المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: إذَا
أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ
يَقُمْ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ
ج / 3 ص -163-
الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ
لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ:
"أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ فَلَمَّا قَالَ: قَدْ قَامَتْ
الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا،
وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ مِثْلَ مَا
يَقُولُهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ
قَامَ".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
جِدًّا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي
أَوَاخِرِ بَابِ الْأَذَانِ حَيْثُ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ
"إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ"
احْتِرَازٌ مِنْ الْمُنْفَرِدِ فَإِنَّهُ
يَقُومُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقِيمُ قَائِمًا،
وَقَوْلُهُ "لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ
لِلدُّخُولِ" يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ
الدُّخُولُ فِيهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ
الْإِقَامَةِ لَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
الدُّخُولُ، فَإِنَّهَا يَصِحُّ الدُّخُولُ
فِيهَا فِي أَثْنَاءِ الْإِقَامَةِ
وَقَبْلَهَا، وَقَوْلُهُ: "وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ" يَعْنِي الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ
لَيْسَ بِوَقْتٍ، لِلدُّخُولِ؛ لِأَنَّ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم تَابَعَهُ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ
الْإِقَامَةِ وَلَا يُتَابِعُهُ إلَّا قَبْلَ
الدُّخُولِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَقُومَا
حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ
الْإِقَامَةِ، فَإِذَا فَرَغَ قَامَا
[قِيَامًا] مُتَّصِلًا بِفَرَاغِهِ، قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَبِهَذَا قَالَ
مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: إذَا قَالَ
الْمُؤَذِّنُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ نَهَضَ
الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ. فَإِذَا قَالَ:
قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ وَكَبَّرُوا
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رِوَايَتَانِ
كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ، كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إذَا
قِيلَ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَثَبَ،
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَسَالِمُ بْنُ
عَبْدِ الله وَأَبُو قِلَابَةَ وَعِرَاكُ بْنُ
مَالِكٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ
حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ يَقُومُونَ إلَى
الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ بُدُوِّهِ مِنْ
الْإِقَامَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ إذَا كَانَ
الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ. وَكَانَ مَالِكُ
لَا يُؤَقِّتُ فِيهِ شَيْئًا، هَذَا مَا
نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَوَافَقَنَا
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ
الْإِمَامُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ
الْإِقَامَةِ نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي
عِيَاضٌ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا رُوِيَ
أَنْ بِلَالًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: صلى
الله عليه وسلم
"لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ
فَرُّوخَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ
عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ:
"كَانَ بِلَالٌ إذَا قَالَ: قَدْ قَامَتْ
الصَّلَاةُ نَهَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم فَكَبَّرَ"
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ
إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتْ
الصَّلَاةُ وَلَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ
يَكُونُ كَاذِبًا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا
الْمُحَدِّثُونَ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيُّ
وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِحَدِيثِ أَبِي
قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم
"إذَا
أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى
تَرَوْنِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَبِي
أُمَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ
لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ
دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمْ يُشْرَعْ
الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ
فَرَاغِهِ كَالْأَذَانِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ بِلَالٍ مِنْ
وَجْهَيْنِ أَحْسَنُهُمَا - وَهُوَ جَوَابُ
الْبَيْهَقِيّ وَالْمُحَقِّقِينَ - أَنَّهُ
ضَعِيفٌ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَفِي رِوَايَةٍ
مُسْنَدًا فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَيْسَ
بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ
مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي
مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: قَالَ بِلَالٌ:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ"
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَيَرْجِعُ الْحَدِيثُ
إلَى أَنَّ بِلَالًا كَأَنَّهُ كَانَ
يُؤَمِّنُ قَبْلَ تَأْمِينِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فَقَالَ:
"لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ".
ج / 3 ص -164-
وَالْجَوَابُ الثَّانِي جَوَابُ الْأَصْحَابِ
أَنَّهُ طَلَب ذَلِكَ حِينَ عُرِضَ لَهُ
حَاجَةٌ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم التَّمَهُّلَ
لِيُدْرِكَ تَأْمِينَهُ، الدَّلِيلُ عَلَى
هَذَا أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ
الصَّلَاةُ وَبَيْنَ آخِرِ الْإِقَامَةِ
زَمَنًا يَسِيرًا جِدًّا يُمْكِنُهُ إتْمَامُ
الْإِقَامَةِ وَإِدْرَاكُ أَوَّلِهَا بَلْ مَا
قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم كَانَ يَقْرَأُ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ
بَعْدَ تَكْبِيرِهِ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ
يَشْرَعُ فِي الْفَاتِحَةِ، فَيَتَعَيَّنُ مَا
قُلْنَاهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي
أَوْفَى فَضَعِيفٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ. لَا
يَرْوِيهِ إلَّا حَجَّاجُ بْنُ فَرُّوخَ،
وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُضَعِّفُهُ
قُلْتُ: اتَّفَقُوا عَلَى جَرْحِ الْحَجَّاجِ
هَذَا فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ. هُوَ شَيْخٌ
مَجْهُولٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ،
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوكٌ،
وَهَذِهِ أَوْضَحُ الْعِبَارَاتِ عِنْدَهُمْ،
وَفِي الْحَدِيثِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى
وَهِيَ أَنَّ الْعَوَّامَ بْنَ حَوْشَبٍ لَمْ
يُدْرِكْ ابْنَ أَبِي أَوْفَى كَذَا قَالَهُ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَلَمْ
يَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ
وَإِنَّمَا رِوَايَتُهُ عَنْ التَّابِعِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا
فَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ قَرُبَ
الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ فَهَكَذَا قَالَهُ
أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفُقَهَاءُ
وَالْمُحَدِّثُونَ، وَهُوَ مَجَازٌ
مُسْتَعْمَلٌ حَسَنٌ كَقَوْلِ الله تَعَالَى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أَيْ قَارَبْنَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ "مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ
تَمَّ حَجُّهُ" أَيْ قَارَبَ التَّمَامَ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ مَا
أَلْزَمُونَا بِهِ يَلْزَمُهُمْ عَلَى
مُقْتَضَاهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى
قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَالله
أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقُومَا
حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ
الْإِقَامَةِ هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي فِي آخِرِ بَابِ
الْأَذَانِ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ شَيْخًا
بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ
قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ
وَلِسَرِيعِ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ
الْفَرَاغِ لِيَسْتَوُوا قِيَامًا فِي وَقْتٍ
وَاحِدٍ.
فَرْعٌ: لَوْ دَخَلَ
الْمَسْجِدَ وَأَرَادَ الشُّرُوعَ فِي
تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهَا،
فَشَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ
قَبْلَ إحْرَامِهِ فَلْيَسْتَمِرَّ قَائِمًا
وَلَا يَشْرَعْ فِي التَّحِيَّةِ لِلْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ:
"إذَا
أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا
الْمَكْتُوبَةَ" وَلَا يَجْلِسُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ
الْجُلُوسِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ، وَإِذَا
اسْتَمَرَّ قَائِمًا لَا يَكُونُ قَدْ قَامَ
لِلصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ
الْإِقَامَةِ،؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَبْتَدِ
الْقِيَامَ لَهَا، صَرَّحَ بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَهِيَ
ظَاهِرَةٌ، وَفِي كِتَابِ الزِّيَادَاتِ
لِأَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ يَجْلِسُ، وَهَذَا
غَلَطٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ
بِهِ.
فرع: إذَا أُقِيمَتْ
الصَّلَاةُ وَلَيْسَ الْإِمَامُ مَعَ
الْقَوْمِ بَلْ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ فَقَدْ
نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ
مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَقِبَ فَرَاغِ
الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا
مُشْكِلٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي" وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ
"حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ" فَإِنْ قِيلَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه قَالَ:
"كَانَتْ
الصَّلَاةُ تُقَامُ لِرَسُولِ الله صلى الله
عليه وسلم فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ
قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ"
قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَقُومُونَ إذَا رَأَوْهُ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ
وُصُولِهِ مَقَامَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ
جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ
بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا دَحَضَتْ وَلَا
يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ الصَّلَاةَ
حِينَ يَرَاهُ". فَإِنْ قِيلَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ.
"أُقِيمَتْ
الصَّلَاةُ فَقُمْنَا
ج / 3 ص -165-
فَعَدَلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ
إلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
فَأَتَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
حَتَّى إذَا أَقَامَ فِي مُصَلَّاهُ" وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ،
وَكَانَ الْغَالِبُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ
بْنِ سَمُرَةَ أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ "قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا"
أَيْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَنَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَالْقِيَامُ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ
الْمَفْرُوضَةِ لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ
حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى
جَنْبٍ"
وَأَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛
لِأَنَّ
"النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْتَفِلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ
وَهُوَ قَاعِدٌ" وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ فِيهَا الْقِيَامُ
شُقَّ وَانْقَطَعَتْ النَّوَافِلُ.
الشَّرْحُ: حَدِيثُ عِمْرَانَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ1
وَحُصَيْنٌ صَحَابِيٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَقِيلَ: لَمْ يُسْلِمْ، كُنْيَةُ عِمْرَانَ
أَبُو نُجَيْدٍ بِضَمِّ النُّونِ أَسْلَمَ
عَامَ خَيْبَرَ وَهُوَ خُزَاعِيٌّ نَزَلَ
الْبَصْرَةَ وَوَلِيَ قَضَاءَهَا، ثُمَّ
اسْتَقَالَ فَأُقِيلَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَأَمَّا
حَدِيثُ تَنَفُّلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم عَلَى الرَّاحِلَةِ فَثَابِتٌ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعَامِرِ
بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنهم.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَالْقِيَامُ فِي الْفَرَائِضِ فَرْضٌ
بِالْإِجْمَاعِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مِنْ
الْقَادِرِ عَلَيْهِ إلَّا بِهِ حَتَّى قَالَ
أَصْحَابُنَا: لَوْ قَالَ مُسْلِمٌ: أَنَا
أَسْتَحِلُّ الْقُعُودَ فِي الْفَرِيضَةِ
بِلَا عُذْرٍ أَوْ قَالَ: الْقِيَامُ فِي
الْفَرِيضَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ كَفَرَ إلَّا
أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ.
فرع: فِي مَسَائِلَ
تَتَعَلَّقُ بِالْقِيَامِ
إحْدَاهَا: قَالَ
أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَامِ
الِانْتِصَابُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ
الِاسْتِقْلَالُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَنِدُ؟
فِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا، وَبِهِ قَطَعَ
أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي
الْإِفْصَاحِ وَالْبَغَوِيُّ
وَآخَرُونَ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَالرَّافِعِيُّ
لَا يُشْتَرَطُ، فَلَوْ اسْتَنَدَ إلَى
جِدَارٍ أَوْ إنْسَانٍ أَوْ اعْتَمَدَ عَلَى
عَصًا بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ
لَسَقَطَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ
الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَائِمًا،
وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ وَلَا تَصِحُّ مَعَ
الِاسْتِنَادِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ بِحَالٍ
حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ
ابْنِ الْقَطَّانِ وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ. وَالثَّالِثُ:
يَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ
لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَمْ يَسْقُطْ
وَإِلَّا فَلَا. هَذَا فِي اسْتِنَادٍ لَا
يَسْلُبُ اسْمَ الْقِيَامِ، فَإِنْ اسْتَنَدَ
مُتَّكِئًا بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ عَنْ
الْأَرْضِ قَدَمَيْهِ لَأَمْكَنَهُ الْبَقَاءُ
لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ. بَلْ مُعَلِّقٌ
نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الِاسْتِقْلَالِ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ:
أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ مُتَّكِئًا
لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِصَابِ،
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِصَابُ،
بَلْ لَهُ الصَّلَاةُ قَاعِدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والحصين هو ابن عبيد بن خلف بن عبيد بن نهم
حذيفة وينتهي إلى عمرو الخزاعي قال ابن
الأثير: مختلف في صحبتة وإسلامه ثم ساق
بالاسناد أخبرنا إسماعيل بن عبيد الله وغير
واحد بإسنادهم إلى محمد بن عيسى حدثنا أحمد بن
منيع أخبرنا أبو معاوية عن شعيب بن شعبة عن
الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حصين كم تعبد
اليوم إلها؟ قال: سبعة ستة في اليوم وواحد في
السماء قال: فأيهم تعبد لرغبتك ورهبتك؟ قال:
يا حصين أما أنك لو أسلمت لعلمتك كلمتين
ينفعانك قال: فلما أسلم قال: يا رسول الله
علمني الكلمتين اللتين وعدتني قال: قل: "اللهم
ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي" (ط).
ج / 3 ص -166-
أَمَّا
الِانْتِصَابُ الْمَشْرُوطُ فَالْمُعْتَبَرُ
فِيهِ نَصْبُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَلَيْسَ
لِلْقَادِرِ أَنْ يَقِفَ مَائِلًا إلَى أَحَدِ
جَانِبَيْهِ زَائِلًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَامِ
وَلَا أَنْ يَقِفَ مُنْحَنِيًا فِي حَدِّ
الرَّاكِعِينَ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ
انْحِنَاؤُهُ حَدَّ الرَّاكِعِينَ، لَكِنْ
كَانَ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَوَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَصِبٍ، وَالثَّانِي:
تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلَوْ
أَطْرَقَ رَأْسَهُ بِغَيْرِ انْحِنَاءٍ
صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ
مُنْتَصِبٌ وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
النُّهُوضِ إلَّا بِمُعِينٍ، ثُمَّ إذَا
نَهَضَ لَا يَتَأَذَّى بِالْقِيَامِ لَزِمَهُ
الِاسْتِعَانَةُ إمَّا بِمُتَبَرِّعٍ وَإِمَّا
بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ إنْ وَجَدَهَا هَذَا
كُلُّهُ فِي الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَابِ.
فَأَمَّا الْعَاجِزُ كَمَنْ تَقَوَّسَ
ظَهْرُهُ لِزَمَانَةٍ أَوْ كِبَرٍ، وَصَارَ
فِي حَدِّ الرَّاكِعِينَ فَيَلْزَمُهُ
الْقِيَامُ فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ زَادَ
فِي الِانْحِنَاءِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ هَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ
الْعِرَاقِيُّونَ وَالْمُتَوَلِّي
وَالْبَغَوِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ قَالَ الرَّافِعِيُّ هُوَ
الْمَذْهَبُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَنْ
نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: يَلْزَمُهُ
أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا قَالَا: فَإِنْ
قَدَرَ عِنْدَ الرُّكُوعِ عَلَى الِارْتِفَاعِ
إلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ لَزِمَهُ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ
عَلَى الْقِيَامِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ
لِعِلَّةٍ بِظَهْرِهِ تَمْنَعُ الِانْحِنَاءَ
لَزِمَهُ الْقِيَامُ، وَيَأْتِي بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ بِحَسْبِ الطَّاقَةِ، فَيَحْنِي
صُلْبَهُ قَدْرَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ لَمْ
يُطِقْ حَنَى رَقَبَتِهِ وَرَأْسِهِ، فَإِنْ
احْتَاجَ فِيهِ إلَى شَيْءٍ يَعْتَمِدُ
عَلَيْهِ أَوْ لِيَمِيلَ إلَى جَنْبِهِ
لَزِمَهُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُطِقْ
الِانْحِنَاءَ أَصْلًا أَوْمَأَ إلَيْهِمَا
وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ وَالِاضْطِجَاعُ
دُونَ الْقُعُودِ، قَالَ الْبَغَوِيّ يَأْتِي
بِالْقُعُودِ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ قُعُودٌ
وَزِيَادَةٌ.
وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
بَيَانُ مَسَائِلِ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ
وَفُرُوعُهَا فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ
حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى شَيْءٍ
فِي حَالِ الْقِيَامِ: قَدْ ذَكَرْنَا
تَفْصِيلَ مَذْهَبِنَا، قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ فِي مَسَائِلِ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي
شَرْحِ مُسْلِمٍ: اخْتَلَفَ
السَّلَفُ فِي جَوَازِ التَّعَلُّقِ
بِالْحِبَالِ وَنَحْوِهَا فِي صَلَاةِ
النَّفْلِ لِطُولِهَا فَنَهَى عَنْهُ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَحُذَيْفَةُ رضي الله
عنهما، وَرَخَّصَ فِيهِ آخَرُونَ قَالَ:
وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ عَلَى الْعَصَا
فَجَائِزٌ فِي النَّوَافِلِ بِاتِّفَاقِهِمْ
إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ
كَرَاهَتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَنْقُصُ مِنْ
أَجْرِهِ بِقَدْرِهِ، قَالَ: وَأَمَّا فِي
الْفَرَائِضِ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ
وَالْجُمْهُورُ، وَقَالُوا مَنْ اعْتَمَدَ
عَلَى عَصًا أَوْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ
يَسْقُطُ لَوْ زَالَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ
قَالَ: وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ قَالَ: وَهَذَا إذَا
لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً فَإِنْ كَانَتْ جَازَ
وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ جَالِسًا
وَالله أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
لَوْ قَامَ عَلَى إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحَّتْ
صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ كَانَ
مَعْذُورًا فَلَا كَرَاهَةَ وَيُكْرَهُ أَنْ
يُلْصِقَ الْقَدَمَيْنِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ
التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَيُكْرَهُ أَنْ
يُقَدِّمَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُمَا
إلَى الْقِبْلَةِ.
فرع: فِي التَّرْوِيحِ بَيْنَ
الْقَدَمَيْنِ فِي الْقِيَامِ، قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: وَبِهِ
أَقُولُ وَهَذَا أَيْضًا مُقْتَضَى
مَذْهَبِنَا
الثَّالِثَةُ: تَطْوِيلُ
الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم
سُئِلَ أَيُّ
ج / 3 ص -167-
الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ "طُولُ الْقُنُوتِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْقُنُوتِ الْقِيَامُ،
وَتَطْوِيلُ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ
تَطْوِيلِ بَاقِي الْأَرْكَانِ غَيْرَ
الْقِيَامِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"أَقْرَبُ
مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ
سَاجِدٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ:
تَطْوِيلُ السُّجُودِ وَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ
الْقِيَامِ، حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَقْرَبُ مَا
يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ
سَاجِدٌ" وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهِ،
وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي
الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهَا بِشَيْءٍ
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَمَّا
فِي النَّهَارِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا بِاللَّيْلِ
فَتَطْوِيلُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ
يَكُونَ لِلرَّجُلِ جُزْءٌ بِاللَّيْلِ
يَأْتِي عَلَيْهِ فَتَكْثِيرُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ
جُزْأَهُ وَيَرْبَحُ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّمَا
قَالَ إِسْحَاقُ هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ وَصَفُوا
صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِاللَّيْلِ بِطُولِ الْقِيَامِ وَلَمْ
يُوصَفْ مِنْ تَطْوِيلِهِ بِالنَّهَارِ مَا
وُصِفَ بِاللَّيْلِ. دَلِيلُنَا عَلَى
تَفْضِيلِ إطَالَةِ الْقِيَامِ حَدِيثُ
"أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ"
وَلِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ "كَانَ يُطَوِّلُ
الْقِيَامَ أَكْثَرَ مِنْ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ" وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ
الْقِرَاءَةُ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
الرَّابِعَةُ: وَالْوَاجِبُ
مِنْ الْقِيَامِ قَدْرُ قِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ وَلَا يَجِبُ مَا زَادَ،
وَالْوَاجِبُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
قَدْرُ أَدْنَى طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَجِبُ
مَا زَادَ، فَلَوْ زَادَ فِي الْقِيَامِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى مَا
يُجْزِئُهُ فَهَلْ يَقَعُ الْجَمِيعُ وَاجِبًا
أَمْ الْوَاجِبُ مَا يُجْزِئُهُ وَالْبَاقِي
تَطَوُّعٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ
لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ
الْجَمِيعَ يَقَعُ وَاجِبًا وَبِهِ قَطَعَ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ
التَّبْصِرَةِ، وَهُمَا مِثْلُ الْوَجْهَيْنِ
فِي مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ وَفِي الْبَعِيرِ
الْمُخْرَجُ فِي الزَّكَاةِ عَنْ خَمْسٍ،
وَفِي الْبَدَنَةِ الْمُضَحَّى بِهَا بَدَلًا
عَنْ شَاةٍ مَنْذُورَةٍ قَالَ صَاحِبُ
التَّتِمَّةِ: وَالْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ
عَلَى أَنَّ الْوَقْصَ فِي الزَّكَاةِ عَفْوٌ
أَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَرْضُ؟ وَفِيهِ
قَوْلَانِ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ
فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَمَسْحِ الرَّأْسِ فِي تَكْثِيرِ الثَّوَابِ
فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ
ثَوَابِ التَّطَوُّعِ، وَفِي الزَّكَاةِ فِي
الرُّجُوعِ عِنْدَ التَّعْجِيلِ وَفِي
الْبَدَنَةِ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا. وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي
مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ.
الْخَامِسَةُ: لَوْ جَلَسَ
لِلْغُزَاةِ رَقِيبٌ يَرْقُبُ الْعَدُوَّ
فَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَلَوْ قَامَ
لَرَآهُ الْعَدُوُّ، أَوْ جَلَسَ الْغُزَاةُ
فِي مَكْمَنٍ وَلَوْ قَامُوا رَآهُمْ
الْعَدُوُّ وَفَسَدَ التَّدْبِيرُ، فَلَهُمْ
الصَّلَاةُ قُعُودًا وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ
لِنُدُورِهِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي
غَيْرِ الرَّقِيبِ: إنْ خَافَ لَوْ قَامَ أَنْ
يَقْصِدَهُ الْعَدُوُّ صَلَّى قَاعِدًا
أَجْزَأَتْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: وَلَوْ
صَلَّى الْكَمِينُ فِي وَهْدَةٍ قُعُودًا
فَفِي صِحَّتِهَا قَوْلَانِ، قُلْت
أَصَحُّهُمَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.
السَّادِسَةُ: يَجُوزُ فِعْلُ
النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
الْقِيَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُهُ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا وَغَيْرُهَا مِمَّا هُوَ
مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ، لَكِنْ ثَوَابُهَا
يَكُونُ نِصْفَ ثَوَابِ الْقَائِمِ، لِحَدِيثِ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما
قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى
ج / 3 ص -168-
قَاعِدًا
فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ وَمَنْ
صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ
الْقَاعِدِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ،
وَالْمُرَادُ بِالنَّائِمِ الْمُضْطَجِعِ
وَلَوْ تَنَفَّلَ مُضْطَجِعًا بِالْإِيمَاءِ
بِالرَّأْسِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ
وَالْقُعُودِ فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ يُذْهِبُ صُورَتَهَا بِغَيْرِ
عُذْرٍ، وَهَذَا أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ إمَامِ
الْحَرَمَيْنِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ
الصَّحِيحُ: صِحَّتُهَا لِحَدِيثِ عِمْرَانَ،
وَلَوْ صَلَّى النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَوْ
مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ
وَالْقُعُودِ فَثَوَابُهُ ثَوَابُ الْقِيَامِ
بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ
قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِلْعَجْزِ،
فَإِنَّ ثَوَابَهَا ثَوَابُ الْقَائِمِ بِلَا
خِلَافٍ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِيمَنْ
يُصَلِّي النَّفَلَ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا
مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ، يَسْتَوِي
فِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمِيعُ النَّوَافِلِ
الْمُطْلَقَةِ وَالرَّاتِبَةِ وَصَلَاةُ
الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ
وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ الْعِيدُ وَالْكُسُوفُ
وَالِاسْتِسْقَاءُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ
كَالْفَرَائِضِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَجٍّ
وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْجِنَازَةُ فَسَبَقَ فِي بَابِ
التَّيَمُّمِ بَيَانُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ
وَطُرُقِ الْأَصْحَابِ فِيهَا وَالْمَذْهَبُ
أَنَّهَا لَا تَصِحُّ قَاعِدًا مَعَ
الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مُعْظَمُ
أَرْكَانِهَا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ
وَالثَّالِثُ: إنْ تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجُزْ
وَإِلَّا جَازَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ إذَا
جَوَّزْنَا الِاضْطِجَاعَ فِي النَّفْلِ مَعَ
قُدْرَتِهِ فَهَلْ يُجْزِئُ الِاقْتِصَارُ
عَلَى الْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟
أَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ
كَالْقَاعِدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا
الثَّانِي. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الِاضْطِجَاعَ
لَا يُجَوِّزُ الِاقْتِصَارَ فِي الْأَرْكَانِ
الذِّكْرِيَّةِ كَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ
وَغَيْرِهِمَا عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ،
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يُجْزِئُ ذِكْرُ
الْقَلْبِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا
يَبْقَى لِلصَّلَاةِ صُورَةٌ أَصْلًا،
وَإِنَّمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّرْخِيصِ
فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَيَبْقَى مَا
عَدَاهُمَا عَلَى مُقْتَضَاهُ وَالله
أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ
يَنْوِي وَالنِّيَّةُ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ
الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"
وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ
تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّوْمِ،
وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ، فَإِنْ نَوَى
بِقَلْبِهِ دُونَ لِسَانِهِ أَجْزَأَهُ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَنْوِي
بِالْقَلْبِ وَيَتَلَفَّظُ بِاللِّسَانِ،
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ
الْقَصْدُ بِالْقَلْبِ.
الشَّرْحُ: حَدِيثُ
"إنَّمَا
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.
وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ نِيَّةِ
الْوُضُوءِ. وَقَوْلُهُ " قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ "
فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ
كَالصَّوْمِ، إنَّمَا قَاسَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ "لَا
صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ
اللَّيْلِ" وَهَذَا الْقِيَاسُ يُنْتَقَضُ
بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا قُرْبَةٌ
مَحْضَةٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ
طَرِيقُهَا الْأَفْعَالُ كَمَا قَالَهُ فِي
نِيَّةِ الْوُضُوءِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ
إزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَالنِّيَّةُ فَرْضٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ
إلَّا بِهَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي
كِتَابِهِ الْأَشْرَافِ
وَكِتَابِ الْإِجْمَاعِ وَالشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ
الشَّامِلِ وَمُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى وَآخَرُونَ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ
عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا
بِالنِّيَّةِ. وَحَكَى صَاحِبُ
الْبَيَانِ رِوَايَةً عَنْ
ج / 3 ص -169-
أَحْمَدَ
لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ1 عَنْهُ أَنَّهُ
يَنْظُرُ أَوْجَبَهَا فَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ
وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِلِسَانِهِ أَجْزَأَهُ
عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي
عَبْدِ الله الزُّبَيْرِيِّ أَنَّهُ لَا
يُجْزِئُهُ حَتَّى يُجْمِعَ بَيْنَ نِيَّةِ
الْقَلْبِ وَتَلَفُّظِ اللِّسَانِ؛ لِأَنَّ
الشَّافِعِيَّ - رحمه الله - قَالَ فِي
الْحَجِّ: إذَا نَوَى حَجًّا أَوْ عُمْرَةً
أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ وَلَيْسَ
كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنُّطْقِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: غَلِطَ هَذَا الْقَائِلُ،
وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالنُّطْقِ
فِي الصَّلَاةِ هَذَا، بَلْ مُرَادُهُ
التَّكْبِيرُ وَلَوْ تَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ
وَلَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ
صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ. كَذَا نَقَلَ
أَصْحَابُنَا بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَلَوْ
نَوَى بِقَلْبِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَجَرَى
عَلَى لِسَانِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ
انْعَقَدَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ.
فرع: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فِي النِّيَّةِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَمْ شَرْطٌ؟
فَقَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ: هِيَ
فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَرُكْنٌ مِنْ
أَرْكَانِهَا، كَالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ
وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ:
هِيَ شَرْطٌ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
وَالطَّهَارَةِ. وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَابْنُ
الصَّبَّاغِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ
وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
تَعْلِيقِهِ فِي أَوَّلِ بَابِ مَا يُجْزِئُ
مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ
وَالْقَفَّالُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ
رُكْنٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ
شَرْطٌ لَا رُكْنٌ، وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَيُجِيبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ
مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ
فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ أَنْ
تَكُونَ [النِّيَّةُ] مُقَارِنَةً لَهُ.
الشرح: قَالَ
الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - فِي
الْمُخْتَصَرِ (وَإِذَا
أَحْرَمَ نَوَى صَلَاتَهُ فِي حَالِ
التَّكْبِيرِ لَا بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَهُ)
وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ النَّصَّ
بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا: قَالَ
الشَّافِعِيُّ "يَنْوِي مَعَ التَّكْبِيرِ لَا
قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ). قَالَ
أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ
النِّيَّةِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ،
وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمُقَارَنَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ أَنْ
يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ مَعَ
ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ بِاللِّسَانِ
وَيَفْرُغَ مِنْهَا مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهُ.
وَأَصَحُّهُمَا لَا يَجِبُ، بَلْ لَا يَجُوزُ
لِئَلَّا يَخْلُوَ أَوَّلُ التَّكْبِيرِ عَنْ
تَمَامِ النِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي مَنْصُورِ بْنِ مِهْرَانَ شَيْخِ أَبِي
بَكْرٍ الْأَوْدَنِيِّ: يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ
النِّيَّةَ عَلَى أَوَّلِ التَّكْبِيرِ
بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لِئَلَّا يَتَأَخَّرَ
أَوَّلُهَا عَنْ أَوَّلِ التَّكْبِيرِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَجِبُ
ذَلِكَ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْمُقَارَنَةِ
وَسَوَاءٌ قَدَّمَ أَمْ لَمْ يُقَدِّمْ
وَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ إلَى
انْقِضَاءِ التَّكْبِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ،
وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ.
وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَغَيْرُهُ
أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّدْقِيقُ الْمَذْكُورُ
فِي تَحْقِيقِ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ،
وَأَنَّهُ تَكْفِي الْمُقَارَنَةُ
الْعُرْفِيَّةُ الْعَامِّيَّةُ بِحَيْثُ
يُعَدُّ مُسْتَحْضِرًا لِصَلَاتِهِ غَيْرَ
غَافِلٍ عَنْهَا، اقْتِدَاءً بِالْأَوَّلِينَ
فِي تَسَامُحِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا
الَّذِي اخْتَارَاهُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالله
أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالنِّيَّةُ هِيَ
الْقَصْدُ فَيُحْضِرُ فِي ذِهْنِهِ ذَاتَ
الصَّلَاةِ وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ
مِنْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل والعبارة ركيكة وغامضة ومذهب
أحمد كما في المغني أن النية هي القصد ومحلها
القلب وأن تلفظ بها كان توكدا فإن كانت الصلاة
مكتوبة لزمه نية الصلاة بعينها ظهرا أو عصرا
أو غيرهما فيحتاج إلى نية شيئين الفصل
والتعيين قال: واختلف أصحابنا في الفرضية فقال
بعضهم لا يحتاج إليها لأن التعيين يغني عنها:
ثم ساق اختلاف أصحاب أحمد وخلص إلى وجوب
التعيين (ط).
ج / 3 ص -170-
صِفَاتِهَا، كَالظُّهْرِيَّةِ
وَالْفَرْضِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ
يَقْصِدُ هَذِهِ الْعُلُومَ1 قَصْدًا
مُقَارِنًا لِأَوَّلِ التَّكْبِيرِ،
وَيَسْتَصْحِبُهُ حَتَّى يَفْرُغَ
التَّكْبِيرُ، وَلَا يَجِبُ اسْتِصْحَابُ
النِّيَّةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَلَكِنْ
يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَاقِضٍ
لَهَا، فَلَوْ نَوَى فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ
الْخُرُوجَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: يَجُوزُ أَنْ
تَتَقَدَّمَ النِّيَّةُ عَلَى التَّكْبِيرِ
بِزَمَانٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ لَا يَعْرِضُ
شَاغِلٌ عَنْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: يَجِبُ
أَنْ تَتَقَدَّمَ النِّيَّةُ عَلَى
التَّكْبِيرِ وَيُكَبِّرَ عَقِبَهَا بِلَا
فَصْلٍ وَلَا يَجِبُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا خَرَجَ مِنْ
مَنْزِلِهِ قَاصِدًا صَلَاةَ الظُّهْرِ مَعَ
الْإِمَامِ فَانْتَهَى إلَيْهِ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ فِيهَا وَلَمْ
يَحْضُرْهُ أَنَّهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ
أَجْزَأَهُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْكَفَّارَةِ: وَيَنْوِي مَعَ التَّكْفِيرِ
أَوْ قَبْلَهُ. قَالَ فَمِنْ أَصْحَابِنَا
مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي
الْكَفَّارَةِ مَعَ التَّكْفِيرِ
كَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ
أَوْ قَبْلَهُ يَعْنِي أَوْ قُبَيْلَهُ،
وَيَسْتَدْعِي ذِكْرَ النِّيَّةِ حَتَّى
يَكُونَ ذَاكِرًا لَهَا حَالَ التَّكْفِيرِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ
تَقْدِيمُ النِّيَّةِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ،
وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ
بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نِيَّةَ
الصَّلَاةِ آكَدُ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ
تَعَيُّنُهَا بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ
الْكَفَّارَةَ وَالزَّكَاةَ تَدْخُلُهَا
النِّيَابَةُ فَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى
تَقْدِيمِ نِيَّتِهِمَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّكَاةَ
وَالْكَفَّارَةَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَى
وُجُوبِهِمَا فَجَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ
بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى "فَإِنْ
كَانَتْ فَرِيضَةً لَزِمَهُ تَعْيِينُ
النِّيَّةِ فَيَنْوِي الظُّهْرَ أَوْ
الْعَصْرَ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا
وَهَلْ تَلْزَمُهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ يَلْزَمُهُ
لِتَتَمَيَّزَ عَنْ ظُهْرِ الصَّبِيِّ،
وَظُهْرِ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ، ثُمَّ
أَدْرَكَ جَمَاعَةً فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ،
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
يَكْفِيهِ نِيَّةٌ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛
لِأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ لَا يَكُونَانِ
فِي حَقِّ هَذَا إلَّا فَرْضًا وَلَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْأَدَاءَ أَوْ
الْقَضَاءَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ:
يَلْزَمُهُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَالْأَوَّلُ
هُوَ الْمَنْصُوصُ، فَإِنْ قَالَ فِيمَنْ
صَلَّى يَوْمَ الْغَيْمِ بِالِاجْتِهَادِ
فَوَافَقَ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ: أَنَّهُ
يُجْزِيهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ
يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ فِي
الْأَسِيرِ: إذَا اشْتَبَهَتْ
عَلَيْهِ الشُّهُورُ فَصَامَ يَوْمًا2
بِالِاجْتِهَادِ فَوَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ مَا
بَعْدَهُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ، وَإِنْ كَانَ
عِنْدَهُ أَنَّهُ يَصُومُ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ".
