|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَمَا يُجْزِئُ
مِنْهَا وَمَا يفسدها وعدد سجود القرآن)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَإِذَا أَحْرَمَ إِمَامًا، أَوْ وَحْدَهُ نَوَى
صَلَاتَهُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ نَوَى صَلَاتَهُ
وإن كان مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يَنْوِي صَلَاةَ غَيْرِهِ رَدًّا عَلَى
مَالِكٍ، وأبي حنيفة، حِينَ مَنَعَا مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ
وَأَمَّا النِّيَّةُ: فَمِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ
وَالدِّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]
وَالْإِخْلَاصُ فِي كَلَامِهِمْ: النِّيَّةُ
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوى "
فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ
فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: مَحَلُّ النِّيَّةِ
وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ
وَالثَّالِثُ: وَقْتُ النِّيَّةِ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ وَهُوَ
الْقَلْبُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ، لِأَنَّهَا تُفْعَلُ بِأَنْأَى
عُضْوٍ فِي الْجَسَدِ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَلَهُ ثلاثة أحوال:
أحدها: أن ينوي بقلبه، وبلفظ بِلِسَانِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ
أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ
وَالْحَالُ الثانية: أن يلفظ بِلِسَانِهِ وَلَا يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ
فَهَذَا لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الِاعْتِقَادُ
بِالْقَلْبِ؛ كَمَا أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ
فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَدَلَ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَى
الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ لَمْ يُجْزِهِ وَجَبَ إِذَا عَدَلَ بِالنِّيَّةِ
عَنِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ لَا يُجْزِئُهُ
لِعُدُولِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ جَارِحَتِهِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَتَلَفَّظَ
بِلِسَانِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُجْزِئُهُ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ - مِنْ أَصْحَابِنَا - لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى
يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي
كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ " وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِقَلْبِهِ أَنْ
يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَا تصح إلا
(2/91)
بِالنُّطْقِ فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى
وُجُوبِ النُّطْقِ فِي النِّيَّةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
وُجُوبَ النُّطْقِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ هَذَا
الْقَوْلِ حِجَاجًا: أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَلَمْ
تَفْتَقِرْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ
لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ اللِّسَانِ لَمْ تفتقر إلى غيره من الجوارح
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فَتَحْتَاجُ
أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: فِعْلَ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبَهَا،
وَتَعْيِينَهَا، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ
ضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ لَا غَيْرُ، وَضَرْبٍ
يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ لَا غَيْرُ، وَضَرْبٍ
يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ، فَأَمَّا
الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْوُجُوبِ
وَالتَّعْيِينِ فَهُوَ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالطَّهَارَةُ فَإِذَا
نَوَى فِعْلَ الْحَجِّ، أَوْ فِعْلَ الْعُمْرَةِ، أَوِ الطَّهَارَةَ
لِلصَّلَاةِ أَجْزَأَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْوُجُوبَ وَالتَّعْيِينَ،
لِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى النَّفْلِ وَكَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ
لَا يُعْقَدُ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَأَمَّا الَّذِي
يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ دُونَ التَّعْيِينِ
فَهُوَ الزَّكَاةُ، وَالْكَفَّارَةُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَنْوِيَ فِيمَا
يُخْرِجُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَفِي الْعِتْقِ
أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَأَمَّا الَّذِي
يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ
الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ فَيَنْوِي صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمٍ؛ لَكِنِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ تَعْيِينُهَا يُغْنِي عَنْ نِيَّةِ
الْوُجُوبِ، حَتَّى إِذَا نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ أَغْنَى عَنْ أَنْ
يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ؟ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا
تُغْنِي نِيَّتُهُ أَنَّهَا ظُهْرٌ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ،
وَلَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ قَالَ:
لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَلَا
يَكُونُ فَرْضًا، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ ظُهْرِ
يَوْمِهِ الْفَرِيضَةَ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا
نَوَى أَنَّهَا ظُهْرٌ أَغْنَى عَنْ [أَنْ يَنْوِيَ] أَنَّهَا فَرْضٌ،
لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا، وَلَيْسَ إِذَا سَقَطَ
فَرْضُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا،
لِأَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ هَكَذَا تَكُونُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَوَى
ظُهْرَ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ لَمْ
يَنْوِهَا لِيَوْمِهِ أَوْ وَقْتِهِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ
فَائِتَةٌ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا ظُهْرَ يَوْمِهِ
لِتَمْتَازَ عَنِ الْفَائِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ
أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ فَلَا يَلْزَمُهُ
تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِأَيَّامِهَا وَإِنَّمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ
الْفَائِتَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَنْوِيَ مِنْ يَوْمِ كَذَا في شهر كذا فلا
يلزمه
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ: " مَعَ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَإِنْ
نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ نَوَى قَبْلَ
التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَدِيمَ النِّيَّةَ إِلَى
وَقْتِ التَّكْبِيرِ "
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ
أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يُجْزِهِ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَأُحِبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ
فَإِنْ لَمْ يَنْوِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، فَأَمَّا أبو حنيفة
فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ
تَقْدِيمُهَا فِي الصِّيَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ
جَازَ
(2/92)
تَقْدِيمُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى
الدُّخُولِ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ النِّيَّةِ مَعَ
ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا يَشُقُّ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَإِنَّهُ
اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَارَنَ
النِّيَّةَ بِالتَّكْبِيرِ لَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَبْلَ
النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ تَأَخَّى بِنِيَّتِهِ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ
يُجْزِهِ لِتَقَدُّمِ جُزْءٍ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِ نِيَّتِهِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى أبي حنيفة فِي أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ لَا يَجُوزُ:
أَنَّهُ إِحْرَامُ عُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ
قِيَاسًا عَلَى الزَّمَانِ الْبَعِيدِ، وَيُفَارِقُ مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ
مِنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ فِيهِ
بِالزَّمَانِ الْقَرِيبِ جَازَ بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ وَالصَّلَاةُ،
لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ
الْبَعِيدِ لَمْ يَجُزْ بِالزَّمَانِ الْيَسِيرِ
وَالثَّانِي: أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصِّيَامِ لَا يَفْعَلُهُ بِالزَّمَانِ
فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ وَدُخُولَهُ إِلَى
الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَلَمْ يُشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي
أَوَّلِهَا
وَالدَّلِيلُ عَلَى دَاوُدَ: أَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ
عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِدَامَةُ النِّيَّةِ إِلَيْهِ كَالصِّيَامِ
فَلَمَّا كَانَ وُجُوبُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرًا لَمْ
يَكُنْ تَقْدِيمُهَا قبل الإحرام واجباً، وفيه انفصال
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا أَحْرَمَ وَنَوَى ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَتْ نِيَّتُهُ
مُقَارِنَةً لِإِحْرَامِهِ أَوْ مُقَدِّمَةً؟ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى
يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ نَاوِيًا مَعَهُ، فَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ
مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لِإِحْرَامِهِ فَإِنْ تَيَقَّنَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ
فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ الشَّكِّ عَمَلًا مِنْ قِرَاءَةٍ، أَوْ رُكُوعٍ
فَصَلَاتُهُ باطلة، وإن تقين قبل أن عمل فِيهَا عَمَلًا فَإِنْ كَانَ
الزَّمَانُ قَرِيبًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا وَإِنْ كَانَ
الزَّمَانُ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْقُرْبِ إِلَى حَدِّ الْبُعْدِ فَفِي
صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ وَيَسْتَأْنِفُهَا، لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا
عَمَلٌ مِنْهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا، لِأَنَّ
اللُّبْثَ مَقْصُودٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهَا، وَلَيْسَ هُوَ
الْمَقْصُودَ مِنْ عَمَلِهَا، وَهَكَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى ظُهْرًا،
أَوْ عَصْرًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَيَقَّنَهَا
فَإِنْ تَيَقَّنَهَا بَعْدَ الشَّكِّ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ التقسيم
والجواب
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوِ
اللَّهُ الْأَكْبَرُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي
الصَّلَاةِ مُحْرِمًا إِلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ
أَكْبَرُ فَأَمَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ فَلَا يَصِحُّ
وَقَالَ أبو يوسف: يَصِحُّ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ التَّكْبِيرِ [مِنْ
قَوْلِهِ] اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ
الْكَبِيرُ
(2/93)
وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ بِكُلِّ
أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِكُلِّ مَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ
تَعَالَى إِلَّا قَوْلَهُ " مَالِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ " وَ " اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي " وَ " حَسْبِيَ اللَّهُ " اسْتِدْلَالًا بقوله سبحانه: {قد
أفلح من تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15] قَالَ:
وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ فَصَحَّ
انْعِقَادُهَا بِهِ كَقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ
لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ أَوْ
بِمَعْنَاهُ، فَلَمَّا صَحَّ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " دَلَّ عَلَى
أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ
وَدَلِيلُنَا: رواية مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "
وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ
لِيُكَبِّرْ "
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ
وَيَخْتِمُ بِالتَّسْلِيمِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي "، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الْأَذَانِ
بِهِ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ بِهِ كَقَوْلِهِ " حَسْبِيَ
اللَّهُ "، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي افْتِتَاحِهَا التَّكْبِيرُ
فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِهِ كَالْأَذَانِ وَإِنَّ الذِّكْرَ
الْمَفْرُوضَ لَا يُؤَدَّى بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا،
كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، لِأَنَّهُ
عَقِبَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَيَّنَتْهُ النِّيَّةُ مِنَ
التَّكْبِيرِ
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ لَا بِاللِّسَانِ،
لِأَنَّ ضِدَّهُ اللِّسَانُ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ، وَأَمَّا
قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ صِحَّةُ افْتِتَاحِ
الْأَذَانِ بِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
الِاعْتِبَارُ بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ وَقَوْلُهُ: اللَّهُ
أَكْبَرُ قَدْ تَضَمَّنَ لَفْظَ التَّكْبِيرِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ لَا
يُوجَبُ إِلَّا فِيمَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْعُ ذَلِكَ
مِنِ افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُ
قَدْ أَتَى بِلَفْظِ قَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَمَعْنَاهُ وَزَادَ
عَلَيْهِ حَرْفًا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْجَوَازِ كَمَا لَوْ قَالَ: "
اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ "، وَأَمَّا إِجَازَةُ أبي يوسف افْتِتَاحَهَا
بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْكَبِيرُ، فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ وَإِنْ كَانَ
فِي لَفْظِ أَكْبَرَ وَزِيَادَةٍ فَهُوَ مُقَصِّرٌ عَنْ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ
أَفْعَلَ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ مِنْ فَعِيلٍ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهَا إِلَّا بِقَوْلِهِ
" اللَّهُ أَكْبَرُ " أَوِ " اللَّهُ الْأَكْبَرُ "، فَزَادَ عَلَى ذَلِكَ
شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ
وَأَعْظَمُ، أَوِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، أَوِ الله أكبر
(2/94)
كَبِيرًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ
نَخْتَرْهُ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالتَّكْبِيرِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَدَحَهُ
بِأَنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَصِيرُ بِهِ التَّكْبِيرُ مَفْصُولًا عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ أَكْبَرُ، أَوْ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ
أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا يَجْعَلْ مَا
بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مَفْصُولًا مِثْلَ قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَكْبَرُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ
خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّكْبِيرِ إِلَى الشاء، والتهليل فإن قَالَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ [اللَّهُ] فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ أَبْلَغُ
فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْإِلْبَاسَ،
وَيَخْرُجُ عَنْ صَوَابِ التَّكْبِيرِ وَصِيغَتِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ
أَكْبَرُ اللَّهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا
مَفْهُومًا، وَلَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ
كَتَرْكِهِ الرَّاءَ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ
النُّطْقِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ، لِأَنَّ لِسَانَهُ
لَا يَدُورُ بِهِ كَالْأَلْثَغِ فَيُجْزِئُهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ يَنْعَقِدُ بِمَا
ذَكَرْنَا فَالْإِحْرَامُ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَحَدُ
الْأَرْكَانِ فِيهَا
قَالَ أبو حنيفة: الْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ
بِهِ فِي الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ "، وَأَضَافَ التَّكْبِيرَ
إِلَى الصَّلَاةِ وَالشَّيْءُ إنما يضاف إلى غيره كقولهم غُلَامُ زَيْدٍ،
وَثَوْبُ عُمَرَ، وَكَأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ
لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا جَازَ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ
أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَا
يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا
صَارَ بِكَمَالِهِ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا
لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ
صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ
إِنَّمَا هَيَ تَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ " فِلَمَّا جُعِلَ التَّكْبِيرُ فِي
الصَّلَاةِ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهَا إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ دَلَّ
عَلَى أَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ
كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ
كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي
افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا كَالْأَذَانِ،
وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ الَّذِي لَا يَنْفَصِلُ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ
مِنِ الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ،
وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِرَاءَةِ مَا لَيْسَ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ،
كَالتَّوَجُّهِ
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ لا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ
يُضَافُ إِلَى جُمْلَتِهِ كَمَا قَدْ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا
يُقَالُ: رَأْسُ زَيْدٍ وَيَدُ عُمَرَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ
بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ
صَلَاتِهِ، قُلْنَا: إِنَّمَا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا
يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَمْ
يَأْتِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِهِ، وَأَمَّا
اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا
بِكَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّلَاةِ لِتَقَدُّمِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ،
لِأَنَّهُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ وَابْتِدَاؤُهَا وَالدُّخُولُ فِي
الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
ابْتِدَاءَ الشَّيْءِ لَيْسَ مِنْهُ
(2/95)
(فَصْلٌ)
: قَالَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَتِ
الصَّلَاةُ فُرَادَى أَسَرَّ الْمُصَلِّي بِالتَّكْبِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ
جَمَاعَةً جَهَرَ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ وَأَسَرَّ بِهِ الْمَأْمُومُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ كَثِيرًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ
عَدَدٌ مِنْهُمْ لِيَسْمَعَ جَمِيعُهُمْ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " فإن لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ كَبَّرَ بِلِسَانِهِ
وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ
بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ بِغَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أبا حنيفة فَإِنَّهُ
انْفَرَدَ بِجَوَازِ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُ
التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ
ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصَارَ بِهِ مُسْلِمًا
وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَانَ فِي التَّكْبِيرِ مِثْلَهُ
وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ
بِالتَّكْبِيرِ الْعَرَبِيِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى
أَذْكَارٍ، وَأَفْعَالٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَفْعَالِ
إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ
الْأَذْكَارِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَأَمَّا لَفْظُ
الشَّهَادَتَيْنِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ:
لَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ فعلى
قوله يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَمَّا جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ
ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ
يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ: أَنَّ أَذْكَارَ
الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَصْفٍ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فَلَزِمَ
الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَالْمَقْصُودُ
بِالشَّهَادَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا
الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ لَفْظُ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَكَبَّرَ بِلِسَانِهِ
فَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ
الِانْتِقَالَ إِلَى أَبْدَالِهَا، فَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ
الْعَرَبِيَّةَ، وَيُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّةَ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهَا يُكَبِّرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ
اللُّغَاتِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ
والوجه الثاني: أن يُكَبِّرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ أَنْزَلَ بها كتابه وَمَا أَنْزَلَ بِالْفَارِسِيَّةِ كِتَابًا
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ
يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ والتركية فأحد الوجهين يكبر بالفارسية [والثاني
بالخيار، لو كان يحسن السريانية والنبطية فأحد الوجهين يكبر بالسريانية]
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ،
وَالْهِنْدِيَّةَ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا
(2/96)
وَجْهًا وَاحِدًا، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ
جَوَّزْتُمْ لَهُ التَّكْبِيرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ لَا
يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْقُرْآنِ نَظْمًا مُعْجِزًا
يَزُولُ إِعْجَازُهُ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ
يَكُنْ قُرْآنًا وَلَيْسَ فِي التَّكْبِيرِ إِعْجَازٌ يَزُولُ عَنْهُ إِذَا
زَالَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ "
يَعْنِي: مَا سِوَى الْقِرَاءَةِ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ
كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ ذَلِكَ كُلَّهُ
بِالْعَرَبِيَّةِ [قاله بلسانه وإن كان يحسن العربية قاله
بِالْعَرَبِيَّةِ] فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ
يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرًا وَاجِبًا،
كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ
مُسْتَحَبًّا مَسْنُونًا كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّوَجُّهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ
أَسَاءَ
(فصل)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وعليه أن يتعلم "
يعني: هذه الْأَذْكَارِ مِنَ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَا
يُحْسِنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا
بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ
وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وإن لم يقدر عَلَى تَعَلُّمِهَا إِمَّا
لِتَعَذُّرِ مَنْ يُعَلِّمُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ إِذَا ذَكَرَهَا
بِلِسَانِهِ ثُمَّ فَرْضُ التَّعْلِيمِ بَاقٍ عَلَيْهِ إِذَا قَدِرَ،
وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عدم في موضعه من يعلمه أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى
بَلَدٍ آخَرَ لِيَجِدَ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا
عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَوْضِعِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى نَاحِيَةٍ يَجِدُ
الْمَاءَ فِيهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَنْ
يُعَلِّمُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَنْ يَطْلُبَ فِي
مَوْضِعِهِ مَاءً يستعمله
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُكَبِّرُ إِذَا كَانَ إِمَامًا
حَتَّى تَسْتَوِيَ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا
وَقَفَ فِي مِحْرَابِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ إِقَامَتِهِ
أَلَّا يُحْرِمَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ
خَلْفَهُ يَمِينًا فَيَقُولُ: استووا رحمكم اللَّهُ، وَيَلْتَفِتُ يَسَارًا
فَيَقُولُ كَذَلِكَ، وَأَيْنَ رَأَى فِي الصُّفُوفِ خَلَلًا أَمَرَهُمْ
بِالتَّسْوِيَةِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا أَحْرَمَ بِهِمْ وَلَمْ يَنْظُرِ
اسْتِوَاءَ صُفُوفِهِمْ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَوُّوا
صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصلاة "
(2/97)
وَرَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُسَوِّي الصَّفَّ حَتَّى يَجْعَلَهُ مِثْلَ
الْقِدَاحِ، أَوِ الرِّمَاحِ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدْرَ رَجُلٍ قَائِمًا فَقَالَ: " عِبَادَ اللَّهِ
لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ
"
وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقِيمُوا الصُّفُوفَ
وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ
وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا
قَطَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَحْرَمَ
قَبْلَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِحْرَامِ فَتَقَدَّمَ
بِهِ بَعْضُهُمْ وَتَأَخَّرَ بِهِ الْبَعْضُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا
مُتَّفِقِينَ فِي اتِّبَاعِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا يتفقون في سائر
الأركان
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ فَمَسْنُونٌ بِاتِّفَاقٍ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ
رَفْعِهِمَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا إِلَى
مَنْكِبَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْفَعُهُمَا إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ اسْتِدْلَالًا
بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْفَعُ إِبْهَامَيْهِ
فِي الصَّلَاةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ
وروى عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ
افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ قَالَ ثُمَّ
أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صدورهم في
افتتاح الصلاة وعليهم برانيس، وأكيسة "
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ
يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ
ذَلِكَ إِذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ
إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ
(2/98)
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ
وَأَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ
فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَشْهَرُ عَمَلًا
فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ وَائِلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ
إِلَى الْأُذُنَيْنِ، وَرُوِيَ إِلَى الصَّدْرِ فَكَانَ بَعْضُهُ يُعَارِضُ
بَعْضًا، وَحَدِيثُنَا مُؤْتَلِفٌ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَهُوَ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَنْ رَوَى إِلَى
الصَّدْرِ عَلَى ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْأُذُنَيْنِ
عَنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فِي انْتِهَاءِ الرَّفْعِ، وَمَنْ رَوَى إِلَى
الْمَنْكِبَيْنِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْكَفَّيْنِ فِي مَقْصُودِ الرَّفْعِ
فتصير مُسْتَعْمِلِينَ لِلرِّوَايَاتِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: كُلُّ هَذَا مِنَ اخْتِلَافِ
الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ رَفْعُهُمَا إِلَى
الْمَنْكِبَيْنِ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ، والمأموم [والرجل] ،
وَالْمَرْأَةُ، وَالْقَائِمُ، وَالْقَاعِدُ فِي الْفَرِيضَةِ،
وَالنَّافِلَةِ فَإِذَا رَفَعَهُمَا نَشَرَ أَصَابِعَهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَنَشَرَ أَصَابِعَهُ، فَلَوْ كَانَ
بِيَدَيْهِ مَرَضٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رفع إحدى يديه دون الأخرى رفعها،
وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفَّيْنِ رَفَعَ زَنْدَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ،
وَلَوْ رَكَعَ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ لِأَنَّهُ
إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ خَالَفَ هَيْئَةَ الرُّكُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي
رَفْعِهَا لِلتَّكْبِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا هَيْئَةَ
شَيْءٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ويأخذ كوعه الْأَيْسَرِ بِكَفِّهِ
الْيُمْنَى وَيَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ لَهُ ذَلِكَ لِرِوَايَةِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ
الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ
الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ "
(2/99)
وَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى
الْيُمْنَى فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ
بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَوْ خَشَعَ قَلْبُكَ
لَخَشَعَتْ يَدُكَ وَأَمَرَهُ بِوَضْعِ اليمنى على اليسرى
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَمِنَ السُّنَّةِ
أَنْ يَضَعَهَا تَحْتَ صَدْرِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: تَحْتَ سُرَّتِهِ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كان يضعها
تحت سرته
دليلنا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْعَلُهَا
تَحْتَ صَدْرِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
[الكوثر: 2] أَنْ يَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عِنْدَ النَّحْرِ فِي
الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ، وَتَحْتَ الصَّدْرِ
الْقَلْبُ وَهُوَ مَحَلُّ الْخُشُوعِ، وَكَانَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ
أَبْلَغَ فِي الْخُشُوعِ مِنْ وَضْعِهَا على العورة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَمَّا لفظ التوجه فمسنون بإجماع
إنما الِاخْتِلَافُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِفَتِهِ
وَالثَّانِي: فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا صِفَةُ التَّوَجُّهِ فَهُوَ مَا
ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ أبو حنيفة: بِمَا رَوَاهُ أبو الجوازء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا
إِلَهَ غَيْرُكَ " تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاسْتِدْلَالًا
بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَسَبِّحْ بحمد ربك حين تقوم}
(2/100)
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي،
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وأنا أول الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا
عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي
ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا أَنْتَ اصْرِفْ عَنِّي
سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ أَنَا
بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ
إِلَيْكَ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوَهُ، فَكَانَ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ هذه الرواية ثلاثة أشياء:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَثْبَتُ إِسْنَادًا، وَأَشْهَرُ
عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَتْنًا
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَمُشَابِهٌ لِحَالِ الْمُصَلِّي، وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ
وَذَاكَ نَوْعٌ فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} فَيُحْمَلُ عَلَى أَمْرَيْنِ إِمَّا
عَلَى الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَإِمَّا عَلَى التَّسْبِيحِ فِي
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَفِي الصَّلَاةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإحرام وبه قال
أبو حنيفة، قال مالك: يتوجه قبل الإحرام لتحقق ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ
وَالْإِحْرَامِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا
افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات
وَالْأَرْضَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَّهْتُ وَجْهِي مَعْنَاهُ قَصَدْتُ
بوجهي الله سبحانه وأنشد الفراء:
(2/101)
(أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب
العباد إليه الوجه والعمل)
يعني: إليه القصد، والعمل وإذا كان معناه قصدت بوجهي الله فهو قبل الإحرام
غير قاصد بوجهه لله تعالى وإنما هو عازم على العقد وبعد الإحرام قاصد، لأنه
يخبر عن حقيقة توجهه، فكان ذكره في حقيقته أولى منه في مجازه
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ مَا وَصَفْنَا بَعْدَ
الْإِحْرَامِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ لِلرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا فَيَقْتَصِرُ فِيهِ إِلَى
قَوْلِهِ: " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ "، وَلَا يَقُولُ مَا بَعْدَهُ
لِئَلَّا تَطُولَ الصَّلَاةُ وَيَقْطَعَ النَّاسَ عَنْ أَشْغَالِهِمْ،
وَيَتَأَذَّى بِهِ الْمَرِيضُ مِنْهُمْ، وَلَا يَقُولُ، وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَتَعَوَّذُ، وَيَقُولُ أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَوَّذَ
فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّوَجُّهِ، وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من الشيطان
الرجيم} وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَتَّى لَا
يَكُونَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ذِكْرٌ إِلَّا الْقِرَاءَةُ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ
رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: "
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ نفخته وَنَفْثِهِ
وَهَمْزِهِ " قَالَ: نَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ، وَهَمْزُهُ
الْجُنُونُ
وَرَوَى أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذَا قَامَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ثم يقرأ. . "
(فصل)
: فإذا أثبت أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ
الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ،
وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَحْدَهَا
(2/102)
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يَتَعَوَّذُ فِي
كُلِّ رَكْعَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنَ
الدُّعَاءِ مَحَلُّهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَالِاسْتِفْتَاحِ،
وَيُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا
فَإِنْ جَهَرَ بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ
الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ، وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لقوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ،
وَقَوْلُهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ
الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَهُ،
فَصَارَ أُولَاهُ لِإِبَانَةِ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَا وَرَدَتْ
بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَقْرَأُ مُرَتِّلًا بِأُمِّ
الْقُرْآنِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي
الصَّلَاةِ فَوَاجِبَةٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، وَالْأَصَمُّ: الْقِرَاءَةُ
سُنَّةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالنَّاسِ فَلَمْ
يَقْرَأْ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ: نَسِيتَ الْقِرَاءَةَ قَالَ: كَيْفَ كَانَ
الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ: قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِذًا،
وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ لِرِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخرج فناد في المدينة أَنْ لَا صَلَاةَ
إِلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - سُئِلَ أَتَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: أَوَ تَكُونُ
صَلَاةٌ بِلَا قِرَاءَةٍ، وَلَعَلَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا هُرَيْرَةَ بِالنِّدَاءِ لِأَجْلِ
هَذَا السُّؤَالِ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَجُوزُ
أَنْ يكون تركها ناسياً، أو أسرها
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ لَا يُجْزِي غَيْرُهَا
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ
وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ آيِ الْقُرْآنِ إِنْ شاء استدلالاً
بقوله تعالى: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ،
وَتَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ يُزِيلُ الظَّاهِرَ عَنْ
حُكْمِهِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَبِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ
إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " أَوْ غَيْرِهَا " قَالَ: وَلِأَنَّهُ
ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ فِيهِ مَا
يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عَلَيْهَ كَالتَّكْبِيرِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ
فِيهِ إِعْجَازٌ فَوَجَبَ أَنْ يُتِمَّ بِهِ الصَّلَاةَ كَالْفَاتِحَةِ،
قَالَ: ولأن الخطبة تجري عندكم مجرى الصلاة، فلما لم تتعين القرآة فيها
لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الصَّلَاةِ
(2/103)
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيُّ عَنْ
مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " وَرَوَى سُفْيَانُ
عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
" لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ
خِدَاجٌ " يَعْنِي: نَاقِصَةٌ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
" ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ
الْعِبَادَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ مُتَعَيِّنَةٌ كَالْحَجِّ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُسْتَحَبُّ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْخُطْبَةِ أَوْ فِيمَا عَدَا
الْفَاتِحَةَ
وَالثَّالِثُ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ
ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ
سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ بَعْضُ
آيَةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ
فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
أَوْ بِغَيْرِهَا " يَعْنِي: وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ [الْكِتَابِ]
لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْ بِغَيْرِهَا لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا أَوْ لِأَنَّ
ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْفَاتِحَةِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ، فَالْأَصْلُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ
عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَلَمْ نُسَلِّمْ، لِأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ يَجُوزُ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التَّكْبِيرِ عَلَى صِفَةٍ
مَخْصُوصَةٍ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخُطْبَةِ فَهُوَ أَصْلٌ
يُخَالِفُونَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَيْنَا،
ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخِطْبَةِ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ أَرْكَانُهَا
لَمْ تَتَعَيَّنِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي
تَتَعَيَّنُ أركانها
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قرأ أم القرآن وعدها آية "
(2/104)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا
قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِنْدَنَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ
سُورَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ
فَلَيْسَتْ آيَةً مِنْهَا
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا أَوْ
قَطْعًا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ
سُورَةٍ حُكْمًا إِلَّا سُورَةَ النَّمْلِ فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا
قَطْعًا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ
سُورَةٍ قَطْعًا كَسُورَةِ النَّمْلِ إِلَّا التَّوْبَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ:
لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ
سُورَةِ النَّمْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهَا الْقِرَاءَةَ
فِي الصَّلَاةِ إِلَّا فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَمَّا أبو حنيفة
فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهَا ليست من القرآن إلى فِي سُورَةِ النَّمْلِ
كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَحَكَى بَعْضُ أصحابه أَنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ السُّورَةِ،
وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ
كُلِّ سُورَةٍ بِأُمُورٍ
مِنْهَا: رِوَايَةُ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يفتتحون الصلاة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
قَالُوا: وَلِأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: له اقرأ
قال: ما أَقْرَأُ؟ قَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:
1] وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِيهَا فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقُرْآنِ
لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ فَلَمَّا كَانَ
لَفْظُ القرآن لا يثبت بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ كَذَلِكَ
مَحَلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ قَالُوا:
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قَدْ أَجْمَعَتْ فِي كَثِيرٍ
مِنَ السُّوَرِ عَلَى عَدَدِ آيِهَا فَمِنْ ذَلِكَ سُورَةُ {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ،
فَلَوْ كَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا لَكَانَتْ
خَمْسًا، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ أَجْمَعُوا عَلَى أنها ثلاثون آية
ودليلنا رواية بن جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية الحمد لله رب العالمين آية، الرحمن الرحيم آية،
مالك يوم الدين آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، إهدنا الصراط المستقيم
آيَةَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم
ولا الضالين آيَةً، وَهَذَا نَصٌّ
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الحمد لله رب العالمين سبع آيات
(2/105)
أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم وَهِيَ
السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرْآنِ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ
آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أحد قبلي إلى عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ بْنِ
دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَ تَسْتَفْتِحُ قِرَاءَةَ
الْفَاتِحَةِ فَقَالَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هِيَ هِيَ "
وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ نَحْوَهُ
وَرَوَى فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ
أَنَسٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن
الرحيم إنا أعطيناك الكوثر. . حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا
الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهُ
نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَعْرِفُ فَضْلَ
السُّورَةِ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً " يَعْنِي:
أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ
الْإِجْمَاعِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرَى الْقَتْلَ
قَدِ اسْتَمَرَّ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَذْهَبَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ
جَمَعْتَهُ فقال أبو بكر رضي الله عنه ليزيد بْنِ ثَابِتٍ اجْمَعْهُ
فَجَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَرِفَاقِهِمْ فِي مُصْحَفٍ فَكَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بَعْدَهُ فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَهُ إِلَى
ابْنَتِهِ حَفْصَةَ حَتَّى قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنَ
الْعِرَاقِ عَلَى عُثْمَانَ، وَذَكَرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي
الْقُرْآنِ فَأَخَذَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُصْحَفَ مِنْ
حَفْصَةَ وَكَتَبَ منه ست نسخ، وأنقذ كُلَّ مُصْحَفٍ إِلَى بَلَدٍ،
وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا
بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قُرْآنٌ وَكَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ مَكْتُوبَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ
دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ أَسْمَاءَ السُّوَرِ،
وَذَكَرَ الْأَعْشَارَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ
الْقُرْآنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
(2/106)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا أَحْدَثَهُ
الْحَجَّاجُ فِي زَمَانِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِبَارٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ السُّورَةِ
فَأَثْبَتُوا الْأَسْمَاءَ، وَالْأَعْشَارَ بِغَيْرِ خَطِّ الْمُصْحَفِ
لِيَمْتَازَ عَنِ الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ بِخَطِّهِ
فَهُوَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ
لَكَانَ جاحدها كافر كمن جحد الفاتحة قيل: فلم لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقُرْآنِ
لَكَانَ مَنْ أَثْبَتَهَا منه كافر كَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرَ ذَلِكَ وَمَعَ
هَذَا فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ
مِنَ
(2/107)
الْقُرْآنِ فَلَمْ يُكَفَّرْ، وَلَمْ
يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ قُرْآنٍ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ
سَبْعُ آيَاتٍ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ فَمَنْ أَثْبَتَ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ
صِرَاطَ الذين أنعمت عليهم، وَمَنْ نَفَاهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ
السَّابِعَةِ غَيْرِ المغضوب فَكَانَ إِثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِيَكُونَ الْكَلَامُ فِي السَّابِعَةِ تَامًّا مُسْتَقِلًّا
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِدَاءُ فِي السَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ
غَيْرِ المغضوب عليهم؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ اسْتِثْنَاءٍ، وَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ آيَةٌ مُبْتَدَأَةٌ بِهِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا فَالْمُرَادُ به سورة الحمد لله رب العالمين
