|
المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه
الله تعالى: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ
فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالَيْنِ:
فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَفِي النَّافِلَةِ
فِي السَّفَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى:
{فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ} [البقرة: 150].
ج / 3 ص -135-
الشرح: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ إلَّا فِي
الْحَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى
تَفْصِيلٍ يَأْتِي فِيهِمَا فِي
مَوْضِعِهِمَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ
وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْصِيلِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُنَا
الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا. وَشَطْرُ الشَّيْءِ
يُطْلَقُ عَلَى جِهَتِهِ وَنَحْوِهِ
وَيُطْلَقُ عَلَى نِصْفِهِ. وَالْمُرَادُ
هُنَا الْأَوَّلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَدْ
يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ فَقَطْ،
وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ حَوْلَهَا
مَعَهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكَّةُ
كُلُّهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكَّةُ مَعَ
الْحَرَمِ حَوْلَهُمَا بِكَمَالِهِ، وَقَدْ
جَاءَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ
الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَمِنْ
الْأَوَّلِ قَوْلُ الله تَعَالَى:
{فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَمِنْ الثَّانِي قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا
سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ" إلَى آخِرِهِ وَمِنْ الرَّابِعِ قوله تعالى:
{إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ}[التوبة:
28] وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ مَكَّةُ
فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}
[الإسراء:1] وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ دُورِ مَكَّةَ.
وَقَوْلُ الله تَعَالَى:
{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ}
[البقرة: 196] قِيلَ: مَكَّةُ، وَقِيلَ: الْحَرَمُ، وَهُمَا وَجْهَانِ
لِأَصْحَابِنَا سَنُوَضِّحُهُمَا فِي كِتَابِ
الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَقَوْلُ الله تَعَالَى
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً
الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
[الحج: 25] هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ
وَافَقَهُ الْمَسْجِدُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ
مَعَ الْكَعْبَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَلَا إجَارَتُهُ ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا دُورُ مَكَّةَ وَسَائِرُ بِقَاعِهَا
فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا.
وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ
عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ فَلَمْ يُجَوِّزُوا
بَيْعَ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا إجَارَتَهُ
وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى مَبْسُوطَةً حَيْثُ ذَكَرَهَا
الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ،
فَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ
بِالْمَسْجِدِ ، وَقَدْ بَسَطْته فِي
تَهْذِيبِ1 الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ وَالله
أَعْلَمُ.
فرع: فِي بَيَانِ أَصْلِ اسْتِقْبَالِ
الْكَعْبَةِ.
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا
قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى قُبُلَ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ
سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ
أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ ،
وَأَنَّهُ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةُ
الْعَصْرِ ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ
رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى
أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ:
أَشْهَدُ بِالله لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُبُلَ
مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قُبُلَ
الْبَيْتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما ذكره ما يقيدها أن ذرع ما بين الركن
الأسود وإلى مقام إبراهيم عليه السلام 2 ذراعا
و9 أصابع وذراع ما بين جدار الكعبة من وسط
الكعبة إلى المقام 27 ذراعا وذرع ما بين
شذروان الكعبة والمقام 26 ذراعا ونصف ومن
الركن الشامي إلى المقام 28 ذراعا و19 أصبعا
من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى حد حجرة
زمزم 36 ذراعا ونصف ذراع ومن الركن الأسود إلى
رأس زمزم 40 ذراعا ومن وسط جدار الكعبة إلى
جدار المسمى 213 ذراع ومن وسط جدار الكعبة إلى
الجدار الذي يلي باب بني جمح 119 ذراعا ومن
وسط جدار الكعبة إلى جدار الذي يلي الوادي 141
ذراعا و18 أصبعا (ط).
ج / 3 ص -136-
وَعَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"كَانَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَالْكَعْبَةُ، بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَعْدَ مَا
هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ
شَهْرًا ثُمَّ صُرِفَ إلَى الْكَعْبَةِ"
رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي
مُسْنَدِهِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ
الْقِبْلَةِ الْجِهَةُ، وَسُمِّيَتْ
الْكَعْبَةُ قِبْلَةً؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ
يُقَابِلُهَا وَتُقَابِلُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
كَانَ بِحَضْرَةِ الْبَيْتِ لَزِمَهُ
التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِهِ لِمَا رَوَى
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْبَيْتَ وَلَمْ
يُصَلِّ، وَخَرَجَ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ1
قِبَلَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ
الْقِبْلَةُ."
الشَّرْحُ: حَدِيثُ أُسَامَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
أُسَامَةَ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَوْلُهُ: قُبُلَ الْكَعْبَةِ هُوَ بِضَمِّ
الْقَافِ وَالْبَاءِ، وَيَجُوزُ إسْكَانُ
الْبَاءِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ مَا اسْتَقْبَلَك
مِنْهَا، وَقِيلَ: مُقَابِلُهَا، وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ "فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي
وَجْهِ الْكَعْبَةِ" وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ
بِقُبُلِهَا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"هَذِهِ الْقِبْلَةُ " قَالَ الْخَطَّابِيُّ
مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ قَدْ
اسْتَقَرَّ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَلَا
يُنْسَخُ بَعْدَ الْيَوْمِ فَصَلُّوا إلَيْهِ
أَبَدًا فَهُوَ قِبْلَتُكُمْ، قَالَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ سُنَّةَ
مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَأَنَّهُ يَقِفُ فِي
وَجْهِهَا دُونَ أَرْكَانِهَا، وَإِنْ كَانَتْ
الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ جِهَاتِهَا
مُجْزِئَةً، هَذَا كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ
وَيَحْتَمِلُ مَعْنًى ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ
مَعْنَاهُ هَذِهِ الْكَعْبَةُ هِيَ
الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الَّذِي أُمِرْتُمْ
بِاسْتِقْبَالِهِ لَا كُلَّ الْحَرَمِ وَلَا
مَكَّةَ وَلَا الْمَسْجِدَ الَّذِي حَوْلَ
الْكَعْبَةِ، بَلْ هِيَ الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا
فَقَطْ، وَالله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ
"دَخَلَ
الْبَيْتَ وَلَمْ يُصَلِّ" قَدْ رَوَى
بِلَالٌ
"أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ
بِرِوَايَةِ بِلَالٍ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ
ثِقَةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مُثْبِتٌ فَقُدِّمَ
عَلَى النَّافِي، وَمَعْنَى قَوْلِ أُسَامَةَ
لَمْ يُصَلِّ ، لَمْ أَرَهُ صَلَّى، وَسَبَبُ
قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَبِلَالٌ
وَأُسَامَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ شَيْبَةَ
وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَصَلَّى، فَلَمْ يَرَهُ
أُسَامَةُ لِإِغْلَاقِ الْبَابِ ،
وَلِاشْتِغَالِهِ بِالدُّعَاءِ وَالْخُضُوعِ.
وَقَوْلُهُ "بِحَضْرَةِ الْبَيْتِ" يَجُوزُ
فَتْحُ الْحَاءِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا
ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٍ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْكَعْبَةِ لَزِمَهُ
التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِهَا لِتَمَكُّنِهِ
مِنْهُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيَّ جِهَةٍ
مِنْهَا أَرَادَ ، فَلَوْ وَقَفَ عِنْدَ
طَرَفِ رُكْنٍ - وَبَعْضُهُ يُحَاذِيهِ
وَبَعْضُهُ يَخْرُجُ عَنْهُ - فَفِي صِحَّةِ
صَلَاتِهِ وَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: لَا
تَصِحُّ قَالَ الْإِمَامُ: وَبِهِ قَطَعَ
الصَّيْدَلَانِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَسْتَقْبِلْهَا كُلُّهُ، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ
الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَلَمْ
يَسْتَقْبِلْ الْكَعْبَةَ فَوَجْهَانِ
مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ
الْحَاوِي وَالْبَحْرِ
وَآخَرُونَ
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ
صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ
لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْحِجْرُ مِنْ الْبَيْتِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ
"سِتُّ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ" وَلِأَنَّهُ لَوْ طَافَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ،
وَأَصَحُّهُمَا بِالِاتِّفَاقِ: لَا تَصِحُّ
صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْبَيْتِ
مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَوْ
وَقَفَ الْإِمَامُ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ
وَالْمَأْمُومُونَ خَلْفَهُ مُسْتَدِيرِينَ
بِالْكَعْبَةِ جَازَ، وَلَوْ وَقَفُوا فِي
آخِرِ الْمَسْجِدِ وَامْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ
جَازَ، وَإِنْ وَقَفَ بِقُرْبِهِ وَامْتَدَّ
الصَّفُّ فَصَلَاةُ الْخَارِجِينَ عَنْ
مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ بَاطِلَةٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في نسخ المهذب والذي في الصحيح
(الكعبة) (ط).
ج / 3 ص -137-
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى فِيهِ جَازَ؛
لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى جُزْءٍ مِنْ
الْبَيْتِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ
النَّفَلَ فِي الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم:
"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا
سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ خَارِجَ الْبَيْتِ؛
لِأَنَّهُ يَكْثُرُ [فِيهِ1] الْجَمْعُ
فَكَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ".
الشرح: حَدِيثُ
"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ
يُصَلِّيَ فِي الْكَعْبَةِ الْفَرْضَ
وَالنَّفَلَ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ،
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: لَا يَجُوزُ
الْفَرْضُ وَلَا النَّفَلُ، وَبِهِ قَالَ
أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ وَحُكِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ مَالِكٌ
وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ النَّفَلُ الْمُطْلَقُ
دُونَ الْفَرْضِ وَالْوِتْرِ، دَلِيلُنَا
حَدِيثُ بِلَالٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ قَرِيبًا
الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ وَقَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِذَا صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ
فَلَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيَّ جِدَارٍ
شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْبَابَ إنْ
كَانَ مَرْدُودًا أَوْ مَفْتُوحًا وَلَهُ
عَتَبَةٌ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا،
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَلَنَا
وَجْهٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَتَبَةِ
كَوْنُهَا بِقَدْرِ ذِرَاعٍ، وَقِيلَ:
يُشْتَرَطُ قَدْرُ قَامَةِ الْمُصَلِّي طُولًا
وَعَرْضًا، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَكْفِي
شُخُوصُهَا بِأَيِّ قَدْرٍ كَانَ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالنَّفَلُ فِي
الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ خَارِجَهَا،
وَكَذَا الْفَرْضُ إنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةً
أَوْ أَمْكَنَ الْجَمَاعَةُ الْحَاضِرِينَ
الصَّلَاةُ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
فَخَارِجَهَا أَفْضَلُ، وَكَلَامُ
الْمُصَنِّفِ - وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا -
فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: قَضَاءُ
الْفَرِيضَةِ الْفَائِتَةِ فِي الْكَعْبَةِ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَضَائِهَا خَارِجَهَا
قَالَ: وَكُلُّ مَا قَرُبَ مِنْهُمَا كَانَ
أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا بَعُدَ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَكَذَا
الْمَنْذُورَةُ فِي الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ مِنْ
خَارِجِهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
مَوْضِعَ أَفْضَلُ وَلَا أَطْهَرُ لِلصَّلَاةِ
مِنْ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ
الْمُصَنِّفِ بِالْحَدِيثِ عَلَى فَضْلِ
الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ فَمِمَّا أُنْكِرَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
بِالْكَعْبَةِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ مُخْتَصًّا بِهَا، بَلْ
يَتَنَاوَلُهَا هِيَ وَالْمَسْجِدَ حَوْلَهَا
كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ
يُجَابَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَيُحْمَلَ
كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
اخْتِصَاصَ الْحَدِيثِ بِالْكَعْبَةِ، بَلْ
أَرَادَ بَيَانَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ
الْكَعْبَةَ أَفْضَلُهُ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ
فِيهَا أَفْضَلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ
جَزَمْتُمْ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَلُ مِنْ
خَارِجِهَا؟ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّتِهَا، وَالْخُرُوجُ
مِنْ الْخِلَافِ مُسْتَحَبٌّ؟ فَالْجَوَابُ
أَنَّا إنَّمَا نَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ مِنْ
خِلَافٍ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ الْخِلَافُ فِي
مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ، أَمَّا إذَا
كَانَ الْخِلَافُ مُخَالِفًا سُنَّةً
صَحِيحَةً كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَلَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ
الْخُرُوجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ
تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ، وَإِنْ
بَلَغَتْهُ وَخَالَفَهَا فَهُوَ مَحْجُوجٌ
بِهَا وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي آخِرِ
كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ تَعْلِيقِهِ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعٌ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق وفي بعض
النسخ (فيما سواه من المسجد الحرام) والثابت
هنا رواية البخاري (ط).
ج / 3 ص -138-
أَحَبَّ
إلَيَّ أَنْ أَقْضِيَ فِيهِ الصَّلَاةَ
الْفَائِتَةَ مِنْ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ
الْفَضِيلَةَ فِي الْقُرْبِ مِنْهَا
لِلْمُصَلِّي فَكَانَتْ الْفَضِيلَةُ فِي
بَطْنِهَا أَوْلَى.
فرع: فِي قَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ
صَرَّحَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا،
وَهِيَ مَفْهُومَةٌ مِنْ كَلَامِ الْبَاقِينَ
وَهِيَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى فَضِيلَةٍ
تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى
مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ
تَتَعَلَّقُ بِمَكَانِ الْعِبَادَةِ،
وَتَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ
مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَذْهَبِ
مِنْهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَقَدْ ذَكَرَهَا
الشَّافِعِيُّ فِي
الْأُمِّ وَالْأَصْحَابُ
وَهِيَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى تَحْصِيلِ
الْجَمَاعَةِ خَارِجَ الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ
مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي
الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فَضِيلَةٌ
تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الصَّلَاةِ
وَالْكَعْبَةُ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْمَوْضِعِ وَمِنْهَا أَنَّ صَلَاةَ
الْفَرْضِ فِي كُلِّ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ
مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَلَوْ كَانَ
هُنَاكَ مَسْجِدٌ لَيْسَ فِيهِ جَمَاعَةٌ،
وَهُنَاكَ جَمَاعَةٌ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ
فَصَلَاتُهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ
الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ
مُنْفَرِدًا فِي الْمَسْجِدِ.
وَمِنْهَا أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ فِي بَيْتِ
الْإِنْسَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي
الْمَسْجِدِ مَعَ شَرَفِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ
فِعْلَهَا فِي الْبَيْتِ فَضِيلَةٌ
تَتَعَلَّقُ بِهَا، فَإِنَّهُ سَبَبٌ
لِتَمَامِ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ
وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ
وَشَبَهِهِمَا، حَتَّى أَنَّ صَلَاتَهُ
النَّفَلَ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي
مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ
الصَّحِيحُ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلصَّحَابَةِ رضي الله
عنهم حِينَ صَلَّوْا فِي مَسْجِدِهِ
النَّافِلَةَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ
الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد:
"أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا". وَمِنْهَا أَنَّ الْقُرْبَ مِنْ الْكَعْبَةِ فِي الطَّوَافِ
مُسْتَحَبٌّ، وَالرَّمَلُ مُسْتَحَبٌّ فِيهِ،
فَلَوْ مَنَعَتْهُ الزَّحْمَةُ مِنْ الْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّمَلُ مَعَ
الْقُرْبِ وَأَمْكَنَهُ مَعَ الْبَعْدِ،
فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الرَّمَلِ مَعَ
الْبَعْدِ أَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى
الْقُرْبِ بِلَا رَمَلٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ،
وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَشْهُورَةٌ
وَسَنُوَضِّحُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَبِالله التَّوْفِيقُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
صَلَّى عَلَى سَطْحِهِ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ
بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِهِ
جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى جُزْءٍ
مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ
سُتْرَةٌ مُتَّصِلَةٌ لَهَا لَمْ يَجُزْ لِمَا
رَوَى عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"سَبْعَةُ مَوَاطِنَ لَا يَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَذَكَر"َ:"فَوْقَ
بَيْتِ الله الْعَتِيقِ" وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى
طَرَفِ السَّطْحِ وَاسْتَدْبَرَهُ، فَإِنْ
كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَصًا مَغْرُوزَةً
غَيْرَ مُثَبَّتَةٍ وَلَا مُسَمَّرَةٍ فَفِيهِ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ؛ لِأَنَّ
الْمَغْرُوزَ مِنْ الْبَيْتِ وَلِهَذَا
يَدْخُلُ الْأَوْتَادُ الْمَغْرُوزَةُ فِي
بَيْعِ الدَّارِ وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ؛
لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِالْبَيْتِ
وَلَا مَنْسُوبَةٍ إلَيْهِ، وَإِنْ صَلَّى فِي
عَرْصَةِ الْبَيْتِ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ
سُتْرَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ؛
لِأَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمْ يُصَلِّ
إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَأَشْبَهَ إذَا
صَلَّى عَلَى السَّطْحِ، وَقَالَ أَبُو
الْعَبَّاسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى إلَى
مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْبَيْتِ
فَأَشْبَهَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ
وَصَلَّى إلَى أَرْضِهِ.
