|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ
لَا فَرْضَ إِلَّا الخمس)
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَلَا يَجُوزُ لَأَحَدٍ صَلَاةُ فَرِيضَةٍ، وَلَا
نَافِلَةٍ، وَلَا سُجُودُ قُرْآنٍ، وَلَا جِنَازَةٍ، إِلَّا مُتَوَجِّهًا
إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ إِلَّا
فِي حَالَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: النَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: (وَهَذَا كَمَا قَالَ)
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ
فَاسْتَقْبَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- بَيْتَ الْمَقْدِسِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلِ اسْتَقْبَلَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ أَوْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ
وَاجْتِهَادِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إلا
لنعلم من يتبع الرسول} أربعة تأويلات:
أحدهما: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيُعْلَمَ رَسُولِي وَأَوْلِيَائِي،
لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِضَافَةَ مَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُ لرئيس
إِلَى الرَّئِيسِ كَمَا قَالُوا فَتَحَ عُمَرُ سَوَادَ الْعِرَاقَ
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {إِلا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143] بِمَعْنَى
إِلَّا لِنَرَى، وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ،
وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] بِمَعْنَى أَلَمْ
تَعْلَمْ
وَالثَّالِثُ: أَنَّ معناه إلا ليعلموا أننا نعلم، أن الْمُنَافِقِينَ
كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ
كَوْنِهَا
(2/67)
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا
لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَفِيهِ
سِتَّةُ تأويلات:
أحدهما: مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لنبيه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَقْبِلَ حَيْثُ شَاءَ
قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلسَّائِرِ
حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَلِلْخَائِفِ فِي الْفَرْضِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ
شَرْقٍ، أَوْ غَرْبٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ
فَلَمْ يَعْرِفُوهَا فَصَلَّوْا إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمَّا أَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:
60] قَالُوا إِلَى أَيْنَ فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ
وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ، أَوْ
مَغْرِبٍ فَلَكُمْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَسْتَقْبِلُونَهَا
وَالسَّادِسُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين استقبلت الْكَعْبَةَ تَكَلَّمَتِ الْيَهُودُ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ ابن عباس
(فَصْلٌ)
: ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ كَرِهَ
اسْتِقْبَالَهَا وَأَحَبَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا في سبب
كراهيته لها قال مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا كَرِهَهَا لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ
فِيهَا، وَلَا يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَتَّبِعُ
قِبْلَتَنَا، وَيُخَالِفُ ديننا، وكانوا يقولون إن محمد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ مَا دَرَوْا أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ
حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَرِهَهَا، لِأَنَّهُ أَحَبَّ
الْكَعْبَةَ قِبْلَةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرِهَ
الْعُدُولَ عَنْهَا فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَ قِبْلَتَهُ
إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:
144] يَعْنِي: الْكَعْبَةَ {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أَيْ: نَحْوَهُ
وَجِهَتَهُ، وَعَنَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْكَعْبَةَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا
لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] فَنَسَخَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِقْبَالَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفَرَضَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
زَمَانِ النَّسْخِ فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ
بِشَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ
عَشَرَ شَهْرًا [وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ فِي شَعْبَانَ وَهَذَا قَوْلُ
مَنْ رَوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ
(2/68)
شَهْرًا] قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:
وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا
نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفِ
مِنْ شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ من الهجرة
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ
لَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَيَانُ الْقِبْلَةِ وَالْقِيَامُ
الْأَوَّلُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الْقِبْلَةَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَتَغَيَّرَتْ أُمُورُ
النَّاسِ حَتَّى ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْمٌ، وَنَافَقَ قَوْمٌ،
وَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِهِ،
وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - قَدْ عَلِمَ أَنَّا عَلَى هُدًى وَسَيُتَابِعُنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:
143] يَعْنِي: فِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ {مِمَّنْ ينقلب على عقبيه}
[البقرة: 143] بِالرِّدَّةِ، أَوِ النِّفَاقِ {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً
إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] يَعْنِي:
بِالْكَعْبَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى
الْكَعْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى رَفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ،
وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَهُمْ زُعَمَاءُ
الْيَهُودِ فَقَالُوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مَا وَلَّاكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ
أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدِينِهِ ارْجِعْ
إِلَى قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ،
وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فِتْنَتَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:
142] ثُمَّ قَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ
مِنْ إِخْوَانِنَا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) {1) [البقرة: 143] يَعْنِي:
صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لرؤوف
رَحِيمٌ} [البقرة: 143] يَعْنِي: قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ لَهُمْ
عَمَلًا، وَلَا يُضِيعُ لَهُمْ أَجْرًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إِنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ
وَأَمَرَ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ،
وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الَّذِي أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ
فَمَاتَ
(2/69)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فَرْضٌ لَا يُجْزِئُ
أَحَدًا صَلَاةُ فَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ، وَلَا جِنَازَةٍ وَلَا سُجُودُ
سَهْوٍ، وَلَا تِلَاوَةٌ إِلَّا أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ الْكَعْبَةَ إِلَّا
فِي حالين استثناهما الشرع:
أحدهما: حال المتابعة وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ
وَالثَّانِيَةُ: الْمُتَنَفِّلُ فِي سَفَرِهِ سَائِرًا، وَمَا سِوَاهُمَا
يَجِبُ فِيهِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْعُدُولِ
عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فالمتوجهون إليها على ستة أضرب:
أحدهما: مَنْ فَرْضُهُ الْمُشَاهَدَةُ
وَالثَّانِي: مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ
وَالثَّالِثُ: مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ
وَالرَّابِعُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ
وَالْخَامِسُ: مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ
وَالسَّادِسُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْ فرضه المشاهدة وهو مَنْ كَانَ
بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ مِنْ
مُشَاهَدَتِهَا، فَفَرْضُهُ فِي اسْتِقْبَالِهَا الْمُشَاهَدَةُ، فَلَا
تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ
شَاهَدَهَا، لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْمَانِعَةَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ
لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا، لِتَقَدُّمِ
الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ الصَّلَاةُ
إِلَيْهِ، لِأَنَّ جُمْلَتَهَا الْقِبْلَةُ، فَأَمَّا الْحِجْرُ فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ فِي الصَّلَاةِ جَائِزٌ كَالْبَيْتِ،
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال
لعائشة رضي الله عنه: " صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ "
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ وَحْدَهُ فِي الصَّلَاةِ
غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ مِنَ
الْبَيْتِ قَطْعًا، وَإِحَاطَةً وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْلِبَةِ الظَّنِّ
فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْيَقِينِ، وَالنَّصِّ لِأَجْلِهِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ فَإِنَّهُ
لَمْ يَكُنْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، فَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ خَارِجًا
عَنْهَا بِقَلِيلٍ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا حَائِطٌ
مُسْتَحْدَثٌ مِنْ دَارٍ، أَوْ جِدَارٍ، فَفَرْضُهُ الْيَقِينُ
بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ فَإِذَا تَيَقَّنَهَا صَارَ
إِلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ
الْمُسْتَحْدَثَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْيَقِينِ، كَمَا لَوْ حَالَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَهَكَذَا
الْمُصَلِّي إِلَى كُلِّ قِبْلَةٍ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ
عَلَى يَقِينٍ مِنْ صَوَابِهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى الْخَطَأِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ فَذَلِكَ
على حالين:
(2/70)
أَحَدُهُمَا: الضَّرِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ
غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ
مُشَاهَدَةٍ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ كَانَ عَنْ
تَفْوِيضٍ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: الْبَصِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْ
مِيقَاتِهَا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِحَائِلٍ غَيْرِ مُسْتَحْدَثٍ مِنْ
جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَخْبِرُ مَنْ عَلَى الْجَبَلِ
