرُ الْغَرْزُ دُونَ
الْإِلْقَاءِ وَالْخَطِّ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ
(وَيَدْرَأُ الْمَارَّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ
مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» (وَيَدْرَأُ بِالْإِشَارَةِ)
كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (أَوْ يَدْفَعُ
بِالتَّسْبِيحِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ (وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا كِفَايَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
هُوَ الْغَرْزُ دُونَ الْإِلْقَاءِ وَالْخَطِّ. قِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ
الْأَرْضُ رَخْوَةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ صُلْبَةً لَا يُمْكِنُهُ
الْغَرْزُ فَإِنَّهُ يَضَعُهَا طُولًا لِتَكُونَ عَلَى هَيْئَةِ الْغَرْزِ
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ خَشَبَةٌ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا
الْمُتَأَخِّرِينَ: يَخُطُّ خَطًّا طَوِيلًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ
الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَارِّ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَيَكُونُ
وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَانَ يَطْرَحُ سَوْطَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُصَلِّي. فَإِنْ قِيلَ: الْخَطُّ وَالْوَضْعُ قَدْ
رُوِيَا كَالْغَرْزِ فَمَا وَجْهُ الْمَنْعِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ
يَصِحَّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ تَرْكَ
السُّتْرَةِ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا أُمِنَ الْمُرُورُ لِمَا أَنَّ اتِّخَاذَ
السُّتْرَةِ لِلْحِجَابِ عَنْ الْمَارِّ وَلَا حَاجَةَ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ
الْمَارِّ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي طَرِيقِ
الْحِجَازِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْعَاشِرُ الدَّرْءُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ
مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» (وَيَدْرَأُ) أَيْ يَدْفَعُ
(بِالْإِشَارَةِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ) «حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي
بَيْتِهَا فَقَامَ وَلَدُهَا عُمَرُ لِيَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ قِفْ، فَوَقَفَ،
ثُمَّ قَامَتْ بِنْتُهَا زَيْنَبُ لِتَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ
إلَيْهَا أَنْ قِفِي فَأَبَتْ فَمَرَّتْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ
قَالَ: نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ نَاقِصَاتُ الدِّينِ صَوَاحِبُ يُوسُفَ
صَوَاحِبُ كُرْسُفٍ يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ وَيَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامُ»
(أَوْ يَدْفَعُ بِالتَّسْبِيحِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) وَهُوَ
قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ
نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ» وَهَذِهِ نَائِبَةٌ فِي
الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ (وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ
الْإِشَارَةِ وَالتَّسْبِيحِ (؛ لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا كِفَايَةً) وَهَذَا
فِي حَقِّ الرِّجَالِ،
(1/408)
(فَصْلٌ)
(وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، وَذَكَرَ مِنْهَا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ»
وَلِأَنَّ الْعَبَثَ خَارِجَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ فَمَا ظَنُّك فِي
الصَّلَاةِ (وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى) لِأَنَّهُ نَوْعُ عَبَثٍ (إلَّا
أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ السُّجُودِ فَيُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً)
«لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرَّةً يَا أَبَا ذَرٍّ
وَإِلَّا فَذَرْ» وَلِأَنَّ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَمَّا النِّسَاءُ فَيُصَفِّقْنَ يَضْرِبْنَ بِظُهُورِ أَصَابِعِ الْيَدِ
الْيُمْنَى عَلَى صَفْحَةِ الْكَفِّ الْيُسْرَى لِمَا مَرَّ أَنَّ لَهُنَّ
التَّصْفِيقَ؛ لِأَنَّ فِي صَوْتِهِنَّ فِتْنَةً فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ
التَّسْبِيحُ.
[فَصْلٌ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ]
فَصْلٌ مَا يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي عَمَّا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ
وَأَخَّرَهُ ذِكْرًا لِقُوَّةِ الْمُفْسِدِ (وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ
يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ) قَالَ بَدْرُ الدِّينِ الْكَرْدَرِيُّ: الْعَبَثُ
الْفِعْلُ الَّذِي فِيهِ غَرَضٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، وَالسَّفَهُ
مَا لَا غَرَضَ فِيهِ أَصْلًا. وَقَالَ حُمَيْدُ الدِّينِ: الْعَبَثُ كُلُّ
عَمَلٍ لَيْسَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَلَا نِزَاعَ فِي الِاصْطِلَاحِ،
وَلَمَّا كَانَ الْعَبَثُ بِالثَّوْبِ أَوْ الْجَسَدِ أَكْثَرَ وُقُوعًا
قَدَّمَهُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا قِيلَ إنَّمَا قَدَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ
كُلِّيٌّ يَشْمَلُ مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبَثَ بِالثَّوْبِ لَا
يَشْمَلُ مَا بَعْدَهُ مِنْ تَقْلِيبِ الْحَصَى وَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا»
وَذَكَرَ مِنْهَا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْبَاقِيَانِ هُوَ
الرَّفَثُ فِي الصَّوْمِ وَالضَّحِكُ فِي الْمَقَابِرِ.