الشرح: حَدِيثُ عُمَرَ رضي
الله عنه ضَعِيفٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي
بَابِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَقَوْلُهُ: "مِنْ
غَيْرِ عُذْرٍ" احْتِرَازٌ مِنْ حَالِ شِدَّةِ
الْخَوْفِ وَالنَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ،
وَقَوْلُهُ: غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ هِيَ
بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالنُّونِ
ج / 3 ص -139-
وَقَدْ
يُقَالُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا
بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ
فَوْقُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَجْوَدُ،
وَالْعَرْصَةُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ لَا
غَيْرُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ وَقَفَ عَلَى
أَبِي قُبَيْسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ
الْمَوَاضِعِ الْعَالِيَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ
بِقُرْبِهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛
لِأَنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَقْبِلًا، وَإِنْ
وَقَفَ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ نُظِرَ - إنْ
وَقَفَ عَلَى طَرَفِهَا وَاسْتَدْبَرَ
بَاقِيَهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ
بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِ شَيْءٍ
مِنْهَا، وَهَكَذَا لَوْ انْهَدَمَتْ -
وَالْعِيَاذُ بِالله - فَوَقَفَ طَرَفَ
الْعَرْصَةِ وَاسْتَدْبَرَ بَاقِيَهَا لَمْ
تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَوْ وَقَفَ خَارِجَ
الْعَرْصَةِ وَاسْتَقْبَلَهَا صَحَّ بِلَا
خِلَافٍ. وَأَمَّا إذَا وَقَفَ وَسْطَ
السَّطْحِ أَوْ الْعَرْصَةِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ لَمْ
تَصِحَّ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ
الْمَنْصُوصِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ
الْأَصْحَابِ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ:
تَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَدَاوُد وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ
كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ
وَكَمَا لَوْ وَقَفَ خَارِجَ الْعَرْصَةِ
وَاسْتَقْبَلَهَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ،
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ هُنَا
مُسْتَقْبِلًا بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ،
وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي لِابْنِ سُرَيْجٍ
جَارٍ فِي الْعَرْصَةِ وَالسَّطْحِ كَمَا
ذَكَرْنَا، كَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ
التَّهْذِيبِ وَآخَرُونَ،
وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا
يَقُولُ بِهِ فِي السَّطْحِ وَلَيْسَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ
يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ مِنْ أَجْزَاءِ
الْكَعْبَةِ كَبَقِيَّةِ جِدَارٍ وَرَأْسِ
حَائِطٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنْ كَانَ ثُلُثَيْ
ذِرَاعٍ صَحَّتْ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ:
يُشْتَرَطُ ذِرَاعٌ، وَقِيلَ: يَكْفِي أَدْنَى
شُخُوصٍ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ قَدْرَ
قَامَةِ الْمُصَلِّي طُولًا وَعَرْضًا حَكَاهُ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ،
وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ
بِهِ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلُ وَهُوَ ثُلُثًا
ذِرَاعٍ. وَلَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ
مَتَاعًا وَاسْتَقْبَلَهُ لَمْ يَصِحَّ بِلَا
خِلَافٍ، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ شَجَرَةً
ثَابِتَةً أَوْ جَمَعَ تُرَابَ الْعَرْصَةِ
أَوْ السَّطْحِ أَوْ حَفَرَ حُفْرَةً وَوَقَفَ
فِيهَا أَوْ وَقَفَ فِي آخِرِ السَّطْحِ أَوْ
الْعَرْصَةِ وَاسْتَقْبَلَ الطَّرَفَ الْآخَرَ
وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَنْ مَوْضِعِهِ صَحَّتْ
بِلَا خِلَافٍ.
وَلَوْ اسْتَقْبَلَ حَشِيشًا نَابِتًا
عَلَيْهَا أَوْ خَشَبَةً أَوْ عَصًا
مَغْرُوزَةً غَيْرَ مُسَمَّرَةٍ فَوَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا لَا يَصِحُّ، صَحَّحَهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا،
وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَتْ
الْعَصَا مُثَبَّتَةً أَوْ مُسَمَّرَةً
صَحَّتْ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: لَكِنَّهُ يُخْرِجُ بَعْضَهُ
عَنْ مُحَاذَاتِهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ
فِيمَنْ خَرَجَ بَعْضُ بَدَنِهِ عَنْ
مُحَاذَاةِ بَعْضِ الْكَعْبَةِ لِوُقُوفِهِ
عَلَى طَرَفِ رُكْنٍ، قَالَ فَفِي هَذَا
تَرَدُّدٌ ظَاهِرٌ عِنْدِي، وَظَاهِرُ كَلَامِ
الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ أَنَّ هَذَا
يَصِحُّ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنْ خَرَجَ
بَعْضُ بَدَنِهِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْعَصَا؛
لِأَنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَقْبِلًا بِخِلَافِ
مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ بَعْضُهُ عَنْ
مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ، وَلِهَذَا قَطَعَ
الْأَصْحَابُ بِالصِّحَّةِ إذَا كَانَتْ
الْعَصَا مُسَمَّرَةً وَقَطَعُوا بِهَا
أَيْضًا فِيمَا إذَا بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ
أَصْلِ الْجِدَارِ قَدْرَ مُؤَخِّرَةِ
الرَّحْلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعَالِي بَدَنِهِ
خَارِجَةً عَنْ مُحَاذَاتِهِ لِكَوْنِهِ
مُسْتَقْبِلًا بِبَعْضِهِ جُزْءًا شَاخِصًا
وَبِبَاقِيهِ هَوَاءَ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا
الْوَاقِفُ عَلَى طَرَفِ الرُّكْنِ فَلَمْ
يَسْتَقْبِلْ بِبَعْضِهِ شَيْئًا أَصْلًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الْبَيْتِ نَظَرْتَ -
فَإِنْ عَرَفَ الْقِبْلَةَ - صَلَّى إلَيْهَا؛
وَإِنْ أَخْبَرَهُ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ
عَنْ عِلْمٍ قَبِلَ قَوْلَهُ وَلَا
يَجْتَهِدُ، كَمَا يَقْبَلُ الْحَاكِمُ
النَّصَّ مِنْ الثِّقَةِ وَلَا يَجْتَهِدُ،
وَإِنْ رَأَى مَحَارِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي
بَلَدٍ صَلَّى إلَيْهَا وَلَا يَجْتَهِدُ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ.
الشرح: إذَا غَابَ عَنْ
الْكَعْبَةِ وَعَرَفَهَا صَلَّى إلَيْهَا،
وَإِنْ جَهِلَهَا فَأَخْبَرَهُ مَنْ يُقْبَلُ
خَبَرُهُ لَزِمَهُ أَنْ
ج / 3 ص -140-
يُصَلِّيَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ
الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ
الشَّكِّ فِي بَابِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ
بَيَانُ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَأَنَّهُ
يَدْخُلُ فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ
وَالْمَرْأَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يُقْبَلُ
خَبَرُ الْكَافِرِ فِي الْقِبْلَةِ بِلَا
خِلَافٍ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ
فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ
وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَا
التَّهْذِيبِ وَ
لتَّتِمَّةِ فِيهِ نَصَّيْنِ
لِلشَّافِعِيِّ أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ
وَالثَّانِي: لَا. قَالُوا: فَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ
هُنَا قَوْلَانِ لِلنَّصَّيْنِ، وَقَالَ
الْقَفَّالُ فِيهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا فِي
قَبُولِ رِوَايَتِهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ الْوَجْهَانِ،
الْأَصَحُّ لَا يُقْبَلُ. وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: النَّصَّانِ عَلَى حَالَيْنِ، فَإِنْ
دَلَّهُ عَلَى الْمِحْرَابِ أَوْ أَعْلَمَهُ
بِدَلِيلٍ قَبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ
بِاجْتِهَادٍ فَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْفَاسِقُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ
"الْمَشْهُورُ" : أَنَّهُ لَا
يُقْبَلُ خَبَرُهُ هُنَا كَسَائِرِ
أَخْبَارِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيّ
وَالْأَكْثَرُونَ
وَالثَّانِي: فِي قَبُولِهِ
وَجْهَانِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ هُنَا،
وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيهِ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ
التَّتِمَّةِ وَآخَرُونَ،
وَاخْتَارَ صَاحِبُ
التَّتِمَّةِ الْقَبُولَ،
وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الشَّكِّ فِي
نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَنَّ الْكَافِرَ
وَالْفَاسِقَ يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي
الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَحَمْلِ
الْهَدِيَّةِ، أَمَّا الْمِحْرَابُ فَيَجِبُ
اعْتِمَادُهُ وَلَا يَجُوزُ مَعَهُ
الِاجْتِهَادُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ
الشَّامِلِ إجْمَاعَ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا، وَاحْتَجَّ لَهُ
أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمَحَارِيبَ لَا
تُنْصَبُ إلَّا بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ
أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسَمْتِ الْكَوَاكِبِ
وَالْأَدِلَّةِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى
الْخَبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِحْرَابَ إنَّمَا
يُعْتَمَدُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ
كَبِيرٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ يَكْثُرُ
الْمَارُّونَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يُقِرُّونَهُ
عَلَى الْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ
صَغِيرَةٍ لَا يَكْثُرُ الْمَارُّونَ بِهَا
لَمْ يَجُزْ اعْتِمَادُهُ، هَكَذَا ذَكَرَ
هَذَا التَّفْصِيلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
صَاحِبُ
الْحَاوِي وَالشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِهِ
التَّبْصِرَةُ وَصَاحِبَا
التَّهْذِيبِ وَ التَّتِمَّةِ
وَآخَرُونَ ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ
الْبَاقِينَ.
قَالَ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ: لَوْ رَأَى
عَلَامَةً فِي طَرِيقٍ يَقِلُّ فِيهِ مُرُورُ
النَّاسِ أَوْ فِي طَرِيقٍ يَمُرُّ فِيهِ
الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَلَا
يَدْرِي مَنْ نَصَبَهَا، أَوْ رَأَى
مِحْرَابًا فِي قَرْيَةٍ لَا يَدْرِي بَنَاهُ
الْمُسْلِمُونَ أَوْ الْمُشْرِكُونَ؟ أَوْ
كَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً لِلْمُسْلِمِينَ
اتَّفَقُوا عَلَى جِهَةٍ يَجُوزُ وُقُوعُ
الْخَطَأِ لِأَهْلِهَا؟ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ
فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ وَلَا
يَعْتَمِدُهُ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ
التَّتِمَّةِ: لَوْ كَانَ فِي
صَحْرَاءَ أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ
مَسْجِدٍ فِي بَرِّيَّةٍ لَا يَكْثُرُ بِهِ
الْمَارَّةُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ
الِاجْتِهَادُ، قَالَ: وَلَوْ دَخَلَ بَلَدًا
قَدْ خَرِبَ وَانْجَلَى أَهْلُهُ فَرَأَى
فِيهِ مَحَارِيبَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا
مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ اعْتَمَدَهَا
وَلَمْ يَجْتَهِدْ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ
أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَاحْتُمِلَ أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ
الْكُفَّارِ لَمْ يَعْتَمِدْهَا بَلْ
يَجْتَهِدُ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
فِي تَعْلِيقِهِ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي
الْبَلَدِ الْخَرَابِ عَنْ أَصْحَابِنَا
كُلِّهِمْ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
إذَا صَلَّى فِي مَدِينَةِ رَسُولِ الله صلى
الله عليه وسلم فَمِحْرَابُ رَسُولِ الله صلى
الله عليه وسلم فِي حَقِّهِ كَالْكَعْبَةِ،
فَمَنْ يُعَايِنُهُ يَعْتَمِدُهُ، وَلَا
يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ
بِحَالٍ، وَيَعْنِي بِمِحْرَابِ رَسُولِ الله
صلى الله عليه وسلم مُصَلَّاهُ وَمَوْقِفَهُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ "هَذَا الْمِحْرَابُ
هُوَ الْمَعْرُوفُ" فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وَإِنَّمَا أُحْدِثَتْ
الْمَحَارِيبُ بَعْدَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَفِي مَعْنَى مِحْرَابِ الْمَدِينَةِ سَائِرُ
الْبِقَاعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم إذَا ضُبِطَ
الْمِحْرَابُ، وَكَذَا الْمَحَارِيبُ
الْمَنْصُوبَةُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ
بِالشَّرْطِ السَّابِقِ، فَلَا يَجُوزُ
الِاجْتِهَادُ
ج / 3 ص -141-
فِي
هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي الْجِهَةِ بِلَا
خِلَافٍ.
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي التَّيَامُنِ
وَالتَّيَاسُرِ فَإِنْ كَانَ مِحْرَابُ
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجُزْ
بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ
فَفِيهِ أَوْجُهٌ
أَصَحُّهَا: يَجُوزُ، قَالَ
الرَّافِعِيُّ وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فِي
الْكُوفَةِ خَاصَّةً
وَالثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ
فِيهَا وَلَا فِي الْبَصْرَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ
دَخَلَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ رصي الله عنهم.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
الْأَعْمَى يَعْتَمِدُ الْمِحْرَابَ بِمَسٍّ
إذَا عَرَفَهُ بِالْمَسِّ حَيْثُ يَعْتَمِدُهُ
الْبَصِيرُ، وَكَذَا الْبَصِيرُ فِي
الظُّلْمَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّ الْأَعْمَى
إنَّمَا يَعْتَمِدُ مِحْرَابًا رَآهُ قَبْلَ
الْعَمَى، وَلَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْأَعْمَى
مَوَاضِعَ لَمَسَهَا صَبَرَ حَتَّى يَجِدَ
مَنْ يُخْبِرُهُ فَإِنْ خَافَ فَوْتَ
الْوَقْتِ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ
وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَظَرْتَ
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ كَانَ يَعْرِفُ
الدَّلَائِلَ فَإِنْ كَانَ غَائِبًا مِنْ
مَكَّةَ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ؛
لِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَتِهَا
بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْجِبَالِ
وَالرِّيَاحِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:
{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ}
[النحل: 16] فَكَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ كَالْعَالِمِ فِي
الْحَادِثَةِ، وَفِي فَرْضِهِ قَوْلَانِ:
قَالَ فِي الْأُمِّ: فَرْضُهُ إصَابَةُ
الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ
الْقِبْلَةِ لَزِمَهُ إصَابَةُ الْعَيْنِ
كَالْمَكِّيِّ، وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ
الْمُزَنِيّ أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْجِهَةُ؛
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْضُ هُوَ
الْعَيْنُ لَمَا صَحَّتْ صَلَاةُ الصَّفِّ
الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَخْرُجُ
عَنْ الْعَيْنِ".
الشرح: إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْغَائِبُ عَنْ أَرْضِ مَكَّةَ الْقِبْلَةَ
وَلَمْ يَجِدْ مِحْرَابًا وَلَا مَنْ
يُخْبِرُهُ عَلَى مَا سَبَقَ لَزِمَهُ
الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ وَيَسْتَقْبِلُ
مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَلَا يَصِحُّ إلَّا
بِأَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ
وَفِيهَا كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ وَأَضْعَفُهَا
الرِّيَاحُ لِاخْتِلَافِهَا، وَأَقْوَاهَا
الْقُطْبُ وَهُوَ نَجْمٌ صَغِيرٌ فِي بَنَاتِ
نَعْشٍ الصُّغْرَى، بَيْنَ الْفَرْقَدَيْنِ
وَالْجَدْيِ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَظَنَّ
الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ بِعَلَامَةٍ صَلَّى
إلَيْهَا، وَلَا يَكْفِي الظَّنُّ بِلَا
عَلَامَةٍ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ
الْأَوَانِي فَإِنَّ فِيهَا وَجْهًا ضَعِيفًا
أَنَّهُ يَكْفِي الظَّنُّ فِيهَا بِغَيْرِ
عَلَامَةٍ وَذَلِكَ الْوَجْهُ لَا يَجِيءُ
هُنَا بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ سَبَقَ هُنَاكَ
الْفَرْقُ، وَلَوْ تَرَكَ الْقَادِرُ عَلَى
الِاجْتِهَادِ الِاجْتِهَادَ وَقَلَّدَ
مُجْتَهِدًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ
صَادَفَ الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ
وَظِيفَتَهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَلَمْ
تَصِحَّ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى
بِغَيْرِ تَقْلِيدٍ وَلَا اجْتِهَادٍ
وَصَادَفَ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ
بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ
أَمْ لَمْ يَضِقْ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ،
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ
لِابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يُقَلِّدُ عِنْدَ
ضِيقِ الْوَقْتِ وَخَوْفِ الْفَوَاتِ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. وَفِي فَرْضِ الْمُجْتَهِدِ
وَمَطْلُوبِهِ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا: جِهَةُ
الْكَعْبَةِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ صَلَاةِ
الصَّفِّ الطَّوِيلِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ
عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ، وَأَصَحُّهُمَا
عَيْنُهَا اتَّفَقَ الْعِرَاقِيُّونَ
وَالْقَفَّالُ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ
عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَدَلِيلُهُمَا فِي
الْكِتَابِ. وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ
صَلَاةِ الصَّفِّ الطَّوِيلِ بِأَنَّ مَعَ
طُولِ الْمَسَافَةِ تَظْهَرُ الْمُسَامَتَةُ
وَالِاسْتِقْبَالُ كَالنَّارِ عَلَى جَبَلٍ
وَنَحْوِهَا قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ:
الْقَوْلُ بِأَنَّ فَرْضَهُ الْجِهَةُ
نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ وَلَيْسَ هُوَ
بِمَعْرُوفٍ لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَا
أَنْكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَآخَرُونَ، وَسَلَكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ طَرِيقَةً أُخْرَى شَاذَّةً
ضَعِيفَةً اخْتَرَعَهَا الْإِمَامُ
تَرَكْتُهَا لِشُذُوذِهَا، وَاحْتَجَّ
الْأَصْحَابُ لِلْقَوْلِ بِالْعَيْنِ
بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا
ج / 3 ص -142-
دَخَلَ
الْكَعْبَةَ خَرَجَ فَصَلَّى إلَيْهَا
وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهُوَ حَدِيثُ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ،
وَاحْتَجُّوا لِلْجِهَةِ بِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّ
ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا
أَنَّ الْوَاجِبَ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ
، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ الْجِهَةُ، وَحَكَاهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسَبَقَ
دَلِيلُهُمَا.