الْحَائِلِ مِنَ الْمُشَاهِدِينَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ فَهُوَ
الرَّاحِلُ إِلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ كَثِيرِ الْأَهْلِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى
قِبْلَتِهِمْ فِيهِ، كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، فَيَسْتَقْبِلُ
قِبْلَتَهُمْ تَفْوِيضًا لِاتِّفَاقِهِمْ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَتَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ،
وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَطَأٍ يَسْتَدْرِكُهُ
الْوَاحِدُ بِاجْتِهَادِهِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ
الْبَصِيرُ إِذَا كَانَ سَائِرًا فِي بَرٍّ، أَوْ بَحْرٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ
قَلِيلَةِ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ
بِالدَّلَائِلِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهَا وَهَلْ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ
طَلَبُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي
اجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْجِهَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة،
لِأَنَّ الْعَيْنَ مَعَ الْبُعْدِ عَنْهَا يَتَعَذَّرُ إِصَابَتُهَا،
وَلِأَنَّ الصَّفَّ الْوَاحِدَ لَوِ امْتَدَّ حَتَّى خَرَجَ عَنْ طُولِ
الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ
يَعْدِلُوا عَنِ اسْتِوَاءِ الصَّفِّ مُنْحَرِفِينَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ
الْعَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَادِلٌ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى
الْجِهَةِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قاله فِي " الْأُمِّ " إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ
فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهَا إِلَى الْجِهَةِ
أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الدَّانِيَ مِنَ الْكَعْبَةِ
مُصَادَفَةُ عينها لزم والنائي عَنْهَا فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ عَيْنَهَا،
لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَا كَانَ
يَلْزَمُهُ بِالْيَقِينِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ السَّادِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَهُوَ
الضَّرِيرُ فِي السَّفَرِ يُقَلِّدُ الْبَصِيرَ لِيَجْتَهِدَ لَهُ فِي
الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ قَدْ فَقَدَ آلَةَ
الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، فَصَارَ كَالْعَامِّيِّ يُقَلِّدُ
الْعَالِمَ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِفَقْدِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى
عِلْمِهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَكُونُ
عَنْ إِخْبَارٍ، وَالْخَبَرَ يَكُونُ عَنْ يَقِينٍ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّفْوِيضِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ
يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَالتَّفْوِيضَ لَا يحتاج إلى سؤال ولا
جواب
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ
إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَهِيَ الشَّمْسُ فِي مَطْلَعِهَا،
وَمَغْرِبِهَا، وَالْقَمَرُ فِي سَيْرِهِ وَمَنَازِلِهِ، وَالنُّجُومُ فِي
طُلُوعِهَا، وَأُفُولِهَا، وَالرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِي هُبُوبِهَا
وَالْجِبَالُ فِي مَرَاسِيهَا، وَالْبِحَارُ فِي مَجَارِيهَا إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ فَرِيقٍ بِنَوْعٍ
مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
(2/71)
[الأنعام: 97] . فَإِذَا أَدَّاهُ
اجْتِهَادُهُ إِلَى إِحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي
جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ اسْتَقْبَلَهَا، وَصَلَّى إِلَيْهَا، فَلَوْ
كَانُوا جَمَاعَةً وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُ جَمِيعِهِمْ جَازَ أَنْ يُصَلُّوا
جَمَاعَةً وَيَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ،
وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرَى الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ غَيْرِ
جِهَةِ صَاحِبِهِ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى جِهَتِهِ، وَلَمْ
يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ لِتَكَافُئِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا
أَبُو ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ كَأَهْلِ مَكَّةَ يَأْتَمُّونَ
بِمَنْ فِي مُقَابِلَتِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ
يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ إِمَامِهِ لِعُدُولِهِ عَنْ قِبْلَتِهِ، وَمَنِ
ائْتَمَّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ،
كَمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَ إِمَامِهِ، وَخَالَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، لِأَنَّ
جَمِيعَهُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ فَسَادَ
صَلَاةِ بَعْضٍ، ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ لِفَرْضِ صَلَاةٍ وَمَا
شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضًا ثَانِيًا
إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا، كَالْمُتَيَمِّمِ، فَإِنْ وَافَقَ
اجْتِهَادُهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ صَلَّى، وَإِنِ اخْتَلَفَ
الِاجْتِهَادَانِ فَكَانَ الْأَوَّلُ إِلَى الشَّرْقِ، وَالثَّانِي إِلَى
الْغَرْبِ صَلَّى الثَّانِيَةَ إِلَى الْغَرْبِ، وَلَمْ يُعِدِ الْأُولَى
الَّتِي صَلَّاهَا إِلَى الشَّرْقِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ
الِاجْتِهَادَ، فَلَوْ كَانَ حِينَ اجْتَهَدَ أَوَّلًا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ
جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَمَارَاتٍ
دَالَّةٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ
شَاءَ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ وَيُعِيدُ فِي
الْأُخْرَى
وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَامِّيِّ إِذَا
أَفْتَاهُ فَقِيهَانِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنَ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ
يَكُونُ مُخَيَّرًا فَكَذَا فِي الْجِهَتَيْنِ
وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْجَوَابَيْنِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي
إِلَى الجهتين
(فصل: متى يسقط فرض القبلة)
فَأَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِمَا
فَأَحَدُهُمَا حَالُ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ يُصَلِّي
فِيهَا كَيْفَ أَمْكَنَهُ رَاكِبًا وَنَازِلًا، وَقَائِمًا، وَقَاعِدًا،
وَمُومِيًا، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَسَبَ طَاقَتِهِ
وَإِمْكَانِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فإن
خفتم} [البقرة: 239] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ،
وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ
ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ
أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ
وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا "، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاةُ شِدَّةِ
الْخَوْفِ تُسْقِطُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ
بِالْعَجْزِ عَنْهَا:
أَحَدُهَا: التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْخَوْفِ إِذَا
عَجَزَ عنه
(2/72)
وَالثَّانِي: الْقِيَامُ يَسْقُطُ عَنْهُ
إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ
وَالثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ
إِلَى الْإِيمَاءِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ، فَلَوْ قَدَرَ على بعضها وعجز عن
بعضها لزمه بما قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ، فَلَوْ
أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَرَاكِبًا
إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَةِ رَاكِبًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُصَلِّيَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَائِمًا لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ
الْقِبْلَةِ أَوْكَدُ مِنْ فَرْضِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ
يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَفَرْضُ
الْقِبْلَةِ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ السَّائِرُ فِي سَفَرِهِ
يُصَلِّي النَّافِلَةَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ مِنْ قِبْلَةٍ وَغَيْرِهَا
لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا
تَوَجَّهَتْ بِهِ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ
النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ "، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ تَأْوِيلَاتِ قَوْله
تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ،
وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لو منع من التنفل سائر الأداء إِمَّا إِلَى تَرْكِ
التَّنَفُّلِ أَوْ إِلَى الِانْقِطَاعِ عن السير، وفي تمكينه منه وفق
سَفَرِهِ، وَوُفُورُ ثَوَابِهِ بِتَنَفُّلِهِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ
صَلَاةٍ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا سَوَاءٌ
كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَاتِ، كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ، أَوْ كَانَتْ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، وَمَنَعَ
أبو حنيفة مِنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ سَائِرًا لِوُجُوبِهَا عِنْدَهُ، وَقَدْ
رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ
فَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا لَمْ
يَسْقُطْ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا
سَائِرًا حَتَّى يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَهَا عَلَى الْأَرْضِ قَائِمًا
لِكَوْنِهَا فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا فَعَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا
سَائِرًا، لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِهَا
الْقِبْلَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَتَأَكَّدَتْ،
وَلِأَنَّهَا نَفْلٌ فَتَسَهَّلَتْ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِرًا أَوْ غَيْرَ سَائِرٍ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ سَائِرًا فَلَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ
أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِقُ بِالْعُدُولِ
عَنْهَا، وَكَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَ سَائِرًا، فَلَا يَخْلُو مِنْ أن يكون
(2/73)
رَاكِبًا، أَوْ مَاشِيًا، فَأَمَّا
الْمَاشِي فَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، لِأَنَّ
الْمَشْيَ أَشَقُّ مِنَ الرُّكُوبِ، لَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةَ في أربعة مواضع من صلاة أَحَدِهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ،
لِقُرْبِ الْأَمْرِ فِيهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ ابْتِدَاءً إِلَى الْقِبْلَةِ
وَالثَّانِي: فِي حَالِ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ فِيهِ
مُنْقَطِعُ السَّيْرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ
وَالْعُدُولُ عَنْهَا.