وَقَوْلُهُ: (؛ لِأَنَّ الْعَبَثَ خَارِجَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ فَمَا ظَنُّك
فِي الصَّلَاةِ) قِيلَ فَعَلَى هَذَا كَانَ كَالْقَهْقَهَةِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يُفْسِدَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ إفْسَادَ الْقَهْقَهَةِ
لِفَسَادِ الضَّوْءِ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْعَبَثِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ:
(وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى) ظَاهِرٌ قِيلَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ
يُفِيدُ الْمُصَلِّيَ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرِقَ فِي صَلَاتِهِ لَيْلَةً فَسَلَتَ
الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ» : أَيْ مَسَحَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ
فَكَانَ مُفِيدًا، وَإِذَا قَامَ مِنْ سُجُودِهِ فِي الصَّفِّ
(1/409)
إصْلَاحَ صَلَاتِهِ
(وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَا تُفَرْقِعُ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي»
(وَلَا يَتَخَصَّرُ) وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ لِأَنَّهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي
الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْوَضْعِ الْمَسْنُونِ.
(وَلَا يَلْتَفِتُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "
لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ " (وَلَوْ نَظَرَ
بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ
عُنُقَهُ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاتِهِ بِمُوقِ عَيْنَيْهِ
(وَلَا يُقْعِي وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) «لِقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَهَانِي خَلِيلِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَنْ أَنْقُرَ
نَقْرَ الدِّيكِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
نَفَضَ ثَوْبَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً كَيْ لَا تَبْقَى صُورَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) الْفَرْقَعَةُ تَنْفِيضُ
الْأَصَابِعِ بِالْغَمْزِ أَوْ الْمُدِّ حَتَّى تُصَوِّتَ
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ
الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ) رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ
وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَلْتَفِتُ) ظَاهِرٌ.
(1/410)
وَأَنْ أُقْعِيَ إقْعَاءَ الْكَلْبِ،
وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ» . وَالْإِقْعَاءُ: أَنْ يَضَعَ
أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ نَصْبًا هُوَ
الصَّحِيحُ.
(وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ) لِأَنَّهُ كَلَامٌ (وَلَا
بِيَدِهِ) لِأَنَّهُ سَلَامٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ صَافَحَ بِنِيَّةِ
التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ
(وَلَا يَتَرَبَّعُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ
الْقُعُودِ (وَلَا يَعْقِصُ شَعْرَهُ) وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ عَلَى
هَامَتِهِ وَيَشُدَّهُ بِخَيْطٍ أَوْ بِصَمْغٍ لِيَتَلَبَّدَ، فَقَدْ
رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ
الرَّجُلُ وَهُوَ مَعْقُوصٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ التَّفْسِيرِ الْآخَرِ
لِلْإِقْعَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ فِي
السُّجُودِ وَيَضَعُ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَا
يُقْعِي كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يُقْعِي مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ
إلَّا أَنَّهُ يَنْصِبُ يَدَيْهِ وَالْآدَمِيُّ يَنْصِبُ رُكْبَتَيْهِ إلَى
صَدْرِهِ
وَقَوْلُهُ: (وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ) ظَاهِرٌ
(1/411)
(وَلَا يَكُفُّ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ
تَجَبُّرٍ (وَلَا يُسْدِلُ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ السَّدْلِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى
رَأْسِهِ وَكَتِفَيْهِ ثُمَّ يُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ
(وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ
الصَّلَاةِ (فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ
وَسُجُودُهُ فِي الطَّاقِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ فِي الطَّاقِ)
لِأَنَّهُ يُشْبِهُ صَنِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ تَخْصِيصِ
الْإِمَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ) فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