الشرح: إذَا أَرَادَ
فَرِيضَةً وَجَبَ قَصْدُ أَمْرَيْنِ بِلَا
خِلَافٍ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ الصَّلَاةِ
تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَلَا
يَكْفِي إحْضَارُ نَفْسِ الصَّلَاةِ
بِالْبَالِ غَافِلًا عَنْ الْفِعْلِ.
وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الصَّلَاةِ
الْمَأْتِيِّ بِهَا هَلْ هِيَ ظُهْرٌ أَمْ
عَصْرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، فَلَوْ نَوَى
فَرِيضَةَ الْوَقْتِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا
الرَّافِعِيُّ: أَحَدُهُمَا يُجْزِيهِ؛
لِأَنَّهَا هِيَ الظُّهْرُ مَثَلًا.
وَأَصَحُّهُمَا لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ
الْفَائِتَةَ الَّتِي يَتَذَكَّرُهَا
تُشَارِكُهَا فِي كَوْنِهَا فَرِيضَةَ
الْوَقْتِ، وَلَوْ نَوَى فِي غَيْرِ
الْجُمُعَةِ الْجُمُعَةَ بَدَلًا عَنْ
الظُّهْرِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، هَذَا هُوَ
الصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ،
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا
تَصِحُّ وَيَحْصُلُ لَهُ الظُّهْرُ، وَهُوَ
غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالطبعتين ش و ق ولعل الصواب (ثم يقصد
هذا العموم ).
2 في بعض النسخ (فصام يوما بالاجتهاد فوافق
رمضان الخ) "ط".
ج / 3 ص -171-
بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الظُّهْرِ، وَلَا تَصِحُّ
بِنِيَّةِ الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ إنْ
قُلْنَا: إنَّهَا صَلَاةٌ بِحِيَالِهَا،
وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ
صَحَّتْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: الْفَرِيضَةُ
وَفِيهَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ حَكَاهُمَا
الْمُصَنِّفُ، الْأَصَحُّ عِنْدَ
الْأَكْثَرِينَ اشْتِرَاطُهَا، سَوَاءٌ
كَانَتْ قَضَاءً أَمْ أَدَاءً، وَمِمَّنْ
صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَغَوِيُّ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَسَوَاءٌ كَانَ
النَّاوِي بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا وَهَذَا
ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا
يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ،
وَكَيْفَ يَنْوِي الْفَرِيضَةَ، وَصَلَاتُهُ
لَا تَقَعُ فَرْضًا؟ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا
صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ
الثَّانِي: الْإِضَافَةُ إلَى
الله تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ أَوْ
فَرِيضَةَ الله، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ
عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُمَا فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ،
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاشْتِرَاطَ
عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ
الثَّالِثُ: الْقَضَاءُ
وَالْأَدَاءُ وَفِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ،
أَصَحُّهَا: لَا
يُشْتَرَطَانِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَالثَّانِي:
يُشْتَرَطَانِ، وَهَذَا الْقَائِلُ يُجِيبُ
عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُصَلِّي فِي
الْغَيْمِ أَوْ الْأَسِيرِ بِأَنَّهُمَا
مَعْذُورَانِ،
وَالثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ
نِيَّةُ الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ، حَكَاهُ
الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ
يَتَمَيَّزُ بِالْوَقْتِ بِخِلَافِ
الْقَضَاءِ، وَالرَّابِعُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ
فَائِتَةٌ اُشْتُرِطَ نِيَّةُ الْأَدَاءِ
وَإِلَّا فَلَا، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ
الْحَاوِي أَمَّا إذَا كَانَ
عَلَيْهِ فَائِتَةٌ أَوْ فَوَائِتُ فَلَا
خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ
ظُهْرَ يَوْمِ الْخَمِيسِ مَثَلًا بَلْ
يَكْفِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ، وَالظُّهْرُ
الْفَائِتَةُ إذَا اشْتَرَطْنَا نِيَّةَ
الْقَضَاءِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ
الشَّامِلِ
وَغَيْرُهُمَا: لَوْ ظَنَّ أَنَّ وَقْتَ
الصَّلَاةِ قَدْ خَرَجَ فَصَلَّاهَا بِنِيَّةِ
الْقَضَاءِ فَبَانَ أَنَّهُ بَاقٍ أَجْزَأَهُ
بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ
عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى يَوْمَ الْغَيْمِ
بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ وَهُوَ يَظُنُّ بَقَاءَ
الْوَقْتِ فَبَانَ وُقُوعُ الصَّلَاةِ خَارِجَ
الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ
عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَالَ الرَّافِعِيُّ الْأَصَحُّ
أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ
وَالْأَدَاءِ، بَلْ يَصِحُّ الْأَدَاءُ
بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَكْسُهُ هَذَا
كَلَامُهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ لَكَ أَنْ
تَقُولَ: الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ
الْأَدَاءِ فِي الْأَدَاءِ وَنِيَّةِ
الْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ أَمَّا
الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِنِيَّةِ
الْأَدَاءِ وَعَكْسُهُ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛
لِأَنَّهُ إنْ جَرَتْ هَذِهِ النِّيَّةُ عَلَى
لِسَانِهِ أَوْ فِي قَلْبِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ
حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا فَيَنْبَغِي أَنْ
تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قَصَدَ
مَعْنَاهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ
بِلَا خِلَافٍ لِتَلَاعُبِهِ، هَذَا كَلَامُ
الرَّافِعِيِّ وَهَذَا الْإِلْزَامُ الَّذِي
ذَكَرَهُ حُكْمُهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ صَرَّحَ
الْأَصْحَابُ بِأَنَّ مَنْ نَوَى الْأَدَاءَ
إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ عَالِمًا بِالْحَالِ
لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ،
مِمَّنْ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي
مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ
مُرَادُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ:
الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ وَعَكْسُهُ
بَلْ مُرَادُهُمْ مَنْ نَوَى ذَلِكَ وَهُوَ
جَاهِلُ الْوَقْتِ لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا
فِي الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ عَنْ
الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَنَصِّ
الشَّافِعِيِّ وَالله أَعْلَمُ. الرَّابِعُ:
نِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَعَدَدُ
الرَّكَعَاتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ،
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَهُوَ
غَلَطٌ صَرِيحٌ لَكِنْ لَوْ نَوَى الظُّهْرَ
خَمْسًا أَوْ ثَلَاثًا لَا تَنْعَقِدُ
صَلَاتُهُ لِتَقْصِيرِهِ.
فرع: قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَصَاحِبُ
الْحَاوِي: الْعِبَادَاتُ
ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: يَفْتَقِرُ إلَى
نِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْوُجُوبِ
وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ
وَالطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى نَفْلًا
فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَعَ عَنْ
الْوَاجِبِ.
وَالثَّانِي: يَفْتَقِرُ إلَى
نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ دُونَ
التَّعْيِينِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ
وَالْكَفَّارَةُ.
وَالثَّالِثُ: يَفْتَقِرُ
إلَى
ج / 3 ص -172-
ِنيَّةِ
الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ
الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، وَفِي نِيَّةِ
الْوُجُوبِ وَجْهَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
كَانَتْ الصَّلَاةُ سُنَّةً رَاتِبَةً
كَالْوِتْرِ وَسُنَّةِ الْفَجْرِ لَمْ تَصِحَّ
حَتَّى تُعَيَّنَ النِّيَّةُ لِتَتَمَيَّزَ
عَنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً
غَيْرَ رَاتِبَةٍ أَجْزَأَتْهُ نِيَّةُ
الصَّلَاةِ.
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: النَّوَافِلُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا
لَهَا وَقْتٌ أَوْ سَبَبٌ كَسُنَنِ
الْمَكْتُوبَاتِ وَالضُّحَى وَالْوِتْرِ
وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدِ
وَغَيْرِهَا فَيُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ
فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْيِينِ، فَيَنْوِي
مَثَلًا صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْخُسُوفِ
وَعِيدِ الْفِطْرِ أَوْ الْأَضْحَى أَوْ
الضُّحَى وَنَحْوِهَا، وَفِي الرَّوَاتِبِ
تُعَيَّنُ بِالْإِضَافَةِ فَيَنْوِي سُنَّةَ
الصُّبْحِ أَوْ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي
قَبْلَهَا أَوْ الَّتِي بَعْدَهَا أَوْ
سُنَّةَ الْعَصْرِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ
وَجْهًا ضَعِيفًا وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ
الشَّامِلِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الرَّوَاتِبِ
سِوَى سُنَّةِ الصُّبْحِ نِيَّةُ أَصْلِ
الصَّلَاةِ لِتَأَكُّدِ سُنَّةِ الصُّبْحِ
فَالْتُحِقَتْ بِالْفَرَائِضِ. وَأَمَّا
الْوِتْرُ فَيَنْوِي سُنَّةَ الْوِتْرِ وَلَا
يُضِيفُهَا إلَى الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا
مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ
مِنْ رَكْعَةٍ نَوَى بِالْجَمِيعِ لِلْوِتْرِ
إنْ كَانَ بِتَسْلِيمَةٍ، وَإِنْ كَانَ
بِتَسْلِيمَاتٍ نَوَى بِكُلِّ تَسْلِيمَةٍ
رَكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ، وَقِيلَ:
يَنْوِي بِمَا قَبْلَ الْأَخِيرِ صَلَاةَ
اللَّيْلِ، وَقِيلَ: يَنْوِي بِهِ سُنَّةَ
الْوِتْرِ، وَقِيلَ مُقَدِّمَةَ الْوِتْرِ،
وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي الْأَفْضَلِ
وَالْأَوْلَوِيَّةِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
الضَّرْبُ الثَّانِي:
النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ فَيَكْفِي فِيهَا
نِيَّةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَنَقَلَ
الرَّافِعِيُّ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ
النَّفْلِيَّةِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ
وَجْهَيْنِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَهَا
فِي الضَّرْبِ الثَّانِي، قَالَ: وَيُمْكِنُ
أَنْ يُقَالَ بِجَرَيَانِهِمَا قُلْتُ:
الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ
النَّفْلِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ وَلَا فِي
الثَّانِيَةِ لِعَدَمِ الْمَعْنَى الَّذِي
عَلَّلَ بِهِ الِاشْتِرَاطَ فِي الْفَرِيضَةِ
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ
الْأَصْحَابِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
أَحْرَمَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَى؟ ثُمَّ
ذَكَرَ أَنَّهُ نَوَى [فَإِنْ1 كَانَ] قَبْلَ
أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ
الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ
بَعْدَ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ
[ذَلِكَ] وَهُوَ شَاكٌّ فِي صَلَاتِهِ.
الشرح: إذَا شَكَّ هَلْ
نَوَى أَوْ لَا؟ أَوْ هَلْ أَتَى بِبَعْضِ
شُرُوطِ النِّيَّةِ أَمْ لَا وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ؟ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا
يَفْعَلَ شَيْئًا فِي حَالِ الشَّكِّ، فَإِنْ
تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَتَى بِكَمَالِهَا قَبْلَ
أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا عَلَى الشَّكِّ
وَقِصَرِ الزَّمَانِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ
بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ عَلَى
أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِانْقِطَاعِ
نَظْمِهَا، حَكَى الْوَجْهَيْنِ
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَاحِبُ
الْحَاوِي وَإِنْ تَذَكَّرَ
بَعْدَ أَنْ أَتَى مَعَ الشَّكِّ بِرُكْنٍ
فِعْلِيٍّ كَرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ
اعْتِدَالٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ أَتَى
بِرُكْنٍ قَوْلِيٍّ كَالْقِرَاءَةِ
وَالتَّشَهُّدِ بَطَلَتْ أَيْضًا عَلَى
أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ
فِي
الْأُمِّ ، وَبِهِ قَطَعَ
الْعِرَاقِيُّونَ كَالْفِعْلِيِّ.
وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ، وَبِهِ قَطَعَ
الْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ لَا
يُخِلُّ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ، قَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي: لَوْ شَكَّ هَلْ
نَوَى ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا؟ لَمْ يُجْزِئْهُ
عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ
تَيَقَّنَهَا فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ،
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ: إذَا
فَعَلَ رُكْنًا فِي حَالِ الشَّكِّ أَطْلَقَ
الْأَصْحَابُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ إنْ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مابين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).
ج / 3 ص -173-
بِحُكْمِ
الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا
فَإِطْلَاقُهُمْ الْبُطْلَانَ مُشْكِلٌ وَلَا
يَبْعُدُ أَنْ يُعْذَرَ لِجَهْلِهِ قُلْتُ:
إنَّمَا لَمْ يَعْذُرُوهُ؛ لِأَنَّهُ
مُفَرِّطٌ بِالْفِعْلِ فِي حَالِ الشَّكِّ
فَإِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ
بِخِلَافِ مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ رُكْنًا
نَاسِيًا فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِي
النِّسْيَانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ نَوَى
أَنَّهُ سَيَخْرُجُ أَوْ شَكَّ هَلْ يَخْرُجُ
أَمْ لَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ
النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ،
وَقَدْ قَطَعَ ذَلِكَ بِمَا أَحْدَثَ
فَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَالطَّهَارَةِ إذَا
قَطَعَهَا بِالْحَدَثِ.
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: الْعِبَادَاتُ فِي قَطْعِ
النِّيَّةِ عَلَى أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ:
الْإِسْلَامُ وَالصَّلَاةُ فَيَبْطُلَانِ
بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهُمَا
وَبِالتَّرَدُّدِ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ أَمْ
يَبْقَى، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ،
وَالْمُرَادُ بِالتَّرَدُّدِ: أَنْ يَطْرَأَ
شَكٌّ مُنَاقِضٌ جَزْمَ النِّيَّةِ، وَأَمَّا
مَا يَجْرِي فِي الْفِكْرِ أَنَّهُ لَوْ
تَرَدَّدَ فِي الصَّلَاةِ كَيْفَ يَكُونُ
الْحَالُ؟ فَهَذَا مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ
الْمُوَسْوِسُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ
قَطْعًا. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ يَقَعُ
ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِالله تَعَالَى فَلَا
تَأْثِيرَ لَهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَلَوْ
نَوَى فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ
مِنْ الصَّلَاةِ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ، أَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ
بِشَيْءٍ يُوجَدُ فِي صَلَاتِهِ قَطْعًا
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي الْحَالِ. هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ
وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ حَكَاهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ
السِّنْجِيِّ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ فِي
الْحَالِ، بَلْ لَوْ رَفَضَ هَذَا
التَّرَدُّدَ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ إلَى
الْغَايَةِ الْمَنْوِيَّةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ.
وَلَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ بِدُخُولِ شَخْصٍ
وَنَحْوِهِ مِمَّا يُحْتَمَلُ حُصُولُهُ فِي
الصَّلَاةِ وَعَدَمُهُ فَوَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: تَبْطُلُ كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي
الصَّلَاةِ هَكَذَا، فَإِنَّهَا لَا
تَنْعَقِدُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَمَا لَوْ
عَلَّقَ بِهِ الْخُرُوجَ عَنْ الْإِسْلَامِ -
وَالْعِيَاذُ بِالله تَعَالَى - فَإِنَّهُ
يَكْفُرُ فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ،
وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ،
فَعَلَى هَذَا إنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ وَهُوَ
ذَاهِلٌ عَنْ التَّعْلِيقِ فَفِي بُطْلَانِهَا
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ قَالَهُ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ فِي
الْحَالِ غَافِلٌ، وَالنِّيَّةُ الْأُولَى
لَمْ تُؤَثِّرْ،
وَأَصَحُّهُمَا: تَبْطُلُ،
وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ
السِّنْجِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيَظْهَرُ عَلَى
هَذَا أَنْ يُقَالَ تَبَيَّنَ بِالصِّفَةِ
بُطْلَانُهَا مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ، أَمَّا
إذَا وُجِدَتْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلتَّعْلِيقِ
فَتَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ نَوَى فِي
الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي
الثَّانِيَةِ أَوْ يَأْكُلَ أَوْ يَفْعَلَ
فِعْلًا مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ
فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ
رحمه الله بِقَوْلِهِ: وَلَا تَبْطُلُ
الصَّلَاةُ بِعَمَلِ الْقُلُوبِ. وَالْفَرْقُ
بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ نَوَى تَعْلِيقَ
النِّيَّةِ أَوْ قَطْعَهَا فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِجَزْمِ
النِّيَّةِ فِي كُلِّ صَلَاتِهِ، وَهَذَا
لَيْسَ بِجَازِمٍ. وَأَمَّا مَنْ نَوَى
الْفِعْلَ فَاَلَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ
يَأْتِيَ بِفِعْلٍ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ وَلَمْ
يَأْتِ بِهِ فَإِذَا أَتَى بِهِ بَطَلَتْ ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمِثْلُ هَذَا إذَا
دَخَلَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ
بِنِيَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ فِرْقَةٍ
رَكْعَةً مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ، وَقُلْنَا:
تَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا لَا
تَبْطُلُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ
بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ عَلَى تَفْصِيلٍ
فِيهِ مَعْرُوفٍ فَقَدْ نَوَى فِي أَوَّلِ
صَلَاتِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِي أَثْنَائِهَا
فِعْلًا مُبْطِلًا، وَلَمْ تَبْطُلْ فِي
الْحَالِ وَالله أَعْلَمُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي:
الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ: فَإِذَا نَوَى
الْخُرُوجَ مِنْهُمَا وَنَوَى قَطْعَهُمَا
لَمْ يَنْقَطِعَا بِلَا خِلَافٍ ،
ج / 3 ص -174-
وَلِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا
بِالْإِفْسَادِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ:
الصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ فَإِذَا جَزَمَ فِي
أَثْنَائِهِمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ
مِنْهُمَا فَفِي بُطْلَانِهِمَا وَجْهَانِ
مَشْهُورَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ فِي بَابَيْهِمَا، أَصَحُّهُمَا
لَا يَبْطُلُ كَالْحَجِّ وَصَحَّحَ
الْمُصَنِّفُ فِي الصَّوْمِ الْبُطْلَانَ
وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَلَكِنَّ
الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: لَا تَبْطُلُ، وَلَوْ
تَرَدَّدَ الصَّائِمُ فِي قَطْعِ نِيَّةِ
الصَّوْمِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ أَوْ عَلَّقَهُ
عَلَى دُخُولِ شَخْصٍ وَنَحْوِهِ
فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى
الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ جَزَمَ بِالْخُرُوجِ
مِنْهُ. وَالثَّانِي: - وَهُوَ الْمَذْهَبُ
وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَبْطُلُ
وَجْهًا وَاحِدًا.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ:
الْوُضُوءُ فَإِنْ نَوَى قَطْعَهُ فِي
أَثْنَائِهِ لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى مِنْهُ
عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنْ
يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ لِمَا بَقِيَ، وَإِنْ
نَوَى قَطْعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَمْ
يَبْطُلْ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا لَوْ نَوَى
قَطْعَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ بَعْدَ فَرَاغِهَا
فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ
وَقِيلَ: فِي بُطْلَانِ الْوُضُوءِ وَجْهَانِ؛
لِأَنَّ أَثَرَهُ بَاقٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي
بِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا،
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مُسْتَقْصًى فِي آخِرِ بَابِ نِيَّةِ
الْوُضُوءِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَسَائِلَ
كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ فِي
الصَّلَاةِ وَفِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ
وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ
الصَّلَاةِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَبْطُلُ
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَبْطُلُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
دَخَلَ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ صَرَفَ النِّيَّةَ
إلَى الْعَصْرِ بَطَلَ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّهُ
قَطَعَ نِيَّتَهَا وَلَمْ يَصِحَّ الْعَصْرُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ،
وَإِنْ صَرَفَ نِيَّةَ الظُّهْرِ إلَى
التَّطَوُّعِ؛ بَطَلَ الظُّهْرُ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ، وَفِي التَّطَوُّعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ
لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَصْرِ:
وَالثَّانِي: تَصِحُّ لِأَنَّ نِيَّةَ
الْفَرْضِ تَتَضَمَّنُ نِيَّةَ النَّفْلِ
بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الظُّهْرِ
قَبْلَ الزَّوَالِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ
بَعْدَ الزَّوَالِ كَانَتْ صَلَاتُهُ
نَافِلَةً.
الشرح: مَتَى دَخَلَ فِي
فَرِيضَةٍ ثُمَّ صَرَفَ نِيَّتَهُ إلَى
فَرِيضَةٍ أُخْرَى أَوْ نَافِلَةٍ بَطَلَتْ
الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ
الَّتِي نَوَاهَا بِلَا خِلَافٍ لِمَا
ذَكَرَهُ. وَفِي انْقِلَابِهَا نَافِلَةً
خِلَافٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ أَتَى
بِمَا يُنَافِي الْفَرِيضَةَ دُونَ
النَّفْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ فَرِيضَةٍ أَوْ
أَثْنَائِهَا بَطَلَ فَرْضُهُ، وَهَلْ تَبْقَى
صَلَاتُهُ نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ اخْتَلَفَ فِي الْأَصَحِّ مِنْهُمَا
بِحَسْبِ الصُّوَرِ، فَمِنْهَا إذَا قَلَبَ
ظُهْرَهُ إلَى عَصْرٍ أَوْ إلَى نَفْلٍ بِلَا
سَبَبٍ أَوْ وَجَدَ الْمُصَلِّي قَاعِدًا
خِفَّةً فِي صَلَاتِهِ وَقَدَرَ عَلَى
الْقِيَامِ فَلَمْ يَقُمْ أَوْ أَحْرَمَ
الْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ
قَاعِدًا فَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا
لَوْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ
فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ -
فَالْأَصَحُّ الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّهُ
مُتَلَاعِبٌ، وَإِنْ جَهِلَ وَظَنَّ دُخُولَ
الْوَقْتِ فَالصَّحِيحُ انْعِقَادُهَا
نَفْلًا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَكْثَرُونَ. وَمِنْهَا لَوْ وَجَدَ
الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَأَتَى
بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْضِهَا
فِي الرُّكُوعِ لَا يَنْعَقِدُ فَرْضًا بِلَا
خِلَافٍ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ
فَالْأَصَحُّ بُطْلَانُهَا. وَالثَّانِي:
تَنْعَقِدُ نَفْلًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ
تَحْرِيمَهَا فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهَا
نَفْلًا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي
الْأُمِّ ، وَبِهِ قَطَعَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِمَا. وَمِنْهَا
لَوْ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ
أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ فَسَلَّمَ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ لِيُدْرِكَهَا، الْأَصَحُّ:
صِحَّتُهَا، وَالثَّانِي: تَبْطُلُ، وَمِنْهَا
لَوْ شَرَعُوا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي
وَقْتِهَا، ثُمَّ خَرَجَ
ج / 3 ص -175-
الْوَقْتُ وَهُمْ فِيهَا فَالْمَذْهَبُ
أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا
وَتُجْزِيهِمْ، وَقَطَعَ بِهَذَا الْمُصَنِّفُ
وَالْعِرَاقِيُّونَ. وَعِنْدَ
الْخُرَاسَانِيِّينَ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا
هَذَا، وَالثَّانِي: لَا تُجْزِيهِمْ عَنْ
الظُّهْرِ بَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ
الظُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَنْقَلِبُ
نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ
أَصَحُّهُمَا تَنْقَلِبُ نَفْلًا.
فَرْعٌ: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ
بِالنِّيَّةِ.
إحْدَاهَا: لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ
بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ
أَوْ لِسَانِهِ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ
التَّبَرُّكَ وَوُقُوعَ الْفِعْلِ بِمَشِيئَةِ
الله تَعَالَى - لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ
قَصَدَ بِهِ التَّعْلِيقَ أَوْ الشَّكَّ لَمْ
يَصِحَّ. ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ
الثَّانِيَةُ: لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ
النِّيَّةَ فِي إحْدَاهُمَا وَجَهِلَ
عَيْنَهَا لَزِمَهُ إعَادَتُهُمَا جَمِيعًا
الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ:
صَلِّ الظُّهْرَ لِنَفْسِكَ وَلَك عَلَيَّ
دِينَارٌ فَصَلَّاهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ
أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ
الدِّينَارَ. ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِ
الْكَفَّارَاتِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ أَعْتَقَ
عَنْ الْكَفَّارَةِ عَبْدًا بِعِوَضٍ,
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَنْ صَلَّى وَقَصَدَ
دَفْعَ غَرِيمِهِ عَنْهُ فِي ضِمْنِ
الصَّلَاةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ
الصَّبَّاغِ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ
فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى: ثُمَّ
يُكَبِّرُ وَالتَّكْبِيرُ لِلْإِحْرَامِ
فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ
عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، إلَّا
أَنَّ فِيهِ عَبْدَ الله بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
عَقِيلٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا
الْحَدِيثُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ
وَأَحْسَنُهُ، قَالَ: وَعَبْدُ الله بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ صَدُوقُ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ
قِبَلِ حِفْظِهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُ
الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَالْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّونَ
بِحَدِيثِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْوُضُوءُ
مِفْتَاحًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ مَانِعٌ مِنْ
الصَّلَاةِ كَالْغَلْقِ عَلَى الْبَابِ
يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ إلَّا بِمِفْتَاحٍ،
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ". قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ أَصْلُ التَّحْرِيمِ مِنْ
قَوْلِكَ: حَرَمْتُ فُلَانًا كَذَا أَيْ
مَنَعْتُهُ، وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهُوَ حَرَامٌ
وَحِرْمٌ، فَسَمَّى التَّكْبِيرَ تَحْرِيمًا؛
لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُصَلِّي مِنْ
الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِمَا
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ رُكْنٌ مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ إلَّا
بِهَا. هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ.
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُنَا
عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَنْعَقِدُ
الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بِلَا
تَكْبِيرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَمْ
يَقُلْ بِهِ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ وَحَكَى
أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ
عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ شَرْطٌ
لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا، وَلَكِنْ
لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ هِيَ كَسَتْرِ
الْعَوْرَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهُ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَيَظْهَرُ فَائِدَةُ
الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِيمَا لَوْ
كَبَّرَ وَفِي يَدِهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ
أَلْقَاهَا فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرَةِ،
أَوْ شَرَعَ فِي التَّكْبِيرَةِ قَبْلَ
ظُهُورِ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ ظَهَرَ
الزَّوَالُ قَبْلَ فَرَاغِهَا فَلَا تَصِحُّ
صَلَاتُهُ عِنْدَنَا فِي الصُّورَتَيْنِ،
وَتَصِحُّ عِنْدَهُ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ.
وَاحْتُجَّ لِلزُّهْرِيِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى
الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلِلْكَرْخِيِّ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15].
ج / 3 ص -176-
فَعَقَّبَ الذِّكْرَ بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا، وَبِقَوْلِهِ
صلى الله عليه وسلم وَتَحْرِيمُهَا
التَّكْبِيرُ، وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي أَنَّ
الْمُضَافَ غَيْرُ الْمُضَافِ إلَيْهِ،
كَدَارِ زَيْدٍ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى الزُّهْرِيِّ حَدِيثُ
تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَحَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الْمُسِيءِ
صَلَاتَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ لَهُ:
"إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ
الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ
فَكَبِّرْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا
أَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله
عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ لَهُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ إلَّا الْفُرُوضَ خَاصَّةً،
وَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ".
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ
الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَهَذَا مُقْتَضَى وُجُوبِ كُلِّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم إلَّا مَا خَرَجَ وُجُوبُهُ
بِدَلِيلٍ كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مَا يَرَى وَهِيَ
الْأَفْعَالُ دُونَ الْأَقْوَالِ، فَأَجَابَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ
بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ
الْمُرَادَ رُؤْيَةُ شَخْصِهِ صلى الله عليه
وسلم وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ صلى الله عليه
وسلم أَوْ قَالَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ
بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، أَيْ صَلُّوا كَمَا
عَلِمْتُمُونِي أُصَلِّي.
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّوْمِ
وَالْحَجِّ أَنَّهُمَا لَيْسَا مَبْنِيَّيْنِ
عَلَى النُّطْقِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ،
وَدَلِيلُنَا عَلَى الْكَرْخِيِّ حَدِيثُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ هَذِهِ
الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ
كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ
التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ
الْقُرْآنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ تَكْبِيرَاتُ
الِانْتِقَالَاتِ، فَجَوَابُهُ مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ
عَامٌّ وَلَا يُقْبَلُ تَخْصِيصُهُ إلَّا
بِدَلِيلٍ:
وَالثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ
عَلَى تَكْبِيرَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا
بِالِاتِّفَاقِ أَوْلَى مِنْ تَكْبِيرَةٍ لَا
تَجِبُ، وَالْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى:
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا تَكْبِيرَةَ
الْإِحْرَامِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ خِلَافِ
الْمُخَالِفِ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ:
الْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ أَنَّ
الْإِضَافَةَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْتَضِي
الْمُغَايَرَةَ كَثَوْبِ زَيْدٍ،
وَالثَّانِي:
تَقْتَضِي الْجُزْئِيَّةَ كَقَوْلِهِ: رَأْسُ
زَيْدٍ، وَصَحْنُ الدَّارِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ
عَلَى الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لَا تَصِحُّ
الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا، فَلَوْ تَرَكَهَا
الْإِمَامُ أَوْ الْمَأْمُومُ سَهْوًا أَوْ
عَمْدًا لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ وَلَا
تُجْزِئُ عَنْهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ
وَلَا غَيْرُهَا، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ
وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: إذَا نَسِيَهَا فِيهَا
أَجْزَأَتْهُ عَنْهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ،
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَرِوَايَةً عَنْ
حَمَّادِ1 بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. قَالَ
الْعَبْدَرِيُّ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي
الْمَأْمُومِ مِثْلُهُ، لَكِنَّهُ قَالَ
يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ بَعْدَ سَلَامِ
الْإِمَامِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (حامد بن أبي سليمان) وهو خطأ
وإنما هو حماد بن أبي سليمان الأشعري مولاهم
أبو إسماعيل الكوفي مات سنة 120 (ط).
ج / 3 ص -177-
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم كَانَ يَدْخُلُ بِهِ الصَّلَاةَ وَقَالَ
صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَإِنْ قَالَ: اللَّهُ الْأَكْبَرُ أَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى
بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَزَادَ
زِيَادَةً لَا تُحِيلُ الْمَعْنَى، فَهُوَ
كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا.
الشرح: أَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ
فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ
فَالْأَحَادِيثُ فِيهِ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ،
فَإِنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ انْعَقَدَتْ
صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قَالَ:
اللَّهُ الْأَكْبَرُ انْعَقَدَتْ عَلَى
الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ
وَغَيْرُهُمَا قَوْلًا أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ
بِهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ وَدَاوُد. قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ
التَّكْبِيرَةِ وَلَا يُجْزِئُ مَا قَرُبَ
مِنْهَا، كَقَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ،
وَالله أَعْظَمُ وَالله كَبِيرٌ، وَالرَّبُّ
أَكْبَرُ وَغَيْرُهَا.
وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا
أَنَّهُ يُجْزِيهِ: الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَوْ
الرَّحِيمُ أَكْبَرُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ
وَأَمَّا إذَا كَبَّرَ وَزَادَ مَا لَا
يُغَيِّرُهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ
وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَالله أَكْبَرُ
كَبِيرًا وَالله أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
فَيُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى
بِالتَّكْبِيرِ وَزَادَ مَا لَا يُغَيِّرُهُ،
وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ الْجَلِيلُ أَكْبَرُ
أَجْزَأَهُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ،
وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ أَدْخَلَ بَيْنَ
لَفْظَتَيْ التَّكْبِيرِ لَفْظَةً أُخْرَى
مِنْ صِفَاتِ الله بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطُولَ
كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ،
فَإِنْ طَالَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي لَا
إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
أَكْبَرُ لَمْ يُجْزِئْهُ بِلَا خِلَافٍ،
لِخُرُوجِهِ عَنْ اسْمِ التَّكْبِيرِ،
وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ فِي التَّكْبِيرِ عَنْ
الْوَقْفَةِ بَيْنَ كَلِمَتَيْهِ وَعَنْ
زِيَادَةٍ تُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنْ وَقَفَ
أَوْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ بِمَدِّ هَمْزَةِ
الله أَوْ بِهَمْزَتَيْنِ، أَوْ قَالَ:
اللَّهُ أَكْبَارُ أَوْ زَادَ وَاوًا
سَاكِنَةً أَوْ مُتَحَرِّكَةً بَيْنَ
الْكَلِمَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ تَكْبِيرُهُ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْجُوَيْنِيُّ فِي
التَّبْصِرَةِ: وَلَا يَجُوزُ
الْمَدُّ إلَّا عَلَى الْأَلِفِ الَّتِي
بَيْنَ اللَّامِ وَالْهَاءِ وَلَا يُخْرِجُهَا
بِالْمَدِّ عَنْ حَدِّ الِاقْتِصَادِ
لِلْإِفْرَاطِ، وَإِذَا قَالَ: أُصَلِّي
الظُّهْرَ مَأْمُومًا أَوْ إمَامًا اللَّهُ
أَكْبَرُ فَلْيَقْطَعْ الْهَمْزَةَ مِنْ
قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَيُخَفِّفُهَا
فَلَوْ وَصَلَهَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى،
وَلَكِنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَمِمَّنْ
صَرَّحَ بِهِ1.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
قَالَ: أَكْبَرُ اللَّهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا يُجْزِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ
عَلَيْكُمْ السَّلَامُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ،
وَالثَّانِي لَا يُجْزِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ
قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ
التَّرْتِيبَ فِي الذِّكْرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ
قَدَّمَ آيَةً عَلَى آيَةٍ وَهَذَا يَبْطُلُ
بِالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ".
الشرح: إذَا قَالَ
أَكْبَرُ اللَّهُ أَوْ الْأَكْبَرُ اللَّهُ
نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ
وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي آخِرِ
الصَّلَاةِ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ يُجْزِيهِ
فَقِيلَ فِيهِمَا قَوْلَانِ بِالنَّقْلِ
وَالتَّخْرِيجِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ
يُجْزِيهِ فِي السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى
تَسْلِيمًا وَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ
مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ
مُعْتَادٌ وَلَا يُجْزِيهِ فِي التَّكْبِيرِ؛
لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا، وَقِيلَ
يُجْزِيهِ فِي قَوْلِهِ الْأَكْبَرُ اللَّهُ
دُونَ أَكْبَرُ اللَّهُ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ،
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا عَنْ
وَالِدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ ثُمَّ قَالَ
وَهَذَا زَلَلٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِتَمَيُّزِهِ
فِي عِلْمِ اللِّسَانِ وَصَحَّحَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ الْإِجْزَاءَ فِيهِمَا
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ ثُمَّ
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّعْلِيلِ
بِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَكْبِيرًا هُوَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل (ش) .
ج / 3 ص -178-
الصَّوَابُ، وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ
فَضَعِيفٌ، وَمِمَّنْ قَالَ: الْأَصَحُّ
أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَكْبَرُ اللَّهُ
وَالْأَكْبَرُ اللَّهُ صَاحِبُ
"الْحَاوِي" ، وَحَكَاهُ
أَبُو حَامِدٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ
وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ
الْمَرْوَرُوذِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ
الطَّبَرِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي"الْبَسِيطِ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
كَبَّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ
بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِقَوْلِهِ
صلى الله عليه وسلم
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ أَنْ
يَتَعَلَّمَ كَبَّرَ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ
عَجَزَ عَنْ اللَّفْظِ فَأَتَى بِمَعْنَاهُ،
وَإِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَزِمَهُ أَنْ
يَتَعَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ
وَكَبَّرَ بِلِسَانِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ تَرَكَ اللَّفْظَ1 مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ.
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ
قَرِيبًا، وَإِذَا كَبَّرَ بِغَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُهَا لَمْ
تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كَلِمَةِ التَّكْبِيرِ
أَوْ بَعْضِهَا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا
يُمْكِنَهُ كَسْبُ الْقُدْرَةِ بِأَنْ كَانَ
بِهِ خَرَسٌ وَنَحْوُهُ وَجَبَ أَنْ يُحَرِّكَ
لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ وَلَهَاتَهُ
بِالتَّكْبِيرِ قَدْرَ إمْكَانِهِ، وَإِنْ
كَانَ نَاطِقًا لَا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ
لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَرْجَمَةِ
التَّكْبِيرِ وَلَا يُجْزِيهِ الْعُدُولُ إلَى
ذِكْرٍ آخَرَ، ثُمَّ جَمِيعُ اللُّغَاتِ فِي
التَّرْجَمَةِ سَوَاءٌ فَيَتَخَيَّرُ
بَيْنَهَا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ
الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَفِيهِ وَجْهٌ
ضَعِيفٌ: إنْ أَحْسَنَ السُّرْيَانِيَّةَ أَوْ
الْعِبْرَانِيَّةَ تَعَيَّنَتْ لِشَرَفِهَا
بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ بِهَا وَبَعْدَهُمَا
الْفَارِسِيَّةُ أَوْلَى مِنْ التُّرْكِيَّةِ
وَالْهِنْدِيَّةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ
"الْحَاوِي" : إذَا لَمْ
يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ وَأَحْسَنَ
الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّة فَفِيهِ
ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُكَبِّرُ
بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ
اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ:
وَالثَّانِي:
بِالسُّرْيَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَنْزَلَ بِهَا كِتَابًا وَلَمْ
يُنْزِلْ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالثَّالِثُ:
يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا قَالَ: فَإِنْ كَانَ
يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ وَالْفَارِسِيَّةَ
فَهَلْ تَتَعَيَّنُ الْفَارِسِيَّةُ أَمْ
يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَلَوْ كَانَ
يُحْسِنُ النَّبَطِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّة
فَهَلْ تَتَعَيَّنُ السُّرْيَانِيَّةُ أَمْ
يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فَإِنْ كَانَ
يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ وَالْهِنْدِيَّةَ
تَخَيَّرَ بِلَا خِلَافٍ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ
يُمْكِنَهُ الْقُدْرَةُ بِتَعَلُّمٍ أَوْ
نَظَرٍ فِي مَوْضِعِ كُتُبٍ عَلَيْهِ لَفْظُ
التَّكْبِيرِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
قَادِرٌ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ أَوْ
مَوْضِعٍ لَا يَجِدُ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ
التَّكْبِيرَ لَزِمَهُ الْمَسِيرُ إلَى
قَرْيَةٍ يَتَعَلَّمُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ،
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ
يُجْزِيهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ
الْمَسِيرُ إلَى قَرْيَةِ الْوُضُوءِ بَلْ
لَهُ التَّيَمُّمُ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ
"الْحَاوِي". وَالْمَذْهَبُ
الْأَوَّلُ، وَصَحَّحَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ وَآخَرُونَ؛ لِأَنَّ نَفْعَ
تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ يَدُومُ. وَنَقَلَ
الْإِمَامُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسِيرِ
لِتَعَلُّمِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّكْبِيرِ،
وَقَالَ: عَدَمُ الْوُجُوبِ ضَعِيفٌ وَلَا
تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ
لِمَنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ فِي آخِرِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ
الْعَرَبِيَّةَ تَرْجَمَ، وَمَتَى أَمْكَنَهُ
التَّعَلُّمُ وَجَبَ، وَإِذَا صَلَّى
بِالتَّرْجَمَةِ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ
فَلَا إعَادَةَ، وَأَمَّا فِي الْحَالِ
الثَّانِي فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ
التَّعَلُّمِ لِبَلَادَةِ ذِهْنِهِ أَوْ
قِلَّةِ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ الْوَقْتِ فَلَا
إعَادَةَ أَيْضًا، وَإِنْ أَخَّرَ
التَّعَلُّمَ مَعَ التَّمَكُّنِ وَضَاقَ
الْوَقْتُ صَلَّى بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَزِمَهُ
الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ لِتَقْصِيرِهِ،
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض نسخ المهذب (لأنه ترك الفرض) (ط).
ج / 3 ص -179-
لَا
إعَادَةَ وَهُوَ غَرِيبٌ وَغَلَطٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
كَانَ بِلِسَانِهِ خَبْلٌ أَوْ خَرَسٌ
حَرَّكَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ
صلى الله عليه وسلم
"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ
طَوِيلٍ وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ كَثِيرُ
الْفَوَائِدِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ
الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ،
وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي جُزْءٍ فَبَلَغَتْ
أَرْبَعِينَ حَدِيثًا1، قَوْلُهُ: وَإِنْ
كَانَ بِلِسَانِهِ خَبْلٌ، هُوَ بِفَتْحِ
الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ الْفَسَادُ وَجَمْعُهُ
خُبُولٌ، فَإِذَا كَانَ بِلِسَانِهِ خَبْلٌ
أَوْ خَرَسٌ لَزِمَهُ أَنْ يُحَرِّكَهُ قَدْرَ
إمْكَانِهِ، وَلَوْ شُفِيَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَأَفْصَحَ بِالتَّكْبِيرِ فَلَا إعَادَةَ
عَلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ
وُجُوبِ تَحْرِيكِهِ قَدْرَ إمْكَانِهِ هُوَ
نَصُّهُ فِي الْأُمِّ، وَاتَّفَقَ
الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَهَكَذَا حُكْمُ تَشَهُّدِهِ وَسَلَامِهِ
وَسَائِرِ أَذْكَارِهِ، وَلِإِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالٌ فِي وُجُوبِ
تَحْرِيكِ اللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
جُزْءًا مِنْ الْقِرَاءَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى
"وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ
بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ،
وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يُسِرَّ بِهِ
وَأَدْنَاهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ".
الشرح: يُسْتَحَبُّ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِتَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ وَبِتَكْبِيرَاتِ
الِانْتِقَالَاتِ لِيُسْمِعَ الْمَأْمُومِينَ
فَيَعْلَمُوا صِحَّةَ صَلَاتِهِ. فَإِنْ كَانَ
الْمَسْجِدُ كَبِيرًا لَا يَبْلُغُ صَوْتُهُ
إلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ أَوْ كَانَ ضَعِيفَ
الصَّوْتِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ أَوْ مِنْ
أَصْلِ خِلْقَتِهِ بَلَّغَ عَنْهُ بَعْضُ
الْمَأْمُومِينَ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عَلَى حَسْبِ الْحَاجَةِ، لِلْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم
"صَلَّى فِي
مَرَضِهِ بِالنَّاسِ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله
عنه يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ
وَسَأَبْسُطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي
أَوَّلِ فَصْلِ الرُّكُوعِ - إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا غَيْرُ
الْإِمَامِ فَالسُّنَّةُ الْإِسْرَارُ
بِالتَّكْبِيرِ سَوَاءٌ الْمَأْمُومُ
وَالْمُنْفَرِدُ، وَأَدْنَى الْإِسْرَارِ أَنْ
يُسْمِعَ [نَفْسَهُ] إذَا كَانَ صَحِيحَ
السَّمْعِ وَلَا عَارِضَ عِنْدَهُ مِنْ لَفْظٍ
وَغَيْرِهِ. وَهَذَا عَامٌّ فِي الْقِرَاءَةِ
وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ
وَغَيْرِهِ ، وَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ
وَالدُّعَاءِ، سَوَاءٌ وَاجِبُهَا وَنَفْلُهَا
لَا يُحْسَبُ شَيْءٌ مِنْهَا حَتَّى يُسْمِعَ
نَفْسَهُ إذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ وَلَا
عَارِضَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ رَفَعَ
بِحَيْثُ يُسْمَعُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا
يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، هَكَذَا نَصَّ
عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ
الْأَصْحَابُ. قَالَ أَصْحَابُنَا
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى
إسْمَاعِ نَفْسِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" : يُسْمِعُ
نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ.
فرع: فِي مَسَائِلَ
تَتَعَلَّقُ بِالتَّكْبِيرِ
إحْدَاهَا: يَجِبُ أَنْ
يُكَبِّرَ لِلْإِحْرَامِ قَائِمًا حَيْثُ
يَجِبُ الْقِيَامُ وَكَذَا الْمَسْبُوقُ
الَّذِي يُدْرِكُ الْإِمَامَ رَاكِعًا يَجِبُ
أَنْ تَقَعَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ
بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا فِي حَالِ قِيَامِهِ،
فَإِنْ أَتَى بِحَرْفٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ
حَالِ الْقِيَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ
فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي انْعِقَادِهَا
نَفْلًا الْخِلَافُ السَّابِقُ قَرِيبًا فِي
فَصْلِ النِّيَّةِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ
أَنَّهُ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ فَرْضًا إذَا
كَبَّرَ وَهُوَ مَسْبُوقٌ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي
"الْمُوَطَّأِ" وَ "الْمُدَوَّنَةِ" ،
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي
كِتَابِهِ التَّبْصِرَةُ: فَلَوْ شَكَّ هَلْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي الأربعون حديثا النووية وكان من شأنه أن
نفع الله العامة بالمجموع الخاصة (ط).
ج / 3 ص -180-
وَقَعَتْ
تَكْبِيرَتُهُ كُلُّهَا فِي الْقِيَامِ؟ أَمْ
وَقَعَ حَرْفٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْقِيَامِ
لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ التَّكْبِيرِ إلَّا فِي
الْقِيَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ
الْأَصْحَابِ أَطْلَقُوا أَنَّ تَكْبِيرَةَ
الْإِحْرَامِ إذَا وَقَعَ بَعْضُهَا فِي
غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ
صَلَاتُهُ، وَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ، ثُمَّ قَالَ:
إنْ وَقَعَ بَعْضُ تَكْبِيرَتِهِ فِي حَالِ
رُكُوعِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ فَرْضًا، وَإِنْ
وَقَعَ بَعْضُهَا فِي انْحِنَائِهِ وَتَمَّتْ
قَبْلَ بُلُوغِهِ حَدَّ الرَّاكِعِينَ
انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ فَرْضًا؛ لِأَنَّ مَا
قَبْلَ حَدِّ الرُّكُوعِ مِنْ جُمْلَةِ
الْقِيَامِ وَلَا يَضُرُّ الِانْحِنَاءُ
الْيَسِيرُ، قَالَ: وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ
بَيْنَ حَدِّ الرُّكُوعِ وَحَدِّ الْقِيَامِ
أَنْ تَنَالَ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ لَوْ
مَدَّ يَدَيْهِ فَهَذَا حَدُّ الرُّكُوعِ،
وَمَا قَبْلَهُ حَدُّ الْقِيَامِ، فَإِنْ
كَانَتْ يَدَاهُ أَوْ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةً
خَارِجَةً عَنْ الْعَادَةِ اُعْتُبِرَ عَادَةُ
مِثْلِهِ فِي الْخِلْقَةِ، هَذَا كَلَامُ
الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَهُوَ وَجْهٌ
ضَعِيفٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَتَى انْحَنَى
بِحَيْثُ يَكُونُ إلَى حَدِّ الرُّكُوعِ
أَقْرَبُ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا، وَلَا تَصِحُّ
تَكْبِيرَتُهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا
فِي فَصْلِ الْقِيَامِ.
الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ
الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ
الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ
أَكْبَرُ قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ
أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ اللَّهُ كَبِيرٌ
قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ أَفْعَلُ نَعْتًا فِي
حُرُوفٍ مَشْهُورَةٍ كَقَوْلِهِمْ هَذَا
أَمْرٌ أَهْوَنُ أَيْ هَيِّنٌ، قَالَ
الزَّجَّاجُ: هَذَا غَيْرُ مُنْكَرٍ،
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ اللَّهُ أَكْبَرُ
كَبِيرٍ، كَقَوْلِك: هُوَ أَعَزُّ عَزِيزٍ
كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
إنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا
بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أَرَادَ دَعَائِمَهُ أَعَزَّ عَزِيزٍ،
وَأَطْوَلَ طَوِيلٍ، وَقِيلَ قَوْلٌ ثَالِثٌ:
مَعْنَاهُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ، أَوْ يُذْكَرَ بِغَيْرِ
الْمَدْحِ وَالتَّمْجِيدِ وَالثَّنَاءِ
الْحَسَنِ، قَالَ صَاحِبُ
"التَّحْرِيرِ" فِي
"شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ" :
هَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ
زِيَادَةِ الْمَعْنَى لَا سِيَّمَا عَلَى
أَصْلِنَا فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُ اللَّهُ
كَبِيرٌ أَوْ الْكَبِيرُ بَدَلَ اللَّهُ
أَكْبَرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: اللَّهُ
أَكْبَرُ كَبِيرًا فَنَصَبَ كَبِيرًا عَلَى
تَقْدِيرِ كَبَّرْتُ كَبِيرًا.
الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ
"التَّلْخِيصِ" وَتَابَعَهُ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَغَوِيُّ
وَالْأَصْحَابُ وَنَقَلَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي"الْبَسِيطِ"
وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الْأَصْحَابِ
كَافَّةً: لَوْ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ
أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ دَخَلَ
فِي الصَّلَاةِ بِالْأَوْتَارِ1 وَبَطَلَتْ
بِالْأَشْفَاعِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَنْوِيَ
بِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ،
وَلَا يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ
بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ، فَبِالْأُولَى
دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَبِالثَّانِيَةِ
خَرَجَ مِنْهَا، وَبَطَلَتْ. وَبِالثَّالِثَةِ
دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَبِالرَّابِعَةِ
خَرَجَ وَبِالْخَامِسَةِ دَخَلَ
وَبِالسَّادِسَةِ خَرَجَ، وَهَكَذَا أَبَدًا؛
لِأَنَّ مَنْ افْتَتَحَ صَلَاةً ثُمَّ
افْتَتَحَ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَطْعَ الْأُولَى.
فَلَوْ نَوَى بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ
افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ أَوْ الْخُرُوجَ
مِنْهَا فَبِالنِّيَّةِ يَخْرُجُ مِنْ
الصَّلَاةِ وَبِالتَّكْبِيرِ يَدْخُلُ فَلَوْ
لَمْ يَنْوِ بِالتَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ
وَمَا بَعْدَهَا افْتِتَاحًا وَلَا دُخُولًا
وَلَا خُرُوجًا صَحَّ دُخُولُهُ بِالْأُولَى،
وَيَكُونُ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ ذِكْرًا لَا
تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، بَلْ حُكْمُ بَاقِي
الْأَذْكَارِ.
الرَّابِعَةُ: نَصَّ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَوْ
أَخَلَّ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ التَّكْبِيرِ
لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأوتار الأشفاع جمعا وتر وشفع ليسا مصدرين
ومصدرهما الإيتار والإشفاع (ط).
ج / 3 ص -181-
لَا
خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْبِيرٍ.
الْخَامِسَةُ: الْمَذْهَبُ
الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ
بِسُرْعَةٍ، وَلَا يَمُدَّهَا لِئَلَّا
تَزُولَ النِّيَّةُ. وَحَكَى الْمُتَوَلِّي
وَجْهًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَدُّهَا،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: يَرْفَعُ
الْإِمَامُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ
وَيَمُدُّهُ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا
تَحْرِيفٍ، قَالَ الْأَصْحَابُ: أَرَادَ
بِالتَّمْطِيطِ الْمَدَّ وَبِالتَّحْرِيفِ
إسْقَاطَ بَعْضِ الْحُرُوفِ كَالرَّاءِ مِنْ
أَكْبَرَ، وَأَمَّا تَكْبِيرَاتُ
الِانْتِقَالَاتِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
فَفِيهَا قَوْلَانِ، الْقَدِيمُ يُسْتَحَبُّ
أَنْ لَا يَمُدَّهَا وَالْجَدِيدُ الصَّحِيحُ
يُسْتَحَبُّ مَدُّهَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى
الرُّكْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ حَتَّى لَا
يَخْلُو جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ مِنْ ذِكْرٍ.
السَّادِسَةُ: قَالَ
الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلَى
السَّيِّدِ أَنْ يُعَلِّمَ مَمْلُوكَهُ
التَّكْبِيرَ وَسَائِرَ الْأَذْكَارِ
الْمَفْرُوضَةِ وَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ
إلَّا بِهِ، أَوْ يُخَلِّيَهُ حَتَّى
يَتَعَلَّمَ، وَيَلْزَمُ الْأَبَ تَعْلِيمُ
وَلَدِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ تَعْلِيمِ
الْوَالِدِ فِي مُقَدَّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ
وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.
السَّابِعَةُ: يَجِبُ عَلَى
الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّكْبِيرَ
وَسَائِرَ الْأَذْكَارِ الْوَاجِبَةِ
بِالْعَرَبِيَّةِ.
الثَّامِنَةُ: فِي بَيَانِ
مَا يُتَرْجِمُ عَنْهُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَمَا
لَا يُتَرْجِمُ، أَمَّا الْفَاتِحَةُ
وَغَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ
تَرْجَمَتُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ؛
لِأَنَّهُ يُذْهِبُ الْإِعْجَازَ، بِخِلَافِ
التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا
إعْجَازَ فِيهِ. وَأَمَّا تَكْبِيرَةُ
الْإِحْرَامِ وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ
وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله
عليه وسلم فِيهِ وَعَلَى الْآلِ إذَا
أَوْجَبْنَاهَا فَيَجُوزُ تَرْجَمَتُهَا
لِلْعَاجِزِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا
يَجُوزُ لِلْقَادِرِ. وَأَمَّا مَا عَدَا
الْأَلْفَاظِ الْوَاجِبَةِ فَقِسْمَانِ،
دُعَاءٌ وَغَيْرُهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ
الْمَأْثُورُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ
أَصَحُّهَا: تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ
لِلْعَاجِزِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا
تَجُوزُ لِلْقَادِرِ، فَإِنْ تُرْجِمَ
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَالثَّانِي: تَجُوزُ
لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: لَا تَجُوزُ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَرِعَ دَعْوَةً
غَيْرَ مَأْثُورَةٍ وَيَأْتِي بِهَا
بِالْعَجَمِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَتَبْطُلُ
بِهَا الصَّلَاةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ
اخْتَرَعَ دَعْوَةً بِالْعَرَبِيَّةِ
فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ كَالتَّشَهُّدِ
الْأَوَّلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فِيهِ وَالْقُنُوتِ
وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
وَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ فَإِنْ
جَوَّزْنَا الدُّعَاءَ بِالْعَجَمِيَّةِ
فَهَذِهِ أَوْلَى وَإِلَّا فَفِي جَوَازِهَا
لِلْعَاجِزِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا: يَجُوزُ
وَالثَّانِي: لَا وَالثَّالِثُ: يُتَرْجِمُ
لِمَا يُجْبَرُ بِالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ1
وَذَكَرَ صَاحِبُ
"الْحَاوِي" أَنَّهُ إذَا
لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِكُلِّ
الْأَذْكَارِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ
يُحْسِنُهَا أَتَى بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ
فَمَا كَانَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ
وَالسَّلَامِ لَمْ يُجْزِهِ وَمَا كَانَ
سُنَّةً كَالتَّسْبِيحِ وَالِافْتِتَاحِ
أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ.
فرع: إذَا أَرَادَ الْكَافِرُ
الْإِسْلَامَ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ
الْعَرَبِيَّةَ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ
بِلِسَانِهِ وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِلَا
خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ
الْعَرَبِيَّةَ فَهَلْ يَصِحُّ إسْلَامُهُ
بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
مَشْهُورَانِ الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ صِحَّتُهُ، قَالَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ
"الْحَاوِي"
وَآخَرُونَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْإِصْطَخْرِيُّ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع هنا النسخ "هذا في رتب المذهب" ولم نجد
لها مذاقا فليحرر (ش).
ج / 3 ص -182-
لَا
يَصِيرُ مُسْلِمًا، وَقَالَ عَامَّةُ
أَصْحَابِنَا: يَصِيرُ، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْ
الْإِصْطَخْرِيِّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَحَامِلِيُّ
وَغَيْرُهُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ،
وَقَاسَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ عَلَى تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ
الْمُرَادَ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ
الْإِخْبَارُ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ
يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَأَمَّا
التَّكْبِيرُ فَتَعَبَّدَ الشَّرْعُ فِيهِ
بِلَفْظٍ فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ مَعَ
الْقُدْرَةِ.
التَّاسِعَةُ: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي التَّكْبِيرِ
بِالْعَجَمِيَّةِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ تَكْبِيرَةُ
الْإِحْرَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِمَنْ
يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَتَجُوزُ لِمَنْ لَا
يُحْسِنُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد
وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ لِمَنْ يُحْسِنُ
الْعَرَبِيَّةَ وَلِغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَبِحَدِيثِ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ"
وَقِيَاسًا عَلَى إسْلَامِ الْكَافِرِ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" وَكَانَ يُكَبِّرُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قَالُوا: التَّكْبِيرَةُ
عِنْدَنَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ
شَرْطٌ خَارِجٌ عَنْهَا: قُلْنَا: قَدْ سَبَقَ
الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهَا مِنْ
الصَّلَاةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ
بِالْآيَةِ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ
وَغَيْرَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ
تَرِدْ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا
تَعَلُّقَ لَهُمْ فِيهَا، وَعَنْ حَدِيثِ
"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" أَنَّهُ
مَحْمُولٌ عَلَى التَّكْبِيرِ الْمَعْهُودِ،
وَعَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ
الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ اعْتِقَادِ
الْقَلْبِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْعَجَمِيَّةِ
بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ.
الْعَاشِرَةُ: تَنْعَقِدُ
الصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ
بِالْإِجْمَاعِ، وَتَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ:
اللَّهُ الْأَكْبَرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ
وَدَاوُد: لَا تَنْعَقِدُ، وَهُوَ قَوْلٌ
قَدِيمٌ كَمَا سَبَقَ وَلَا تَنْعَقِدُ
بِغَيْرِ هَذَيْنِ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُ
أَجَلُّ، أَوْ اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ اللَّهُ
الْكَبِيرُ وَنَحْوُهَا لَمْ تَنْعَقِدْ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ
وَدَاوُد وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا أَبَا
حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: تَنْعَقِدُ
بِكُلِّ ذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ تَعْظِيمَ الله
تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَجَلُّ، أَوْ
اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ الله
وَبِأَيِّ أَسْمَائِهِ شَاءَ كَقَوْلِهِ:
الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَوْ أَجَلُّ، أَوْ
الرَّحِيمُ أَكْبَرُ أَوْ أَعْظَمُ،
وَالْقُدُّوسُ أَوْ الرَّبُّ أَعْظَمُ
وَنَحْوُهَا، وَلَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ:
يَا اللَّهُ ارْحَمْنِي، أَوْ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي، أَوْ بِالله أَسْتَعِينُ وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظِ
التَّكْبِيرِ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ
أَوْ اللَّهُ الْأَكْبَرُ أَوْ اللَّهُ
الْكَبِيرُ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ أَوْ
الرَّحْمَنُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ صِفَةٍ فَفِي انْعِقَادِ صَلَاتِهِ
رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ الله
تَعَالَى
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] وَلَمْ يَخُصَّ ذِكْرًا. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
رضي الله عنهما
"كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمُسْلِمٌ
بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِيهِ
تَعْظِيمٌ فَأَجْزَأَ كَالتَّكْبِيرِ،
وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِلَفْظٍ
كَالْخُطْبَةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ
"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" وَلَيْسَ هُوَ
تَمَسُّكًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بَلْ
بِمَنْطُوقٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ
"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" يَقْتَضِي
الِاسْتِغْرَاقَ، وَأَنَّ تَحْرِيمَهَا لَا
يَكُونُ إلَّا بِهِ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا
سَبَقَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ سَبَقَ
هُوَ وَجَوَابُهُ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ
بِالْآيَةِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ
الْمُفَسِّرِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا
لَمْ تَرِدْ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ،
وَعَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه
ج / 3 ص -183-
أَنَّ
الْمُرَادَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ
الْقِرَاءَةَ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ
"فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ
بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا
يَذْكُرُونَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي
آخِرِهَا". وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي
الله عنها قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ
بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: ذِكْرٌ فِيهِ
تَعْظِيمٌ أَنَّهُ قِيَاسٌ يُخَالِفُ
السُّنَّةَ، وَلِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ
بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي
وَالْجَوَابُ عَنْ الْخُطْبَةِ أَنَّ
الْمُرَادَ الْمَوْعِظَةُ وَيَحْصُلُ بِكُلِّ
لَفْظٍ، وَهُنَا الْمُرَادُ الْوَصْفُ بِآكَدِ
الصِّفَاتِ، وَلَيْسَ غَيْرُ قَوْلِنَا
اللَّهُ أَكْبَرُ فِي مَعْنَاهُ.
وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِحَدِيثِ
"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" وَهُوَ حَاصِلٌ
بِقَوْلِنَا اللَّهُ الْكَبِيرُ وَلِأَنَّهُ
بِمَعْنَاهُ. دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ. وَأَمَّا
حَدِيثُ "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ"
فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ وَهُوَ
اللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ
بِمَعْنَاهُ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ فِي اللَّهُ
أَكْبَرُ مُبَالَغَةً وَتَعْظِيمًا لَيْسَ فِي
غَيْرِهِ، وَاحْتُجَّ لِمَالِكٍ
وَمُوَافِقِيهِ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ
أَكْبَرُ فَلَا يَجُوزُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ
كَمَا لَا يَجُوزُ اللَّهُ الْكَبِيرُ،
وَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَذَانِ اللَّهُ
الْأَكْبَرُ. دَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ
اللَّهُ الْأَكْبَرُ هُوَ اللَّهُ أَكْبَرُ
وَزِيَادَةٌ لَا تُغَيِّرُ فَجَازَ
كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا،
وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ
الْحَدِيثِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَالُوا:
يَجُوزُ اللَّهُ الْكَبِيرُ الْأَكْبَرُ
الْمَوْضُوعُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ فِي الْأَذَانِ
اللَّهُ الْأَكْبَرُ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ: لَا نُسَلِّمُهُ
بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ
كَالصَّلَاةِ، وَالله أَعْلَمُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَاحِدَةٌ وَلَا
تُشْرَعُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، هَذَا
مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَحَكَى
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ
عَنْ الرَّافِضَةِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثَ
تَكْبِيرَاتٍ، وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ
مَرْدُودٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى
دَلِيلٍ عَلَى رَدِّهِ، فَلَوْ كَبَّرَ
ثَلَاثًا أَوْ كَبَّرَ1 فَفِيهِ التَّفْصِيلُ
السَّابِقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مَعَ
تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي
الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم
"كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ،
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ
رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ فِيهِ وَنَقَلَ
الْعَبْدَرِيُّ عَنْ الزَّيْدِيَّةِ أَنَّهُ
لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ،
وَالزَّيْدِيَّةُ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي
الْإِجْمَاعِ، وَنَقَلَ الْمُتَوَلِّي عَنْ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَوْجَبَ
الرَّفْعَ، وَرَأَيْتُ أَنَا فِيمَا عَلِقَ
مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الْإِمَامَ
الْبَارِعَ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَبَا
الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ سَيَّارٍ
الْمَرْوَزِيَّ مِنْ مُتَقَدِّمِي
أَصْحَابِنَا فِي طَبَقَةِ الْمُزَنِيِّ
قَالَ: إذَا لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ
لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لَا تَصِحُّ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَوَجَبَ
الرَّفْعُ بِخِلَافِ بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ
لَا يَجِبُ الرَّفْعُ لَهَا؛ لِأَنَّهَا
غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض الأصل، ولعله أربعا أو أكثر، يعني فيه
التفصيل السابق في الأشفاع والأوتار (ط).
ج / 3 ص -184-
مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ.