فرع: فِي تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ
الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا: أَنَّهُ فَرْضُ
كِفَايَةٍ
وَالثَّانِي: فَرْضُ عَيْنٍ،
وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ
كَتَعَلُّمِ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ مِنْ
شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَأَرْكَانِهَا
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ
الْأَصَحُّ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إلَّا
أَنْ يُرِيدَ سَفَرًا فَيَتَعَيَّنُ،
لِعُمُومِ حَاجَةِ الْمُسَافِرِ وَكَثْرَةِ
الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ
مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ إذْ لَمْ
يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
ثُمَّ السَّلَفَ أَلْزَمُوا آحَادَ النَّاسِ
تَعَلُّمَ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، بِخِلَافِ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا ؛ لِأَنَّ
الْوُقُوفَ عَلَى الْقِبْلَةِ سَهْلٌ
غَالِبًا، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
كَانَ فِي أَرْضِ مَكَّةَ فَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَائِلٌ
أَصْلِيٌّ كَالْجَبَلِ فَهُوَ كَالْغَائِبِ
عَنْ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا
حَائِلٌ طَارِئٌ وَهُوَ الْبِنَاءُ فَفِيهِ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَجْتَهِدُ؛
لِأَنَّهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَرْضُهُ
الرُّجُوعُ إلَى الْعَيْنِ فَلَا يَتَغَيَّرُ
[فَرْضُهُ] بِالْحَائِلِ الطَّارِئِ
وَالثَّانِي: [أَنَّهُ] يَجْتَهِدُ وَهُوَ
ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، لِأَنَّ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَائِلًا يَمْنَعُ
الْمُشَاهَدَةَ فَأَشْبَهَ إذَا كَانَ
بَيْنَهُمَا جَبَلٌ".
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: إذَا صَلَّى بِمَكَّةَ خَارِجَ
الْمَسْجِدِ، فَإِنْ عَايَنَ الْكَعْبَةَ
كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ أَوْ
سَطْحِ دَارٍ وَنَحْوِهِ صَلَّى إلَيْهَا،
وَإِذَا بَنَى مِحْرَابَهُ عَلَى الْعِيَانِ
صَلَّى إلَيْهِ أَبَدًا، وَلَا يَحْتَاجُ فِي
كُلِّ صَلَاةٍ إلَى الْمُعَايَنَةِ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَفِي مَعْنَى الْعِيَانِ مَنْ
نَشَأَ بِمَكَّةَ وَتَيَقَّنَ إصَابَةَ
الْكَعْبَةِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا فِي
حَالِ الصَّلَاةِ، فَهَذَا فَرْضُهُ إصَابَةُ
الْعَيْنِ قَطْعًا، وَلَا اجْتِهَادَ فِي
حَقِّهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا يُعَايِنُ
الْكَعْبَةَ وَلَا يَتَيَقَّنُ الْإِصَابَةَ،
فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَائِلٌ
أَصْلِيٌّ كَالْجَبَلِ فَلَهُ الِاجْتِهَادُ
بِلَا خِلَافٍ ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا
يَلْزَمُهُ صُعُودُ الْجَبَلِ لِتَحْصِيلِ
الْمُشَاهَدَةِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
مَشَقَّةً، وَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ طَارِئًا
فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ
دَلِيلَهُمَا
أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ
الْمُصَنِّفِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَابْنِ
الصَّبَّاغِ وَالشَّاشِيِّ وَالرَّافِعِيِّ
أَنَّهُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ
وَالثَّانِي: لَا
يَجُوزُ ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ
وَالْجُرْجَانِيُّ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
اجْتَهَدَ رَجُلَانِ فَاخْتَلَفَا فِي جِهَةِ
الْقِبْلَةِ لَمْ يُقَلِّدْ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدُهُمَا خَلْفَ
الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ اجْتِهَادِ صَاحِبِهِ
ج / 3 ص -143-
[وَبُطْلَانَ صَلَاتِهِ1].
الشرح: هَذَا الَّذِي قَالَهُ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَحَكَى
أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ
قَالَ: تَصِحُّ صَلَاةُ أَحَدِهِمَا خَلْفَ
الْآخَرِ، وَيَسْتَقْبِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا
ظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ فَلَوْ تَعَاكَسَ
ظَنُّهُمَا صَارَ وَجْهُهُ إلَى وَجْهِهِ
كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلُّوا حَوْلَ
الْكَعْبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعْتَقِدُ
صِحَّةَ صَلَاةِ إمَامِهِ. قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: فَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا
فِي تَيَامُنٍ قَرِيبٍ وَتَيَاسُرٍ، فَإِنْ
قُلْنَا: يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ
مُرَاعَاةُ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ
وَإِلَّا فَيَصِحُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ
حَضَرَتْ صَلَاةٌ أُخْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا: [أَنَّهُ] يُصَلِّي
بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
عَرَفَ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ
وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ
الِاجْتِهَادَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي
الْأُمِّ كَمَا تَقُولُ فِي الْحَاكِمِ إذَا
اجْتَهَدَ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ حَدَثَتْ
تِلْكَ الْحَادِثَةُ مَرَّةً أُخْرَى.
الشرح: الْوَجْهَانِ
مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ، وُجُوبُ إعَادَةِ
الِاجْتِهَادِ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ،
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي
الْأُمِّ قَدْ سَبَقَ
مِثْلُهُمَا فِي
الْمُتَيَمِّمِ إذَا طَلَبَ
الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ وَصَلَّى وَبَقِيَ
فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةٌ
أُخْرَى، قَالَ الرَّافِعِيُّ قِيلَ
الْوَجْهَانِ فِيمَا إذَا لَمْ يُفَارِقْ
مَوْضِعَهُ فَإِنْ فَارَقَهُ وَجَبَ
الِاجْتِهَادُ وَجْهًا وَاحِدًا
كَالتَّيَمُّمِ قَالَ: وَلَكِنَّ الْفَرْقَ
ظَاهِرٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ
الِاجْتِهَادِ لِلنَّافِلَةِ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ
اجْتَهَدَ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ
فَأَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى
صَلَّى الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ إلَى
الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ
إعَادَةُ مَا صَلَّاهُ إلَى الْجِهَةِ
الْأُولَى كَالْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ
بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ
لَمْ يُنْقَضْ مَا حَكَمَ فِيهِ
بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ
اجْتِهَادُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَفِيهِ
وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ
الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُصَلِّيَ صَلَاةً بِاجْتِهَادَيْنِ كَمَا لَا
يَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِي قَضِيَّةٍ
بِاجْتِهَادَيْنِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛
لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ أَنْ
يَسْتَأْنِفَ [الصَّلَاةَ] نَقَضْنَا مَا
أَدَّاهُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالِاجْتِهَادِ
بِاجْتِهَادٍ بَعْدَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ،
وَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالِاجْتِهَادِ
ثُمَّ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ أَتَمَّ
صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ظَاهِرٌ،
وَالظَّاهِرُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ.
الشرح: فِي الْفَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
إحْدَاهَا: لَوْ صَلَّى
بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ حَضَرَتْ صَلَاةٌ
أُخْرَى فَاجْتَهَدَ لَهَا سَوَاءٌ
أَوْجَبْنَا الِاجْتِهَادَ ثَانِيًا أَمْ لَا،
فَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ يَجِبُ أَنْ
يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ إلَى
الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا
يَلْزَمُ إعَادَةُ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ
حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إلَى
أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلَا
إعَادَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ، هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ،
وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا أَنَّهُ
يَجِبُ إعَادَتُهُنَّ، قَالَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ: هُوَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي
إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَحَكَوْا
وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ تَجِبُ إعَادَةُ
غَيْرِ الْأَخِيرَةِ وَالصَّوَابُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).
ج / 3 ص -144-
الْأَوَّلُ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ تَغَيَّرَ
اجْتِهَادُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ
فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَقِيلَ:
قَوْلَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا،
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ
إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَصَحُّهُمَا
عِنْدَ الْأَصْحَابِ: لَا يَسْتَأْنِفُ بَلْ
يَنْحَرِفُ إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ
وَيَبْنِي، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى هَذَا
الثَّانِي لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ
مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ
بِاجْتِهَادَاتٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَا
إعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ وَخَصَّ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ الْوَجْهَيْنِ بِمَا إذَا كَانَ
الدَّلِيلُ الثَّانِي أَوْضَحَ مِنْ
الْأَوَّلِ قَالَ: فَإِنْ اسْتَوَيَا تَمَّمَ
صَلَاتَهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى وَلَا
إعَادَةَ، وَالْمَشْهُورُ إطْلَاقُ
الْوَجْهَيْنِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا دَخَلَ
فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ شَكَّ
فِيهِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
الْجِهَاتِ أَتَمَّ صَلَاتَهُ إلَى جِهَتِهِ
وَلَا إعَادَةَ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الْأُمِّ ، وَاتَّفَقُوا
عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ
صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَفِيهِ
قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْأُمِّ: يَلْزَمُهُ
أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ
يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ
فِي الْقَضَاءِ، فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا
مَضَى، كَالْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ ثُمَّ وَجَدَ
النَّصَّ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ
وَ [فِي بَابِ] الصِّيَامِ مِنْ الْجَدِيدِ:
لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ جِهَةٌ تَجُوزُ
الصَّلَاةُ إلَيْهَا بِالِاجْتِهَادِ ،
فَأَشْبَهَ إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ الْخَطَأَ.
وَإِنْ صَلَّى إلَى جِهَةٍ ثُمَّ رَأَى
الْقِبْلَةَ فِي يَمِينِهَا أَوْ شِمَالِهَا
لَمْ يُعِدْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي
الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ لَا يُعْلَمُ قَطْعًا
فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ الِاجْتِهَادُ".
الشرح: قَوْلُهُ:
تَعَيَّنَ احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا صَلَّى
صَلَاتَيْنِ بِاجْتِهَادَيْنِ إلَى جِهَتَيْنِ
فَإِنَّهُ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي
إحْدَاهُمَا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ الَّتِي أَخْطَأَ
فِيهَا، وَقَوْلُهُ يَقِينُ الْخَطَأِ
احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا صَلَّى إلَى جِهَةٍ
ثُمَّ ظَهَرَ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ
الْقِبْلَةَ غَيْرُهَا فَقَدْ تَعَيَّنَ
الْخَطَأُ بِالظَّنِّ لَا بِالْيَقِينِ،
وَقَوْلُهُ: يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ
احْتِرَازٌ مِمَّنْ أَكَلَ فِي الصَّوْمِ
نَاسِيًا أَوْ وَقَفَ لِلْحَجِّ فِي الْيَوْمِ
الْعَاشِرِ غَالِطًا.
أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ:
فَقَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله إذَا صَلَّى
بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ
فِي الِاجْتِهَادِ فَلَهُ أَحْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ
الْخَطَأُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ
فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ
أَعْرَضَ عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ
الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الْآنَ،
وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ، بَلْ ظَنَّ أَنَّ
الصَّوَابَ جِهَةٌ أُخْرَى - فَإِنْ كَانَ
دَلِيلُ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنْ
الْأَوَّلِ - اعْتَمَدَ الثَّانِي وَإِنْ
كَانَ الْأَوَّلُ أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ،
وَإِنْ تَسَاوَيَا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا:
يَتَخَيَّرُ فِيهِمَا، وَالثَّانِي: يُصَلِّي
إلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ
يَظْهَرَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ
الصَّلَاةِ فَإِنْ تَيَقَّنَهُ فَهِيَ
مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَفِيهَا الْقَوْلَانِ
الْمَذْكُورَانِ فِي الْكِتَابِ
بِدَلِيلِهِمَا، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ
الْأَصْحَابِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ ،
وَالْقَوْلَانِ جَارِيَانِ سَوَاءٌ تَيَقَّنَ
مَعَ الْخَطَأِ جِهَةَ الصَّوَابِ أَمْ لَا ،
وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ إذَا تَيَقَّنَ
الْخَطَأَ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ الصَّوَابَ ،
فَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَهُمَا فَتَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ
الْقَوْلَانِ إذَا تَيَقَّنَ الصَّوَابَ ،
أَمَّا إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ الصَّوَابَ
فَلَا إعَادَةَ قَوْلًا وَاحِدًا
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ تَيَقَّنَ
خَطَأَ الَّذِي قَلَّدَهُ الْأَعْمَى فَهُوَ
كَمَا لَوْ تَيَقَّنَ الْمُجْتَهِدُ خَطَأَ
نَفْسِهِ، أَمَّا
ج / 3 ص -145-
إذَا
لَمْ يَتَيَقَّنْ الْخَطَأَ وَلَكِنْ ظَنَّهُ
فَلَا إعَادَةَ حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ
صَلَوَاتٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَلَا
إعَادَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ
يَظْهَرَ الْخَطَأُ فِي أَثْنَائِهَا، وَهُوَ
ضَرْبَانِ
أَحَدُهُمَا: يَظْهَرُ
الْخَطَأُ وَيَظْهَرُ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا
بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا
بَنَيْنَاهُ عَلَى تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ
الْفَرَاغِ، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ
الْإِعَادَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِلَّا
فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ
أَصَحُّهُمَا: يَنْحَرِفُ
إلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَيَبْنِي
وَالثَّانِي: تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ
مُتَيَقَّنًا بَلْ مَظْنُونًا، فَفِيهِ
هَذَانِ الْوَجْهَانِ أَوْ الْقَوْلَانِ كَمَا
سَبَقَ، وَفِيهِ كَلَامُ صَاحِبِ
التَّهْذِيبِ السَّابِقِ فِي
الْفَرْقِ بَيْنَ رُجْحَانِ الدَّلِيلِ
الثَّانِي وَعَدَمِهِ
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ
لَا يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ،
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الصَّوَابِ
بِالِاجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى
الْقُرْبِ فَهَلْ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي؟ أَمْ
يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي
الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي - وَهُوَ
الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ
الِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّهُ مَضَى جُزْءٌ مِنْ
صَلَاتِهِ إلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ مَحْسُوبَةٍ،
مِثَالُ ظُهُورِ الْخَطَأِ دُونَ الصَّوَابِ:
أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ قِبْلَتَهُ عَنْ يَسَارِ
الْمَشْرِقِ وَكَانَ هُنَاكَ غَيْمٌ فَذَهَبَ
وَظَهَرَ كَوْكَبٌ قَرِيبٌ مِنْ الْأُفُقِ
وَهُوَ مُسْتَقْبِلُهُ فَعَلِمَ الْخَطَأَ
يَقِينًا، وَلَمْ يَعْلَمْ الصَّوَابَ، إذْ
يُحْتَمَلُ كَوْنُ الْكَوْكَبِ فِي
الْمَشْرِقِ وَيُحْتَمَلُ الْمَغْرِبُ لَكِنْ
قَدْ يَعْرِفُ الصَّوَابَ عَلَى قُرْبٍ بِأَنْ
يَرْتَفِعَ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ مَشْرِقٌ، أَوْ
يَنْحَطَّ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ مَغْرِبٌ،
وَتُعْرَفُ بِهِ الْقِبْلَةُ، وَقَدْ يَعْجِزُ
عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُطْبِقُ الْغَيْمُ عَقِبَ
ظُهُورِ الْكَوْكَبِ وَالله أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي
الْجِهَةِ, أَمَّا إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ فِي
التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فَإِنْ كَانَ
ظُهُورُهُ بِالِاجْتِهَادِ وَظَهَرَ بَعْدَ
الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ
قَطْعًا وَالصَّلَاةُ مَاضِيَةٌ عَلَى
الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا
انْحَرَفَ وَأَتَمَّهَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ
كَانَ ظُهُورُهُ يَقِينًا وَقُلْنَا:
الْفَرْضُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ فَالْحُكْمُ
كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا عَيْنُهَا فَفِي
وُجُوبِ الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ،
وَوُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ فِي الْأَثْنَاءِ
الْقَوْلَانِ قَالَ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ:
وَلَا يُتَيَقَّنُ الْخَطَأُ فِي
الِانْحِرَافِ مَعَ الْبُعْدِ مِنْ مَكَّةَ
وَإِنَّمَا يُظَنُّ وَمَعَ الْقُرْبِ يُمْكِنُ
الْيَقِينُ وَالظَّنُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ
هَذَا كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ خِلَافٍ
أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ
أَنَّهُ هَلْ يُتَيَقَّنُ الْخَطَأُ فِي
الِانْحِرَافِ مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةِ
الْكَعْبَةِ؟ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ
الْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ وَالْبُعْدِ،
فَقَالُوا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ
وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ يُتَصَوَّرُ.