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بسورة
اقرأ باسم ربك فَهُوَ: أَنَّ السُّورَةَ قَدْ كَانَتْ تَنْزِلُ فِي
مَرَّاتٍ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ
تَنْزِلُ بَعْدَ نُزُولِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ إِثْبَاتَ
مَحَلِّهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَحَلُّهَا تِلَاوَةً
بِالْإِجْمَاعِ [وَحُكْمًا] بِالِاسْتِفَاضَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ
سُورَةَ قل هو الله أحد أَرْبَعُ آيَاتٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى مَا سِوَى بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوهَا مَعَ الْآيَةِ
الْأُولَى وَاحِدَةً
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا فَحُكْمُهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ حُكْمُ
الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ جَهَرَ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ
الْجَهْرِ، وَيُسِرُّ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسِرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ
وَالْإِسْرَارِ
وَقَالَ إِسْحَاقُ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ يُسِرُّ بِهَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ قَالُوا: لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لو جهر بها لكان النفل
بِهَا مُسْتَقِيضًا كَالْجَهِيرِ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَمَا كَانَ عَلَى
أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
(2/108)
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا قَدِمَ المدينة صلى
صلاة جهر فقر أبسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ،
وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا لِلسُّورَةِ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَسَرَقْتَ الصَّلَاةَ يَا مُعَاوِيَةُ،
أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَدَلَّ هَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجَهْرِ
بِهَا وَإِنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا
كَسَائِرِ آيِ الْفَاتِحَةِ
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ الْإِسْرَارِ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الجهر بها لو كان سنة لكان نفلة
مُسْتَفِيضًا فَيُقَالُ: وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَارُ بِهَا سُنَّةً لَكَانَ
ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَالرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تقرر أن " بسم الله الرحمن الرحيم " مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَفِي
حُكْمِهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ
الْفَاتِحَةَ بَعْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ
وَاسْتَأْنَفَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا بِهَا بِبِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَوْ تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ
حَرْفًا مِنْ آيَةٍ أَتَى بِمَا تَرَكَ وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ لِيَكُونَ
عَلَى الْوَلَاءِ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ
مُسْتَحَقٌّ، وَلَوْ أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَوَى قَطْعَهَا
وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ
نِيَّةِ الْقَطْعِ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهَا إِذَا كَانَ عَلَى
التِّلَاوَةِ لَهَا خِلَافَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَبْطُلُ بِنِيَّةِ
الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَلَمْ
يُؤَثِّرْ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ وَالصَّلَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى
نِيَّةٍ فَأَثَّرَ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ
نَوَى قَطْعَهَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهَا كَانَ قَطْعًا لَهَا،
وَلَوْ سَكَتَ مَعَ نِيَّةِ الْقَطْعِ فَإِنْ كَانَ سُكُوتًا طَوِيلًا
كَانَ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَلَوْ كَانَ سُكُوتًا
قَلِيلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَطْعًا وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ
بِنِيَّةِ الْقَطْعِ الْفِعْلُ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ قَطْعًا، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا
تَأْثِيرَ لَهَا، وَالسُّكُونُ الْقَلِيلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ
قَطْعًا لَهَا فَأَمَّا قَوْلُ الشافعي ويقرأ ترتيلاً فلقوله تعالى: {ورتل
القرآن ترتيلاً} [الزمل: 4] قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ التَّرْتِيلِ
تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ الْإِبَانَةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْأَحْكَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي
كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ
بَطَلَتْ
وَقَالَ دَاوُدُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهَا
وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا غَيْرُ
(2/109)
وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ
فِي أَكْثَرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ ظُهْرًا قَرَأَ فِي ثَلَاثِ
رَكَعَاتٍ وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ
كَانَتْ صُبْحًا قَرَأَ فِي جَمِيعِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
يَقْرَأُ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ وَيُمْسِكُ فِي بَعْضِهَا فَقِيلَ لَهُ:
فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: أَيُتَّهَمُ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ أبو حنيفة: وَلِأَنَّ الْجَهْرَ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا
بِرَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ مُخْتَصَّةً
بِرَكْعَتَيْنِ قَالُوا: وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ لَا
تَكُونُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وِدَلِيلُنَا
رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةٌ
فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ، كُلُّ
صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ عِنْدَنَا
فَقَالَ رَجُلٌ أَرَأَيْتَ إِنْ قَرَأْتُ بِهَا وَحْدَهَا يُجْزِي عَنِّي
فَقَالَ: إِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا أَجْزَأَتْكَ، وَإِنْ زِدْتَ
عَلَيْهَا فَهُوَ حَسَنٌ "
وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا وَصَفَ لِلرَّجُلِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى،
وَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِيهَا قَالَ ثُمَّ اصْنَعْ
ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي
الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ شُرِعَ فِي الرَّكَعَاتِ
فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ كَالتَّسْبِيحِ، وَأَمَّا مَا
تَكَرَّرَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَكُونُ
إِيجَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ مَا
لَزِمَ فِي الثَّانِيَةِ لَزِمَ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ
كَالْقِيَامِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ لَهُ مِنْ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ
اسْتَحَقَّتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَالْأُولَيَيْنِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ
الْقِرَاءَةِ مُسْتَحَقٌّ بِتَكْرَارِ الرَّكَعَاتِ كَالصُّبْحِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إليه إذا قرأ فيه؛
لِأَنَّهُ فِي صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا
يَكُونُ مُتَّهَمًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفْيٌ قَدْ عَارَضَهُ إِثْبَاتٌ فَكَانَ أَوْلَى
مِنْهُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْجَهْرِ بِالْأُولَيَيْنِ فَكَذَلِكَ
الْقِرَاءَةُ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ فِيهَا
الْقِرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جهر فكذلك الأولتان
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، فَالْمَعْنَى
فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ نُطْقًا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُهُ
مُسْتَحَقًّا وَالْقِرَاءَةُ لَمَّا تَكَرَّرَتْ نُطْقًا كَانَ تكرارها
مستحقاً
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا قال " ولا الضالين " قال آمين فيرفع
بها صوته ليقتدي به من خلفه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - " إذا أمن الإمام فأمنوا " وبالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه جهر بها وأمر الإمام بالجهر بها " قال
الشافعي " رحمه الله: وليسمع من خلفه أنفسهم "
(2/110)
قال الماوردي: وهذا كما قال وإذا فرغ
الإمام عن قراءة الفاتحة فقال: ولا الضالين، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ
يَقُولَ بَعْدَهُ: آمِينَ لِيَشْتَرِكَ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ
جَهْرًا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: يُسِرُّ به الإمام والمأموم في صلاة الجهر والإسراء
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقُولُهُ الْمَأْمُومُ وَحْدَهُ دُونَ الْإِمَامِ
اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قال: إذا قال الإمام ولا الضالين فَقُولُوا آمِينَ قَالَ: وَلِأَنَّ مِنْ
سُنَّةِ الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْ يَدْعُو بِهِ
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ
فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تسبقني بآمين "
روى قَيْسُ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْهَرُ بَآمِينَ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
إِذَا صَلَّى قَالَ آمِينَ حَتَّى يُسْمَعَ لِصَوْتِهِ طَنِينٌ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا حَسَدَتْكُمُ
النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ "
وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ استجب
(2/111)
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِرِوَايَةِ
وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ مَا عَارَضْنَا، وَأَمَّا
اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ التَّأْمِينَ عَلَى الدُّعَاءِ يَكُونُ مِنْ
غَيْرِ الدَّاعِي فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا
الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ فَمُخَالِفٌ لَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَلَا فَرْقَ
فِيهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، لَكِنْ لَا تَخْلُو الصَّلَاةُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ إِسْرَارٍ، أَوْ جَهْرٍ،
فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ خَافَتَ بِهَا الْإِمَامُ وَلَمْ
يَجْهَرْ مَخَافَةَ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَّبِعُوهُ فِي
الْإِسْرَارِ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ جَهَرَ بِهَا
الْإِمَامُ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ: يَجْهَرُ بِهِ كَالْإِمَامِ، وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ
يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ،
وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يُخَرِّجُونَ جَهْرَ الْإِمَامِ
بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ
مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ
يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ
كَبِيرًا وَالْجَمْعُ كَثِيرًا فَيَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ لِيَسْمَعَهُ
مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ فَنَقُولُ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ
يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا
وَالْجَمْعُ يَسِيرًا يَسْمَعُ جَمِيعُهُمُ الْإِمَامَ فَيُسِرُّونَ وَلَا
يَجْهَرُونَ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ تَرَكَهُ الْمُصَلِّي نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ
قَبْلَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ قَالَهُ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي
الرُّكُوعِ تَرَكَهُ، وَلَوْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الْقِرَاءَةِ
وَقَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِالرُّكُوعِ فَفِي عَوْدِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ
مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ
الْعِيدِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَوْ تَرَكَهُ عَلَى
الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَجْزَأَتْهُ صلاته ولا سهو عليه
(فصل)
: فأما قول آمين ففيه لغات:
إحداها: أَمِينَ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ
وَالثَّانِيَةُ: آمِينَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(يَا رَبِّ لَا تَسْلُبْنِي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللَّهُ
عَبْدًا قَالَ آمِينَا)
فَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِيمِ فِيهِ فَيَنْصَرِفُ مَعْنَاهُ عَنِ الدُّعَاءِ
إِلَى الْقَصْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ البيت الحرام}
يَعْنِي: قَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ
بِسُورَةٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ قِرَاءَةَ شَيْءٍ
بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ، لِمَا روى
(2/112)
جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أُنَادِيَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ
إِلَّا بِقِرَاءَةِ فاتحة الكتاب فما زاد
ودليلنا حيث مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال أم القرآن عوضاً
عَنْ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا مِنْهَا عِوَضٌ
وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَجِبْ فِي
الصَّلَاةِ كَسَائِرِ السُّوَرِ
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ سُنَّةٌ ابْتَدَأْنَا " بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا
آيَةٌ مِنْ كل سورة فيقرأ بالسورة في الركعتين الأوليتين، وَهَلْ مِنَ
السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بِهِمَا فِي الآخرتين؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَاسْتِحْبَابِ
الصورة فلا يجوز أن يقرأ يوسف ومحمد، لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ
دُونَ مَنْ يُحْسِنُهَا
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لفي الصحف الأولى صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 192] وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي
صُحُفِهِمْ وَزُبُرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ
بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلُغَتِهِمْ فَبَعْضُهَا
عِبْرَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا سُرْيَانِيٌّ وقال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن
لا نذركم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ} [الأنعام 19] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
إِنْذَارٌ لِلْكَافَّةِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَجَمِ، وَلَا يُمْكِنُ إنذار
العجم بِلِسَانِهِمْ، وَلَا يَكُونُ نَذِيرٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا
بِلُغَتِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
لِيَصِيرَ نَذِيرًا لِلْكَافَّةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود
كان يعلم صبياً: {إن شجرة الزقوم طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 43] فَكَانَ
الصَّبِيُّ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ لَهُ: قُلْ طَعَامُ
الْفَاجِرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَعْنَى قَالُوا: وَلِأَنَّ الذِّكْرَ الْمُسْتَحَقَّ
فِي الصَّلَاةِ قُرْآنٌ، وَغَيْرُ قُرْآنٍ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ جَازَ
أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ
عَنِ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مِثْلِهِ [فَكَانَ معنى
القرآن أقرب إليه من التسبيح والهليل] فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ
بَدَلًا مِنْهُ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وَهَذَا الْقَارِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا
يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ
الْقُرْآنَ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، أَوْ يَكُونَ مِثْلَ الْقُرْآنِ،
وَهَذَا رَدٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
(2/113)
وَعِنَادٌ لَهُ، أَوْ يَكُونَ لَيْسَ
بِقُرْآنٍ، وَلَا مِثْلَهُ فَمَنْ قَالَ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهَا
إِنَّمَا تُجْزِئُ بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى:
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] فَنَفَى عَنْهُ غَيْرَ
الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وأبو حنيفة يجعله قرآناً فارسياً ويروى عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَحِبُّوا
الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ، لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ،
وَلِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عربي "
وروى عبد الله بن أَوْفَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ
الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي قَالَ: قُلْ سُبْحَانَ
اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ
أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا لِي قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ
ارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي، فَلَمَّا قَامَ قَالَ
هَكَذَا بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ،
فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ [مِنْهُ] : أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعُدُولُ مِنَ
الْقُرْآنِ إِلَى مَعْنَاهُ لَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى التَّحْمِيدِ،
وَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِي جِنْسِهِ
إِعْجَازٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ الْقُرْآنِ، كَالشِّعْرِ،
وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ
الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا أَبْدَلَهُ بِالْكَلَامِ
الْعَجَمِيِّ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْزِئَهُ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ هذا لفي الصحف
الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19] {وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] فهو أنه ليس يراجع إِلَى الْقُرْآنِ،
لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا على محمد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرِّسَالَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا
الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فَالْجَوَابُ
عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَإِنْ كَانَ إِنْذَارًا لِلْكَافَّةِ، فَالتَّحْقِيقُ بِهِ
إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ
بِاللِّسَانِ دُونَ الْعَجَمِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا عَنْ
لِسَانِهِمْ كَانَتِ الْعَجَمُ عَنْهُ أَعْجَزَ فَصَارَ إِنْذَارًا
لِلْعَرَبِ بِعَجْزِهِمْ، وَإِنْذَارًا لِلْعَجَمِ بِعَجْزِ مَنْ هُوَ
أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ يَكُونُ بِالنَّظَرِ
فِيهِ وَتَأَمُّلِ إِعْجَازِهِ، وَالْعَجَمُ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ
لَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِمُعَاطَاةِ الْعَرَبِيَّةِ لِيَتَوَصَّلُوا
بِمَعْرِفَتِهَا، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَلْزَمُ جَمِيعَ
الْعَجَمِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، لِأَنَّهَا إِنْذَارٌ لَهُمْ
قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجزة غيره، وأما وله غير مِنَ
الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وصدق
رسالته، وإن كان عجماً يَفْقَهُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَلَا يَلْزَمُهُمْ
(2/114)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ فَكَانَ مَقْصُودُهُ التَّنْبِيهَ عَلَى الْمَعْنَى لِيَفْهَمَ
اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ؛ لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا أَنَّ إِبْدَالَهُ
بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ الذِّكْرِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ
تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَيْسَ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ
إِعْجَازٌ يَزُولُ بِنَقْلِهِ إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
وَأَوْلَى مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْلَبَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمُ التَّسْبِيحُ
بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَقْرَبُ إِلَى الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ
الْعَجَمِيِّ
وَالثَّانِي: يُقَالُ نَحْنُ لَمْ نَجْعَلِ التَّسْبِيحَ بَدَلًا مِنَ
الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا بِهِ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الصلاة
للعجز عنها
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَأَرَادَ أَنْ
يَرْكَعَ ابْتَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا فَكَانَ فِيهِ وَهُوَ يَهْوِي
رَاكِعًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرُّكُوعُ فَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ تعالى
بالطاعة، ومنه قول الشاعر:
(بكسر لهم وَاسْتَغَاثَ بِهَا ... مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَمَا
رَكَعَا)
يَعْنِي: بَعْدَ مَا خَضَعَ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ وَالْحَاجَةِ،
وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا الْمَفْرُوضَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]
وَرَكَعَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صلاته وقال:
" وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لَهُ وَهُوَ
قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُكَبِّرُ فِي رُكُوعِهِ،
وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَمَا
زَالَتْ صَلَاتُهُ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فَكَبَّرَ
كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: " وَاللَّهِ إِنِّي
أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِرُكُوعِهِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ
يَبْتَدِئَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا، وَيَهْوِيَ فِي رُكُوعِهِ مُكَبِّرًا
حَتَّى يَكُونَ آخِرُ تَكْبِيرَةٍ مَعَ أَوَّلِ رُكُوعِهِ لتصل الأذكار
بالأذكار
(2/115)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
حِينَ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْفَعَ
يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ لِرُكُوعِهِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِرَفْعِهِ مِنْهُ
كَمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَفِي تَكْبِيرَةِ
الرُّكُوعِ، وَفِي تَكْبِيرَةِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا
يَرْفَعُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِعْلُ أَهْلِ
الْحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَقَالَ أبو حنيفة، وَالْكُوفِيُّونَ: لَا
يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَحْدَهَا وَحَكَوْهُ
عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتِدْلَالًا
بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ حِينَ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ
ثُمَّ لَمْ يُعِدْ " وَبِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى الصَّحَابَةِ
فَقَالَ: " مَا لِيَ أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ
خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُتُوا فِي صَلَاتِكُمْ "
وَرُوِيَ " كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ " قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ
الَّتِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فِيهَا رَفْعُ
الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ
وَلَا يَرْفَعُ فِي السُّجُودِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ
الصَّلَاةِ وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ
فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْبَرَانِسِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رَوَى رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ
وَالرَّفْعِ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ
فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ كَالرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا
كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ
الرُّكُوعِ كَالْجَهْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَكَرَّرَ فِيهَا
التَّكْبِيرُ تَكَرَّرَ فِيهَا الرَّفْعُ كَالْعِيدَيْنِ، وَأَمَّا حَدِيثُ
ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
خِلَافُهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُمْ
عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ [يَمِينًا وَشِمَالًا أَوْ لَا يَكُونُ نَهَاهُمْ
عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ] فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ كَمَا يَقُولُ
طَاوُسٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فمدفوع بالنص
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ
وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ "
(2/116)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا
قَالَ إِذَا رَكَعَ فمن السنة: أن يضع راحته عَلَى رُكْبَتَيْهِ
وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
يُطْبِقُ يَدَيْهِ وَيَتْرُكُهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَرَوَى
عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنَا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ
فَلَمَّا رَكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ سُنَّةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ
نُسِخَ
رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ
صَدَقَ أَخِي كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا يَعْنِي:
الْإِمْسَاكَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ
وَرُوِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: " صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي
فَطَبَّقْتُ فَنَهَانِي قَالَ: " كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا "
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى
رُكْبَتَيْكَ ثُمَّ أَخْرِجْ أَصَابِعَكَ ثُمَّ امْكُثْ حَتَّى يَأْخُذَ
كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السنة أن يضع راحتيه على ركبتيه ويفرق بَيْنَ
أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلِيلَ الْيَدَيْنِ، ولا يمكنه وضعهما
على ركبتيه ابتداءاً بِهِمَا وَانْتَهَى فِي رُكُوعِهِ إِلَى حَيْثُ
يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَوْ قَدَرَ، لِأَنَّ هَذَا حَدُّ
الرُّكُوعِ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ
الْيَدَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَبْلُغُ
بِهِمَا فِي الرَّفْعِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي تَبْلِيغِهِمَا إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ
فِي الرُّكُوعِ مُفَارَقَةً لِهَيْئَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ في الرفع
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويمد ظهره، وعنقه، ولا يخفض عنقه عن
ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ
عن جبينه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ
اعْلَمْ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَاتِ أَرْكَانِهَا مَأْخُوذَةٌ
مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا العمدة في الصلاة
أحدهما: حديث ابن حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ
وَالثَّانِي: تَعْلِيمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الصلاة الأعرابي
فأما حديث أبو حُمَيْدٍ فَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَكِنْ رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَطَاءٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال
(2/117)
أَبُو حُمَيْدٍ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ
بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قالوا:
فلم؟ قال: فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِأَكْثَرِنَا لَهُ تَبَعًا وَلَا
أَقْدَمِنَا لَهُ صُحْبَةً قَالَ: بَلَى قَالُوا: فَأَعْرِضْ قَالَ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَامَ إِلَى
الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ
يُكَبِّرُ حَتَّى يَقَرَّ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ
يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ
بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يَرْكَعُ وَاضِعًا رَاحَتَيْهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ يَعْتَدِلُ فَيَهْصِرُ
ظَهْرَهُ غَيْرَ مُقْنِعٍ رَأْسَهُ وَلَا صَافِحٍ بِخَدِّهِ، ثم يرفع فيقول
سمع الله بحمده، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يَرْفَعُ
يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ
أَكْبَرُ ثُمَّ يَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ
جَنْبَيْهِ وَيَضَعُ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ
رِجْلَيْهِ وَيَنْصَبُّ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ
قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ
وَيُمَكِّنُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ
كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الأُخر مِثْلَ ذَلِكَ
فَإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَعَدَ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ
الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَخَّرَ
رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ
قَالُوا: صَدَقْتَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى
بْنِ خَلَّادٍ، وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: جَاءَ فَصَلَّى فِي
الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ: عَلِّمْنِي
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُصَلِّي قَالَ: " إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى
الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ، فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى
رُكْبَتَيْكَ وَمَكِّنْ كُوعَكَ وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، فَإِذَا رَفَعْتَ
فَأَقِمْ صُلْبَكَ وَارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى
مَفَاصِلِهَا، وَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ سُجُودَكَ، وَإِذَا رَفَعْتَ
فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كل ركعة
وسجدة حتى تطمئن "
فهذا الْحَدِيثَانِ هُمَا أَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ نَقَلْنَاهُمَا
مَعَ طُولِهِمَا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فَصِفَةُ الرُّكُوعِ وَهَيْئَتُهُ
أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يَقْبِضُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ، وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ عَنْ
ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ
الرَّاوِي: حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ مَاءٌ لَرَكَدَ يَعْنِي:
لِاسْتِوَاءِ ظهره في الركوع
(2/118)
وروى أبي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
الْبَدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صلبه
في الركوع والسجود "
قال الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ فَيَتَنَازَعُ، وَلَا
يَرْفَعُهُ فَيَحْدَوْدِبُ، وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ
لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ
فَهَذَا صِفَةُ الرُّكُوعِ فِي الِاخْتِيَارِ الْمَسْنُونِ وَأَقَلُّ مَا
عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ
بِرَاحَتَيْهِ على ركبتيه على أن صفة كان
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى ركوعه الذي وصفنا
زماناً وإن قل مطمئن، وَهُوَ رُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ
إِلَّا بِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: الطُّمَأْنِينَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً اسْتِدْلَالًا
بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَكَانَ الظَّاهِرُ يُوجِبُ اسْمَ مَا انْطَلَقَ
عَلَيْهِ اسْمُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ
طُمَأْنِينَةٍ تُضَمُّ إِلَيْهِ
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ رِوَايَةُ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ لَمَّا
عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ حِينَ أَسَاءَ فِيهَا: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ
فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ
ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ
قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثَمَّ اجْلِسْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَوَاتِكَ كُلِّهَا
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَرُّ النَّاسِ سَرِقَةً الَذِي يَسْرِقُ فِي
صَلَاتِهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُقِيمُ
رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا " وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ
أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يَعْدِلُ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ، وَلَا
يَطْمَئِنُّ فِيهِ فَقَالَ: مُذْ كَمْ هَذِهِ صَلَاتُكَ قَالَ مُذْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: إِنَّكَ مَا صَلَّيْتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
وَلَوْ مُتَّ عَلَى هَذَا لَمُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الرُّكُوعِ وَوُجُوبِ
الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ فَأَرَادَ الرُّكُوعَ فَسَقَطَ مِنْ قَامَتِهِ
إِلَى الْأَرْضِ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا، ثُمَّ رَكَعَ فَلَوْ قَامَ
رَاكِعًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْإِهْوَاءَ لِلرُّكُوعِ يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ مَقْصُودًا، فَلَوْ كَانَ قَدِ انْحَنَى إِلَى الرُّكُوعِ فَسَقَطَ
إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ اسْتِعَانَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعِود إِلَى
الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ فِي حال انحدار، ويبنى على ركوعه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقُولُ إِذَا رَكَعَ سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ "
(2/119)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا
قَالَ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ،
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ: التَّسْبِيحُ فِيهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ قال: ما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " وَلَمَّا نَزَلَ
{سَبِّحِ اسْمَ ربك الأعلى} قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ "
وَرَوَى صِلَةُ بْنُ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ يَقُولُ فِي
رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ
رَبِّيَ الْأَعْلَى "
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لِلْأَعْرَابِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا،
فَاقْتَصَرْ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيَانِ
التَّسْبِيحِ، وَهَكَذَا حِينَ وَصَفَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ
صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالْقِيَامِ،
وَالْقُعُودِ لِاشْتِرَاكِ فِعْلِهِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَهَذَا
مُفْتَقِرٌ إِلَى ذِكْرٍ فِيهِ لِيَمْتَازَ بِهِ عَنْ أَفْعَالِ
الْمَخْلُوقِينَ
وَالثَّانِي: مَا كَانَ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا لِلْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ فَلَا
يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرٍ لِيُمَيِّزَهُ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ،
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ فَأَدْنَى كَمَالِهِ
ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ وَقَالَ سُبْحَانَ
رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَهُوَ أَدْنَاهُ
[وَإِذَا سَجَدَ وَقَالَ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " فَقَدْ تَمَّ
سُجُودُهُ وَهُوَ أَدْنَاهُ] فَأَمَّا أَتَمُّ الْكَمَالِ فَإِحْدَى
عَشْرَةَ، أَوْ تِسْعًا، وَأَوْسَطُهُ خَمْسٌ وَلَوْ سَبَّحَ مَرَّةً
أَجْزَأَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ
بَعْدَ التَّسْبِيحِ مَا حَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا
رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ
وَأَنْتَ رَبِّي خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَعِظَامِي وَشَعْرِي
وَبَشَرِي وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اقْتَصَرَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَحْدَهُ لِيُخَفِّفَ
عَلَى من خلفه
(2/120)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَمَكْرُوهٌ
لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَشَفَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ
مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُّوَةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ يَرَاهَا
الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا،
أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا
السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ
وَإِنْ خَالَفَ وَقَرَأَ فِي رُكُوعِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَرَأَ
فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ
الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَسَاءَ، وَفِي سُجُودِ
السَّهْوِ وَجْهَانِ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَفِي بُطْلَانِ
صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ أَتَى بِرُكْنٍ مِنْهَا
فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فصار كمن سجد في موضوع الركوع
والوجه الثَّانِي: أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ ذِكْرٌ
فَخَفَّتْ عَنْ حُكْمِ الْأَفْعَالِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، لَكِنَّهُ
يَسْجُدُ مِنْ أَجْلِهَا سُجُودَ السَّهْوِ وَجْهًا وَاحِدًا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَأْمُومُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ
تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الركعة وإن لم يقرأ
فيها، لرواية زَيْدِ بْنِ أَبِي عَتَّابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا
أَدْرَكْتُمُونَا وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا
وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ "، وَلِأَنَّهُ
بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ يُدْرِكُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ فَجَازَ أَنْ
يَقُومَ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا
حَتَّى رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّهَا رَاكِعًا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا
فِي فَرْضٍ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفَرْضِ اسْتِيفَاءُ الْإِحْرَامِ بِهِ
قَائِمًا
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ أَمْ لَا؟
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ وَيَعْتَدُّ بِهَذِهِ
الرَّكْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى صِفَةٍ
يَصِحُّ النَّفْلُ عَلَيْهَا وَخَرَجَ عَنِ الْفَرِيضَةِ لَمَّا فَاتَهَا
صَارَتْ نَفْلًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَكُونُ فَرْضًا، وَلَا نَفْلًا، لِأَنَّ
النَّفْلَ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، وَلَوِ
اسْتَوْفَى تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا ثُمَّ هَوَى لِلرُّكُوعِ
وَقَدْ تَحَرَّكَ الْإِمَامُ لِلرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنْ أَدْرَكَ
مَا يَرَى مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ مِنَ الْحَدِّ
الَّذِي يُجْزِئُ مِنَ الرُّكُوعِ وَاعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَهُوَ
أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ قَدِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَلِمْ
(2/121)
يرفع الإمام حد لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ
أَدْرَكَ إِمَامَهُ مُسْتَقِرًّا فِي رُكُوعِهِ فِي اعْتِدَادِهِ بِهَذِهِ
الرَّكْعَةِ مَعَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومُ قَدْ أَدْرَكَ مَا
يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ
لَمْ يَعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي
الْفَرْضِ صَحِيحًا بِاسْتِيفَاءِ الْإِحْرَامِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ أَنْ يَطْمَئِنَّ، فَإِنْ عَمَدَ
عَالِمًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ أَوْ نَسِيَ أَجْزَأَتْهُ
صَلَاتُهُ وَعَادَ رَاكِعًا مُطْمَئِنًا، فَلَوْ أَدْرَكَهُ حِينَ عَادَ
إِلَى الرُّكُوعِ لِيَطْمَئِنَّ فِيهِ مَأْمُومٌ فَأَدْرَكَ الرُّكُوعَ
مَعَهُ اعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ
قَبْلَ التَّسْبِيحِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَمْ يُعِدْ، فَإِنْ عَادَ
فَرَكَعَ لِيُسَبِّحَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَلَوْ
أَدْرَكَ فِي هَذَا الرُّكُوعِ الثاني مأموم لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذِهِ
الرَّكْعَةِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ
لِلطُّمَأْنِينَةِ فَالرُّكُوعُ الثَّانِي هُوَ الْفَرِيضَةُ فَصَارَ
الْمَأْمُومُ بِإِدْرَاكِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَإِذَا أَعَادَ
الرُّكُوعَ لِلتَّسْبِيحِ فَالرُّكُوعُ الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرِيضَةُ،
فَلَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومِ بِإِدْرَاكِ الثَّانِي مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ
فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي خَامِسَةٍ سَهَا
بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا صَارَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ
الْخَامِسَةُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ فَهَلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ فِي
إِعَادَةِ الرُّكُوعِ لِلتَّسْبِيحِ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ
قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْخَامِسَةِ مَعَ
الْإِمَامِ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْإِمَامُ عَنْهُ شَيْئًا فَجَازَ أَنْ
يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ، وَفِي إِدْرَاكِهِ
رَاكِعًا يَصِيرُ الْإِمَامُ مُتَحَمِّلًا عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فَلَمْ
يَجُزْ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ
وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الْخَامِسَةِ أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فِيهَا فَلَا
يَعْتَدُّ الْمَأْمُومُ بِهَا والله تعالى أعلم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ ابْتِدَاءَ
قَوْلِهِ مَعَ الرَّفْعِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيَرْفَعُ
يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ أَيْضًا
ربنا لك الحمد ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ
شَيْءٍ بعد ويقولها من خلفه وروي هذا القول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ
قَائِمًا فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَوْ
أَهْوَى مِنْ رُكُوعِهِ إِلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ إِيجَابَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ قَالَ:
وَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَوْ كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا لَاقْتَضَى بِهِ
ذِكْرًا وَاجِبًا كَالْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى
أَنَّ الذِّكْرَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ
غَيْرُ وَاجِبٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
(2/122)
فِيهِ رُكْنٌ كَالِانْتِقَالِ مِنَ
السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ
حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَالْأَعْرَابِيِّ حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
لِلرَّجُلِ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، وَلِأَنَّ كُلَّ
رُكْنٍ يَعْقُبُهُ قِيَامٌ وَجَبَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ انْتِصَابٌ
كَالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ قِيَامٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْقِيَامِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا
الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الرُّكُوعِ
لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ الْقِيَامِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الرُّكُوعِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ: بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ
رُكْنًا وَاجِبًا يَتَضَمَّنُ ذِكْرًا وَاجِبًا فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ
كُلُّ رُكْنٍ يَتَضَمَّنُهُ ذِكْرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، ثُمَّ عَلَى
أَصْلِهِمْ بِالْجُلُوسِ الْمُتَشَهِّدِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ
رُكْنٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ وَهُوَ أَنَّهُ
فَاسِدٌ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى السُّجُودِ بَيْنَهُمَا
ذِكْرٌ، وَهُوَ الرُّكُوعُ عَلَى أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى
الْقِيَامِ ذِكْرٌ أَيْضًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالَ
قَائِمًا ذِكْرٌ وَاجِبٌ، فَالسُّنَّةُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالرَّفْعِ أَنْ
يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا،
وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَيَكُونُ فِي رَفْعِهِ
سُنَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
وَالثَّانِي: رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَإِذَا اسْتَوَى
قَائِمًا قَالَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الحمد ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ،
وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " إِمَامًا كَانَ، أَوْ مَأْمُومًا،
وَقَالَ أبو حنيفة: يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِقَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ وَالْمَأْمُومُ بِقَوْلِ " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ "
اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلَ
الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". قَالَ:
وَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَوْضُوعٌ لِرَفْعٍ،
وَقَوْلَهُ: رَبَّنَا لك الحمد، موضوع لرفع أَيْضًا، وَالِانْتِقَالُ مِنَ
الْأَرْكَانِ إِلَى الْأَرْكَانِ إِنَّمَا سُنَّ بِذِكْرٍ وَاحِدٍ لَا
بِذِكْرَيْنِ كَالتَّكْبِيرَاتِ فَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَسْنُونٌ
لِلْإِمَامِ، وَالْآخَرَ مَسْنُونٌ لِلْمَأْمُومِ قَالَ: وَلِأَنَّ
قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِجَابَةِ
الدُّعَاءِ وَقَوْلَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ شُكْرٌ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلّ عَلَى قَبُولِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا
الْوَاحِدُ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جَوَابُ الْآخَرِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سمع الله
لمن حمده ربنا لك الحمد.
وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كان
(2/123)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ،
وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ "
وروى عطية عن فزعة بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ
حِينَ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء
السموات، وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ
الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ حَقَّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ،
لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا
يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ
إِذَا سُنَّتْ لِلْمَأْمُومِ سُنَّتْ لِلْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ،
وَالتَّسْبِيحِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ: أَنَّهُ ليس
نهي لِلْمَأْمُومِ عَنْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وَإِنَّمَا
فِيهِ أَمْرٌ لَهُ بِقَوْلِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ
بِهَذَا أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،
لِأَنَّهُ يَسْمَعُ هَذَا مِنَ الْإِمَامِ فَيَتْبَعُهُ فِيهِ، وَلَا
يَسْمَعُ قَوْلَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ أَنَّهُمَا ذِكْرَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الِانْتِقَالِ،
فالجواب أن قوله سمع الله لمن حمده موضوع للانتقال وَرَبَّنَا لَكَ
الْحَمْدُ مَسْنُونٌ فِي الِاعْتِدَالِ فَصَارَا ذِكْرَيْنِ فِي
مَحَلَّيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِخْبَارٌ وَالْآخَرَ
جَوَابٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ
فَاسِدٌ بِقَوْلِهِ آمِينَ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْله تَعَالَى:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ثُمَّ قَدْ يَجْمَعُ
بَيْنَهُمَا فِي الصَّلَاةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا مَعًا مَسْنُونَانِ لِلْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِقَوْلِ سَمِعِ اللَّهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ لِيَعْلَمَ بِهِ
الْمَأْمُومُ كَالتَّكْبِيرِ، وَيُسِرُّ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا لَكَ
الْحَمْدُ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي رُكْنٍ كَالتَّسْبِيحِ، فَأَمَّا
الْمَأْمُومُ فَيُسِرُّ بِهِمَا جَمِيعًا وَيَخْتَارُ لِلْمُصَلِّي إِنْ
كَانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ،
وَلَا يَخْتَارُهُ الْإِمَامُ، لِأَنْ لَا يُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَلَا
يَخْتَارُهُ الْمَأْمُومُ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْإِمَامَ فَلَوْ قَالَ
بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ حَمِدَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَهُ، أَوْ كَبَّرَ
أَجْزَأَهُ، وَإِنْ خَالَفَ السنة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا هوى ليسجد ابتداء التَّكْبِيرِ
قَائِمًا، ثُمَّ هَوَى مَعَ ابْتِدَائِهِ حَتَّى يكون القضاء تَكْبِيرِهِ
مَعَ سُجُودِهِ، وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ،
ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وأنفه ويكون على أصابع رجليه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أَمَّا السُّجُودُ فَهُوَ
الِانْحِنَاءُ وَالِاسْتِسْلَامُ
قَالَ الْأَعْشَى:
(2/124)
(يراوح من صلوات المليك ... طَوْرًا
سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا)
وَالدَّلِيلُ: عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
" وَأَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السُّجُودِ
فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لِسُجُودِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ
وَخَفْضٍ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ ثُمَّ
يَهْوِي فَيُكَبِّرُ حتى يكون القضاء تَكْبِيرِهِ مَعَ أَوَّلِ سُجُودِهِ
عَلَى الْأَرْضِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ، فَأَوَّلُ مَا
يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ
وَأَنْفُهُ
وَقَالَ مَالِكٌ: يُقَدِّمُ وَضْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، وَبِهِ
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا
يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ بَعْدَ
يَدَيْهِ "
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ
رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: " هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ
بْنِ حُجْرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ
رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ إِلْيَتَيْهِ "
وَرَوَى سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعيد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ
أَنَّهُ قَالَ: " كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ
أُمِرْنَا بِالرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
نَسْخِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ، وَلِأَنَّ الْجَبْهَةَ لَمَّا كَانَتْ
أَوَّلَ الْأَعْضَاءِ، رَفْعًا كَانَتْ آخِرَهَا وَضْعًا وَجَبَ إِذَا
كَانَ الرُّكْبَتَانِ آخِرَ الْأَعْضَاءِ رَفَعا أَنْ تَكُونَ أَوَّلَهَا
وَضْعًا، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ يُرْفَعُ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ
يُوضَعُ
(2/125)
بَعْدَ صَاحِبِهِ كَالْجَبْهَةِ مَعَ
الْيَدَيْنِ؛ فَلَمَّا كَانَتِ الْيَدَانِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَبْلَ
الرُّكْبَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الرُّكْبَتَانِ مَوْضُوعَتَيْنِ
قَبْلَ الْيَدَيْنِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، وَقَدَمَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَجَبْهَتِهِ، وَأَنْفِهِ،
فَأَمَّا الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ، فَفَرَضَ السُّجُودَ مُتَعَلِّقٌ
بِالْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ
أَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ
عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ
بِالْجَبْهَةِ، وَالْأَنْفِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ
يُجْزِهِ حَتَّى يَسْجُدَ عَلَيْهِمَا مَعًا
وَقَالَ أبو حنيفة: فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ
أَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ
بِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَا يُوضِعُ أَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ " وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ
السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ مُجَزِّئًا بِمَا رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ
لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: " مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنَ
الْأَرْضِ " فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَقًّا
وَكَانَ لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ كَذَلِكَ
لَوْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْجُدَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ
وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَجَبْهَتِهِ وَنُهِيَ أَنْ
يَكُفَّ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ وَعِنْدَ أبي حنيفة: أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ
كَانَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ كَانَ مُغْنِيًا وَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْيَدَيْنِ، وَخَبَرُ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ،
وَالْقَدَمَيْنِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعِ ذِكْرِ
السُّجُودِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّمَا خُصَّ بِالْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ
مِنَ الْأَعْضَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ "،
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَمَا
يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لَلَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِهَا فِي
حَالِ الْعَجْزِ، كَمَا لَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِالْجَبْهَةِ فَلَمَّا
سَقَطَ عَنْهُ الْإِيمَاءُ بِهَا عِنْدَ عَجْزِهِ سَقَطَ وُجُوبُ
السُّجُودِ عَلَيْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ
عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ
(2/126)
أَرَابٍ وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ
وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ " وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ هِيَ
أَعْضَاءُ السُّجُودِ كَالْجَبْهَةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ هِيَ فَرْضٌ
لِمَحَلِّ السُّجُودِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى
الْمُبَاشَرَةِ بِهَا فِي السُّجُودِ فَنَقُولُ أَمَّا الْجَبْهَةُ
فَالْمُبَاشَرَةُ بِهَا وَاجِبَةٌ، وَعَلَيْهِ إِلْصَاقُهَا بِمَحَلِّ
السجود من أرض أبو بِسَاطٍ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ، أَوْ
عَلَى حَائِلٍ دُونَ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ
كَانَ بَيْنَ جَبْهَتِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ كَحَدِّ السَّيْفِ، أَوْ
سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا يُرْوَى "
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ عَلَى
كُورِ عِمَامَتِهِ "، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ أُمِرَ بِالسُّجُودِ عَلَيْهِ
فَجَازَ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرُّكْبَةِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَفَاعَةَ
بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَمَرَ رَجُلًا إِذَا سَجَدَ أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الْأَرْضِ
وَتَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِالْجَبْهَةِ
فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهَا كَالطَّهَارَةِ، فَأَمَّا
الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِجَبْهَتِهِ
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ إِنَّ عَمَائِمَ الْقَوْمِ
كَانَتْ لَفَّةً أَوْ لَفَّتَيْنِ لِصِغَرِهَا، فَكَانَ السُّجُودُ عَلَى
كُورِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْجَبْهَةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا
قِيَاسُهُمْ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا مُفَارَقَةُ
الْعَادَةِ بِكَشْفِهِمَا وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ بِهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ
وُجُوبُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْجَبْهَةِ فَسَجَدَ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ
بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ، فَلَوْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ عِصَابَةٌ فَسَجَدَ
عَلَيْهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ، أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا
لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَمَسَّ الْأَرْضَ بِمَوْضِعٍ مِنْ جَبْهَتِهِ أَوْ مِنْ
خَرْقٍ فِي الْعِصَابَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمَاسِّ الْأَرْضَ
بِشَيْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَا لَوْ سَجَدَ عَلَى
جَبْهَتِهِ أَوْ رَأْسِهِ، وَإِنْ وَضَعَ الْعِصَابَةَ لِعِلَّةٍ
أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذَا بَاشَرَ بِالْعِصَابَةِ
الْأَرْضَ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا آخَرَ فِي
وُجُوبِ من المسح على الجبائروليس بِصَحِيحٍ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى ثَوْبٍ
هُوَ لَابِسُهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ
أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ عِلَّةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى
السُّجُودِ عَلَيْهَا وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى جَبِينِهِ، أَوْ
مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " كَانَتْ
مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ أَوْلَى "
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ بِمَا سوى الجبهة ن الْأَعْضَاءِ الْبَاقِيَةِ
فَالرُّكْبَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بهما، ولا يستحب له
خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ، وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ
مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي خُفَّيْنِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ
الْمُبَاشَرَةُ بِهِمَا، وَأَمَّا الْكَفَّانِ فَفِي وُجُوبِ
الْمُبَاشَرَةِ بِهِمَا قولان:
(2/127)
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا وَاجِبَةٌ
لِرِوَايَةِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ
يُشْكِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا "
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ
لا يباشر الأرض بكفيه "
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا
غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ} فَخُصَّ الْوَجْهُ بِالسُّجُودِ لِاخْتِصَاصِهِ
بِالْمُبَاشَرَةِ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ ابْنِ عَبْدِ
الْأَشْهَلِ وَعَلَيْهِ كساء ملتف به يضع يده عَلَيْهِ يَقِيهِ الْكِسَاءُ
بَرْدَ الشِّتَاءِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ
رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْأَعْلَى وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا ركع أحدكم فليقل ثلاثاً
سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ
فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ
وَيَخْتَارُ أَنْ يُضِيفَ إِلَى تَسْبِيحِهِ مِنَ الذِّكْرِ إِنْ كَانَ
مُنْفَرِدًا مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَجَدَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ
سَجَدْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَأَنْتَ رَبِّي، سَجَدَ
وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "
فَهَذَا الذِّكْرُ الْمَسْنُونُ فِي السُّجُودِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فِيهِ
فَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ
الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَ وَجَلَّ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا
الدُّعَاءَ " فَيَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ الذِّكْرِ
الْمَسْنُونِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ وَلَا
مَأْمُومًا يُخَالِفُ الْإِمَامَ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا بِمَا رَوَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ:
(2/128)
" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ
مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثَنَاءً
عَلَيْكَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ "
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، عَلَانِيَتَهُ
وَسِرَّهُ "
فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ دُعَائِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا، وَلَوْ دَعَا
بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، أَوِ الْمُبَاحَةِ
كَانَ جَائِزًا، وَلَوْ تَرَكَهُ كُلَّهُ مَعَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ
أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، ولا سجود للسهو عليه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ
حَتَّى إِنْ لَمْ يكن عليه ما يستره رؤيت عُفْرَةُ إِبِطِهِ وَيُفَرِّجُ
بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَيُقِلُّ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَيُوَجِّهُ
أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى صِفَةِ
السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ وَهِيَ سَبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ عَنْ
جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَجَدَ جَافَى
بِيَدَيْهِ حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَفَتَحَ إِبِطَيْهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقِلُّ بَطْنَهُ وَصَدْرَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَهُ
لَمَرَّتْ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ قَدَمَيْهِ
لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ لِذَلِكَ
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَضُمَّ فَخِذَيْهِ وَيُفَرِّقَ رِجْلَيْهِ لِرِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ يَدَيْهِ افْتِرَاشَ
الْكَلْبِ وَلْيَضُمَّ فَخِذَيْهِ "
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي
حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ لِذَلِكَ
وَالسَّادِسُ: أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَلَا
يُفَرِّقَهَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ إِذَا رَفَعَهُمَا لِلتَّكْبِيرِ
فَيُفَرِّقُهُمَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ
لِلتَّكْبِيرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ
فَلَمْ يَكُنْ فِي تَفْرِيقِ أَصَابِعِهِ عُدُولٌ عَنِ الْقِبْلَةِ وَإِذَا
وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ لِلسُّجُودِ صَارَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ
بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَإِذَا فَرَّقَهَا عَدَلَ بَعْضَهَا عَنِ
الْقِبْلَةِ
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَرْفَعَ ذِرَاعَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ وَلَا
يَبْسُطَهُمَا لِرِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَجَدَ
أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ بسط السبع "
(2/129)
فَهَذِهِ صِفَةُ السُّجُودِ وَهَيْئَتُهُ
فِي الِاخْتِيَارِ وَالْكَمَالِ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ
مِنْهَا قَدْحٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَنْعٌ مِنْ إِجْزَاءٍ، فَأَمَّا
الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ فَرُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا
بِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ
فِي الرُّكُوعِ، فَلَوْ أَنَّ مُصَلِّيًا هَوَى لِلسُّجُودِ فَسَقَطَ عَلَى
جَنْبِهِ ثُمَّ انْقَلَبَ سَاجِدًا فَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ قَصْدًا
لِلسُّجُودِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ
للسجود لم يجزه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا كَذَلِكَ حَتَّى
يَعْتَدِلَ جَالِسًا عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ
وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا رَفَعَ مِنْهُ مُكَبِّرًا،
وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَالتَّكْبِيرُ مَسْنُونٌ، فَيَبْتَدِئُ
بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ آخِرِ رَفْعِهِ
لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ ثُمَّ يَجْلِسُ مُعْتَدِلًا
مُطْمَئِنًا، وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا رُكْنَانِ
مَفْرُوضَانِ
وَقَالَ أبو حنيفة: هُمَا سُنَّتَانِ لَا يَجِبَانِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ
يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَدْرَ حَدِّ السَّيْفِ
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
السُّجُودِ يَثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى
يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ "
وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ قَالَ: "
فَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى "
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ ثُمَّ اجْلِسْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ جِلْسَةٍ لَوِ ابتداء لَهَا
بِالْقِيَامِ بَطَلَتْ بِهَا الصَّلَاةُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً
فِي الصَّلَاةِ كَالْجُلُوسِ الْأَخِيرِ لِلتَّشَهُّدِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ هَذِهِ الْجِلْسَةِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا،
فَمِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقُولَ
فِيهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ إِذَا
جَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي
وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي "
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى كَذَلِكَ "
(2/130)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا
قَالَ
يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ كَمَا يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الْأُولَى
يَبْتَدِئُ بِهَا بِالتَّكْبِيرِ جَالِسًا وَيُنْهِيهِ سَاجِدًا، وَلَا
يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا فِي صِفَةِ السُّجُودِ
وَهَيْئَتِهِ لاستوائهما في الوجوب فاستويا في الصفة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا اسْتَوَى قَاعِدًا نَهَضَ
مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بيديه حتى يعتدل قائماً ولا يرفع يديه في
السجود ولا في القيام في السجود "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا
وَصَفْنَا فَقَدْ أَكْمَلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى فَيُسْتَحَبُّ لَهُ
بَعْدَهَا أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ جِلْسَةَ
الِاسْتِرَاحَةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَقَالَ أبو
حنيفة: لَيْسَتْ هَذِهِ الْجِلْسَةُ مُسْتَحَبَّةً، وَلَا سُنَّةً
وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَحْكِهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ
فَعَلَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ كِبَرِهِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ
خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ
أَنَّهُ صَلَّى وَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ صَلَاةً، وَلَكِنْ أُرِيكُمْ
كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يُصَلِّي حَتَّى إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ
اسْتَوَى قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ
الْقِيَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ بَعْدَ رَكْعَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
بَعْدَ جِلْسَتِهِ كَالثَّالِثَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ
أَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ سُنَّةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ غَيْرَ مُطْمَئِنٍ،
فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ فَإِذَا أَرَادَ
النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ اعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ
ثُمَّ قام مكبراً
والوجه الثاني: وهو يقول أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَجْلِسُ
مُفْتَرِشًا لِقَدَمِهِ الْيُسْرَى مُطْمَئِنًا، كَجُلُوسِهِ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ مُكَبِّرًا،
فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ قَامَ غَيْرَ
مُكَبِّرٍ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا
أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ
لَهُ فَسَوَاءٌ كَانَ شَابًّا أو شيخاً قوياً أو ضعيفاً
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَحُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ فَرْضٍ
وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ كَحُكْمِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي خَمْسَةِ
أَشْيَاءَ مختصة بالركعة الأولى لاختصاصها بافتتاح الصلاة فهي النِّيَّةُ،
وَالْإِحْرَامُ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ،
وَالتَّوَجُّهُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى هَذِهِ
الْخَمْسَةِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ فَرْضٍ، وَسُنَّةٍ، وَهَيْئَةٍ، لِأَنَّ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ
الصَّلَاةَ فَقَالَ: " ثُمَّ اصْنَعْ كذلك في كل ركعة "
(2/131)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجْلِسُ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى
رِجْلِهِ الْيُسْرَى , وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى وَيَبْسُطُ يَدَهُ
الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ يَدِهِ
الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى إِلَّا الْمُسَبِّحَةَ وَيُشِيرُ
بِهَا مُتَشَهِّدًا "
قَالَ الْمُزَنِيُّ: " ينوي بالمسبحة الإخلاص لله تعالى "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا التَّشَهُّدُ
الْأَوَّلُ فَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة،
وَمَالِكٌ وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ،
وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ: أَنَّهُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ فِي
صَلَاتِهِ، وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "،
وَلِأَنَّهُ تَشَهَّدَ فِي الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ
وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ الثَّانِي
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِالنَّاسِ
رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ وَنَسِيَ التَّشَهُّدَ
فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، فَلَوْ كَانَ
وَاجِبًا مَا أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ عَنْهُ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ فَلَوْ كَانَ
وَاجِبًا لَرَجَعَ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تصح الصلاة بتركه ناسياً
نصح الصَّلَاةُ بِفِعْلِهِ عَامِدًا، كَالْمَسْنُونَاتِ طَرْدًا،
وَالْمَفْرُوضَاتِ عَكْسًا وبهذا تنفصل عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى
التَّشَهُّدِ الثَّانِي، لِأَنَّ تَرْكَهُ سَهْوًا يَمْنَعُ مِنْ
صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا
لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَسْنُونًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَسْنُونٌ،
وَالثَّانِيَ مَفْرُوضٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ
جُلُوسِهِ فِيهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ: أَنْ يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
مُفْتَرِشًا، وَفِي الثَّانِي مُتَوَرِّكًا
وَصُورَةُ الِافْتِرَاشِ فِي الْأُولَى: أَنْ يَنْصِبَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى وَيُضْجِعَ الْيُسْرَى وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا مُفْتَرِشًا
لَهَا وَهَكَذَا يَكُونُ فِي الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
وَصُورَةُ التَّوَرُّكِ فِي الثَّانِي: أَنْ يَنْصِبَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى وَيُضْجِعَ الْيُسْرَى وَيُخْرِجَهَا عَنْ وَرِكِهِ
الْيُمْنَى وَيُفْضِيَ بِمَقْعَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْلِسُ فِيهِمَا جَمِيعًا مُتَوَرِّكًا
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجْلِسُ فِيهِمَا جَمِيعًا مُفْتَرِشًا لَهَا،
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى تَوَرُّكِهِ فِيهِمَا بِرِوَايَةِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
جَلَسَ مُتَوَرِّكًا، وَلِأَنَّهُ جُلُوسٌ لِلتَّشَهُّدِ فَكَانَ مِنْ
سنته التورك
(2/132)
كَالتَّشَهُّدِ الثَّانِي. وَاسْتَدَلَّ
أبو حنيفة عَلَى افْتِرَاشِهِ فِيهِمَا بِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ
حُجْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
جَلَسَ مُفْتَرِشًا وَلِأَنَّهُ جُلُوسٌ لِلتَّشَهُّدِ فَكَانَ مِنْ
سنته الافتراض كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِمَا
حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى
بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَلَمَّا كَانَ فِي
الرَّابِعَةِ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى
شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ أَقْصَرُ مِنَ
الثَّانِي لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرَ أَطْوَلُ
فَافْتَرَشَ فِي الْأَوَّلِ لِقِصَرِهِ وَتَوَرَّكَ فِي الثَّانِي
لِطُولِهِ، وَلِأَنَّ كل فعل يتقرر فِي الصَّلَاةِ إِذَا خَالَفَ
بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْقَدْرِ خَالَفَهُ فِي الْهَيْئَةِ
كَالْقِرَاءَةِ
فَأَمَّا أَخْبَارُهُمْ فَمُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ
حَمْلِ الِافْتِرَاشِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالتَّوَرُّكِ عَلَى الثَّانِي
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ أَوْ مُعَارَضٌ
بِالْقِيَاسِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا وَضْعُ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَأَنَّهُ يَبْسُطُ
كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَيَضَعُ كَفَّهُ
الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَفِيمَا يَصْنَعُ
بِأَصَابِعِهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: أنه يقبض بها إِلَّا السَّبَّابَةَ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهَا
كَأَنَّهُ عَاقِدٌ على ثلاث وخمسين لرواية عبد الله به عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ
كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ
كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ
كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْبِضُ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَيَبْسُطُ
السَّبَّابَةَ وَالْإِبْهَامَ قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ لِخَبَرٍ رَوَى
فِيهِ، وَهَلْ يَضَعُ السَّبَّابَةَ عَلَى الْإِبْهَامِ كَأَنَّهُ
عَاقِدٌ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا
يَضَعُهَا كَذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنْ يَبْسُطَهُمَا غَيْرَ
مُتَرَاكِبَيْنِ فَأَمَّا السبابة فإنه يشير بهما يَنْوِي بِهَا
الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَاخْتَلَفَ أصحابنا في
تحريكها على وجهين:
أحدهما: يحركهما مشيراً بهما، رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هِيَ
مَذْعَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ "
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ
وَهُوَ أَصَحُّ لرواية عامر بن عبد الله بن زبير عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يشير بأصبعه
إذا دعا ولا يحركهما، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ
التَّشَهُّدِ وَسُنَّتِهِ فَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ
على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ لَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْنُونٌ فيه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " إِذَا تَشَهَّدْتُمْ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ "، ولأن كل موضع كان ذكر عز وجل الله وَاجِبًا كَانَ ذِكْرُ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبًا
وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَسْنُونًا كَانَ
ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مسنوناً
(2/133)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ
بِمَسْنُونٍ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَوْضُوعٌ عَلَى
التَّخْفِيفِ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْعُدُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَنَّهُ مَسْنُونٌ فَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَتَرْكِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْجُدُ لِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا، لِأَنَّهُ
تَبَعٌ لِلتَّشَهُّدِ فَلَمْ يَسْجُدْ لِتَرْكِهِ وَإِنْ سَجَدَ لترك
التشهد
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ قَامَ
مُكَبِّرًا مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِلَ
قَائِمًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ
التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ الْقِيَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ
قَامَ مُكَبِّرًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ فَيَبْتَدِئُ
بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ أَوَّلِ
قِيَامِهِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُكَبِّرُ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِهِ،
وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَهَذَا غَلَطٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَلِأَنَّ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ مِنَ
الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ كَمَحَلِّهِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ
قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّهُ
قِيَامٌ من ركعة إلى أخرى فوجب أن يتبدئ بِالتَّكْبِيرِ كَالرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ وَيَنْهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ
اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَأَسْرَعُ لِنَهْضَتِهِ، وَلَا
يَرْفَعُ يَدَيْهِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ
بالإحرام والركوع والرفع منه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ
الْأُخْرَيَيْنِ كَذَلِكَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ سِرًّا
"
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ حُكْمُ الرَّكْعَةِ
الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْفُرُوضِ
وَالسُّنَنِ حُكْمُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ إِلَّا فِي
شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الثَّالِثَةِ
وَالرَّابِعَةِ، وَإِنْ جَهَرَ بِهَا فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ بِالْفَاتِحَةِ فَهَلْ مِنَ
السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهَا بِسُورَةٍ فِي الثَّالِثَةِ
وَالرَّابِعَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ
سُنَّةً فِي الْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي التَّابِعِينَ
قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ،
وأبي حنيفة، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كَانَ يَقْرَأُ فِي
(2/134)
الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الْأُولَيَيْنِ أُمَّ الْكِتَابِ، وَسُورَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ
بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا
كَانَتْ سُنَّةً فِي الْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
لِرِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ
الصَّلَاةَ: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ، ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ "
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَدْ شَكَاكَ
النَّاسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ قَالَ: أما أنه
فَأَمِدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَمَا
ألوما اقْتَدَيْتُ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: ذلك الظن بك
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ أَمَاطَ
رِجْلَيْهِ جَمِيعًا وَأَخْرَجَهُمَا جَمِيعًا عَنْ وَرِكِهِ
الْيُمْنَى وَأَفْضَى بِمَقْعَدِهِ إِلَى الأرض وأضجع اليسرى ونصب
اليمنى ووجه أصابعها إلى القبلة وبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى ووضع
كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعها إلى المسبحة وأشار بها
متشهداً "
قال الماوردي: التشهد [الثاني] واجب، وَالْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ وَإِنْ
تَرَكَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ
الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ
التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ
الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّشَهُّدُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا الْقُعُودُ
لَهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ التَّشَهُّدُ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا
الْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: "
إذا صلى الإمام بعد قدر التشهد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صَلَاتُهُ
"، وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: "
إذا صلى الإمام بعد قدر التشهد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صَلَاتُهُ
وَصَلَاةُ مَنْ مَعَهُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَكَرَّرُ فِي
الصَّلَاةِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ أَوَّلُهُ لَمْ يَجِبْ ثَانِيهِ
كَالتَّسْبِيحِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ
(2/135)
سُنَّتِهِ الْإِخْفَاءُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَالِاسْتِفْتَاحِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ
ذِكْرٌ يَخْتَصُّ بِالْقُعُودِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ
كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّقَاشِيِّ
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَنَا فَعَلَّمَنَا وَبَيَّنَ لَنَا
سُنَنَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا إلى أن قال: " وإذا كان عند العقدة
فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ
" وَهَذَا أَمْرٌ
وَرَوَى عَلْقَمَةُ قَالَ: أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
بِيَدِي، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي
الصَّلَاةِ، وَقَالَ: " إِذَا قُضِيَتْ صَلَاتُكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ
تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ "، فَدَلَّ
أَنَّهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ لَمْ يَقْضِ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ
رُكْنٌ مُقَدَّرٌ بِذِكْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ فِيهِ
مَفْرُوضًا، كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُمْتَدٌّ يَشْتَرِكُ
فِيهِ الْعَادَةُ، وَالْعِبَادَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ ذِكْرٌ
وَاجِبٌ كَالْقِيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَذَانُ
مِنْ أَذْكَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ شَرْطًا فِي [صِحَّةِ]
الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ عَقْدِهَا
تَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْ ذِكْرٍ مُعْجِزٍ، وَغَيْرِ مُعْجِزٍ،
فَلَمَّا انْقَسَمَ الْمُعْجِزُ إِلَى مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونٍ؛ وَجَبَ
أَنْ يَنْقَسِمَ غَيْرُ الْمُعْجِزِ إِلَى مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونٍ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:
فَالثَّابِتُ عَنْهُ مَا رُوِّينَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ
صَلَاتَكَ "، وَيُحْمَلُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَإِذَا قَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ إِنْ
كَانَ صَحِيحًا عَلَى مُقَارَنَةِ التَّمَامِ كَقَوْلِهِ سبحانه:
تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] أَيْ: فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّ صَلَاتَهُ لَمْ تَتِمَّ
إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَيْسَ
بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاةُ مَنْ
مَعَهُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ كَانَ مَا
قَالُوهُ مَرْوِيًّا لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ
يَكُنِ السَّلَامُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ مَفْرُوضًا، لِأَنَّ فَرْضَهَا
متأخر
وأما قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ
الرُّكْنَ لَا يَتَقَرَّرُ بِهِ، وَكَذَا قِيَاسُهُمْ عَلَى
الِافْتِتَاحِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى
فِيهِ أنه لما لم يكن له الْقُعُودُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ
وَاجِبًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ التَّشَهُّدِ وَالْقُعُودِ فَذِكْرُ
التَّشَهُّدِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا الْقُعُودُ لَهُ فَيَكُونُ
فِيهِ مُتَوَرِّكًا كَمَا وَصَفْنَا، وَيَكُونُ فِي الْأَوَّلِ
مُفْتَرِشًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ
فِي هَذَا التَّشَهُّدِ كَمَا وَضَعَهُمَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ تشهد غير
(2/136)
قاعد وقعد غير متشهد لم جزه حَتَّى يَكُونَ
التَّشَهُّدُ فِي قُعُودِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مَحَلِّهِ
كَالْقِرَاءَةِ تُسْتَحَقُّ فِي الْقِيَامِ، فَلَوْ قَرَأَ غَيْرَ
قَائِمٍ أَوْ قَامَ غَيْرَ قَارِئٍ لم يجزه حتى تكون قراءته في قيام
والله أعلم بالصواب
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
وَهَذَا كَمَا قَالَ
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فِي التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، وَبِهِ قَالَ
مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ
الْبَدْرِيُّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: هِيَ سُنَّةٌ
وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عِلَّمَهُ
التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: " فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ
صَلَاتَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ
تَقْعُدَ فَاقْعُدْ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا جِلْسَةٌ مَوْضُوعَةٌ
لِلتَّشَهُّدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالتَّشَهُّدِ
الْأَوَّلِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي قُعُودٍ فَاقْتَضَى أَنْ
يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ كَالدُّعَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ أُصُولَ
الصَّلَاةِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرَانِ فِي
رُكْنٍ، فَلَمَّا زَعَمْتُمْ أَنَّ التَّشَهُّدَ وَاجِبٌ اقْتَضَى أَنْ
تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - غَيْرَ وَاجِبَةٍ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَوْلَى الْأَحْوَالِ أَنْ
يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَوْجَبَ عَلَيْنَا
الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ
أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ الكرخي: إِنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ
أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيُقَالُ
لَهُ الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الصَّلَاةَ
عَلَيْهِ بِحَالٍ
وَرَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ
فَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ فَلْيَفِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ
لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
وهذا أمر
(2/137)
وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا
صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا "
وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قُلْنَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَرْتَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ وَأَنْ
نُسَلِّمَ عَلَيْكَ فأما السلام فقدعرفناه، وَكَيْفَ نُصَلِّي "؟
فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلِأَنَّهَا
عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَ
أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى ذِكْرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَالْأَذَانِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ
فَاقْعُدْ " مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا أَدْرَجَهُ
بَعْضُ الرُّوَاةِ هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ
وَالثَّانِي: أَنْ نُسَلِّمَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَ فَرْضِ
التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا قَبْلَ أَنْ
يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ نُشِيرُ بِأَيْدِينَا "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى
فِيهِ: أَنَّ مَحَلَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ
أَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ
ذِكْرَانِ مِنْهَا فِي رُكْنٍ فَهُوَ أَصْلٌ لَا يَسْتَمِرُّ،
وَدَلِيلٌ لَا يَسْلَمُ لِأَنَّ الْقِيَامَ ذِكْرٌ، وَفِيهِ ذِكْرَانِ
مَفْرُوضَانِ الْإِحْرَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، فَكَذَلِكَ الْقُعُودُ،
فَإِذَا ثَبَتَ وجوب الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا ذَكَرْنَا فَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ
وَصِفَتُهُ مِنْ بعد في " ذكر التشهد "
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُو قَدْرًا أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ،
وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ويخفف على من خلفه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدُّعَاءُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَبْلَ
السَّلَامِ سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ جَاءَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ
وَوَرَدَتْ بِهَا الْآثَارُ
(2/138)
رَوَى شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ
مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو "
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا
فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ
بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ
شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجِّالِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَسْنُونٌ فَكُلُّ دُعَاءٍ جَازَ
أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ
فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا
مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصِحُّ فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا هِيَ تَكْبِيرٌ،
وَقِرَاءَةٌ، وَتَسْبِيحٌ "، وَلِأَنَّ مَا لَمْ [يَكُنْ] ذِكْرًا لَمْ
تَصِحَّ مَعَهُ الصَّلَاةُ كَالْكَلَامِ
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ خَبَرِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَا نَذْكُرُ مِنَ الدُّعَاءِ
الْمَرْوِيِّ فِيهِ.
رَوَى جَامِعٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَلِّمُنَا
كَلِمَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَاهُنَّ كَمَا يُعَلِّمُنَا
التَّشَهُّدَ اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ
بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبَلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا
وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان
يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المحيا والممات ".