أَنَّهُ شَرِبَ وَعَنْ طَاوُسٍ يَجُوزُ شُرْبُهُ فِي النَّفْلِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ (عَمَلٌ كَثِيرٌ) لَا مَحَالَةَ وَهُوَ
مُفْسِدٌ وَقَوْلُهُ: (وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ) جَوَابٌ عَمَّا
يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ عَفْوًا كَمَا فِي الصَّوْمِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ
مُذَكِّرَةٌ بِخِلَافِ حَالَةِ الصِّيَامِ، فَإِنْ أَكَلَ مَا بَيْنَ
أَسْنَانِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَ مَا دُونَ مِلْءِ الْفَمِ
لَا تَفْسُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنْ كَانَ قَلِيلًا فَمَا دُونَ
الْحِمَّصَةِ لَا تَفْسُدُ كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ فَسَدَتْ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ)
شُرِعَ مِنْ هُنَا فِي بَيَانِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ،
وَالطَّاقُ هُوَ الْمِحْرَابُ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِي وَجْهِ
الْكَرَاهَةِ أَحَدُ الطَّرِيقِينَ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ وَهُوَ
الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ عَنْ
يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، وَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ بِجَنْبَيْ
(1/412)
بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
سُجُودُهُ فِي الطَّاقِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ
عَلَى الدُّكَّانِ) لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ) لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْإِمَامِ (وَلَا بَاسَ بِأَنْ
يُصَلِّيَ إلَى ظَهْرِ رَجُلٍ قَاعِدٍ يَتَحَدَّثُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الطَّاقِ عَمُودَانِ وَوَرَاءَ ذَلِكَ فُرْجَةٌ يَطَّلِعُ فِيهَا مَنْ عَنْ
يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ عَلَى حَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَالْمُرَادُ
بِالْمَقَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَكَانُ الْأَقْدَامِ، فَإِذَا
كَانَتْ قَدَمَاهُ خَارِجَتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ
الْمُصَنِّفُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ مُطَّرِدٌ، بِخِلَافِ
الثَّانِي فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الِاطِّلَاعُ عَلَى حَالِهِ
بِالْفُرْجَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَطَّرِدْ فِيهِ، وَإِنَّمَا
قَيَّدَ قَوْلَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ إشَارَةٌ
إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ لَمْ يُكْرَهْ،
وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى الْقَلْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازًا
عَمَّا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِزَوَالِ الْمَعْنَى
الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ
لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مِقْدَارَ
ارْتِفَاعِ الدُّكَّانِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ
بِقَامَةِ الرَّجُلِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ
مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ بِذِرَاعٍ
اعْتِبَارُهُ بِالسُّتْرَةِ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَهَذَا إذَا لَمْ
يَكُنْ عُذْرٌ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقُومُ النَّاسُ عَلَى
الرُّفُوفِ وَالْإِمَامُ فِي الْجَامِعِ عَلَى الْأَرْضِ لِضِيقِ
الْمَكَانِ فَلَا يُكْرَهُ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ
إلَى ظَهْرِ رَجُلٍ قَاعِدٍ يَتَحَدَّثُ) ظَاهِرٌ، إنَّمَا الْمَكْرُوهُ
أَنْ يُصَلِّيَ إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ،
(1/413)
لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - رُبَّمَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ أَوْ
سَيْفٌ مُعَلَّقٌ) لِأَنَّهُمَا لَا يُعْبَدَانِ، وَبِاعْتِبَارِهِ
تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ) لِأَنَّ
فِيهِ اسْتِهَانَةً بِالصُّوَرِ (وَلَا يَسْجُدُ عَلَى التَّصَاوِيرِ)
لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الصُّورَةِ، وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي
الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُصَلَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ
فَعَلَا هُمَا الدِّرَّةَ وَقَالَ لِلْمُصَلِّي: تَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ
فِي صَلَاتِك، وَقَالَ لِلْقَاعِدِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّيَ بِوَجْهِك.
فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَى ظَهْرِ
رَجُلٍ يَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَبِقُرْبِهِ
قَوْمٌ يَتَحَدَّثُونَ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ
يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ يَتَحَدَّثُونَ أَوْ نَائِمُونَ»
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا إذَا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ
مِنْهُ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ يُخَافُ أَنْ يَظْهَرَ
صَوْتٌ مِنْ النَّائِمِينَ فَيَضْحَكُ فِي صَلَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ
عِنْدَ الْأَمْنِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُصَلُّونَ وَبَعْضُهُمْ
كَانُوا يَقْرَءُونَ وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ
وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْمَوَاعِظَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ
ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ:
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ أَوْ
سَيْفٌ مُعَلَّقٌ) إنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ
الْعُلَمَاءِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَ السَّيْفُ آلَةُ الْحَرْبِ، وَفِي
الْحَدِيدِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، فَلَا يَلِيقُ تَقْدِيمُهُ فِي مَقَامِ
التَّضَرُّعِ. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي اسْتِقْبَالِ
الْمُصْحَفِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
بِكُتُبِهِمْ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمَا
ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الدَّلِيلِ ظَاهِرٌ.
(وَقَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ
تَصَاوِيرُ) التَّصَاوِيرُ مَا يُصَوَّرُ مُشَبَّهًا بِخَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الرُّوحِ أَوْ لَا.
وَقَوْلُهُ: (وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ لَمْ يَفْصِلْ
فِي الْمَبْسُوطِ فِي حَقِّ الْكَرَاهَةِ بَيْنَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى
الصُّورَةِ أَوْ لَا يَسْجُدَ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
أَنَّهُ
(1/414)
مُعَظَّمٌ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ
رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بِحِذَائِهِ تَصَاوِيرُ
أَوْ صُورَةٌ مُعَلَّقَةٌ) «لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ: إنَّا لَا نَدْخُلُ
بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» ، وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ صَغِيرَةً
بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الصِّغَارَ جِدًّا
لَا تُعْبَدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
إنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ
لَهُ، وَإِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ وَقِيَامِهِ لَا يُكْرَهُ
لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ.
وَجْهُ مَا فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمُصَلَّى إلَيْهِ
مُعَظَّمٌ بِلَفْظِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبِسَاطَ
الَّذِي أُعِدَّ لِلصَّلَاةِ مُعَظَّمٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبُسُطِ،
فَإِذَا كَانَ فِيهِ صُورَةٌ كَانَ نَوْعَ تَعْظِيمٍ لَهَا وَنَحْنُ
أُمِرْنَا بِإِهَانَتِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمُصَلَّى
مُطْلَقًا سَجَدَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَسْجُدْ. وَقَوْلُهُ: (لِحَدِيثِ
جِبْرِيلَ) رُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فَقَالَ لَهُ اُدْخُلْ، فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ بَيْتًا عَلَيْهِ سِتْرٌ
فِيهِ تَمَاثِيلُ حَيَوَانٍ أَوْ رِجَالٍ، إمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا
أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ إنَّا مَعَاشِرَ الْمَلَائِكَةِ لَا
نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» وَقَوْلُهُ: (؛ لِأَنَّ
الصِّغَارَ جِدًّا لَا تُعْبَدُ) رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي
مُوسَى ذُبَابَتَانِ، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- كَانُونٌ
(1/415)
(وَإِذَا كَانَ التِّمْثَالُ مَقْطُوعَ
الرَّأْسِ) أَيْ مَمْحُوَّ الرَّأْسِ (فَلَيْسَ بِتِمْثَالٍ) لِأَنَّهُ لَا
يُعْبَدُ بِدُونِ الرَّأْسِ وَصَارَ كَمَا إذَا صَلَّى إلَى شَمْعٍ أَوْ
سِرَاجٍ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى وِسَادَةٍ
مُلْقَاةٍ أَوْ عَلَى بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهَا تُدَاسُ
وَتُوطَأُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوِسَادَةُ مَنْصُوبَةً أَوْ
كَانَتْ عَلَى السُّتْرَةِ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهَا، وَأَشَدُّهَا
كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ أَمَامَ الْمُصَلِّي ثُمَّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ
ثُمَّ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ عَلَى شِمَالِهِ ثُمَّ خَلْفَهُ (وَلَوْ
لَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ تَصَاوِيرُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَامِلَ
الصَّنَمِ، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيع ذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِ
شَرَائِطِهَا، وَتُعَادُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ
فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ (وَلَا يُكْرَهُ تِمْثَالٌ
غَيْرُ ذِي الرُّوحِ) لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ
(وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مَحْفُوفٌ بِصُوَرٍ صِغَارٍ. وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا كَانَ التِّمْثَالُ
مَقْطُوعَ الرَّأْسِ: أَيْ مَمْحُوَّهُ) إنَّمَا فَسَّرَهُ بِهَذَا
إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ رَأْسُهُ بِخَيْطٍ مِنْ الْحُلْقُومِ
كَانَتْ الْكَرَاهَةُ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّ مِنْ الطَّيْرِ مَا هُوَ
مُطَوَّقٌ، أَمَّا مَا حَمَى رَأْسَهُ بِحَيْثُ لَا يُرَى لَا يُكْرَهُ
لِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ بِلَا رَأْسٍ فَكَانَ كَالْجَمَادَاتِ
(فَصَارَ كَالصَّلَاةِ إلَى شَمْعٍ أَوْ سِرَاجٍ) فِي أَنَّهُمَا لَا
يُعْبَدَانِ وَإِنَّمَا قَالَ (عَلَى مَا قَالُوا) إشَارَةً إلَى أَنَّ
بَعْضَهُمْ قَالَ يُكْرَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ
كَانُونٌ فِيهِ جَمْرٌ أَوْ نَارٌ مُوقَدَةٌ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالُوا
لِمَا ذَكَرَ أَنَّهُمَا لَا يُعْبَدَانِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى وِسَادَةٍ) ظَاهِرٌ.
وَيُحْكَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُمَا دَخَلَا بَيْتًا فِيهِ بِسَاطٌ عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ
فَوَقَفَ عَطَاءٌ وَجَلَسَ الْحَسَنُ وَقَالَ: تَعْظِيمُ الصُّورَةِ فِي
تَرْكِ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: (وَأَشَدُّهَا) أَيْ أَشَدُّ
الصُّوَرِ (كَرَاهَةً) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ مَقُولٌ
بِالتَّشْكِيكِ تَخْتَلِفُ آحَادُهَا بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، وَقِيلَ
إذَا كَانَتْ خَلْفَ الْمُصَلِّي لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ، وَلَكِنَّهُ
يُكْرَهُ كَوْنُهُمَا فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ تَنْزِيهَ مَكَانِ الصَّلَاةِ
عَمَّا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ مُسْتَحَبٌّ. وَقَوْلُهُ:
(وَتُعَادُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ) أَيْ تُعَادُ الصَّلَاةُ
لِلِاحْتِيَاطِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ كَرَاهَةٌ (وَهَذَا الْحُكْمُ
فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ) كَمَا إذَا تَرَكَ
وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُكْرَهُ
تِمْثَالُ غَيْرِ ذِي الرُّوحِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
نَهَى مُصَوِّرًا عَنْ التَّصْوِيرِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَهُوَ
كَسْبِي؟ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْك بِتِمْثَالِ
الْأَشْجَارِ. وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التِّمْثَالَ وَالصُّورَةَ
وَاحِدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التِّمْثَالُ مَا تُصَوِّرُهُ عَلَى
الْجِدَارِ، وَالصُّورَةُ مَا تُصَوَّرُ عَلَى الثَّوْبِ وَلَيْسَ
بِوَاضِحٍ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي
الصَّلَاةِ) لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا إذَا أَمْكَنَهُ الْقَتْلُ
بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَبَيْنَ
(1/416)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّغْلِ فَأَشْبَهَ دَرْءَ
الْمَارِّ وَيَسْتَوِي جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحَيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ
لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا
(وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحَاتِ بِالْيَدِ فِي الصَّلَاةِ)
وَكَذَلِكَ عَدُّ السُّوَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مَا إذَا احْتَاجَ إلَى ضَرَبَاتٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ
السَّرَخْسِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» لَمْ
يَفْصِلْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ أَمْكَنَهُ الْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ
فَعَلَ، وَإِنْ ضَرَبَ ضَرَبَاتٍ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ
كَثِيرٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُصَلِّي فَهُوَ
كَالْمَشْيِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ
وَالتَّوَضُّؤِ، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يَنْبُو عَنْ هَذَا؛
لِأَنَّهُ قَالَ: وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةَ الشُّغْلِ فَأَشْبَهَ دَرْءَ
الْمَارِّ فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَالْمَشْيِ بَعْدَ
الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ دُونَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (وَيَسْتَوِي جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحَيَّاتِ) يَعْنِي الَّتِي
تُسَمَّى جِنِّيَّةً وَغَيْرُهَا.
وَقَوْلُهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْفَقِيهِ أَبِي
جَعْفَرٍ: إنَّ الْحَيَّاتِ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ
وَهِيَ جِنِّيَّةٌ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ مِنْهَا، وَالْأُولَى هِيَ
الَّتِي تَكُونُ صُورَتُهَا بَيْضَاءَ لَهَا ضَفِيرَتَانِ تَمْشِي
مُسْتَوِيَةً وَقَتْلُهَا لَا يُبَاحُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «إيَّاكُمْ وَالْحَيَّةَ الْبَيْضَاءَ فَإِنَّهَا مِنْ
الْجِنِّ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ
غَيْرِهَا فَلَا تُقْتَلُ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا إلَّا بَعْدَ
الْإِنْذَارِ، وَالْإِنْذَارُ بِأَنْ يُقَالَ خَلِّ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ
فَإِنْ أَبِي قُتِلَ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي يَضْرِبُ لَوْنُهَا إلَى
السَّوَادِ وَفِي مَشْيِهَا الْتِوَاءٌ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَذَ عَلَى الْجِنِّ الْعُهُودَ
وَالْمَوَاثِيقَ بِأَلَّا يَظْهَرُوا لِأُمَّتِهِ فِي صُورَةِ الْحَيَّةِ
وَلَا يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمْ، فَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ يُبَاحُ
قَتْلُهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُصَنِّفِ
لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا.
وَقَوْلُهُ: (وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحَاتِ فِي الصَّلَاةِ)
أَطْلَقَ الصَّلَاةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْعَدَّ مَكْرُوهٌ فِي
الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَمِيعًا (وَكَذَا عَدُّ السُّوَرِ)
(1/417)
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ
الصَّلَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ
جَمِيعًا مُرَاعَاةً لِسُنَّةِ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلِ بِمَا جَاءَتْ
بِهِ السُّنَّةُ. قُلْنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ ذَلِكَ قَبْلَ
الشُّرُوعِ فَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْعَدِّ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) فِي
غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (أَنَّ الْعَدَّ بِالْيَدِ لَا بَأْسَ بِهِ)
وَقَيَّدَ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ الْغَمْزَ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ أَوْ
الْحِفْظَ بِالْقَلْبِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَاحْتَرَزَ عَنْ
الْعَدِّ بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَقَيَّدَ
بِالصَّلَاةِ احْتِرَازًا عَنْ خَارِجِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرَ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ أَنَّ عَدَّ التَّسْبِيحِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ،
وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ نُذْنِبُ وَلَا نُحْصِي وَنُسَبِّحُ
وَنُحْصِي. وَقَيَّدَ بِالتَّسْبِيحِ وَالْآيِ احْتِرَازًا عَنْ عَدِّ
النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَلَامُ
الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ (فِي الْفَرَائِضِ
وَالنَّوَافِلِ جَمِيعًا) وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا
النَّوَافِلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَقِيلَ الْخِلَافُ
فِي النَّوَافِلِ وَلَا خِلَافَ فِي الْمَكْتُوبَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ.
لَهُمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عَمَلًا بِمَا هُوَ
السُّنَّةُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ آيَةً أَوْ سِتُّونَ آيَةً فِي
الْفَرَائِضِ. وَعَمَلًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي صَلَاةِ
التَّسْبِيحِ فِي تَسْبِيحَاتِهَا عَشْرًا عَشْرًا فَلَا بَأْسَ بِالْعَدِّ
حِينَئِذٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ
قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ
فَلَا ضَرُورَةَ أَيْضًا إلَى الْعَدِّ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ
بِغَمْزِ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ فَيَسْتَغْنِي عَنْ الْعَدِّ بِالْيَدِ.