فرع: لَوْ اجْتَهَدَ
جَمَاعَةٌ فِي الْقِبْلَةِ وَاتَّفَقَ
اجْتِهَادُهُمْ فَأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، ثُمَّ
تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مَأْمُومٍ لَزِمَهُ
الْمُفَارَقَةُ وَيَنْحَرِفُ إلَى الْجِهَةِ
الثَّانِيَةِ، وَهَلْ لَهُ الْبِنَاءُ؟ أَمْ
عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ
السَّابِقُ فِي تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَهَلْ هُوَ مُفَارِقٌ
بِعُذْرٍ؟ أَمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِتَرْكِهِ
كَمَالَ الْبَحْثِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: بِعُذْرٍ، وَلَوْ تَغَيَّرَ
اجْتِهَادُ الْإِمَامِ انْحَرَفَ إلَى
الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بَانِيًا أَوْ
مُسْتَأْنِفًا عَلَى الْخِلَافِ وَيُفَارِقُهُ
الْمَأْمُومُ وَهِيَ مُفَارَقَةٌ بِعُذْرٍ
بِلَا خِلَافٍ, وَلَوْ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ
رَجُلَيْنِ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ
وَالْجِهَةُ وَاحِدَةٌ فَإِنْ أَوْجَبْنَا
عَلَى الْمُجْتَهِدِ رِعَايَةَ ذَلِكَ
وَجَعَلْنَاهُ مُؤَثِّرًا فِي بُطْلَانِ
الصَّلَاةِ فَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي
الْجِهَةِ فَلَا يَقْتَدِي أَحَدُهُمَا
بِالْآخَرِ. وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ وَيَجُوزُ
الِاقْتِدَاءُ.
وَلَوْ شَرَعَ الْمُقَلِّدُ فِي الصَّلَاةِ
بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ لَهُ عَدْلٌ: أَخْطَأَ
بِكَ فُلَانٌ فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا:
أَنْ
ج / 3 ص -146-
يَكُونَ
قَوْلُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ
قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ عِنْدَهُ
لِزِيَادَةِ عَدَالَتِهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ
أَوْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ شَكَّ، لَمْ يَجِبْ
الْعَمَلُ بِقَوْلِ الثَّانِي، وَفِي
جَوَازِهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ
الْمُقَلِّدَ إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
اجْتِهَادُ اثْنَيْنِ، هَلْ يَجِبُ الْأَخْذُ
بِأَعْلَمِهِمَا أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ إنْ
قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا
فَوَجْهَانِ الْأَصَحُّ: لَا يَجُوزُ أَيْضًا،
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَرْجَحَ فَهُوَ
كَتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْبَصِيرِ
فَيَنْحَرِفُ. وَهَلْ يَبْنِي، أَمْ
يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ. وَلَوْ قَالَ
لَهُ الْمُجْتَهِدُ الثَّانِي بَعْدَ
فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، لَمْ تَجِبْ
الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ
الثَّانِي أَرْجَحَ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ
اجْتِهَادُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ. الْحَالُ
الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَ عَنْ عِلْمٍ
وَمُشَاهَدَةٍ فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى
قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْأَوَّلِ
أَرْجَحَ عِنْدَهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ
أَنْ يَقُولَ لِلْأَعْمَى: أَنْتَ
مُسْتَقْبِلُ الشَّمْسِ، وَالْأَعْمَى
يَعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُ إلَى غَيْرِ
الشَّمْسِ فَيَلْزَمُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى
أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ قَالَ
الثَّانِي: أَنْتَ عَلَى الْخَطَأِ قَطْعًا
وَجَبَ قَبُولُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ
تَقْلِيدَ الْأَوَّلِ بَطَلَ بِقَطْعِ هَذَا
وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الدَّلَائِلَ
نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ إذَا عُرِّفَ
يُعْرَفُ، وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ، لَزِمَهُ أَنْ
يَتَعَرَّفَ بِالدَّلَائِلِ وَيَجْتَهِدَ فِي
طَلَبِهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ
الْفَرْضِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يُؤَدِّيهِ
بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ إذَا
عُرِّفَ لَا يَعْرِفُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى لَا
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْرِفَ لِعَدَمِ
الْبَصَرِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَعْرِفَ
لِعَدَمِ الْبَصِيرَةِ، وَفَرْضُهُمَا
التَّقْلِيدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمَا
الِاجْتِهَادُ، فَكَانَ فَرْضُهُمَا
التَّقْلِيدُ كَالْعَامِّيِّ فِي أَحْكَامِ
الشَّرِيعَةِ. وَإِنْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ
تَقْلِيدٍ وَأَصَابَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ صَلَّى وَهُوَ شَاكٌّ فِي صَلَاتِهِ
فَإِنْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ
رَجُلَيْنِ قَلَّدَ أَوْثَقَهُمَا
وَأَبْصَرَهُمَا، فَإِنْ قَلَّدَ الْآخَرَ
جَازَ، وَإِنْ عَرَفَ الْأَعْمَى الْقِبْلَةَ
بِاللَّمْسِ صَلَّى وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّقْلِيدِ، وَإِنْ
قَلَّدَ غَيْرَهُ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ
ثُمَّ أَبْصَرَ - فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَا
يَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ مِنْ مِحْرَابٍ
[فِي] مَسْجِدٍ أَوْ نَجْمٍ يَعْرِفُ بِهِ -
أَتَمَّ صَلَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ
صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّقْلِيدِ،
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ فَرْضُهُ
التَّقْلِيدُ مَنْ يُقَلِّدُهُ صَلَّى عَلَى
حَسَبِ حَالِهِ حَتَّى لَا يَخْلُوَ الْوَقْتُ
مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وَجَدَ مَنْ
يُقَلِّدُهُ أَعَادَ.
الشرح: فِيهِ مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: قَدْ سَبَقَ
بَيَانُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ تَعَلُّمَ
أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ فَرْضُ عَيْنٍ أَمْ
كِفَايَةٍ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ
الْقِبْلَةَ وَلَا دَلَائِلَهَا فَإِنْ كَانَ
يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ
فَإِنْ قُلْنَا: التَّعَلُّمُ فَرْضُ عَيْنٍ -
لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ ، فَإِنْ تَرَكَ
التَّعَلُّمَ وَقَلَّدَ لَمْ تَصِحَّ
صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَظِيفَتَهُ فِي
الِاسْتِقْبَالِ ، فَعَلَى هَذَا إنْ ضَاقَ
الْوَقْتُ عَنْ التَّعَلُّمِ فَهُوَ
كَالْعَالِمِ إذَا تَحَيَّرَ وَسَنَذْكُرُهُ
فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيه إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنْ قُلْنَا التَّعَلُّمُ لَيْسَ بِفَرْضِ
عَيْنٍ صَلَّى بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يُعِيدُ
كَالْأَعْمَى. وَقَدْ جَزَمَ الْمُصَنِّفُ
بِالْأَوَّلِ.
الثَّانِيَةُ: إذَا لَمْ
يَعْرِفْ الْقِبْلَةَ وَكَانَ مِمَّنْ لَا
يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّعَلُّمُ لِعَدَمِ
أَهْلِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ
يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَضَاقَ الْوَقْتُ أَوْ
كَانَ أَعْمَى فَفَرْضُهُمْ التَّقْلِيدُ،
وَهُوَ قَوْلُ الْغَيْرِ الْمُسْتَنِدُ إلَى
اجْتِهَادٍ، فَلَوْ قَالَ بَصِيرٌ: رَأَيْتُ
الْقُطْبَ، أَوْ رَأَيْتُ الْخَلْقَ
الْعَظِيمَ مِنْ الْمُصَلِّينَ يُصَلُّونَ
إلَى هُنَا، كَانَ الْأَخْذُ بِهِ قَبُولَ
خَبَرٍ لَا تَقْلِيدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: وَشَرْطُ الَّذِي
يُقَلِّدُهُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا
مُسْلِمًا ثِقَةً عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ،
سَوَاءٌ فِيهِ اجْتِهَادُ الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، وَفِي وَجْهٍ
شَاذٍّ لَهُ تَقْلِيدُ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ
حَكَاهُ
ج / 3 ص -147-
الرَّافِعِيُّ فَإِنْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ قَلَّدَ مَنْ شَاءَ
مِنْهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ
وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ
وَالْأَوْلَى تَقْلِيدُ الْأَوْثَقِ
وَالْأَعْلَمِ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ
بِقَوْلِهِ: "أَبْصَرَهُمَا" وَفِيهِ وَجْهٌ
أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ. وَقِيلَ يُصَلِّي إلَى
الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ حَكَاهُ1.
الثَّالِثَةُ: إذَا عَرَفَ
الْأَعْمَى الْقِبْلَةَ بِاللَّمْسِ بِأَنْ
لَمَسَ الْمِحْرَابَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
يَجُوزُ اعْتِمَادُهُ الْمِحْرَابَ عَلَى مَا
سَبَقَ صَلَّى إلَيْهِ وَلَا إعَادَةَ وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
الرَّابِعَةُ: إذَا دَخَلَ
الْأَعْمَى وَالْجَاهِلُ الَّذِي هُوَ
كَالْأَعْمَى فِي الصَّلَاةِ بِالتَّقْلِيدِ
ثُمَّ أَبْصَرَ الْأَعْمَى أَوْ عَرَفَ
الْجَاهِلُ الْأَدِلَّةَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ
مَا يَعْتَمِدُهُ مِنْ مِحْرَابٍ أَوْ نَجْمٍ
أَوْ خَبَرٍ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا اسْتَمَرَّ
فِي صَلَاتِهِ وَلَا إعَادَةَ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَاجَ إلَى
الِاجْتِهَادِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
الْخَامِسَةُ: إذَا لَمْ
يَجِدْ مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ مَنْ
يُقَلِّدُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ
لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ
وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ
نَادِرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ
كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ الدَّلَائِلَ وَلَكِنْ
خَفِيَتْ عَلَيْهِ لِظُلْمَةٍ أَوْ غَيْمٍ
فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَمَنْ
خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ
كَالْأَعْمَى، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
وَلَا يَسَعُ بَصِيرٌ أَنْ يُقَلِّدَ
[غَيْرَهُ] فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا
يُقَلِّدُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ
الِاجْتِهَادُ وَقَوْلُهُ كَالْأَعْمَى
أَرَادَ بِهِ كَالْأَعْمَى فِي أَنَّهُ
يُصَلِّي وَيُعِيدُ لَا أَنَّهُ يُقَلِّدُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إنْ ضَاقَ
الْوَقْتُ قَلَّدَ، وَإِنْ اتَّسَعَ لَمْ
يُقَلِّدْ وَعَلَيْهِ يُؤَوَّلُ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ
وَغَيْرُهُ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَهُوَ الْأَصَحُّ أَحَدُهُمَا: يُقَلِّدُ
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ
خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ
كَالْأَعْمَى وَالثَّانِي: لَا يُقَلِّدُ؛
لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ
بِالِاجْتِهَادِ.
الشرح: إذَا خَفِيَتْ
الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ لِغَيْمٍ
أَوْ ظُلْمَةٍ أَوْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ
أَوْ غَيْرِهَا فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ
أَصَحُّهَا: فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا:
لَا يُقَلِّدُ ، وَالثَّانِي: يُقَلِّدُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي:
يُقَلِّدُ قَطْعًا
وَالثَّالِثُ: لَا يُقَلِّدُ
قَطْعًا
وَالرَّابِعُ: إنْ ضَاقَ
الْوَقْتُ قَلَّدَ وَإِلَّا فَلَا، وَذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ الْجَمِيعِ، فَإِنْ
قُلْنَا: لَا يُقَلِّدُ صَلَّى عَلَى حَسَبِ
حَالِهِ وَوَجَبَتْ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ
عُذْرٌ نَادِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يُقَلِّدُ
فَقَلَّدَ وَصَلَّى فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ
عَلَى الصَّحِيحِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ
فِي
الْبَسِيطِ وَغَيْرُهُمَا:
فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ
فِيمَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ لِعُذْرٍ
نَادِرٍ غَيْرِ دَائِمٍ، هَلْ يَلْزَمُهُ
الْقَضَاءُ؟ وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الطُّرُقَ جَارِيَةٌ سَوَاءٌ
ضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَا، هَكَذَا صَرَّحَ
بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذِهِ الطُّرُقُ إذَا
ضَاقَ الْوَقْتُ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ
قَبْلَ ضِيقِهِ قَطْعًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ
قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ مِنْ التَّيَمُّمِ
أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَالْمَذْهَبُ مَا
حَكَيْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا
فِي شِدَّةِ الْخَوْف وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ
فَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِبْلَةَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعله (بعض أصحابنا) على
الإبهام أو اسم سماه على التصريح والله أعلم
وقد وجدت في الروضة ما يفيد أنه كلام إمام
الحرمين جـ 1 ص18 طبعة المكتب الإسلامي
للأستاذ زهير الجاويش (ط).
ج / 3 ص -148-
إذَا اُضْطُرَّ إلَى تَرْكِهَا، يُصَلِّي
حَيْثُ أَمْكَنَهُ لقوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}
[البقرة:2] قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: "مُسْتَقْبِلِي
الْقِبْلَةَ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا"
وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ اُضْطُرَّ إلَى تَرْكِهِ
فَصَلَّى مَعَ تَرْكِهِ كَالْمَرِيضِ إذَا
عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ.
الشرح: هَذَا الَّذِي
نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، لَكِنْ
سِيَاقُهُ مُخَالِفٌ لِهَذَا، فَرَوَاهُ عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ
عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ
الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ
فَذَكَرَ صِفَتَهَا قَالَ: فَإِنْ كَانَ
خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا
رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ
رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ أَوْ
غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ: لَا
أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم هَذَا لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ. قَالَ أَبُو
الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ رحمه الله فِي
تَفْسِيرِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ - أَيْ:
عَدُوًّا - قَالَ: وَالرِّجَالُ جَمْعُ
رَاجِلٍ كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَهُوَ
الْكَائِنُ عَلَى رِجْلِهِ مَاشِيًا كَانَ
أَوْ وَاقِفًا، قَالَ: وَجَمْعُهُ رَجْلٌ
وَرَجَّالَةٌ وَرِجَالَةٌ وَرُجَّالٌ
وَرِجَالٌ، وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ
كَفَارِسٍ وَفُرْسَانٍ، قَالَ: وَمَعْنَى
الْآيَةِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ
تُصَلُّوا قَائِمِينَ مُوفِينَ لِلصَّلَاةِ
حُقُوقَهَا فَصَلُّوا مُشَاةً وَرُكْبَانًا،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيكُمْ، قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا فِي حَالَةِ
الْمُسَايَفَةِ1 وَالْمُطَارَدَةِ. قَالَ
ابْنُ عُمَرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:
مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرُ
مُسْتَقْبِلِيهَا هَذَا آخِرُ كَلَامِ
الْوَاحِدِيِّ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ كَلَامَ
ابْنِ عُمَرَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ وَهُوَ
ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، وَالصَّوَابُ
أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ،
بَلْ هُوَ بَيَانُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ
صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا
نَقَلْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَيَجُوزُ فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ
الصَّلَاةُ إلَى أَيِّ جِهَةٍ أَمْكَنَهُ،
وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ،
وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي بَابِ صَلَاةِ
الْخَوْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ
اُضْطُرَّ إلَى تَرْكِهِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ:
فَرْضٌ أَنَّهُ شَرْطٌ فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ
الْقِبْلَةِ شَرْطٌ. وَلَيْسَ مُرَادُهُ
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ،
فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا لَمْ
تَدْخُلْ فِيهِ صَلَاةُ النَّافِلَةِ
فَإِنَّهُ يَسْتَبِيحُهَا فِي شِدَّةِ
الْخَوْفِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
كَالْفَرِيضَةِ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ.
قَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي: وَلَوْ أَمْكَنَهُ
أَنْ يُصَلِّيَ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ
قَائِمًا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ
رَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى رَاكِبًا
إلَى الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَائِمًا؛
لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ آكَدُ مِنْ
الْقِيَامِ، وَلِهَذَا سَقَطَ الْقِيَامُ فِي
النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ بِلَا عُذْرٍ،
وَلَمْ يَسْقُطْ الِاسْتِقْبَالُ بِلَا
عُذْرٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَأَمَّا
النَّافِلَةُ فَيُنْظَرُ فِيهَا فَإِنْ كَانَ
فِي السَّفَرِ وَهُوَ عَلَى دَابَّتِهِ
نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَدُورَ عَلَى ظَهْرِهَا كَالْعُمَارِيَّةِ
وَالْمَحْمِلِ الْوَاسِعِ لَزِمَهُ أَنْ
يَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهَا
كَالسَّفِينَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ
ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الْقِبْلَةَ
وَيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حَيْثُ تَوَجَّهَ لِمَا
رَوَى عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما
قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ
فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ" وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ
أُجِيزَ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ عَنْ السَّيْرِ
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْقَصِيرِ
وَالطَّوِيلِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسابقة المفاعلة وهو المبارزة بالسيوف
والمقاومة بها (ط).
ج / 3 ص -149-
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ
جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُهُ
وَنَحْوُهُ ، وَالْمَحْمِلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ
الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ:
بِكَسْرِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ
لُغَتَانِ ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي
التَّهْذِيبِ ،
وَالْعُمَارِيَّةُ ضَبَطَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ
الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي
أَلْفَاظِ الْمُهَذَّبِ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ
وَالْيَاءِ ، وَضَبَطَهَا غَيْرُهُمْ
بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَجْوَدُ ،
وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا فِي
التَّهْذِيبِ وَهُوَ مَرْكَبٌ
صَغِيرٌ عَلَى هَيْئَةِ مَهْدِ الصَّبِيِّ
أَوْ قَرِيبٍ مِنْ صُورَتِهِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَإِذَا أَرَادَ الرَّاكِبُ فِي السَّفَرِ
نَافِلَةً نُظِرَ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَدُورَ
عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَيَسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي مَحْمِلٍ أَوْ
عُمَارِيَّةٍ أَوْ هَوْدَجٍ وَنَحْوِهَا
فَفِيهِ طَرِيقَانِ "الْمَذْهَبُ"1 أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ
وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا
يَجْزِيهِ الْإِيمَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ
مِنْهَا، فَأَشْبَهَ رَاكِبَ السَّفِينَةِ،
وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ:
وَالثَّانِي: عَلَى
وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي:
يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْقِبْلَةِ
وَالْإِيمَاءُ بِالْأَرْكَانِ كَالرَّاكِبِ
عَلَى سَرْجٍ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فِي
ذَلِكَ بِخِلَافِ السَّفِينَةِ. وَمِمَّنْ
ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ صَاحِبُ
الْحَاوِي وَالدَّارِمِيُّ
وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ الْجَوَازَ عَنْ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّابَّةُ مَقْطُورَةً أَوْ
مُفْرَدَةً يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ أَمَّا
الرَّاكِبُ فِي سَفِينَةٍ فَيَلْزَمُهُ
الِاسْتِقْبَالُ وَإِتْمَامُ الْأَرْكَانِ
سَوَاءٌ كَانَتْ وَاقِعَةً أَوْ سَائِرَةً؛
لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
هَذَا فِي حَقِّ رُكَّابِهَا الْأَجَانِبِ
أَمَّا مَلَّاحُهَا الَّذِي يُسَيِّرُهَا
فَقَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي وَأَبُو
الْمَكَارِمِ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْقِبْلَةِ
فِي نَوَافِلِهِ فِي حَالِ تَسْيِيرِهِ. قَالَ
صَاحِبُ
الْحَاوِي: لِأَنَّهُ إذَا
جَازَ لِلْمَاشِي تَرْكُ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا
يَنْقَطِعَ عَنْ سَيْرِهِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ
لِلْمَلَّاحِ الَّذِي يَنْقَطِعُ هُوَ
وَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَأَمَّا رَاكِبُ
الدَّابَّةِ مِنْ بَعِيرٍ وَفَرَسٍ وَحِمَارٍ
وَغَيْرِهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ
يَدُورَ عَلَى ظَهْرِهَا بِأَنْ رَكِبَ عَلَى
سَرْجٍ وَقَتَبٍ وَنَحْوِهِمَا فَلَهُ أَنْ
يَتَنَقَّلَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَ
لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ
يَجُزْ التَّنَفُّلُ فِي السَّفَرِ إلَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ لَانْقَطَعَ بَعْضُ
النَّاسِ عَنْ أَسْفَارِهِمْ لِرَغْبَتِهِمْ
فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ،
وَانْقَطَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ التَّنَفُّلِ
لِرَغْبَتِهِمْ فِي السَّفَرِ وَحَكَى
الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ الْقَفَّالِ أَنَّهُ
سَأَلَ الشَّيْخَ أَبَا زَيْدٍ فَعَلَّلَ
بِالْعِلَّةِ الْأُولَى ، وَسَأَلَ الشَّيْخَ
أَبَا عَبْدِ الله الْخُضَرِيَّ فَعَلَّلَ
بِالثَّانِيَةِ، وَالتَّعْلِيلُ الَّذِي
ذَكَرْتُهُ أَحْسَنُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ
الْغَزَالِيِّ فِي
الْبَسِيطِ: لِكَيْ لَا
يَنْقَطِعَ الْمُتَعَبِّدُ عَنْ السَّفَرِ
وَالْمُسَافِرُ عَنْ التَّنَفُّلِ، وَهَذَا
التَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ
اسْتِقْبَالٍ جَائِزٌ فِي السَّفَرِ
الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ نَصَّ
عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ
وَالْمُخْتَصَرِ .
وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ: وَقَدْ قِيلَ لَا
يَتَنَفَّلُ أَحَدٌ عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ
إلَّا فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ،
فَجَعَلَ الْخُرَاسَانِيُّونَ ذَلِكَ قَوْلًا
آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ فَجَعَلُوا فِي
الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدَهُمَا:
يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّهُمَا لَا
يَخْتَصُّ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما اصطلح عليه أئمة الشافعية أن القول هو
ما كان للشافعي والوجه ما كان لبعض هو الراجح
من الأقوال ، وأن الأصح هو الراجح من الأوجه ،
وإن اختلاف الأصحاب في الأقوال يسمى الطريق
وأن الراجح من الطريق اسمه المذهب (ط).
ج / 3 ص -150-
الْخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي
الْقَصِيرِ. قَالُوا وَقَوْلُهُ فِي
الْبُوَيْطِيِّ حِكَايَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ
لَا قَوْلَ لَهُ، وَعِبَارَتُهُ ظَاهِرَةٌ فِي
الْحِكَايَةِ ، فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ
طَرِيقَانِ، الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي
الْقَصِيرِ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ،
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ
وَالْفَطْرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ
ثَلَاثًا بِأَنَّ تِلْكَ الرُّخَصَ
تَتَعَلَّقُ بِالْفَرْضِ فَاحْتَطْنَا لَهُ
بِاشْتِرَاطِ طَوِيلِ السَّفَرِ،
وَالتَّنَفُّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ،
وَلِهَذَا جَازَ قَاعِدًا فِي الْحَضَرِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَالله
أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ
يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ وَاقِفًا نُظِرَتْ
فَإِنْ كَانَ فِي قِطَارٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يُدِيرَ الدَّابَّةَ إلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى
حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا
لَزِمَهُ أَنْ يُدِيرَ رَأْسَهُ إلَى
الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا -
فَإِنْ كَانَ فِي قِطَارٍ أَوْ مُنْفَرِدًا
وَالدَّابَّةُ حَرُونٌ يَصْعُبُ عَلَيْهِ
إدَارَتُهَا - صَلَّى حَيْثُ تَوَجَّهَ،
وَإِنْ كَانَ سَهْلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُدِيرَ
رَأْسَهَا إلَى الْقِبْلَةِ فِي حَالِ
الْإِحْرَامِ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَافَرَ فَأَرَادَ
أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ
الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ1
وَجْهَهُ رِكَابُهُ" (وَالْمَذْهَبُ2) أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ
إدَارَةُ الْبَهِيمَةِ فِي حَالِ السَّيْرِ.
الشَّرْحُ: حَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ
أَنَّ الْمُتَنَفِّلَ الرَّاكِبَ فِي
السَّفَرِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ وَالِاسْتِقْبَالُ فِي جَمِيعِ
صَلَاتِهِ بِأَنْ كَانَ عَلَى سَرْجٍ وَقَتَبٍ
وَنَحْوِهِمَا فَفِي وُجُوبِ اسْتِقْبَالِهِ
الْقِبْلَةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ أَرْبَعَةُ
أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا إنْ سَهُلَ وَجَبَ
وَإِلَّا فَلَا، فَالسَّهْلُ أَنْ تَكُونَ
الدَّابَّةُ وَاقِعَةً وَأَمْكَنَ
انْحِرَافُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْرِيفُهَا،
أَوْ كَانَتْ سَائِرَةً وَبِيَدِهِ زِمَامُهَا
فَهِيَ سَهْلَةٌ. وَغَيْرُ السَّهْلَةِ أَنْ
تَكُونَ مُقَطِّرَةً أَوْ صَعْبَةً،
وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ
الِاسْتِقْبَالُ مُطْلَقًا، وَصَحَّحَهُ
الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ
وَالثَّالِثُ: يَجِبُ
مُطْلَقًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ تَصِحَّ
صَلَاتُهُ،
وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَتْ
الدَّابَّةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
مُتَوَجِّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ
طَرِيقِهِ أَحْرَمَ كَمَا هُوَ، وَإِنْ
كَانَتْ إلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَصِحَّ
الْإِحْرَامُ إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ
رحمه الله فِي مَوْضِعٍ عَلَى وُجُوبِ
الِاسْتِقْبَالِ وَفِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا
يَجِبُ، فَقِيلَ قَوْلَانِ، وَقِيلَ حَالَانِ،
وَيُفَرَّقُ بَيْنَ السَّهْلِ وَغَيْرِهِ،
وَالِاعْتِبَارُ فِي الِاسْتِقْبَالِ
بِالرَّاكِبِ دُونَ الدَّابَّةِ، فَلَوْ
اسْتَقْبَلَ هُوَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
وَالدَّابَّةُ مُنْحَرِفَةٌ أَوْ
مُسْتَدِيرَةٌ أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ،
وَعَكْسُهُ لَا يَصِحُّ إذَا شَرَطْنَا
الِاسْتِقْبَالَ، وَإِذَا لَمْ نَشْتَرِطْ
الِاسْتِقْبَالَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَعِنْدَ
السَّلَامِ أَوْلَى، وَإِنْ شَرَطْنَاهُ
عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَفِي اشْتِرَاطِهِ
عِنْدَ السَّلَامِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ،
أَصَحُّهُمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَلَا
يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ
وَالسَّلَامِ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ
يُشْتَرَطُ لُزُومُ جِهَةِ الْمَقْصِدِ فِي
جَمِيعِهَا، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا وَأَمَّا مَا
وَقَعَ فِي التَّنْبِيهِ وَتَعْلِيقِ
الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ مِنْ اشْتِرَاطِ
الِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ فَبَاطِلٌ لَا يُعْرَفُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني صلى حيث توجهت به (ط).
2 قول الشارح (المذهب) غير موافق لما اصطلح
عليه المتأخرون من أصحابنا حيث قيدوا المذهب
بالراجح من الطريق (والأصح) هو الراجح من
الأوجه والأظهر هو الراجح من الأقوال (ط).
ج / 3 ص -151-
وَلَا
أَصْلَ لَهُ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ عَلَيْهِ وَضْعُ
الْجَبْهَةِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ عَلَى
السَّرْجِ وَالْإِكَافِ وَلَا عُرْفِ
الدَّابَّةِ وَلَا الْمَتَاعِ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَ جَازَ، وَإِنَّمَا
عَلَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنْ
يَنْحَنِيَ إلَى جِهَةِ مَقْصِدِهِ، وَيَكُونُ
السُّجُودُ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ. قَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا
عِنْدَ التَّمَكُّنِ مَحْتُومٌ، وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَ
غَايَةَ وُسْعِهِ فِي الِانْحِنَاءِ، وَأَمَّا
بَاقِي الْأَرْكَانِ فَكَيْفِيَّتُهَا
ظَاهِرَةٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ مُتَوَجِّهًا إلَى
مَقْصِدِهِ فَعَدَلَتْ إلَى جِهَةٍ نُظِرَتْ
فَإِنْ كَانَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ جَازَ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي فَرْضِهِ جِهَةُ
الْقِبْلَةِ، فَإِذَا عَدَلَتْ إلَيْهِ فَقَدْ
أُتِيَ بِالْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
جِهَةَ الْقِبْلَةِ - فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
بِاخْتِيَارِهِ مَعَ الْعِلْمِ - بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْقِبْلَةَ
لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ نَسِيَ أَنَّهُ فِي
الصَّلَاةِ أَوْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُ
بَلَدِهِ أَوْ غَلَبَتْهُ الدَّابَّةُ لَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَإِذَا عَلِمَ رَجَعَ
إلَى جِهَةِ الْمَقْصِدِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ
رحمه الله وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
الشرح: يَنْبَغِي
لِلْمُتَنَفِّلِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا أَنْ
يَلْزَمَ جِهَةَ مَقْصِدِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ
سُلُوكُ نَفْسِ الطَّرِيقِ، بَلْ الشَّرْطُ
جِهَةُ الْمَقْصِدِ، فَلَوْ انْحَرَفَ
الْمُتَنَفِّلُ مَاشِيًا أَوْ حَرَفَ
الرَّاكِبُ دَابَّتَهُ أَوْ انْحَرَفَتْ
نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ الِانْحِرَافُ
وَالتَّحْرِيفُ فِي طَرِيقِ مَقْصِدِهِ
وَجِهَاتِهِ وَمَعَاطِفِهِ لَمْ يُؤْثِرْ
ذَلِكَ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ
وَإِنْ طَالَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ
جُمْلَةِ مَقْصِدِهِ وَمُوصِلٌ إلَيْهِ وَلَا
بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ طَالَ هَذَا
التَّحْرِيفُ وَكَثُرَ أَمْ لَا لِمَا
ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيفُ
وَالِانْحِرَافُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَمْ
يُؤَثِّرْ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا
الْأَصْلُ، وَإِنْ كَانَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ
الْمَقْصِدِ وَهُوَ عَامِدٌ مُخْتَارٌ عَالِمٌ
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ
كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ظَنَّ أَنَّهَا
جِهَةُ مَقْصِدِهِ، فَإِنْ عَادَ عَلَى قُرْبٍ
لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ طَالَ فَفِي
بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ تَبْطُلُ
كَكَلَامِ النَّاسِي لَا تَبْطُلُ بِقَلِيلِهِ
وَتَبْطُلُ بِكَثِيرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ،
وَبِهَذَا قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ
وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِي:
لَا تَبْطُلُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَآخَرُونَ.
وَإِنْ غَلَبَتْهُ الدَّابَّةُ فَانْحَرَفَ
بِجِمَاحِهَا وَطَالَ الزَّمَانُ فَفِي
بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ.
الصَّحِيحُ: تَبْطُلُ كَمَا
لَوْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ
فَأَمَالَهُ إنْسَانٌ قَهْرًا؛ لِأَنَّهُ
نَادِرٌ
وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ.
وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَإِنْ
قَصُرَ الزَّمَانُ فَطَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ
كَالطَّوِيلِ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي
الْوَجِيزِ وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي
الْوَسِيطِ قَالَ
الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ نَرَ هَذَا
الْخِلَافَ لِغَيْرِهِ: وَالثَّانِي: وَهُوَ
الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ: لَا تَبْطُلُ قَطْعًا
لِعُمُومِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ إذَا لَمْ
تَبْطُلْ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ فَإِنْ
طَالَ الزَّمَانُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَإِنْ
قَصُرَ فَوَجْهَانِ
الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ لَا
يَسْجُدُ وَفِي صُورَةِ الْجِمَاحِ أَوْجُهٌ
أَصَحُّهَا يَسْجُدُ. وَالثَّانِي: لَا.
وَالثَّالِثُ: إنْ طَالَ سَجَدَ، وَإِلَّا
فَلَا. وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى
الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّفَلَ
يَدْخُلُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَفِيهِ قَوْلٌ
غَرِيبٌ سَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا
يَدْخُلُهُ.