كان من اخر يقول في التشهد والتسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا
قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا
أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ
وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " وَرَوَى
الصُّنَابِحِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ
تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ،
وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ "، وَلِأَنَّ كُلَّ دُعَاءٍ سَاغَ
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ سَاغَ فِي الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
(2/139)
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا هِيَ تَكْبِيرٌ،
وَقِرَاءَةٌ، وَتَسْبِيحٌ فَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الصَّلَاةَ مَا
ذَكَرَهُ، وَالدُّعَاءُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ
عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فَلَيْسَ الدُّعَاءُ مِنْ كَلَامِ
الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِهَالٌ وَرَغْبَةٌ فَكَانَ
بِالذِّكْرِ أَشْبَهَ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الدُّعَاءِ فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِأُمُورِ
دِينِهِ، وَدُنْيَاهُ وَالدُّعَاءُ بِأُمُورِ دِينِهِ مُسْتَحَبٌّ،
وَبِأُمُورِ دُنْيَاهُ مُبَاحٌ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ
دُعَائِهِ مَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ
اقْتِدَاءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَتَبَرُّكًا بِدُعَائِهِ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَدْعُو بِهِ
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ منفرداً، فإن كان في
جماعة دعا قدر أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ
الدُّعَاءَ تَبَعٌ لَهُمَا فَكَانَ دُونَ قَدْرِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ
إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤْمَرُ بِالتَّخْفِيفِ
عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَالْمَأْمُومُ مَنْهِيٌّ عَنْ مُخَالَفَةِ
الْإِمَامِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ
بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَخَفْ سَهْوًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَأَدْرَكَهُ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَأْمُومٌ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ بِالصَّلَاةِ
لَزِمَهُ إِذَا أَكْمَلَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا أَنْ
يَجْلِسَ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا جَلَسَ لَزِمَهُ أَنْ
يَتَشَهَّدَ، لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَدْ
لَزِمَهُ اتِّبَاعُهُ، وَالتَّشَهُّدُ مِمَّا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ
الْإِمَامِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُنَا الْأَفْعَالُ فَإِذَا سَلَّمَ
الْإِمَامُ قَامَ هَذَا الْمَأْمُومُ إِلَى صَلَاتِهِ غَيْرَ
مُكَبِّرٍ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى لَيْسَ فِيهَا قَبْلَ
التَّكْبِيرِ إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ أَتَى بِهَا
وَإِنَّمَا جَلَسَ اتِّبَاعًا ثُمَّ صَحَّ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ
فَقَامَ لِيُتِمَّ قِرَاءَتَهُ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّهَا
حَالٌ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا التَّكْبِيرُ؛ وَهَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ
مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ثُمَّ تَشَهَّدَ الْإِمَامُ وَسَلَّمَ
فَأَرَادَ هَذَا الْمَأْمُومُ أَنْ يَقُومَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامَ
غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنَ الْأُولَى إِلَى
الثَّانِيَةِ إِنَّمَا سُنَّ فِيهِ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ
أَتَى بِهَا مَعَ الْإِمَامِ حِينَ رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى
التَّشَهُّدِ، وَهَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ
وَسَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَامَ الْمَأْمُومُ إِلَى الرَّابِعَةِ قَامَ
غَيْرَ مُكَبِّرٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِتْيَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ
لَهَا مَعَ رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ، وَلَكِنْ
لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ
الْمَأْمُومُ لِإِتْمَامِ بَاقِي الصَّلَاةِ قَامَ مُكَبِّرًا،
لِأَنَّهُ فِيمَا بَيْنَ رَفْعِهِ مِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ إلى قيامه
إلى الثالثة تكبيرتين:
إِحْدَاهُمَا: فِي رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ وَقَدْ
أَتَى بِهَا
وَالثَّانِيَةُ: فِي قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ فَكَانَ مَأْمُورًا
بِالْإِتْيَانِ بِهَا، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي التَّشَهُّدِ
الْأَوَّلِ فَقَامَ مَعَهُ مُكَبِّرًا اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ فِي
التَّكْبِيرِ وَإِنْ تَكُنْ هَذِهِ التكبيرة من صلاة المأموم والله
أعلم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِ إِلَّا
أَنَّهُ أَسَرَّ قَرَأَ مَنْ خَلْفَهُ وَإِذَا جَهَرَ لَمْ يَقْرَأْ
مَنْ خلفه " قال المزني " رحمه الله قَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ وَإِنْ جَهَرَ
بِأُمِّ الْقُرْآنِ (قال) محمد بن عاصم وإبراهيم يقولان سمعنا الربيع
يقول (قال الشافعي) يقرأ خلف الإمام جهر أو لم يجهر بأم القرآن قال
محمد وسمعت الربيع
(2/140)
يقول (قال الشافعي) ومن أحسن أقل من سبع
آيات من القرآن فأمّ أو صلى منفرداً ردد بعض الآي حتى يقرأ به سبع آيات
فإن لم يفعل لم أرَ عليه يعني إعادة (قال الشافعي) وإن كان وحده لم
أكره أن يطيل ذكر الله وتمجيده والدعاء رجاء الإجابة "
قال الماوردي: هذا كما قال اعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى
أَفْعَالٍ، وَأَذْكَارٍ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَوَاجِبٌ عَلَى
الْمَأْمُومِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فيها لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
"
فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ
يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيهِ، وَهُوَ التَّكْبِيرُ، وَالتَّوَجُّهُ،
وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّشَهُّدُ، وَقِسْمٌ لَا يتبع إمامه فيه، وهو
السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ فَيُنْصِتُ
الْمَأْمُومُ لَهَا وَلَا يَقْرَؤُهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
وَهُوَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ
وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ، بِهَا خَلْفَ إِمَامِهِ،
وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ فَهَلْ يَجِبُ أَمْ لَا؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبَعْضِ الْجَدِيدِ لَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ،
وَإِنْ لَزِمَهُ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ
قَوْلُ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ،
وَأَحْمَدَ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ
الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ جَمِيعًا، وَبِهِ
قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَأُبَيُّ بْنُ كعب، وأبو سعيد
الخدري، وأبو عبادة بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ
التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ
الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا
يَقْرَأُ خَلْفَ إِمَامِهِ بِحَالٍ لَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَلَا
فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ [وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ] وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،
وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ
التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ، وَعَلْقَمَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ: اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَالْقِرَاءَةُ تَمْنَعُ
مِمَّا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْصَاتِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-[أَنَّهُ قَالَ] : " إِنَّمَا جُعل الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ،
فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا " فَكَانَ
أَمْرُهُ بِالْإِنْصَاتِ نَهْيًا عَنِ الْقِرَاءَةِ
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةً فَقَرَأَ رَجُلٌ
خَلْفَهُ فَنَهَاهُ آخَرُ فلما فرغا
(2/141)
مِنَ الصَّلَاةِ تَنَازَعَا فَبَلَغَ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ مَنْ كَانَ
لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ "
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَقَالَ: أَأَقْرَأُ فَقَالَ: " أَلَا يَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ
"
وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ
الْإِمَامِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى سَبِيلِ
الِاقْتِدَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِيهَا قِرَاءَةٌ،
أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ
الْقِرَاءَةُ لَجَهَرَ بِهَا كَالْإِمَامِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ رِوَايَةُ
مَكْحُولٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ: قَالَ: " كُنَّا خَلْفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ،
فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تقرؤون خَلْفَ إِمَامِكُمْ
قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَّا
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ
بِهَا " وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَدَ الْعِشَاءَيْنِ فَقَرَأَ
بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: فِيكُمْ مَنْ قَرَأَ
خَلْفِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا
بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِهَا "
وَرَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَرَأْتُ خَلْفَكَ فَقَالَ: " يَا فَارِسِيُّ لَا تَقْرَأْ خَلْفِي
إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "، لِأَنَّ مَنْ سَاوَى الْإِمَامَ فِي
إِدْرَاكِ الرُّكْنِ سَاوَاهُ فِي إِلْزَامِهِ كَالرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ
مَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَزِمَتْهُ
الْقِرَاءَةُ مَعَ الْإِمْكَانِ كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِأَنَّ مَنْ
أَدْرَكَ مَحَلَّ الْفَرْضِ لَزِمَهُ الْفَرْضُ كَالصَّلَاةِ
تَلْزَمُهُ بِإِدْرَاكِ الْوَقْتِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَطَاءٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَرْكُ الْجَهْرِ، وَهُوَ
مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَالثَّالِثُ: قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ سلام على
(2/142)
فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَى فُلَانٍ فَجَاءَ
الْقُرْآنُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا فَيُحْمَلُ عَلَى
أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَإِمَّا عَلَى
تَرْكِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من كان له إمام فقراءة الإمام
له قِرَاءَةٌ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ " لَهُ " رَاجِعَةٌ
إِلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ، وَإِذَا
أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ "
وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَيُحْمَلُ
عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ،
وَإِمَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّورَةِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ
الْأَخْبَارِ كُلِّهَا
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَلَا
يَصِحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُدْرِكٌ بَعْضَ رَكْعَةٍ وَإِنْ جَعَلَهُ
الشَّرْعُ نَائِبًا عَنْ رَكْعَةٍ لَا سُنَّةً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى
فِيمَنْ أَدْرَكَهُ راكعاً أنه لما لم يدرك محل القراءة لم تلزمه
القراءة وأما ترك الجهر فلا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْأَصْلِ
كَالتَّكْبِيرَاتِ يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ
بِهَا الْمَأْمُومُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ
وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ
يَقْرَأَ عِنْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ
بِسَكْتَةٍ بَعْدَهَا لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ فِيهَا
رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ قَالَ: حَفِظْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَكْتَةً بَعْدَ التَّكْبِيرِ
وَسَكْتَةً بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ عَنْ شِمَالِهِ
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى خَدَّاهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ فَوَاجِبٌ
لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ فَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ 74 مُعَيَّنٌ بِالسَّلَامِ، وَلَا يَصِحُّ
الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ
أبو حنيفة: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالسَّلَامِ،
وَيَصِحُّ خُرُوجُهُ مِنْهَا بِالْحَدَثِ، وَالْكَلَامِ اسْتِدْلَالًا
بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ وَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا
فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ
فَاقْعُدْ؛ وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ:
" إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ رَأَسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ
وَقَعَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ
صَلَاتُهُ " وَهَذَا نَصٌّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ سَلَامٌ لِلْحَاضِرِ
فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ
كَالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يُنَافِي
الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ
كَخِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، وَذَلِكَ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
(2/143)
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ،
وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "
وَرَوَى مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ عَنْ جَابِرِ
بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: أَحَدُنَا بِيَدِهِ عَنْ
يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا
لَكُمْ تَرْمُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ،
وَإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ
ثُمَّ يُسَلِّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ " فَجَعَلَ الِاكْتِفَاءَ بِالسَّلَامِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا
يَجُوزَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ
الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ النُّطْقُ
كَالطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ رُكْنٌ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
وَلِأَنَّ كَمَالَ الْعِبَادَةِ لَا يَحْصُلُ بِمَا يُضَادُّهَا
كَالْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَبْطُلُ
بِالْحَدَثِ فِي وَسَطِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْحَدَثِ فِي
آخِرِهَا كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا يُضَادُّ الصَّلَاةَ لَا يَصِحُّ
أَنْ يُخْرَجَ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ،
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَالُهَا بِمَا لَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّعَبُّدُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" فقد قضيت صلاتك " يعني: مقاربة قضائها قوله: " إن شئت فقم، وإن شئت
فاقعد " من كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ
الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ
فِيمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَا
يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا بَعْدَ
التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَجِبِ
التَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّسْلِيمَةُ
الْأُولَى
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّهُ
يُنَافِي الصَّلَاةَ فَوَصْفٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي
خِطَابِ الآدميين، لأنه لَوْ تَرَكَهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ لَمْ
تَفْسَدْ صَلَاتُهُ وَالسَّلَامُ إِذَا تَرَكَهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ
عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَامَ مُعَيَّنٌ فِي الصَّلَاةِ لَا
يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهِ فَهُوَ عِنْدَنَا مِنَ الصلاة
(2/144)
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ السَّلَامُ مِنَ
الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كَانَ يُسَلِّمُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَ السَّلَامَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ
الصَّلَاةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُنَافِي الصَّلَاةَ لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ وَالْكَلَامِ
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا كَانَ مَعْدُولًا عَنِ الْقِبْلَةِ
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا
نَسِيتُ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا أَنْسَى سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمِينًا وَشِمَالًا السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عليكم ورحمة الله " فأخبر
أن مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ نُطْقٌ شُرِعَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ سَهْلٍ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ
صَلَاةٍ فَبِمَعْنَى، قَارَبَ الْفَرَاغَ منها، وأما الحدث
وَالْكَلَامُ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ من
الصلاة
وأما قولهم إنه له كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَكَانَ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، فَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ،
لِأَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ عَنِ الْقِبْلَةِ خَفْضًا بِوَجْهِهِ فِي
أَرْكَانٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلَا
يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَذَا السَّلَامُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السَّلَامَ مُعَيَّنٌ مِنْ نَفْسِ
الصَّلَاةِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: عَدَدُ السَّلَامِ وَهَيْئَتُهُ
وَالثَّانِي: صِفَةُ السَّلَامِ وَكَيْفِيَّتُهُ
وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِيهِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ السَّلَامِ وَهَيْئَتِهِ
فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا فَيَ جَمْعٍ كَثِيرٍ وَمَسْجِدٍ
عَظِيمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ
الْمُصَلِّي مُفْرَدًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ إِمَامًا فِي جَمْعٍ
يَسِيرٍ وَمَسْجِدٍ صَغِيرٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ:
أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً مِنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ
وَجْهِهِ، وَبِهِ قَالَ ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهما
وَالْأَوْزَاعِيُّ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ فِي صَلَاتِهِ
تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ يَمْتَدُّ إِلَى شِقِّهِ
الْأَيْمَنِ قَلِيلًا
(2/145)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي
الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ
يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ،
وَالثَّانِيَةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،
وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِرِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا أَوْلَى
لِكَثْرَةِ رُوَاتِهِ، وَقَدْ رَوَى عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ
قَالَ: كَانَ مَشْيَخَةُ الْمُهَاجِرِينَ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً
وَاحِدَةً، وَمَشْيَخَةُ الْأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ،
وَالْأَخْذُ بفعل الأنصار أولى لتأخرهم فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَالْوَاجِبُ مِنْهُمَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا.
فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا
الْكَلَامُ فِي التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ
أَوْ لَا فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَعَلَى هَذَا
لَوْ تَرَكَهَا الْإِمَامُ وَاقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
أَجْزَأَهُ وَيَأْتِي الْمَأْمُومُ بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ
سُنَنِ صَلَاتِهِ وَهُوَ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قَدْ خَرَجَ مِنْ
إِمَامَتِهِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِهَا كَمَا لَوْ قَالَهَا الْإِمَامُ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَةِ السَّلَامِ
وَكَيْفِيَّتِهِ، فَالْأَكْمَلُ الْمَسْنُونُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِرِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ
اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى
بَيَاضُ خَدِّهِ
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَمَسْنُونٌ
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِصِحَّةِ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ:
" السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَإِنْ أَسْقَطَ مِنَ السَّلَامِ الْأَلِفَ
وَاللَّامَ وَاسْتَبْدَلَ بِهَا التَّنْوِينَ فَقَالَ سَلَامٌ مِنِّي
عَلَيْكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ لِنَقْصِهِ عَمَّا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ
بِهِ
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ بَدَلٌ مِنَ الْأَلِفِ
وَاللَّامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْكَلَامِ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَمَّا إِنْ قَالَ
عَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ
فِي الْقَدِيمِ: " كَرِهْنَا ذَلِكَ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ "
وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " لَا يُجْزِئُهُ " فَخَرَّجَهُ
أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى لَفْظَ السَّلَامِ
وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ
الْمَشْرُوعِ مِنْهُ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ
" لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ " عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فَهُوَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي
السَّلَامِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي،
(2/146)
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا
وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي السَّلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ
مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِسَلَامِ الْخُرُوجِ مِنْهَا
وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنَ
الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ
نِيَّةُ الْخُرُوجِ، قَالَ: لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي
الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَالصِّيَامِ،
وَالْحَجِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَفْصٍ وَإِنْ كَانَ
مُطَّرِدًا عَلَى الْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ
وُجُوهٍ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا خَالَفَتْ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ
فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنُطْقٍ
كَالدُّخُولِ فِيهَا خَالَفَتْهَا فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَا
يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ تَقْتَرِنُ بِالنُّطْقِ كَالدُّخُولِ فِيهَا،
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي السَّلَامِ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا
يَخْلُو حَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا
أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ
الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ
الْحَفَظَةِ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى
يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةِ الْخُرُوجِ
مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بِالتَّسْلِيمَةِ
الْأُولَى وَإِنْ كَانَ إِمَامًا نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى
ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَمَنْ عَلَى
يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى
بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئَيْنِ، مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ
الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مَأْمُومًا
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَمِينِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ نَوَى
بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى شَيْئَيْنِ، الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ
وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ
الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ
الْحَفَظَةِ وَالْإِمَامَ وَالْمَأْمُومِينَ، وَلَوْ كَانُوا جَمِيعًا
عَلَى يَمِينِهِ وَلَيْسَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ نَوَى بالتسليمة
الأولى أربعة أشياء فالخروج من صلاته، ومن على يمينه من الحفظة،
وَالْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ
الثَّانِيَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ
الْحَفَظَةِ، وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ إِلَى
الْيَمِينِ أَقْرَبَ نَوَى بِالْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ
الْخُرُوجَ مِنْ صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، والإمام
وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالثَّانِيَةِ شَيْئَيْنِ مَنْ عَلَى
يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ وَإِنْ كَانَ
الْإِمَامُ إِلَى الْيَسَارِ أَقْرَبَ نَوَى بِالْأُولَى ثَلَاثَةَ
أَشْيَاءَ، الْخُرُوجَ من صلاته، ومن على يمينه من الحفظة،
وَالْمَأْمُومِينَ، وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مَنْ عَلَى
يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَالْإِمَامَ وَالْمَأْمُومِينَ فَهَذَا
هُوَ الْكَمَالُ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالْوَاجِبُ مِنْ جَمِيعِهِ أَنْ
يَنْوِيَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ لَا غَيْرُ، فَإِذَا نَوَاهُ دُونَ
مَا سِوَاهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ
أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، لَكِنْ إِنْ نَوَاهُ فِي الثَّانِيَةِ كَانَ
فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى كَالْمُسْلِمِ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا
فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، فَلَوْ سَلَّمَ غَيْرُنَا
وَلِلْخُرُوجِ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَأَجْزَأَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَفْصِ بْنِ
الْوَكِيلِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا بَعْدَ السَّلَامِ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا
سَلَّمَ أَحَدُكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ
السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ "
(2/147)
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ
يَقُولُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي دُعَائِهِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ
يَبْدَأُ بِدُعَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ بِدُعَاءِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ
مَا شَاءَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا فَعَلَ، وَيُسِرُّ بِدُعَائِهِ وَلَا
يَجْهَرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُرِيدُ تَعْلِيمَ النَّاسِ
الدُّعَاءَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ
الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ جَهْرًا لَا
يُسْمَعُ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا إِخْفَاتا لَا يُسْمَعُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَثْبُتُ سَاعَةَ أَنْ
يُسَلِّمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نِسَاءٌ فَيَثْبُتُ
لِيَنْصَرِفْنَ قَبْلَ الرِّجَالِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ من
صلاته فإذا كَانَ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ رِجَالًا لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ
وَثَبَ سَاعَةَ يُسَلِّمُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَرَاغَهُ مِنَ
الصَّلَاةِ، وَلِأَنْ لَا يَسْهُوَ فَيُصَلِّي، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ
رِجَالٌ وَنِسَاءٌ ثَبَتَ قَلِيلًا لِيَنْصَرِفَ النساء، فإن انصرفن
وثبت لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ
وَقَالَ أبو حنيفة: يَثِبُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَلْبَثُ وَهَذَا
خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَلَّمَ مَكَثَ قَلِيلَا
وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذلك كيما يَنْفِرُ الرِّجَالُ قَبْلَ
النِّسَاءِ، وَإِذَا وَثَبَ الْإِمَامُ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةٌ لَا
يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ وَالْعَصْرِ اسْتَدْبَرَ
الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَدَعَا بِمَا ذكرنا وإن كانت صلاة
ينتفل بَعْدَهَا، كَالظُّهْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعَشَاءِ
فَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي مَنْزِلِهِ
فَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ
مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا " وَرَوَى بُسْرُ بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَا الْمَكْتُوبَةَ "
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ إِمَامَهُ، أَوْ
يَخْرُجَ معه، أو بعده
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَنْصَرِفُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ
يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شماله " وَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا قَالَ
(2/148)
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ
الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ
يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كَانَ يَنْحَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ
وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ
لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَيْطَانِ مِنْ صَلَاتِهِ جُزْءًا يَرَى
أَنَّ حَتْمًا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ
فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَكْثَرَ مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ فَإِذَا ثَبَتَ جواز
الأمرين فيستحب إن كان لهي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ غَرَضٌ أَنْ
يَنْصَرِفَ إِلَى غَرَضِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ غَرَضٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ، لِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُحِبُّ
التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقْرَأُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ،
وَذَكَرْنَا أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنَ
الْفَاتِحَةِ حُكْمًا، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُجْهَرُ بِهَا مَعَ
السُّورَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَيُسَرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ
الْإِسْرَارِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِ
الْمُصْحَفِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كَانَتِ الصَّلَاةُ ظُهْرًا، أَوْ
عَصْرًا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِهَا فَإِنْ كَانَتْ عِشَاءَ
الْآخِرَةِ، أَوْ مَغْرِبًا جَهَرَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْهُمَا
وَأَسَرَّ فِي بَاقِيهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا جَهَرَ فِي
جَمِيعِهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ
اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ،
وَلَا تَمَانُعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا يُسِرُّ فِي
جَمِيعِهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا يَجْهَرُ فِي
الْأُولَيَيْنِ مِنْهُمَا وَيُسِرُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَالصُّبْحَ
رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا، لا اختلاف بينهم في شيء في ذَلِكَ
فَاسْتَغْنَى بِهَذَا الْإِجْمَاعِ بِهَا عَنْ نَقْلِ دَلِيلٍ ثُمَّ
قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ النَّهَارِ عُجْمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ
وَالْعِيدَيْنِ "
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
قَالَ: " مَنْ جَهَرَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْجُمُوهُ بِالْبَعْرِ
"
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهْرَ مَسْنُونٌ فِيمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ
سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَهْرُ سُنَّةُ الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ،
وَالْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَمَّا لَمْ يُسَنَّ لَهُ
الْجَهْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِمَامٍ لَمْ يُسَنَّ لِلْمُنْفَرِدِ
الْجَهْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِمَامٍ، وَهَذَا غَلَطٌ مَعَ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ
هَيْئَةٌ لِلذِّكْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُ فِي
الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ
(2/149)
قِيَاسًا عَلَى هَيْئَاتِ جَمِيعِ
الْأَذْكَارِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَهْرِ الِاعْتِبَارُ
بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُ إِعْجَازِهِ، وَهَذَا فِي
الْمُفْرِدِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اعْتِبَارًا بِقِرَاءَتِهِ
وَأَقْدَرُ عَلَى التَّدَبُّرِ لِإِطَالَتِهِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ،
فَإِنَّمَا سُنَّ لَهُ الْإِسْرَارُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ
بِالْإِصْغَاءِ إِلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ
(فَصْلٌ)
: وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً فَاتَتْهُمْ صَلَاةُ نَهَارٍ
مِنْ ظُهْرٍ، أَوْ عَصْرٍ فَقَضَوْهَا فِي اللَّيْلِ أَسَرُّوا
الْقِرَاءَةَ، وَلَوْ تَرَكُوا صَلَاةَ لَيْلٍ مِنْ مَغْرِبٍ أَوْ
عِشَاءٍ فَقَضَوْهَا نَهَارًا، جَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ اعْتِبَارًا
بِصِفَتِهَا حَالَ الْأَدَاءِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَهْرُهُ
بِهَا نَهَارًا دُونَ جَهْرِهِ فِي اللَّيْلِ خَوْفًا مِنَ
التُّهْمَةِ، وَإِيقَاعِ الْإِلْبَاسِ
وَحَدُّ الْجَهْرِ: هُوَ أن يسمع من يليله.
وَحَدُّ الْإِسْرَارِ: أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، فَلَوْ خَالَفَ
الْمُصَلِّي فَجَهَرَ فِيمَا يُسَرُّ أَوْ أَسَرَّ فِيمَا يُجْهَرُ
كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ،
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَهَذَا
خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يُصَلِّي بِنَا فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ
وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا "
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى
بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا
فَرَغَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ قَالُوا: كَانَ حَسَنًا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا شَغَلَ قَلْبِي بَعِيرٌ
أَنْفَذْتُهَا إِلَى الشَّامِ، وَكُنْتُ أُنْزِلُهَا فَلَمْ يَسْجُدْ
لِلسَّهْوِ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَدَلَّ عَلَى
صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا لَا تُوجِبُ جُبْرَانًا، وَلِأَنَّ
الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ هَيْئَةٌ، وَمُخَالَفَةُ الْهَيْئَاتِ لَا
تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا تُوجِبُ السَّهْوَ قِيَاسًا عَلَى
هَيْئَاتِ الأفعال
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ وَفَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ "
سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهْ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " قَالَ
وَهُوَ قَائِمٌ " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي
فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي
فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا
يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تباركت ربنا
وتعاليت " والجلسة فيها كالجلسة في الرابعة في غيرها (قال) حدثنا
إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمرو الغزي قال حدثنا أبو نعيم عن أبي جعفر
الداري عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك قال ما زال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقنت حتى فارق الدنيا واحتج في القنوت
في الصبح بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أنه قنت قبل قتل أهل بئر معونة ثم قنت بعد قتلهم في
الصلاة سواها ثم ترك القنوت في سوها وقنت عمر وعلي بعد الركعة الآخرة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ،
الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُقَالُ: قَنَتَ فُلَانٌ عَلَى
فُلَانٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِ، وَقَنَتَ لَهُ إِذَا دَعَا لَهُ
بِخَيْرٍ، لَكِنْ صَارَ الْقُنُوتُ بِالْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا فِي
دُعَاءٍ
(2/150)
مَخْصُوصٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا سُنَّةٌ فِي
صَلَاةِ الصُّبْحِ أَبَدًا، وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ
مِنْ شهر رمضان
قال أبو حنيفة: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فِي الصُّبْحِ وَهُوَ سُنَّةٌ فِي
الْوِتْرِ أَبَدًا، وَالْكَلَامُ فِي الْوِتْرِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ،
وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِالْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ
وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الصُّبْحِ،
وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاسْتَدَلَّ
أبو حنيفة بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ الْقُنُوتُ
فِي الصُّبْحِ بِدْعَةٌ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ
أَنْ لَا يَقْنُتَ فِيهَا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الصُّبْحِ مَسْنُونًا لَكَانَ
نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ
عُمَرَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ
صَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ "
وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ خُفَافٍ عَنْ أَبِيهِ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ
قَالَ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ثَمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا،
وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ، وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ وَرِعْلًا،
وَذَكْوَانَ، ثُمَّ وَقَعَ سَاجِدًا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ
هَذَا شَهْرًا حِينَ قِيلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَكَانُوا سَبْعِينَ
رَجُلًا خَرَجُوا في جواز ملاعب الأسنة
(2/151)
فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شَهْرًا حَتَّى
نَزَلَ عَلَيْهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عليهم
أو يعذبهم فإنهم ظالمون} فَكَفَّ قِيلَ: إِنَّمَا كَفَّ بَعْدَ شَهْرٍ
عَنْ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ، وَعَنِ الْقُنُوتِ فِيمَا سِوَى الصُّبْحِ
مِنَ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ
أَبِيهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ إِلَى أَنْ
تَوَفَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ مَسْنُونٌ فِي
صَلَاةٍ غَيْرِ مَفْرُوضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا فِي
صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ كَقَوْلِهِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنَينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ "، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُجْهَرُ فِيهَا
بِالْقِرَاءَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِذِكْرٍ لَا يُشَارِكُهَا
فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمُعَةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْخُطْبَةِ
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ
كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى الصَّلَاةِ
الْوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ، لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهَا وَاللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وَإِنَّمَا
قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: " الْقُنُوتُ بِدْعَةٌ " فَقَدْ قَالَ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْنُتُ مَعَ أَبِيهِ، وَلَكِنْ
نَسِيَهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلَا
يَصِحُّ، لِأَنَّ الصُّبْحَ مُخَالِفَةٌ لَهَا لِمَا يَخْتَصُّ مِنْ
تَقَدُّمِ الْأَذَانِ لَهَا وَالتَّثْوِيبِ فِي أَذَانِهَا وَكَذَلِكَ
الْقُنُوتُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ
سُنَّةً لَكَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ
فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فِي الْوِتْرِ ثُمَّ يُقَالُ إِنَّمَا يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُسْتَفِيضًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ
نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَجَّ بَيَانًا مُسْتَفِيضًا وَلَمْ يَنْقُلْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ
إِلَّا اثْنَا عَشَرَ نَفْسًا اخْتَلَفُوا فِيهِ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ أنه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ
تَمَتَّعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وثلاثة أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي الصُّبْحِ وَأَنَّ مَا
سِوَى الصُّبْحِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ قَدْ قَنَتَ فِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ تَرَكَ
فَلَيْسَ تَرْكُهُ لِلْقُنُوتِ فِيهَا نَسْخًا، وَلَكِنْ قَنَتَ
لِنَازِلَةٍ ثُمَّ تَرَكَ لِزَوَالِهَا وَكَذَلِكَ إِنْ نَزَلَتْ
بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَلَنْ يُنْزِلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا
بَأْسَ أَنْ يَقْنُتَ الْإِمَامُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى
يَكْشِفَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَسَرَتْ قُرَيْشٌ مَنْ أَسَرَتْ،
وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ مَنْ قُتِلَ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ فَالْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى
ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ
وَالثَّانِي: فِي هَيْئَتِهِ
وَالثَّالِثُ: فِي مَحَلِّهِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ فَقَدِ اخْتَارَ
الشَّافِعِيُّ قنوت الحسن وهو ما رواه يزيد بن أبي مريم عن أبي لحوراء
قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
عَلَّمَنِي رَسُولُ
(2/152)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْقُنُوتِ " اللَّهُمَّ اهْدِنِي
فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ
تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا
قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا
يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ " فَهَذَا
الْقُنُوتُ الَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ بِهِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ
وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ قَنَتَ بِسُورَتَيْ أُبَيٍّ كَانَ
جَيِّدًا اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ
بِكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ نَشْكُرُكَ، وَلَا نَكْفُرُكَ،
وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَهْجُرُكَ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
سُورَةٌ، وَالثَّابِتُ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي
وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رحمتك ونخشى عذابك
إن عذابك الحد بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ - بِكَسْرِ الْحَاءِ -
بِمَعْنَى: لَاحِقٌ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ. وَكَانَ أُبَيٌّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا سُورَتَانِ مِنَ
الْقُرْآنِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ قُنُوتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُورَتَيْ أُبَيٍّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ
تَقَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَقُنُوتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَوْلَى
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي
أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ،
وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى
نَفْسِكَ "
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي
الْقُنُوتِ: " اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرًا
رَشِيدًا تُعِزُّ فِيهِ وَلِيَّكَ، وَتُذِلُّ فِيهِ عَدُّوكَ،
وَيُعْمَلُ فِيهِ بطاعتك، وتنهي عَنْ مَعْصِيَتِكَ "، فَإِنْ قَنَتَ
بِهَذَا جَازَ، وَالْمَرْوِيُّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي الْقُنُوتِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَيُّ
شَيْءٍ قُنِتَ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِ أَجْزَأَهُ
عَنْ قُنُوتِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَرَأَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَنْوِي
بِهَا الْقُنُوتَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ دُعَاءً، أَوْ تُشْبِهُ الدُّعَاءَ
كَآخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا
أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] إِلَى آخِرِهِ أَوْ مَا فِي
مَعْنَاهَا وَهَذَا يُجْزِئُ عَنْ قُنُوتِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الدُّعَاءِ
كَآيَةِ الدَّيْنِ، وَسُورَةِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهب} فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى بِهِ الْقُنُوتَ، لِأَنَّ
الْقُرْآنَ أَشْرَفُ مِنَ الدُّعَاءِ
(2/153)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ،
لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ وليس بِدُعَاءٍ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: مِنْ هَيْئَةِ الْجَهْرِ
وَالْإِسْرَارِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَسَرَّ بِهِ،
وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُسِرُّ بِهِ، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَوْضُوعُهُ
الْإِسْرَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 11]
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْهَرُ بِهِ كَمَا يجهر بقول سَمِعَ اللَّهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، لَكِنْ دُونَ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ فَإِذَا قِيلَ
إِنَّ الْإِمَامَ يُسِرُّ فِي الْقُنُوتِ قَنَتَ الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ
سِرًّا، وَإِنْ قِيلَ يَجْهَرُ بِهِ سَكَتَ الْمَأْمُومُ مُسْتَمِعًا
لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ سَكَتَ
وَقَدْ أمر بالقنوت لم يلزمه سجود السهو، لأن خَلْفَ الْإِمَامِ،
وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ نَاسِيًا
فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا كَانَ فِي
سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سجود عليه للسهو، لأن لَيْسَ بساهٍ
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ
السَّاهِي كَانَ الْعَامِدُ أَوْلَى بِهِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَحَلِّ الْقُنُوتِ فَمَحَلُّهُ
بَعْدَ الرُّكُوعِ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَحِينَئِذٍ يَقْنُتُ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَقْنُتُ قَبْلَ
الرُّكُوعِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ إِلَّا أن أبا حنيفة
يقول بكبر وَيَقْنُتُ
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْنُتُ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، وَاسْتَدَلُّوا
بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَبِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ
أنس أن سُئِلَ هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ
قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ بِيَسِيرٍ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَخُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ
الْقُنُوتَ دُعَاءٌ، وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ
أَنْ يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ مِنَ الذِّكْرِ
قَبْلَ الرُّكُوعِ فَمَحَلُّهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ كَالتَّوَجُّهِ
وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقُنُوتَ لَا يَتَقَدَّمُ
الْقِرَاءَةَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ الرُّكُوعَ، فَأَمَّا مَا
روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ قَبْلَ
الرُّكُوعِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَأَمَّا قُنُوتُ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَقَدْ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ
الرُّكُوعِ زَمَانًا طَوِيلًا، ثم قال قد كبر النَّاسُ فَأَرَى أَنْ
يَكُونَ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِيَلْحَقَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ
وَلَا تَفُوتُهُمْ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ رَأْيًا رَآهُ، وَقَدْ قَنَتَ
أَبُو بَكْرٍ، وعمر رضي الله عنه بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ
أَنَّ مَحَلَّ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنْ خَالَفَ وَقَنَتَ
قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبَهُ
أَجْزَأَهُ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ
شَافِعِيًّا لَا يَرَاهُ مَذْهَبًا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
(2/154)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَلَا
سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِمَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِتَقْدِيمِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ
كَتَقْدِيمِهِ التَّسْبِيحَ، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ الْقُنُوتَ بَعْدَ
الرُّكُوعِ، وَفِي سُجُودِهِ لِلسَّهْوِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ
الْقُنُوتَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَنْ قَدَّمَ التَّشَهُّدَ
الْأَوَّلَ قَبْلَ مَحَلِّهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ
ذِكْرٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى مَحَلِّهِ سُجُودُ
السَّهْوِ كَالتَّسْبِيحِ
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالتَّشَهُّدُ أَنْ
يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ
لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله " يقول هذا في الجلسة الأولى وفي آخر
صلاته "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَقَدْ مَضَى فِي وُجُوبِ التَّشَهُّدِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَفْضَلِهِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ لِاخْتِلَافِ
رُوَاتِهِ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا،
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا،
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا
فَأَمَّا تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ
عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا
جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ
السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَقَالَ رَسُولُ الله: " لَا
تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ
التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ
عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،
السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ "
فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ أبو حنيفة وَالْعِرَاقِيُّونَ
وَأَمَّا تَشَهُّدُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَاهُ
الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ
النَّاسَ
(2/155)
التَّشَهُدَ: " قُولُوا التَّحِيَّاتُ
لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "
فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ مَالِكٌ، وَالْمَدَنِيُّونَ
فَأَمَّا تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ
يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا
الْقُرْآنَ فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ
الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا
النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا
وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ "
فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ الشَّافِعِيُّ، وَالْمَكِّيُّونَ
وَهَذَا بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ السَّلَامِ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ
وَاللَّامِ، وَمَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَشَهُّدِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ
مِنْهَا: زِيَادَةٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ بِقَوْلِهِ الْمُبَارَكَاتُ،
وَلِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ
كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَلِتَأَخُّرِهِ عَنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ،
وَالْأَخْذُ بِالْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]
وَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى، وَبِأَيِّ
هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَشَهَّدَ أَجْزَأَهُ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ
بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ
الَّذِي لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ فِي
الْأَذَانِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ فَسِتُّ
كَلِمَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ
عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،
وَالْكَلِمَةُ السَّادِسَةُ هِيَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ
وَاجِبًا دُونَ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى فِعْلِهِ فِي
الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَمَا سِوَاهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَزِمَ
مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ،
ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ التَّشَهُّدَ عَلَى مَا وَصَفْنَا
أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ،
كَالْقِرَاءَةِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى
بَعْضٍ لَمْ يُجْزِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهَا بِخِلَافِ
الْقُرْآنِ، لِأَنَّ في القرآن إعجاز إِذَا خَالَفَ نَظْمَهُ زَالَ
إِعْجَازُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سائر الأذكار
(2/156)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ
قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ:
(أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ
بِجَيْدِ)
يَعْنِي عَلَى مُلْكِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّحِيَّةَ السَّلَامُ، وَمَعْنَاهُ سَلَامُ
الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ
يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا تشهد صلى على النبي فَيَقُولُ: "
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِ محمدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِ محمدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ
إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيد " (قال) حدثنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى
الكوفي قال حدثنا أبو نعيم عن خالد بن إلياس عن الْمَقْبُرِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قال: " أتاني جبريل عليه السلام فعلمني الصلاة فقام النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكبر بنا فقرأ بنا بسم الله
الرحمن الرحيم فجهر بها في كل ركعة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةُ
عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأما بصفته
فَالْأَكْمَلُ الْمُخْتَارُ فِيهِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بِشْرُ
بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نصلي عليك فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ
لَمْ يَسْأَلْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ
عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالسَّلَامُ
كَمَا عَلِمْتُمْ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ
عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ
مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ
وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "
(2/157)
فَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ
فَهُوَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَمَا سِوَاهُ
مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ
لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَلَوْ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ كَالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمُ
السَّلَامُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه، " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي
أُخْرَى أَتَمَّهَا ثم قضى (قال) حدثنا إبراهيم قال الربيع أخبرنا
الشافعي قال التشهد بهما مباح فمن أخذ يتشهد ابن مسعودٍ لم يعنف إلا أن
في تشهد ابن عباس زيادة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي تَرْتِيبِ
الصَّلَوَاتِ هَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ أَنَّ الترتيب [منها] مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
فِي قَلِيلِ الصَّلَاةِ وَكَثِيرِهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ
وَأَنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ وَقْتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً
مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَقَضَى مَا فَاتَهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ،
وَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا فِي خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَمَا دُونَهَا لَمْ
يُجْزِهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي [أَكْثَرَ مِنْ] خَمْسِ صَلَوَاتٍ
أَجْزَأَ فَكَأَنَّهُ يَرَى وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ مَعَ الذِّكْرِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ وَقْتِهِ ثُمَّ
ذَكَرَ فَائِتَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلَزِمَهُ
قَضَاءُ مَا فَاتَهُ، ثُمَّ الْإِحْرَامُ بِصَلَاةِ وَقْتِهِ إِلَّا
أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا مُضِيفًا فَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ
يَقْضِي مَا فَاتَهُ
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
فَمَا دُونَ كَقَوْلِ أبي حنيفة، لَكِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ
فِي أُخْرَى لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَأَتَمَّهَا اسْتِحْبَابًا ثُمَّ
قَضَى مَا فَاتَهُ وَأَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاجِبًا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِ
الصَّلَوَاتِ وَكَثِيرِهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ
صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا وَاجِبًا وَقَضَى مَا فَاتَهُ
وَأَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاجِبًا
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا
إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ "
فَجَعَلَ وَقْتَ الذِّكْرِ وَقْتًا لِلْفَوَائِتِ فَاقْتَضَى أَنْ
يَلْزَمَهُ تَرْتِيبُ قَضَائِهَا كَمَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ أَدَاءِ
الصَّلَوَاتِ الْمُؤَقَّتَاتِ، وَمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ مِنَ
اللَّيْلِ حَتَّى فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ، والعصر،
(2/158)
وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَأَمَرَ
بِلَالًا فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ
لِلْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَقَامَ لِلْعِشَاءِ فَرَتَّبَ قَضَاءَ مَا
فَاتَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَازِمًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانُ مَا وَرَدَ مُجْمَلًا فِي الْكِتَابِ
مِنْ قَوْله تعالى: {وأقيموا الصلاة}
والثاني: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كما
رأيتموني أصلي "
وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " فَاقْتَضَى بُطْلَانَ
صَلَاتِهِ وَقَضَاءَ مَا فَاتَهُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَا
فَرْضٍ يَفْعَلَانِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا في
وقت إحديهما فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّرْتِيبَ فِيهِمَا
كَالظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا
التَّعْلِيلِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ [الَّتِي فِيهَا] لِأَنَّهُ غَيْرُ
جَامِعٍ بَيْنَهُمَا قَالَ: وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ يَلْزَمُ فِي
الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: فِي الزمان فلم لَمْ يَسْقُطْ تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ فِي
الْفَوَاتِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ رُكْنٍ عَلَى رُكْنٍ لَمْ يَسْقُطْ
تَرْتِيبُ الزَّمَانِ فِيهِمَا، وَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ عَصْرٍ عَلَى
ظُهْرٍ
وَاحْتَجَّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِرِوَايَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ
ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى فَلْيُتِمَّ الَّتِي هُوَ فِيهَا
وَلْيُصَلِّ الَّتِي ذَكَرَ ثُمَّ يُعِيدُ الَّتِي صَلَّاهَا "
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] فَكَانَ
الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ فعل ما يقضي ويؤدي ما فَائِتَةٍ،
وَمُؤَقَّتَةٍ بِلَا اشْتِرَاطِ تَرْتِيبٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فِي صَلَاتِهِ
فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ
صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِإِتْمَامِهَا أَمْرًا عَامًّا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا
فِي الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَثْنَاهُمَا
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْوَادِي حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا
فَأَمَرَ بِلَالًا بِالْأَذَانِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ،
ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا
قَدَّمَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ بَعْدَ خُرُوجِ
وَقْتِهَا كَانَ تَقْدِيمُ الْفَرْضِ عَلَى الْفَرْضِ أَوْلَى
بِالْجَوَازِ
وَرَوَى مَكْحُوِلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً
وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ "
وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ لَا
يَسْتَحِقُّ مَعَ النِّسْيَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ
(2/159)
مَعَ الذِّكْرِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ
الْوَقْتُ ضَيِّقًا، فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُكُمْ حُكْمَ الْعَامِدِ
بِالنَّاسِي مَعَ فَرْقِ الْأُصُولِ بَيْنَهُمَا وَتَخْفِيفُ حُكْمِ
النِّسْيَانِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ سَهْوَ الْكَلَامِ لَا يُبْطِلُ
الصَّلَاةَ وَعَمْدَهُ يُبْطِلُهَا، وَعَمْدَ الْأَكْلِ يُبْطِلُ
الصَّوْمَ وَنِسْيَانُهُ لَا يُبْطِلُهُ، قَبْلَ اعْتِبَارِهِمَا فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ،
فَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَوَى حُكْمُ الْعَمْدِ
وَالسَّهْوِ مَعًا فَلَا يَمْنَعُ، وَقَدِ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِيهِمَا
فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَرْعِ، وَلِأَنَّهَا
صَلَوَاتٌ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ
التَّرْتِيبُ فِيهَا أَصْلُهُ إِذَا فَاتَهُ سِتُّ صَلَوَاتٍ
فَصَاعِدًا، وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يُرَتَّبْ قَضَاؤُهُ عَلَى
قِلَّتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَقُولُ كُلُّ صَلَاةٍ صَارَتْ
بِخُرُوجِ الْوَقْتِ قَضَاءً لَمْ تَتَرَتَّبْ قِيَاسًا عَلَى ما زاد
على اليوم والليل، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ تَقَدَّمَ وَقْتُ
وُجُوبِهِمَا لَمْ يتعين عليه تقديم إحديهما كَالصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ أداء
الثانية سقط الترتيب فيهما فوجب إذ ثَبَتَا فِي الذِّمَّةِ أَنْ
يَسْقُطَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ
رَمَضَانَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ
مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، وَمِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ بِفَوَاتِ وَقْتٍ
كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَثَبَتَ مَا اعْتُبِرَ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ
كَصَوْمِ الظِّهَارِ، وَإِنْ كَانَ الصَّلَاةُ فَلَا يُقَدَّمُ سُجُودٌ
عَلَى رُكُوعٍ ثُمَّ وَجَدْنَا تَرْتِيبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ حيث الزمان
فاقتضى أن يسقط بقوات وَقْتِهَا
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا. . " -
الْحَدِيثَ - فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِ وَقْتِ الْفَائِتَةِ
بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ
تَرْكِهَا فِي وَقْتِ الذِّكْرِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ
بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصَابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ
قَالَ: " اخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي " فَلَمَّا خَرَجَ قَضَاهَا
وَكَانَ قَادِرًا عَلَى قَضَائِهَا فِيهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ
فَأَخَّرَهَا، فَهَذَا جَوَابٌ
ثُمَّ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ فِي ثَلَاثِ
صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ كَانَ ذَلِكَ وَقْتًا لَهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ
مِنْهَا قَدْ يُسْتَحَقُّ قَضَاؤُهَا فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ إِتْيَانُهُ
بِالْأُولَى قَبْلَ الْفَائِتَةِ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ قَبْلَ
الْأُولَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ
بِحَدِيثِ الْخَنْدَقِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَخَّرَ الصَّلَاةَ ذَاكِرًا لِوَقْتِهَا قَاصِدًا لِلْجَمْعِ
بَيْنَهَا إِذَا انْكَشَفَ عَدُوُّهُ وَزَالَ خَوْفُهُ فَلَزِمَهُ
التَّرْتِيبُ كالجامع بين الصلاتين في وقت أحديهما
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ
وَبِالْمُبَادَرَةِ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ
حَسَبَ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
مَعَ ثُبُوتِ نَسْخِهِ وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ بَيَانٌ مُجْمَلٌ مِنْ
قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصلاة} غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ دُونَ الْأَوْقَاتِ فَتَوَجَّهَ
الْبَيَانُ إِلَى الْفِعْلِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْوَقْتِ
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " مَعَ ضَعْفِهِ
وَاضْطِرَابِهِ وَإِنْكَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَهُ، وَقَالَ أَبُو
عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا حَدِيثُ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتعذر
(2/160)
الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ لَا وَجْهَ لَهُ
لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الصُّبْحَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَقَضَى
الصُّبْحَ فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ
صَلَاتِهِ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ
لَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ أَحَدِهَا اقْتَضَى
أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً، لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَعَلَيْهِ غَيْرُهَا
فَلَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ صرف عن
ظاهر وحمل على أن المراد لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ لِمَنْ عَلَيْهِ
فَرِيضَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ
الصَّلَاةُ فَإِنْ أَتَى بِهَا كَامِلَةً وَإِلَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهُ نَوَافِلَ، فإذا وجدوها كما
بِهَا الْفَرْضُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ [النَّفْلَ] لَا يُحْتَسَبُ بِهِ
إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَمْعِ
بَيْنَ صَلَاتَيْ عَرَفَةَ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بِعَرَفَةَ مَعَ النِّسْيَانِ لَمْ يَسْقُطْ
مَعَ الْعَمْدِ فَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ الْجَمْعُ، وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرًا
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ مُعْتَبَرًا، فَالْجَوَابُ
أَنَّ تَرْتِيبَ الْأَفْعَالِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا مَعَ الذِّكْرِ
وَالنِّسْيَانِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ ثَبَتَ وُجُوبُهُ مَعَ
الْفَوَائِتِ، وَلَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ يَسْقُطُ مَعَ
النِّسْيَانِ وَيَخْتَلِفُ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ سَقَطَ وُجُوبُهُ
مَعَ الْفَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْقَضَاءِ
كَصِفَةِ الْأَدَاءِ كَمَا قُلْتُمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ
مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَرَادَ قَضَاءَهَا أَنَّ عَلَيْهِ
الْإِحْرَامَ بِهَا مِنْ بَلَدِهِ لِتَكُونَ صِفَةُ قَضَائِهَا عَلَى
صِفَةِ أَدَائِهَا فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ،
قِيلَ: إِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
فَقَلْبُهُ لَازِمٌ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّكُمْ
تَقُولُونَ إِنَّهُ فِي صَلَاةِ الْعُمْرَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِيقَاتِهِ فَخَالَفْتُمْ صِفَةَ
الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَيَكُونُ
انْفِصَالُكُمْ عَنْهُ انْفِصَالًا لَنَا، وَدَلِيلًا عَلَى الْفَرْقِ
بَيْنَ مَا جَمَعُوا ثُمَّ نَقُولُ لَوْ أَلْزَمْنَاكُمْ هَذَا
لَكُنَّا فِي الْمَعْنَى سَوَاءً، لِأَنَّ وِزَانَ الْعُمْرَةِ
وَمِثَالَهَا مِنَ الصَّلَاةِ عَدَدُ رَكَعَاتِهَا فَإِذَا فَسَدَتِ
الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا لَزِمَهُ الِابْتِدَاءُ بِهَا مِنْ
أَوَّلِهَا، وَوِزَانَ الصَّلَاةِ وَمِثَالَهَا مِنَ الْعُمْرَةِ أَنْ
يُحْرِمَ بِثَلَاثِ عُمَرَ مُتَوَالِيَاتٍ فَيُفْسِدُهَا ثُمَّ يُرِيدُ
الْقَضَاءَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ بِمَا شَاءَ مِنْ
غَيْرِ تَرْتِيبٍ فَكَذَا الصَّلَاةُ، فَأَمَّا تَعَلُّقُ مَالِكٍ،
وَأَحْمَدَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَرَاوِيهِ التَّرْجُمَانُ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ
الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ،
لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَمْضِي فِيهَا اسْتِحْبَابًا وَيَقْضِي مَا
عَلَيْهِ وَيُعِيدُهَا اسْتِحْبَابًا فَتَسَاوَيْنَا فِي الْخَبَرِ
وَتَنَازَعْنَا دِلَالَتَهُ فَلَمْ يَكُونُوا فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا
ذَكَرُوا بِأَوْلَى مِنَّا فِي حَمْلِهِ على ما ذكرنا
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا فرق بين الرجال، والنساء في عمل
الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَضُمَّ
بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْ تُلْصِقَ بَطْنَهَا بفخذيها في السجود
كأستر ما يكون أحب ذلك لها في الركوع، وجميع تُكَثِّفُ جِلْبَابَهَا
وَتُجَافِيهِ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً؛ لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا
وَأَنْ تُخْفِضَ صَوْتَهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح
(2/161)
قَدْ ذَكَرْنَا أَفْعَالَ الصَّلَاةِ
وَصَوَابَهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَالْهَيْئَاتِ،
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي وَاجِبِهَا وَمَسْنُونِهَا،
وَهَيْئَاتِهَا إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْرُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَيَأْتِي ذِكْرُهُ
وَتَفْصِيلُهُ
وَالثَّانِي: هَيْئَاتٌ وَهِيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَيْئَاتُ أَقْوَالٍ. وَالثَّانِي: هَيْئَاتُ أَفْعَالٍ.
وَإِنَّمَا هَيْئَاتُ الْأَقْوَالِ فَثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: تَرْكُ الْأَذَانِ وَخَفْضُ الْأَصْوَاتِ بِالْإِقَامَةِ
وَالثَّانِيَةُ: الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ،
وَالْإِسْرَارُ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُصَفِّقْنَ لِمَا يَنُوبُهُنَّ فِي الصَّلَاةِ
بَدَلًا مِنْ تَسْبِيحِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا خَالَفْنَ الرِّجَالَ
فِي هَيْئَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي
صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ "، وَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ
وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَلِأَنَّ صَوْتَهُنَّ عَوْرَةٌ،
وَرُبَّمَا افْتَتَنَ سَامِعُهُ، وَلِذَلِكَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُصْغِيَ الرَّجُلُ إِلَى
حَدِيثِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ
فَإِنَّ زَيْغَ الْقَلْبِ مَمْحَقَةٌ لِلْأَعْمَالِ وَقَدْ قَالَ
الشَّاعِرُ:
(لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ
رُكَّعًا وَسُجُودَا)
فَجَعَلَ سَمَاعَ الْكَلَامِ كَمُشَاهَدَةِ الْأَجْسَامِ فِي
الِافْتِتَانِ بِهِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هَيْئَاتُ
الْأَفْعَالِ فَضَرْبَانِ، ضَرْبٌ فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَضَرْبٌ
فِي مَحَلِّ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الَّتِي فِي عَمَلِ الصَّلَاةِ
فَثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: كَثَافَةُ جِلْبَابِهِنَّ، وَالزِّيَادَةُ فِي لُبْسِ مَا
هُوَ أَسْتَرُ لَهَا مِنَ السَّرَاوِيلِ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ،
وَإِزَارٍ، وَاعْتِمَادُ لُبْسِ مَا جَفَا مِنَ الثِّيَابِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْتَمِعْنَ فِي رُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ
وَلَا يَتَجَافَيْنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَأَبْلَغُ فِي
صِيَانَتِهِنَّ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ إِنْ صَلَّيْنَ قُعُودًا جَلَسْنَ
مُتَرَبِّعَاتٍ، وَأَمَّا الَّتِي فِي مَحَلِّ الصلاة فأربعة:
(2/162)
أَحَدُهَا: مِنَ السُّنَّةِ لَهُنَّ
الصَّلَاةُ فِي بُيُوتِهِنَّ دُونَ الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا "
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُنَّ إِذَا صَلَّيْنَ جَمَاعَةً وَقَفَ
الْإِمَامُ مِنْهُنَّ وَسَطَهُنَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ التقدم عليهن
كالرجال
والثالثة: أن المراحم إِذَا ائْتَمَّتْ وَحْدَهَا بِرَجُلٍ وَقَفَتْ
خَلْفَهُ، وَلَمْ تَقِفْ إِلَى يَمِينِهِ كَالرَّجُلِ
وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُنَّ إِذَا صَلَّيْنَ مَعَ الرَّجُلِ جَمَاعَةً
فَأَوَاخِرُ الصُّفُوفِ لَهُنَّ أفضل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ صُفُوفِ النَسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا
أَوَّلُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا
آخِرُهَا "
فَهَذِهِ الْهَيْئَاتُ الَّتِي يَقَعُ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ خَالَفْنَ
هَيْئَاتِهِنَّ وَتَابَعْنَ الرِّجَالَ فقد أسأت، وَصَلَاتُهُنَّ
مُجْزِئَةٌ فَأَمَّا مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَوْ يوجب سجود السهو
فالرجال والنساء فيه سواد لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ -
وَاللَّهُ تعالى أعلم -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا
صَفَّقَتْ، وَإِنَمَا التسبيح للرجال والتصفيق للنساء كَمَا ذَكَرَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الرِّجَالِ إِذَا نَابَهُ نَائِبٌ
فِي صَلَاتِهِ أَنْ يُسَبِّحَ إِمَامًا كَانَ، أَوْ مَأْمُومًا، وَمِنْ
سُنَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تُصَفِّقَ وَلَا تُسَبِّحَ
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّسْبِيحُ لَهَا سُنَّةٌ
وَرُوِيَ عَنْ أبي حنيفة مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ تَصْفِيقَ
الْمَرْأَةِ يُبْطِلُ صَلَاتَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَرِضَ
أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ
فَتَقَّدَمَ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نفسه خفة
فحرج مُسْنَدًا بَيْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ صَفَّقُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِيُعْلِمُوهُ بِمَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاتَهُ قَالَ: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي
صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ،
وَالتِّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ " فَبَطَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ
مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ سُنَّةَ النِّسَاءِ التَّسْبِيحَ دُونَ
التَّصْفِيقِ، وَسَقَطَ قَوْلُ أبي حنيفة حَيْثُ أَبْطَلَ صَلَاتَهُنَّ
بِالتَّصْفِيقِ
فَأَمَّا صِفَةُ التَّصْفِيقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا
عَلَى وَجْهَيْنِ:
(2/163)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُصَفِّقُ كَيْفَ شَاءَتْ إِمَّا بِبَاطِنِ
الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، أَوْ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى
بَاطِنِ الْأُخْرَى، أَوْ بِظَاهِرِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ
الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ
إِنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، أَوْ
بِظَاهِرِ الكف على باطن الأخرى، وإما بباطن أحديهما عَلَى بَاطِنِ
الْأُخْرَى فَلَا يَجُوزُ لِمُضَاهَاتِهِ تَصْفِيقُ اللَّعِبِ
وَاللَّهْوِ، فَإِنْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ فَسَبَّحَتْ، أَوْ خَالَفَ
الرَّجُلُ فَصَفَّقَ فَصَلَاتُهُمَا مُجْزِئَةٌ، وَلَا سُجُودَ
لِلسَّهْوِ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَسْبِيحُ الْمَرْأَةِ جَائِزٌ
وَتَصْفِيقُ الرَّجُلِ عَامِدًا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَسَاهِيًا لَا
يُبْطِلُهَا وَلَكِنْ إِنْ تَطَاوَلَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كَالْعَمَلِ
الْكَثِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَاوَلْ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَهَذَا
غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لَمْ يُبْطِلْ صَلَاةَ مَنْ صَفَّقَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا أَمَرَهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَلَا سُجُودِ
السَّهْوِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالسُّنَّةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَى
الْأَفْضَلِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا تَسْبِيحُ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ تَنْبِيهًا لِإِمَامِهِ
وَإِعْلَامًا لَهُ بِسَهْوِهِ فَجَائِزٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ سُنَّةٌ
وَأَمَّا أَنْ يُسَبِّحَ قَاصِدًا لِرَدِّ جَوَابٍ؛ كَرَجُلٍ
اسْتَأْذَنَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ قَاصِدًا
بِهِ الْإِذْنَ، أَوْ سَلَّمَ عليه فقال: سبحان الله قاصد الرد
عَلَيْهِ، أَوْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، أَوْ رَأْسِهِ، أَوْ رَأَى
ضَرِيرًا يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْبِيهًا
لَهُ لِيَرْجِعَ عَنْ جِهَتِهِ، فَصَلَاتُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ
جَائِزَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: مَتَى قَصَدَ فِي صَلَاتِهِ خِطَابَ آدَمِيٍّ
بِإِشَارَةٍ، أَوْ تَسْبِيحٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يُسَبِّحَ
لِسَهْوِ إِمَامِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ قَالَ: " قَدِمْتُ مِنَ الْحَبَشَةِ فَدَخَلْتُ عَلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا
بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ إِنَّ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا
تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ "، فَلَوْ جَازَ رَدُّ السَّلَامِ
بِتَسْبِيحٍ، أَوْ إِشَارَةٍ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَطَلَبِ
الْفَضْلِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ نَطَقَ فِي صَلَاتِهِ بِقُرْآنٍ
وَقَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ آدَمِيٍّ [عَلَى سَبِيلِ الْجَوَابِ] بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ يَحْيَى " يَا يَحْيَى خُذِ
الكتاب بقوة " أو قال " يوسف أعرض عن هذا " فَلَأَنْ تَبْطُلَ
صَلَاتُهُ بِالتَّسْبِيحِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الإفهام، أو التبيه
أَوْلَى، وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ
نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ
فِي كُلِّ مَا نَابَهُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ سَهْوِ إِمَامٍ أَوْ رَدِّ
سَلَامٍ، أَوْ تَنْبِيهٍ، أَوْ إِفْهَامٍ
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
" دَخَلَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(2/164)
وَمَعَهُمْ صُهَيْبٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِي
مَسْجِدِ قُبَاءٍ فقلت: كيف فعل رسول الله فَقَالَ: رَدَّ عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ "
وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ
فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُصَلِّي
وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَهَا
فَسَأَلْتُهَا عَنِ الْخَبَرِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَشَارَتْ
إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا نعم، فلو
كانت الإشارة والتسبيح للإفهام والتلبية تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَمَا
فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَنَهَى
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ وَلِأَنَّ الْإِفْهَامَ
بِقَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ لَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ لَوَجَبَ أَنْ
يُبْطِلَهَا إِذَا قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ إِمَامِهِ لِسَهْوِهِ فِي
صَلَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِكُلِّ
حَالٍ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَا حُجَّةَ
فِيهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ،
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الكتاب}
وقوله: {يوسف أعرض عن هذا} فَهُوَ عِنْدَنَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَلَا تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْإِفْهَامَ، وَالتَّنْبِيهَ،
وَالتَّسْبِيحَ، سَوَاءٌ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَوَى حَكِيمُ بْنُ
سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ نَادَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ {لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قَالَ فَأَجَابَهُ عَلَيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يستخفنك الذين
لا يوقنون} ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قِرَاءَتِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِفْهَامَ، وَالتَّنْبِيهَ لَا
الْقِرَاءَةَ فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْبِيحِ: أَنَّ هَذَا خِطَابُ
آدَمِيٍّ صَرِيحٌ، وَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ بِالْمَعْنَى
وَالتَّنْبِيهِ فَافْتَرَقَ حكمها في إبطال الصلاة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ
حُرَّةً أَنْ تَسْتَتِرَ فِي صَلَاتِهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا
شيءٌ إلا وجهها وكفيها فإن ظهر منها شيء سوى ذك أَعَادَتِ الصَّلَاةَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ مَالِكٌ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي الصَّلَاةِ،
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَمَنْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ
الْوَقْتُ بَاقِيًا أَعَادَ وَإِنْ كَانَ فَائِتًا لَمْ يُعِدْ،
وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ مَالِكٌ إِنَّهُ يُعِيدُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ
الْوَقْتِ يُرِيدُ بِهِ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا
وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ
تَجِبْ لِلصَّلَاةِ كَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ لَمَّا وَجَبَا لِغَيْرِ
الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبَا لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُونَا مِنْ شَرْطِ
صِحَّتِهَا
(2/165)
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا
فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ لَهُ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ
الْعَجْزِ كَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ
بَدَلٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَالتَّسْبِيحِ، وَهَذَا
غَلَطٌ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
غَيْرَ اللِّبَاسِ لَا يَجِبُ فَثَبَتَ وُجُوبُ اللِّبَاسِ وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى: {عِنْدَ كل مسجد} وَالْمَسْجِدُ يُسَمَّى صَلَاةً
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ}
[الحج: 40] يعني: مساجد
فإذا قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الطَّوَافِ، وَكَانَ
سَبَبُهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ
عُرَاةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ
كُلِّ مسجد} فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبِهَا قِيلَ عُمُومُ
اللَّفْظِ يَشْتَمِلُ عَلَى الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةِ فَلَا اعْتِبَارَ
بِالسَّبَبِ الْخَاصِّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي
الطَّوَافِ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ
الطَّوَافَ يُسَمَّى صَلَاةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " الطواف صلاة "
وروي عن سلمة بن الأكواع قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
أَخْرُجُ إِلَى الصَّيْدِ وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا قَمِيصٌ
واحد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زُرَّهُ
عَلَيْكَ، أَوِ ارْبِطْهُ بِشَوْكَةٍ " فَأَمَرَهُ بِزَرِّهِ خَوْفًا
مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ فِي رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، فَدَلَّ عَلَى
وُجُوبِ سُتْرَتِهَا
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ
فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ومن لم يكن معه إلا ثوب واحد فَلْيَتَّزِرْ بِهِ
"
وَرَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ حَاضَتْ إِلَّا
بِخِمَارٍ " أَيْ: بَلَغَتْ حَالَ الْحَيْضِ
وَرُوِيَ " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ تَحِيضُ إِلَّا
بِخِمَارٍ "
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَا كَانَ وَاجِبًا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ
يَجِبْ لِلصَّلَاةِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ
يَتَوَارَى بِمَا يُحِيلُ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَعُيُونِ النَّاسِ فَإِنْ
تَوَارَى بِجِدَارٍ، أَوْ دَخَلَ بَيْتًا جَازَ، فَعَلَى هَذَا
يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وجوبها لغير
الصَّلَاةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا
(2/166)
تَجِبُ لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّ تَرْكَ
الرِّدَّةِ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلِلصَّلَاةِ وَالْإِيمَانُ
وَاجِبٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَلِلصَّلَاةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ
كَانَ وَاجِبًا لَاقْتَضَى بَدَلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ
فَيَبْطُلُ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ وَلَا
بَدَلَ لَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ انْتَقَلَ
الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ الْعَوْرَةِ وَتَحْدِيدِهَا فَنَبْدَأُ
بِعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ لِبِدَايَةِ الشَّافِعِيِّ بِهَا،
فَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا
وَكَفَّيْهَا إِلَى آخِرِ مَفْصِلِ الْكُوعِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ
عَلِيٍّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْعَوْرَةُ هِيَ
السَّوْأَتَانِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ
السَّبْعَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جَمِيعُ الْمَرْأَةِ مَعَ
كَفَّيْهَا وَوَجْهِهَا عَوْرَةٌ فَأَمَّا داود فاستدل بقوله تعالى:
{فبدت لهما سوأتاهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} قَالَ:
فَلَمَّا غَطَّيَا الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ عَلِمَ أَنَّ مَا سِوَاهُمَا
لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ جَالِسًا فِي بَعْضِ حَوَائِطِ
الْمَدِينَةِ وَفَخِذُهُ مَكْشُوفَةٌ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُغَطِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَلَمْ يُغَطِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ الله عنه فغطاه
رسول الله فَقِيلَ لَهُ: سَتَرْتَهُ مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ تَسْتُرْهُ
مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: "
أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ "
قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْفَخِذَانِ عَوْرَةً مَا اسْتَحْسَنَ وَلَا
اسْتَجَازَ كَشْفَهُ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا
وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ
وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ
فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِذَا
كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي قَدَمَيْهَا
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَرْهَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ بِي
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بِئْرِ
حَمْلٍ وَأَنَا مَكْشُوفُ الْفَخِذِ فَقَالَ: " غَطِّ فَخِذَكَ
فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ "
(2/167)
وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يا علي لا تنظر إلى فخذ
حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ "
فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دِلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّ قَوْله
تَعَالَى: {يخصفان عليهما من ورق الجنة} [طه: 121] المارد بِهِ عَلَى
أَبْدَانِهِمَا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ مَكْشُوفَ السَّاقِ
فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَطَّاهُ وَالسَّاقُ
لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا رَوَاهُ لَاحْتَمَلَ
أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ كَانَا مِنْ جِهَةٍ لَا
يَرَيَانِ فَخِذَهُ وَدَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ
جِهَةٍ يُشَاهِدُ فَخِذَهُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ كَشَفَ قَمِيصَهُ عَنْ فَخِذِهِ
وَسَتَرَهُ بِسَرَاوِيلِهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِمَا لِأَنَّهُمَا
صِهْرَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ اسْتَحَى فَغَطَّاهُ،
لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الْحَيَاةِ أَلَا تَرَاهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَفَهُ بِالْحَيَاءِ فَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ حَيِيٌّ " عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْحَدِيثِ
إِكْرَامُ عُثْمَانَ وَإِبَانَةُ فَضْلِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ تَدْخُلُ إِلَيْنَا
جَارِيَةٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِيَ عِنْدَنَا فَأَعْرَضَ عَنْهَا فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا فُلَانَةُ فَقَالَ: " أَوَلَيْسَ قَدْ
حَاضَتْ " قال: فلو لم يكن وجهها عورة فكان النظر إليها جائز لَمَا
أَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا
قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: " يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ
فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالْآخِرَةَ عَلَيْكَ "
وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ
وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ
تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}
[الأحزاب: 52] وَلَا يُعْجِبُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا بِالنَّظَرِ
إِلَيْهِنَّ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَلَمْ يَقُلْ أَبْصَارَهُمْ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْغَضَّ عَنْ بعض دون بعض
وروي أن امرأة خرجت يَدَهَا لِتُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " هَذِهِ كَفٌّ مَبِيعٌ أَيْنَ
الْحَيَاءُ "
(2/168)
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ
أَوْ قَالَ: حَاضَتْ لَمْ يَجُزِ النَّظَرُ إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى
وَجْهِهَا وكفيها "
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أراد أحدكم خطب
امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ
أَدْوَمُ لِمَا بَيْنَهُمَا "
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهِ عَنْهُ
جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَهِيَ
فَضْلٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِمَا رَفَعَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِلنَّاسِ فِيهِ
تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَا تُتْبِعْ نَظَرَ قَلْبِكَ نَظَرَ عَيْنِكَ
وَالثَّانِي: لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ
سَهْوًا لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَقَعُ عَمْدًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ فِي صَلَاتِهَا مَا
ذَكَرْنَا فَعَلَيْهَا سَتْرُ جَمِيعِ عَوْرَتِهَا فِي الصَّلَاةِ
فَرِيضَةً كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ مَا
يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ دِرْعٌ سَابِغٌ يُغَطِّي
قَدَمَيْهَا، أَوْ خِمَارٌ تَسْتُرُ بِهِ رَأْسَهَا وَأُحِبُّ أَنْ
تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ وَتُجَافِيَهُ لِكَيْ لَا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا،
فَإِنِ انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا وَإِنْ قَلَّ مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَى سَتْرِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي
قَدْرِ الْعَوْرَةِ، وَخَالَفَنَا فِي حُكْمِ مَا انْكَشَفَ مِنْهَا
فَقَالَ الْعَوْرَةُ ضَرْبَانِ مُخَفَّفَةٌ وَمُغَلَّظَةٌ،
فَالْمُغَلَّظَةُ السَّوْأَتَانِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ،
وَالْمُخَفَّفَةُ مَا عَدَاهُمَا، فَإِنِ انْكَشَفَ مِنَ
الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ دُونَ
الرُّبُعِ صَحَّتِ الصَّلَاةُ وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتِ
الصَّلَاةُ
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مَعْنًى يَجُوزُ فِي حَالِ
الْعُذْرِ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ
وَكَثِيرِهِ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ قَالَ: وَلِأَنَّ الْكَشْفَ
الْكَثِيرَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ كَالْكَشْفِ الْقَلِيلِ فِي الزَّمَانِ
الطَّوِيلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْكَشْفُ الْقَلِيلُ
فِي الزَّمَانِ [الْقَلِيلِ] وَالدِّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا
الْقَوْلِ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى مَالِكٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ،
ثُمَّ مِنْ طريق المعنى: أن كَشَفَ مِنْ عَوْرَتِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا
يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ، أَصْلُهُ
إِذَا كُشِفَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ، وَمِنَ
الْمُخَفَّفَةِ أَكْثَرُ مِنَ الرُّبُعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ إِذَا
انْكَشَفَ مِنْهُ الرُّبُعُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ إِذَا
انْكَشَفَ مِنْهُ دُونَ الرُّبُعِ أَنْ يُبْطِلَهَا كَالسَّوْأَتَيْنِ
ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة لَيْسَ تَحْدِيدُكَ بِالرُّبُعِ أَوْلَى مِنْ
تَحْدِيدِ غَيْرِكَ بِالثُّلُثِ، أَوِ النِّصْفِ فَبَطَلَ تَحْدِيدُكَ
بِمُعَارَضَةِ مَا قَابَلَهُ عَلَى أَنَّ أبا حنيفة لَا يَأْخُذُ
بِالتَّحْدِيدِ قِيَاسًا، وَلَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ يُوجِبُهُ فَعَلِمَ
بُطْلَانَهُ
(2/169)
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَا جَازَ تَرْكُهُ
فِي حَالِ الْعُذْرِ وَجَبَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ
فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَبَطَلَ بِالْوُضُوءِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ
مَعَ الْعُذْرِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي
حَالِ الِاخْتِيَارِ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِعْلٌ وَحَرَكَةٌ،
وَالِاحْتِرَازَ مِنْهُمَا فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إِذْ لَيْسَ
فِي الْمُمْكِنِ أَنْ لَا يَتْرُكَ فِي صَلَاتِهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ
الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
السُّتْرَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّرْكُ
لِلتَّكْبِيرِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ فَكَذَلِكَ التَّرْكُ
الْيَسِيرُ فِي الزَّمَانِ الْكَثِيرِ، قُلْنَا: هُمَا فِي الْحُكْمِ،
وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ إِنَّمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ فِي الْكَشْفِ
الْكَثِيرِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى
سِتْرِهِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ [وَإِنَّمَا
أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ] فِي الكشف الكثير فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ،
لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ
لِخِرَقٍ فِي ثَوْبِهِ لَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ
فَلَمْ يفترق الحكم في الموضعين.