َأَمَّا مَحَلُّ الرَّفْعِ فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" وَ
"مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ"
وَالْأَصْحَابُ: يَرْفَعُ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ، وَالْمُرَادُ أَنْ تُحَاذِي
رَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا بِحَيْثُ
يُحَاذِي أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أَعْلَى
أُذُنَيْهِ، وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتِي
أُذُنَيْهِ وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ
رحمهم الله: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ، وَهَكَذَا قَالَهُ
الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ
وَالْغَزَالِيُّ، وَقَدْ جَمَعَ الشَّافِعِيُّ
بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ،
وَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي تَعْلِيقِهِ وَآخَرُونَ عَنْ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ
الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ بِهَذَا، قَالَ
الرَّافِعِيُّ وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ
فِي الْوَجِيزِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
فَمُنْكَرٌ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ. وَنَقَلَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ
قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْفَعُ حَذْوَ
الْمَنْكِبَيْنِ:
وَالثَّانِي: حَذْوَ
الْأُذُنَيْنِ، وَهَذَا الثَّانِي غَرِيبٌ
عَنْ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا حَكَاهُ
أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَدُّوهُ مِنْ
مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ رَوَى الرَّفْعَ
إلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ مَعَ ابْنِ
عُمَرَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا
أُذُنَيْهِ" وَفِي
رِوَايَةٍ "فُرُوعَ أُذُنَيْهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوُهُ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد فِي
حَدِيثِ وَائِلٍ "رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى
كَانَتَا حِيَالَ مَنْكِبَيْهِ، وَحَاذَى
بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ" لَكِنَّ
إسْنَادَهَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ
عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَقِيلَ
أَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ،
وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ
أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رحمه الله - جَمَعَ
بَيْنَ رِوَايَةِ الْمَنْكِبَيْنِ وَرِوَايَةِ
الْأُذُنَيْنِ1 عَلَى مَا فِي هَذِهِ
الرِّوَايَةِ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا عَنْ
وَائِلٍ: "رَفَعَ إبْهَامَيْهِ إلَى شَحْمَتِي
أُذُنَيْهِ" وَالْمَذْهَبُ الرَّفْعُ حَذْوَ
الْمَنْكِبَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ،
وَرَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ
بِأَنَّهُ أَصَحُّ إسْنَادًا وَأَكْثَرُ
رِوَايَةً؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ
عَمَّنْ رَوَى إلَى مُحَاذَاةِ الْأُذُنَيْنِ
بِخِلَافِ مَنْ رَوَى حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ
وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلِّ رَفْعِ الْيَدَيْنِ:
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا الْمَشْهُورَ
أَنَّهُ يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَبِهِ
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ رضي
الله عنهما وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
حَذْوَ أُذُنَيْهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ
أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا
فَضِيلَةَ لِأَحَدِهِمَا، وَحَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ
وَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَكَى الْعُبَيْدِيُّ عَنْ
طَاوُسٍ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى
تَجَاوَزَ بِهِمَا رَأْسَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ
لَا أَصْلَ لَهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَنْشُرُ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ نَشْرًا".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ وَبَالَغَ فِي
تَضْعِيفِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
اسْتِحْبَابِ تَفْرِيقِ الْأَصَابِعِ هُنَا
فَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ
بِاسْتِحْبَابِهِ، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ
فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ
مُطْلَقًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ لَا
يَتَكَلَّفُ الضَّمَّ وَلَا التَّفْرِيقَ،
بَلْ يَتْرُكُهَا مَنْشُورَةً عَلَى
هَيْئَتِهَا. وَقَالَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما راجعه الغزالي في الإحياء في ربع
العبادات (ط).
ج / 3 ص -185-
الرَّافِعِيُّ يُفَرِّقُ تَفْرِيقًا وَسَطًا،
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. قَالَ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ: يُسْتَحَبُّ التَّفْرِيقُ فِي
كُلِّ مَوْضِعٍ أَمَرْنَاهُ بِرَفْعِ
الْيَدَيْنِ.
فرع: لِلْأَصَابِعِ فِي
الصَّلَاةِ أَحْوَالٌ:
أَحَدُهَا: حَالَةُ الرَّفْعِ
فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ
وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَالْقِيَامِ مِنْ
التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ الْمَشْهُورَ اسْتِحْبَابُ التَّفْرِيقِ
فِيهَا
وَالثَّانِي: حَالَةُ
الْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ
فَلَا تَفْرِيقَ فِيهَا
الثَّالِثُ: حَالَةُ
الرُّكُوعِ يُسْتَحَبُّ تَفْرِيقُهَا عَلَى
الرُّكْبَتَيْنِ
الرَّابِعُ: حَالَةُ
السُّجُودِ يُسْتَحَبُّ ضَمُّهَا
وَتَوْجِيهُهَا إلَى الْقِبْلَةِ
الْخَامِسُ: حَالَةُ
الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَفِيهَا
وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: أَنَّهَا كَحَالَةِ
السُّجُودِ وَالثَّانِي: يَتْرُكُهَا عَلَى
هَيْئَتِهَا وَلَا يَتَكَلَّفُ ضَمَّهَا
السَّادِسُ: حَالَةُ
التَّشَهُّدِ بِالْيُمْنَى مَقْبُوضَةَ
الْأَصَابِعِ إلَّا الْمُسَبِّحَةَ
وَالْإِبْهَامَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ،
وَالْيُسْرَى مَبْسُوطَةً وَفِيهَا
الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ فِي حَالَةِ
الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ،
الصَّحِيحُ يَضُمُّهَا وَيُوَجِّهُهَا
لِلْقِبْلَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ مَعَ
ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ
انْتِهَائِهِ، فَإِنْ سَبَقَتْ الْيَدُ
أَثْبَتَهَا مَرْفُوعَةً حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ
التَّكْبِيرِ،؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ
لِلتَّكْبِيرِ فَكَانَ مَعَهُ".
الشرح: فِي وَقْتِ
اسْتِحْبَابِ الرَّفْعِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ،
أَصَحُّهَا هَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ
الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ
الرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ،
وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ، وَهَذَا
هُوَ الْمَنْصُوصُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" : يَرْفَعُ مَعَ
افْتِتَاحِ التَّكْبِيرِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
عِنْدَ الرَّفْعِ مَعَ انْقِضَائِهِ
وَيُثْبِتُ يَدَيْهِ مَرْفُوعَةً حَتَّى
يَفْرُغَ مِنْ التَّكْبِيرِ كُلِّهِ. قَالَ:
فَإِنْ أَثْبَتَ يَدَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
التَّكْبِيرِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَلِيلًا لَمْ
يَضُرَّهُ وَلَا آمُرُهُ بِهِ، هَذَا نَصُّهُ
بِحُرُوفِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
"التَّعْلِيقِ" : لَا خِلَافَ
بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَبْتَدِئُ
بِالرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ،
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَحُطُّ يَدَيْهِ
قَبْلَ انْتِهَاءِ التَّكْبِيرِ.
وَالثَّانِي: يَرْفَعُ بِلَا
تَكْبِيرٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ
إرْسَالِ الْيَدَيْنِ وَيُنْهِيهِ مَعَ
انْتِهَائِهِ.
وَالثَّالِثُ: يَرْفَعُ بِلَا
تَكْبِيرٍ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ
قَارَّتَانِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا بَعْدَ
فَرَاغِ التَّكْبِيرِ، وَصَحَّحَهُ
الْبَغَوِيّ
وَالرَّابِعُ: يَبْتَدِئُ
بِهِمَا مَعًا وَيُنْهِي التَّكْبِيرَ مَعَ
انْتِهَاءِ الْإِرْسَالِ.
وَالْخَامِسُ: وَهُوَ الَّذِي
صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ
مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَلَا
اسْتِحْبَابَ فِي
"الِانْتِهَاءِ"، فَإِنْ
فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ قَبْلَ تَمَامِ
الرَّفْعِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَتَمَّ
الْبَاقِي، وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُمَا حَطَّ
يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِمْ الرَّفْعَ. وَقَدْ
ثَبَتَ فِي
"الصَّحِيحِ" أَحَادِيثُ
يُسْتَدَلُّ بِهَا لِهَذِهِ الْأَوْجُهِ
كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا "مِنْهَا" عَنْ
ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم
"كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا
افْتَتَحَ الصَّلَاةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
"يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ
"كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ"
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ:
"كَانَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ
إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى
يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ
"ثُمَّ كَبَّرَ وَهُمَا كَذَلِكَ" وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ
بْنَ الْحُوَيْرِثِ
ج / 3 ص -186-
رضي الله
عنه إذَا صَلَّى كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ
يَدَيْهِ وَقَالَ: "إنَّ رَسُولَ الله صلى
الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ هَكَذَا"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَفِي
رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ "كَبَّرَ وَرَفَعَ
يَدَيْهِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ
مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ رَسُولَ
الله صلى الله عليه وسلم "كَانَ إذَا كَبَّرَ
رَفَعَ يَدَيْهِ" وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُمَا "يَدَيْهِ" أَوْ
أَمْكَنَهُ رَفْعُ أَحَدِهِمَا أَوْ
رَفْعُهُمَا إلَى دُونِ الْمَنْكِبِ رَفَعَ
مَا أَمْكَنَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"
وَإِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ إذَا رَفَعَ
الْيَدَ جَاوَزَ الْمَنْكِبَ رَفَعَ؛
لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْمَأْمُورِ بِهِ
وَبِزِيَادَةٍ هُوَ مَغْلُوبٌ عَلَيْهَا،
وَإِنْ نَسِيَ الرَّفْعَ وَذَكَرَهُ قَبْلَ
أَنْ يَفْرُغَ مِنْ التَّكْبِيرِ أَتَى بِهِ؛
لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَاقٍ.
الشَّرْحُ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُ قَرِيبًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا
كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا
مِنْ الْمِعْصَمِ رَفَعَ السَّاعِدَ، قَالَ
الْبَغَوِيّ فَإِنْ قُطِعَ مِنْ الْمِرْفَقِ
رَفَعَ الْعَضُدَ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالثَّانِي: لَا
يَرْفَعُ ؛ لِأَنَّ الْعَضُدَ لَا يُرْفَعُ
فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَجَزَمَ الْمُتَوَلِّي
بِرَفْعِ الْعَضُدِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ
الرَّفْعُ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى
الْمَشْرُوعِ أَوْ نَقْصٍ أَتَى
بِالْمُمْكِنِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى
الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَى الْمَشْرُوعِ أَتَى بِالزِّيَادَةِ
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" وَاتَّفَقَ
الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى
يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً مِنْ أَصْلِهَا أَوْ
شَلَّاءَ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا رَفَعَ
الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا
صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى عَلِيلَةً فَعَلَ
بِالْعَلِيلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَرَفَعَ
الصَّحِيحَةَ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ، نَصَّ
عَلَيْهِ فِي
"الْأُمِّ" ، وَلَوْ تَرَكَ
رَفْعَ الْيَدَيْنِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا
حَتَّى أَتَى بِبَعْضِ التَّكْبِيرِ
رَفَعَهُمَا فِي الْبَاقِي، فَإِنْ أَتَمَّ
التَّكْبِيرَ لَمْ يَرْفَعْ بَعْدَهُ، نَصَّ
عَلَيْهِ فِي
"الْأُمِّ" وَاتَّفَقُوا
عَلَيْهِ.
فرع: فِي مَسَائِلَ
مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالرَّفْعِ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي
"الْأُمِّ" اُسْتُحِبَّ
الرَّفْعُ لِكُلِّ مُصَلٍّ إمَامٍ أَوْ
مَأْمُومٍ أَوْ مُنْفَرِدٍ أَوْ امْرَأَةٍ،
قَالَ: وَكُلُّ مَا قُلْتُ يَصْنَعُهُ فِي
تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَمَرْتُهُ
بِصُنْعِهِ فِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَفِي
قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَ،
قَالَ: وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ
صَلَاةٍ نَافِلَةٍ وَفَرِيضَةٍ سَوَاءٌ،
قَالَ: وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ
الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ
وَالِاسْتِسْقَاءِ وَسُجُودِ الْقُرْآنِ
وَسُجُودِ الشُّكْرِ، قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي
هَذَا كُلِّهِ صَلَّى أَوْ سَجَدَ وَهُوَ
قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ مُضْطَجِعٌ يُومِئُ
إيمَاءً، فِي أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛
لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِ
قِيَامٍ، قَالَ: وَإِنْ تَرَكَ رَفْعَ
يَدَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرْتُهُ بِهِ
أَوْ رَفَعَهُمَا حَيْثُ لَمْ آمُرُهُ فِي
فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ
عِيدٍ أَوْ جِنَازَةٍ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ
وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ صَلَاةٍ
وَلَا سُجُودُ سَهْوٍ عَمَدَ ذَلِكَ أَوْ
نَسِيَهُ أَوْ جَهِلَهُ؛ لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ
فِي الْعَمَلِ، وَهَكَذَا أَقُولُ فِي كُلِّ
هَيْئَةِ عَمَلٍ تَرَكَهَا، هَذَا نَصُّهُ
بِحُرُوفِهِ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي وَيُسْتَحَبُّ أَنْ
يَكُونَ كَفُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ
الرَّفْعِ، قَالَ الْبَغَوِيّ وَالسُّنَّةُ
كَشْفُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرَّفْعِ قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي
كُلِّ هَذَا.
فرع: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْحِكْمَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ،
فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ
الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صَلَّى بِجَنْبِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَرَفَعَ
الشَّافِعِيُّ يَدَيْهِ لِلرُّكُوعِ
وَلِلرَّفْعِ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ:
لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ إعْظَامًا لِجَلَالِ اللهِ
تَعَالَى، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِهِ،
وَرَجَاءً لِثَوَابِ اللهِ.
ج / 3 ص -187-
وَقَالَ
التَّمِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي
كِتَابِهِ التَّحْرِيرُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ
مُسْلِمٍ: مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ رَفْعُ
الْيَدَيْنِ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ
مَعْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ
إشَارَةٌ إلَى التَّوْحِيدِ، وَقَالَ
الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ
الْمَالِكِيُّ فِي
"شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"
: حِكْمَةُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
أَنْ يَرَاهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ
فَيَعْلَمُ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ
فَيَقْتَدِي بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِسْلَامٌ
وَانْقِيَادٌ، وَكَانَ الْأَسِيرُ إذَا غُلِبَ
مَدَّ يَدَيْهِ عَلَامَةً لِاسْتِسْلَامِهِ،
وَقِيلَ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى طَرْحِ أُمُورِ
الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ
عَلَى صَلَاتِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله تعالى -
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْيَمِينَ
عَلَى الْيَسَارِ فَيَضَعَ الْيَمِينَ عَلَى
بَعْضِ الْكَفِّ وَبَعْضِ الرُّسْغِ، لِمَا
رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجُرٍ قَالَ: "قُلْتُ
لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ الله صلى
الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي فَنَظَرْتُ
إلَيْهِ [وَقَدْ] وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى
عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَالرُّسْغِ
وَالسَّاعِدِ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ
يَجْعَلَهُمَا تَحْتَ الصَّدْرِ لِمَا رَوَى
وَائِلٌ قَالَ
"رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَيْهِ
عَلَى صَدْرِهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى"
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ وَائِلٍ فَسَنُبَيِّنُهُ فِي فَرْعَيْ مَسْأَلَتَيْ
الْخِلَافَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَأَمَّا الْيَدُ الْيَسَارُ - فَبِفَتْحِ
الْيَاءِ وَكَسْرِهَا - لُغَتَانِ وَالْفَتْحُ
أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَالرُّسْغُ بِضَمِّ
الرَّاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ
- وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ - قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ بِضَمِّ السِّينِ
وَجَمْعُهُ أَرْسَاغٌ، وَيُقَال رُصْغٌ
بِالصَّادِ، وَكَذَا جَاءَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسِّينُ أَفْصَحُ
وَأَشْهَرُ، وَهُوَ الْمَفْصِلُ بَيْنَ
الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ. وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ
- بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا
جِيمٌ سَاكِنَةٌ - وَكَانَ وَائِلٌ مِنْ
كِبَارِ الْعَرَبِ وَأَوْلَادِ مُلُوكِ
حِمْيَرٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو هُنَيْدَةَ نَزَلَ
الْكُوفَةَ وَعَاشَ إلَى أَيَّامِ
مُعَاوِيَةَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ أَنْ يَحُطَّ
يَدَيْهِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، وَيَضَعَ
الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَيَقْبِضَ
بِكَفِّ الْيُمْنَى كُوعَ الْيُسْرَى وَبَعْضَ
رُسْغِهَا وَسَاعِدِهَا، قَالَ الْقَفَّالُ
يَتَخَيَّرُ بَيْنَ بَسْطِ أَصَابِعِ
الْيُمْنَى فِي عَرْضِ الْمَفْصِلِ وَبَيْنَ
نَشْرِهَا فِي صَوْبِ السَّاعِدِ،
وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَفَوْقَ
سُرَّتِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
الْمَنْصُوصُ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ
لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ
يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي
أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ يَدَيْهِ هَلْ
يُرْسِلُهُمَا إرْسَالًا بَلِيغًا، ثُمَّ
يَسْتَأْنِفُ رَفْعَهُمَا إلَى تَحْتِ
صَدْرِهِ وَوَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى
الْيُسْرَى أَمْ يُرْسِلُهُمَا إرْسَالًا
خَفِيفًا إلَى تَحْتِ صَدْرِهِ فَقَطْ ثُمَّ
يَضَعُ؟ قُلْتُ: الثَّانِي أَصَحُّ، وَبِهِ
قَطَعَ الْغَزَالِيُّ فِي تَدْرِيبِهِ
وَجَزَمَ فِي الْخُلَاصَةِ بِالْأَوَّلِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَضْعِ
الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ
سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ
وَآخَرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ
وَأَبُو مِجْلَزٍ وَآخَرُونَ مِنْ
التَّابِعِينَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا
عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَكَى
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ
الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّهُ يُرْسِلُ يَدَيْهِ
وَلَا يَضَعُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى،
وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَيْضًا
عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ: يُرْسِلُهُمَا، فَإِنْ طَالَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى
ج / 3 ص -188-
الْيُسْرَى لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الْوَضْعِ وَالْإِرْسَالِ، وَرَوَى ابْنُ
عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ الْوَضْعَ،
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ الْإِرْسَالَ
وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ
الْمَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ
جُمْهُورِهِمْ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ
الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ وَلَمْ
يَذْكُرْ وَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي
حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ
"كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى
عَلَى ذِرَاعِهِ فِي الصَّلَاةِ" قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَا أَعْلَمُهُ إلَّا يُنْمِي ذَلِكَ إلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ
صَرِيحَةٌ فِي الرَّفْعِ إلَى رَسُولِ الله
صلى الله عليه وسلم وَعَنْ وَائِلِ بْنِ
حُجُرٍ أَنَّهُ
"رَأَى
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَفَعَ
يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ
الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ
الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ
أَيْضًا قَالَ:
"قُلْتُ
لَأَنْظُرَنَّ إلَى صَلَاةِ رَسُولِ الله صلى
الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي فَقَامَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ فَرَفَعَ
يَدَهُ حَتَّى حَاذَى أُذُنَيْهِ ثُمَّ وَضَعَ
يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ
الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَهَكَذَا هُوَ فِي
رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيِّ
وَغَيْرِهِمَا. الرُّصْغِ بِالصَّادِ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
"أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ
الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَرَآهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ
يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ،
وَعَنْ هُلْبٍ الطَّائِيِّ قَالَ
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ" رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ،
وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
"صَفُّ الْقَدَمَيْنِ وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ مِنْ السُّنَّةِ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ:
"ثَلَاثَةٌ مِنْ النُّبُوَّةِ تَعْجِيلُ
الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ،
وَوَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
فِي الصَّلَاةِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبَانَ قُلْتُ: مُحَمَّدٌ هَذَا مَجْهُولٌ،
قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ
سَمَاعٌ مِنْ عَائِشَةَ، وَفِي الْبَابِ عَنْ
جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ
الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَدْ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَفِيمَا
ذَكَرْنَاهُ أَبْلَغُ كِفَايَةٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِأَنَّ وَضْعَ الْيَدِ
عَلَى الْيَدِ أَسْلَمُ لَهُ مِنْ الْعَبَثِ
وَأَحْسَنُ فِي التَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ
وَالتَّذَلُّلِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ
حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يُعَلِّمْهُ إلَّا الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ
وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي
مَحَلِّ مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ: قَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ
جَعْلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ فَوْقَ سُرَّتِهِ
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ يَجْعَلُهُمَا
تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا
كَمَا سَبَقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي
مِجْلَزٍ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
رضي الله عنه رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا:
فَوْقَ السُّرَّةِ ، وَالثَّانِيَةُ
تَحْتَهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ
رِوَايَاتٍ هَاتَانِ، وَالثَّالِثَةُ
يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَفْضِيلَ
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي غَيْرِ
الْأَشْرَافِ أَظُنُّهُ فِي الْأَوْسَطِ: لَمْ
يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ
بَيْنَهُمَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: تَحْتَ السُّرَّةِ
بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه
أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ
السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْكَفِّ
عَلَى الْكَفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ" وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ قَالَ:
"صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ
الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى
صَدْرِهِ" رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا مَا
احْتَجُّوا
ج / 3 ص -189-
بِهِ
مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ فَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى
تَضْعِيفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيِّ
وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ
الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي
الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ
لَمْ يَنْظُرْ إلَّا إلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا غَرِيبٌ لَا أَعْرِفُهُ، وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَةِ
أَنَسٍ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ وَكُلُّهَا
ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ
الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ فِي الصَّلَاةِ
وَغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا يُلْهِي وَكَرَاهَةِ
الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَتَقْرِيبِ
نَظَرِهِ وَقَصْرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ
يَدَيْهِ، ثُمَّ فِي ضَبْطِهِ وَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الَّذِي
جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ
الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ
أَنَّهُ يَجْعَلُ نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ
وَالثَّانِي: وَبِهِ جَزَمَ
الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي يَكُونُ نَظَرُهُ
فِي الْقِيَامِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ،
وَفِي الرُّكُوعِ إلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ،
وَفِي السُّجُودِ إلَى أَنْفِهِ، وَفِي
الْقُعُودِ إلَى حِجْرِهِ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَ
الْبَصَرِ يُلْهِي فَإِذَا قَصَرَهُ كَانَ
أَوْلَى. وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ أَنَّ
تَرْدِيدَ الْبَصَرِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان
يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيَمْنَعُ كَمَالَ
الْخُشُوعِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فُرُوعٌ وَزِيَادَاتٌ سَنَبْسُطُهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهَا
الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ مَا يُفْسِدُ
الصَّلَاةَ.
فرع: أَمَّا تَغْمِيضُ
الْعَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ
الْعَبْدَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَابِ
اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ: يُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ
الْمُصَلِّي عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ:
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ
الثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِهِ
فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ.
دَلِيلُنَا أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَالَ: إنَّ
الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ:
وَلِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَغْمِيضُ الْعَيْنِ
فَكَذَا تَغْمِيضُ الْعَيْنَيْنِ هَذَا مَا
ذَكَرَهُ الْعَبْدَرِيُّ وَلَمْ أَرَ هَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَحَدٍ
مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ
لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا؛
لِأَنَّهُ يُجْمِعُ الْخُشُوعَ وَحُضُورَ
الْقَلْبِ، وَيَمْنَعُ مِنْ إرْسَالِ
النَّظَرِ وَتَفْرِيقِ الذِّهْنِ، قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ
مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا كَرِهَا
تَغْمِيضَ الْعَيْنَيْنِ فِي الصَّلَاةِ
وَفِيهِ حَدِيثٌ قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ
يَقْرَأُ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ وَهُوَ
سُنَّةٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ مَا
رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله
عنه
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ إلَى
الصَّلَاةِ1 قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ
إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا
شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا
مِنْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ
الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ
رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي
ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إلَّا أَنْتَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق كان إذا أقام للصلاة، وفي بعض
النسخ (لا يهديني لأحسنها) و (والخير كله في
يديك) وفي بعض النسخ من المهذب حذف (أنابك
وإليك) (ط).
ج / 3 ص -190-
وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا
يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ،
وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ
عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ
وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ
بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ أَنَا
بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ،
أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك"
[كَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ
غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ "فَأَنَا
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" فَإِنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُ لَا يَقُولُ إلَّا
مَا ذَكَرْنَاهُ].
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي
"صَحِيحِهِ" بِهَذِهِ
الْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
نَقَلْتُهُ، وَفِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ
مُخَالَفَةٌ لَهُ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ
مِنْهَا أَنَّهُ فِي
"الْمُهَذَّبِ" فِي أَوَّلِهِ
أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى
الْمَكْتُوبَةِ، وَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ
وَغَيْرِهِ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ
أَعَمُّ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ هَكَذَا هُوَ فِي
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ"مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَفِي
"الْمُهَذَّبِ" أَنَّ
لَفْظَةَ مِنْ لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ
وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ ثَابِتَةٌ فِي مُسْلِمٍ
وَغَيْرِهِ وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي بَعْضِهَا: وَأَنَا
مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي بَعْضِهَا:
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" : "رَوَاهُ
أَكْثَرُهُمْ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"
وَسَقَطَ فِي الْمُهَذَّبِ قَوْلُهُ: أَنْتَ
رَبِّي. وَيَا لَيْتَهُ نَقَلَهُ مِنْ
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ" .
وَأَمَّا تَفْسِيرُ أَلْفَاظِ هَذَا
الْحَدِيثِ فَتَحْتَمِلُ جُزْءًا كَبِيرًا
لَكِنِّي أُشِيرُ إلَى مَقَاصِدِهِ رَمْزًا؛
لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِتَدَبُّرِ
الْأَذْكَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ
مَعْنَاهَا لِيُمْكِنَهُ تَدَبُّرُ
مَعَانِيهَا.
قَوْلُهُ: إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ
يَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، قَوْلُهُ:
وَجَّهْت وَجْهِي. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ
وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهَا أَقْبَلْتُ بِوَجْهِي.
وَقِيلَ قَصَدْتُ بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي
إلَيْهِ، وَيَجُوزُ فِي وَجْهِي إلَيْهِ
إسْكَانُ الْيَاءِ وَفَتْحُهَا، وَأَكْثَرُ
الْقُرَّاءِ عَلَى الْإِسْكَانِ. وَقَوْلُهُ
"فَطَرَ السَّمَوَاتِ" أَيْ ابْتَدَأَ
خَلْقَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ،
وَجَمَعَ السَّمَوَاتِ دُونَ الْأَرْضِ وَإِنْ
كَانَتْ سَبْعًا كَالسَّمَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ
أَرَادَ جِنْسَ الْأَرَضِينَ، وَجَمَعَ
السَّمَوَاتِ لِشَرَفِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ
الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ السَّمَوَاتِ
أَفْضَلُ مِنْ الْأَرَضِينَ، وَقِيلَ
الْأَرْضُونَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا
مُسْتَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَدْفِنُهُمْ
وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَوْلُهُ "حَنِيفًا" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ
وَآخَرُونَ: أَيْ مُسْتَقِيمًا، وَقَالَ
الزَّجَّاجُ وَالْأَكْثَرُونَ: الْحَنِيفُ
الْمَائِلُ. وَمِنْهُ قِيلَ أَحْنَفَ
الرَّجُلُ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ هُنَا
الْمَائِلُ إلَى الْحَقِّ، وَقِيلَ لَهُ
ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُخَالِفِيهِ وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: الْحَنِيفُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ
كَانَ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه
وسلم وَانْتَصَبَ حَنِيفًا عَلَى الْحَالِ،
أَيْ وَجَّهْتُ وَجْهِي فِي حَالِ
حَنِيفِيَّتِي، وَقَوْلُهُ "وَمَا أَنَا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ" بَيَانٌ لِلْحَنِيفِ
وَإِيضَاحٌ لِمَعْنَاهُ، وَالْمُشْرِكُ
يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ كَافِرٍ مِنْ عَابِدِ
وَثَنٍ أَوْ صَنَمٍ، وَيَهُودِيٍّ
وَنَصْرَانِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ وَزِنْدِيقٍ
وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ "إنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الصَّلَاةُ
اسْمٌ جَامِعٌ لِلتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالدُّعَاءِ
وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِهَا. قَالَ:
وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ، وَالنَّاسِكُ
الَّذِي يُخْلِصُ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ
تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنْ النَّسِيكَةِ
وَهِيَ النَّقْرَةُ الْخَالِصَةُ الْمُذَابَةُ
الْمُصَفَّاةُ مِنْ كُلِّ خَلْطٍ،
وَالنَّسِيكَةُ أَيْضًا الْقُرْبَانُ الَّذِي
يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى الله تَعَالَى،
وَقِيلَ: النُّسُكُ مَا أَمَرَ بِهِ
الشَّرْعُ. وَقَوْلُهُ "وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي" أَيْ حَيَاتِي وَمَمَاتِي،
وَيَجُوزُ فِيهِمَا فَتْحُ الْيَاءِ
وَإِسْكَانُهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى
فَتْحِ مَحْيَايَ وَإِسْكَانِ مَمَاتِي
لِلَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ:
هَذِهِ لَامُ الْإِضَافَةِ وَلَهَا
مَعْنَيَانِ، الْمِلْكُ كَقَوْلِكَ: الْمَالُ
لِزَيْدٍ، وَالِاسْتِحْقَاقُ كَالسَّرْجِ
لِلْفَرَسِ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ
ج / 3 ص -191-
هُنَا.
وَقَوْلُهُ "للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فِي
مَعْنَى رَبٍّ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا
الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَالِكُ،
وَالسَّيِّدُ، وَالْمُدَبِّرُ، وَالْمُرَبِّي.
قَالَ: فَإِنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى
بِأَنَّهُ رَبٌّ أَوْ مَالِكٌ أَوْ سَيِّدٌ
فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَإِنْ قِيلَ؛
لِأَنَّهُ مُدَبِّرُ خَلْقِهِ أَوْ
مُرَبِّيهِمْ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ،
قَالَ: وَمَتَى أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ الْأَلْفَ
وَاللَّامَ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالله تَعَالَى
دُونَ خَلْقِهِ، وَإِنْ حَذَفْتَهَا كَانَ
مُشْتَرَكًا فَتَقُولُ: رَبُّ الْعَالَمِينَ
وَرَبُّ الدَّارِ، وَأَمَّا الْعَالَمُونَ
فَجَمْعُ عَالَمٍ، وَالْعَالَمُ لَا وَاحِدَ
لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي حَقِيقَتِهِ، فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ
مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَجَمَاعَاتٌ
مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ:
الْعَالَمُ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَالَ
جَمَاعَةٌ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ
وَالْجِنُّ. وَقِيلَ: هُوَ أَرْبَعَةُ
أَنْوَاعٍ الْمَلَائِكَةُ وَالْإِنْسُ
وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ قَالَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَقِيلَ: بَنُو
آدَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ
وَأَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ. وَقَالَ
آخَرُونَ: هُوَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي
اشْتِقَاقِ الْعَالَمِ فَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ
الْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ
دَلَالَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ
صَانِعِهِ، فَالْعَالَمُ اسْمٌ لِجَمِيعِ
الْمَخْلُوقَاتِ، وَدَلِيلُهُ اسْتِعْمَالُ
النَّاسِ فِي قَوْلِهِمْ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ،
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ
وَقَتَادَةَ وَدَلِيلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{قَالَ
فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}
[الشعراء:23] قَالَ: "رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا" وَقِيلَ
مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ، فَالْعَالَمُونَ
عَلَى هَذَا مَنْ يَعْقِلُ خَاصَّةً، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو
الْهَيْثَمِ وَالْأَزْهَرِيُّ لِقَوْلِ الله
تَعَالَى:{لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}
[الفرقان: 1]. قَوْلُهُ "اللَّهُمَّ أَنْتَ
الْمَلِكُ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: فِيهِ
مَذْهَبَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ، قَالَ
الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ يَا اللَّهُ آمِنَّا
بِخَيْرٍ، فَكَثُرَتْ فِي الْكَلَامِ
وَاخْتَلَطَتْ، فَقِيلَ: اللَّهُمَّ
وَتُرِكَتْ مَفْتُوحَةَ الْمِيمِ، وَقَالَ
الْخَلِيلُ: مَعْنَاهُ يَا اللَّهُ وَالْمِيمُ
الْمُشَدَّدَةُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّدَاءِ،
وَالْمِيمُ مَفْتُوحَةٌ لِسُكُونِهَا
وَسُكُونِ الْمِيمِ قَبْلَهَا وَلَا يُجْمَعُ
بَيْنَهُمَا، فَلَا يُقَالُ: يَا اللَّهُمَّ،
وَقَوْلُهُ: أَنْتَ الْمَلِكُ أَيْ الْقَادِرُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
قَوْلُهُ "وَأَنَا عَبْدُكَ" قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ أَيْ إنِّي لَا أَعْبُدُ
غَيْرَكَ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ
أَنَا مُعْتَرِفٌ بِأَنَّكَ مَالِكِي
وَمُدَبَّرِي وَحُكْمُكَ نَافِذٌ فِي،
قَوْلُهُ "ظَلَمْتُ نَفْسِي" قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ
قَدَّمَهُ عَلَى سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ
وَحَوَّاءَ عليهما السلام
{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ
لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[لأعراف: 23] قَوْلُهُ: "اهْدِنِي لِأَحْسَنِ
الْأَخْلَاقِ" أَيْ أَرْشِدْنِي لِصَوَابِهَا،
وَوَفِّقْنِي لِلتَّخَلُّقِ بِهِ
وَسَيِّئُهَا: قَبِيحُهَا.
قَوْلُهُ "لَبَّيْكَ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ
وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى
طَاعَتِكَ إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ، يُقَالُ:
لَبَّ بِالْمَكَانِ لَبًّا وَأَلَبَّ
إلْبَابًا أَقَامَ بِهِ، وَأَصْلُ لَبَّيْكَ
لَبَّيْنَ، فَحُذِفَتْ النُّونُ
لِلْإِضَافَةِ، وَقَوْلُ "وَسَعْدَيْكَ" قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ مُسَاعَدَةً لِأَمْرِكَ
بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ، وَمُتَابَعَةً بَعْدَ
مُتَابَعَةٍ لِدِينِكَ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ
بَعْدَ مُتَابَعَةٍ.