وَالثَّالِثُ: عِنْدَ السُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى
الْأَرْضِ أَنْ يُومِئَ بِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ عَلَيْهِ فِي
التَّوَجُّهِ وَغَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى التَّوَجُّهِ فِي سَجْدَتِهِ
وَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ
فَصْلُهَا بِالْقِيَامِ وَالسَّيْرِ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ وَقْتُ
السَّلَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ
عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الصَّلَاةِ كَالْإِحْرَامِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّ
السَّلَامَ خُرُوجٌ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَانَ أَخَفَّ مِنْ أَثْنَاءِ
الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ، فَفِي
حَالِ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ فِي
الصَّلَاةِ، وَبِهِ تَنْعَقِدُ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ وَهَذَا أَصَحُّ
الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي فَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالِ
الْقِرَاءَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالْقِيَامِ الَّذِي بَيْنَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِ كُلِّهِ، فَإِنْ
قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ الْقِيَامُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ فِيهِ كَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ؟ قُلْنَا: مَشْيُ الْقَائِمِ يَسْهُلُ فَسَقَطَ عَنْهُ
التَّوَجُّهُ لِيَمْشِيَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ سَفَرِهِ قَدْرَ مَا يَأْتِي
بِالرُّكْنِ الْمَسْنُونِ فِيهِ، وَمَشْيُ الْجَالِسِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا
بِالْقِيَامِ، وَقِيَامُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَانَ عَلَى حَالِ
التَّوَجُّهِ فِيهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَضَرْبَانِ
رَاكِبُ سَفِينَةٍ
وَرَاكِبُ بَهِيمَةٍ
فَأَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَيِّرًا لَهَا كَالْمَلَّاحِ، أَوْ يَكُونَ
جَالِسًا فِيهَا كَالرُّكَّابِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رُكَّابِهَا جَالِسًا
لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَفَّلَ
إِلَّا إِلَى الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا وَلَا
يَنْقَطِعُ عَنْ سَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَلَّاحًا مُسَيِّرًا
لِلسَّفِينَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي نَافِلَتِهِ، وَجَازَ
أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فرض التوجه
عن الماشي، لأن لا ينقطع عن السير وحده، فالملاح أولى، لأن لا يَنْقَطِعَ
بِالتَّوَجُّهِ عَنِ السَّيْرِ هُوَ وَغَيْرُهُ
فَأَمَّا رَاكِبُ الْبَهِيمَةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ
كَرَاكِبِ السَّرْجِ، أَوِ الْقَتَبِ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ
يَحْفَظَ نَفْسَهُ بِفَخِذَيْهِ وَسَاقَيْهِ فَيَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ
يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ رَاكِبًا، وَيَكُونُ
(2/74)
فَرْضُ التَّوَجُّهِ عَنْهُ سَاقِطًا،
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا
كَانَ يَرْكَبُ، وَعَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَتَنَفَّلُ، وَسَوَاءٌ
كَانَ رَاكِبًا فَرَسًا، أَوْ بَعِيرًا، أَوْ حِمَارًا لِاسْتِوَاءِ
جَمِيعِهَا فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَدْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَارَةً، وَعَلَى حِمَارِهِ
أُخْرَى
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْتَاجَ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي
رُكُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ بِآلَةِ كَ " الْهَوْدَجِ
" وَ " الْمَحْمَلِ " وَ " الْعِمَارِيَّةِ " فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ لَازِمٌ لَهُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ
عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ صَارَ الْبَعِيرُ إِلَى غَيْرِهَا
فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ [لِأَنَّهُ إِنْ قَدَرَ
عَلَى الْعُدُولِ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ] مُسْتَدِيرًا بِبَدَنِهِ إِلَى
الْقِبْلَةِ فَفِيهِ إِضْرَارٌ بِمَرْكُوبِهِ وَإِدْخَالُ مَشَقَّةٍ
عَلَيْهِ فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّرْجِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاكِبِ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ
مَسِيرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ
يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مَقْطُورًا بِمَرْكُوبِ غَيْرِهِ كَ " الْجِمَالِ
الْمَقْطُورَةِ " فِي سَيْرِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ
وَيُنْهِيَهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهَا، وَلَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِشَيْءٍ مِنْهَا الْقِبْلَةَ لِمَا فِي
عُدُولِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ سَيْرِهِ وَسَوَاءٌ
فِي ذَلِكَ حَالَ (إِحْرَامِهِ) وَسُجُودِهِ بِخِلَافِ الْمَاشِي
وَالْحَالُ الثَّانِيَة: أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مُفْرِدَ السَّيْرِ
غَيْرَ مَقْطُورٍ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةَ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ، وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا
فِي الْإِحْرَامِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ
كَالْمَاشِي لِسُرْعَةِ فَعْلِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ
ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَاشِي، لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِنَ
الْبَهِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ مُخَالِفًا لِلْمَاشِي
فِي سُقُوطِ التَّوَجُّهِ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ مِنَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ
عِنْدِي ثُمَّ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي رُكُوعِهِ، وَسُجُودِهِ، وَلَا
يَلْزَمُ السُّجُودُ عَلَى كَفِّهِ، وَلَا عَلَى سَرْجِهِ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُومِئُ
بِالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ عَلَى رَاحِلَتِهِ لَكِنْ يَكُونُ سُجُودُهُ
أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ فِي صَلَاتِهِ سَائِرًا فَعَدَلَ بِهِ
الْمَرْكُوبُ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ إِلَى غَيْرِهَا فَهَذَا عَلَى
ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ
بِهِ إِلَى غَيْرِ القبلة
(2/75)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ
الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ مَرْكُوبُهُ إِلَى غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ
يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَبْنِيَ عَلَى صِلَاتِهِ،
فَإِنْ رَدَّهُ فِي الْحَالِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ،
وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي
صَلَاتِهِ عَمَلًا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّ
الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ
بِعَمَلِ مَرْكُوبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ فِي الْحَالِ
حَتَّى تَطَاوَلَ الزَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ
فَتَرَكَهُ تَوَانِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
رَدِّهِ لِصُعُوبَةِ ركوبه فضعفه عنَ ضَبْطِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ
وَجْهَانِ؟ مِثْلُ الْمُتَكَلِّمِ فِي صِلَاتِهِ سَاهِيًا إِذَا أَطَالَ
الْكَلَامَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غير القبلة
فيعدل به المركوب إلى جهة الْقِبْلَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ
يُتِمَّ صَلَاتَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهَا أَغْلَظُ،
وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ وَيُتِمَّ
صَلَاتَهُ لِيَتَرَخَّصَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا كَانَ سَائِرًا لِغَيْرِ
الْقِبْلَةِ فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ
الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي عَدَلَ
بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ جِهَةَ مَسِيرِهِ، وَلَا
جِهَةَ الْقِبْلَةِ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ
بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَيَتْرُكَ
الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ
بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ، وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَيُقِيمَ
عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى إِحْدَى
هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ (فِي الْحَالِ) أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَفِي
سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ إِلَى إِحْدَى
الْجِهَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَعَ الْعَجْزِ فِي
بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ
(فَصْلٌ)
: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ سَائِرًا إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ الْقِبْلَةِ
يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَ بَلْدَةً، أَوِ الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ غَايَةُ
سَفَرِهِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ
صَلَاتِهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِتَرْكِهَا فَإِنْ أَقَامَ
عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ،
وَلَكِنْ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ مُجْتَازًا فِيهِ بَنَى
عَلَى صِلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فَيَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ
السَّفَرِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ
صِلَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي
يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَهُ فِي سَفَرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا
فِي الْحُكْمِ فَسَيْرُهُ قَدِ انْقَطَعَ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يفعل بطلت
(2/76)
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقِفَ عَنِ
الْمَسِيرِ لِغَيْرِ نزول إما استراحة عن كَلَالِ السَّيْرِ، وَإِمَّا
انْتِظَارًا لَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الْمَسِيرِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، لِأَنَّ مَسِيرَهُ قَدِ انْقَطَعَ،
وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ وُقُوفِهِ، فَإِنْ
سَارَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقَبْلَ إِتْمَامِ
صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَسِيرِ الْقَافِلَةِ جَازَ أَنْ يُتِمَّ
بَاقِيَهَا إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ لِمَا فِي
تَأَخُّرِهِ عَنِ الْقَافِلَةِ لِإِتْمَامِ الصلاة مع الْإِضْرَارِ بِهِ،
وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرِيدَ لِإِحْدَاثِ الْمَسِيرِ مِنْ غَيْرِ
ضَرُورَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسِيرَ حَتَّى تَنْتَهِيَ صَلَاتُهُ،
لِأَنَّهُ بِالْوُقُوفِ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي هَذِهِ
الصَّلَاةِ فَلَمْ يجز له إسقاط مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ظَاهِرٍ فَيَكُونُ
كَالنَّازِلِ إِذَا ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ رَكِبَ
سَائِرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ
الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا قَدْ لَزِمَهُ
بِالدُّخُولِ فِيهَا نَازِلًا فَلَمْ يَسْقُطْ بما أحدثه من الركوب سائراً
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي الْمِصْرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ
سَائِرًا عَلَى مَرْكُوبِهِ أَوْ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَجُزْ،
لِأَنَّ تَرْكَ التَّوَجُّهِ رُخْصَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ، وَلِأَنَّ فِي التَّوَجُّهِ
فِي السَّفَرِ انْقِطَاعًا عَنِ السَّيْرِ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ،
وَلَيْسَ فِي تَوَجُّهِ الْمُقِيمِ انْقِطَاعٌ عَنِ الْإِقَامَةِ، وَقَالَ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَنَفَّلَ
سائراً، لأن لا يَنْقَطِعَ عَنْ تَصَرُّفِهِ، أَوْ لَا يَنْقَطِعَ
تَطَوُّعُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ
الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وطويل السفر وقصيره سواء وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي
على راحلته في السفر أينما توجهت به وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كان يوتر على البعير وأن علياًّ رضي الله عنه كان يوتر على
الراحلة (قال الشافعي) وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض ولا فرض إلا
الخمس لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي حين
قال: هل على غيرها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لا
إلا أن تطوع) والحالة الثانية شدة الخوف لقول الله عز وجل {فإن خفتم
فرجالاً أو ركباناً} قَالَ ابْنُ عُمَرَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ
وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا فلا يصلي في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت
إن كان معايناً فبالصواب وإن كان مغيباً فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة
القبلة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِجَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى
الرَّاحِلَةِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ
فِيهِ الْقَصْرُ، وَفِي قَصِيرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ يَجُوزُ فِيهِ
قَصْرُ الصَّلَاةِ قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا غَيَّرَ حُكْمَ
الصَّلَاةِ تَرْخِيصًا احْتَاجَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ فِيهِ محدود
كَالْقَصْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ،
وَلَوِ اخْتَصَّ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ لَتَنَفَّلَ، وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ
مُبَاحٌ فَجَازَتْ فِيهِ النَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَالسَّفَرِ
الطَّوِيلِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اتِّصَالُ السَّفَرِ وَأَنْ لَا
يَنْقَطِعَ الْمَسِيرُ لِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي
طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى
وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ الَّذِي لِأَجْلِ
الْمَشَقَّةِ التي لا تدخل غَالِبًا إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ
(2/77)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَرُخَصُ السَّفَرِ سَبْعَةٌ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ
أَقْسَامِ قِسْمٌ مِنْهَا يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ،
وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ التَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ،
وَالنَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا
فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ
وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَقِسْمٌ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ
فِيهِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ قَالَهُ فِي
الْجَدِيدِ كَالْقَصْرِ
وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ قَالَهُ فِي
الْقَدِيمِ كَالنَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ لَمْ
يَسَعْ أَحَدَهُمَا اتِّبَاعُ صَاحِبِهِ)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ وَاحْتَاجَا
إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا بَصِيرًا
يَعْرِفُ دَلَائِلَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْآخَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ،
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، أَوْ ضَرِيرًا، فَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا
فَفَرْضُهُ فَيَ الْقِبْلَةِ تَقْلِيدُ الْبَصِيرِ الَّذِي مَعَهُ إِذَا
لَمْ يَقَعْ فَيَ نَفْسِهِ كَذِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَصِيرُ رَجُلًا أَوِ
امْرَأَةً حُرًّا، أَوْ عَبْدًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَسْتَوِي جَمِيعُهُمْ
فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ،
لِأَنَّ الضَّرِيرَ، قَدْ فَقَدَ بِذَهَابِ بَصَرِهِ آلَةَ الِاجْتِهَادِ
فَجَازَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ فِيهِ آلَةُ الِاجْتِهَادِ؛ كَالْعَامِّيِّ
فِي تَقْلِيدِ الْعَالِمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَوِ اجْتَهَدَ الضَّرِيرُ
لِنَفْسِهِ وَصَلَّى لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ،
لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْآلَةِ صَلَّى شَاكًّا، وَلِلضَّرِيرِ فِيمَا يَكُونُ
فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، حَالٌ
لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهِيَ: الْقِبْلَةُ، وَحَالٌ
يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهُوَ الْوَقْتُ، وَحَالٌ اخْتَلَفَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَهُوَ: الْإِنَاءَانِ، أَوِ الثَّوْبَانِ،
وَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا قَوْلَانِ:
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ بَصِيرًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا
عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا
إِلَى تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالِ الِاجْتِهَادِ
الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا كَالْعَالِمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ
الْعَالِمَ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِ
الْقِبْلَةِ لَكِنْ إِذَا عرف تعرف وَعَلِمَ فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ
يَتَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ
فَإِذَا تَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ
قَادِرٌ عَلَى الوصول إلى معرفتها باجتهاده فصار كالعارف
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِهَا وَإِذَا
عُرِّفَهَا لَمْ يَعْرِفْهَا لِإِبْطَاءِ ذِهْنِهِ وَقِلَّةِ فِطْنَتِهِ
فَهَذَا فِي حُكْمِ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِيهَا، لأنها قَدْ
عَدِمَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ عَمَى
الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي
فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
(مسألة)
: قال الشافعي: فَإِنْ كَانَ الْغَيْمُ وَخَفِيَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى
رَجُلٍ فهو كالأعمى
(2/78)
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ دَلَّهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَعْمَى وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَسَعُ
بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتَّبَاعُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ)
لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ لِعَدَمِ العلم وبين من جهلها
لعدم البصر وقد جعل الشافعي من خفيت عليه الدلائل كالأعمى فهما سواء
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي بَصِيرَيْنِ اجْتَهَدَا فِي
الْقِبْلَةِ فَوَقَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى جِهَتِهَا بِاجْتِهَادِهِ
وَأَشْكَلَ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ
مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهَا إِذَا عُرِّفَهُ وَلَا يَنْتَبِهُ عَلَيْهَا إِذَا
نُبِّهَهُ فَهُوَ (عَلَى) مَا ذَكَرْنَا كَالْأَعْمَى يُقَلِّدُ صَاحِبَهُ
وَلَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا وَيَنْتَبِهُ عَلَيْهَا،
وَلَكِنْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ لِحَادِثَةٍ صَدَّ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ
الْوَقْتُ وَاسِعًا تَوَقَّفَ وَلَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ وَإِنْ ضَاقَ
الْوَقْتُ وَخَافَ الْفَوْتَ تَبِعَ صَاحِبَهُ فِي جِهَتِهِ وَصَلَّى
إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا فَعَلَ وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا كَلَامًا محتملاً
فقال: ها هنا " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى
" فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْإِعَادَةِ وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ
آخر حكاه عنه المزني ها هنا " ولا يسع بصيرا خفيت عليه الدلائل اتباعه "
فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي الطِّيِّبِ بْنِ
سَلَمَةَ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ
عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ عَلَيْهِ
لِتَقْصِيرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهَا
لِفَقْدِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ بِهَا لِفَقْدِ بَصَرِهِ
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَحَمْلُ
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ
الدَّلَائِلُ اتِّبَاعَهُ عَلَيْهِ " إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا
وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ
فَهُوَ كَالْأَعْمَى " عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَا عَلَى سُقُوطِ
الْإِعَادَةِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَلَا يَتَّبِعُ دِلَالَةُ مُشْرِكٍ بِحَالٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " لَا يَجُوزُ لِلضَّرِيرِ
أَنْ يُقَلِّدَ مُشْرِكًا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا لِلْبَصِيرِ أَنْ يَقْبَلَ
خَبَرَهُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
وَالْكُفْرُ أَغْلَظُ الْفِسْقِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بَعْضُهُمْ
بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:
140] ، ولأن
(2/79)
فَسَقَةَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَجُزْ
تَقْلِيدُهُمْ فِي الْقِبْلَةِ وَلَا قَبُولُ خَبَرِهِمْ فِيهَا
فَالْكُفْرُ أَوْلَى، ولأن الكافر قصده اختلال الْمُسْلِمِ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَفِتْنَتُهُ فِي دِينِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ الْكَافِرُ
مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِذْنِ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ فَهَلَّا كَانَ
مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ؟ قُلْنَا:
الْإِذْنُ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ، أَوْسَعُ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ
قَوْلَ الصَّبِيِّ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ أَغْلَظُ،
لِأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَأَمَّا إِذَا
اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ مِنْ كَافِرٍ مُشْرِكٍ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ
كَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ
فَأَخْبَرَهُ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ ثُمَّ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ
عَنْ خَبَرِ الْمُشْرِكِ فِي وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ جَازَ، لِأَنَّ
الْمُسْلِمَ عَمِلَ فِي الْقِبْلَةِ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا
قَبِلَ خَبَرَ الْمُشْرِكِ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَوِي فِي
الْإِخْبَارِ بِهِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ
وَكَافِرٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَمَنِ اجْتَهَدَ فَصَلَّى إِلَى الشَّرْقِ ثُمَّ رَأَى
الْقِبْلَةَ إِلَى الْغَرْبِ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ
مِنْ خَطَأِ جِهَتِهَا إِلَى يَقِينِ صَوَابِ جِهَتِهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ اجْتَهَدَ فِي
الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهَا فِي الشَّرْقِ
فَاسْتَقْبَلَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي
جِهَتِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ صَوَابُ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِهَا
فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَاحِدٌ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْخَطَأَ مِنْ طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ
الْخَطَأُ، مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ
الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ حُكْمًا نُفِّذَ بِاجْتِهَادٍ، وَإِنْ بَانَ
لَهُ الْخَطَأُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ
قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَفِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " مِنَ
الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو
حنيفة
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " مِنَ
الْجَدِيدِ: إِنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ
مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا
مَنْزِلًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا
يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمْا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا
لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا
لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ}
(2/80)
[البقرة: 115] وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ
صَحَّ صَلَاةُ الْمُسَايِفِ إِلَيْهَا صَحَّ صَلَاةُ الْمُجْتَهِدِ
إِلَيْهَا كَالْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّتْ إِلَى
الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ تَصِحَّ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
كَالْمُسَايِفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ إِلَى جِهَتَيْنِ
مُخْتَلِفَتَيْنِ فَالْيَقِينُ مَوْجُودٌ فِي حُصُولِ الْخَطَأِ فِي
إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ، فَلَوْ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِيَقِينِ الْخَطَأِ
لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ
إِحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ،
فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ فِي هَاتَيْنِ
الصَّلَاتَيْنِ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَعَ يَقِينِ الْخَطَأِ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْله تعالى:
{وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] ، فأمر الله تَعَالَى
بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ فَالْأَمْرُ باقٍ
عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ مِنْ شُرُوطِ
الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالْخَطَأِ، كالطهارة، والوفق ولا تَعْيِينَ
الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، كَأَهْلِ مَكَّةَ،
وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِنْ
مِثْلِهِ فِي الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ،
كَالْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ نَصًّا بِاجْتِهَادِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ
فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ،
إِمَّا عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ، أَوْ عَلَى خَطَأِ
الْعَيْنِ دُونَ الْجِهَةِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْقِبْلَةِ فَمُنْتَقَضٌ
بِالْمَكِّيِّ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ صَوَابُ الْجِهَةِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَايِفِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّ
عِلْمَ الْمُسَايِفِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ،
وَعِلْمَ الْمُجْتَهِدِ بِالْعُدُولِ عَنْهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ،
وَأَمَّا الْمُصَلِّي إِلَى جِهَتَيْنِ فَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الْخَطَأُ فِي إِحْدَى
الْجِهَتَيْنِ كَالْحَاكِمِ فَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي
الْحَادِثَةِ فَحَكَمَ فِيهَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يُنْقَضْ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يُتَيَقَّنْ فِي أَحَدِهِمَا،
وَلَوْ خَالَفَ نَصًّا نَقَضَ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى اخْتِيَارِ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ، وَذَكَرَ فُصُولًا خَمْسَةً
بَعْضُهَا اسْتِشْهَادًا بِمَذْهَبٍ، وَبَعْضُهَا اسْتِدْلَالًا
بِشُبْهَهٍ، فَالْفَصْلُ الأول من أسئلته أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: فِي
كِتَابِ " الصِّيَامِ ": وَلَوْ تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ
كَمَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ، أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، كَمَا
يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي خَطَأٍ عَرَفَة، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ
الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَعَمْرِي
أَحَدُ قَوْلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِعَرَفَةَ حَجَّاجًا، لِأَنَّ مَنْ
أَخْطَأَ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، أَوْ فِي
الثَّامِنِ ثُمَّ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى دَخَلَ فِي الْعَاشِرِ أَنَّ
حَجَّهُ مُجْزِئٌ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ
قُلْنَا: بَيْنَهُمَا فَرْقَانُ يَمْنَعَانِ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا
أَحَدُ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ الْخَطَأَ بِعَرَفَةَ لَا يُؤْمَنُ
(2/81)
مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَسَقَطَ عَنْهُ
الْقَضَاءُ كَالْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ لِمَا لَمْ يُؤْمَنْ
مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالْخَطَأُ فِي
الْقِبْلَةِ لِمَا أُمِنَ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَزِمَ فِيهِ
الْقَضَاءُ كَالْخَاطِئِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ النَّجِسِ
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ إِعَادَةَ الْحَجِّ تَشُقُّ فَسَقَطَ عَنْهُ
كَمَا سَقَطَ عَنِ الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الْقُصُورِ، وَإِعَادَةُ
الصَّلَاةِ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا لَا يَشُقُّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا
وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الصوم
والفصل الثاني: من أسئلته مَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ
فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " " إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ
أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ فَصَلَّى ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَنَّ الَّذِي تَرَكَهُ هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ، لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَيْقَنٌ
الطَّهَارَةِ. وَلَيْسَ كَالْقِبْلَةِ إِذَا تَأَخَّاهَا لِصَلَاةٍ ثُمَّ
رَآهَا لِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ
إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ يَعْنِي: بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ
لَمَّا جَازَ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَةٍ
ثَانِيَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهَا، وَلَوْ أَدَّاهُ إِلَى طَهَارَةِ
الْإِنَاءِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ
الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنْ نَقُولَ إِنَّمَا جَازَ أَنْ
يُصَلِّيَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالِاجْتِهَادِ
وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الِاجْتِهَادَ ثَانِيًا، وَلَمْ
يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنَاءَ الثَّانِيَ بِالِاجْتِهَادِ
الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ
ثَانِيًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالَّذِي جَعَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَعْلِيلًا
وَدَلِيلًا " أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ
لِقَوْمٍ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ
قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ
قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ، لِأَنَّ الْمَشْرِقَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ،
وَالْمَغْرِبَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ثُمَّ مُصَادَفَةُ هَذَا
الْمُصَلِّي جِهَةً هِيَ قِبْلَةٌ لِغَيْرِهِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ
التوجه إلى جهة
والفصل الثالث: من أسئلته: أنه قال لما جاز صَلَاتَهُ فِي هَذَيْنِ
الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ
إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ،
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُكَلَّفِ الِاجْتِهَادَ وَحْدَهُ،
وَإِنَّمَا كُلِّفَ إِصَابَةَ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ بِاجْتِهَادِهِ
عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ إِذَا
أَخْطَأَ الْجِهَةَ، أَوِ الْعَيْنَ لَمْ يُؤَدِّ مَا كُلِّفَ فَلَمْ
يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: مِنْ أَسْئِلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ:
احْتِجَاجًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ
قِيَامٍ، وَقُعُودٍ، وَرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ، وَسُنَنٍ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ
سَاقِطٌ عَنْهُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ مَا ذَكَرَهُ
بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيَامَ وَالسَّيْرَ مَعْنًى مَعْدُومٌ مَعَ
الْعَجْزِ عَنْهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ فِيهِ لِعَدَمِهِ
وَالْقِبْلَةُ غَيْرُ مَعْدُومَةٍ بِالْخَطَأِ فِيهَا فلذلك لم تسقط عنه
الإعادة لخطائه
(2/82)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ
الْأَعْذَارَ الَّتِي تُعْجِزُ عَنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَكُونُ عَامَّ الْوُقُوعِ، وَإِذَا وَقَعَ جَازَ أَنْ
يَدُومَ كَالْمَرَضِ فَهَذَا يَسْقُطُ مَعَهُ الْقَضَاءُ، وَضَرْبٌ يَكُونُ
عام الوقوع وإذا وقع لم يدم ك " المسايفة " وعدم الماء فهو يُسْقِطُ
الْقَضَاءَ، وَضَرْبٌ يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ، وَإِذَا وَقَعَ لَمْ
يَدُمْ كَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ
الْإِعَادَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ نَادِرًا
لَا يَدُومُ لَمْ يُسْقِطِ الْإِعَادَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْعَجْزُ عَنِ
الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ عَامًّا قَدْ يَدُومُ سَقَطَ
مَعَهُ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِأُصُولِ الْأَعْذَارِ فِي
وُجُوبِ الْقَضَاءِ وسقوطه
الفصل الخامس: من أسئلته: أَنْ قَالَ احْتِجَاجًا قَدْ حُوِّلَتِ
الْقِبْلَةُ فَصَلَّى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
ثُمَّ أَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ
وَاسْتَدَارُوا وَبَنَوْا بَعْدَ تَعْيِينِهِمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا إِلَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ عَنْ
أَهْلِ قِبَاءٍ مَا صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ دَلِيلًا عَلَى
سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي
النُّسَخِ هَلْ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ
وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا
يَكُونُ مَنْسُوخًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- بِمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَى هَذَا
يَسْقُطُ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ قَبْلَ عِلْمِهِمْ
غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إِلَى الْجَمِيعِ
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ فَرْضَهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى
جَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ قِبَاءٍ
وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ صَلَّوْا بِالنَّصِّ عَلَى الْيَقِينِ
الْأَوَّلِ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ الْإِعَادَةُ عَنْهُمْ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الِاجْتِهَادَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ
دَخَلَهَا بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، وَعَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ فَأَمَّا
قَوْلُ الْمُزَنِيِّ " فَتَفَهَّمْ " - يُرِيدُ بِهِ الشَّافِعِيَّ -
قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الْمُزَنِيُّ تفهم -
يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ "
فَافْهَمْ " - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ
يَقُولُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ " - يُرِيدُ بِهِ أبا
حنيفة -، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَالَ فِيهِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا -
يُرِيدُ بِهِ مَالِكًا - وَإِذَا أَرَادَ غَيْرَهُمَا ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ فَصْلًا لَا احْتِجَاجَ فِيهِ وَلَا
اسْتِشْهَادَ، وَهَذِهِ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَطَالَ
الْكَلَامَ فِيهَا، وَالْأُخْرَى الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي
تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ
وَالثَّالِثَةُ: ظِهَارُ السَّكْرَانِ وَكَلَامُهُ في هذه المسألة أطول
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيُعِيدُ الْأَعْمَى مَا صَلَّى مَعَهُ مَتَى أَعْلَمَهُ
"
(2/83)
وهذا صحيح إذ صَلَّى الْأَعْمَى
بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ الضَّرِيرَ بِيَقِينِ الْخَطَأِ
الْمُجْتَهِدِ لَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ
كَالْبَصِيرِ:
أَحَدُهُمَا: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ
دِلَالَةَ الْأَعْمَى عَلَى الْقِبْلَةِ قَوْلُ الْبَصِيرِ، كَمَا أَنَّ
دِلَالَةَ الْبَصِيرِ مُشَاهَدَةُ الْعَلَامَاتِ فَإِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ
فِي دَلَائِلِ الْبَصِيرِ، وَقَعَ فِي دَلِيلِ الْأَعْمَى، ثُمَّ
اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا، فَأَمَّا إِنْ
أَخْبَرَهُ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ لَهُ فَذَلِكَ ضربان:
أحدهما: أن يكون خبراً متوتراً، فَفِي الْإِعَادَةِ أَيْضًا قَوْلَانِ
كَمَا مَضَى
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:
لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ الْخَطَأَ، كَمَا
يَتَيَقَّنُهُ الْبَصِيرُ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ
أَصْحَابِنَا: بَلْ تَكُونُ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ
الْمُخْبِرُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَإِنْ كَانَ شَرْقًا ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ
وَتِلْكَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ ويعتد بما مضى
وإن كان معه أعمى ينحرف بانحرافه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ اسْتَيْقَنَ الشَّرْقَ
بِصَلَاتِهِ مُجْتَهِدًا ثُمَّ بَانَ لَهُ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ
مُنْحَرِفٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِانْحِرَافُ وَالْجِهَةُ وَاحِدَةً
وَالثَّانِي: يَكُونُ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ
مُنْحَرِفًا وَالْجِهَةُ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَ مُتَيَامِنًا عَنْهَا
قَلِيلًا، وَمُتَيَاسِرًا عَنْهَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ
الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ،
فَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ تَحَرَّفَ إِلَى
حَيْثُ بَانَ لَهُ مَنْ تَيَامَنَ، أَوْ تَيَاسَرَ، وَبَنَى عَلَى
صِلَاتِهِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ وَاحِدَةٌ فَلَمْ يَكُنِ الِانْحِرَافُ
فِيهَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ،
وَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَفِيهِ
لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ
إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ، وَيُبْنَى عَلَى صَلَاتِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ وَيُبْنَى عَلَى
حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى
الْجِهَةِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْهَا بِاجْتِهَادٍ
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ كَانَ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى إِمَّا مُسْتَدْبِرًا،
أَوْ يُمْنَةً، أَوْ يُسْرَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ
يَقِينٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَقِينٍ اسْتَدَارَ إِلَيْهَا
وَهَلْ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا؟
عَلَى قَوْلَيْنِ:
(2/84)
أَحَدُهُمَا: يَبْنِي إِذَا قِيلَ إِنَّهُ
لَوْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يُعِدْ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ إِذَا قِيلَ: لَوْ تَيَقَّنَ
الْخَطَأَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَعَادَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى اجْتِهَادٍ
فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُبْنَى عَلَى الْجِهَةِ الْأَوْلَى وَلَا يَسْتَدْبِرُ إِلَى
الثَّانِيَةِ؛ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ بِالدُّخُولِ
فِي الصَّلَاةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ إِلَى الْجِهَةِ
الثَّانِيَةِ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ صَلَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ يَعْتَقِدُهَا غَيْرَ
قِبْلَةٍ فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَدَارَ إِلَيْهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ،
لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ أَلَا تَرَاهُ لَوْ
عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ [الْفَرَاغِ] لَمْ يُعِدْ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَزِمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى
جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الشَّرْعِ فَهُوَ
عَلَى حَالِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا،
أَوْ مُنْفَرِدًا [وَإِنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ اسْتَأْنَفَ إِمَامًا كَانَ
أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا] ، فَأَمَّا إِنْ لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ
وَالْبِنَاءُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا فَيَنْحَرِفُ وَيَبْنِي
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ
قَدْ بَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفَا جَمِيعًا، وَبَنَيَا وَإِنْ لَمْ
يَبِنْ لِإِمَامِهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَتِهِ،
وَبَنَى على صلاته فإن أقام على الائتمام مُنْحَرِفًا، أَوْ غَيْرَ
مُنْحَرِفٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ وَجِهَةِ إِمَامِهِ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إماماً فإن ينحرف لم يَنْظُرْ فِي
الْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ بَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفُوا
بِانْحِرَافِهِ، وَبَنُوا مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَبِنْ
لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجُوا نُفُوسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ، فَإِنْ
أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ
إِنِ انْحَرَفُوا فَهُمْ لَا يَرَوْنَ الِانْحِرَافَ قِبْلَةً وَإِنْ لَمْ
يَنْحَرِفُوا فَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِمَامَهُمْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ إِلَّا
أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَعْمَى فَيَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِ إِمَامِهِ ويجزئه؛
لأن الأعمى لابد أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ
فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِإِمَامِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِ
إِمَامِهِ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فِي اجْتِهَادِ إِمَامِهِ
(فَصْلٌ)
: إِذَا دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي صَلَاتِهِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ شَكَّ فِي
الْقِبْلَةِ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَلَا حُكْمَ
لِلشَّكِّ الطَّارِئِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَرَ
غَيْرَهَا، وَلَوْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ شَاكًّا فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ
عَلِمَ صَوَابَهَا فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ اسْتَأْنَفَهَا، لِأَنَّ مَا
ابْتَدَأَ مِنْهَا مَعَ الشَّكِّ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْبَصِيرُ فِي
ظُلْمَةٍ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَصَلَّى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ
ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَ جهته
(2/85)
أَعَادَ، كَالْأَعْمَى إِذَا صَلَّى
بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يُعِيدُ وَإِنْ أَصَابَ، وَلَوْ دَخَلَ الْبَصِيرُ
فِي الصَّلَاةِ بِيَقِينِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَطْبَقَ الْغَيْمُ،
وَالظُّلْمَةُ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى الصَّوَابِ حَتَّى
يَعْلَمَ الْخَطَأَ فيعيد
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا اجْتَهَدَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ آَخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فَصَدَّقَهُ تَحَرَّفَ حَيْثُ قَالَ لَهُ
وَمَا مَضَى مُجْزِئٌ عَنْهُ لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ بِهِ مَنْ لَهُ قبول
اجتهاده (قال المزني) قد احتج الشافعي في كتاب الصيام فيمن اجتهد ثم علم
أنه أخطأ أن ذلك يجزئه بأن قال وذلك أنه لو تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ
عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أنه أخطأ أجزأت عنه كما يجزئ ذلك في خطإ
عرفة واحتج أيضاً في كتاب الطهارة بهذا المعنى فقال إِذَا تَأَخَّى فِي
أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ والآخر نجس فصلى ثم أراد أن يتوضأ
ثانية فكان الأغلب عنده أن الذي ترك هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ
بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ ويعيد كل صلاة صلاها بتيمم لأن معه ماء
متيقناً وليس كالقبلة يتأخاها في موضع ثم يراها في غيره لِأَنَّهُ لَيْسَ
مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لقوم (قال المزني) فقد أجاز صلاته
وإن أخطأ القبلة فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا
كُلِّفَ وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا
في حال الصلاة (قال المزني) وهذا القياس على ما عجز عنه المصلي فِي
الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وستر أن فرض الله
كله ساقط عنه دون ما قدر عليه من الإيماء عرياناً فإذا قدر من بعد لم يعد
فكذلك إذا عجز عن التوجه إلى عين القبلة كان عنه أسقط وقد حولت القبلة ثم
صلى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أتاهم آتٍ
فأخبرهم أن القبلة قد حولت فاستداروا وبنوا بعد يقينهم أنهم صلوا إلى غير
قبلة ولو كان صواب عين القبلة المحول إليها فرضاً ما أجزأهم خلاف الفرض
لجهلهم به كما لا يجزئ من توضأ بغير ماءٍ طاهرٍ لجهله به ثم استيقن أنه غير
طاهر فتفهم رحمك الله (قال المزني) ودخل في قياس هذا الباب أن من عجز عما
عليه من نفس الصلاة أو ما أمر به فيها أو لها أن ذلك ساقط عنه لا يعيد إذا
قدر وهو أولى بأحد قوليه من قوله فيمن صلى في ظلمة أو خفيت عليه الدلائل أو
به دم لا يجد ما يغسله به أو كان محبوساً في نجسٍ أنه يصلي كيف أمكنه ويعيد
إذا قدر "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَهَذَا صَحِيحٌ "
وَصُورَتُهَا: فِي أَعْمَى اجْتَهَدَ لَهُ بَصِيرٌ فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ
قَالَ لَهُ آخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَخْلُو
ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ
دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ،
فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ
الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ يَقِينٍ أَوِ
اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَى قَوْلِ
الثَّانِي إِذَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ، لِأَنَّ تَرْكَ
الِاجْتِهَادِ بِالْيَقِينِ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنِ
اجْتِهَادٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَحْوَالٍ:
(2/86)
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ
أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الثَّانِي فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ
وَيَتْرُكُ قَوْلَ الثاني
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ
الأول فيعلم عَلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَعْدِلُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَا فِي الثِّقَةِ وَالْعِلْمِ
سَوَاءً فَيَكُونُ كَالْبَصِيرِ إِذَا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ
فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ
مِنْهُمَا
وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا، وَيُصَلِّي إِلَى جِهَةِ كُلٍّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ
بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهُ
عَنْ يَقِينٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ أَخَبْرَهُ عَنْ يَقِينٍ
صَارَ إِلَيْهِ وَانْحَرَفَ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِهَةُ
وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا يَسِيرًا بَنَى عَلَى
صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جِهَةً أُخْرَى فَهَلْ يَبْنِي، أَوْ
يَسْتَأْنِفُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجنهاد فَإِنْ
كَانَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مَضَى عَلَى جِهَةِ الْأَوَّلِ
وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ
وَأَعْلَمَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَوَّلِ،
فَإِذَا انْحَرَفَ إِلَى جِهَةٍ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا،
لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَا فِي
الثِّقَةِ، وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَلَى حَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ
دُونَ الثَّانِي
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى قَوْلِ
الثَّانِي وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ
بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ
فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَمَ أَوِ
الثَّانِي كَالْبَصِيرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا بَانَ لَهُ
الْخَطَأُ بِاجْتِهَادٍ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنْ يَقِينٍ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْبَصِيرِ إِذَا
تَيَقَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ أبو إسحاق