(1/418)
فَصْلٌ
وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ لِأَنَّهُ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِدْبَارُ يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ
التَّعْظِيمِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَدْبَرَ
فَرْجُهُ غَيْرُ مُوَازٍ لِلْقِبْلَةِ. وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ
إلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ لِأَنَّ فَرْجَهُ مُوَازٍ لَهَا
وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَيْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[فَصَلِّ اسْتِقْبَال الْقِبْلَة بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاء]
فَصْلٌ) :
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْكَرَاهَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرَعَ فِي
بَيَانِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَالْخَلَاءِ بِالْمَدِّ بَيْتُ
التَّغَوُّطِ، وَالْمَقْصُورُ النَّبْتُ (وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ) رَوَاهُ سَلْمَانُ،
وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْخَلَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ كَذَلِكَ
لِمَا فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا يُكْرَهُ
إذَا كَانَ فِي الْفَضَاءِ، وَأَمَّا فِي الْأَمْكِنَةِ فَلَا. وَفِي
الِاسْتِدْبَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: فَعَلَى إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ بِمَا
ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ (؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدْبِرَ فَرْجُهُ
غَيْرُ مُوَازٍ لِلْقِبْلَةِ وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَى
الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ؛ لِأَنَّ فَرْجَهُ مُوَازٍ لَهَا
وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَيْهَا) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ
يُعَارِضُ هَذَا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ
وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ
(1/419)
(وَتَكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ فَوْقَ
الْمَسْجِدِ وَالْبَوْلُ وَالتَّخَلِّي) لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ لَهُ
حُكْمُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ مِنْهُ بِمَنْ تَحْتَهُ،
وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِالصُّعُودِ إلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ
لِلْجُنُبِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ (وَلَا بَأْسَ بِالْبَوْلِ فَوْقَ بَيْتٍ
فِيهِ مَسْجِدٌ) وَالْمُرَادُ مَا أُعِدَّ لِلصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اسْتَدْبَرُوا
صَارُوا مُتَوَجِّهِينَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَكَانَ مَكْرُوهًا
تَعْظِيمًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ رَافِعًا
ذَيْلَهُ عِنْدَ التَّغَوُّطِ.
وَقَوْلُهُ: (وَتُكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ فَوْقَ الْمَسْجِدِ)
(1/420)
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ
الْمَسْجِدِ وَإِنْ نَدَبْنَا إلَيْهِ
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْلَقَ بَابُ الْمَسْجِدِ) :
لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ
إذَا خِيفَ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الصَّلَاةِ
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ
الذَّهَبِ) وَقَوْلُهُ لَا بَأْسَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ
عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ: (؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَسْجِدِ)
يَعْنِي لِعَدَمِ الْخُلُوصِ حَتَّى يُبَاعَ، وَيُورَثُ (وَإِنْ نَدَبْنَا
إلَيْهِ) أَيْ إلَى اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَتَّخِذَ فِي بَيْتِهِ مَكَانًا
لِلصَّلَاةِ يُصَلِّي فِيهِ النَّوَافِلَ وَالسُّنَنَ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ
تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ) أَيْ الْغَلْقَ (يُشْبِهُ الْمَنْعَ عَنْ
الصَّلَاةِ) وَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]
(وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ يُغْلَقُ بَابُ الْمَسْجِدِ (إذَا خِيفَ
عَلَى مَتَاعِهِ) فِي غَيْرِ أَوَانِ الصَّلَاةِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ
النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ
كُنَّ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ ثُمَّ مُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ
الْمَنْعُ صَوَابًا، فَكَذَلِكَ إغْلَاقُ بَابِ الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِنَا
وَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُمْ إذَا
اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَجَعَلُوهُ مُتَوَلِّيًا بِغَيْرِ أَمْرِ
الْقَاضِي يَكُونُ مُتَوَلِّيًا.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجِصِّ)
إنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِاخْتِلَافِ
النَّاسِ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ
حِينَ مَرَّ بِمَسْجِدٍ مُزَخْرَفٍ: لِمَنْ هَذِهِ الْبِيعَةُ؟ وَإِنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ لِكَرَاهَتِهِ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الْمَسَاجِدِ وَعِنْدَنَا
لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ زَادَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَيَّنَهُ فِي خِلَافَتِهِ؛
وَلِأَنَّ فِي تَزْيِينِهِ تَرْغِيبَ النَّاسِ فِي الِاعْتِكَافِ
وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لَا
مَحَالَةَ حَسَنٌ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي
قَوْلِهِ وَلَا بَأْسَ: إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا
يَأْثَمُ بِهِ.
وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَثَّنَا عَلَى عُمَارَةِ
الْمَسَاجِدِ بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18]
(1/421)
وَهَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ،
أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ مَا يَرْجِعُ إلَى
إحْكَامِ الْبِنَاءِ دُونَ مَا يَرْجِعُ إلَى النَّقْشِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ
يَضْمَنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَالْكَعْبَةُ مُزَخْرَفَةٌ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَسْتُورَةٌ
بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ. وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى لَا
بَأْسَ: يَعْنِي إنَّمَا يَكُونُ لَا بَأْسَ بِهِ (إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ
مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ مَا
يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ الْبِنَاءِ) كَالتَّجْصِيصِ (دُونَ مَا يَرْجِعُ
إلَى إحْكَامِ النَّقْشِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ) وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(1/422)
|