قَوْلُهُ "وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ" فِيهِ
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ لَا
يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك، قَالَهُ الْخَلِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ
وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَيَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ
وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
ج / 3 ص -192-
وَالثَّانِي: حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ الْمُزَنِيِّ وَقَالَهُ
أَيْضًا غَيْرُهُ مَعْنَاهُ: لَا يُضَافُ
إلَيْكَ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَلَا يُقَالُ:
يَا خَالِقَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ،
وَيَا رَبَّ الشَّرِّ وَنَحْوُ هَذَا، وَإِنْ
كَانَ يُقَالُ: يَا خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ
وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ
الشَّرُّ فِي الْعُمُومِ.
وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ
وَالشَّرُّ لَا يَصْعَدُ إلَيْكَ وَإِنَّمَا
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ.
وَالرَّابِعُ: مَعْنَاهُ
وَالشَّرُّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ
إلَيْكَ فَإِنَّك خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ
بَالِغَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ.
وَالْخَامِسُ: حَكَاهُ
الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ فُلَانٌ
إلَى بَنِي فُلَانٍ، وَإِذَا كَانَ عِدَادُهُ
فِيهِمْ أَوْ صَفُّوهُ إلَيْهِمْ. قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَلَا بُدَّ مِنْ
تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ
أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِظَاهِرِهِ؛
لِأَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ:
الْخَيْرُ وَالشَّرُّ جَمِيعًا اللَّهُ
فَاعِلُهُمَا وَلَا إحْدَاثَ لِلْعَبْدِ
فِيهِمَا، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ:
يَخْلُقُهُمَا وَيَخْتَرِعُهُمَا وَلَيْسَ
لِلَّهِ فِيهِمَا صُنْعٌ. وَلَا يَسْمَعُ
الْقَوْلَ بِأَنَّ الْخَيْرَ مِنْ عِنْدِ الله
وَالشَّرَّ مِنْ نَفْسِكَ إلَّا هَمَجُ
الْعَامَّةِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ لَا سُنِّيٌّ وَلَا
بِدْعِيٌّ.
وَقَوْلُهُ "أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ" أَيْ
الْتِجَائِي وَانْتِمَائِي إلَيْكَ
وَتَوْفِيقِي بِكَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ
مَعْنَاهُ أَعْتَصِمُ بِكَ وَأَلْجَأُ
إلَيْكَ، قَوْلُهُ "تَبَارَكْتَ"
اسْتَحْقَقْتَ الثَّنَاءَ، وَقِيلَ: ثَبَتَ
الْخَيْرُ عِنْدَكَ. وَقَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: تَبَارَكَ الْعِبَادُ
بِتَوْحِيدِكَ. وَالله أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْ إمَامٍ
وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ وَامْرَأَةٍ
وَصَبِيٍّ وَمُسَافِرٍ وَمُفْتَرِضٍ
وَمُتَنَفِّلٍ وَقَاعِدٍ وَمُضْطَجِعٍ
وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَأْتِيَ بِدُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ، فَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ
عَمْدًا حَتَّى شَرَعَ فِي التَّعَوُّذِ لَمْ
يَعُدْ إلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَلَا
يَتَدَارَكُهُ فِي بَاقِي الرَّكَعَاتِ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
فِي تَعْلِيقِهِ: إذَا تَرَكَهُ وَشَرَعَ فِي
التَّعَوُّذِ يَعُودُ إلَيْهِ مِنْ بَعْدِ
التَّعَوُّذِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ
وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ سُجُودِ
السَّهْوِ وَالْجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَلَكِنْ لَوْ
خَالَفَ فَأَتَى بِهِ لَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَلَا يَسْجُدُ
لِلسَّهْوِ [لَهُ]، كَمَا لَوْ دَعَا أَوْ
سَبَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَكَذَا لَوْ
أَتَى بِهِ حَيْثُ لَا آمُرُهُ بِهِ فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُ ذِكْرَ
الصَّلَاةِ فِي أَيِّ حَالٍ ذَكَرَهُ. قَالَ
الْبَغَوِيّ وَلَوْ أَحْرَمَ مَسْبُوقٌ
فَأَمَّنَ الْإِمَامُ عَقِبَ إحْرَامِهِ
أَمَّنَ ثُمَّ أَتَى بِالِاسْتِفْتَاحِ؛
لِأَنَّ التَّأْمِينَ يَسِيرٌ، وَلَوْ
أَدْرَكَ مَسْبُوقٌ الْإِمَامَ فِي
التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَكَبَّرَ وَقَعَدَ
فَسَلَّمَ مَعَ أَوَّلِ قُعُودِهِ قَامَ وَلَا
يَأْتِي بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ لِفَوَاتِ
مَحَلِّهِ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ،
قَالُوا: وَلَوْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَبْلَ
قُعُودِهِ لَا يَقْعُدُ وَيَأْتِي بِدُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
مِنْ اسْتِحْبَابِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ
لِكُلِّ مُصَلٍّ يَدْخُلُ فِيهَا النَّوَافِلُ
الْمُرَتَّبَةُ وَالْمُطْلَقَةُ وَالْعِيدُ
وَالْكُسُوفُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ،
وَالِاسْتِسْقَاءُ وَغَيْرُهَا وَيُسْتَثْنَى
مِنْهُ مَوْضِعَانِ:
أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ
الْجِنَازَةِ، فِيهَا وَجْهَانِ ذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ أَصَحُّهُمَا
عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْأَصْحَابِ: لَا يُشْرَعُ
فِيهَا دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّهَا
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِصَارِ،
وَالثَّانِي: تُسْتَحَبُّ كَغَيْرِهَا.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي:
الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي
غَيْرِ الْقِيَامِ لَا يَأْتِي بِدُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ، حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ لَوْ
أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَافِعًا مِنْ
الِاعْتِدَالِ حِينَ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ
لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ
ج / 3 ص -193-
الِاسْتِفْتَاحِ ، بَلْ يَقُولُ: سَمِعَ
اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا لَك
الْحَمْدُ ، إلَى آخِرِهِ مُوَافَقَةً
لِلْإِمَامِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي
الْقِيَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ
دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ
وَالْفَاتِحَةُ أَتَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَالَهُ
الْأَصْحَابُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ: وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يُعَجِّلَ فِي قِرَاءَتِهِ وَيَقْرَأَ
إلَى قَوْلِهِ: "وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ"
فَقَطْ ثُمَّ يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ،
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
الْجَمْعُ أَوْ شَكَّ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ وَلَوْ خَالَفَ وَأَتَى بِهِ
فَرَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ فَرَاغِ
الْفَاتِحَةِ فَهَلْ يَرْكَعُ مَعَهُ
وَيَتْرُكُ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ أَمْ
يُتِمُّهَا وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ؟ فِيهِ
خِلَافٌ مَشْهُورٌ سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ،
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِبَعْضِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ مَعَ
التَّعَوُّذِ وَالْفَاتِحَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ
كُلُّهُ أَتَى بِالْمُمْكِنِ نَصَّ عَلَيْهِ
فِي
"الْأُمِّ" .
فرع: فِي دُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي
"الصَّحِيحِ" ، مِنْهَا
حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه الْمَذْكُورُ
فِي الْكِتَابِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ
وَالْقِرَاءَةِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي
يَا رَسُولَ الله فِي إسْكَاتِكَ بَيْنَ
التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟
قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي
وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ
نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى
الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ،
اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ
وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، هَذَا
لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ.
وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِثْلُهَا إلَّا أَنَّهُ
قَالَ: " اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ
خَطَايَايَ1 اللَّهُمَّ وَاغْسِلْنِي مِنْ
خَطَايَايَ " وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا
اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ
وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ
بِاللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ
وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا
إلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ
أَكْبَرُ كَبِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ
بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ
وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: وَالنَّسَائِيُّ وَضَعَّفَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ ،
وَجَاءَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ
تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ "نَفْثِهِ"
الشَّرُّ "وَنَفْخِهِ" الْكِبْرُ "وَهَمْزِهِ"
الْمَوْتَةُ أَيْ الْجُنُونُ. وَرَوَى
الِاسْتِفْتَاحَ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ"
جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَحَادِيثُهُ
كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُ: أَصَحُّ مَا فِيهَا الْأَثَرُ
الْمَوْقُوفُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رضي الله عنه أَنَّهُ حِينَ افْتَتَحَ
الصَّلَاةَ قَالَ:
"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى
جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ" وَهَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي
"صَحِيحِهِ" لَكِنْ لَمْ
يُصَرِّحْ أَنَّهُ قَالَهُ فِي
"الِاسْتِفْتَاحِ" ،
بَلْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ رضي
الله عنه كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ
الْكَلِمَاتِ
"سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ
وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ".
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ: هَذِهِ
الرِّوَايَةُ وَقَعَتْ فِي مُسْلِمٍ
مُرْسَلَةً؛ لِأَنَّ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي
لُبَابَةَ لَمْ يَسْمَع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواية مسلم: اللهم نقني من خطاياي كما ينقى
الثوب الأبيض من الدنس اللهم واغسلني الخ
فاقتصر الشارح على موضع الخلاف بين الروايتين
(ط).
ج / 3 ص -194-
عُمَرَ،
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ
الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ مُتَّصِلًا وَفِي
رِوَايَتِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عُمَرَ رضي
الله عنه قَالَهُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ،
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى
الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ
وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا
إلَهَ غَيْرُكَ، وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا
وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه
"أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ
فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا
طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ
قَالَ: أَيُّكُمْ الْمُتَكَلِّمُ
بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ
أَيُّكُمْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ
لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ
وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا،
فَقَالَ: رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشْرَ مَلَكًا
يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ "أَرَمَّ" بِالرَّاءِ أَيْ سَكَتَ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:
"بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ
قَالَ رَجُلٌ فِي الْقَوْمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ
كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا
وَسُبْحَانَ الله بُكْرَةً وَأَصِيلًا،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
مَنْ الْقَائِلُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ
مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ الله،
قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا كَلِمَةً فُتِحَتْ
لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ
عُمَرَ فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي قَبْلَهُ،
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي
الِاسْتِفْتَاحِ بِأَيَّتِهَا اسْتَفْتَحَ
حَصَّلَ سُنَّةَ الِاسْتِفْتَاحِ، لَكِنَّ
أَفْضَلَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَالْأَصْحَابِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه
وَيَلِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ
أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَاضِي
أَبُو حَامِدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي
إلَى آخِرِهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ حَدِيثُ عَلِيٍّ
رضي الله عنه. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ
كَانَ إمَامًا لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ:
وَجَّهْتُ وَجْهِي، إلَى قَوْلِهِ: وَأَنَا
مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ
مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا لِقَوْمٍ
مَحْصُورِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ مَنْ
يَلْحَقُ بِهِمْ وَرَضُوا بِالتَّطْوِيلِ
اسْتَوْفَى حَدِيثَ عَلِيٍّ بِكَمَالِهِ،
وَيُسْتَحَبُّ مَعَهُ حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي
الِاسْتِفْتَاحِ وَمَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ.
أَمَّا الِاسْتِفْتَاحُ فَقَالَ
بِاسْتِحْبَابِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ
بَعْدَهُمْ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ خَالَفَ فِيهِ
إلَّا مَالِكٌ رحمه الله فَقَالَ: لَا يَأْتِي
بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَلَا بِشَيْءٍ
بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ أَصْلًا،
بَلْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إلَى آخِرِ
الْفَاتِحَةِ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ
"الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَلَيْسَ فِيهِ
اسْتِفْتَاحٌ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ
بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ فِي
فَصْلِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ "كَانَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما يَفْتَتِحُونَ
الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ". وَدَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا
جَوَابَ لَهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ "الْمُسِيءِ
صَلَاتَهُ" مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ
رَفْعِ الْيَدِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم إنَّمَا عَلَّمَهُ
الْفَرَائِضَ فَقَطْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه مَا سَبَقَ فِي فَصْلِ
التَّكْبِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَتْحِ
الْقِرَاءَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ،
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ
الْفَاتِحَةَ قَبْلَ السُّورَةِ، وَلَيْسَ
الْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِدُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ وَبَيَّنَهُ حَدِيثُ
عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ،
وَكَيْفَ كَانَ فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ
بِنَفْيِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَلَوْ
ج / 3 ص -195-
صَرَّحَ
بِنَفْيِهِ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ الْمُتَظَاهِرَةُ بِإِثْبَاتِهِ
مُقَدَّمَةً؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَاتٍ
وَلِأَنَّهَا إثْبَاتٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
النَّفْيِ وَالله أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَفْتَحُ بِوَجَّهْتُ
وَجْهِي إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد
يُسْتَفْتَحُ بِسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إلَى
آخِرِهِ وَلَا يَأْتِي بِوَجَّهْتُ وَجْهِي.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا
وَيَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْقَاضِي
أَبِي حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا
سَبَقَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيَّ ذَلِكَ
قَالَ أَجْزَأَهُ وَأَنَا إلَى حَدِيثِ:
وَجَّهْتُ وَجْهِي أَمِيلُ، دَلِيلُنَا أَنَّا
قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي
الِاسْتِفْتَاحِ بِسُبْحَانِكَ اللَّهُمَّ
شَيْءٌ وَثَبَتَ وَجَّهْتُ وَجْهِي
فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ
وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ
يَتَعَوَّذُ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِالله مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمَا رَوَى أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه " أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ
ذَلِكَ " قَالَ فِي الْأُمِّ: كَانَ ابْنُ
عُمَرَ رضي الله عنه يَتَعَوَّذُ فِي
نَفْسِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
يَجْهَرُ بِهِ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ جَازَ،
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ اُسْتُحِبَّ
أَنْ يُسِرَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِقِرَاءَةٍ وَلَا عَلَمٍ عَلَى الِاتِّبَاعِ،
وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ
الْأُولَى، قَالَ فِي الْأُمِّ: يَقُولُ فِي
أَوَّلِ الرَّكْعَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنْ
قَالَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَحَسَنٌ، وَلَا
آمُرُ بِهِ أَمْرِي فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ،
فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيمَا سِوَى
الْأُولَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ
الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَهِيَ كَالْأُولَى.
الثَّانِيَةُ: لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ
اسْتِفْتَاحَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى،
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُسْتَحَبُّ
فِي الْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا
فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَشَدُّ
اسْتِحْبَابًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
الشرح: حَدِيثُ أَبِي
سَعِيدٍ هَذَا غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فَقَالَ
فِيهِ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
"أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ"
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي
الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ الله تَعَالَى
"فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"
وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ
بِالْحَدِيثِ دُونَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ
الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ
الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِيهَا كَيْفِيَّةُ
الِاسْتِعَاذَةِ فَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ؛
لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ الْمَحَلِّ، وَلَكِنَّ
الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، فَالْجَوَابُ
الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ.
وَمَعْنَى: أَعُوذُ بِالله أَلُوذُ
وَأَعْتَصِمُ بِهِ، وَأَلْجَأُ إلَيْهِ،
وَالشَّيْطَانُ اسْمٌ لِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ
عَاتٍ سُمِّيَ شَيْطَانًا لِشُطُونِهِ عَنْ
الْخَيْرِ، أَيْ تَبَاعُدِهِ، وَقِيلَ
لِشَيْطِهِ، أَيْ هَلَاكِهِ وَاحْتِرَاقِهِ،
فَعَلَى الْأَوَّلِ النُّونُ أَصْلِيَّةٌ
وَعَلَى الثَّانِي زَائِدَةٌ، وَالرَّجِيمُ
الْمَطْرُودُ وَالْمُبْعَدُ وَقِيلَ
الْمَرْجُومُ بِالشُّهُبِ، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ
بِقِرَاءَةٍ وَلَا عَلَمٍ عَلَى الِاتِّبَاعِ،
الْعَلَمُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ
الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ وَاحْتُرِزَ بِهِ
عَنْ التَّكْبِيرِ.
أَمَّا حُكْمُ الْفَصْلِ:
فَهُوَ أَنَّ التَّعَوُّذَ مَشْرُوعٌ فِي
أَوَّلِ رَكْعَةٍ فَيَقُولُ بَعْدَ دُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ: أَعُوذُ بِالله مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ هَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ،
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَقُولَ: أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ
الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ،
وَبِهِ جَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَحَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" وَأَصْحَابُنَا:
يَحْصُلُ التَّعَوُّذُ بِكُلِّ مَا اشْتَمَلَ
عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِالله مِنْ
الشَّيْطَانِ، لَكِنَّ أَفْضَلَهُ أَعُوذُ
بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، قَالَ
صَاحِبُ
"الْحَاوِي" :
وَبَعْدَهُ فِي الْفَضِيلَةِ أَعُوذُ
ج / 3 ص -196-
بِالله
السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ، وَبَعْدَ هَذَا أَعُوذُ بِالله
الْعَلِيِّ مِنْ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ.
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: لَوْ قَالَ: أَعُوذُ
بِالرَّحْمَنِ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ أَعُوذُ
بِكَلِمَاتِ الله مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ
سَرِيَّةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ
جَهْرِيَّةً فَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَصَاحِبُ
"الْحَاوِي" يُسْتَحَبُّ
الْإِسْرَارُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا،
كَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ:
وَالثَّانِي: وَهُوَ
الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ
أَصَحُّهَا: يُسْتَحَبُّ
الْإِسْرَارُ:
وَالثَّانِي: يُسْتَحَبُّ
الْجَهْرُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ
فَأَشْبَهَ التَّأْمِينَ كَمَا لَوْ قَرَأَ
خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ
بِالتَّعَوُّذِ قَطْعًا:
وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ
بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَلَا
تَرْجِيحَ وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي
الْأُمِّ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ
فَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْمَحَامِلِيُّ وَنَقَلَا التَّعَوُّذَ فِي
كُلِّ رَكْعَةٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ
وَغَلَطَا، فَهَذِهِ طُرُقُ الْأَصْحَابِ
وَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ التَّعَوُّذِ فِي
كُلِّ رَكْعَةٍ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ فِي
"الْبَسِيطِ"
وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّاشِيُّ
وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَلَوْ تَرَكَهُ
فِي الْأُولَى عَمْدًا أَوْ سَهْوًا
اُسْتُحِبَّ فِي الثَّانِيَةِ بِلَا خِلَافٍ.
سَوَاءٌ قُلْنَا: يَخْتَصُّ، بِالْأُولَى أَمْ
لَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَرَكَ دُعَاءَ
الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُولَى لَا يَأْتِي
بِهِ فِيمَا بَعْدَهَا بِلَا خِلَافٍ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَالْفَرْقُ أَنَّ
الِاسْتِفْتَاحَ مَشْرُوعٌ فِي أَوَّلِ
الصَّلَاةِ، وَقَدْ فَاتَ فَصَارَ
كَالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا
التَّعَوُّذُ فَمَشْرُوعٌ فِي أَوَّلِ
الْقِرَاءَةِ وَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ
وَمَا بَعْدَهَا فِيهَا قِرَاءَةٌ.
فرع: فِي مَسَائِلَ
مُتَعَلِّقَةٍ بِالتَّعَوُّذِ إحْدَاهَا:
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" لَوْ تَرَكَ
التَّعَوُّذَ عَمْدًا1 فَإِنْ تَرَكَهُ
عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ الثَّانِيَةُ: فِي اسْتِحْبَابِ
التَّعَوُّذِ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ
صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الرَّكْعَةِ
الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ وَجْهَانِ
حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْحَاوِي فِي بَابِ
صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَهُمَا كَالْخِلَافِ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ الثَّالِثَةُ: قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ
التَّعَوُّذُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرِيضَةٍ
أَوْ نَافِلَةٍ أَوْ مَنْذُورَةٍ لِكُلِّ
مُصَلٍّ مِنْ إمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ
وَمُضْطَجِعٍ وَرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ
وَحَاضِرٍ وَمُسَافِرٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِدٍ
وَمُحَارِبٍ إلَّا الْمَسْبُوقَ الَّذِي
يَخَافُ فَوْتَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ لَوْ
اشْتَغَلَ بِهِ فَيَتْرُكُهُ وَيَشْرَعُ فِي
الْفَاتِحَةِ وَيَتَعَوَّذُ فِي الرَّكْعَةِ
الْأُخْرَى. وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّعَوُّذُ
كَالتَّأْمِينِ:
وَالثَّانِي: لَا
يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى
التَّخْفِيفِ
الرَّابِعَةُ: التَّعَوُّذُ
يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ الشُّرُوعَ
فِي قِرَاءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا
وَيَجْهَرُ الْقَارِئُ خَارِجَ الصَّلَاةِ
بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ، وَيَكْفِيهِ
التَّعَوُّذُ الْوَاحِدُ مَا لَمْ يَقْطَعْ
قِرَاءَتَهُ بِكَلَامٍ أَوْ سُكُوتٍ طَوِيلٍ،
فَإِنْ قَطَعَهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
اسْتَأْنَفَ التَّعَوُّذَ وَإِنْ سَجَدَ
لِتِلَاوَةٍ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقِرَاءَةِ
لَمْ يَتَعَوَّذْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَصْلٍ
أَوْ هُوَ فَصْلٌ يَسِيرٌ. ذَكَرَهُ
الْمُتَوَلِّي.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي التَّعَوُّذِ وَمَحَلِّهِ
وَصِفَتِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ وَتَكْرَارِهِ
فِي الرَّكَعَاتِ وَاسْتِحْبَابِهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل وفيها سقط ولعله (تداركه في
الثانية) كما يفهم من عبارة الروضة والأم وقد
حكى الشارع عبارة الأم بالمعنى (ش).
ج / 3 ص -197-
لِلْمَأْمُومِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ أَمْ
وَاجِبٌ. أَمَّا أَصْلُهُ فَاسْتَحَبَّهُ
لِلْمُصَلِّي جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ
بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ
وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ
أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ لَا
يَتَعَوَّذُ أَصْلًا لِحَدِيثِ "الْمُسِيءِ
صَلَاتَهُ" وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ الْآيَةُ،
وَاسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ لَيْسَتْ
بِثَابِتَةٍ فَالْآيَةُ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَالَ الْجُمْهُورُ:
هُوَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ
يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَكَانَ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ فَرَاغِ
الْفَاتِحَةِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهَا إذَا أَرَدْتَ
الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَهُوَ اللَّائِقُ
السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ
فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَقُولَ "أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ" وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ
أَعُوذُ بِالله مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَقُولُ
"أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وَنَقَلَ
الشَّاشِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ
"أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إنَّ اللَّهَ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " وَحَكَى صَاحِبُ
الشَّامِلِ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الله:
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[لأعراف:200]
وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَاحْتَجَّ
أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ الله تَعَالَى:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
[النحل:98] فَقَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي
احْتَجَّ بِهَا فَلَيْسَتْ بَيَانًا لِصِفَةِ
الِاسْتِعَاذَةِ، بَلْ أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَأَخْبَرَ
أَنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ عَلِيمٌ، فَهُوَ
حَثَّ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ، وَالْآيَةُ
الَّتِي أَخَذْنَا بِهَا أَقْرَبُ إلَى صِفَةِ
الِاسْتِعَاذَةِ وَكَانَتْ أَوْلَى، وَأَمَّا
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه فَسَبَقَ
أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا الْجَهْرُ
بِالتَّعَوُّذِ فِي الْجَهْرِيَّةِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِنَا
أَنَّهُ لَا يَجْهَرُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ
عُمَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ يَجْهَرُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى الْإِسْرَارُ وَالْجَهْرُ سَوَاءٌ
وَهُمَا حَسَنَانِ.
وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي
مَذْهَبِنَا اسْتِحْبَابُهُ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَخْتَصُّ
التَّعَوُّذُ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى
وَأَمَّا اسْتِحْبَابُهُ لِلْمَأْمُومِ
فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ كَمَا
يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا
يَتَعَوَّذُ الْمَأْمُومُ؛ لِأَنَّهُ لَا
قِرَاءَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا وَأَمَّا
حُكْمُهُ فَمُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ،
هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ،
وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ عَطَاءٍ
وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا أَوْجَبَاهُ،
قَالَ: وَعَنْ دَاوُد رِوَايَتَانِ
إحْدَاهُمَا: وُجُوبُهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ،
وَدَلِيلُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَدَلِيلُنَا
حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ وَالله
أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ
يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَهُوَ فَرْضٌ
مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لِمَا رَوَى
عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ".
ج / 3 ص -198-
الشرح: حَدِيثُ عُبَادَةَ رضي الله عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ -
رحمهما الله - وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ
لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ
الصَّلَاةِ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا
وَمُتَعَيِّنَةٌ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا
تَرْجَمَتُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا
قِرَاءَةُ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ،
وَيَسْتَوِي فِي تَعَيُّنِهَا جَمِيعُ
الصَّلَوَاتِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا،
جَهْرُهَا وَسِرُّهَا، وَالرَّجُلُ
وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُسَافِرُ وَالصَّبِيُّ،
وَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ،
وَفِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِهَا،
سَوَاءٌ فِي تَعَيُّنِهَا الْإِمَامُ
وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ. وَفِي
الْمَأْمُومِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهَا لَا
تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ
الْجَهْرِيَّةِ، وَسَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَسْقُطُ الْفَاتِحَةُ عَنْ الْمَسْبُوقِ
وَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْإِمَامُ بِشَرْطِ
أَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ مَحْسُوبَةٌ
لِلْإِمَامِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِمَامِ
الْمُحْدِثِ، وَاَلَّذِي قَامَ لِخَامِسَةٍ
نَاسِيًا، وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قِرَاءَةَ
الْفَاتِحَةِ مُتَعَيَّنَةٌ فِي كُلِّ
صَلَاةٍ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ
وَالنَّفَلِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَلْ
نُسَمِّيهَا فِي النَّافِلَةِ وَاجِبَةً أَمْ
شَرْطًا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ سَبَقَ
بَيَانُهَا فِي مَوَاضِعَ أَصَحُّهَا رُكْنٌ
وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي
الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ
مَذْهَبُنَا أَنَّ الْفَاتِحَةَ مُتَعَيَّنَةٌ
لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَيْهَا
إلَّا بِهَا ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَقَدْ
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَخَوَّاتِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ عَوْنٍ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ
الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي
ثَوْرٍ وَحَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ
الثَّوْرِيِّ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ لَا تَتَعَيَّنُ الْفَاتِحَةُ
لَكِنْ تُسْتَحَبُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ
تَجِبُ وَلَا تُشْتَرَطُ ، وَلَوْ قَرَأَ
غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَجْزَأَهُ ، وَفِي
قَدْرِ الْوَاجِبِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْهُ
إحْدَاهَا: آيَةٌ تَامَّةٌ وَالثَّانِيَةُ:
مَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمَ قَالَ الرَّازِيّ
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ
وَالثَّالِثَةُ: ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ
آيَةٌ طَوِيلَةٌ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَاحْتُجَّ لِأَبِي
حَنِيفَةَ بِقَوْلِ الله تَعَالَى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ
"كَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَبِحَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم "لَا
صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ
غَيْرِهَا" وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"لَا صَلَاةَ إلَّا
بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"
قَالُوا: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا
يَقُومُ مَقَامَهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ
سُوَرَ الْقُرْآنِ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ
بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ
عَلَى الْجُنُبِ وَتَحْرِيمِ مَسِّ
الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ:
"لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَإِنْ
قَالُوا: مَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ كَامِلَةً
قُلْنَا: هَذَا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ
وَخِلَافُ الظَّاهِرِ وَالسَّابِقِ إلَى
الْفَهْمِ فَلَا يُقْبَلُ. وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ
خِدَاجٌ يَقُولُهَا ثَلَاثًا" ، أَيْ غَيْرُ
تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّا
نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ: اقْرَأْ
بِهَا فِي نَفْسِكَ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{ قَسَمْتُ
ج / 3 ص -199-
الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا
لِعَبْدِي} فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ
اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ،
قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا
قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ:
مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً:
فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ:
{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا
بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا
سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ
فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ
وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ كُلُّهُمْ. وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم
"لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ
حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي
صَحِيحَيْهِمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه
قَالَ:
"أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى
شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَفِي
الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي
احْتَجُّوا بِهَا أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي
قِيَامِ اللَّيْلِ لَا فِي قَدْرِ
الْقِرَاءَةِ ، وَعَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ
الْفَاتِحَةَ تَتَيَسَّرُ فَيُحْمَلُ
عَلَيْهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَوْ
يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُهَا ، وَعَنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
"لَا صَلَاةَ
إلَّا بِقُرْآنٍ" أَنَّهُ
حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا
الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ أَنَّ أَقَلَّ مَا
يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، كَمَا
يُقَالُ: صُمْ وَلَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ
الشَّهْرِ ، أَيْ أَكْثِرْ مِنْ الصَّوْمِ ،
فَإِنْ نَقَصْتَ فَلَا تَنْقُصْ عَنْ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ
سُوَرَ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِوَاؤُهَا
فِي الْإِجْزَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، لَا
سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ فِي نَفْسِ الْفَاتِحَةِ
فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا هَذَا
مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ
مِنْ الدَّلَائِلِ لَنَا وَلَهُمْ ،
اقْتَصَرْتُ فِيهَا عَلَى الصَّوَابِ مِنْ
الدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ ، إذْ لَا
فَائِدَةَ فِي الْإِطْنَابِ فِي الْوَاهِيَاتِ
، وَبِالله التَّوْفِيقُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي أَصْلِ
الْقِرَاءَةِ.
مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً
وُجُوبُهَا ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا
بِهَا ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا مَا
حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَمُتَابِعُوهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ
وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ أَنَّهُمَا قَالَا:
لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ بَلْ هِيَ
مُسْتَحَبَّةٌ. وَاحْتُجَّ لَهُمَا بِمَا
رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي
الله عنه
"صَلَّى الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ فَقِيلَ
لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا
بَأْسَ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَغَيْرُهُ وَعَنْ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ "أَنَّ
رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: إنِّي
صَلَّيْتُ وَلَمْ أَقْرَأْ ، قَالَ:
أَتْمَمْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالَ:
نَعَمْ ، قَالَ تَمَّتْ صَلَاتُكَ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه
قَالَ:
"الْقِرَاءَةُ
سُنَّةٌ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي الْفَرْعِ
قَبْلَهُ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم قَالَ
"لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه
فَجَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَبَا
سَلَمَةَ
ج / 3 ص -200-
وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ1 لَمْ يُدْرِكَا
عُمَرَ:
وَالثَّانِي: أَنَّهُ
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَسَرَّ
بِالْقِرَاءَةِ:
وَالثَّالِثُ: أَنَّ
الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ
مَوْصُولَيْنِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه
أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَقْرَأْ
فَأَعَادَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ مَوْصُولَةٌ مُوَافِقَةٌ
لِلسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ ،
وَلِلْقِيَاسِ فِي أَنَّ الْأَرْكَانَ لَا
تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ وَأَمَّا الْأَثَرُ
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَضَعِيفٌ أَيْضًا
؛ لِأَنَّ الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ مُتَّفَقٌ
عَلَى ضَعْفِهِ وَتُرِكَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ،
وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ زَيْدٍ فَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: مُرَادُهُ أَنَّ
الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى حَسْبِ
مَا فِي الْمُصْحَفِ فَلَا تَجُوزُ
مُخَالَفَتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَقَايِيسِ
الْعَرَبِيَّةِ ، بَلْ حُرُوفُ الْقِرَاءَةِ
سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ أَيْ طَرِيقٌ يُتَّبَعُ
وَلَا يُغَيَّرُ وَالله أَعْلَمُ.
فرع: لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ حَكَاهَا الْإِمَامُ أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ:
أَحَدُهَا: فَاتِحَةُ
الْكِتَابِ، وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ ، قَالُوا:
سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا
الْمُصْحَفُ وَالتَّعَلُّمُ وَالْقِرَاءَةُ
فِي الصَّلَاةِ ، وَهِيَ مُفْتَتَحَةٌ
بِالْحَمْدِ الَّذِي يُفْتَتَحُ بِهِ كُلُّ
أَمْرٍ ذِي بَالٍ ، وَقِيلَ ؛ لِأَنَّ
الْحَمْدَ فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ
الثَّانِي: سُورَةُ الْحَمْدِ
؛ لِأَنَّ فِيهَا الْحَمْدَ
الثَّالِثُ: وَ
الرَّابِعُ: أُمُّ الْقُرْآنِ
وَأُمُّ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ
فِي الْمُصْحَفِ ، كَمَا أَنَّ مَكَّةَ أُمُّ
الْقُرَى حَيْثُ دُحِيَتْ الدُّنْيَا مِنْ
تَحْتِهَا ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَجْمَعُ
الْعُلُومِ وَالْخَيْرَاتِ كَمَا سُمِّيَ
الدِّمَاغُ أُمُّ الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّهُ
مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَالْمَنَافِعِ.