المروزي أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَصِيرِ بِأَنَّ الْبَصِيرَ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ
يَقِينِ غَيْرِهِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْ كُنْتُ
ذَهَبْتُ إِلَى هَذَا حَتَّى وَجَدْتُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ
عَلَى التسوية بينهما
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا دَخَلَ الْأَعْمَى فِي صَلَاةٍ بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ
أَبْصَرَ الْأَعْمَى فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ
حِينَ أَبْصَرَ عَلَى الْقِبْلَةِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ خَفِيَتْ
عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا
وَتَكُونُ حَالُهُ كَالْمُصَلِّي عُرْيَانًا إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، فَإِنْ
كَانَ قَرِيبًا اسْتَتَرَ بِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ
بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ،
وَإِنْ دَخَلَ
(2/87)
بَصِيرٌ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ثُمَّ
عَمِيَ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَسْتَدْبِرْ
فِيهَا، أَوْ يَتَحَوَّلْ عَنْهَا، فَإِنِ اسْتَدَارَ لَزِمَتْهُ
الْإِعَادَةُ أخطأ أو أصاب
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ دَخَلَ غُلَامٌ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ
يُكْمِلْهَا أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ فَلَمْ يُكْمِلْهُ حتى استكمل خمسة عشرة
سنة أحببت أن يتم ويعيد لا يبين أن عليه إعادة (قال المزني) لا يمكنه صوم
يومٍ هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ في آخر وقتها
غير مصل أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العصر قبل الغروب
أنه يبتدئ العصر من أولها ولا يمكنه في آخر يوم أن يبتدئ صومه من أوله
فيعيد الصلاة لإمكان القدرة ولا يعيد الصوم لارتفاع إمكان القدرة ولا تكليف
مع العجز "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا دَخَلَ الصَّبِيُّ
قَبْلَ بُلُوغِهِ فِي صَلَاةِ وَقْتِهِ ثُمَّ بلغ في تضاعيفها باستكمال خمس
عشر سَنَةً، أَوْ دَخَلَ فِي صِيَامِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ
بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا بِالِاحْتِلَامِ، أو باستكمال خمس عشر سَنَةً
لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا صِيَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ
أَحْبَبْتُ أَنْ يُتِمَّ وَيُعِيدَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى
ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، وَخَالَفَهُمُ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا رابعاً:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: يُتِمُّ
صَلَاتَهُ، وَصِيَامَهُ اسْتِحْبَابًا. وَيُعِيدُهُمَا وَاجِبًا فَحَمَلَ
الاستحباب على الإتمام وَالْإِيجَابَ عَلَى الْإِعَادَةِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ
أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَصِيَامَهُ وَاجِبًا وَيُعِيدُهُمَا
اسْتِحْبَابًا، فَحَمَلَ الْإِتْمَامَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْإِعَادَةَ
عَلَى الِاسْتِحْبَابِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ:
أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ وَاجِبًا، وَإِنْ
كَانَ فَائِتًا أَعَادَ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ
الصَّلَاةَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَا يُعِيدُ
الصِّيَامَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَلَى جَمِيعِ
الْمَذَاهِبِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي
انْتِهَائِهَا، وَعِنْدَ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بُلُوغَهُ فِي
وَقْتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ فَرْضَهَا، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ
بُلُوغِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ نَفْلًا،
وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ، وَلِأَنَّ
بُلُوغَ الصَّبِيِّ فِي حَجِّهِ لَا يُسْقِطُ حَجَّ الْإِسْلَامِ عَنْهُ
كَذَلِكَ بُلُوغُهُ فِي صَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ، لَا يُسْقِطُ فَرْضَ
الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ قَدْ تتعلق
بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ فَلَمَّا كَانَتْ
إِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ تُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا
بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ الْغُلَامِ فِي
تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ فَجَازَ أَنْ
يَنُوبَ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ
بُلُوغِهِ، كَالطَّهَارَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ
الطَّهَارَةُ صَحَّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، كالبالغ، ولأنها
(2/88)
عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ طَرَأَ
الْبُلُوغُ فِيهَا عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا فِي وَقْتٍ يَعْرِضُ
لِفَوَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَالصَّبِيِّ إِذَا أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ عَرَفَةَ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَنُوبُ عَنِ الْفَرْضِ
فَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْمُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ
عِنْدَهُمْ، أَنَّ صَلَاتَهُ نَافِلَةً تَنُوبُ عَنْ فَرِيضَةٍ عَلَى أَنَّ
مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ
قَبْلَ بُلُوغِهِ، لَا نَقُولُ أَنَّهَا نَافِلَة، وَإِنَّمَا نَقُولُ
صَلَاةٌ مِثْلَهُ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ قَبْلَ
عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَرَفَةَ لَمْ
يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَالصَّلَاةُ أَتَى
بِهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ لَمْ
يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يصح منه مع المجنون أَدَاءُ
عِبَادَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَطَهَّرَ لم يجزه، وقد يصح ذلك من
الصبي، ألا ترى أنه لو أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ أبي حنيفة،
وَإِنْ خالفنا داود فمنع من صحة طهارته فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ
ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَةِ الصلاة دون الصيام، وكان من فرقه بينها
أَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ صَوْمُ يَوْمٍ فَهَذَا هُوَ فِي
آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ هُوَ فِي آخِرِهَا غَيْرُ
مُصَلٍّ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ إِنَّمَا أَرَادَ
هُوَ فِي أَوَّلِهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ فَقَالَ:
فِي آخِرِهِ وَقَالَ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْعِبَارَةُ صَحِيحَةٌ،
وَمُرَادُهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ بِأَنَّ
الصَّلَاةَ لَا يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهَا، وَالصَّوْمَ يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهُ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ كُلُّ يَوْمٍ لَا يُمْكِنُهُ
صِيَامُ أَوَّلِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَقَضَاؤُهُ، أَلَا تَرَى
أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ لَا يُمْكِنُ صِيَامُ أَوَّلِهِ وَيَجِبُ
عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَأْكُلْ فَلْيَصُمْهُ فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ آخِرِهِ، وَلَمْ
يُلْزِمْهُمْ صِيَامَ أَوَّلِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ لَوْ عَكَسَ
عَلَيْكَ قَوْلَكَ فِي إِيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ
لَكَانَ أَشْبَهَ، لِأَنَّ الصِّيَامَ أَدْخَلُ فِي الْقَضَاءِ مِنَ
الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ دُونَ الصَّلَاةِ
وَالْمُسَافِرَ يَقْضِي مَا أَفْطَرَ دُونَ مَا قَصَرَ فَكَانَ مَا
ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ فَاسِدًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَاخْتِلَافِ
أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْلُو الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ
مِنْ أربعة أحوال:
أحدها: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ صَلَّى وَلَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ
أَنْ يُصَلِّيَ اتِّفَاقًا
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَكُونُ قَدْ صَلَّى وَأَكْمَلَ
الصَّلَاةَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَجِبُ
عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ
بَاقِيًا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَإِنْ لَمْ
يَبْقَ وَقْتُ الْإِعَادَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا
(2/89)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي
تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي
تَرْكِهَا وَفِي إِتْمَامِهَا، وَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا
وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَمَّهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ
إِتْمَامُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ
إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنْ كَانَ
وَقْتُهَا بَعْدَ إِتْمَامِهَا بَاقِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا
وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا فِي
الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْلُغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَيُفْسِدَهَا
قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ،
فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شهر رمضان فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ جميعهم
والثاني: أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيُتَمِّمَهُ فَعَلَى قَوْلِ
الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ يُجْزِئُهُ وَلَا
يُعِيدُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيَفْسُدَ صَوْمُهُ
فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِاتِّفَاقِهِمْ - وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أعلم
بالصواب -
(2/90)
|