فرع: إذَا انْحَرَفَ
الْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ فَرْضًا أَوْ
نَفْلًا عَنْ الْقِبْلَةِ نُظِرَ - إنْ
اسْتَدْبَرَهَا أَوْ تَحَوَّلَ إلَى جِهَةٍ
أُخْرَى عَمْدًا - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ
فَعَلَهُ نَاسِيًا وَعَادَ إلَى
الِاسْتِقْبَالِ عَلَى قُرْبٍ لَمْ تَبْطُلْ،
وَإِنْ عَادَ
ج / 3 ص -152-
بَعْدَ
طُولِ الْفَصْلِ بَطَلَتْ عَلَى أَصَحِّ
الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي
كَلَامِ النَّاسِي إذَا كَثُرَ، وَلَوْ
أَمَالَهُ غَيْرُهُ عَنْ الْقِبْلَةِ قَهْرًا
فَعَادَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ بَعْدَ طُولِ
الْفَصْلِ بَطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ
عَادَ عَلَى قُرْبٍ فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا
تَبْطُلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ، كَمَا
لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ فَإِنَّهَا
تَبْطُلُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
كَانَ الْمُسَافِرُ مَاشِيًا جَازَ أَنْ
يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ حَيْثُ تَوَجَّهَ
[كَالرَّاكِبِ]؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ أُجِيزَ
لَهُ تَرْكُ الْقِبْلَةِ حَتَّى لَا يَقْطَعَ
الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَهَذَا الْمَعْنَى
مَوْجُودٌ فِي الْمَاشِي غَيْرَ أَنَّهُ
يَلْزَمُ الْمَاشِي أَنْ يُحْرِمَ وَيَرْكَعَ
وَيَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقَطِعَ عَنْ السَّيْرِ.
الشرح: يَجُوزُ
لِلْمَاشِي فِي السَّفَرِ التَّنَفُّلُ بِلَا
خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَفِي
لُبْثِهِ فِي الْأَرْكَانِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ حَكَاهَا الْخُرَاسَانِيُّونَ
أَصَحُّهَا وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ: يُشْتَرَطُ أَنْ
يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَهُ
التَّشَهُّدُ مَاشِيًا، كَمَا أَنَّ لَهُ
الْقِيَامَ مَاشِيًا.
وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ
التَّشَهُّدُ أَيْضًا قَاعِدًا وَلَا يَمْشِي
إلَّا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ.
وَالثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ
اللُّبْثُ فِي الْأَرْضِ فِي شَيْءٍ مِنْ
صَلَاتِهِ وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَهُوَ ذَاهِبٌ فِي جِهَةِ
مَقْصِدِهِ كَالرَّاكِبِ. وَأَمَّا
اسْتِقْبَالُهُ فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ
الثَّانِي وَجَبَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَفِي
جَمِيعِ الصَّلَاةِ غَيْرَ الْقِيَامِ. وَإِنْ
قُلْنَا بِالْأَوَّلِ اسْتَقْبَلَ فِي
الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا
يَجِبُ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى أَصَحِّ
الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّالِثِ:
لَمْ يُشْتَرَطْ الِاسْتِقْبَالُ فِي غَيْرِ
حَالَتَيْ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ،
وَحُكْمُهُ فِيهِمَا حُكْمُ رَاكِبٍ بِيَدِهِ
زِمَامُ دَابَّتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ
الْأَصَحُّ وُجُوبَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
دُونَ السَّلَامِ، وَحَيْثُ لَمْ نُوجِبْ
اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ يُشْتَرَطُ
مُلَازَمَةُ جِهَةِ الْمَقْصِدِ كَمَا سَبَقَ
فِي الرَّاكِبِ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا جَوَازُ
صَلَاةِ الْمُسَافِرِ النَّافِلَةَ مَاشِيًا.
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد وَمَنَعَهَا
أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
دَخَلَ الرَّاكِبُ أَوْ الْمَاشِي إلَى
الْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ أَتَمَّ صَلَاتَهُ إلَى
الْقِبْلَةِ، وَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا فِي
طَرِيقِهِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ
تَوَجَّهَ مَا لَمْ يَقْطَعْ السَّيْرَ؛
لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى السَّيْرِ
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا رحمهم الله: يُشْتَرَطُ
لِجَوَازِ التَّنَفُّلِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا
دَوَامُ السَّفَرِ وَالسَّيْرِ، فَلَوْ بَلَغَ
الْمَنْزِلَ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ اُشْتُرِطَ
إتْمَامُهَا إلَى الْقِبْلَةِ مُتَمَكِّنًا
وَيَنْزِلُ وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا، وَيُتِمُّ
الْأَرْكَانَ، وَلَوْ دَخَلَ وَطَنَهُ
وَمَحَلَّ إقَامَتِهِ أَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ
الَّذِي يَقْصِدُهُ فِي خِلَالِهَا اُشْتُرِطَ
النُّزُولُ، وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ
بِأَرْكَانِهَا مُسْتَقْبِلًا بِأَوَّلِ
دُخُولِهِ الْبُنْيَانَ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا
لِلْمُقِيمِ التَّنَفُّلَ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِقَرْيَةٍ فِي
أَثْنَاءِ طَرِيقِهِ صَارَتْ كَمَقْصِدِهِ
وَوَطَنِهِ وَلَوْ مَرَّ بِقَرْيَةٍ
مُجْتَازًا فَلَهُ إتْمَامُ الصَّلَاةِ
رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا حَيْثُ تَوَجَّهَ فِي
مَقْصِدِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ
وَلَيْسَتْ وَطَنَهُ فَهَلْ يَصِيرُ مُقِيمًا
بِدُخُولِهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ يَجْرِيَانِ
فِي التَّنَفُّلِ وَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ
وَسَائِرِ الرُّخَصِ، أَصَحُّهُمَا: لَا
يَصِيرُ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ بِهَا أَهْلٌ، وَالثَّانِي: يَصِيرُ
فَيُشْتَرَطُ النُّزُولُ وَإِتْمَامُهَا
مُسْتَقْبِلًا، وَحَيْثُ أَمَرْنَاهُ
بِالنُّزُولِ فَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ
الدَّابَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ مُسْتَقْبِلًا
فَلَوْ أَمْكَنَ الِاسْتِقْبَالُ وَإِتْمَامُ
الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ وَهِيَ وَاقِفَةٌ
جَازَ، وَإِذَا نَزَلَ وَبَنَى ثُمَّ أَرَادَ
ج / 3 ص -153-
الرُّكُوبَ وَالسَّفَرَ فَلِيُتِمَّهَا
وَيُسَلِّمَ مِنْهَا، ثُمَّ يَرْكَبَ فَإِذَا
رَكِبَ فِي أَثْنَائِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ،
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَعِنْدَ
الْمُزَنِيِّ لَا تَبْطُلُ كَمَا لَا تَبْطُلُ
بِالنُّزُولِ، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ.
قَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي: الْمُصَلِّي
سَائِرًا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُ
الْعُدُولُ إلَى الْقِبْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ
مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: إذَا دَخَلَ
بَلْدَتَهُ أَوْ مَقْصِدَهُ فَيَلْزَمُهُ
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ
صَلَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ.
الثَّانِي: إذَا نَوَى
الْإِقَامَةَ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ
فِيمَا بَقِيَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ
بَطَلَتْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَصِلَ
الْمَنْزِلَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا
عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ فَقَدْ انْقَطَعَ
سَيْرُهُ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فَإِنْ
تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقِفَ عَنْ
السَّيْرِ بِغَيْرِ نُزُولٍ لِاسْتِرَاحَةٍ
أَوْ انْتِظَارِ رَفِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ فِيمَا بَقِيَ،
فَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ
سَارَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ
وَقَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ لِسَيْرِ الْقَافِلَةِ جَازَ أَنْ
يُتِمَّهَا إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ
عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي تَأَخُّرِهِ عَنْ
الْقَافِلَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرِيدُ
لِإِحْدَاثِ السَّيْرِ اُشْتُرِطَ أَنْ
يُتِمَّهَا قَبْلَ رُكُوبِهِ ؛ لِأَنَّهُ
بِالْوُقُوفِ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ فِي
هَذِهِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ
كَالنَّازِلِ إذَا ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ إلَى
الْقِبْلَةِ ثُمَّ رَكِبَ سَائِرًا لَمْ
يَجُزْ أَنْ يُتِمَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إلَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ
عَلَى أَنَّهُ إذَا ابْتَدَأَ النَّافِلَةَ
عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمَّهَا
عَلَى الدَّابَّةِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ
وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه
الله.
فرع: لَوْ دَخَلَ بَلَدًا فِي
أَثْنَاءِ طَرِيقِهِ، وَلَمْ يَنْوِ
الْإِقَامَةَ لَكِنْ وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ
لِانْتِظَارِ شُغْلٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ فِي
النَّافِلَةِ فَلَهُ إتْمَامُهَا
بِالْإِيمَاءِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي جَمِيعِهَا مَا
دَامَ وَاقِفًا، صَرَّحَ بِهِ
الصَّيْدَلَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَ
[أَمَّا] إذَا كَانَتْ النَّافِلَةُ فِي
الْحَضَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا إلَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
رُخِّصَ فِي السَّفَرِ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ1
عَنْ التَّطَوُّعِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي
الْحَضَرِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ
الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْحَضَرِ اللُّبْثُ
وَالْمَقَامُ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ [فِي
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ].
الشرح: فِي تَنَفُّلِ
الْحَاضِرِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ
الصَّحِيحُ:
الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ
أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ: لَا يَجُوزُ
لِلْمَاشِي وَلَا لِلرَّاكِبِ، بَلْ
لِنَافِلَتِهِ حُكْمُ الْفَرِيضَةِ فِي كُلِّ
شَيْءٍ غَيْرَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
التَّنَفُّلُ قَاعِدًا
وَالثَّانِي: قَالَهُ أَبُو
سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَجُوزُ لَهُمَا،
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مُحْتَسِبَ
بَغْدَادَ وَيَطُوفُ فِي السِّكَكِ وَهُوَ
يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ:
وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (حتى لا ينقطع الركوع) وكذلك ما
بين المعقوفين ليس فيهما (ط).
ج / 3 ص -154-
لِلرَّاكِبِ دُونَ الْمَاشِي حَكَاهُ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ مَسْجِدًا بِخِلَافِ
الرَّاكِبِ وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ بِشَرْطِ
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي كُلِّ
الصَّلَاةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا
اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ.
فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ.
إحْدَاهَا: شَرْطُ
جَوَازِ التَّنَفُّلِ فِي السَّفَرِ مَاشِيًا
وَرَاكِبًا أَنْ لَا يَكُونَ سَفَرَ
مَعْصِيَةٍ، وَكَذَا جَمِيعُ رُخَصِ السَّفَرِ
شَرْطُهَا أَنْ لَا يَكُونَ سَفَرَ
مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي
بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ وَسَنَبْسُطُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ صَلَاةِ
الْمُسَافِرِ.
الثَّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ
أَنْ يَكُونَ مَا يُلَاقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي
عَلَى الرَّاحِلَةِ وَثِيَابِهِ مِنْ
السَّرْجِ وَالْمَتَاعِ وَاللِّجَامِ
وَغَيْرِهَا طَاهِرًا، وَلَوْ بَالَتْ
الدَّابَّةُ أَوْ وَطِئَتْ نَجَاسَةً أَوْ
كَانَ عَلَى السَّرْجِ نَجَاسَةٌ فَسَتَرَهَا
وَصَلَّى عَلَيْهِ لَمْ يَضُرَّ، وَلَوْ
أَوْطَأَهَا الرَّاكِبُ نَجَاسَةً لَمْ
يَضُرَّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ
النَّجَاسَةَ وَلَا حَمَلَ مَا يُلَاقِيهَا،
وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ
وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ. قَالَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي: وَلَوْ دَمِيَ فَمُ
الدَّابَّةِ وَفِي يَدِهِ لِجَامُهَا فَهُوَ
كَمَا لَوْ صَلَّى وَفِي يَدِهِ حَبْلٌ
طَاهِرٌ طَرَفُهُ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُهُ، وَلَوْ وَطِئَ
الْمُتَنَفِّلُ مَاشِيًا عَلَى نَجَاسَةٍ
عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا:
وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَتَحَفَّظَ
وَيَتَصَوَّنَ وَيَحْتَاطَ فِي الْمَشْيِ ؛
لِأَنَّ الطَّرِيقَ يَغْلِبُ فِيهَا
النَّجَاسَةُ، وَالتَّصَوُّنُ مِنْهَا عَسِرٌ
فَمُرَاعَاتُهُ تَقْطَعُ الْمُسَافِرَ عَنْ
أَغْرَاضِهِ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
وَلَوْ انْتَهَى إلَى نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ لَا
يَجِدُ عَنْهَا مَعْدِلًا فَهَذَا فِيهِ
احْتِمَالٌ، قَالَ: وَلَا شَكَّ لَوْ كَانَتْ
رَطْبَةً فَمَشَى عَلَيْهَا بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ؛
لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَامِلَ نَجَاسَةٍ.
الثَّالِثَةُ: يُشْتَرَطُ
تَرْكُ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ
إلَيْهَا فَإِنْ رَكَضَ1 الدَّابَّةَ
لِلْحَاجَةِ فَلَا بَأْسَ، وَكَذَا لَوْ
ضَرَبَهَا أَوْ حَرَّكَ رِجْلَهُ لِتَسِيرَ
فَلَا بَأْسَ إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ، قَالَ
الْمُتَوَلِّي فَإِنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ
حَاجَةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ
قَلِيلًا، فَإِنْ كَثُرَ بَطَلَتْ، وَلَوْ
أَجْرَاهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ كَانَ
مَاشِيًا فَعَدَا بِلَا عُذْرٍ، قَالَ
الْبَغَوِيّ: بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى
أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ
الْمُسَافِرُ رَاكِبَ تَعَاسِيفَ وَهُوَ
الْهَائِمُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ تَارَةً
وَيَسْتَدْبِرُ تَارَةً، وَلَيْسَ لَهُ
مَقْصِدٌ مَعْلُومٌ فَلَيْسَ لَهُ
التَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَا
مَاشِيًا، كَمَا لَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ وَلَا
التَّرَخُّصُ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ،
فَلَوْ كَانَ لَهُ مَقْصِدٌ مَعْلُومٌ لَكِنْ
لَمْ يَسِرْ إلَيْهِ فِي طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ
فَهَلْ لَهُ التَّنَفُّلُ مُسْتَقْبِلًا
جِهَةَ مَقْصِدِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ
حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ
أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ ؛
لِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا مَعْلُومًا:
وَالثَّانِي: لَا ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقًا مَضْبُوطًا
فَقَدْ لَا يُؤَدِّي سَيْرُهُ إلَى
مَقْصِدِهِ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ
التَّتِمَّةِ: إذَا كَانَ
مُتَوَجِّهًا إلَى مَقْصِدٍ مَعْلُومٍ
فَتَغَيَّرَتْ نِيَّتُهُ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ فَنَوَى السَّفَرَ إلَى غَيْرِهِ
أَوْ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ فَلْيَصْرِفْ
وَجْهَ دَابَّتِهِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ فِي
الْحَالِ، وَيَسْتَمِرَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ركض الدابة حثها على السير بتحريك، لأن ركض
من معانيها دفع، وركض يتعدى ويلزم فيقال ركض
الرجل وركضت الفرس كما يقال ركضت هذا (ط).
ج / 3 ص -155-
عَلَى
صَلَاتِهِ وَتَصِيرُ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ
قِبْلَتَهُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ.
السَّادِسَةُ: لَوْ كَانَ
ظَهْرُهُ فِي طَرِيقِ مَقْصِدِهِ إلَى
الْقِبْلَةِ فَرَكِبَ الدَّابَّةَ مَقْلُوبًا
وَجَعَلَ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ
فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ
التَّتِمَّةِ: أَحَدُهُمَا:
لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ طَرِيقُهُ.
وَأَصَحُّهُمَا: تَصِحُّ؛
لِأَنَّهَا إذَا صَحَّتْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ
فَلَهَا أَوْلَى.
السَّابِعَةُ: حَيْثُ جَازَتْ
النَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَمَاشِيًا
فَجَمِيعُ النَّوَافِلِ سَوَاءٌ فِي
الْجَوَازِ، وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ
وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعِيدُ
وَالْكُسُوفُ وَالِاسْتِسْقَاءُ لِشَبَهِهَا
بِالْفَرَائِضِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَبِهَذَا
الْوَجْهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ
الْأَكْثَرُونَ، وَلَوْ سَجَدَ لِشُكْرٍ أَوْ
تِلَاوَةٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ
عَلَى الرَّاحِلَةِ فَفِي صِحَّتِهِ
الْخِلَافُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّهُ
نَادِرٌ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ فَأَمَّا
رَكْعَتَا الطَّوَافِ - فَإِنْ قُلْنَا: هُمَا
سُنَّةٌ - جَازَتْ عَلَى الرِّحْلَةِ، وَإِنْ
قُلْنَا: وَاجِبَةٌ فَلَا، وَلَا تَصِحُّ
الْمَنْذُورَةُ وَلَا الْجِنَازَةُ مَاشِيًا
وَلَا عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ
فِيهَا وَفِيهِمَا خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَابِ
التَّيَمُّمِ.