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْأُمُّ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ الرَّايَةُ يَنْصِبُهَا الْأَمِيرُ
لِلْعَسْكَرِ يَفْزَعُونَ إلَيْهَا فِي
حَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ ، وَقَالَ الْحَسَنُ
بْنُ الْفَضْلِ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛
لِأَنَّهَا إمَامٌ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ
يُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَيُقَدَّمُ
عَلَى كُلِّ سُورَةٍ كَأُمِّ الْقُرَى
لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي
الْقُرْآنِ ، ثَبَتَ فِي
"صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ
أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم
"لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ
السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ
تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَأَخَذَ
بِيَدَيَّ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ
قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ
سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي
الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ".
الْخَامِسُ: الصَّلَاةُ
لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي
"مُسْلِمٍ" أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:
{قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي} وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا
السَّادِسُ: السَّبْعُ
الْمَثَانِي لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛
لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ
فَتُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
السَّابِعُ: الْوَافِيَةُ -
بِالْفَاءِ - ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْقُصُ
فَيُقْرَأُ بَعْضُهَا فِي رَكْعَةٍ ،
وَبَعْضُهَا فِي أُخْرَى بِخِلَافِ غَيْرِهَا
الثَّامِنُ:
الْكَافِيَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَكْفِي عَنْ
غَيْرِهَا وَلَا يَكْفِي عَنْهَا غَيْرُهَا
التَّاسِعُ: الْأَسَاسُ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
الْعَاشِرُ: الشِّفَاءُ فِيهِ
حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي
تَفْسِيرِهِ: اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْكِتَابِ فَجَوَّزَهُ
الْأَكْثَرُونَ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ تَبَعٌ
لَهَا وَمَنَعَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ
وَزَعَمَا أَنَّ هَذَا اسْمٌ لِلَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ فَلَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ
"قُلْتُ" هَذَا غَلَطٌ فَفِي
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
"مَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ أَجْزَأَتْ
عَنْهُ"
وَفِي سُنَنِ أَبِي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف لم يدرك عمر
لأن مولده كان سنة بضع وعشرين ومحمد بن علي هو
محمد ابن الحنفية إحدى سبايا بني حنيقة ولم
يكن مميزا في عهد عمر رضي الله عنهم إجمعين
(ط).
ج / 3 ص -201-
دَاوُد
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"قَالَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُمُّ الْقُرْآنِ
وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي".
قَالَ
الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
تَرَكَهَا نَاسِيًا فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ
فِي الْقَدِيمِ: " تُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ
رضي الله عنه تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فَقِيلَ
لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ
الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا
قَالَ: فَلَا بَأْسَ " وَقَالَ فِي
الْجَدِيدِ: لَا تُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا
كَانَ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ
فَرْضُهُ بِالنِّسْيَانِ كَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ".
الشرح: هَذَا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ
فِي الْفَرْعِ السَّابِقِ فِي مَذْهَبِهِمْ
فِي الْقِرَاءَةِ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ ضَعِيفٌ
وَأَنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَفِيمَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا
حَتَّى سَلَّمَ أَوْ رَكَعَ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا تَسْقُطُ
عَنْهُ الْقِرَاءَةُ، بَلْ إنْ تَذَكَّرَ فِي
الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ قَبْلَ الْقِيَامِ إلَى
الثَّانِيَةِ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَرَأَ،
وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ قِيَامِهِ إلَى
الثَّانِيَةِ لَغَتْ الْأُولَى وَصَارَتْ
الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى، وَإِنْ
تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ - وَالْفَصْلُ
قَرِيبٌ - لَزِمَهُ الْعَوْدُ إلَى الصَّلَاةِ
وَيَبْنِي عَلَى مَا فَعَلَ، فَيَأْتِي
بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ
وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ يَلْزَمُهُ
اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْقَدِيمُ أَنَّهُ
تَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ بِالنِّسْيَانِ،
فَعَلَى هَذَا إنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ
السَّلَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ
تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ
قَبْلَ السَّلَامِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ
الْمُتَوَلِّي يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إلَى
الْقِرَاءَةِ كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً
وَنَحْوَهَا:
وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ
عَلَيْهِ، وَرَكْعَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَسَقَطَتْ
عَنْهُ الْقِرَاءَةُ كَمَا لَوْ تَذَكَّر
بَعْدَ السَّلَامِ وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ، وَنَقَلَهُ
عَنْ نَصِّهِ فِي "الْقَدِيمِ" ،
وَقَطَعَ بِهِ أَيْضًا الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ
"الْعُدَّةِ" وَهُوَ
الْأَصَحُّ.
فرع: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
نَظَائِرُ فِيهَا خِلَافٌ كَهَذِهِ
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَصِحُّ "مِنْهَا"
تَرْكُ تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ نَاسِيًا
"وَنِسْيَانُ" الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ فِي
التَّيَمُّمِ "وَمَنْ" صَلَّى أَوْ صَامَ
بِالِاجْتِهَادِ فَصَادَفَ قَبْلَ الْوَقْتِ
أَوْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ حَمَلَهَا أَوْ
نَسِيَهَا، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْقِبْلَةِ
بِيَقِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهَا فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ
أَنْ يَبْتَدِئَهَا بِـ
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَتْهُ أُمُّ
سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم "قَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَعَدَّهَا آيَةً"
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم
أَثْبَتُوهَا فِيمَا جَمَعُوا مِنْ الْقُرْآنِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، فَإِنْ
كَانَ فِي صَلَاةٍ يُجْهَرُ فِيهَا جَهَرَ
بِهَا كَمَا يَجْهَرُ بِسَائِرِ الْفَاتِحَةِ
لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ
بِبِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَلِأَنَّهَا تُقْرَأُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ
بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُقْرَأُ بَعْدَ
التَّعَوُّذِ فَكَانَ سُنَّتُهَا الْجَهْرَ
كَسَائِرِ الْفَاتِحَةِ".
الشرح: حَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ
خُزَيْمَةَ فِي
"صَحِيحِهِ" بِمَعْنَاهُ،
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إسْنَادُهُ
بِذَاكَ، وَسَنَذْكُرُ مَا يُغْنِي عَنْهُ فِي
فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
ج / 3 ص -202-
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَمَذْهَبُنَا أَنَّ
{بِسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيَةٌ
كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا
خِلَافٍ، وَلَيْسَتْ فِي أَوَّلِ بَرَاءَةَ
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا بَاقِي
السُّوَرِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَبَرَاءَةَ
فَفِي الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ
سُورَةٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا
الْخُرَاسَانِيُّونَ أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا
وَهُوَ الصَّوَابُ أَوْ الْأَصْوَبُ أَنَّهَا
آيَةٌ كَامِلَةٌ:
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَعْضُ
آيَةٍ:
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا
لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ
غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا
قُرْآنٌ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ
بَرَاءَةَ، ثُمَّ هَلْ هِيَ فِي الْفَاتِحَةِ
وَغَيْرِهَا قُرْآنٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ
كَسَائِرِ الْقُرْآنِ؟ أَمْ عَلَى سَبِيلِ
الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا؟
فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَصْحَابِنَا
حَكَاهُمَا الْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ
"الْحَاوِي"
وَالْبَنْدَنِيجِيّ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى سَبِيلِ
الْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ
الصَّلَاةُ إلَّا بِقِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ
الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَكُونُ قَارِئًا
لِسُورَةٍ غَيْرِهَا بِكَمَالِهَا إلَّا إذَا
ابْتَدَأَهَا بِالْبَسْمَلَةِ "وَالصَّحِيحُ"
أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ
إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ
نَافِيهَا لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ كَانَتْ
قُرْآنًا قَطْعًا لَكَفَرَ، كَمَنْ نَفَى
غَيْرَهَا، فَعَلَى هَذَا يُقْبَلُ فِي
إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ
الْأَحْكَامِ، وَإِذَا قَالَ: هِيَ قُرْآنٌ
عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ لَمْ يُقْبَلْ فِي
إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ
الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ
الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي
إثْبَاتِهَا فِي الْمُصْحَفِ كَمَا سَيَأْتِي
تَحْرِيرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَضَعَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ
قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قُرْآنٌ عَلَى
سَبِيلِ الْقَطْعِ، قَالَ الْإِمَامُ هَذِهِ
غَبَاوَةٌ1 عَظِيمَةٌ مِنْ قَائِلِ هَذَا ؛
لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ حَيْثُ لَا
قَاطِعَ مُحَالٌ. وَقَالَ صَاحِبُ
"الْحَاوِي" : قَالَ
جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: هِيَ آيَةٌ حُكْمًا
لَا قَطْعًا ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ
أَبِي هُرَيْرَةَ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ
كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ بَرَاءَةَ قَطْعًا ،
وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّهَا تَجِبُ
قِرَاءَتُهُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَا
تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا ؛ لِأَنَّهَا
كَبَاقِي الْفَاتِحَةِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: وَيُسَنُّ الْجَهْرُ
بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ
الْجَهْرِيَّةِ فِي الْفَاتِحَةِ وَفِي
السُّورَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ
عِنْدَنَا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالنظر إلى جميع أصول المجموع نجدها (هذه
عبارة) وبالرجوع إلى النهاية نسخه خطبة يحققها
الأخ الأستاذ عبد الحليم الديب لنيل الدكتوراة
نجدها (هذه غباوة عظيمة) إلخ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي إثْبَاتِ
الْبَسْمَلَةِ وَعَدَمِهَا
اعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْبَسْمَلَةِ
عَظِيمَةٌ مُهِمَّةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا
صِحَّةُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ
الْأَرْكَانِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا
الْمَحَلِّ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ
مِنْ وَصْفِهَا اعْتَنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ
بِشَأْنِهَا، وَأَكْثَرُوا التَّصَانِيفَ
فِيهَا مُفْرَدَةً، وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إسْمَاعِيلَ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ
الْمَشْهُورِ، وَحَوَى فِيهِ مُعْظَمَ
الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا
كَبِيرًا وَأَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
أَذْكُرُ هُنَا جَمِيعَ مَقَاصِدِهِ
مُخْتَصَرَةً وَأَضُمُّ إلَيْهَا تَتِمَّاتٍ
لَا بُدَّ مِنْهَا فَأَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ
مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ،
فَكَذَلِكَ هِيَ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ
كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ بَرَاءَةَ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِنَا كَمَا سَبَقَ،
وَبِهَذَا قَالَ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ
مِنْ السَّلَفِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلُ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ
الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ
وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ، وَقَالَ:
وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي كَوْنِهَا مِنْ
الْفَاتِحَةِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
ج / 3 ص -203-
الْكُوفَةِ وَمَكَّةَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ
الْعِرَاقِ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
كِتَابِهِ الْخِلَافِيَّاتُ بِإِسْنَادِهِ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
وَالزُّهْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
وَفِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهم.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَدَاوُد لَيْسَتْ الْبَسْمَلَةُ
فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ كُلِّهَا قُرْآنًا
لَا فِي الْفَاتِحَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا،
وَقَالَ أَحْمَدُ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ
الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي
أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ
أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ
الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ: هِيَ
آيَةٌ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ غَيْرَ
الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَلَيْسَتْ مِنْ
السُّوَرِ، بَلْ هِيَ قُرْآنٌ كَسُوَرٍ
قَصِيرَةٍ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ دَاوُد
وَأَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَرِوَايَةً عَنْ
أَحْمَدَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
مَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ،
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَكْفُرُ مَنْ أَثْبَتَهَا وَلَا مَنْ
نَفَاهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا،
بِخِلَافِ مَا لَوْ نَفَى حَرْفًا مُجْمَعًا
عَلَيْهِ أَوْ أَثْبَتَ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ
أَحَدٌ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِالْإِجْمَاعِ،
وَهَذَا فِي الْبَسْمَلَةِ الَّتِي فِي
أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ بَرَاءَةَ ،
وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ
النَّمْلِ
{إِنَّهُ
مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] فَقُرْآنٌ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ جَحَدَ مِنْهَا حَرْفًا
كَفَرَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ نَفَاهَا فِي أَوَّلِ
الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ
بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِالظَّنِّ
وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ.
وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا
قَالَ الْعَبْدُ. الْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ" إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَسْمَلَةَ، رَوَاهُ
مُسْلِمٌ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا بِطُولِهِ،
وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُورَةً ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ
حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ}
[الملك:1] رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ،
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد
" تَشْفَعُ
" قَالُوا: وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى
أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى
الْبَسْمَلَةِ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي
مَبْدَأِ الْوَحْيِ "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}
وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَسْمَلَةَ فِي
أَوَّلِهَا"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبِحَدِيثِ
أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ
"صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم فَلَمْ
أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ
"فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" لَا
يَذْكُرُونَ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا
آخِرِهَا "قَالُوا" وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ
مِنْ الْقُرْآنِ لَكَفَرَ جَاحِدُهَا
وَأَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ "قَالُوا"
وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعَدَدِ مُجْمِعُونَ عَلَى
تَرْكِ عَدِّهَا آيَةً مِنْ غَيْرِ
الْفَاتِحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا فِي
الْفَاتِحَةِ ، قَالُوا: وَنَقَلَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ بِأَسْرِهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ
التَّابِعِينَ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه
افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ"قَالُوا: وَقَدْ
"قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَقْرَأُ أُمَّ
الْقُرْآنِ فَقَالَ:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ
رضي الله عنهم أَجْمَعُوا عَلَى إثْبَاتِهَا
فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ
جَمِيعًا سِوَى بَرَاءَةَ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ
، بِخِلَافِ الْأَعْشَارِ وَتَرَاجِمِ
السُّوَرِ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ كِتَابَتُهَا
بِحُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ
قُرْآنًا لَمَا اسْتَجَازُوا إثْبَاتَهَا
بِخَطِّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى اعْتِقَادِ
أَنَّهَا قُرْآنٌ فَيَكُونُونَ مُغَرِّرِينَ
بِالْمُسْلِمِينَ ، حَامِلِينَ لَهُمْ عَلَى
اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا
فَهَذَا مِمَّا لَا
ج / 3 ص -204-
يَجُوزُ
اعْتِقَادُهُ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم،
قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا أَقْوَى
أَدِلَّتِنَا فِي إثْبَاتِهَا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ
أَحْسَنُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا
كِتَابَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي
قَصَدُوا بِكِتَابَتِهَا نَفْيَ الْخِلَافِ
عَنْ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ
عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مِائَةً
وَثَلَاثَ عَشَرَةَ آيَةً لَيْسَتْ مِنْ
الْقُرْآنِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي
"الْمُسْتَصْفَى" : أَظْهَرُ
الْأَدِلَّةِ كِتَابَتُهَا بِخَطِّ الْقُرْآنِ
قَالَ: وَنَحْنُ نَقْنَعُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ بِالظَّنِّ وَلَا شَكَّ فِي
حُصُولِهِ "فَإِنْ قِيلَ" لَعَلَّهَا
أُثْبِتَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ
"فَجَوَابُهُ" مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا فِيهِ
تَغْرِيرٌ لَا يَجُوزُ ارْتِكَابُهُ
لِمُجَرَّدِ الْفَصْلِ:
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ
كَانَ لِلْفَصْلِ لَكُتِبَتْ بَيْنَ بَرَاءَةَ
وَالْأَنْفَالِ، وَلَمَا حَسُنَ كِتَابَتُهَا
فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ
الثَّالِثُ: أَنَّ
الْفَصْلَ كَانَ مُمْكِنًا بِتَرَاجِمِ
السُّوَرِ كَمَا حَصَلَ بَيْنَ بَرَاءَةَ
وَالْأَنْفَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهَا كُتِبَتْ
لِلتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ الله، فَجَوَابُهُ
مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنْ
وَجْهٍ رَابِعٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ
لِلتَّبَرُّكِ لَاكْتَفَى بِهَا فِي أَوَّلِ
الْمُصْحَفِ، أَوْ لَكُتِبَتْ فِي أَوَّلِ
بَرَاءَةَ، وَلَمَا كُتِبَتْ فِي أَوَائِلِ
السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الله
كَالْفَاتِحَةِ وَالْأَنْعَامِ وَسُبْحَانَ
وَالْكَهْفِ وَالْفُرْقَانِ وَالْحَدِيدِ
وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَكُنْ حَاجَةً إلَى
الْبَسْمَلَةِ، وَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا
تَجْرِيدَ الْمُصْحَفِ مِمَّا لَيْسَ
بِقُرْآنٍ. وَلِهَذَا لَمْ يَكْتُبُوا
التَّعَوُّذَ وَالتَّأْمِينَ مَعَ أَنَّهُ
صَحَّ الْأَمْرُ بِهِمَا، وَلِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَلَا
الْآيَاتِ النَّازِلَةَ فِي بَرَاءَةِ
عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمْ يُبَسْمِلْ،
وَلَمَّا تَلَا سُورَةَ الْكَوْثَرِ حِينَ
نُزُولِهَا بَسْمَلَ، فَلَوْ كَانَتْ
لِلتَّبَرُّكِ لَكَانَتْ الْآيَاتُ فِي
بَرَاءَةِ عَائِشَةَ أَوْلَى مِمَّا
يُتَبَرَّكُ فِيهِ لِمَا دَخَلَ عَلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِهِ
وَأَصْحَابِهِ مِنْ السُّرُورِ بِذَلِكَ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "قَرَأَ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
[الفاتحة:1] فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَّهَا
آيَةً" وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي قوله تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ
الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
[الحجر:87] قَالَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، قَالَ فَأَيْنَ
السَّابِعَةُ؟ قَالَ
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
رَوَاهُمَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي
"صَحِيحِهِ" ، وَرَوَاهُمَا
الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي
الله عنه قَالَ "بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ
أَظْهُرِنَا إذْ أَغْفَى إغْفَاءً ثُمَّ
رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا: مَا
أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ
أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
{إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ،
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر}"
[الكوثر: 1- 3]
رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ
"كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَمُدُّ بِسْمِ الله وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ
وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا
يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ
عَلَيْهِ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
"الْمُسْتَدْرَكِ" ، وَقَالَ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي
"الْمُسْتَدْرَكِ" أَيْضًا
ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ كُلِّهَا عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم
"كَانَ إذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام
فَقَرَأَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عَلِمَ أَنَّهَا سُورَةٌ"
الثَّانِي:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْلَمُ خَتْمَ السُّورَةِ
حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ"
الثَّالِثُ: كَانَ
الْمُسْلِمُونَ لَا يَعْلَمُونَ انْقِضَاءَ
السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي
"سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ" عَنْ
عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم
"أَنَّ الْفَاتِحَةَ هِيَ السَّبْعُ
ج / 3 ص -205-
مِنْ
الْمَثَانِي وَهِيَ السَّبْعُ آيَاتٍ وَأَنَّ
الْبَسْمَلَةَ هِيَ الْآيَةُ السَّابِعَةُ"
وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
"إذَا قَرَأْتُمْ الْحَمْدَ فَاقْرَءُوا:
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّهَا
أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ
وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي وَبِسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إحْدَى آيَاتِهَا" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ
وَرُوِيَ مَوْقُوفًا.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَعَاضِدَةٌ
مُحَصِّلَةٌ لِلظَّنِّ الْقَوِيِّ بِكَوْنِهَا
قُرْآنًا حَيْثُ كُتِبَتْ ، وَالْمَطْلُوبُ
هُنَا هُوَ الظَّنُّ لَا الْقَطْعُ، خِلَافُ
مَا ظَنَّهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
الْبَاقِلَّانِيُّ حَيْثُ شَنَّعَ عَلَى
مَذْهَبِنَا وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ
بِالظَّنِّ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ
الْغَزَالِيُّ وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى
أَنَّ الظَّنَّ يَكْفِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ
"مِمَّا" ذَكَرَهُ حَدِيثَ كَانَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ خَتْمَ
السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ:
وَالْقَاضِي مُعْتَرِفٌ بِهَذَا لَكِنَّهُ
تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ
وَلَمْ تَكُنْ قُرْآنًا. قَالَ: وَلَيْسَ
كُلُّ مُنَزَّلٍ قُرْآنًا. قَالَ
الْغَزَالِيُّ وَمَا مِنْ مُصَنِّفٍ إلَّا
وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ وَيُضَعِّفُهُ.
وَاعْتَرَفَ أَيْضًا بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ
كُتِبَتْ بِأَمْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه
وسلم فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ إخْبَارِهِ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ،
وَهَذَا مُوهِمٌ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهَا
قُرْآنٌ وَدَلِيلٌ قَاطِعٌ أَوْ كَالْقَاطِعِ
أَنَّهَا قُرْآنٌ فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ
بَيَانِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا
لَبَيَّنَهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ صلى الله
عليه وسلم اكْتَفَى بِقَوْلِهِ إنَّهَا
مُنَزَّلَةٌ، وَبِإِمْلَائِهَا عَلَى
كُتَّابِهِ وَبِأَنَّهَا تُكْتَبُ بِخَطِّ
الْقُرْآنِ، كَمَا لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ
إمْلَاءِ كُلِّ آيَةٍ أَنَّهَا قُرْآنٌ
اكْتِفَاءً بِعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ قَرِينَةِ
الْحَالِ وَمِنْ التَّصْرِيحِ بِالْإِنْزَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ
السُّوَرِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا
لِلْفَصْلِ، قُلْنَا مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ
قَوْلُهُ: حَتَّى يَنْزِلَ فَأَخْبَرَ
بِنُزُولِهَا، وَهَذَا صِفَةُ كُلِّ
الْقُرْآنِ، وَتَقْدِيرُ الله لَا يُعْرَفُ
بِالشُّرُوعِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى إلَّا
بِالْبَسْمَلَةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْزِلُ
إلَّا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَالَ
الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: الْغَرَضُ
بَيَانُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ
قَطْعِيَّةً بَلْ ظَنِّيَّةً وَأَنَّ
الْأَدِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَارِضَةً
فَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَرْجَحُ
وَأَغْلَبُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا
يَثْبُتُ الْقُرْآنُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ
فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ
إثْبَاتَهَا فِي الْمُصْحَفِ فِي مَعْنَى
التَّوَاتُرِ:
وَالثَّانِي: أَنَّ
التَّوَاتُرَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا
يَثْبُتُ قُرْآنًا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ،
أَمَّا مَا يَثْبُتُ قُرْآنًا عَلَى سَبِيلِ
الْحُكْمِ فَيَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ كَمَا
سَبَقَ بَيَانُهُ، وَالْبَسْمَلَةُ قُرْآنٌ
عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ عَلَى الصَّحِيحِ،
وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا كَمَا
سَبَقَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ "
قَسَمْتُ الصَّلَاةَ " فَمِنْ أَوْجُهٍ
ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ
الْبَسْمَلَةَ إنَّمَا لَمْ تُذْكَرْ
لِانْدِرَاجِهَا فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا
الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ
مَعْنَاهُ فَإِذَا انْتَهَى الْعَبْدُ فِي
قِرَاءَتِهِ إلَى
{الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ دَاخِلَةً
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ
الْمَقْسُومُ مَا يَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ
مِنْ الْآيَاتِ الْكَامِلَةِ وَاحْتَرَزْنَا
بِالْكَامِلَةِ عَنْ قوله تعالى:
{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: من الآية75] وَعَنْ قوله تعالى:
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ}
[الصافات:182] وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ
فَغَيْرُ مُخْتَصَّةٍ
الرَّابِعُ: لَعَلَّهُ
قَالَهُ قَبْلَ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ
عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ:
"ضَعُوهَا فِي سُورَةِ كَذَا".
ج / 3 ص -206-
الْخَامِسُ: أَنَّهُ جَاءَ ذِكْرُ الْبَسْمَلَةِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ "فَإِذَا قَالَ
الْعَبْدُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَقُولُ اللَّهُ ذَكَرَنِي عَبْدِي" وَلَكِنَّ
إسْنَادَهَا ضَعِيفٌ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ
عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي السَّابِعَةِ فَمَنْ جَعَلَ
الْبَسْمَلَةَ آيَةً قَالَ السَّابِعَةُ
{صِرَاطَ
الَّذِينَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمَنْ نَفَاهَا قَالَ:
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] سَادِسَةٌ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلَى آخِرِهَا هِيَ السَّابِعَةُ، قَالُوا: وَيَتَرَجَّحُ هَذَا؛
لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ حَقِيقَةُ التَّنْصِيفِ
فَتَكُونُ لِلّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ آيَاتٍ
وَنِصْفٌ وَالْعَبْدُ مِثْلُهَا، وَمَوْضِعُ
التَّنْصِيفِ
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فَلَوْ عُدَّتْ الْبَسْمَلَةُ آيَةً وَلَمْ يُعَدَّ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] صَارَ لِلّهِ تَعَالَى أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ
وَلِلْعَبْدِ آيَتَانِ وَنِصْفٌ ، وَهَذَا
خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِالتَّنْصِيفِ
، فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا: مَنْعُ
إرَادَةِ حَقِيقَةِ التَّنْصِيفِ ، بَلْ هُوَ
مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَيْنِ شَامِتٌ
وَآخَرُ مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ
فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ الْفَاتِحَةَ
قِسْمَانِ، فَأَوَّلُهَا لِلّهِ تَعَالَى
وَآخِرُهَا لِلْعَبْدِ
وَالثَّانِي: أَنَّ
الْمُرَادَ بِالتَّنْصِيفِ قِسْمَانِ
الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ مِنْ غَيْرِ
اعْتِبَارٍ لِعَدَدِ الْآيَاتِ
الثَّالِثُ: أَنَّ
الْفَاتِحَةَ إذَا قُسِمَتْ بِاعْتِبَارِ
الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْبَسْمَلَةُ
مِنْهَا كَانَ التَّنْصِيفُ فِي شَطْرَيْهَا
أَقْرَبَ مِمَّا إذَا قُسِمَتْ بِحَذْفِ
الْبَسْمَلَةِ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ
تَقْسِيمُهَا بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ. فَإِنْ
قِيلَ يَتَرَجَّحُ جَعْلُ الْآيَةِ
السَّابِعَةِ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} لِقَوْلِهِ: فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، فَلَفْظَةُ
هَؤُلَاءِ جَمْعٌ يَقْتَضِي ثَلَاثَ آيَاتٍ،
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ
لِلْعَبْدِ إلَّا آيَتَانِ ، فَالْجَوَابُ
أَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ: فَهَذَا
لِعَبْدِي ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فِي
"صَحِيحِهِ" ، وَإِنْ
كَانَ "هَؤُلَاءِ" ثَابِتَةً فِي
"سُنَنِ أَبِي دَاوُد"
وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادَيْهِمَا
"الصَّحِيحَيْنِ" .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ
الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إلَى الْكَلِمَاتِ
أَوْ إلَى الْحُرُوفِ أَوْ إلَى آيَتَيْنِ
وَنِصْفٍ مِنْ قوله تعالى
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يُجْمَعُ كَقَوْلِ الله
تَعَالَى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
[البقرة: 197] وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ
وَبَعْضُ الثَّالِثِ أَوْ إلَى آيَتَيْنِ
فَحَسْبُ، وَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ
الْجَمْعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ
اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَمْ
مَجَازٌ وَحَقِيقَتُهُ ثَلَاثَةٌ
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِي
الِاثْنَيْنِ، حَقِيقَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَقْدِسِيُّ هَذَا كُلُّهُ إذَا سَلَّمْنَا
أَنَّ التَّنَصُّفَ تَوَجَّهَ إلَى آيَاتِ
الْفَاتِحَةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْ
أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا التَّنَصُّفُ
مُتَوَجِّهٌ إلَى الصَّلَاةِ بِنَصِّ
الْحَدِيثِ. فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ
قِرَاءَةُ الصَّلَاةِ. قُلْنَا: بَلْ
الْمُرَادُ قِسْمَةُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ أَيْ
الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَهُوَ
ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ، فَالثَّنَاءُ مُنْصَرِفٌ
إلَى الله تَعَالَى، سَوَاءٌ مَا وَقَعَ
مِنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَمَا وَقَعَ فِي
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا.
وَالدُّعَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْعَبْدِ،
سَوَاءٌ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَا
يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ لِمَا
سَبَقَ. ثُمَّ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم بَعْدَ إخْبَارِهِ بِقِسْمَةِ
أَذْكَارِ الصَّلَاةِ أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ
مَا يَقُولُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ
قِرَاءَةِ
ج / 3 ص -207-
الْعَبْدِ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ
جُمْلَةِ الْمَقْسُومِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ
تَفْسِيرُ بَعْضِ الْمَقْسُومِ، فَإِنْ قِيلَ
يَتَرَجَّحُ كَوْنُهُ تَفْسِيرًا لَذَكَرَهُ
عَقِيبَهُ. قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ
قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي
الْفَاتِحَةِ، فَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى
قِسْمَةِ الذِّكْرِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ
فَائِدَةً، فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَةُ
نُفَاةِ الْبَسْمَلَةِ وَقَدْ بَانَ أَمْرُهُ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ شَفَاعَةِ
تَبَارَكَ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا سِوَى
الْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ
بِهَذِهِ السُّورَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ
الْبَسْمَلَةِ فِيهَا فَلَمَّا نَزَلَتْ
أُضِيفَتْ إلَيْهَا بِدَلِيلِ كِتَابَتِهَا
فِي الْمُصْحَفِ، وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ هَذَا
الْحَدِيثِ أَنَّهُ رِوَايَةُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فَمَنْ يُثْبِتُ الْبَسْمَلَةَ
فَهُوَ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَبْدَأِ
الْوَحْيِ وَهُوَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ
نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَنَظَائِرَ لَهَا
مِنْ الْآيَاتِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ
سُوَرِهِ فِي النُّزُولِ فَهَذَا هُوَ
الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ وَبِهِ أَجَابَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ
الرَّازِيّ وَغَيْرُهُمَا "وَجَوَابٌ آخَرُ"
وَهُوَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ نَزَلَتْ أَوَّلًا
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ
"أَوَّلُ مَا أَلْقَى عَلَيَّ جِبْرِيلُ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ"
وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ
النُّزُولِ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ
وَهَذَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَلَا اعْتِمَادَ
عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ
فَسَيَأْتِي جَوَابُهُ فِي مَسْأَلَةِ
الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَكَفَرَ
جَاحِدُهَا فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْلَبَ
عَلَيْهِمْ فَيُقَالَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ
قُرْآنًا لَكَفَرَ مُثْبِتُهَا
الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ
لَا يَكُونُ بِالظَّنِّيَّاتِ، بَلْ
بِالْقَطْعِيَّاتِ وَالْبَسْمَلَةُ
ظَنِّيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى أَنَّهُ لَا تُعَدُّ
آيَةً، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ
أَهْلَ الْعَدَدِ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ
حَتَّى يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، بَلْ
هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ عَدُّوا
كَذَلِكَ إمَّا؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ نَفْيُ
الْبَسْمَلَةِ، وَإِمَّا لِاعْتِقَادِهِمْ
أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ، وَأَنَّهَا مَعَ
أَوَّلِ السُّورَةِ آيَةٌ
الثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ
بِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ
" مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشَرَةَ آيَةً ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَقْلِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ فَلَا نُسَلِّمُ
إجْمَاعَهُمْ، بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ
الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَغَيْرِهِمْ وَسَتَأْتِي قِصَّةُ مُعَاوِيَةَ
حِينَ تَرَكَهَا فِي صَلَاتِهِ فَأَنْكَرَ
عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
فَأَيُّ إجْمَاعٍ مَعَ هَذَا؟ قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: الْخِلَافُ فِي
الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا
قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ مَكَّةَ
أَنَّ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] أَوَّلُ آيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَوْ ثَبَتَ إجْمَاعُ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً مَعَ
وُجُودِ الْخِلَافِ لِغَيْرِهِمْ هَذَا
مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: "قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ كَيْفَ تَقْرَأُ أُمَّ الْقُرْآنِ؟
فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا لَفْظُهُ فِي
كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ
" كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَقَرَأَ
أُمَّ الْقُرْآنِ " وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ، وَفِي
"سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيّ"
عَكْسُ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
لِبُرَيْدَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَسْتَفْتِحُ
الْقُرْآنَ إذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟
قَالَ: قُلْتُ: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ" وَعَنْ
عَلِيٍّ وَجَابِرٍ رضي الله عنهما عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْنَاهُ
وَالله أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي الْجَهْرِ بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ
مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِهَا
حَيْثُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي
الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جَمِيعًا فَلَهَا
فِي الْجَهْرِ حُكْمُ بَاقِي الْفَاتِحَةِ
وَالسُّورَةِ ،
ج / 3 ص -208-
هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ،
فَأَمَّا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِهِ
فَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَأَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَقَيْسِ
بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ
الله بْنِ أَبِي أَوْفَى وَشِدَادِ بْنِ
أَوْسٍ وَعَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ
وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الله
بْنِ جَعْفَر1ٍ وَمُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ
حَضَرُوهُ لَمَّا صَلَّى بِالْمَدِينَةِ
وَتَرَكَ الْجَهْرَ فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ
فَرَجَعَ إلَى الْجَهْرِ بِهَا رضي الله عنهم
أجمعين.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا التَّابِعُونَ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ قَالَ بِالْجَهْرِ
بِهَا فَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرُوا
وَأَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُحْصَرُوا، وَمِنْهُمْ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ
وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو وَائِلٍ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ
وَعِكْرِمَةُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَسَالِمُ
بْنُ عَبْدِ الله وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ
كَعْبٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو
الشَّعْثَاءِ وَمَكْحُولٌ وَحَبِيبُ بْنُ
أَبِي ثَابِتٍ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو
قِلَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
وَالْأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ وَعَبْدُ الله بْنُ
مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ فَهَؤُلَاءِ مِنْ
التَّابِعِينَ، قَالَ الْخَطِيبُ: وَمِمَّنْ
قَالَ بِهِ بَعْدَ التَّابِعِينَ عَبْدُ الله
بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ
زَيْدٍ وَعَبْدُ الله بْنُ حَسَنٍ وَزَيْدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ
رَاهْوَيْهِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ
بَعْضِ هَؤُلَاءِ وَزَادَ فِي التَّابِعِينَ
عَبْدَ الله بْنَ صَفْوَانَ وَمُحَمَّدَ بْنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ
وَمِمَّنْ تَابَعَهُمْ الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ وَزَادَ فَقَالَ: هُوَ
قَوْلٌ جَمَاعَةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ
طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمُسْلِمِ بْنِ
خَالِدٍ وَسَائِرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ
أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ وَهْبٍ صَاحِبِ مَالِكٍ
وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ
وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَقْدِسِيُّ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ
هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ
الْحُفَّاظُ وَاخْتَارُوهُ وَصَنَّفُوا فِيهِ
مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَأَبِي
حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ وَأَبِي الْحَسَنِ
الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبِي عَبْدِ الله
الْحَكَمِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيّ
وَالْخَطِيبِ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْبَرِّ وَغَيْرِهِمْ رحمهم الله.