(فصل)
: فإذا تكررت هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَلِلْمَرْأَةِ حَالَانِ، حَالُ
عَوْرَةٍ، وَحَالُ إِبَاحَةٍ فَأَمَّا حَالُ الْإِبَاحَةِ فَمَعَ
زَوْجِهَا فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا عَوْرَةٌ وَلَهُ النَّظَرُ إِلَى
سَائِرِ بَدَنِهَا
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ: لَا
يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فرجها، ولا له النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إِلَيْهِ "
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا،
وَيَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَلِأَنَّهُ
قَدِ اسْتَبَاحَ جُمْلَتَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَفَرْجُهَا هُوَ
الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ أَقَلَّ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ
تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الْعَوْرَةُ فَضَرْبَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَأَمَّا
الْكُبْرَى فَجَمِيعُ الْبَدَنِ إِلَّا الوجه والكفان وَأَمَّا
الصُّغْرَى فَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَمَا يَلْزَمُهَا
سَتْرُ هَاتَيْنِ الْعَوْرَتَيْنِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَلْزَمَهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى، وَذَلِكَ
فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا
وَالثَّانِي: مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ
مُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرِهِمْ، وَحُرِّهِمْ، وَعَبْدِهِمْ،
وَعَفِيفِهِمْ، وَفَاسِقِهِمْ، وَعَاقِلِهِمْ، وَمَجْنُونِهِمْ فِي
إِيجَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى مِنْ جَمِيعِهِمْ
وَالثَّالِثُ: مَعَ الْخَنَاثَى الْمُشْكِلِينَ، لِأَنَّ جُمْلَةَ
الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ النَّظَرُ إِلَى بَعْضِهَا
بِالشَّكِّ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ الصُّغْرَى
وَذَلِكَ مَعَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ أَحَدُهَا مَعَ النِّسَاءِ
كُلِّهِنَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ،
وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُسْلِمَةِ والذميه
(2/170)
وَالثَّانِي: مَعَ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي
مَحَارِمِهَا كَابْنِهَا، وَأَبِيهَا وَأَخِيهَا، وَعَمِّهَا مِنْ
نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ
وَالثَّالِثُ: مَعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ،
وَلَا تَحَرَّكَتْ عَلَيْهِمُ الشَّهْوَةُ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَبِيدُهَا الْمَمْلُوكُونَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: الْعَوْرَةُ الْكُبْرَى كَالْأَجَانِبِ وَبِهِ قَالَ أبو
إسحاق المروزي، وأبي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]
وَالثَّانِي: الْعَوْرَةُ الصُّغْرَى كَذِي الرَّحِمِ وَبِهِ قَالَ
أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ حُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ
أَبِي الْعَبَّاسِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}
[النور: 31]
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ تَقْرِيبُ أَنَّهَا تَبْرُزُ إِلَيْهِمْ وَهِيَ
فَضْلُ بَارِزَةِ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، لَكِنْ لَمْ
يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ
إِلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَأَمَّا عَبْدُهَا
الَّذِي نَصْفُهُ حُرٌّ وَنَصِفُهُ مَمْلُوكٌ فَعَلَيْهَا سَتْرُ
عَوْرَتِهَا الْكُبْرَى مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الشُّيُوخُ الْمُسِنُّونَ الَّذِينَ قَدْ
عَدِمُوا الشَّهْوَةَ وَفَارَقُوا اللَّذَّةَ فَفِي عَوْرَتِهَا
مَعَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكُبْرَى كَالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ
وَالثَّانِي: الصُّغْرَى كَالصِّبْيَانِ
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمَجْبُوبُونَ دُونَ الْمَخْصِيِّينَ فَفِي
عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكُبْرَى كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ
وَالثَّانِي: الصُّغْرَى كَالصِّبْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غير
أولي الإربة من الرجال} فَأَمَّا الْعِنِّينُ وَالْمَأْيُوسُ مِنْ
جَمَاعَةٍ كَالْخَصِيِّ وَالْمُؤَنَّثِ الْمُتَشَبِّهِ بِالنِّسَاءِ
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ في حكم العورة منهم
ولهم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ صَلَّتِ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ
الرَّأْسِ أَجْزَأَهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا بَيْنَ سُرَّةِ الْأَمَةِ
وَرُكْبَتِهَا عَوْرَةٌ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ، وَلَا
يَخْتَلِفُ أَنَّ رَأْسَهَا وَسَاقَيْهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي
الصَّلَاةِ وَلَا مَعَ الْأَجَانِبِ لِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَمَةِ
آلِ أَنَسٍ وَقَدْ تَقَنَّعَتْ فِي صَلَاتِهَا فضربها وقال:
(2/171)
" اكْشِفِي رَأْسَكِ وَلَا تَشَبَّهِينَ
بِالْحَرَائِرِ "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ جَرَّ قِنَاعَهَا
وَقَالَ: " يَا لُكَعَاءُ تَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ "
فَأَمَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرَأْسِهَا [مِنْ صَدْرِهَا
وَوَجْهِهَا] فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وعليه أصابنا إِنَّهُ
لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَيَجُوزُ نَظَرُ الْأَجَانِبِ إِلَيْهِ عِنْدَ
التَّقْلِيبِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ إِنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَمَعَ الْأَجَانِبِ
لَيْسَ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ، وَلَا لِغَيْرِهَا
فَأَمَّا الْأَمَةُ نِصْفُهَا حُرٌّ وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ فَفِي
عَوْرَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَالْحَرَائِرِ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ سَيِّدِهَا وَمَعَ
الْأَجَانِبِ
وَالثَّانِي: كَالْإِمَاءِ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ
وَكَأَمَةِ الْغَيْرِ مَعَ سَيِّدِهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،
لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ كَانَ حُكْمُ
التَّحْرِيمِ أَغْلَبَ
فَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ:
فَكُلُّهُنَّ عَوْرَةٌ سَوَاءٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ جَارٍ
عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ صَلَّتِ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ ثُمَّ
عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَتَقَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا إِعَادَةُ
مَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ بَعْدَ عِتْقِهَا كَالْمُصَلِّي
عُرْيَانًا لِعَدَمِ الثَّوْبِ ثُمَّ يَجِدُ ثَوْبًا قَدْ كَانَ لَهُ
وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَذَلِكَ الْأَمَةُ،
لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ وَقَدْ خُرِّجَ فِي الْأَمَةِ
قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُصَلِّي وَفِي
ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ
الصلاة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي
قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ، فَإِنْ صَلَّى فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، أَوْ
سَرَاوِيلَ واحدة أجزأه "
قال المارودي: وأما الرجل فعورته ما بين سرته إلى ركبتيه، وَلَيْسَتِ
السُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ؛ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مُرُوا صِبْيَانَكُمْ
بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا
بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ، وَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ أَمَتَهُ
فَلَا تَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عورته "
وأما مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا دُونَ
الرُّكْبَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَلَ السُّرَّةِ مِنَ
الْعَوْرَةِ "
(2/172)
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ
لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: " أَرِنِي الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَبِّلُهُ فَكَشَفَ
عَنْ سُرَّتِهِ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ "
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ السُّرَّةَ وَالرُّكْبَةَ
لَيْسَا بِعَوْرَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ
عَوْرَتِهِ إِلَّا بِسَتْرِ بَعْضِ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ليكون
سائراً لِجَمِيعِ الْعَوْرَةِ، كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِ
وَجْهِهِ إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي
ثَوْبَيْنِ، قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ وَسَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، لِرِوَايَةِ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ
فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ومن لم يكن معه إلا ثوب واحد فَلْيَتَّزِرْ بِهِ
"
وَإِنْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ سَتَرَ بِهِ مَا بَيْنَ
سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ أَجْزَأَهُ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ حَتَّى
يَضَعَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا، وَلَوْ حَبْلًا تَعَلُّقًا
بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي
ثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْهُ "
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ فَلْيَصْنَعْ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا، وَلَوْ
حَبْلًا "، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا
وَمَنْ لم يكن معه إلا ثوب واحد فليتزر بِهِ "
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا نَادَى رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيُصَلِّي أَحَدٌ فِي
الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " أُوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ "
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي
ثَوْبٍ بَعْضُهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ مَيْمُونَةَ
فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَمَحْمُولٌ
عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا رُوِّينَا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَجَائِزٌ إِذَا
صَنَعَ أَحَدَ ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ يَزِرَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ
يَرْبُطَهُ بِشَيْءٍ، أَوْ يَشُدَّ وَسَطَهُ فَوْقَ سُرَّتِهِ عَلَى
قَمِيصِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَصَلَّى فِيهِ
كَمَا لَبِسَ لَمْ يُجْزِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتُرَ الْعَوْرَةَ بِمَا
قَابَلَهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِالطَّرَفَيْنِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ
صَلَّى فِي مِئْزَرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ مَا قَابَلَ الْأَرْضَ مِنْ
عَوْرَتِهِ ظَاهِرًا، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
(2/173)
الْأَكْوَعِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنِّي أَخْرُجُ إِلَى الصَيْدِ فَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ
إِلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " زره عليه أو اربط بِشَوْكَةٍ " فَدَلَّ أَمْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى
أَنَّ الصَّلَاةَ لا يجزئ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا قَوْلُ أبي حنيفة لَا
اعْتِبَارَ بِالطَّرَفَيْنِ إِذَا سَتَرَ مَا قَابَلَ عَوْرَتَهُ
فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ سَوْأَتَهُ لَوْ شُوهِدَتْ مِنْ أَعْلَى
الْمِئْزَرِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، وَإِنْ شُوهِدَتْ مِنْ
أَسْفَلِهِ أَجْزَأَتْهُ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الطَّرَفَيْنِ فِي
سَتْرِهَا، فَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ لَمْ يَزِرَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ
ذَا لِحْيَةٍ قَدْ غَطَّتْ مَوْضِعَ إِزْرَارِهِ وَسَتَرَتْ مَا
يَظْهَرُ مِنْ عَوْرَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ
يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ
(فَصْلٌ)
: وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرِّجَالِ كَعَوْرَتِهِ فِي صَلَاتِهِ
مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وركبتيه، وَكَذَلِكَ عَوْرَتُهُ مَعَ النِّسَاءِ
إِلَّا مَعَ زَوْجَتِهِ أمته فَلَا عَوْرَةَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ
أَرَادَ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ، أَوْ أَرَادَ كَشْفَهَا فِي
بَيْتِهِ حَيْثُ لَا يِرَاهُ أَحَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذْ لَا عَوَرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
نَفْسِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْنِي أَحَدُكُمْ بِثَوْبِهِ مُفْضِيًا
بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ
تَسْتَحْيُوا مِنْهُ "، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَجَرَّدَ فِي الْمَاءِ فِي
نَهْرٍ، أَوْ غَدِيرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الثَّوْبِ فِي
سَتْرِ عَوْرَتِهِ
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يُنْزَلَ الْمَاءُ بِغَيْرِ
مِئْزَرٍ وَقَالَ: " إِنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا "
وَعَوْرَةُ الْعَبْدِ كَعَوْرَةِ الْحُرِّ، وَعَوْرَةُ الذِّمِّيِّ
كَعَوْرَةِ الْمُسْلِمِ
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَعَوْرَتُهُ فِي صَلَاتِهِ وَمَعَ
الرِّجَالِ كَعَوْرَةِ النِّسَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: آمُرُهُ
بِلُبْسِ الْقِنَاعِ، وَأَنْ يَقِفَ بَيْنَ صُفُوفِ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ
وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَلَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهِمْ فِيمَا دُونَ
سَبْعٍ، فَلَوْ بَلَغَ الْغُلَامُ عَشْرَ سِنِينَ، وَالْجَارِيَةُ
تِسْعَ سِنِينَ كَانَا كَالْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
فِي حُكْمِ الْعَوْرَةِ وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ
هَذَا
(2/174)
زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ بُلُوغُهُمْ
فَجَرَى حُكْمُهُ لِتَغْلِيظِ حُكْمِ الْعَوْرَاتِ، فَأَمَّا
الْغُلَامُ فِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالْعَشْرِ، وَالْجَارِيَةُ
فِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالتِّسْعِ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى
فَرْجِهَا وَيَحِلُّ فِيمَا سِوَاهُ
(مَسْأَلَةٌ)
: فقال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ ثَوْبٍ يَصِفُ مَا تَحْتَهُ
وَلَا يَسْتُرُ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح
والثياب كلها على ثلاث أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُسْتَحَبُّ لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي
الصَّلَاةِ، وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ صَفِيقٍ لَا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ
كَالْمِئْزَرِ وَالْوُذَارَةِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي الصَّلَاةِ
لِلنِّسَاءِ وَلَا لِلرِّجَالِ وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ خَفِيفٍ يَصِفُ
لَوْنَ مَا تَحْتَهُ مِنْ بَيَاضٍ، أَوْ سَوَادٍ كَالشُّرُبِ، أَوِ
التَّوْرِيِّ
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَيُكْرَهُ
لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ فَإِنْ لَبِسْنَهُ جَازَ، وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ
نَاعِمٍ يَصِفُ لِينَ مَا تَحْتَهُ وَخُشُونَتَهُ وَيَصِفُ لَوْنَهُ
كَالدَّبِيقِيِّ، وَالنَّهْرِيِّ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعُرْيَانُ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَسْتُرُ
عَوْرَتَهُ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى لباس ظاهر مِنْ جُلُودٍ
أَوْ فَرًى لَبِسَهُ وَصَلَّى، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ وَرَقَ شَجَرٍ
يَخْصِفُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَلَّى، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ
وَجَدَ طِينًا، وَكَانَ ثَخِينًا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيُغَطِّي
الْبَشَرَةَ لَزِمَهُ تطيين عورته، [وإن لم يفعل بطلت صَلَاتُهُ] ،
وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَلَكِنْ يُغَيِّرُ
لَوْنَ الْبَشْرَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ تَطْيِينُ عَوْرَتِهِ،
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ فَلَوْ وَجَدَ ثَوْبًا
يُوَارِي بَعْضَ عَوْرَتِهِ لَزِمَهُ الِاسْتِتَارُ بِهِ وَسَتْرُ
قُبُلِهِ أَوْلَى مِنْ دُبُرِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُبُلَ لَا يَسْتُرُهُ شَيْءٌ، وَالدُّبُرَ
يَسْتُرُهُ الْإِلْيَتَانِ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُبُلَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، وَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ سَتْرُ الدُّبُرِ أَوْلَى الفحش ظُهُورِهِ فِي
رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ
وَلَا شَيْئًا مِنْهَا صَلَّى عُرْيَانًا قَائِمًا، وَلَا إِعَادَةَ
عَلَيْهِ، فَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَلَّى قَائِمًا،
وَإِنْ شَاءَ صَلَّى قَاعِدًا، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ قُعُودَهُ
أَسْتَرُ لِعَوْرَتِهِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْكَدُ مِنَ الْقِيَامِ
مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ الْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي
النَّوَافِلِ، وَوُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الفرائض والنوافل
(2/175)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ لَهُ بَدَلٌ
يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، وَلَيْسَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ
بَدَلٌ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلِّ قَائِمًا
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى
جَنْبٍ "، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ
تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِفَقْدِ السَّتْرِ كَالرُّكُوعِ،
وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الِانْتِقَالِ
مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الِانْتِقَالِ
مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ كَالْقِبْلَةِ طَرْدًا، وَالْمَرَضِ
عَكْسًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَ جُلُوسِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ
فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَوْرَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنَّمَا خَفِيَ
بِغَمْضِهَا وَصَارَ بِجُلُوسِهِ تَارِكًا لِلسَّتْرِ وَالْقِيَامِ
جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ
بِبَدَنِهِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا كَانُوا عُرَاةً وَلَا نِسَاءَ،
مَعَهُمْ فَأُحِبُّ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَيَقِفَ الْإِمَامُ
وَسَطَهُمُ، وَيَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ " قَالَ: " وَإِنْ كَانُوا
رِجَالًا وَنِسَاءً صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ بِحَيْثُ لَا يَرَى
الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَلَا النِّسَاءُ الرِّجَالَ فَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْ ذَلِكَ وَلَّى النِّسَاءُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
وَوَقَفُوا حَتَّى يُصَلِّيَ الرِّجَالُ، فَإِذَا صَلَّوْا وَلَّى
الرِّجَالُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ النِّسَاءُ
فَلَوْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمْ ثَوْبٌ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ وَلَا
يَلْزَمُهُ إِعَارَتُهُمْ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ وَالْأَوْلَى
لَهُ أَنْ يُعِيرَهُمْ ثَوْبَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ
جَمِيعُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنْ خَافُوا خُرُوجَ
الْوَقْتِ إِنِ انْتَظَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا صلوا عراة قبل خروج
الوقت، وعليهم الإعارة نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ كَانُوا
فِي سَفِينَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّلَاةِ قِيَامًا إِلَّا
وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَخَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ صَلَّوْا
قُعُودًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَقَلَ
جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى
وَخَرَّجَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ جَوَابَ
الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا بِفَرْقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ قَدْ سَقَطَ مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ فِي النَّوَافِلِ، وَفِي الْفَرَائِضِ إِذَا كَانَ مَرِيضًا
يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَشَقَّةٍ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا
يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِحَالٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ بَدَلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ
الْعَجْزِ عَنْهُ، وَهُوَ الْقُعُودُ وَلَيْسَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ
بَدَلٌ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ
عَلَى الْوَقْتِ وَأَوْجَبَ الْإِعَادَةَ عَلَى الْعُرَاةِ، وَقَدَّمَ
فَرْضَ الْوَقْتِ عَلَى الْقِيَامِ وَأَسْقَطَ الْإِعَادَةَ على
الْمُضَايِقِينَ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ تَخْرِيجِهِمَا
عَلَى قَوْلَيْنِ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا نجساً صلى عريان وَأَجْزَأَهُ،
كَمَا لَوْ وَجَدَ الْعَادِمُ الْمَاءَ مَاءً نَجِسًا تَيَمَّمَ وَلَا
يَسْتَعْمِلُهُ، فَلَوْ وَجَدَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ لَمْ
يَلْبَسْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَاضِرًا كَانَ الْغَيْرُ، أَوْ
غَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ صَلَّى
عُرْيَانًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَبِسَهُ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ وَصَلَّى فِيهِ كَانَ غاضباً يلبسه وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ،
لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي اللِّبَاسِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّةِ
الصَّلَاةِ كَالْمُصَلِّي فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ
دِيبَاجٍ، فَلَوْ قَدَرَ الْعُرْيَانُ عَلَى ثَوْبٍ يَسْتَتِرُ بِهِ
بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ
(2/176)
يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ،
وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الثَّمَنِ، أَوِ الْأُجْرَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ
كَالْمُسَافِرِ إِذَا بُذِلَ له الماء بثمن مثله، فإن صلى عريان
أَعَادَ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلثَّوْبِ، فَلَوِ
اسْتَعَارَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا لِصَلَاتِهِ فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ
مِنْ إِعَارَتِهِ وَقَالَ: خُذْهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِبَةِ
وَالتَّمْلِيكِ لَا الْعَارِيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ
يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَاءِ
إِذَا وُهِبَ لَهُ
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِمَا فِي قَبُولِهِ مِنَ
الدُّخُولِ تَحْتَ مِنَّةِ الْوَاهِبِ فَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ
الْمَالُ لِلْحَجِّ، وَفَارَقَ هَيْئَةَ الْمَاءِ لِعَدَمِ الْمِنَّةِ
فِيهِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ نَاوِيًا بِهِ
الْعَارِيَةَ، وَإِذَا صَلَّى فِيهِ رَدَّهُ إِلَى رَبِّهِ، فَلَوِ
اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَلَبِسَهُ وَأَحْرَمَ
بِالصَّلَاةِ ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ مَالِكُهُ بَنَى عَلَى صلاته عريان
وأجزأته، ولو أحرم بالصلاة عريان فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ اسْتَتَرَ به وبنى على صلاته
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ سَلَّمَ أَوْ تَكَلَّمَ
سَاهِيًا، أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ بَنَى مَا لَمْ
يتطاول لك وَإِنْ تَطَاوَلَ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ عَمْدٌ، وَنِسْيَانٌ،
فَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ
مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ كَلَامُهُ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي
أَحَدِهِمَا
وَقَالَ أبو حنيفة: جِنْسُ الْكَلَامِ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ يُبْطِلُ
الصَّلَاةَ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَ سَاهِيًا فَلَا يُبْطِلُ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: تَبْطُلُ
الصَّلَاةُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ، وَبِالسَّلَامِ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: " كُنَّا نكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَبْلَ أَنْ نُهَاجِرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا
مِنَ الْحَبَشَةِ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ قُلْتُ:
لَمْ تَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ
مَا يَشَاءُ وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ "
فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي عَمْدِ الْكَلَامِ وَسَهْوِهِ
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ:
صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَعَضَّ
النَّاسُ عَلَى شِفَاهِهِمْ، وَغَمَزُونِي بِأَبْصَارِهِمْ، فَلَمَّا
صَلَّيْتُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَمَا ضَرَبَنِي وَلَا كَهَرَنِي - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي
- مِنْ معلمٍ وَقَالَ: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ
وَالتَّكْبِيرُ وَالْقِرَاءَةُ
(2/177)
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ:
" الْكَلَامُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ "
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ
أَنْ يُبْطِلَ سَهْوُهُ الصَّلَاةَ كَالْحَدَثِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ
كَلَامٌ يُبْطِلُ كَثِيرُهُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا
قَلِيلُهُ كَالْعَمْدِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا
اسْتُكْرِهَتْ عَلَيْهِ "، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ
الْإِثْمِ، قِيلَ: رَفْعُ الْخَطَأِ يَقْتَضِي رَفْعَ حُكْمِهِ مِنَ
الْإِثْمِ وَغَيْرِهِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " صَلَّى بِنَا
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العصر فسلم من
اثنتين فقال ذو اليدين أقصرت الصلاة أن نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ قَالُوا: نَعَمْ فَأَتَمَّ
مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَهُوَ قَاعِدٌ بَعْدَ أَنْ
سَلَّمَ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ
خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثلاثٍ مِنَ الْعَصْرِ
وَدَخَلَ الْحُجْرَةَ فَنَادَى الْخِرْبَاقُ وَهُوَ رَجُلٌ بَسْطُ
الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يَجُرُّ
رِدَاءَهُ فَسَأَلَ النَّاسَ فَأُخْبِرَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سجد في السَّهْوِ، وَسَلَّمَ،
فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إِذَا وَقَعَ عَنْ سَهْوٍ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ
لَوَجَبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ
يَسْتَأْنِفَ صَلَاتَهُ، فَإِنْ قِيلَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ لَا
يَصِحُّ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ إِسْلَامُهُ
سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ بَعْدَ
الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ عَلَى مَا حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ، قِيلَ:
هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ذُو
الشِّمَالَيْنِ وَاسْمُهُ عُمَيْرُ بن عبد عمرو بْنِ نَضْلَةَ
الْخُزَاعِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي
نَقَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ قِصَّتَهُ اسْمُهُ الْخِرْبَاقُ عَاشَ إِلَى
أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ وَقُبِرَ بِذِي خَشَبٍ عَلَى مِيلٍ مِنَ
الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ مُتَقَدِّمُ
الْإِسْلَامِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُ، فَإِنْ قِيلَ فَحَدِيثُ ذِي
الْيَدَيْنِ مُضْطَرِبٌ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ اخْتِلَافُ
الرُّوَاةِ فِي نَقْلِهِ فَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَلَّمَ
مِنِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ بَنَى قَبْلَ انْصِرَافِهِ، وَرِوَايَةُ
عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ وَانْصَرَفَ
إِلَى حُجْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَفِي
اخْتِلَافِهِمَا، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى اضْطِرَابِهِ
وَبُطْلَانِهِ، قِيلَ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُؤَدِّي إِلَى
الْقَدْحِ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
(2/178)
" أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ
اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِمْ
بِرَدِّ أَقْوَالِهِمْ، وَإِبْطَالِهَا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهَا
مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إِتْمَامُ
الصَّلَاةِ، وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ مَعَ وُقُوعِ الْكَلَامِ فِيهَا
وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفِعْلِ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْحُكْمِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي
وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ عَرَبِيَّيْنِ مَعَ
اشْتِهَارِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ
بِالْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مِنْ وَجْهٍ
ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لِذِي الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ
أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا لِقَوْلِهِ
وَتَكْذِيبًا لِظَنِّهِ قِيلَ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ،
وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ لِاحْتِمَالِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَصْرِ وَالنِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي، فَإِنْ قِيلَ:
لَوْ سَلِمَ الْحَدِيثُ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَخَلَا مِنْ شَوَائِبِ
الْقَدْحِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ كَانَ
مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ حُظِرَ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا
نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَنُهِينَا عَنِ
الْكَلَامِ فَسَكَتْنَا فَإِذَا حُظِرَ الْكَلَامُ بَعْدَ إِبَاحَتِهِ
حُمِلَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ عَلَى حَالِ الْإِبَاحَةِ، قِيلَ:
هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ،
وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ رَوَى تَحْرِيمَ الْكَلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ
بِمَكَّةَ عِنْدَ عَوْدِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا
لَمْ يَسْجُدْ لِأَجْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ تَكَلُّمِ ذِي
الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا وَاسْتَثْبَتَ أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَا لَهُ نَعَمْ أَوْ قَالَا
صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ، وَكَانَا عَامِدَيْنِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ
عَمْدَ الْكَلَامِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَكَيْفَ يَصِحُّ لَكُمُ
الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُكُمْ يَدْفَعُهُ، قِيلَ:
أَمَّا كَلَامُ ذِي الْيَدَيْنِ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ،
لِأَنَّهُ ظَنَّ حُدُوثَ النَّسْخِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ مِنْ أَرْبَعٍ
إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَتَكَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ
الصَّلَاةِ، وَهَذَا صُورَةُ النَّاسِي ثُمَّ اسْتَظْهَرَ بِسُؤَالِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَوْفًا مِنَ
النِّسْيَانِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صِحَّةُ قَصْدِهِ فِي أَفْعَالِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ
مَاتَ بَعْدَ سَلَامِهِ لَحُمِلَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ
دُونَ النِّسْيَانِ، وَأَمَّا جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ إِتْمَامَ
صَلَاتِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ ذَا الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَقَوْلُهُمَا صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي رَوَى عنهما أنهما أومآ إليه برؤوسهما،
وَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ وَمَنْ رَوَى عَنْهُمَا
أَنَّهُمَا قَالَا فَغَمَزَا فَمَعْنَاهُ بِالْإِشَارَةِ قَالَ
الشَّاعِرُ:
(وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحُدِّرَتَا
كَالدُّرِّ لَمَّا يُثَقَّبِ)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّهُمَا أَجَابَا
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلا؛ بل أن
إجابة
(2/179)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - واجبة في الصلاة وغيرها فلم سعهما تَرْكُ إِجَابَتِهِ،
وَلَوْ كَانَا فِي الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَّمَ عَلَى أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصلاة فلم يرد عليه فخفف، ثُمَّ جَاءَ إِلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مَنَعَكَ
أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ: عِنْدَكَ إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ {اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فَقَالَ:
لَا أَعُودُ "
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ
إِجْمَاعَنَا أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا
وَسَهْوًا، ثُمَّ نُسِخَ عَمْدُ الْكَلَامِ وَبَقِيَ سَهْوُهُ، فَمَنْ
أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ نَسْخَهُ وَالنَّسْخُ لَا
يَجُوزُ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ لَا
اعْتِرَاضَ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْتَصُّ مِنْ
إِبْطَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يُفَارِقَ عَمْدُهُ لِسَهْوِهِ فِي
إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، كَتَقْدِيمِ رُكْنٍ عَلَى رُكْنٍ، وَلِأَنَّهَا
عِبَادَةٌ لَهَا مَحْظُورَاتٌ تَخُصُّهَا فَجَازَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ
بَعْضُ مَحْظُورَاتِهَا، كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ
الْكَلَامَ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَبْطُلْ بِسَهْوِهِ
الصَّلَاةُ
أَصْلُهُ: إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ
بِالْكَلَامِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ
عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا أَصْلُهُ إِذَا
سَلَّمَ فِي خِلَالِهَا نَاسِيًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ
صلاة بالسلم، لِأَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا، قِيلَ: لَوْ كَانَ مِنْ
أَرْكَانِهَا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ عَلَى
أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ فَلَا، وَلَيْسَ كَوْنُ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ
دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ
حَلْقَ الْمُحْرِمِ فِي مَوْضِعٍ نُسُكٌ وَعِبَادَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ
آخَرَ غَيْرُ عِبَادَةٍ، بَلْ يَأْثَمُ وَيَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ،
كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَهْوَ الْكَلَامِ لَا
يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلَا يُوقَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ
فَسَقَطَتْ فِيهِ الْإِعَادَةُ، وَصَارَ كَالْخَطَأِ فِي وُقُوفِ
النَّاسِ بِعَرَفَةَ فِي الْعَاشِرِ
فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِيهِ
جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ
لِتَأَخُّرِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ فِي عَمْدِ الْكَلَامِ دُونَ
سَهْوِهِ، لِأَنَّ السَّهْوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ وَقَوْلُهُ: " لَا
يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " يَقْتَضِي
فَسَادَ الْكَلَامِ لَا الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ
لَنَا، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَلَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا أَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا، وَالْجَاهِلُ
بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَمَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ عَلَى عَمْدِ
الْكَلَامِ
(2/180)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَدَثِ،
فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا
يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ ثُمَّ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِبُطْلَانِ
الطِّهَارَةِ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سَهْوِهِ
مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِحَالٍ اسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ
وَسَهْوِهِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ سَهْوِ
الْكَلَامِ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُوَ السَّلَامُ بِهَا
اقْتَرَنَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ فَكَانَ جِنْسُ السَّهْوِ لَا
يُبْطِلُهَا، وَجِنْسُ الْعَمْدِ يُبْطِلُهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ يُبْطِلُهَا كَثِيرُهُ،
فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي سَهْوِ الْكَلَامِ إِذَا طَالَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ
وَهُوَ الصَّحِيحُ وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَإِنْ تَطَاوَلَ
اسْتَأْنَفَ عَلَى الْأَعْمَالِ دُونَ الْكَلَامِ " فَسَقَطَ هَذَا
السُّؤَالُ
وَالثَّانِي: يُبْطِلُهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ: قَطْعُ الْخُشُوعِ فِي
كَثِيرِهِ وَعَدَمُهُ فِي قَلِيلِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا مَا تَرَكَهُ الْمُصَلِّي مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ
نَاسِيًا فَعَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: بِمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ،
وَالْإِحْرَامُ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَلَا
يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِهِ وَهُوَ: التَّوَجُّهُ،
وَالِاسْتِعَاذَةُ، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ،
وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَتَكْبِيرَاتُ الْأَرْكَانِ
وَهَيْئَاتُ الْأَفْعَالِ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ
وَيَلْزَمُ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ التَّشَهُّدُ
الْأَوَّلُ، وَالْقُنُوتُ
الْقِسْمُ الرابع: ما تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَيَلْزَمُهُ
الْإِتْيَانُ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ مَعَ سُجُودِ السَّهْوِ، وَهُوَ
الرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ إِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ أَتَى
بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ
الصَّلَاةَ وَلَيْسَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ حَدٌّ، وَإِنَّمَا
هُوَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ، وَعَادَاتِهِمْ، وَحَكَى " الْبُوَيْطِيُّ
" عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِرَكْعَةٍ مُعْتَدِلَةٍ
لَا طَوِيلَةٍ، وَلَا قَصِيرَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَدٍّ وَلَا
الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا
وَإِنَّمَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ فِي الْعَادَةِ
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ
يَتْرُكَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مِنْ أَحَدِ رَكَعَاتِهِ فَفِي
صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ
وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ، فَلَمَّا
فَرَغَ قِيلَ لَهُ تَرَكْتَ الْقِرَاءَةَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ
الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِذًا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ المشهور
(2/181)
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي
الْجَدِيدِ لَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ
يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِالنِّسْيَانِ
كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ثُمَّ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ
عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ أَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَعَلَى قَوْلِهِ
الْجَدِيدِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ صَلَاتِهِ حَتَّى
تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ وَإِنْ ذَكَرَهَا قَبْلَ
تَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَتَى بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ وَتَشَهَّدَ وَسَجَدَ
لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَكَلَّمَ، أَوْ سَلَّمَ
عَامِدًا أَوْ أَحْدَثَ فيما بين إحرامه وبين سلامه اسْتَأْنَفَ،
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ:
تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُتَكَلِّمِ فِي
صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ عَامِدًا فِيهَا
فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ
لِلصَّلَاةِ أَمْ لَا، وَقَالَ مَالِكٌ: عَمْدُ الْكَلَامِ
لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا كَإِعْلَامِ الْإِمَامِ
بِسَهْوِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَمْدِهِ لِغَيْرِ
مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ
كَانَ كَلَامُهُ لِمَصْلَحَةٍ مَا لَمْ تَبْطُلْ صلاته سواء لمصلحة
صلاته أما لَا كَإِرْشَادِ ضَالٍّ هَالِكٍ، أَوْ تَحْذِيرِ ضَرِيرٍ
مِنْ بِئْرٍ، أَوْ سَبُعٍ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ،
وَكَلَامِهِ، لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- وَجَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَهُ وَاسْتِثْبَاتِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَجَوَابِهِمَا لَهُ، وَقَوْلِهِ لِبِلَالٍ: " أَقِمِ
الصَّلَاةَ "، وَكُلُّ ذَلِكَ كَلَامُ عَمْدٍ يُصْلِحُ الصَّلَاةَ،
ثُمَّ بنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى صَلَاتِهِ
مَعَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى
إِبَاحَةِ عَمْدِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ أَصْلَحَهَا أَمْ
لَا، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا لَا يُصْلِحُهَا إِجْمَاعًا، وَكَانَ
الْبَاقِي عَلَى إِبَاحَتِهِ فَمَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ فَقَدْ
أَثْبَتَ نَسْخَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي
الصَّلَاةِ، وَهَذَا حَظْرٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّلَاةِ
وَمَرَّ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عوفٍ، فَعَادَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَفَّقَ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى
الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقِفَ
فِي مَقَامِكَ فَقَالَ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ
يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ
نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ
لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ "
فَفِي الْخَبَرِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ صَفَّقَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي
الله عنه ولم يتكلم
(2/182)
والثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " إِذَا نَابَ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ
فَلْيُسَبِّحْ " فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
التَّنْبِيهَ بِالتَّسْبِيحِ دُونَ الْكَلَامِ
وَهَذَا الْخَبَرُ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ
آدَمِيٍّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَوَجَبَ أَنْ
يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يُصْلِحُهَا
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ
تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ أبي حنيفة، وَقُلْنَا: إِنَّ
كُلَّهُمْ نَاسٍ لِكَلَامِهِ غَيْرُ عَامِدٍ لِاعْتِقَادِهِمُ
الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ
إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ بَاطِلَةٌ إِذَا قال لإمامه قد نسيت صلاته
أَوْ قَصُرَتْ كَقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ، قِيلَ: لِاسْتِقْرَابِ حُكْمِ
الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ النَّسْخِ الَّذِي كَانَ مُجَوَّزًا عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ،
وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدِلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ:
رَفْعُ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ إِمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَيْسَ
جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ
اسْتِصْحَابٌ لِلْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ
كَمَا أَنَّ شُرْبَ النَّبِيذِ مُبَاحٌ لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ،
وَلَكِنِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ
لِمُحْتَمَلٍ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا نَسْخٌ، لَعَمْرِي، وَلَكِنْ إِنْ
لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ لِمُحْتَمَلٍ وَإِنَّمَا عُلِمَ كَوْنُهُ
مَنْسُوخًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا
كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى
قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ " ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ
جَالِسًا فِي مَرَضِهِ وَصَلَّى مَنْ خَلْفَهُ قِيَامًا، فَعُلِمَ
بِهَذَا الْفِعْلِ تَقْدِيمُ النَّسْخِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي صَلَاتِهِ لَهُ خَمْسَةُ
أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ،
فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِكَلَامِهِ سَاهِيًا عَنْ
صَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ نَاسِيًا لِصَلَاتِهِ
فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ
إِنْ عَمَدَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَقْصِدْ إِيقَاعَهُ فِي الصَّلَاةِ
فَصَارَ نَاسِيًا
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا بِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ
جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الكلام فيها، لقرب عهد بِالْإِسْلَامِ مِثْلَ
مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ فَصَلَاتُهُ جائزة، وعليه
سجود السهو
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ
عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ جَاهِلًا بِحُكْمِ الْكَلَامِ هَلْ
يُبْطِلُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَنْ زَنَى
عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ فِيهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ
كَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ
(2/183)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعَالِمُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا شَمَّتَ فِي
صَلَاتِهِ عَاطِسًا أَوْ رَدَّ سَلَامًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ،
وَلَكِنْ لَوْ تَنَحْنَحَ أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى لَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مَفْهُومًا يَصِحُّ فِي
الْهِجَاءِ فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ
وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كان يصلي ولجوفه أزيز كأزير الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعْنِي: غَلَيَانَ جَوْفِهِ بِالْبُكَاءِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَأَصْلُ الْأَزِيزِ الِالْتِهَابُ وَالْحَرَكَةُ، فَأَمَّا إِنْ
نَظَرَ فِي كِتَابٍ يَفْهَمُ مَا فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَاهَا بِهِ لَأَبْطَلَهَا مَا
يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ، وَإِنْ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ يَعْنِي، حَرَكَةً مَفْهُومَةً، فَلَوْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ
مِنْ مُصْحَفٍ جَازَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ تَصَفُّحَ
الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ بُطْلَانَ
صَلَاتِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ النَّظَرِ، أَوِ التَّصَفُّحِ،
فَلَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ
بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَيْسَ التَّصَفُّحُ
عَمَلًا كَثِيرًا لِمَا بَيْنَ تَصَفُّحِ الْأَوْرَاقِ مِنْ بُعْدِ
المدى فدل على صحة صلاته فَأَمَّا الْمُحْدِثُ فِي صَلَاتِهِ فَلَهُ
حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ الْحَدَثَ وَتَعَمَّدَهُ فَصَلَاتُهُ
بَاطِلَةٌ إِجْمَاعًا فعليه تجديد الطهارة، واستئناف الصلاة
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْلِبَهُ الْحَدَثُ وَيَسْبِقَهُ مِنْ
غَيْرِ قَصْدٍ فَطَهَارَتُهُ قَدْ بَطَلَتْ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ
قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة
رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ
يَتَطَاوَلِ الْفَصْلُ، أَوْ يَفْعَلْ مَا يُخَالِفُ الصَّلَاةَ مِنْ
أَكْلٍ، أَوْ كَلَامٍ، أَوْ عَمَلٍ طَوِيلٍ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: وَهُوَ
الصَّحِيحُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بَنَى،
وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا اسْتَأْنَفَ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي
النَّجَاسَةِ إِذَا أَصَابَتْ جَسَدَهُ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدِهِ
مِثْلَ قَيْءٍ، أَوْ رُعَافٍ، أَوْ دَمِ خُرَاجٍ فحصلت على ظاهرة
جَسَدِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَغْسِلُ النَّجَاسَةَ
وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلِ الزَّمَانُ، وَعَلَى
الْجَدِيدِ يَسْتَأْنِفُ وَلَكِنْ لَوْ فَارَ دَمُ جُرْحِهِ فَلَمْ
يُصِبْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ
مَعًا، وَخَالَفَ أبو حنيفة مَذْهَبَهُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ
فَقَالَ يَسْتَأْنِفُ صَلَاتَهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، فَإِذَا
قِيلَ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
بَكْرٍ، وَعُمَرَ،
(2/184)
وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ الله عنهم وهو قول أبو حنيفة، وَأَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ
وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعُرْوَةُ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي
صَلَاتِهِ أَوْ رَعَفَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ
صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ "، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي صَلَاتِهِ
بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى
حَدَثِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَإِذَا قِيلَ: تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَدَلِيلُهُ
مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ
فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ
صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ حِينَ
حُدُوثِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نَأْمُرُهُ
بِالِانْصِرَافِ فِيهِمَا لِلطَّهَارَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلْنَا ظَاهِرَ
الْخَبَرِ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ يَنْصَرِفُ
وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالِانْصِرَافُ مِنَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي
الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي الصَّلَاةِ يَمْنَعُهُ
مِنَ الْمُضِيِّ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبِنَاءِ
عَلَيْهَا
أَصْلُهُ حَدَثُ الْعَامِدِ وَعَكْسُهُ سَلَسُ الْبَوْلِ وَحَدَثُ
الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّ " كُلَّ مَا أَبْطَلَ الطَّهَارَةَ
أَبْطَلَ الصَّلَاةَ " كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ مَا
اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِبْطَالِ الطَّهَارَةِ اسْتَوَى
عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ كَالِاحْتِلَامِ،
وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ الْعَامِدِ مَنَعَ
مِنَ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ قِيَاسًا عَلَى الْمُضِيِّ
فِيهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ رَعَفَ " الْحَدِيثَ،
فَضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعُرْوَةَ، وَعَلَى أَنَّهُ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى الْبِنَاءِ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا تَقُولُ
الْعَرَبُ بَنَى الرَّجُلُ دَارَهُ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُسَافِرٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ
يَنْوِي الْإِتْمَامَ؛ ثُمَّ أَحْدَثَ فَعَلَيْهِ الْبِنَاءُ عَلَى
حُكْمِ صَلَاتِهِ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَيُحْمَلُ عَلَى
أَحَدِهِمَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ
فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا يَمْنَعِ الْمُضِيَّ فِيهَا لَمْ
يَمْنَعْ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ عَمِلَ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا
قَلِيلًا مِثْلَ دَفْعِهِ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ قَتْلِ
حيةٍ، أو ما أشبه، ذلك لم يضره "
(2/185)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ
جِنْسِهَا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَمَلًا طَوِيلًا فَمَتَى أَوْقَعَهُ فِي
الصَّلَاةِ أَبْطَلَهَا عَامِدًا كَانَ، أَوْ نَاسِيًا، لِأَنَّهُ
يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ وَيَمْنَعُ مُتَابَعَةَ الْأَذْكَارِ، وَلَا
حَدَّ لِطُولِهِ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَا يَتَعَارَفُهُ
النَّاسُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا كَانَتِ الصَّلَاةُ جَائِزَةً مَعَ
الْعَمَلِ الطَّوِيلِ كَمَا جَازَتْ مَعَ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ
طَالَ قِيلَ: فِي كَلَامِ النَّاسِ إِذَا طَالَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتَهُ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يُبْطِلُهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْأَفْعَالِ أَغْلَظُ مِنْ
حُكْمِ الْأَقْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ
يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمُكْرَهَ عَلَى
الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي
تَغْلِيظِ الْحُكْمِ افْتَرَقَا فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْعَمَلِ مَا كَانَ قَلِيلًا فَعَلَى
ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ
صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ مِنْ غَيْرِ
إِحْدَاثِ عمل بطلت صلاته فأن تَبْطُلَ بِالْقَصْدِ مَعَ الْعَمَلِ
أَوْلَى
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْصِدَ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ
جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة
المؤمن لا يقطعها شيء وادرؤا مَا اسْتَطَعْتُمْ "، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ
يَدْفَعَ فِي صَلَاتِهِ مَارًّا أَوْ يَمْنَعَ مُجْتَازًا فَلَا
تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: "
إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَلْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ
شَيْطَانٌ " وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا، أَوْ يَخْطُوَ
خُطْوَةً فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " اسْتَفْتَحْتُ الْبَابَ وَرَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فَفَتَحَ لِي "
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَنِدَ عَلَى حَائِطٍ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى
عَصًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ
لَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى وتدٍ كَانَ ثَابِتًا
بِالْمَدِينَةِ مُشَاهَدًا حَتَّى قُلِعَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِ مِائَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْتُلَ حَيَّةً أَوْ
عَقْرَبًا بِضَرْبَةٍ، أَوْ ضَرْبَتَيْنِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ
لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نَقْتُلَ فِي الصَّلَاةِ
الْأَسْوَدَيْنِ الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ "
(2/186)
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ فِي صَلَاتِهِ
صَبِيًّا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى
وَعَلَى عَاتِقِهِ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ إِذَا
رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ حَمَلَهَا "
وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي صَلَاتِهِ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ
الصِّبْيَانِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُصْلِحَ ثَوْبَهُ وَيَعْبَثَ
بِلِحْيَتِهِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- مس لحيته في الصلاة
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا
فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَفِتَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَيُحَوِّلَ
قَدَمَيْهِ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ
حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، أَوْ
نَاسِيًا، فَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ طَالَ
ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ، لِأَنَّهُ فَارَقَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ
صَلَاتِهِ عَامِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: " هُوَ اخْتِلَاسٌ
يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ " إِنْ كَانَ
نَاسِيًا فَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ
قَرُبَ الزَّمَانُ وَقَصُرَ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً، لِأَنَّهُ
عَمَلٌ يَسِيرٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْتَفِتَ بِوَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ
تَحْوِيلِ قَدَمَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ،
إِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ، أَوْ لَا يَقْصِدَ
فَإِنْ قَصَدَ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لأنه لو قطع
الصلاة من غير الإلتفات بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ
مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ
وَيَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَرْكَانِ وَلَا سُجُودَ
لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ يَمِينًا
(2/187)
وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ
ظَهْرِهِ
وَيُكْرَهُ الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ حالٍ، لِمَا رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
قَالَ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِلْمُلْتَفِتِ فِي صَلَاتِهِ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلٌ عَلَيْكَ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ "
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْأَكْلُ فِي الصَّلَاةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَامِدًا فِي أَكْلِهِ
فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي بِهِ
الرِّيقُ، وَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا، فَإِنْ تَطَاوَلَ أَكْلُهُ
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ طَوِيلٌ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ،
وَإِنَّ قَلَّ أَكْلُهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَا سُجُودَ
لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ
(فَصْلٌ: فِي النَّوَاهِي)
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقُرْآنِ - يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ
الْقُرْآنَ بَيْنَ أَذْكَارِهَا كَالْقُرْآنِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ،
وَالتَّوَجُّهِ، وَبَيْنَ التَّوَجُّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَبَيْنَ
الِاسْتِعَاذَةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّكْبِيرِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الشِّكَالِ فِي الصَّلَاةِ " وَهُوَ: أَنْ
يُلْصِقَ قَدَمَيْهِ بِالْأُخْرَى، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَرِهَ الشِّكَالَ فِي
الْخَيْلِ فَهُوَ أَنْ يكون بثلاث قوائم مخجلة، وَوَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ السَّبُعِ فِي
الصَّلَاةِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ أَنْ يُلْصِقَ ذِرَاعَيْهِ بِالْأَرْضِ
فِي سُجُودِهِ كَافْتِرَاشِ السَّبُعِ
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ
عَقِبِ الشَّيْطَانِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عقبيه
في الصلاة بين السجدتين
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يصلي الرجل
مختصراً
(2/188)
قال أبو عبيدة: هو أن يضع يديه في خصره
وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُنَيْنٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ
الْإِقْعَاءِ فِي الصَّلَاةِ
وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ
وَقَدَمَيْهِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ لَا إِعْدَادَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَا تَسْلِيمَ "
أَيْ: لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ فِيهَا
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُدَبِّجَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا
يُدَبِّجُ الْحِمَارُ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ فِي الرُّكُوعِ
حَتَّى يَكُونَ أَخْفَضَ مِنْ ظَهْرِهِ
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ التَّدْبِيجِ فِي الصَّلَاةِ
وَفَسَّرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ
حَتَّى يَحْتَزِمَ
وَقَالَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَتَّزِرَ ثَوْبَهُ إِنْ كَانَ إِزَارًا أَوْ
بُرْدَةً عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَمِيصًا
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبِهِ عَلَى
مَنْكِبِهِ وَيُسْدِلَهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَيُلْقِيَ مَا وَصَلَ مِنْ
مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ
قِيلَ: أَرَادَ سَدْلَ الْيَدِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَّاءٌ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي حَاقِنًا
(2/189)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَبِهِ
طَوْفٌ
قال قطرب: الطرف الْحَدَثُ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه
نهى عن كفل الشيكان فِي الصَّلَاةِ
قَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ عَاقِدٌ
شَعْرَهُ مِنْ وَرَائِهِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى عَنْ قِعْدَةِ الشَّيْطَانِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هِيَ الْجِلْسَةُ قَبْلَ الْقِيَامِ إِلَى
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْ مُفَسِّرِي
غَرِيبِ الْحَدِيثِ فَسَرَّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ
وَهُوَ أَنْ يَنْقُرَ إِذَا سَجَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْمَئِنَّ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ
النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ
وَهُوَ أَنْ يَنْفُخَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ فِي
الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَشِمَالًا بِسُرْعَةٍ
وَرَوَى زِيَادُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلْبِ فِي
الصَّلَاةِ
وَهُوَ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى خَصْرَتِهِ وَيُجَافِيَ
مِرْفَقَيْهِ
وَرَوَى أبو منصور عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَرْفَعَ
الرَّجُلُ أَصَابِعَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: لِيُمْسِكْ
يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ يُثَقِّلُ مَا بَيْنَ
لَحْيَيْهِ
(2/190)
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ
الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مُزْبَلَةٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه
نهى عن صلاة العجلان
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ بِصَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ
كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّمَطِّي فِي الصَّلَاةِ
(فَصْلٌ: فِي الْخُشُوعِ)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 221] فَكَانَ تَرْكُ الْخُشُوعِ
دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْفَلَاحِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ
مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ، وَهَذَا كَالْمُشَاهَدِ، لِأَنَّهُمْ
يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْجَائِزِ، وَالْمُبَاحِ، وَيَعْدِلُونَ عَنِ
الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ كَانَتْ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنَ " فَعِمَادُ الصَّلَاةِ وَعَلَامَةُ
قَبُولِهَا كَثْرَةُ الْخُشُوعِ فِيهَا فَمِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي
بَعْدَ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَنْ
يَكُونَ خَالِيًا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَإِنْكَارِ الدُّنْيَا
مَصْرُوفَ الْقَصْدِ إِلَى أَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا
دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ يَصْفَرُّ وَجْهُهُ تَارَةً
وَيَخْضَرُّ تَارَةً، وَيَقُولُ أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي
عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلْتُهَا، فلا أدري
السيء فِيهَا أَمِ الْحَسَنُ
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ، وَفِي حَالِ جُلُوسِهِ إِلَى حِجْرِهِ
قَالَ مَالِكٌ: الْخُشُوعُ أَنْ يَنْظُرَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمَا
ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَنْ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرْفِهِ، وَأَحْرَى أَنَّهُ لَا يَرَى مَا
يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَرْفَعَ
رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، إِذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ
(2/191)
لِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ
الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ "
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي قَرِيبًا مِنْ مِحْرَابِهِ
لِيَصُدَّهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُلْهِي وَيَمْنَعَهُ مِنْ مُرُورِ
مَا يُؤْذِي، وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " ارْهَقُوا الْقِبْلَةَ " يَعْنِي: ادْنُوَا
مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِحْرَابٍ اعْتَمَدَ الْقُرْبَ مِنَ
الْحَائِطِ أَوْ سَارِيَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَضَعَ بَيْنَ
يَدَيْهِ شَيْئًا أَوْ خَطَّ خَطًّا
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا يُلْهِيهِ وَيَعْتَمِدَ
لُبْسَ الْبَيَاضِ
وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: " صَلَى رَسُولُ اللَّهِ فِي خَمِيصَةٍ لَهَا
أَعْلَامٌ فَقَالَ لَقَدْ أَلْهَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ اذْهَبُوا
بِهَا وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ "
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَضَعَ رِدَاءَهُ مِنْ عَاتِقِهِ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَلَا يُشَمِّرَ كُمَّيْهِ، وَلَا يُكْثِرَ الْحَرَكَةَ
وَالِالْتِفَاتَ، وَلَا يَقْصِدَ عَمَلَ شَيْءٍ أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ
فِي الصَّلَاةِ
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ مُتَلَثِّمًا، وَلَا مُغَطَّى
الْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا
يُصَلِّي وَقَدْ غَطَّى لِحْيَتَهُ فَقَالَ: " اكْشِفْ وَجْهَكَ "
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ يَجِبُ
إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَتَنَخَّعَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَبْصُقَ
فَقَدْ رَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ:
" مَنْ تَفَلَ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَتَفْلَتُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ "
فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النُّخَاعُ أَوِ الْبُصَاقُ أَخَذَهُ فِي
ثَوْبِهِ فَإِنْ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَوَّلُ مَنْ رَسَمَ الْخَلُوقَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُمْحِيَ بِهِ
أَثَرَ الْبُصَاقِ
وَأَمَّا الْعَدَدُ بِالْيَدِ وَعَقْدُ الْأَصَابِعِ بِهِ فَلَا
تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ لِكَوْنِهِ عَمَلًا يَسِيرًا، لَكِنْ إِنْ
عَدَّ آيَ الْقُرْآنِ قَطَعَ خُشُوعَهُ، وَكَرِهْنَاهُ لِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَدَّ رَكَعَاتِ
الصَّلَاةِ لم
(2/192)
يَقْطَعْ خُشُوعَهُ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ
مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْهَا وَاجِبٌ فَجَازَ عَقْدُ
الْأَصَابِعِ بِهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- كَانَ يَعْقِدُ فِي صَلَاتِهِ عَقْدَ الْأَعْرَابِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وينصرف حيث شاء عن يمينه، وشماله فإن لم
يكن له حاجة أحببت اليمين لما كان عليه السلام يحب من التيامن "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ حَتْمًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ
لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ "
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ انْصِرَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ يَسَارِهِ نَحْوَ مَنْزِلِ
فَاطِمَةَ، أَوْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَالْأَوْلَى إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ
يَمِينِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُحِبُّ
التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى في وضوئه وانتعاله
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ فَاتَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ
رَكْعَتَانِ مِنَ الظُّهْرِ قَضَاهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ
كَمَا فَاتَهُ وإن كانت مغرباً وفاته منها ركعة قضاها بأم القرآن وسورة
وقعد "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَدْرَكَ مَعَ
الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ
سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ وَأَدْرَكَ مَعَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ رَكْعَةً،
وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَقُومَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَيَأْتِيَ بِرَكْعَتَيْنِ بَدَلًا
مِمَّا فَاتَهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ. قَالَ
الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُمَا
بِالسُّورَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْضِيهِ آخِرُ
صَلَاتِهِ، وَمَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُهَا، وَهَذَا
مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يَقْضِيهِ أَوَّلًا فِي أَنَّهُ
يَقْرَأُ فِيهِ بِالسُّورَةِ وَجَعَلَهُ آخِرًا فِي أَنَّهُ يَقْعُدُ
فِيهِ لِلتَّشَهُّدِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنْ يُقَالَ قَدِ
اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ فَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَ "
الْأُمِّ " يَقْرَأُ فِيهِمَا بِالسُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَى
هَذَا يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَفِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ يَقْتَصِرُ
عَلَى الْفَاتِحَةِ وَلَا يَقْرَأُ فِيهِمَا بِالسُّورَةِ، فَعَلَى
هَذَا الْقَوْلِ عَنِ اعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ:
أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فِي الْآخِرَتَيْنِ إِذَا
كَانَ قَدْ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إِمَّا
مُنْفَرِدًا، أَوْ مَأْمُومًا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ
صَلَاتِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِيمَا
يَقْضِيهِ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ مَا فَاتَهُ
(2/193)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ
الشَّافِعِيَّ قَالَ قَضَاهُمَا بِالسُّورَةِ عَلَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فيقضيهما بأم القرآن
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ فَهُوَ
أَوَّلُ صَلَاتِهِ (قال المزني) قد جعل هذه الركعة في معنى أولى يقرأ
بأم القرآن وسورة وليس هذا من حكم الثالثة وجعلها في معنى الثالثة من
المغرب بالقعود وليس هذا من حكم الأولى فجعلها آخرة أولى وهذا متناقض
وإذا قال ما أدرك أول صلاته فالباقي عليه آخر صلاته وقد قال بهذا
المعنى في موضع آخر (قال المزني) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن ما أدرك فهو أول صلاته وعن
الأوزاعي أنه قال ما أدرك فهو أول صلاته (قال المزني) فيقرأ في الثالثة
بأم القرآن ويسر ويقعد ويسلم فيها وهذا أصح لقوله وأقيس على أصله لأنه
يجعل كل مصل لنفسه لا يفسدها عليه بفسادها على إمامه وقد أجمعوا أنه
يبتدئ صلاته بالدخول فيها بالإحرام بها فإن فاته مع الإمام بعضها فكذلك
الباقي عليه منها آخرها "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ
وَقَدْ صلى بعض الصلاة فصلى معدماً أَدْرَكَ وَقَامَ بَعْدَ سَلَامِهِ
لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا أَدْرَكَ
مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَفِعْلًا وَمَا يَقْضِيهِ
آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمَا وَفِعْلًا
وَقَالَ أبو حنيفة مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ
فِعْلًا وَآخِرُهَا حُكْمًا، وَمَا يَقْضِيهِ بَعْدَ فَرَاغِ
الْإِمَامِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا، وَآخِرُهَا فِعْلًا
تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا
أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَكَانَ في أمره
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا
يَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ آخِرَهَا لَمْ يَكُنْ
قَاضِيًا؛ بَلْ كان مودياً، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي
الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ اتَّبَعَهُ فِي تَشَهُّدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
مِنْ حُكْمِ أَوَّلِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ قَنَتَ مَعَهُ فِي هَذِهِ
الرَّكْعَةِ لَمْ يَقْرَأِ الْقُنُوتَ فِيمَا يَقْضِيهِ، وَفِي
إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ
إِمَامِهِ مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ
فَأَتِمُّوا " وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ
أَوَّلِهِ، وَبَقِيَّةِ آخِرِهِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلُ صَلَاةٍ لَمْ يَلِ
تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا
كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَقْضِيهِ مِنْ أَوَّلِ
صَلَاتِهِ لَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ،
وَلَوَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إِذَا فَعَلَ
مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ
سَلَامِهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَوُجُوبِ
التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ
صَلَاتِه، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ أَوَّلًا، ثُمَّ آخِرًا،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا ثُمَّ آخِرًا، ثُمَّ أَوَّلًا،
لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ تَحْرِيمٌ
وَتَحْلِيلٌ فَالتَّحْرِيمُ فِي أَوَّلِهِ، وَالتَّحْلِيلُ فِي آخِرِهِ
كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، فَأَمَّا
تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
وما فاتكم فاقضوا " فقد روينا من يخالفه
(2/194)
عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ، وَمَا فَاتَكُمْ
فَأَدَّوُا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] بِمَعْنَى فَإِذَا
أُدِّيَتْ، وَكَمَا يُقَالُ قَضَيْتُهُ الْحَقَّ إِذَا أَدَّيْتُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي التَّشَهُّدِ،
وَالْقُنُوتِ، قُلْنَا: لِأَنَّ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ إِمَامِهِ كَمَا
يَتْبَعُهُ فِيمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَأَمَّا
الْقُنُوتُ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَسَقَطَ
اعْتِرَاضُهُمْ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي الرَّجُلُ قَدْ صَلَّى
مَرَّةً مَعَ الْجَمَاعَةِ كل صلاة الأولى فرضة وَالثَانِيَةُ سُنَّةٌ
بِطَاعَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ
قَالَ إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ
الْفَرِيضَةَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فُرَادَى، ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ
الصَّلَاةَ جَمَاعَةً فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ
يُصَلِّيَهَا مَعَهُمْ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُذَيْفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ صَلَّى الْأُولَى مُفْرَدًا
أَعَادَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي جَمَاعَةٍ
أَعَادَهَا إِلَّا مَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ خلفها كالصبح، والعصر
وقال مالك والأوزاعي: كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْمَغْرِبَ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُعِيدُ كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا
الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ
وَقَالَ أبو حنيفة: يُعِيدُ الظُّهْرَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ وَلَا
يُعِيدُ الصُّبْحَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ
وَاسْتَدَلُّوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَنْعِ الْإِعَادَةِ بِرِوَايَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُصَلَّى صَلَاةُ يَوْمٍ
مَرَّتَيْنِ "
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- قَالَ: " لَا فَرْضَانِ فِي وَقْتٍ "
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ رِوَايَةُ يَزِيدَ
بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ مِنْ مِنًى صَلَاةَ
الصُّبْحِ فَلَمَّا الْتَفَتَ مِنْ سَلَامِهِ إِذَا بِرَجُلَيْنِ لَمْ
يُصَلِّيَا مَعَهُ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا
مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا فَقَالَا: صَلَّيْنَا فِي رحالنا فقال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا جِئْتُمَا فَصَلِّيَا،
وَإِنْ كُنْتُمَا قَدْ صَلَّيْتُمَا يَكُونُ لَكُمَا [نَافِلَةً]
(2/195)
وَرُوِيَ فَالْأُولَى هِيَ صَلَاتُهُ،
وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ
وَرَوَى بُسْرُ بْنُ مِحْجَنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَجَعَ إِلَى
الْمَجْلِسِ وَمِحْجِنٌ قَاعِدٌ لَمْ يُصَلِّ فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ
أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ قَالَ: صَلَّيْتُ
فِي أَهْلِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا
صَلَّيْتَ فِي أَهْلِكَ وَأَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّهَا " فَكَانَ
عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِبَطْنِ النَخْلِ
صَلَاةَ الْمَغْرِبِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ فِي
وَقْتٍ أَدْرَكَ لَهَا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ فِعْلِهَا فَوَجَبَ أَنْ
يُسْتَحَبَّ لَهُ إِعَادَتُهَا
أَصْلُهُ مَعَ أبي حنيفة الظُّهْرُ وَالْعِشَاءُ، وَقَوْلُنَا: راتبة
احتراز مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَا تُصَلَّى صَلَاةُ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ "
فَيَعْنِي: وَاجِبًا، وَنَحْنُ نَأْمُرُهُ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا،
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا
فَرْضَانِ فِي يَوْمٍ "، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ إِحْدَى
الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ وَالْأُخْرَى نَفْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِإِعَادَةِ مَا أَدْرَكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ
فَرْضَهُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " فَالْأُولَى هِيَ صَلَاتُهُ وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ "،
وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَحْتَسِبُ لَهُ فَرِيضَةَ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
عُمَرَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ
تَكُنِ الْأُولَى فَرِيضَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ ثانية
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ
يُومِئَ أَوْمَأَ، وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ الْقِيَامِ فِي صَلَاتِهِ صَلَّى
قَاعِدًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ صَلَّى مُومِيًا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ
الَّذِينَ يُصَلُّونَ قِيَامًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَقُعُودًا
مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعَجْزِ
عَنِ الْقُعُودِ
وروى عمران بن الحصين أن رجلاً شكى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاصُورَ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب "، فإن قَدَرَ
الْمُصَلِّي عَلَى الْقِيَامِ صَلَّى قَائِمًا، وَرَكَعَ قَائِمًا،
فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِانْتِصَابِ وَلَمْ يَقْدِرْ على الركوع قراء
مُنْتَصِبًا، فَإِذَا أَرَادَ
(2/196)
الرُّكُوعَ انْحَنَى وَبَلَغَ
بِانْحِنَائِهِ إِلَى نِهَايَةِ إِمْكَانِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى
الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِصَابِ قَامَ رَاكِعًا
فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ خَفَضَ قليلاً، فإن عجزعن الْقِيَامِ
صَلَّى قَاعِدًا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ إِلَّا
بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ صَلَّى الْفَرْضَ قَاعِدًا يَعْنِي:
بِمَشَقَّةٍ غَلِيظَةٍ فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا فَفِي
كَيْفِيَّةِ قُعُودِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُتَرَبِّعًا، وَأَصَحُّهُمَا مُفْتَرِشًا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ الْقُعُودَ مُتَرَبِّعًا يُسْقِطُ
الْخُشُوعَ، وَيُشْبِهُ قُعُودَ الْجَبَابِرَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
الْمُصَلِّي امْرَأَةً فَالْأَوْلَى أَنْ تَتَرَبَّعَ فِي قُعُودِهَا،
لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَقْعُدُ
فِي موِضِعِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ
الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا، وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ
مُتَوَرِّكًا، وَهَذَا حَسَنٌ وَكَيْفَ مَا قَعَدَ أَجْزَأَ، فَإِذَا
أَرَادَ الرُّكُوعَ انْحَنَى مُومِيًا بِجَسَدِهِ فَإِذَا أَرَادَ
السُّجُودَ، وَقَدَرَ عَلَى كَمَالِهِ أَتَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى كَمَالِهِ أَتَى بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ، وَإِنْ سَجَدَ
عَلَى فَخِذِهِ جَازَ وَلَا يَحْمِلُهَا بِيَدِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَسْجُدُ
عَلَى مِخَدَّةٍ مِنْ أَدَمٍ لِرَمَدٍ كَانَ بِهَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى وِسَادَةٍ
لَاصِقَةٍ بِالْأَرْضِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَوْ
أَنَّ صَحِيحًا سَجَدَ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ
الْأَرْضِ كَرِهْتُهُ، وَأَجْزَأَهُ إِنْ كَانَ يَنْسُبُهُ الْعَامَّةُ
إِلَى أَنَّهُ فِي حَدِّ السَّاجِدِ فِي انْخِفَاضِهِ، فَأَمَّا إن
كانت الوسادة عالية لا تنسب الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُنْخَفِضٌ
انْخِفَاضَ السَّاجِدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا أَنْ
يُومِئَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ،
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِالرُّكُوعِ حَتَّى
يَأْتِيَ بِالْقِيَامِ كَمَا يُطِيقُ، وَلَا يَحْتَسِبُ لَهُ
بِالسُّجُودِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالرُّكُوعِ كَمَا يُطِيقُ، وَكَذَا
الْقَوْلُ فِي السُّجُودِ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الْقُعُودِ فَصَلَّى مُضْطَجِعًا يُشِيرُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَفِي
كَيْفِيَّةِ اضْطِجَاعِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ
الْقِبْلَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:
191] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ
مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
آبَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى
قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ يُومِي بِطَرْفِهِ "
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا فتح الصَّلَاةَ قَائِمًا فَقَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ،
ثُمَّ مَرِضَ وَعَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ قَعَدَ، وَتَمَّمَ قِرَاءَتَهُ
وَأَنْهَى صَلَاتَهُ، فَلَوْ قَرَأَ فِي حَالِ انْخِفَاضِهِ جَازَ،
فَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضِهِ فَقَرَأَ بَعْضَ
الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ صَحَّ قَامَ وَتَمَّمَ قِرَاءَتَهُ، وَأَنْهَى
صَلَاتَهُ، وَلَوْ قَرَأَ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ لَمْ يجز
(2/197)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تُجْزِئَهُ
قِرَاءَتُهُ فِي حَالِ الِانْخِفَاضِ وَلَا تُجْزِئُهُ فِي حَالِ
الِارْتِفَاعِ أَنَّ فِي الِانْخِفَاضِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ
قَاعِدًا، وَالِانْخِفَاضُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْقُعُودِ
فَأَجْزَأَتْهُ الْقِرَاءَةُ، وَفِي الِارْتِفَاعِ لَزِمَتْهُ
الْقِرَاءَةُ قَائِمًا، وَالِارْتِفَاعُ أَنْقَصُ حَالًا مِنَ
الْقِيَامِ مُنْتَصِبًا فَلَمْ تُجْزِهِ الْقِرَاءَةُ
(فَصْلٌ)
: وَلَوْ صَلَّى قَاعِدًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ ثُمَّ قَدَرَ
عَلَى الْقِيَامِ قَبْلَ رُكُوعِهِ قَامَ مُنْتَصِبًا، ثُمَّ رَكَعَ
فَلَوْ رَكَعَ فِي حَالِ قِيَامِهِ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ وَانْتِصَابِهِ
لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ صَلَّى قَائِمًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ
ثُمَّ انْحَنَى لِيَرْكَعَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَامَ رَاكِعًا
قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا أَجْزَأَهُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَائِمًا يَلْزَمُهُ
الِاعْتِدَالُ قَائِمًا قَبْلَ رُكُوعِهِ فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ
لَمْ يُجْزِهِ، وَالْوَاقِعُ فِي انْحِنَائِهِ فَرْضُهُ الرُّكُوعَ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاعْتِدَالُ فَإِذَا قَامَ رَاكِعًا أَجْزَأَهُ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ أن يصلي قائماً بأم
القرآن " وقل هو الله أحد "، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ خَلْفَ
الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ يَقْرَأُ سُوَرًا طِوَالًا، وَيَثْقُلُ
أَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا فَكَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ
الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ
أَنْ يَجْلِسَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ، فَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَلَا يَجِبُ
عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ، ثُمَّ أَطَاقَ
الْقِيَامَ فَأَبْطَأَ مُتَثَاقِلًا حَتَّى عَاوَدَهُ الْعَجْزُ
فَمَنَعَهُ مِنَ الْقِيَامِ نُظِرَ فِي حَالِهِ حِينَ أَطَاقَ
الْقِيَامَ، فَإِنْ كَانَ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ مِنْ صَلَاةِ
الْمُطِيقِ كَالتَّشَهُّدِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ
اسْتَدَامَ فِعْلًا يَجُوزُ لِلْمُطِيقِ اسْتَدَامَتُهُ، وَإِنْ كَانَ
قَاعِدًا فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ مِنْ صَلَاةِ الْمُطِيقِ فَصَلَاتُهُ
بَاطِلَةٌ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَامَ
الْقِيَامَ فِي مَوْضِعِ الْقُعُودِ صَارَ كَالْمُطِيقِ إِذَا قَعَدَ
فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا كَانَتْ صَلَاتُهُ
جَائِزَةً كَالْمُطِيقِ إِذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى مَرِضَ ثُمَّ
صَلَّاهَا قَاعِدًا لِعَجْزِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا
يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، وَهُوَ أَنَّ صِفَةَ الْأَدَاءِ
مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا أَخَّرَهَا
فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ
فَرْضُ الْقِيَامِ، فَإِذَا حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي أَثْنَائِهَا
وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِيهَا وَصَارَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا
إِنْ أَخَلَّ بِهِ أَبْطَلَهَا
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا
عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ بِهِ فَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنِ
الْوَقْتِ حَتَّى يَتْلَفَ الثَّوْبُ وَيَعْدِمَ مَا يَسْتُرُهُ
فَيُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ دَخَلَ فِي
الصَّلَاةِ عُرْيَانًا ثُمَّ وَجَدَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ
فَأَبْطَأَ فِي أَخْذِهِ حَتَّى تَلِفَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَكَانَ
هَذَا كَمَنَ حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ،
وَكَانَ ذَلِكَ كَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ
قَضَاهَا فِي مَرَضِهِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ إِذَا قَرَأَ آيَةَ رَحْمَةٍ
أَنْ يَسْأَلَ، أو آية عذاب أن يستعيذ والناس، وَبَلَغَنَا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ "
(2/198)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا
يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي
صَلَاتِهِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ
رَحْمَتَهُ وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعَذَابِ فَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ
يُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ الرَّحْمَةَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ سَأَلَ اللَّهَ
تَعَالَى وَاسْتَعَاذَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ سَبَّحَ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ
في صلاته " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فَقَالَ بَلَى "
وَرَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ أَلَيْسَ ذلك بقادر على
أن يحيي الموتى فَقُلْ بَلَى، وَإِذَا قَرَأْتَ أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَحْكَمِ الحاكمين فقل بلى "
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَلَّتْ إِلَى جَنْبِهِ
امْرَأَةٌ صَلَاةً هُوَ فِيهَا لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ
لِلنِّسَاءِ أَنْ يَقِفْنَ خَلْفَ صُفُوفِ الرِّجَالِ، فَإِنْ
تَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ كَانَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةً
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ صَلَّى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خَلَفَ
إِمَامٍ اعْتُقِدَ إِمَامَتُهُ جَمِيعِهِمْ، وَتَقَدَّمَتِ امْرَأَةٌ
فَوَقَفَتْ أَمَامَ الرِّجَالِ كَانَتْ صَلَاتُهَا جَائِزَةً،
وَبَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ عَلَى يَمِينِهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ
عَلَى يَسَارِهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ خَلْفَهَا دُونَ مَنْ
يَلِيهِ، وَجَازَتْ صَلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَهَا، وَإِنْ صَلَّوْا
فُرَادَى، أَوْ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَنَوَى الرِّجَالُ غَيْرَ صَلَاةِ
النِّسَاءِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْإِمَامُ إِمَامَةَ النِّسَاءِ
فَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ
وَاسْتَدَلَّ فِي الْجُمْلَةِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ " فَأَمَرَ الرَّجُلَ بِتَأْخِيرِ الْمَرْأَةِ عَنْ
نَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُؤَخِّرْهَا فَعَلَ مَنْهِيًّا فَاقْتَضَى
بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ
الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " وَفِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ، وَالْيَهُودِيُّ، وَالْمَجُوسِيُّ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ
مَمْنُوعٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ
أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى عُرْيَانًا، وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يقطع صلاة
المؤمن شيء وادرؤا ما استطعتم "
(2/199)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كَانَتْ تُصَلِّي مَعَهُمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَكَانَ بَعْضُهُمْ
يَتَقَدَّمُ لِكَيْ لَا يَرَاهَا وَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا بَعْضُهُمْ
لِيَرَاهَا فَلَمْ يُبْطِلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صَلَاةَ مَنْ تَأَخَّرَ وَلَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ،
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَصِحُّ لِلرَّجُلِ إِذَا تَقَدَّمَ فِيهَا عَلَى
النِّسَاءِ فَجَازَ أَنْ تَصِحَّ إِذَا وَقَفَ فِيهَا مَعَ النِّسَاءِ
أَصْلُهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ "، فَالْأَمْرُ
بِالتَّأْخِيرِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ
بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادُ
بِالْإِقَامَةِ
وَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يقطع الصلاة
الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ "
فَالْمُرَادُ بِهِ الِاجْتِيَازُ وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ لِمَعْنًى
يَخْتَصُّ بِهَا. فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ لِمَعْنًى
يَخْتَصُّ بِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مَمْنُوعٌ لمعنى غيره
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ سَجَدَ
فِيهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَرَأَ
السَّجْدَةَ، أو سمع من يقرأها أَنْ يَسْجُدَ لَهَا فِي صَلَاةٍ كَانَ،
أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَارِئًا كَانَ أَوْ
مُسْتَمِعًا، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْقَارِئِ،
وَالْمُسْتَمِعِ فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي
غَيْرِ صَلَاةٍ سَجَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ سَجَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ
بَعْدَ السَّلَامِ
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لهم لا يؤمنون وَإِذَا
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20] .
فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى
وُجُوبِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا سُجُودُ مَفْعُولٍ فِي الصَّلَاةِ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَلَوْ كَانَ
وَاجِبًا لَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - وَأَمَرَ بِهِ زِيدًا وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَةَ
سَجْدَةٍ فَسَجَدَ، وَقَرَأَهَا آخَرُ فَلَمْ يَسْجُدْ فقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُنْتَ إِمَامَنَا، فَلَوْ سَجَدْتَ
سَجَدْنَا "
(2/200)
وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسُّجُودِ وَأَقَرَّهُ عَلَى
تَرْكِهِ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ
سَجَدْتَ سَجَدْنَا " عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ وَالتَّخْيِيرِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
فَسَجَدَ وَقَرَأَهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَهَيَّأَ
النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى رِسْلِكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ
نَشَاءَ
وَرَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَالَ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ
أَحْسَنَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
فَدَلَّ قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ الْمَلَإِ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ عَلَى
إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يَجِبُ
لِلْمُسَافِرِ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْأَحْوَالِ
فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا
أَصْلُهُ سُجُودُ النَّافِلَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ
فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ السُّجُودُ لَهَا وَاجِبًا
أَصْلُهُ إِذَا أَعَادَ تِلْكَ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَجِبْ عِنْدَ الْعَوْدِ إِلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ
ابْتِدَاءِ التِّلَاوَةِ، كَالطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سُجُودٍ لَا
تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ،
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}
فَالْمُرَادُ بِهَا الْكُفَّارُ بِدَلِيلِ مَا تَعَقَّبَهَا مِنَ
الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ سُجُودَ
التِّلَاوَةِ وقَوْله تَعَالَى: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]
يَعْنِي لَا يَعْتَقِدُونَ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: {بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 25]
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَبَاطِلٌ السجود السَّهْوِ عَلَى أَنَّ
الْمَعْنَى فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ كَوْنُهُ مُرَتَّبًا فِي أَوْقَاتٍ
مُعْتَبَرَاتٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَسُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ " ص " فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ فِي
الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ فُضِّلَتْ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ (قَالَ) وَسَجَدَ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في " إذا السماء انشقت "
وعمر في " والنجم " (قال الشافعي) وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي
الْمُفَصَّلِ سُجُودًا ومن لم يسجد فليست بفرض وَاحْتَجَّ بِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد وترك وقال عمر
ابن الخطاب رضي الله عنه إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكْتُبْهَا
عَلَيْنَا إلا أن نشاء "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ
(2/201)
سُجُودَ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
سَجْدَةً، ثَلَاثٌ مِنْهَا فِي الْمُفَصَّلِ، وَأَرْبَعٌ فِي النِّصْفِ
الْأَوَّلِ فَأُولَاهُنَّ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]
وَالثَّانِيَةُ: فِي الرَّعْدِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السموات وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وَالثَّالِثَةُ:
فِي النَّحْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ولله يسجد ما في
السموات وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] وَالرَّابِعَةُ: فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107] ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ
فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ
وَالْخَامِسَةُ: فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
وَالسَّادِسَةُ: فِي أَوَّلِ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ له من في السموات وَمَنْ فِي
الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18] الْآيَةَ
وَالسَّابِعَةُ: آخِرُ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]
الْآيَةَ
وَالثَّامِنَةُ: فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60] الْآيَةَ
وَالتَّاسِعَةُ: فِي سورة النمل وهي قوله عز وجل: {لا يسجدوا لله الذي
يخرج الخبء في السموات} [النمل: 25] الْآيَةَ
وَالْعَاشِرَةُ: فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا
بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] الْآيَةَ
وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي حم السَّجْدَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ والشمس والقمر}
إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تعبدون} [فصلت: 37]
والثانية عشر: في المفصل في سورة النجم وَهِيَ قَوْله تَعَالَى:
{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]
والثالثة عشر: فِي الْمُفَصَّلِ فِي سُورَةِ: {إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ} وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنُ لا يسجدون} [الانشقاق: 21]
(2/202)
والرابعة عشر: فِي الْمُفَصَّلِ فِي
سُورَةِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]
فَهَذِهِ سَجَدَاتُ الْعَزَائِمِ فَأَمَّا ص وَهِيَ قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] فَهِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ
لَا عَزِيمَةٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَقَالَ مَالِكٌ سُجُودُ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً
وَلَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ
وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سِوَى
السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ من الحج وأثبت مكانها سجد " ص " فَأَمَّا
مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِإِسْقَاطِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ
بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ
قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
سُورَةَ النَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَبِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شيءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ
تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ
فَأَحَدُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ كِتَابَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَثَانِيهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَهُوَ
الَّذِي قَرَأَ مَرَّتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَثَالِثُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ
وَهُوَ الَّذِي قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ وَأَخَذَ عَنْهُ وَالدَّلَالَةُ
عَلَى إِثْبَاتِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ رِوَايَةُ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- سَجَدَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ فَسَجَدَ كُلُّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ
إِلَّا رَجُلًا وَأَنَّهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ ترابٍ وَرُوِيَ مِنَ
الْحَصَا فَدَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ فَقَالَ يَكْفِي هَذَا فَقُتِلَ
ببدرٍ، وَكَانَ هَذَا بِمَكَّةَ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ
إِلَّا رَجُلَيْنِ أَرَادَا الشُّهْرَةَ
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد في إذا السماء
انشقت، وفي سورة اقرأ باسم ربك فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ بِسُورَةِ
وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ السُّجُودِ،
وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ، وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ
قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ خَالَفَهُمْ سِتَّةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ
فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَوْنِ
الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُهُ سَجْدَةَ ص فِي الْعَزَائِمِ بِرِوَايَةِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - سجد في
(2/203)
سُورَةِ ص وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا
سَجْدَةُ شُكْرٍ لَا عَزِيمَةٍ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عيينة عن عبدة عن ذر عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي سُورَةِ ص، وَقَالَ
سَجَدَهَا دَاوُدُ لِلتَّوْبَةِ، وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ عَلَى قبل تَوْبَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: سَجَدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَتْ مِنَ الْعَزَائِمِ
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي إِسْقَاطِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الْحَجِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ سُجُودَ الْعَزَائِمِ فِي الْقُرْآنِ
إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ،
وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَجِّ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ
فَخَالَفَتْ سُجُودَ الْعَزَائِمِ وَشَابَهَتْ قَوْله تَعَالَى:
{فَاسْجُدُوا} [النجم: 42] {وَكُنْ مِنَ الساجدين} وقوله تعالى: {ومن
الليل فاسجد له} [الإنسان: 26] {وسجد لَيْلا طَوِيلا} [الإنسان: 26] ،
فَلَمَّا وَرَدَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ سَقَطَ السُّجُودُ لَهُ
كَذَلِكَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَجِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى
إِثْبَاتِهَا فِي سُجُودِ الْعَزَائِمِ رِوَايَةُ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
سُئِلَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ قَالَ: " نَعَمْ مَنْ لَمْ
يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَقْرَأْهُمَا "، وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ
الثَّانِيَةَ أَوْكَدُ مِنَ الْأُولَى لِوُرُودِهَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ
وَوُرُودِ الْأُولَى بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ فَكَانَ السُّجُودُ لَهَا
أَوْلَى، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أبي حنيفة فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْله
تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] أَمْرٌ
وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُجُودِ الْعَزَائِمِ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ
الْإِخْبَارِ فِيمَا لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 73] فَعُلِمَ
فَسَادُ اعْتِبَارِهِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الْعَزَائِمِ فَمِنَ
السُّنَّةِ لِمَنْ قَرَأَهَا أَوْ سَمِعَهَا مِنْ رَجُلٍ، أَوِ
امْرَأَةٍ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ لَهَا
مُسْتَمِعًا كَانَ أَوْ قَارِئًا لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ، أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ،
فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ سَجَدَ لَهَا بَعْدَ تِلَاوَتِهَا ثُمَّ هَلْ
يُكَبِّرُ لِسُجُودِهِ وَرَفْعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَسْجُدُ
مُكَبِّرًا، وَيَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ: يَسْجُدُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، وَيَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ،
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ مَسْتُورَ
الْعَوْرَةِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَكَبَّرَ وَسَجَدَ، وَسَبَّحَ فِي
سُجُودِهِ كَتَسْبِيحِهِ فِي صَلَاتِهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي
سُجُودِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا
أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ
ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ دَاوُدَ "،
ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا بِلَا تَشَهُّدٍ، وَلَا سَلَامٍ نَصَّ عليه
(2/204)
الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَفِيهِ
وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ
كَالصَّلَوَاتِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يُسَلِّمُ، وَلَا
يَتَشَهَّدُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ
فَمُسْتَحَبٌّ [الْقَوْلُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ] عِنْدَ حُلُولِ
نِعْمَةٍ، أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ الشُّكْرِ
بِدْعَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَسَجَدَ وَأَطَالَ،
فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَتَانِي فبشرني بأن من صل عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، فَسَجَدْتُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُكْرًا "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ رَأَى نُغَاشًا وَالنُّغَاشُ: النَّاقِصُ الْخَلْقِ فَسَجَدَ
شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ
وَرُوِيَ عَنْ بِكَّارِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بَعْضِ
أَزْوَاجِهِ فَأَتَى بَشِيرُهُ بِظَفَرِ أَصْحَابٍ لَهُ قَالَ فَخَرَّ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاجِدًا
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ
فَتْحُ الْيَمَامَةِ وَقَتْلُ مُسَيْلِمَةَ أَنَّهُ قَالَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ بَلَغَهُ فَتْحُ
الْقَادِسِيَّةِ، وَالْيَرْمُوكِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ لَمَّا رَأَى ذَا الثُّدَيَّةِ بِالنَّهْرَوَانِ قَتِيلًا
سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ
وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْهُ لَفَعَلْتُ، وَفِي
اسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ وَتَسْمِيَتِهَا وَشَاهِدِ الْعُقُولِ لَهَا مِنْ
حَيْثُ إنَّ الْوَاحِدَ يُعَظِّمُ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ
إِدْخَالِ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِنَا وَإِبْطَالُ
قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا بِدْعَةً مِنْ مُخَالِفِينَا، فَإِذَا أَرَادَ
سُجُودَ الشُّكْرِ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ
سَوَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِسُجُودِ الشُّكْرِ فِي
صَلَاتِهِ، وَلَا إِذَا قَرَأَ سَجْدَةَ ص فَإِنْ سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ
شُكْرًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَجَدَ عِنْدَمَا قَرَأَ سَجْدَةَ
ص فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ
(2/205)
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ صَلَاتُهُ
جَائِزَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالتِّلَاوَةِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ
الْفَرِيضَةَ وَالنَّافِلَةَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة،
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ فَرْضًا، وَلَا
نَفْلًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ مَالِكُ
بْنُ أَنَسٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ، وَالْوِتْرَ،
وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ، واستدلوا بقوله تعالى: {وحيثما
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَإِذَا
صَلَّى فِيهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَلِرِوَايَةِ
صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ
وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ، وَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ
وَصَلَّى وَقَالَ: هذه القبلة، ولأنه حول ظهره لشئ مِنَ الْكَعْبَةِ
فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ. أَصْلُهُ: إِذَا صَلَّى فِيهَا
مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَابِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ
الْفَرْضِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، فَإِنْ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِذَلِكَ خَارِجُ الْبَيْتِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا
يَكُونُ فِي الْبَيْتِ قِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَخْصِيصُ
بَعْضِهَا بِالْحُكْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ جَمِيعِهَا،
لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ فِي اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِرَانِ
فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَا مَنَعْتُمُ الصَّلَاةَ فِي
الْبَيْتِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنَ الطَّوَافِ فِيهِ، أَوْ جَوَّزْتُمُ
الطَّوَافَ فِيهِ كَمَا جَوَّزْتُمُ الصَّلَاةَ فِيهِ، قِيلَ: لِأَنَّ
الطَّوَافَ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْبَيْتِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ فِيهِ
لَمْ يَسْتَغْرِقْ جَمِيعَهُ وَالصَّلَاةُ تَفْتَقِرُ إِلَى جُزْءٍ
مِنَ الْبَيْتِ فَإِذَا صَلَّى فِيهِ فَقَدْ صَلَّى إِلَى جُزْءٍ
مِنْهُ وَهُوَ الْحَائِطُ
وَرَوَى بِلَالٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ
وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ فَلَمْ
يُفْتَحْ لِي الْبَابُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ "،
وَلِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ
فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ
أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى خارج البيت فأما تعلقهم بقوله تعالى: {وحيثما
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
(2/206)
فَالْمُرَادُ بِهِ نَحْوُهُ، وَمَنْ صَلَّى
فِي الْبَيْتِ فَقَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَيْتِ، لِأَنَّ حَائِطَ
الْبَيْتِ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَصُهَيْبٍ
فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي الْبَيْتِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنِ اسْتَقْبَلَ الْبَابَ فَمَذْهَبُنَا
إِنْ كَانَ لِلْبَابِ عَتَبَةٌ وَاسْتَقْبَلَهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَتَبَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَسْتَقْبِلْهَا
فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا مِنَ
الْبَيْتِ فِي صَلَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَصَلَّى
إِلَيْهِ جَازَ، لِأَنَّ الْبَابَ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَيْتِ، فَلَوْ
كَانَ أَحَدُهُمَا مُغْلَقًا، وَالْآخَرُ مَفْتُوحًا فَإِنْ صَلَّى
إِلَى الْمُغْلَقِ جَازَ، وَإِنْ صَلَّى إِلَى الْمَفْتُوحِ لَمْ
يَجُزْ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى ظَهْرِهَا إِنْ كَانَ
عَلَيْهِ مِنَ الْبِنَاءِ مَا يَكُونُ سُتْرَةً لِلْمُصَلِّي فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَمْ يُصَلِّ إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الْبَيْتِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى عَلَى ظَهْرِ
الْكَعْبَةِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْفَضَاءِ لَيْسَ بَيْنَ
يَدَيْهِ سُتْرَةٌ يَسْتَقْبِلُهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ
الْمُصَلِّيَ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ شَيْءٍ مِنَ الْبَيْتِ،
وَمَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِشَيْءٍ مِنْهُ
وَقَدْ رَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى
أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَجْزَرَةِ،
وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ،
وَالْحَمَّامِ، وَمَعَاطِنِ الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ سُتْرَةٌ
يَسْتَقْبِلُهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً مُتَّصِلَةً بِالْجُدْرَانِ
فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ
الْبَيْتِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ وَلَا مُتَّصِلَةٍ،
وَإِنَّمَا هِيَ أَحْجَارٌ مُجْتَمِعَةٌ، أَوْ خَشَبٌ فَصَلَاتُهُ
بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ مَا تَجَاوَزَ الْبَيْتَ وَلَمْ
يَسْتَقْبِلْ بُنْيَانَ الْبَيْتِ
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ السُّتْرَةُ مَغْرُوسَةً
كَخَشَبَةٍ قَدْ غَرَسَهَا، أَوْ رُمْحٍ قَدْ رَكَزَهُ فَفِي صَلَاتِهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْبِنَاءِ
وَالثَّانِي: بَاطِلَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ مَا
لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوِ انْهَدَمَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ بناء الكعبة، استحب أَنْ
يُنْصَبَ فِي مَوْضِعِهِ خَشَبٌ وَيُطْرَحَ عَلَيْهِ أَنْطَاعٌ
لِيَسْتَقْبِلَهُ النَّاسُ فِي صَلَاتِهِمْ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
جَازَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّاسُ مَكَانَ الْكَعْبَةِ وَتُجْزِئُهُمُ
الصَّلَاةُ.
(2/207)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ:
إِذَا انْهَدَمَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ سَقَطَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ
إِلَيْهَا
وَقَالَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَالْفُقَهَاءُ: فَرْضُ التَّوَجُّهِ
بَاقٍ وَإِنِ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ، لِأَنَّ الْمَكَانَ أَصْلٌ
وَالْبِنَاءَ تَبَعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ الْأَصْلِ
بِفَقْدِ التَّبَعِ، وَإِذَا كَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بَاقِيًا
وَجَبَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مَكَانَ الْكَعْبَةِ وَيَقِفَ خَارِجًا
عَنْهُ وإن وقف في عرضة الْكَعْبَةِ وَمَكَانِهَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ،
كَمَنْ صَلَّى خَارِجَهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ صَلَاتُهُ
بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إِلَيْهَا، لِأَنَّ مَنْ هُوَ
فِي الشَّيْءِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا صَلَّى عَلَى سَطْحٍ يَعْلُو الْكَعْبَةَ وَيُشْرِفُ
عَلَيْهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ جَائِزٌ كَمَا لَوْ
صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، أَوْ جَبَلِ الْمَرْوَةِ نَصَّ
الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ
(فَصْلٌ)
: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى فِي صَحْرَاءَ، أَوْ عَلَى جَبَلٍ أَنْ
يَنْصِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَصًا، أَوْ يَضَعَ حَجَرًا،
وَيَسْتَقْبِلَهُ فِي صَلَاتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ وَمَعَهُ عَصًا فلينصب العصا، ويصلي إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا "؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ
امْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْعُبُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَصَلَّى جَازَ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ
بِهِ أَمَامَ صَلَاتِهِ إِنْسَانٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛
لِرِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ بْنِ وَدَاعَةٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطُّوَّافِ سُتْرَةٌ
مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ
(فَصْلٌ)
: وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِهِ فِي صَلَاتِهِ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ، أَوْ
نَجِسٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ مَرَّ
بِهِ امْرَأَةٌ، أَوْ كَلْبٌ، أَوْ حِمَارٌ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ
الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " فَقِيلَ لَهُ:
مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَبْيَضِ؟ قَالَ: " إِنَّهُ
شَيْطَانٌ "
وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ الْمَرْءِ لَا
يَقْطَعُهَا شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ "
وَرُوِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي وَأَنَا
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ
فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَرَنِي بِرِجْلِهِ لِأَقْبِضَ
رِجْلَيَّ "
وَرُوِيَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانِي
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْنُ
بِالْبَادِيَةِ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى
إِلَى صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَحِمَارُهُ
وَكَلْبُهُ يَمْشِيَانِ بَيْنَ
(2/208)
يَدَيْهِ، فَمَا بَالَى بِذَلِكَ وَمَا
رَوَوْهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَمَنْسُوخٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ
الْفَضِيلَةِ
(فَصْلٌ)
: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى إِلَى قِبْلَةٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَ
يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهَا؛ لِرِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ سهل بن أبي حثمة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعُ
الشَّيْطَانُ صَلَاتَهُ "، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ بِلَالًا مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ قَالَ:
صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ القبلة ثلاثة أذرع
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقْضِي الْمُرْتَدُّ كُلَّ مَا
تَرَكَ فِي الرِّدَّةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ
الْمُسْلِمُ عَنِ الْإِسْلَامِ زَمَانًا ثُمَّ عَادَ إِلَى إِسْلَامِهِ
لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَمَا
فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ
مُجْزِئٌ عَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ أَحْبَطَتِ الرِّدَّةُ جَمِيعَ عَمَلِهِ،
فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ،
وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَلَمْ يَقْضِ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَانِ
رِدَّتِهِ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ قَبْلَ
رِدَّتِهِ أَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ
أَحْبَطَتْ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ؛ فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ، وقَوْله تَعَالَى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد
سلف} ، وَاقْتَضَى الظَّاهِرُ غُفْرَانَ عَمَلِهِ بِالِانْتِهَاءِ عَنِ
الْكُفْرِ وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ بِإِثْمٍ، أَوْ قَضَاءٍ
وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ
يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "
قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا
يَلْزَمَهُ قَضَاءُ ذَلِكَ كَالْحَرْبِيِّ، وَالذِّمِّيِّ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ
نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا "
وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
(2/209)
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّاسِي وَهُوَ
التَّارِكُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}
[التوبة: 67] أَيْ: تَرَكَهُمْ، وَالْمُرْتَدُّ تَارِكٌ فَوَجَبَ أَنْ
يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى
النَّاسِي وَنَبَّهَ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْعَامِدِ، لِأَنَّهُ
أَغْلَظُ حَالًا مِنَ النَّاسِي، وَلِأَنَّهُ تَارِكُ صَلَاةٍ
بِمَعْصِيَةٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا
كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِإِسْلَامِهِ لَا يَقْدِرُ
عَلَى إِسْقَاطِهِ بِرِدَّتِهِ كَغَرَامَةِ الْأَمْوَالِ، وَحُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الصَّلَاةِ إِلَّا شَرْطٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِ
فَإِنَّهُ مُطَالَبٌ بِالصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ، وَيُخَالِفُ
الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا فَهُوَ
غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ، وَالْمُرْتَدُّ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ
وَمُطَالَبٌ بِهِ، وَلِأَنَّ لِلْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُفَارِقُ بِهِمَا الْإِسْلَامَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ
الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الشَّرْعِيَّاتِ وَلِلْإِسْلَامِ حُكْمَيْنِ
يُفَارِقُ بِهِمَا الْكُفْرَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ
الشرعيات، ثم كانت الردة تقضي الْتِزَامَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ
مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ فَوَجَبَ أَنْ
تَقْتَضِيَ الِالْتِزَامَ الْآخَرَ وَهُوَ فِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ الْإِسْلَامِ
الْمُخْتَصِّ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُرْتَدَّ كَالْإِيمَانِ،
وَلِأَنَّ مَنْ كُلِّفَ تَصْدِيقَ الْغَيْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
تَكْذِيبِهِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ
أَصْلُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ
بِالْحَقِّ لَمَّا كُلِّفَ تَصْدِيقَ الشُّهُودِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ
إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِمَا وَهُوَ الْغُرْمُ لِمَا شَهِدَا بِهِ،
وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ لِتَصْدِيقِ النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَبَ أَنْ يُكَلَّفَ مُقْتَضَى
تَصْدِيقِهِ وَمُقْتَضَاهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ،
وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَحْدَثَ مَا اسْتُبِيحَ بِهِ دَمُهُ فَوَجَبَ
أَنْ لَا تَسْقُطَ عَنْهُ الصَّلَاةُ كَالْقَاتِلِ، وَالزَّانِي،
وَالْمُحَارِبِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ
فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ، وَقَبُولِ
جِزْيَتِهِ، وَهُدْنَتِهِ، وَمُؤَاخَذَتِهِ بِجِنَايَاتِهِ فَوَجَبَ
أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ صَلَوَاتِهِ،
وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَزَمَ
الْقِيَامَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ بِالرِّدَّةِ
عُذْرًا لَهُ فِي إِسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ، وَقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ
كَالْعَاصِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ فِعْلِ الزِّنَا فَأَمَّا قَوْله
تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ مَاتَ عَلَى
رِدَّتِهِ، لِأَنَّهُ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ
الْآخِرَةِ؛ سِيَّمَا وَقَدْ فَسَّرَهُ بقوله عز وجل: {ومن يرتد
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، فَالْمُرَادُ بِهِ
غُفْرَانُ الْمَآثِمِ دُونَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ
مُسْتَأْنَفٌ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مَخْصُوصٌ مِنْ هَذَا
الْعُمُومِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ
قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ
يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "
(2/210)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرْبِيِّ
فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ
فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ
الصَّلَوَاتِ فَجُنَّ زَمَانًا فِي رِدَّتِهِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ
حِينًا لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ
جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي
ردتها زماناً لم تقضي مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ
حَيْضِهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجُنُونَ، وَالْإِغْمَاءَ سَقَطَ
بِهِمَا الْقَضَاءُ تَرْفِيهًا وَرَحْمَةً، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ
مَعْصِيَةٌ لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ كَالسَّكْرَانِ فَلَمَّا
اقْتَرَنَ بِجُنُونِ الْمُرْتَدِّ وَإِغْمَائِهِ مَعْصِيَةٌ، وَهِيَ
الرِّدَّةُ ثَبَتَ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَتَرَخَّصُ،
وَالْحَيْضُ إِنَّمَا أَسْقَطَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لَا عَلَى وَجْهِ
الرُّخْصَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ يَكُنْ
لِاقْتِرَانِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْقَضَاءِ،
أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَائِضِ مَعْصِيَةٌ، وَصَلَاةَ
الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ طَاعَةٌ فَمِنْ حَيْثُ مَا
ذَكَرْنَا افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْقَضَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ
-
(2/211)
|