الثَّامِنَةُ: شَرْطُ
الْفَرِيضَةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَكُونَ
مُصَلِّيًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
مُسْتَقِرًّا فِي جَمِيعِهَا فَلَا تَصِحُّ
إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ
الْخَوْفِ وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْمَاشِي
الْمُسْتَقْبِلِ وَلَا مِنْ الرَّاكِبِ
الْمُخِلِّ بِقِيَامٍ أَوْ اسْتِقْبَالٍ بِلَا
خِلَافٍ، فَلَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ
وَأَتَمَّ الْأَرْكَانَ فِي هَوْدَجٍ أَوْ
سَرِيرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا عَلَى ظَهْرِ
دَابَّةٍ وَاقِفَةٍ فَفِي صِحَّةِ فَرِيضَتِهِ
وَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: تَصِحُّ،
وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَأَصْحَابُ
التَّتِمَّةِ وَالتَّهْذِيبِ
وَالْمُعْتَمَدِ وَالْبَحْرِ
وَآخَرُونَ ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ
الْأَصْحَابِ ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّفِينَةِ
وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ
وَبِهِ قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فَإِنْ كَانَتْ
الدَّابَّةُ سَائِرَةً وَالصُّورَةُ كَمَا
ذَكَرْنَا فَوَجْهَانِ ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّيْخُ
إبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُمْ
الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ:
لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ
قَرَارًا
وَالثَّانِي: تَصِحُّ
كَالسَّفِينَةِ, وَتَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي
السَّفِينَةِ الْوَاقِفَةِ وَالْجَارِيَةِ
وَالزَّوْرَقِ الْمَشْدُودِ بِطَرَفِ
السَّاحِلِ بِلَا خِلَافٍ إذَا اسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ وَأَتَمَّ الْأَرْكَانَ، فَإِنْ
صَلَّى كَذَلِكَ فِي سَرِيرٍ يَحْمِلُهُ
رِجَالٌ أَوْ أُرْجُوحَةٍ مَشْدُودَةٍ
بِالْحِبَالِ أَوْ الزَّوْرَقِ الْجَارِي فِي
حَقِّ الْمُقِيمِ بِبَغْدَادَ وَنَحْوِهِ
فَفِي صِحَّةِ فَرِيضَتِهِ وَجْهَانِ ،
الْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ كَالسَّفِينَةِ،
وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فَقَالَ فِي بَابِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ
كَانَ يُصَلِّي عَلَى سَرِيرٍ فَحَمَلَهُ
رِجَالٌ وَسَارُوا بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
إذَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ فِي السَّفِينَةِ
لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُ الْقِيَامِ مَعَ
الْقُدْرَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْبَرِّ
، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إذَا كَانَتْ
سَائِرَةً ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ
لَهُ عُذْرٌ مِنْ دَوَرَانِ الرَّأْسِ
وَنَحْوِهِ جَازَتْ الْفَرِيضَةُ قَاعِدًا؛
لِأَنَّهُ عَاجِزٌ، فَإِنْ هَبَّتْ الرِّيحُ
وَحَوَّلَتْ السَّفِينَةَ فَتَحَوَّلَ
وَجْهُهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَجَبَ رَدُّهُ
إلَى الْقِبْلَةِ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ
بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي الْبَرِّ،
وَحَوَّلَ إنْسَانٌ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ
قَهْرًا فَإِنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا
سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، قَالَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا فِي
الْبَرِّ نَادِرٌ، وَفِي الْبَحْرِ غَالِبٌ
وَرُبَّمَا تَحَوَّلَتْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ
مِرَارًا.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَلَوْ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ
وَهُمْ سَائِرُونَ، وَخَافَ لَوْ نَزَلَ
لِيُصَلِّيَهَا عَلَى
ج / 3 ص -156-
الْأَرْضِ إلَى الْقِبْلَةِ انْقِطَاعًا عَنْ
رُفْقَتِهِ أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الصَّلَاةِ
وَإِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا، بَلْ
يُصَلِّيهَا عَلَى الدَّابَّةِ لِحُرْمَةِ
الْوَقْتِ، وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ
عُذْرٌ نَادِرٌ، هَكَذَا ذَكَر الْمَسْأَلَةَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ
وَالرَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
يُصَلِّي عَلَى الدَّابَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا
قَالَ وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ يَحْتَمِلُ
وَجْهَيْنِ.
أَحَدَهُمَا: لَا تَجِبُ كَشِدَّةِ الْخَوْفِ.
وَالثَّانِي: تَجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ لِلْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ
يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ "رض" الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ فِي
مَسْأَلَةِ الْقِيَامِ فِي الْأَذَانِ.
فرع: الْمَرِيضُ الَّذِي
يَعْجِزُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَلَا
يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إلَى الْقِبْلَةِ لَا
مُتَبَرِّعًا وَلَا بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ
وَهُوَ وَاجِدُهَا - يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَتَجِبُ
الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ
وَالْمَرْبُوطُ عَلَى خَشَبَةٍ وَالْغَرِيقُ،
وَنَحْوُهُمَا تَلْزَمُهُمَا الصَّلَاةُ
بِالْإِيمَاءِ حَيْثُ أَمْكَنَهُمْ، وَتَجِبُ
الْإِعَادَةُ لِنُدُورِهِ، وَفِيهِمْ خِلَافٌ
سَبَقَ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ الصَّحِيحُ
وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.
التَّاسِعَةُ: إذَا تَيَقَّنَ
الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ لَزِمَهُ
الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا
سَبَقَ وَاخْتَارَ الْمُزَنِيّ أَنْ لَا
إعَادَةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَاحْتَجُّوا
بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أَنَّ أَهْلَ
قُبَاءَ صَلَّوْا رَكْعَةً إلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ بَعْدَ نَسْخِهِ وَوُجُوبِ
اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ عَلِمُوا فِي
أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ النَّسْخَ
فَاسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ، وَأَتَمُّوا
إلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ الرَّكْعَةُ
الْأُولَى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ
وُجُوبِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَلَمْ
يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ. قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ فِي جَوَابِهِ: اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِي النَّسْخِ إذَا وَرَدَ إلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ يَثْبُتُ
فِي حَقِّ الْأُمَّةِ قَبَلَ بُلُوغُهُ
إلَيْهِمْ؟ أَمْ لَا يَكُونُ نَسْخًا فِي
حَقِّهِمْ حَتَّى يَبْلُغَهُمْ؟ وَفِيهِ
وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ فِي
حَقِّهِمْ حَتَّى يَبْلُغَهُ فَأَهْلُ قُبَاءَ
لَمْ تَصِرْ الْكَعْبَةُ قِبْلَتَهُمْ إلَّا
حِينَ بَلَغَتْهُمْ فَلَا إعَادَةَ عَلَى
أَهْلِ قُبَاءَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ
كَانَ فِي الْمُخْطِئِ قَوْلَانِ، قَالَ:
وَالْفَرْقُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ
اسْتَقْبَلُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالنَّصِّ،
فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الِاجْتِهَادُ فِي
خِلَافِهِ، فَلَا يُنْسَبُونَ إلَى تَفْرِيطٍ،
بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي أَخْطَأَ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ قَالَ:
"كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ
مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ
فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حِيَالَهُ،
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله}
"
وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: " كُنَّا فِي مَسِيرٍ فَأَصَابَنَا غَيْمٌ فَتَحَيَّرْنَا فِي
الْقِبْلَةِ فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ عَلَى
حِدَةٍ وَجَعَلَ أَحَدُنَا يَخُطُّ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إذَا نَحْنُ
قَدْ صَلَّيْنَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ
أُجِيزَتْ صَلَاتُكُمْ"
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ
ضَعِيفَانِ، ضَعَّفَ الْأَوَّلَ
التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ،
وَضَعَّفَ الثَّانِي الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: "لَا نَعْلَمُ لَهُ إسْنَادًا
صَحِيحًا" وَلَوْ صَحَّا لَأَمْكَنَ
حَمْلُهُمَا عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ وَالله
أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ: قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
الْأُمِّ: لَوْ اجْتَهَدَ
فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَعَمِيَ فِيهَا
أَتَمَّهَا وَلَا إعَادَةَ؛ لِأَنَّ
اجْتِهَادَهُ الْأَوَّلَ أَوْلَى مِنْ
اجْتِهَادِ غَيْرِهِ قَالَ: فَإِنْ دَارَ عَنْ
تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ أَدَارَهُ غَيْرُهُ
خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَاسْتَأْنَفَهَا
بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُصَلِّي إلَى
سُتْرَةٍ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهَا لِمَا رُوِيَ
عَنْ
ج / 3 ص -157-
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ1 رضي الله عنه
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا
يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ صَلَاتَهُ"
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَدْرُ ثَلَاثَةِ
أَذْرُعٍ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ
السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
يُصَلِّي وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ
قَدْرُ مَمَرِّ الْعَنَزِ قَدْرَ ثَلَاثَةِ
أَذْرُعٍ" فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِنَاءٌ
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ
يَدَيْهِ عَصَا لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ
رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ
فَرَكَزَ عَنَزَةً فَجَعَلَ يُصَلِّي إلَيْهَا
بِالْبَطْحَاءِ يَمُرُّونَ النَّاسُ مِنْ
وَرَائِهَا، الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ
وَالْمَرْأَةُ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتُرُهُ قَدْرَ مُؤَخِّرَةِ
الرَّحْلِ لِمَا رَوَى طَلْحَةُ رضي الله عنه
عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ:
"إذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ
مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ
وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ" قَالَ عَطَاءُ مُؤَخِّرَةُ الرَّحْلِ ذِرَاعٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
عَصًا فَلْيَخُطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا
إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم
"إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَلْيَنْصِبْ
عَصًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَصًا فَلْيَخُطَّ
خَطًّا وَلَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ" وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ يَسْتَقْبِلُهُ
بِوَجْهِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي
الله عنه
" رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَرَجُلٌ جَالِسٌ مُسْتَقْبِلُهُ
فَضَرَبَهُمَا بِالدِّرَّةِ " فَإِنْ صَلَّى وَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَارٌّ دَفَعَهُ وَلَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ. لِقَوْلِهِ صلى
الله عليه وسلم
"لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا
اسْتَطَعْتُمْ".
الشرح: حَدِيثُ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ،
وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ
الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَلَفْظُهُمَا:
"كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ
الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ" وَحَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
أَيْضًا. وَحَدِيثُ طَلْحَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
لَكِنْ وَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ: "وَلَا
يُبَالِي مَنْ وَرَاءَ ذَلِكَ" وَاَلَّذِي فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ "مَنْ مَرَّ
وَرَاءَ ذَلِكَ" بِزِيَادَةِ لَفْظَةِ "مَرَّ"
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ "مَنْ مَرَّ
مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ" وَحَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِي الْخَطِّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الْبَغَوِيّ
وَغَيْرُهُ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَرَوَى
أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ تَضْعِيفَهُ، وَأَشَارَ إلَى
تَضْعِيفِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا
الْحَدِيثُ أَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ وَسُنَنِ حَرْمَلَةَ وَقَالَ فِي
الْبُوَيْطِيِّ: وَلَا يَخُطُّ بَيْنَ
يَدَيْهِ خَطًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَاكَ
حَدِيثٌ ثَابِتٌ فَيُتَّبَعُ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْحَدِيثِ لِاخْتِلَافِ
الرُّوَاةِ عَلَى إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ
أَحَدِ رُوَاتِهِ. وَقَالَ غَيْرُ
الْبَيْهَقِيّ: هُوَ ضَعِيفٌ لِاضْطِرَابِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ
"لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ"
فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ قَالَ عَطَاءٌ "مُؤَخِّرَةُ
الرَّحْلِ ذِرَاعٌ" فَرَوَاهُ عَنْهُ أَبُو
دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
وَهُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ فَفِيهِ سَهْلُ
بْنُ أَبِي حَثْمَةَ بِفَتْحِ الْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ،
وَاسْمُ أَبِي حَثْمَةَ عَبْدُ الله ،
وَقِيلَ: عَامِرُ بْنُ سَاعِدَةَ
الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ ، كُنْيَتُهُ
سَهْلٍ أَبُو يَحْيَى، وَقِيلَ أَبُو
مُحَمَّدٍ، تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ،
وَحَفِظَ جُمْلَةَ أَحَادِيثَ وَأَمَّا سَهْلُ
بْنُ سَعْدٍ فَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ سَهْلُ
بْنُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي النسخة لبمطبوعة من المهذب (خثيمة) وهو
خطأ ظاهر (ط).
ج / 3 ص -158-
سَعْدِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ
السَّاعِدِيُّ الْمَدَنِيُّ، مَنْسُوبٌ إلَى
سَاعِدَةَ أَحَدِ أَجْدَادِهِ، تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إحْدَى وَتِسْعِينَ
وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ سَعْدٍ: هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْمَدِينَةِ، لَيْسَ بَيْنَنَا فِي ذَلِكَ
اخْتِلَافٌ وَأَمَّا أَبُو جُحَيْفَةَ
فَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ،
وَطَلْحَةُ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ
الصَّلَاةِ وَعُمُرَ فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْمِيَاهِ وَعَطَاءٌ
فِي الْحَيْضِ. وَفِي الذِّرَاعِ لُغَتَانِ
التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَهُوَ
الْأَفْصَحُ الْأَكْثَرُ.
قَوْلُهُ: "وَمَمَرُّ الْعَنَزِ قَدْرُ
ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ" هُوَ مِنْ كَلَامِ
الْمُصَنِّفِ لَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ
"فَرَكَزَ عَنَزَة"ً فَهُوَ بِفَتْحِ
النُّونِ، وَهِيَ عَصًا نَحْوُ نِصْفِ رُمْحٍ
فِي أَسْفَلِهَا زُجٌّ كَزُجِّ الرُّمْحِ فِي
أَسْفَلِهِ، وَالْحُلَّةُ ثَوْبَانِ إزَارٌ
وَرِدَاءٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: لَا
تَكُونُ إلَّا ثَوْبَيْنِ ، وَمُؤَخِّرَةُ
الرَّحْلِ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي الْبَابِ،
وَالْبَطْحَاءُ بِالْمَدِّ هِيَ بَطْحَاءُ
مَكَّةَ وَيُقَالُ فِيهَا الْأَبْطُحُ، وَهُوَ
مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ عَلَى بَابِ مَكَّةَ ،
وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ ، أَيْ:
ادْفَعُوا ، وَقَوْلُهُ: "يَمُرُّونَ النَّاسُ
مِنْ وَرَائِهَا" كَذَا وَقَعَ فِي
الْمُهَذَّبِ ، وَاَلَّذِي
فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ يَمُرُّ
النَّاسُ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي
اللُّغَةِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي
الْمُهَذَّبِ لُغَةً
قَلِيلَةً ضَعِيفَةً ، وَهِيَ لُغَةُ
أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَفِيهِ
مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: السُّنَّةُ
لِلْمُصَلِّي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ
سُتْرَةٌ مِنْ جِدَارٍ أَوْ سَارِيَةٍ أَوْ
غَيْرِهِمَا وَيَدْنُوَ مِنْهَا، وَنَقَلَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِجْمَاعَ فِيهِ,
وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ حَائِطٌ وَنَحْوُهُ غَرَزَ عَصًا
وَنَحْوَهَا أَوْ جَمَعَ مَتَاعَهُ أَوْ
رَحْلَهُ وَيَكُونُ ارْتِفَاعُ الْعَصَا
وَنَحْوِهَا ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَصَاعِدًا،
وَهُوَ قَدْرُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ ذِرَاعٌ كَمَا حَكَاهُ
عَنْ عَطَاءٍ وَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ شَيْئًا شَاخِصًا فَهَلْ
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ؟
نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ وَسُنَنِ
حَرْمَلَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَفِي
الْبُوَيْطِيِّ لَا
يُسْتَحَبُّ.
وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ:
أَحَدُهَا: وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْأَكْثَرُونَ " يُسْتَحَبُّ قَوْلًا
وَاحِدًا " وَنُقِلَ فِي الْبَيَانِ اتِّفَاقُ
الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ
الرَّافِعِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا
يُسْتَحَبُّ، وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا
وَالثَّالِثُ: فِيهِ
قَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْخَطِّ فَفِي
كَيْفِيَّتِهِ اخْتِلَافٌ، قَالَ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ
الْبُخَارِيِّ، وَصَاحِبُ
الشَّافِعِيِّ: "يَجْعَلُهُ
مِثْلَ الْهِلَالِ" وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي
سُنَنِهِ: سَمِعْتُ
مُسَدِّدًا يَقُولُ: قَالَ ابْنُ دَاوُد
"الْخَطُّ بِالطُّولِ" وَقَالَ الْمُصَنِّفُ:
يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا إلَى
الْقِبْلَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَخُطُّهُ
يَمِينًا وَشِمَالًا كَالْجِنَازَةِ ،
وَالْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الْخَطِّ؛
لِأَنَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ
- فَفِيهِ تَحْصِيلُ حَرِيمٍ لِلْمُصَلِّي،
وَقَدْ قَدَّمْنَا اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ
عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي
فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ دُونَ الْحَلَالِ
وَالْحَرَامِ، وَهَذَا مِنْ نَحْوِ فَضَائِلِ
الْأَعْمَالِ ، وَالْمُخْتَارُ فِي
كَيْفِيَّتِهِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِاسْتِحْبَابِ الْخَطِّ
الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ
وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ ، وَأَشَارَ
إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ
الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا:
وَإِذَا لَمْ يَجِدْ شَاخِصًا بَسَطَ
مُصَلَّاهُ.