وَفِي كِتَابِ
"الْخِلَافِيَّاتِ"
لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله
عليه وسلم عَلَى الْجَهْرِ "بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَنَقَلَ الْخَطِيبُ
عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي
خَلْفَ مَنْ لَا يَجْهَرُ "بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". وَقَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا
يَنْبَغِي الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ لَا
يَجْهَرُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَاعْلَمْ
أَنَّ أَئِمَّةَ الْقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ
"مِنْهُمْ" مَنْ تُرْوَى الْبَسْمَلَةُ بِلَا
خِلَافٍ عَنْهُ "وَمِنْهُمْ" مِنْ رُوِيَ
عَنْهُ الْأَمْرَانِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ
لَمْ يُبَسْمِلْ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ فَقَدْ
بَحَثْتُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْبَحْثِ
فَوَجَدْتُهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ ثُمَّ كُلُّ
مَنْ رُوِيَتْ عَنْهُ الْبَسْمَلَةُ ذُكِرَتْ
بِلَفْظِ الْجَهْرِ إلَّا رِوَايَاتٍ شَاذَّةً
جَاءَتْ عَنْ حَمْزَةَ - رحمه الله -
بِالْإِسْرَارِ بِهَا وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا
يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ عَلَى
تَرْجِيحِ إثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ وَالْجَهْرِ
بِهَا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل، ولعله وعبد الله بن عمرو (ط).
ج / 3 ص -209-
وَفِي
كِتَابِ
"الْبَيَانِ" لِابْنِ أَبِي
هَاشِمٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ
الْمُسْلِمِيِّ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ
{بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي
أَوَّلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي أَوَّلِ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَبَيْنَ السُّورَتَيْنِ
فِي الصَّلَاةِ ، وَفِي الْفَرْضِ كَانَ هَذَا
مَذْهَبَ الْقُرَّاءِ بِالْمَدِينَةِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ
الْإِسْرَارُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ
السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَهَذَا
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ
بْنِ يَاسِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَكَمِ
وَحَمَّادٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ
النَّخَعِيِّ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى وَالْحَكَمِ أَنَّ الْجَهْرَ
وَالْإِسْرَارَ سَوَاءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ
مَسْأَلَةَ الْجَهْرِ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً
عَلَى مَسْأَلَةِ إثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ ؛
لِأَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ يَرَى الْإِسْرَارَ
بِهَا لَا يَعْتَقِدُونَهَا قُرْآنًا بَلْ
يَرَوْنَهَا مِنْ سُنَنِهِ كَالتَّعَوُّذِ
وَالتَّأْمِينِ، وَجَمَاعَةً مِمَّنْ يَرَى
الْإِسْرَارَ بِهَا يَعْتَقِدُونَهَا قُرْآنًا
وَإِنَّمَا أَسَرُّوا بِهَا، وَجَهَرَ
أُولَئِكَ لِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلِّ
فَرِيقٍ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ يَرَى الْإِسْرَارَ بِحَدِيثِ
أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي
الله عنهما كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ
بِـ{الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الفاتحة:2]" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ:
"صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا
مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَعَنْهُ
"صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْحَمْدُ للهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ
قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ
"فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ
بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ
بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ:
"سَمِعَنِي
أَبِي وَأَنَا أَقْرَأُ
{بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
[الفاتحة:1] فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إيَّاكَ
وَالْحَدَثَ فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ
الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ رَجُلًا
مِنْهُمْ يَقُولُهُ فَإِذَا قَرَأْتَ فَقُلْ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي
الله عنه قَالَ
"مَا جَهَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ
بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَا
أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ رضي الله عنهما".
قَالُوا: وَلِأَنَّ
الْجَهْرَ بِهَا مَنْسُوخٌ، قَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِمَكَّةَ وَكَانَ
أَهْلُ مَكَّةَ يَدْعُونَ مُسَيْلِمَةَ
{الرَّحْمَنَ}
فَقَالُوا: "إنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُو إلَى
إلَهِ الْيَمَامَةِ فَأَمَرَ رَسُولُ الله صلى
الله عليه وسلم فَأَخْفَاهَا فَمَا جَهَرَ
بِهَا حَتَّى مَاتَ" قَالُوا:
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ بِمِصْرَ حِين
صَنَّفَ كِتَابَ الْجَهْرِ فَقَالَ: لَمْ
يَصِحَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيثٌ.
قَالُوا: وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ:
الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ قَالُوا: وَقِيَاسًا
عَلَى التَّعَوُّذِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا لَنُقِلَ نَقْلًا
مُتَوَاتِرًا أَوْ مُسْتَفِيضًا كَوُرُودِهِ
فِي سَائِرِ الْقِرَاءَةِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى
اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ لِأَحَادِيثَ
وَغَيْرِهَا جَمَعَهَا وَلَخَّصَهَا الشَّيْخُ
أَبُو
ج / 3 ص -210-
مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فَقَالَ: اعْلَمْ
أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي
الْجَهْرِ كَثِيرَةٌ، مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ
بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فُهِمَ مِنْ
عِبَارَتِهِ. وَلَمْ يَرِدْ تَصْرِيحٌ
بِالْإِسْرَارِ بِهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم إلَّا رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: عَنْ ابْنِ
مُغَفَّلٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
وَالثَّانِيَةُ: عَنْ أَنَسٍ
وَهِيَ مُعَلَّلَةٌ بِمَا أَوْجَبَ سُقُوطَ
الِاحْتِجَاجِ بِهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ
اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ"
السَّابِقِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى
الْإِسْرَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِلُّ
بِحَدِيثٍ عَنْ عَائِشَةَ وَحَدِيثٍ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى
حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ وَلَمْ
يَدَعْ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي
كِتَابِهِ التَّحْقِيقُ غَيْرَهُمَا، فَقَالَ:
لَنَا حَدِيثَانِ فَذَكَرَهُمَا،
وَسَنُوَضِّحُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا،
وَأَمَّا أَحَادِيثُ الْجَهْرِ فَالْحُجَّةُ
قَائِمَةٌ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ،
مِنْهَا - وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ سِتَّةٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ
رضي الله عنهم - أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ
فَوَرَدَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى
ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: مَا هُوَ
مُسْتَنْبَطٌ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ
"قَالَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ"
وَفِي رِوَايَةٍ "بِقِرَاءَةٍ" وَفِي أُخْرَى
"لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
"فَمَا أَعْلَنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم أَعْلَنَّاهُ لَكُمْ، وَمَا أَخْفَاهُ
أَخْفَيْنَاهُ لَكُمْ"
وَفِي رِوَايَةٍ
"فَمَا
أَسْمَعَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
أَسْمَعْنَاكُمْ وَمَا أَخْفَى مِنَّا
أَخْفَيْنَاهُ مِنْكُمْ" كُلُّ هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ فِي
"الصَّحِيحِ" ، وَبَعْضُهَا
فِي
"الصَّحِيحَيْنِ" ،
وَبَعْضُهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَمَعْنَاهُ
يَجْهَرُ بِمَا جَهَرَ بِهِ وَيُسِرُّ بِمَا
أَسَرَّ بِهِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ فِي
صَلَاتِهِ بِالْبَسْمَلَةِ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ سَمِعَ الْجَهْرَ بِهَا مِنْ رَسُولِ
الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ
الْبَغْدَادِيُّ: الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ
مَذْهَبٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ حُفِظَ عَنْهُ
وَاشْتُهِرَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: حَدِيثُ
نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ الله الْمُجْمِرِ قَالَ
"صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَرَأَ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ قَرَأَ
بِأُمِّ الْكِتَابِ حَتَّى إذَا بَلَغَ وَلَا
الضَّالِّينَ قَالَ: آمِينَ وَقَالَ النَّاسُ:
آمِينَ وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ وَإِذَا قَامَ مِنْ الْجُلُوسِ مِنْ
الِاثْنَيْنِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ
يَقُولُ إذَا سَلَّمَ، وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً
بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي
"سُنَنِهِ" وَابْنُ
خُزَيْمَةَ فِي
"صَحِيحِهِ" قَالَ ابْنُ
خُزَيْمَةَ فِي
"مُصَنَّفِهِ" : فَأَمَّا
الْجَهْرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ صَحَّ
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ مُتَّصِلٍ لَا شَكَّ
وَلَا ارْتِيَابَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ
بِالْأَخْبَارِ فِي صِحَّةِ سَنَدِهِ
وَاتِّصَالِهِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ،
ثُمَّ قَالَ: فَقَدْ بَانَ وَثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ
بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي
الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ
حِبَّانَ فِي
"صَحِيحِهِ"
وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي
"سُنَنِهِ" وَقَالَ هَذَا
حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
"الْمُسْتَدْرَكِ" عَلَى
الصَّحِيحِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ،
وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ
فِي كِتَابِ
"الْخِلَافِيَّاتِ" ثُمَّ
قَالَ: رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ مُجْمَعٌ عَلَى عَدَالَتِهِمْ
مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي
"الصَّحِيحِ" ، وَقَالَ فِي
"السُّنَنِ الْكَبِيرِ" :
وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ،
وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ
الْخَطِيبُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الَّذِي
صَنَّفَهُ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي
الصَّلَاةِ، فَرَوَاهُ مِنْ وُجُوهٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مَرْضِيَّةٍ، ثُمَّ قَالَ:
هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ صَحِيحٌ لَا
يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ تَعْلِيلٌ فِي
اتِّصَالِهِ وَثِقَةِ رِجَالِهِ.
ج / 3 ص -211-
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي
"سُنَنِهِ" مِنْ طَرِيقَيْنِ
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي مُزَاحِمٍ قَالَ
حَدَّثَنَا إدْرِيسُ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"أَنَّهُ كَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ افْتَتَحَ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ الله
اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ
فَإِنَّهَا الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَفِي
رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم "كَانَ إذَا أَمَّ النَّاسَ قَرَأَ
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم
"كَانَ
يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ وَيَأْمُرُ بِهِ فَذَكَر هَذَا
الْحَدِيثَ" وَقَالَ
بَدَلَ قَرَأَ: جَهَرَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ
بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِقِرَاءَةِ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ
يَتْرُكُ صَرِيحَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَعْتَمِدُ رِوَايَةَ
حَدِيثِ
"قَسَمْتُ
الصَّلَاةَ" وَيَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى
الْإِسْرَارِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحٌ
بِشَيْءٍ مِنْهُمَا وَالْجَمِيعُ رِوَايَةُ
صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، فَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ
رِوَايَاتِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِقَادِ
اخْتِلَافِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ
الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِ
حَدِيثِ
"قَسَمْتُ الصَّلَاةَ"
بِعَيْنِهِ فَوَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ
عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ عَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ}
وَفِي رِوَايَةٍ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
يَقْرَأُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُقَطِّعُهَا حَرْفًا حَرْفًا"
وَفِي رِوَايَةٍ
"كَانَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَرَأَ
يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً"
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ
وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ
كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: هُوَ
صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ1 هَارُونَ
الْبَلْخِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
"أَنْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
فَعَدَّهَا آيَةً
{الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
آيَتَيْنِ
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثَلَاثَ آيَاتٍ
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
أَرْبَع آيَاتٍ وَقَالَ: هَكَذَا
{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَجَمَعَ خَمْسَ أَصَابِعِهِ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ لَمَّا وَقَفَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ
الْمَقَاطِيعِ أُخْبِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عِنْدَ
كُلِّ مَقْطَعٍ آيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ
عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ، فَبَعْضُ الرُّوَاةِ
حِينَ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَقَلَ
ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ. وَعَنْ
عُمَرَ بْنِ هَارُونَ هَذَا كَلَامٌ لِبَعْضِ
الْحُفَّاظِ إلَّا أَنَّ حَدِيثَهُ أَخْرَجَهُ
ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي
"صَحِيحِهِ"، وَأَمَّا
الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِهِ وَهِيَ
قَوْلُهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَرَوَاهَا
الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ
بِسَنَدِهِ وَذَكَرَ الرَّازِيّ لَهُ
تَأَمُّلَاتٍ ضَعِيفَةً أَبْطَلْتُهَا فِي
الْكِتَابِ الطَّوِيلِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي
"سُنَنِهِ" وَالْحَاكِمُ فِي
"الْمُسْتَدْرَكِ"
بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عمر بن هارون بن يزيد بن جابر بن سلمة
الثقفي مولاهم أبو حفص البلخي من أصحاب ابن
جريح وسعيد عن أبي عروبة وحريز بن عثمان
وطائفة مات ببلخ يوم جمعة سنة 194.
ج / 3 ص -212-
قَالَ
الْحَاكِمُ: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ
لَهُ عِلَّةٌ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ
حَدِيثَيْنِ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا
إسْنَادٌ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي رُوَاتِهِ
مَجْرُوحٌ:
أَحَدُهُمَا:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
وَالثَّانِي:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبَسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَهَذَا الثَّانِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ
إسْنَادُهُ بِذَاكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ
فَحَصَلَ لَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عِدَّةُ
أَحَادِيثَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحَّحَهَا
الْأَئِمَّةُ لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ شَيْئًا
مِنْهَا، بَلْ ذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ عُمَرُ
بْنُ حَفْصٍ الْمَكِّيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ
عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
"أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزُلْ
يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ فِي السُّورَتَيْنِ حَتَّى قُبِضَ"
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَعُمَرُ بْنُ
حَفْصٍ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ، وَلَيْسَ
هَذَا بِإِنْصَافٍ وَلَا تَحْقِيقٍ فَإِنَّهُ
يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ
فِي الْجَهْرِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ
الضَّعِيفِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ
فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ أَوْجُهٍ
الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي
"صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" مِنْ
حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ عَنْ هَمَّامٍ
وَجَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ
"كَيْفَ
كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه
وسلم؟ قَالَ: كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ
بِسْمِ الله وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ وَيَمُدُّ
الرَّحِيمَ" قَالَ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
مُوسَى الْحَازِمِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
لَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً. قَالَ: وَفِيهِ
دَلَالَةٌ عَلَى الْجَهْرِ مُطْلَقًا
يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ
قِرَاءَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
لَوْ اخْتَلَفَتْ فِي الْجَهْرِ بَيْنَ
حَالَتَيْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
لَبَيَّنَهَا أَنَسٌ وَلَمَا أَطْلَقَ
جَوَابَهُ، وَحَيْثُ أَجَابَ بِالْبَسْمَلَةِ
دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم يَجْهَرُ بِهَا فِي قِرَاءَتِهِ
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَجَابَ أَنَسٌ بِ "
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " أَوْ
غَيْرِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ
فِي
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ
أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ
"بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ
أَظْهُرِنَا إذْ أَغْفَى إغْفَاءً ثُمَّ
رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا
أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ:
أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ
بسم الله الرحمن الرحيم
{إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} إلَى آخِرِهَا" وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْجَهْرِ بِهَا خَارِجَ
الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ
الْآيَاتِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا
الْحَدِيثَ فِي
"صَحِيحِهِ" عَقِبَ
الْحَدِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهِ فِي نَفْيِ
الْجَهْرِ كَالتَّعْلِيلِ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ
الْحَدِيثَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ فَإِنْ
قِيلَ: إنَّمَا جَهَرَ بِهَا فِي الْحَدِيثِ؛
لِأَنَّهُ تَلَا مَا أُنْزِلَ ذَلِكَ
الْوَقْتَ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ
جَمِيعَهُ فَجَهَرَ كَبَاقِي السُّوَرِ.
قُلْنَا: فَهَذَا دَلِيلٌ لَنَا؛ لِأَنَّهَا
تَكُونُ مِنْ السُّورَةِ فَيَكُونُ لَهُ
حُكْمُ بَاقِيهَا فِي الْجَهْرِ حَتَّى
يَقُومَ دَلِيلٌ خِلَافَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا
اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مِنْ
إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي عَصْرِ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلَافًا لِمَا
ادَّعَتْهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ
الْإِجْمَاعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الله بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
خَيْثَمٍ أَنْ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصِ بْنِ
عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
قَالَ: صَلَّى مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ
صَلَاةً يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ
فَقَرَأَ "بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ" لِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ
يَقْرَأْ بِهَا لِلسُّوَرِ الَّتِي بَعْدَهَا
حَتَّى قَضَى تِلْكَ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ
يُكَبِّرْ حِينَ يَهْوِي حَتَّى قَضَى تِلْكَ
الصَّلَاةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ مَنْ
شَهِدَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ كُلِّ
مَكَان: يَا مُعَاوِيَةُ أَسَرَقْتَ
الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيتَ؟ فَلَمَّا صَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ قَرَأَ "بِسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" لِلَّتِي بَعْدَ
أُمِّ الْقُرْآنِ وَكَبَّرَ حِينَ يَهْوِي
سَاجِدًا وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ
ج / 3 ص -213-
سُفْيَانَ الْإِمَامُ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ
وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ أَيْضًا فِي
إثْبَاتِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَقَدْ
أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي
"الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ:
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ،
وَقَدْ احْتَجَّ بِعَبْدِ الْمَجِيدِ،
وَسَائِرُ رُوَاتِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى
عَدَالَتِهِمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ
خَيْثَمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ. وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي
"سُنَنِهِ" وَقَالَ:
رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ
النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
الرَّبِيعُ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ
فَذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَلَمْ
يَقْرَأْ " بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ " لِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ
يَقْرَأْ لِلسُّورَةِ بَعْدَهَا، فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. وَزَادَ: وَالْأَنْصَارِ. ثُمَّ
قَالَ: فَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا
قَرَأَ " بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" لِأُمِّ الْقُرْآنِ وَلِلسُّورَةِ.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ: فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ حِينَ سَلَّمَ: يَا
مُعَاوِيَةُ أَسَرَقْتَ صَلَاتَكَ؟ أَيْنَ
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ وَقَدْ
حَصَلَ الْجَوَابُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ
عَمَّا أُورِد فِي إسْنَادِهِ هَذَا
الْحَدِيثِ وَمَتْنِهِ، وَيَكْفِينَا أَنَّهُ
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: رَوَى
الدَّارَقُطْنِيّ فِي
"سُنَنِهِ" وَ
"مُسْنَدِهِ" عَنْ
الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ صَالِحٌ،
وَفِيهِ عَنْ "مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيِّ قَالَ:
صَلَّيْتُ خَلْفَ الْمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ مَا لَا أُحْصِي صَلَاةَ
الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ فَكَانَ يَجْهَرُ
بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ
فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا، وَسَمِعْتُ
الْمُعْتَمِرَ يَقُولُ: مَا آلُو أَنْ
أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أُبَيِّ، وَقَالَ
أُبَيٌّ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَالَ أَنَسٌ: مَا آلُو
أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ رَسُولِ الله صلى
الله عليه وسلم" وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ
إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَأَخْرَجَهُ
الْحَاكِمُ فِي
"الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ:
رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ آخِرِهِمْ
ثِقَاتٌ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ شَرِيكِ
بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
"سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"
قَالَ الْحَاكِمُ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ، قَالَ الْحَاكِمُ: فَفِي هَذِهِ
الْأَخْبَارِ مُعَارَضَةٌ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ
عَنْ أَنَسٍ السَّابِقِ فِي تَرْكِ قِرَاءَةِ
الْبَسْمَلَةِ ، وَهُوَ كَمَا قَالَهُ ؛
لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ
فِعْلًا وَرِوَايَةً ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ
أَنَّهُ يَرْوِي مَا يَفْهَمُ خِلَافَهُ
فَهُوَ لَمْ يَقْتَدِ فِي جَهْرِهِ بِهَا
إلَّا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
فَفِي
"الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ
"عَنْ أَنَسٍ إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
بِنَا". قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ قَدْ حَصَلَ لَنَا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ
جِيَادٍ فِي الْجَهْرِ، وَتَعَرَّضَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ لِتَضْعِيفِ بَعْضِ رُوَاتِهِ
عَنْ أَنَسٍ لَمْ نَذْكُرْهَا نَحْنُ،
وَتَعَرَّضَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لِرِوَايَةِ
شَرِيكٍ وَطَعَنَ فِيهِ. وَجَوَابُ مَا قَالَ
أَنَّ شَرِيكًا مِنْ رِجَالِ"الصَّحِيحَيْنِ"
. وَيَكْفِينَا أَنْ
نَحْتَجَّ بِمَنْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُودِ
لَهَا بِالصِّحَّةِ مَا يَرُدُّ قَوْلَ ابْنِ
الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ
أَنَسٍ شَيْءٌ فِي الْجَهْرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه
الَّذِي بَدَأَ الدَّارَقُطْنِيّ بِذَكَرِهِ
فِي
"سُنَنِهِ" قَالَ:
"كَانَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي
صَلَاتِهِ" قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إسْنَادٌ عَلَوِيٌّ لَا بَأْسَ بِهِ،
وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي تَرْكِهِمْ
الْبَسْمَلَةَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ
يَحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِغَيْرِهِ،
ثُمَّ سَاقَ الدَّارَقُطْنِيّ الرِّوَايَاتِ
فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَلِيٍّ مِنْ
الصَّحَابَةِ، ثُمَّ خَتَمَهَا بِرِوَايَةٍ
عَنْهُ حِينَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله
ج / 3 ص -214-
عنه عَنْ
السَّبْعِ الْمَثَانِي فَقَالَ "الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فَقِيلَ: إنَّمَا
هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، فَقَالَ: "بِسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" آيَةٌ. قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ
ثِقَاتٌ وَإِذَا صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا
يَعْتَقِدُهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ فَلَهَا
حُكْمُ بَاقِيهَا فِي الْجَهْرِ. وَأَمَّا
حَدِيثُ سَمُرَةَ فَأَخْرَجَهُ
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ
حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ رضي
الله عنه قَالَ:
"كَانَتْ
لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
سَكْتَتَانِ، سَكْتَةٌ إذَا قَرَأَ بِسْمِ
الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسَكْتَةٌ إذَا
فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ" وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَكَتَبُوا إلَى أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ وَكَتَبَ أَنْ صَدَقَ سَمُرَةُ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ،
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ يُثْبِتُ
سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ قَالَ
الْخَطِيبُ: فَقَوْلُهُ سَكْتَةٌ إذَا قَرَأَ
"بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" يَعْنِي
إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ؛ لِأَنَّ
السَّكْتَةَ إنَّمَا هِيَ قَبْلَ قِرَاءَةِ
الْبَسْمَلَةِ لَا بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ
بِحَدِيثِ أَنَسٍ
"كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ" وَعَنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ
كَانُوا يَفْتَتِحُونَ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ
لَا بِالسُّورَةِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ
مُتَعَيَّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ
؛ لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ
عَائِشَةَ رضي الله عنها فِعْلًا وَرِوَايَةً
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ
مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَرَدَتْ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنهم. وَهُمَا مِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ الْجَهْرُ
بِالْبَسْمَلَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
مُرَادَ جَمِيعِهِمْ اسْمُ السُّورَةِ، فَهُوَ
كَقَوْلِهِ بِالْفَاتِحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ
أَنَّ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ الْبَسْمَلَةُ
فَتَعَيَّنَ الِابْتِدَاءُ بِهَا. وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ الَّتِي فِي
"مُسْلِمٍ" "فَلَمْ أَسْمَعْ
أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ "بِسْمِ الله
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فَقَالَ
أَصْحَابُنَا: هِيَ رِوَايَةٌ لِلَّفْظِ
الْأَوَّلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ
الرَّاوِي عَبَّرَ عَنْهُ عَلَى قَدْرِ
فَهْمِهِ فَأَخْطَأَ، وَلَوْ بَلَّغَ
الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ الْأَوَّلِ لَأَصَابَ،
فَإِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي
اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ، وَلَمْ
يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَأَبُو دَاوُد غَيْرَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ
اسْمُ السُّورَةِ كَمَا سَبَقَ.
وَثَبَتَ فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ:
"كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم فَكَانُوا
يَفْتَتِحُونَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِيمَا
يُجْهَرُ بِهِ"
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا صَحِيحٌ،
وَهُوَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِتَأْوِيلِنَا،
فَقَدْ ثَبَتَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ عَنْ
أَنَسٍ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فَلَا بُدَّ
مِنْ تَأْوِيلِ مَا ظَهَرَ خِلَافَ ذَلِكَ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَقْدِسِيُّ: ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي
تَأْوِيلِهِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ خَمْسُ
طُرُقٍ إحْدَاهَا: وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِتَلَوُّنِهِ
وَاضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ مَعَ
تَغَايُرِ مَعَانِيهَا فَلَا حُجَّةَ فِي
شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدِي،؛ لِأَنَّهُ قَالَ
مَرَّةً: كَانُوا يَفْتَتِحُونَ "بِالْحَمْدِ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" وَمَرَّةً كَانُوا
لَا يَجْهَرُونَ " بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ " وَمَرَّةً كَانُوا لَا
يَقْرَءُونَهَا وَمَرَّةً قَالَ وَقَدْ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَبَّرْتُ وَنَسِيتُ.
فَحَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّنَا
نَحْكُمُ بِتَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ وَلَا
نَجْعَلُ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ
فَيَسْقُطُ الْجَمِيعُ. وَنَظِيرُ مَا
فَعَلُوا فِي رَدِّ حَدِيثِ أَنَسٍ. هَذَا مَا
نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ
السُّنَنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
أَنَّهُ رَدَّ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
فِي الْمُزَارَعَةِ لِاضْطِرَابِهِ
وَتَلَوُّنِهِ. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ كَثِيرُ
الْأَلْوَانِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ نُرَجِّحَ بَعْضَ أَلْفَاظِ هَذِهِ
الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى
بَاقِيهَا وَنَرُدَّ مَا خَالَفَهَا إلَيْهَا
فَلَا نَجِدُ الرُّجْحَانَ إلَّا
لِلرِّوَايَةِ الَّتِي عَلَى لَفْظِ حَدِيثِ
عَائِشَةَ
"أَنَّهُمْ
كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِــ"الْحَمْدُ
لِلَّهِ" أَيْ بِالسُّورَةِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ
وَمَنْ تَبِعَهُ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ
الرُّوَاةِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ
وَلِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ
"بِأُمِّ الْقُرْآنِ" فَكَأَنَّ أَنَسًا
أَخْرَجَ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَدِلًّا بِهِ
عَلَى مَنْ يُجَوِّزُ قِرَاءَةَ غَيْرِ
الْفَاتِحَةِ أَوْ يَبْدَأُ
ج / 3 ص -215-
بغَيْرِهَا، ثُمَّ افْتَرَقَتْ الرُّوَاةُ
عَنْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَدَّاهُ بِلَفْظِهِ
فَأَصَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ
حَذْفَ الْبَسْمَلَةِ فَعَبَّرَ عَنْهُ
بِقَوْلِهِ "كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ" أَوْ
فَلَمْ أَسْمَعْهُمْ يَقْرَءُونَ
الْبَسْمَلَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ
الْإِسْرَارَ فَعَبَّرَ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ
إذَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رِوَايَاتِ
حَدِيثٍ قَضَى الْمُبَيَّنُ مِنْهَا عَلَى
الْمُجْمَلِ، فَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ رِوَايَةَ:
يَفْتَتِحُونَ مُحْتَمَلَةٌ، فَرِوَايَةُ: لَا
يَجْهَرُونَ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ. قُلْنَا:
وَرِوَايَةُ "بِأُمِّ الْقُرْآنِ" تُعَيِّنُ
الْمَعْنَى الْآخَرَ فَاسْتَوَيَا وَسَلِمَ
لَنَا مَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ
الْمُصَرِّحَةِ بِالْجَهْرِ عَنْ أَنَسٍ
وَغَيْرِهِ، وَتِلْكَ لَا تَحْتَمِلُ
تَأْوِيلًا وَهَذِهِ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهَا
بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَأُوِّلَتْ وَجُمِعَ
بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَأَلْفَاظِهَا.
الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ
الرِّوَايَاتِ مَا يُنَافِي أَحَادِيثَ
الْجَهْرِ الصَّحِيحَةَ السَّابِقَةَ: أَمَّا
الرِّوَايَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا
فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا
يَجْهَرُونَ فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ
الْجَهْرِ الشَّدِيدِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الاسراء: 110] فَنَفَى أَنَسٌ رضي الله عنه الْجَهْرَ الشَّدِيدَ
دُونَ أَصْلِ الْجَهْرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ
هُوَ رَوَى الْجَهْرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى "يُسِرُّونَ"
فَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْإِسْرَارِ،
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ خُزَيْمَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
بِقَوْلِهِ يُسِرُّونَ التَّوَسُّطَ
الْمَأْمُورَ بِهِ الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ
إلَى الْجَهْر الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
كَالْإِسْرَارِ، وَاخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ
مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الْجَهْرِ الشَّدِيدِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
"الْجَهْرُ بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ" أَرَادَ،
الْجَهْرُ الشَّدِيدُ قِرَاءَةُ الْأَعْرَابِ؛
لِجَفَائِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ مِمَّنْ رَأَى الْجَهْرَ
بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا سَبَقَ.
الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ:
رَجَّحَهَا الْإِمَامُ ابْنُ خُزَيْمَةَ،
وَهِيَ رَدُّ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ إلَى
مَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ
بِالْبَسْمَلَةِ دُونَ تَرْكِهَا، وَقَدْ
ثَبَتَ الْجَهْرُ بِهَا بِالْأَحَادِيثِ
السَّابِقَةِ عَنْ أَنَسٍ وَكَأَنَّ أَنَسًا
بَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ
الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ بِهَا فَقَالَ
"أَنَا صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ فَرَأَيْتُهُمْ
يُسِرُّونَ بِهَا" أَيْ وَقَعَ ذَلِكَ
مِنْهُمْ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ
الْجَوَازِ وَلَمْ يُرِدْ الدَّوَامَ،
بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ الْجَهْرِ
رِوَايَةً وَفِعْلًا كَمَا سَبَقَ، فَتَكُون
أَحَادِيثُ أَنَسٍ قَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ
الْأَمْرَيْنِ وَوُقُوعِهِمَا مِنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم وَهُمَا: الْجَهْرُ
وَالْإِسْرَارُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ
أَفْعَالُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي ذَلِكَ،
وَهُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَذَانِ
وَالْإِقَامَةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ
حِبَّانَ: هَذَا عِنْدِي مِنْ الِاخْتِلَافِ
الْمُبَاحِ، وَالْجَهْرُ أَحَبُّ إلَيَّ،
فَعَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى " لَمْ
يَقْرَأْ " أَيْ لَمْ يَجْهَرْ، وَلَمْ
أَسْمَعْهُمْ يَقْرَءُونَ، أَيْ يَجْهَرُونَ.