ج / 3 ص -159-
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي
الْبُوَيْطِيِّ: وَلَا
يُسْتَتَرُ بِامْرَأَةٍ وَلَا دَابَّةٍ ،
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ فَظَاهِرٌ
؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا شَغَلَتْ ذِهْنَهُ.
وَأَمَّا الدَّابَّةُ فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم
"كَانَ يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا" زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَفْعَلُهُ" وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ رحمه
الله لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ،
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ،
فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ لَا سِيَّمَا
وَقَدْ أَوْصَانَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله
بِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ
مَذْهَبُهُ.
فرع: الْمُعْتَبَرُ فِي
السُّتْرَةِ أَنْ يَكُونَ طُولُهَا
كَمُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ وَأَمَّا عَرْضُهَا
فَلَا ضَابِطَ فِيهِ، بَلْ يَكْفِي الْغَلِيظُ
وَالدَّقِيقُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّهُ كَغِلَظِ
الرُّمْحِ تَمَسُّكًا بِحَدِيثِ الْعَنَزَةِ ،
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
"يُجْزِئُ مِنْ السُّتْرَةِ مِثْلُ
مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ وَلَوْ بِدِقَّةِ
شَعْرَةٍ".
وَعَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"اسْتَتِرُوا
فِي صَلَاتِكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ" رَوَاهُ
الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ
حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، الْأَوَّلُ عَلَى
شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَالثَّانِي
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ
وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ
السُّتْرَةَ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ
الْأَيْسَرِ لِمَا رَوَى الْمِقْدَادُ بْنُ
الْأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ
"مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه
وسلم يُصَلِّي إلَى عُودٍ وَلَا عَمُودِ وَلَا
شَجَرَةٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ
الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ وَلَا يَصْمُدُ
لَهُ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ،
لَكِنَّ فِي إسْنَادِهِ الْوَلِيدَ بْنَ
كَامِلٍ وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ "تَفَرَّدَ بِهِ الْوَلِيدُ"
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
"عِنْدَهُ عَجَائِبُ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ1:
إذَا صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ حَرُمَ عَلَى
غَيْرِهِ الْمُرُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
السُّتْرَةِ، وَلَا يَحْرُمُ وَرَاءَ
السُّتْرَةِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ
"يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ"
وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَاب أَنَّهُ حَرَامٌ،
وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَالْمُحَقِّقُونَ،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي الْجُهَيْمِ
الْأَنْصَارِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ؟
لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ
مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ
رَوَيْنَاهَا فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ
لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ:
"لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ
الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ"
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله
عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ:
"إذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ
النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ
بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى
فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا:
" وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي دَفْعُ مَنْ أَرَادَ الْمُرُورَ
لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ " وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله
عليه وسلم قَالَ:
"إذَا
كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ
أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ أَبَى
فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيَدْفَعُهُ دَفْعَ الصَّائِلِ بِالْأَسْهَلِ
ثُمَّ الْأَسْهَلِ وَيَزِيدُ بِحَسَبِ
الْحَاجَةِ وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ،
فَإِنْ مَاتَ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ
كَالصَّائِلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ وَكَذَا
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْخَطِّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الْوَجْهَيْنِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسألة الأولى بعد قوله (أما حكم الفصل)
وهي (السنة للمصلي فحرر) (ط).
ج / 3 ص -160-
وَبِهِ
قَطَعَ الْجُمْهُورُ كَالْعَصَا. أَمَّا إذَا
لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ
كَانَتْ وَتَبَاعَدَ عَنْهَا فَوَجْهَانِ،
أَحَدُهُمَا: لَهُ الدَّفْعُ لِتَقْصِيرِ
الْمَارِّ، وَأَصَحُّهُمَا لَيْسَ لَهُ
الدَّفْعُ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ السُّتْرَةِ
وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ" وَلَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَلَكِنْ يُكْرَهُ.
فرع: إذَا وَجَدَ الدَّاخِلُ
فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَلَهُ أَنْ
يَمُرَّ بَيْنَ يَدْيِ الصَّفِّ الثَّانِي
وَيَقِفُ فِيهَا لِتَقْصِيرِ أَهْلِ الصَّفِّ
الثَّانِي بِتَرْكِهَا.
فرع: قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: النَّهْيُ عَنْ الْمُرُورِ،
وَالْأَمْرُ بِالدَّفْعِ إنَّمَا هُوَ إذَا
وَجَدَ الْمَارُّ سَبِيلًا سِوَاهُ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ وَازْدَحَمَ النَّاسُ فَلَا
نَهْيَ عَنْ الْمُرُورِ وَلَا يُشْرَعُ
الدَّفْعُ وَتَابَعَ الْغَزَالِيُّ إمَامَ
الْحَرَمَيْنِ عَلَى هَذَا. قَالَ
الرَّافِعِيُّ وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَفِي
"صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"
خِلَافُهُ، وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْأَصْحَابِ
سَاكِتَةٌ عَنْ التَّقْيِيدِ بِمَا إذَا
وَجَدَ سِوَاهُ سَبِيلًا.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي
فِي
"صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ
أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ قَالَ
"رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه فِي يَوْمِ
جُمُعَةٍ يُصَلِّي إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ
مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ شَابٌّ أَنْ
يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو
سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ
فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ
فَعَادَ لِيَجْتَازَ فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ
أَشَدَّ مِنْ الْأَوَّلِ فَنَالَ مِنْ أَبِي
سَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا
إلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ،
وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى
مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنِ
أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إذَا
صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ
مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ
يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ
فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ
شَيْطَانٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
إذَا صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَمَرَّ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ
صَبِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ كَلْبٌ أَسْوَدُ
أَوْ حِمَارٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الدَّوَابِّ
لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ:
وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا
الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ:
" تَبْطُلُ بِمُرُورِ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ
الْأَسْوَدِ " وَقَالَ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
" تَبْطُلُ
بِمُرُورِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ فَقَطْ "
وَاحْتَجَّ لِلْحَسَنِ وَلَهُمَا فِي
الْكَلْبِ بِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ
الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم:
"إذَا قَامَ
أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ
إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ
الرَّحْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ
يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ
يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ
وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ قَالَ قُلْت: يَا
أَبَا ذَرٍّ مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ
مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ
الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَمَّا
سَأَلْتنِي فَقَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ
شَيْطَانٌ" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم:
"يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ
"يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ
وَالْكَلْبُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
أَحْسَبُهُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى
غَيْرِ سُتْرَةٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ
الْحِمَارُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْيَهُودِيُّ
وَالْمَجُوسِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَيُجْزِئُ
عَنْهُ إذَا مَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى
قَذْفَةٍ بِحَجَرٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَضَعَّفَهُ وَجَعَلَهُ مُنْكَرًا، وَرَوَى
أَبُو دَاوُد أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا
النَّوْعِ ضَعِيفَةً، وَاحْتَجَّ
لِأَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ بِحَدِيثِ
مَسْرُوقٍ قَالَ: "ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ
رضي الله عنها مَا يَقْطَعُ
ج / 3 ص -161-
الصَّلَاةَ فَذَكَرُوا الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ
وَالْمَرْأَةَ، فَقَالَتْ: شَبَّهْتُمُونَا
بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ، لَقَدْ رَأَيْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
وَأَنَا عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما قَالَ:
"أَقْبَلْتُ
رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَرَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ
يَمِينًا إلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ
بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ
وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ
فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ
أَحَدٌ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ الْفَضْلِ
بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ
لَنَا فَصَلَّى فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ
يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَحِمَارَةٌ لَنَا
وَكَلْبَةٌ تَعْبَثَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَمَا بَالَى ذَلِكَ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. قَالَ أَبُو
دَاوُد: "وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ عَنْ
رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم نُظِرَ إلَى
مَا عَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ. وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ:
"كُنْتُ رَدِيفَ الْفَضْلِ عَلَى أَتَانٍ
فَجِئْنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى فَنَزَلْنَا
عَنْهَا فَوَصَلْنَا الصَّفَّ فَمَرَّتْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلَمْ تَقْطَعْ
صَلَاتَهُمْ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فَمِنْ
وَجْهَيْنِ، أَصَحُّهُمَا وَأَحْسَنُهُمَا مَا
أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ
وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْقَطْعِ الْقَطْعُ عَنْ الْخُشُوعِ
وَالذِّكْرِ لِلشُّغْلِ بِهَا وَالِالْتِفَاتِ
إلَيْهَا لَا أَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله: وَيَدُلُّ
عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ أَحَدُ رُوَاةٍ1 قَطَعَ الصَّلَاةَ
بِذَلِكَ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَهَذَا
الْجَوَابُ هُوَ الَّذِي نَعْتَمِدُهُ،
وَأَمَّا مَا يَدَّعِيهِ أَصْحَابُنَا
وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّسْخِ فَلَيْسَ
بِمَقْبُولٍ، إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا
يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ فِي آخِرِ
الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، إذْ
يُمْكِنُ كَوْنُ أَحَادِيثِ الْقَطْعِ
بَعْدَهُ. وَقَدْ عُلِمَ وَتَقَرَّرَ فِي
الْأُصُولِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ
نَاسِخًا، مَعَ أَنَّهُ لَوْ احْتَمَلَ
النَّسْخَ لَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْأَحَادِيثِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، إذْ
لَيْسَ فِيهِ رَدُّ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذِهِ
أَيْضًا قَاعِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالله
أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ يَسْتَقْبِلُهُ
وَيَرَاهُ، وَقَدْ كَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي
الله عنهما؛ وَلِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَلْبَ
غَالِبًا، فَكُرِهَ كَمَا كُرِهَ النَّظَرُ
إلَى مَا يُلْهِيهِ، كَثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ،
وَرَفْعُ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ: كَرِهَ عُثْمَانُ رضي الله عنه
أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي،
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَإِنَّمَا هَذَا إذَا
اشْتَغَلَ بِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ
يَشْتَغِلْ بِهِ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ:
"مَا بَالَيْتُ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ" ثُمَّ
احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ
الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ،
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا يُخَالِفُ
مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي
وَهِيَ مُسْتَقْبِلَتُهُ، بَلْ كَانَتْ
مُضْطَجِعَةً، وَاضْطِجَاعُهَا فِي ظَلَامِ
اللَّيْلِ، فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهِ، إذْ لَا
يَنْظُرُ إلَيْهَا وَلَا يَسْتَقْبِلُهَا.
فرع: لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ إلَى النَّائِمِ
وَتُكْرَهُ إلَى الْمُتَحَدِّثِينَ الَّذِينَ
يَشْتَغِلُ بِهِمْ فَأَمَّا عَدَمُ
الْكَرَاهَةِ فِي النَّائِمِ فَلِحَدِيثِ
عَائِشَةَ السَّابِقِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ
فِي الْمُتَحَدِّثِ فَلِشُغْلِ الْقَلْبِ
وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ
الرَّابِعَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "لَا تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ
وَلَا الْمُتَحَدِّثِ" فَرَوَاهُ أَبُو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل (ش) هكذا علق المشايخ والعبارة
مستقيمة وليس فيها سقط والله أعلم (ط).
ج / 3 ص -162-
دَاوُد
وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ،
وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي
إسْنَاده رَجُلٌ، مَجْهُولٌ1 لَمْ يُسَمَّ،
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا
يَصِحُّ، وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ عَائِشَةَ
قَالَ: "فَأَمَّا الصَّلَاةُ إلَى
الْمُتَحَدِّثِينَ فَقَدْ كَرِهَهَا
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ؛ لِأَنَّ
كَلَامَهُمْ يَشْغَلُ الْمُصَلِّي عَنْ
صَلَاتِهِ".
فرع: إذَا صَلَّى الرَّجُلُ
وَبِجَنْبِهِ امْرَأَةٌ لَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُ وَلَا صَلَاتُهَا سَوَاءٌ كَانَ
إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا هَذَا مَذْهَبُنَا
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَكْثَرُونَ،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ
الْمَرْأَةُ فِي صَلَاةٍ أَوْ كَانَتْ فِي
صَلَاةٍ غَيْرَ مُشَارِكَةٍ لَهُ فِي
صَلَاتِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا،
فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ يُشَارِكُهَا
فِيهَا - وَلَا تَكُونُ مُشَارِكَةً لَهُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا إذَا نَوَى
الْإِمَامُ إمَامَةَ النِّسَاءِ - فَإِذَا
شَارَكَتْهُ فَإِنْ وَقَفَتْ بِجَنْبِ رَجُلٍ
بَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ إلَى جَنْبَيْهَا،
وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهَا وَلَا صَلَاةُ مَنْ
يَلِي الَّذِي يَلِيهَا؛ لِأَنَّ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا حَاجِزًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي
صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ
يُحَاذِيهَا مِنْ وَرَائِهَا، وَلَمْ تَبْطُلْ
صَلَاةُ مَنْ يُحَاذِي مَحَاذِيهَا؛ لِأَنَّ
دُونَهُ حَاجِزًا. فَإِنْ صَفَّ نِسَاءٌ
خَلْفَ الْإِمَامِ وَخَلْفَهُنَّ صَفَّ
رِجَالٌ بَطَلَتْ صَلَاةُ الصَّفِّ الَّذِي
يَلِيهِنَّ، قَالَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ
لَا تَبْطُلَ صَلَاةُ مَنْ وَرَاءَ هَذَا
الصَّفِّ مِنْ الصُّفُوفِ بِسَبَبِ
الْحَاجِزِ، وَلَكِنْ نَقُولُ تَبْطُلُ
صُفُوفُ الرِّجَالِ وَرَاءَهُ، وَلَوْ كَانَتْ
مِائَةَ صَفٍّ اسْتِحْسَانًا، فَإِنْ وَقَفَتْ
بِجَنْبِ الْإِمَامِ بَطَلَتْ صَلَاةُ
الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا إلَى جَنْبِهِ
وَمَذْهَبُهُ أَنَّهَا إذَا بَطَلَتْ صَلَاةُ
الْإِمَامِ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ
أَيْضًا، وَتَبْطُلُ [صَلَاتُهَا] أَيْضًا؛
لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُومِينَ.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ ضَعِيفُ الْحُجَّةِ
ظَاهِرُ التَّحَكُّمِ وَالتَّمَسُّكِ
بِتَفْصِيلٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَعُمْدَتُنَا
أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ
حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ فِي
الْبُطْلَانِ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ،
وَيَنْضَمُّ إلَى هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي
الله عنها الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ
الثَّالِثَةِ. فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ
بِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُصَلِّيَةً
قَالَ أَصْحَابُنَا نَقُولُ: إذَا لَمْ
تَبْطُلْ وَهِيَ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ، فَفِي
الْعِبَادَةِ أَوْلَى وَقَاسَ أَصْحَابُنَا
عَلَى وُقُوفِهَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ عِنْدَهُمْ، وَالله
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَلَهُ الْحَمْدُ
وَالنِّعْمَةُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ
التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ وَالْعِصْمَةُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقول أبو داود: حدثنا القعنبي ثنا عبد الملك
بن محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن
إسحاق ممن حدثه عن محمد بن كعب القرظي قال:
قلت له-يعني عمر بن عبد العزيز- حدثني عبد
الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: لا تصلوا الخ نص كلام الخطابي أفاده
العظيم آبادي في عون المعبود: هذا الحديث لا
يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف سنده
وعبد الله بن يعقوب لم يسم من حدثه عن محمد بن
كعب وإنما رواه عن محمد بن كعب رجلان كلاهما
ضعيفان تمام بن بزيغ وعيسى بن ميمون وقد تكلم
فيهما يحيى بن معين والبخاري ورواه أيضا عبد
الكريم أبو أمية عن مجاهد عن ابن عباس وعبد
الكريم متروك الحديث قال أحمد بن حنبل: ضربنا
عليه فاضربوا عليه قال يحيى بن معين: ليس بثقة
ولا يحمل عنه قلت: وعبد الكريم هذا هو أبو
أمية البصري وليس بالجزري وعبد الكريم الجزري
أيضا ليس في الحديث بذلك إلا أن البصري ضعيف
جدا قلت: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه صلى وعائشة نائمة معترضة بينه وبين القبلة
ا هـ (ط). |