الطَّرِيقَةُ الْخَامِسَةُ:
أَنْ يُقَالَ: نَطَقَ أَنَسٌ بِكُلِّ هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ فِي مَجَالِسَ
مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا
فِي "الِاسْتِدْلَالِ"
وَ
"الْبَيَانِ". فَإِنْ قِيلَ:
هَلَّا حَمَلْتُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ رضي الله
عنه عَلَى أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ
الْجَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ حَكَى ذَلِكَ
عَنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: مَنَعَ
ذَلِكَ أَنَّ الْجَهْرَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ
مِنْ فِعْلِهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ
الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ،
فَلَا يَخْتَارُ أَنَسٌ لِنَفْسِهِ إلَّا مَا
كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ قَالَ أَبُو
مُحَمَّدٍ: وَإِنْ رُمْنَا تَرْجِيحَ
الْجَهْرِ فِيمَا نَقَلَ أَنَسٌ، قُلْنَا:
هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا
مُسْلِمٌ الْمُصَرِّحَةُ بِحَذْفِ
الْبَسْمَلَةِ أَوْ بِعَدَمِ الْجَهْرِ بِهَا
قَدْ عُلِّلَتْ وَعُورِضَتْ بِأَحَادِيثِ
الْجَهْرِ الثَّابِتَةِ عَنْ أَنَسٍ،
وَالتَّعْلِيلُ يُخْرِجُهَا مِنْ الصِّحَّةِ
إلَى الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ
الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا
مُعَلَّلًا، وَإِنْ اتَّصَلَ سَنَدُهُ
بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ عَنْ مِثْلِهِ،
فَالتَّعْلِيلُ يُضْعِفُهُ لِكَوْنِهِ
اطَّلَعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ
ج / 3 ص -216-
قَادِحَةٍ فِي صِحَّتِهِ كَاشِفَةٍ عَنْ
وَهْمٍ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ
حِينَئِذٍ إخْرَاجُهُ فِي الصَّحِيحِ؛
لِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ضَعِيفٌ،
وَقَدْ خَفِيَ ضَعْفُهُ وَقَدْ تَخْفَى
الْعِلَّةُ عَلَى أَكْثَرِ الْحُفَّاظِ
وَيَعْرِفُهَا الْفَرْدُ مِنْهُمْ فَكَيْفَ
وَالْأَمْرُ هُنَا بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا
امْتَنَعَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ
إخْرَاجِهِ.
وَقَدْ عُلِّلَ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا
بِثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا أَبُو
مُحَمَّدٍ مُفَصَّلَةً، وَقَالَ: الثَّامِنُ
فِيهَا "أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ سَعِيدَ بْنَ
زَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا أَكَانَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ
بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَوْ
بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟
فَقَالَ: إنَّكَ لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ
مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ
قَبْلَكَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي
مُسْنَدِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي
كِتَابِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ،
وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ
عَلَى تَوَقُّفِ أَنَسٍ وَعَدَمِ جَزْمِهِ
بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَرُوِيَ
عَنْهُ الْجَزْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَاضْطَرَبَتْ أَحَادِيثُهُ، وَكُلُّهَا
صَحِيحَةٌ فَتَعَارَضَتْ فَسَقَطَتْ، وَإِنْ
تَرَجَّحَ بَعْضُهَا فَالتَّرْجِيحُ:
الْجَهْرُ لِكَثْرَةِ أَحَادِيثِهِ،
وَلِأَنَّهُ إثْبَاتٌ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
النَّفْيِ وَلَعَلَّ النِّسْيَانَ عَرَضَ لَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
مَنْ حُفِظَ عَنْهُ، حُجَّةٌ عَلَى مَنْ
سَأَلَهُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ وَالله
أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا وَالْحُفَّاظُ: هُوَ حَدِيثٌ
ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الله بْنِ
مُغَفَّلٍ مَجْهُولٌ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ:
هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ
النَّقْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الله
مَجْهُولٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ابْنُ عَبْدِ
الله مَجْهُولٌ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ،
وَقَالَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ:
هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ
عَبْدِ الله مَجْهُولٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى
هَؤُلَاءِ الْحُفَّاظِ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى
مَجْهُولٍ وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ
جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
وَذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو
الْفَتْحِ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ فِي
الْبَسْمَلَةِ: إنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ
سِرِّيَّةٍ لَا جَهْرِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ
النَّاسِ قَدْ يَرْفَعُ قِرَاءَتَهُ
بِالْبَسْمَلَةِ وَغَيْرِهَا رَفْعًا
يَسْمَعُهُ مَنْ عِنْدَهُ فَنَهَاهُ أَبُوهُ
عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا مُحْدَثٌ ،
وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَهَا
حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي
الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ.
الثَّانِي: جَوَابُ أَبِي
بَكْرٍ الْخَطِيبِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الله
مَجْهُولٌ وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُهُ لَمْ
يُؤَثِّرْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْجَهْرِ ؛ لِأَنَّ
عَبْدَ الله بْنَ مُغَفَّلٍ مِنْ أَحْدَاثِ
أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ شُيُوخِهِمْ. وَقَدْ
صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ
"لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ"
فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْرُبُ مِنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ الله
بْنُ مُغَفَّلٍ يَبْعُدُ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَارِئَ يَرْفَعُ
صَوْتَهُ وَيَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ فِي
أَثْنَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَوَّلِهَا فَلَمْ
يَحْفَظْ عَبْدُ الله الْجَهْرَ
بِالْبَسْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ بَعِيدٌ، وَهِيَ
أَوَّلُ الْقِرَاءَةِ، وَحَفِظَهَا أَبُو
هُرَيْرَةَ لِقُرْبِهِ وَإِصْغَائِهِ
وَجَوْدَةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ،
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله
عنه فَجَوَابُهُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ
مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ
الْيَمَامِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
جَابِرٍ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ
مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا سِيَّمَا فِي
رِوَايَتِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، هَذَا وَفِيهِ ضَعْفٌ آخَرُ
وَهُوَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ1 النَّخَعِيّ لَمْ
يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ بِالِاتِّفَاقِ
فَهُوَ مُنْقَطِعٌ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال العجلي: رأي عائشة رؤيا وكان مفتي أهل
الكوفة، وكان رجلا صالحا فقيها متوقيا قليل
التكلف ومات =
ج / 3 ص -217-
ضَعِيفٌ
وَإِذَا ثَبَتَ ضَعْفُهُ مِنْ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ،
وَلَوْ كَانَتْ لَكَانَتْ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ الْمُصَرِّحَةُ
بِالْجَهْرِ مُقَدَّمَةً لِصِحَّتِهَا
وَكَثْرَتِهَا وَلِأَنَّهَا إثْبَاتٌ وَهَذَا
نَفْيٌ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيد بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ
الْجَهْرَ مَنْسُوخٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ،
وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا عَنْهُ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، "وَقَالَ: فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] فَيَسْمَعُ الْمُشْرِكُونَ فَيَهْزَءُونَ
{وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ
{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] وَفِي رِوَايَةٍ فَخَفَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم بِبَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي - وَالله
أَعْلَمُ - فَخَفَضَ بِهَا دُونَ الْجَهْرِ
الشَّدِيدِ الَّذِي يَبْلُغُ أَسْمَاعَ
الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ يَجْهَرُ بِهَا
جَهْرًا يُسْمِعُ أَصْحَابَهُ. قَالَ أَبُو
مُحَمَّدٍ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى كَمَا نَهَاهُ عَنْ
الْجَهْرِ بِهَا نَهَاهُ عَنْ الْمُخَافَتَةِ،
فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا
وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا
بِالْبَسْمَلَةِ بَلْ كُلُّ الْقِرَاءَةِ
فِيهِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا مَا حَكَوْا عَنْ
الدَّارَقُطْنِيّ فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ؛
لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ صَحَّحَ فِي
سُنَنِهِ كَثِيرًا مِنْ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ
كَمَا سَبَقَ، وَكِتَابُ السُّنَنِ صَنَّفَهُ
الدَّارَقُطْنِيّ بَعْدَ كِتَابِ الْجَهْرِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَحَالَ فِي
"السُّنَنِ" عَلَيْهِ
، فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الْحِكَايَةُ حُمِلَ
الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ آخِرًا
عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ
أَوَّلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ
لَيْسَ فِي
"الصَّحِيحَيْنِ" مِنْهَا
شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَحَّتْ فِي
غَيْرِهَا ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَقَدْ سَبَقَ
اسْتِنْبَاطُ الْجَهْرِ مِنْ
"الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ:
الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ بِدْعَةٌ لَا
حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ
اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ كَمَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ - الْعَقِيقَةُ بِدْعَةٌ، وَصَلَاةُ
الِاسْتِسْقَاءِ بِدْعَةٌ، وَهُمَا سُنَّةٌ
عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهَا،
وَمَذْهَبُ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ لَا يَكُونُ
حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ، فَكَيْفَ
يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْأَكْثَرِينَ مَعَ
مُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
السَّابِقَةِ. "وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ" عَلَى
التَّعَوُّذِ "فَجَوَابُهُ" أَنَّ
الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ
وَمَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ
التَّعَوُّذِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ
الْجَهْرُ ثَابِتًا لَنُقِلَ تَوَاتُرًا
فَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ
التَّوَاتُرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِكُلِّ حُكْمٍ،
وَالله أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجِبُ
أَنْ يَقْرَأَهَا مُرَتَّبًا فَإِنْ قَرَأَ
فِي خِلَالِهَا غَيْرَهَا نَاسِيًا ثُمَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو مختف من الحجاج. وقال الأعمش كان
إبراهيم خيرا في الحديث وقال الشعبي ما ترك
أحدا أعلم منه وقال ابن معين مراسيل إبراهيم
أحب إلى الشعبي، وقال الأعمش قلت لإبراهيم:
أسند لي عن ابن مسعود، فقال إبراهيم إذا
حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت،
وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحد عن
عبد الله قال أبو نعيم: مات سنة 96وقال غيره:
وهو ابن 49 سنة وقيل ابن 58 وقال أحمد عن حماد
بن خالد عن شعبة: لم يسمع النخعي من أبي عبد
الله الجدلي حديث خزيمة بن ثابت في المسح وفي
العلل الكبير للترمذي: سمع إبراهيم النخعي
حديث أبي عبد الله الجدلي من إبراهيم التيمي،
والتيمي هذا لم يسمعه منه، وقال ابن المدني:
لم يلق النخعي أحدا من أصحاب رسوالله صلى الله
عليه وسلم فقلت له: فعائشة؟ قال: هذا لم يروه
غير سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن عن
إبراهيم وهوضعيف فقد رأى أبا جحيفة وزيد بن
أرقم وابن أبي أوفى ولم يسمع من ابن عباس ا هـ
ملخصا من تهذيب التهذيب وتاريخ بغداد والجرح
والتعديل أبي حاتم وغيرها (ط).
ج / 3 ص -218-
أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ
قَرَأَ عَامِدًا لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ
الْقِرَاءَةَ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ فِي
خِلَالِ الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا
لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَإِنْ نَوَى
قَطْعَهَا وَلَمْ يَقْطَعْ لَمْ يَلْزَمْهُ
اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ
بِاللِّسَانِ وَلَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ
بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى قَطْعَ الصَّلَاةِ؛
لِأَنَّ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ وَقَدْ قَطَعَ
ذَلِكَ.
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ
مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَقْرَأُ هَكَذَا" وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" فَإِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ
الْمُقَدَّمَ - فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ -
بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ، وَلَا تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَ أَنَّهُ قَرَأَ
آيَةً أَوْ آيَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا،
وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ،
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاهِيًا لَمْ يُعْتَدَّ
بِالْمُؤَخَّرِ وَيَبْنِي عَلَى الْمُرَتَّبِ
مِنْ أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ
فِي
"الْأُمِّ" ، وَاتَّفَقَ
الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، قَالَ الْبَغَوِيّ
وَغَيْرُهُ: إلَّا أَنْ يَطُولَ الْفَصْلُ
فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْقِرَاءَةِ هَكَذَا
قَالَهُ الْأَصْحَابُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ:
إنْ كَانَ يَعْتَبِرُ التَّرْتِيبَ مُبْطِلًا
لِلْمَعْنَى تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا
تَعَمَّدَهُ، كَمَا قَالُوا إذَا تَعَمَّدَ
تَغْيِيرَ التَّشَهُّدِ تَغْيِيرًا يُبْطِلُ
الْمَعْنَى ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ
وَأَمَّا الْمُوَالَاةُ فَمَعْنَاهَا أَنْ
يَصِلَ الْكَلِمَاتِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ،
وَلَا يَفْصِلَ إلَّا بِقَدْرِ التَّنَفُّسِ
فَإِنْ أَخَلَّ بِالْمُوَالَاةِ فَلَهُ
حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ
عَامِدًا فَيُنْظَرُ إنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ
الْفَاتِحَةِ طَوِيلًا بِحَيْثُ أَشْعَرَ
بِقَطْعِهِ الْقِرَاءَةَ أَوْ إعْرَاضِهِ
عَنْهَا مُخْتَارًا أَوْ لِعَائِقٍ بَطَلَتْ
قِرَاءَتُهُ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُ
الْفَاتِحَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَحَكَى
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ عَنْ
الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ
قِرَاءَتُهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ
وَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ
وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ، وَإِنْ قَصُرَتْ
مُدَّةُ السُّكُوتِ لَمْ يُؤَثِّرْ بِلَا
خِلَافٍ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ
وَلَمْ يَسْكُتْ لَمْ تَبْطُلْ قِرَاءَتُهُ
بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي
"الْأُمِّ" ، وَاتَّفَقَ
الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ قَالَ فِي
"الْأُمِّ" :
لِأَنَّهُ حَدِيثُ نَفْسٍ وَهُوَ مَوْضُوعٌ
عَنْهُ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَهَا وَسَكَتَ
طَوِيلًا بَطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ
سَكَتَ يَسِيرًا بَطَلَتْ أَيْضًا عَلَى
الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَبِهِ قَطَعَ
الْأَكْثَرُونَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي
الْأُمِّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ حَكَاهُ
صَاحِبُ الْحَاوِي وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ
النِّيَّةَ الْفَرْدَةَ لَا تُؤَثِّرُ،
وَكَذَا السُّكُوتُ الْيَسِيرُ، وَكَذَا إذَا
اجْتَمَعَا.
وَإِنْ أَتَى فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ
بِتَسْبِيحٍ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا
مِنْ الْأَذْكَارِ أَوْ قَرَأَ آيَةً مِنْ
غَيْرِهَا عَمْدًا بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ بِلَا
خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَثُرَ ذَلِكَ أَوْ قَلَّ؛
لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِقِرَاءَتِهَا. هَذَا
فِيمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُصَلِّي،
فَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ إلَيْهِ كَتَأْمِينِ
الْمَأْمُومِ لِتَأْمِينِ إمَامِهِ،
وَسُجُودِهِ لِتِلَاوَتِهِ، فَفِيهِ خِلَافٌ
نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ
يُخِلَّ بِالْمُوَالَاةِ نَاسِيًا
فَالصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَقَطَعَ بِهِ
الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ
قِرَاءَتُهُ، بَلْ يَبْنِي عَلَيْهَا؛
لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، سَوَاءٌ كَانَ أَخَلَّ
بِالْمُوَالَاةِ بِسُكُوتٍ أَمْ بِقِرَاءَةِ
غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَائِهَا نَصَّ
عَلَيْهِ فِي"الْأُمِّ"
وَقَالَهُ الْأَصْحَابُ، قَالَ فِي"الْأُمِّ"
: لِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فِي النِّسْيَانِ،
وَقَدْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ كُلَّهَا،
وَسَوَاءٌ قُلْنَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ
الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا أَمْ لَا، وَمَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى
انْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بِالنِّسْيَانِ إذَا
قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ الْقِرَاءَةُ
بِالنِّسْيَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ،
وَلَوْ أُعْيِيَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ
فَسَكَتَ لِلْإِعْيَاءِ ثُمَّ بَنَى عَلَى
قِرَاءَتِهِ حِينَ أَمْكَنَهُ صَحَّتْ
قِرَاءَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي
"الْأُمِّ" ؛ لِأَنَّهُ
مَعْذُورٌ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ
وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَهَا مُرَتَّبًا فَهُوَ
بِفَتْحِ التَّاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا،
وَقَوْلُهُ فَإِنْ قَرَأَ فِي
ج / 3 ص -219-
خِلَالِهَا غَيْرَهَا إلَى آخِرِهِ لَيْسَ
مُرَادُهُ بِهِ تَفْسِيرَ التَّرْتِيبِ
وَالتَّفْرِيعَ عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَ فِي
هَذَا تَرْكُ تَرْتِيبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ
بَيَانٌ لِلْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ
أَنَّ الْمُوَالَاةَ وَاجِبَةٌ كَالتَّرْتِيبِ
فَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمُوَالَاةَ
عَمْدًا لَا تُجْزِيهِ الْقِرَاءَةُ،
وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ قَوْلِهِ: وَتَجِبُ
الْمُوَالَاةُ وَالله أَعْلَمُ
فرع: قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ إذَا كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ أَوْ
آيَةً مِنْهَا كَانَ شَيْخِي يَقُولُ: لَا
بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ
لِتَشَكُّكِهِ فِي أَنَّ الْكَلِمَةَ
قَرَأَهَا جَيِّدًا كَمَا يَنْبَغِي أَمْ لَا؛
لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَرَّرَ كَلِمَةً
مِنْهَا بِلَا سَبَبٍ كَانَ شَيْخِي
يَتَرَدَّدُ فِي إلْحَاقِهِ بِمَا لَوْ
أَدْرَجَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ ذِكْرًا
آخَرَ. قَالَ الْإِمَامُ وَاَلَّذِي أَرَاهُ
أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ مُوَالَاتُهُ
بِتَكْرِيرِ كَلِمَةٍ مِنْهَا كَيْفَ كَانَ،
هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ وَقَدْ جَزَمَ
شَيْخُهُ وَهُوَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ
بِأَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ
كَرَّرَهَا لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّفَكُّرِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ إنْ كَرَّرَ آيَةً لَمْ
تَنْقَطِعْ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ قَرَأَ
نِصْفَ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَتَى
بِالْبَسْمَلَةِ فَأَتَمَّهَا ثُمَّ ذَكَرَ
أَنَّهُ كَانَ أَتَى بِهَا يَجِبُ أَنْ
يُعِيدَ مَا قَرَأَ بَعْدَ الشَّكِّ، وَلَا
يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يُدْخِلْ فِيهَا غَيْرَهَا.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ
الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي إنْ
كَرَّرَ الْآيَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا لَمْ
تَبْطُلْ قِرَاءَتُهُ، وَإِنْ أَعَادَ بَعْضَ
الْآيَاتِ الَّتِي فَرَغَ مِنْهَا بِأَنْ
وَصَلَ إلَى "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" ثُمَّ
قَرَأَ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" فَإِنْ
اسْتَمَرَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِنْ "مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ" أَجْزَأَتْهُ قِرَاءَتُهُ،
وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى "مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ" ثُمَّ عَادَ فَقَرَأَ "غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"
لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ وَعَلَيْهِ
اسْتِئْنَافُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ
مَعْهُودٍ فِي التِّلَاوَةِ وَهَذَا إنْ كَانَ
عَامِدًا فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا
لَمْ تَنْقَطِعْ قِرَاءَتُهُ كَمَا لَوْ
تَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ بِمَا
لَيْسَ مِنْهَا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا لَا تَبْطُلُ
قِرَاءَتُهُ هُنَا وَأَمَّا صَاحِبُ
الْبَيَانِ فَقَالَ: إنْ قَرَأَ آيَةً مِنْ
الْفَاتِحَةِ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ
أَوَّلَ آيَةً أَوْ آخِرَهَا لَمْ يَضُرَّ
وَإِنْ كَانَتْ فِي أَثْنَائِهَا فَاَلَّذِي
يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ
قَرَأَ فِي خِلَالِهَا غَيْرَهَا فَإِنَّهُ
لَوْ تَعَمَّدَهُ بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ،
وَإِنْ سَهَا بَنَى، وَكَأَنَّ صَاحِبَ
الْبَيَانِ لَمْ يَقِفْ عَلَى النَّقْلِ
الَّذِي حَكَيْتُهُ عَنْ الْأَصْحَابِ،
وَلِهَذَا قَالَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ
الْقِيَاسُ، وَهَذِهِ عَادَتُهُ فِيمَا لَمْ
يَرَ فِيهِ نَقْلًا وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
قَرَأَ الْإِمَامُ الْفَاتِحَةَ فَأَمَّنَ
وَالْمَأْمُومُ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ
فَأَمَّنَ بِتَأْمِينِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ تَنْقَطِعُ الْقِرَاءَةُ
كَمَا لَوْ قَطَعَهَا بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا.
وَقَالَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
لَا تَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ
بِهِ فَلَا تَنْقَطِعُ الْقِرَاءَةُ
كَالسُّؤَالِ فِي آيَةِ الرَّحْمَةِ،
وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ فِي آيَةِ
الْعَذَابِ فِيمَا يَقْرَأُ فِي صَلَاتِهِ
مُنْفَرِدًا.
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: إذَا أَتَى فِي أَثْنَاءِ
الْفَاتِحَةِ بِمَا نُدِبَ إلَيْهِ
لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ
بِهَا كَتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ وَسُجُودِهِ
مَعَهُ لِتِلَاوَتِهِ وَفَتْحِهِ عَلَيْهِ
الْقِرَاءَةَ وَسُؤَالِهِ الرَّحْمَةَ عِنْدَ
قِرَاءَةِ آيَتِهَا وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ
الْعَذَابِ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَتِهِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَهَلْ تَنْقَطِعُ مُوَالَاةُ
الْفَاتِحَةِ؟ "فِيهِ وَجْهَانِ" مَشْهُورَانِ
أَصَحُّهُمَا: لَا يَنْقَطِعُ
بَلْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَتَجْزِيهِ وَبِهَذَا
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ
وَالْقَفَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَأَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ فِي
تَفْسِيرِهِ الْبَسِيطِ، وَصَحَّحَهُ
الْغَزَالِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُمْ:
وَالثَّانِي:
تَنْقَطِعُ فَيَجِبُ اسْتِئْنَافُ
الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيِّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ
وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَلَا
يَطَّرِدُ الْوَجْهَانِ فِي كُلِّ مَنْدُوبٍ،
فَلَوْ أَجَابَ الْمُؤَذِّنَ فِي أَثْنَاءِ
الْفَاتِحَةِ أَوْ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ أَوْ فَتَحَ
ج / 3 ص -220-
الْقِرَاءَةَ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ أَوْ
سَبَّحَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ أَوْ
نَحْوَهُ انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ بِلَا
خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ
وَالْأَصْحَابُ قَالُوا: وَإِنَّمَا
الْوَجْهَانِ فِي ذِكْرٍ مُتَعَلِّقٍ
بِالصَّلَاةِ لِمُصَلِّيهَا، وَظَاهِرُ
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ السُّؤَالَ فِي
آيَةِ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ لَا يَقْطَعُ
الْمُوَالَاةَ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا يَجْرِي
فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي التَّأْمِينِ.
وَلَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، بَلْ الْوَجْهَانِ
فِي السُّؤَالِ عِنْدَ آيَةِ الرَّحْمَةِ
وَالِاسْتِعَاذَةِ لِآيَةِ الْعَذَابِ
مَشْهُورَانِ صَرَّحَ بِهِمَا الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ
"التَّهْذِيبِ" وَآخَرُونَ
لَا يُحْصَرُونَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى
جَرَيَانِهِ فِي سُجُودِهِ مَعَ إمَامِهِ
لِلتِّلَاوَةِ.
وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: قِيَاسُهُ عَلَى
السُّؤَالِ فِي آيَةِ الرَّحْمَةِ
وَالْعَذَابِ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ
فِيهِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ كَمَا ذَكَرْنَا
وَالثَّانِي: إضَافَتُهُ
عَدَمَ الِانْقِطَاعِ إلَى الْقَاضِي أَبِي
الطَّيِّبِ وَحْدَهُ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ لَمْ
يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُ، أَوْ لَمْ يُسْبَقْ
إلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، بَلْ
الْقَوْلُ بِعَدَمِ الِانْقِطَاعِ لِأَبِي
عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي
الْإِفْصَاحِ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى
الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ بِأَزْمَانٍ،
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا
الطَّيِّبِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي
تَعْلِيقِهِ وَقَالَ: فِيهَا وَجْهَانِ
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِفْصَاحِ
لَا يَنْقَطِعُ:
وَالثَّانِي: قَوْلُ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ يَنْقَطِعُ فَكَانَ
يَنْبَغِي لَلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ كَمَا
قَالَهُ شَيْخُهُ: وَالثَّانِي لَا يَنْقَطِعُ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ
وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا أَبُو الطَّيِّبِ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَلَوْ
كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَقَرَأَ
الْإِمَامُ:
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:40] فَقَالَ الْمَأْمُومُ: بَلَى. تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ
يَعْنِي أَنَّهُ كَسُؤَالِ الرَّحْمَةِ
فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَاف وَالله أَعْلَمُ.
وَالْأَحْوَطُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَنْ
يَسْتَأْنِفَ الْفَاتِحَةَ لِيَخْرُجَ مِنْ
الْخِلَافِ.
"وَاعْلَمْ" أَنَّ الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ
بِمَنْ أَتَى بِذَلِكَ عَامِدًا عَالَمًا.
أَمَّا مَنْ أَتَى بِهِ سَاهِيًا أَوْ
جَاهِلًا فَلَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ بِلَا
خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ"
وَغَيْرُهُ وَهُوَ وَاضِحٌ مَفْهُومٌ مِمَّا
سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا
تَنْقَطِعُ بِمَا تَخَلَّلَهَا فِي حَالَةِ
النِّسْيَانِ، قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ
دَلِيلُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ
بِمَا تَخَلَّلَهَا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا
فَكَذَا الْفَاتِحَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَتَجِبُ
قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
لِمَا رَوَى رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ رضي الله
عنه قَالَ
"بَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ
وَرَجُلٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَعِدْ صَلَاتَكَ
فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَقَالَ: عَلِّمْنِي
يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى
الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ -
إلَى أَنْ قَالَ - ثُمَّ اصْنَعْ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ ذَلِكَ" وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ فَوَجَبَ فِيهَا
الْقِرَاءَةُ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى.
الشرح: حَدِيثُ رِفَاعَةَ هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِبَعْضِ مَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ فِي
رِوَايَتِهِمْ قَوْلُهُ فِي
"الْمُهَذَّبِ" "ثُمَّ
اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَمَا
تَيَسَّرَ" بَلْ فِيهَا "فَاقْرَأْ مَا
تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ" وَلَيْسَ
فِي أَكْثَرِهَا "ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي
كُلِّ رَكْعَةٍ" وَفِي رِوَايَةٍ
"دَخَلَ رَسُولُ الله صلى
الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ
فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ،
فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ،
ثَلَاثًا. فَقَالَ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ
فَعَلِّمْنِي ، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى
الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا
تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ
ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
ج / 3 ص -221-
رَاكِعًا
ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا
ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا،
افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَزَادَ
فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا:
"إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ
الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ" وَذَكَرَ تَمَامَهُ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي
كِتَابِ السَّلَامِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ
الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي
الدَّلَالَةِ وَفِيهِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ
فَائِدَةً قَدْ جَمَعْتُهَا فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ إلَّا رَكْعَةَ الْمَسْبُوقِ إذَا
أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَإِنَّهُ لَا
يَقْرَأُ وَتَصِحُّ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَهَلْ
يُقَالُ يَحْمِلُهَا عَنْهُ الْإِمَامُ أَمْ
لَمْ تَجِبْ أَصْلًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ
حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ
أَصَحُّهُمَا: يَحْمِلُهَا،
وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ وَلِهَذَا لَوْ
كَانَ الْإِمَامُ1 لَمْ تُحْسَبَ هَذِهِ
الرَّكْعَةُ لِلْمَأْمُومِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل وفيها سقط فحرره (ش) قلت: ولعله
(لو كان الإمام صبيا) لأنه لا يحمل البالغ على
المذهب (ط).
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي
الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ
قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ
فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا
عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ رضي الله عنهما ،
وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَحَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ
الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ وَدَاوُد وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَأَمَّا
الْأُخْرَيَانِ فَلَا تَجِبُ فِيهِمَا
قِرَاءَةٌ ، بَلْ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ
شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُد: لَا
تَجِبُ الْقِرَاءَةُ إلَّا فِي رَكْعَةٍ مِنْ
كُلِّ الصَّلَوَاتِ. وَحَكَى ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ
إنْ قَرَأَ فِي أَكْثَرِ الرَّكَعَاتِ
أَجْزَأَهُ. وَعَنْ الثَّوْرِيِّ إنْ قَرَأَ
فِي رَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ أَوْ
الرُّبَاعِيَّةِ فَقَطْ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَنْ
مَالِكٍ إنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ
مِنْ الصُّبْحِ لَمْ تُجْزِهِ، وَإِنْ
تَرَكَهَا فِي رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِهَا
أَجُزْأَهُ. وَاحْتُجَّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْ
قِرَاءَةً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِقَوْلِ الله
تَعَالَى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] وَبِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ
دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْنَا
لِشَابٍّ: سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَانَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ فَقَالَ: لَا لَا ،
فَقِيلَ لَهُ: لَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي
نَفْسِهِ؟ فَقَالَ خَمْشًى ، هَذِهِ شَرٌّ
مِنْ الْأُولَى كَانَ عَبْدًا مَأْمُورًا
بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَمَا اخْتَصَّنَا
دُونَ النَّاسِ بِشَيْءٍ إلَّا بِثَلَاثِ
خِصَالٍ ، أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ
الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ،
وَأَنْ لَا نُنْزِيَ الْحِمَارَ عَلَى
الْفَرَسِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ. وَقَوْلُهُ "خَمْشًا" هُوَ
بِالْخَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ
خَمَشَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ خَمْشًا
كَقَوْلِهِمْ عَقْرَى حَلْقَى.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"لَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لَا"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَبِحَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم
"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ
الْقُرْآنِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالُوا:
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ،
وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ
فِي الْأُولَيَيْنِ وَسَبَّحَ فِي
الْأُخْرَيَيْنِ
ج / 3 ص -222-
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ السَّابِقِ فِي حَدِيثِ
"الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ" وَقَوْلِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم "ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي
صَلَاتِكَ كُلِّهَا" وَفِي رِوَايَةٍ
ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
"ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ"
وَبِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ
فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ، وَعَنْ أَبِي
قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ
أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي
"صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ" و "وَمُسْلِمٍ"
، لَكِنَّ قَوْلَهُ " يَقْرَأُ فِي
الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "
انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيد
الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي
صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ
ثَلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ
قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ وَفِي الْعَصْرِ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ"
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا
بِأَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا كَمَا
ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ
بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي
قِيَامِ اللَّيْلِ. وَعَنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَفَى وَغَيْرُهُ أَثْبَتَ،
وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي
وَكَيْفَ؟ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَأَكْبَرُ
سِنًّا وَأَقْدَمُ صُحْبَةً وَأَكْثَرُ
اخْتِلَاطًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
لَا سِيَّمَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو
قَتَادَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ فَتَعَيَّنَ
تَقْدِيمُ أَحَادِيثِهِمْ عَلَى حَدِيثِهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ تُبَيِّنُ أَنَّ نَفْيَهُ فِي
الرِّوَايَةِ الْأُولَى كَانَ عَلَى سَبِيلِ
التَّخْمِينِ وَالظَّنِّ لَا عَنْ تَحْقِيقٍ،
فَلَا يُعَارِضُ الْأَكْثَرِينَ الْجَازِمِينَ
بِإِثْبَاتِ الْقِرَاءَةِ. وَعَنْ حَدِيثِ
عُبَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ قِرَاءَةُ
الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِدَلِيلِ
مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَعَنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ
سَبَقَ بَيَانُ تَضْعِيفِهِ فِي مَسْأَلَةِ
اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ
الْفَاتِحَةِ:
وَالثَّانِي: أَنَّ
الْمُرَادَ الْفَاتِحَةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنْ حَدِيثِ
عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَهُوَ
كَذَّابٌ مَشْهُورٌ بِالضَّعْفِ عِنْدَ
الْحُفَّاظِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ خِلَافَهُ، وَالله
أَعْلَمُ.
فرع: قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ
فِي الْحَدِيثِ "بَيْنَا رَسُولُ الله صلى
الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ"
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُ بَيْنَا
"بَيْنَ" فَأُشْبِعَتْ الْفَتْحَةُ فَصَارَتْ
أَلِفًا قَالَ: وَبَيْنَمَا بِمَعْنَاهُ
زِيدَتْ فِيهِ "مَا" قَالَ وَتَقْدِيرُهُ
بَيْنَ أَوْقَاتِ جُلُوسِهِ جَرَى كَذَا
وَكَذَا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهَا
رَكْعَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ فَوَجَبَ
فِيهَا الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ
كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ
"يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ" احْتِرَازٌ مِنْ
رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ، وَقَوْلُهُ: "مَعَ
الْقُدْرَةِ" احْتِرَازٌ مِمَّنْ لَمْ
يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ، وَفِي هَذَا
الْقِيَاسِ رَدٌّ عَلَى جَمِيعِ
الْمُخَالِفِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ رَاوِي
الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ
فَهُوَ أَبُو مُعَاذٍ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الْأَنْصَارِيُّ
الزُّرَقِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ أَبُوهُ
صَحَابِيًّا نَقِيبًا1 تُوُفِّيَ فِي أَوَّلِ
خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا فِي فَصْلِ
الِاعْتِدَالِ، وَقَالَ فِيهِ: رِفَاعَةُ بْنُ
مَالِكٍ نِسْبَةً إلَى جَدِّهِ وَهُوَ
صَحِيحٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وشهد أحدا وسائر المشاهد أيضا وأمه أم مالك
بنت أبي ابن سلول وشهد معه بدرا أخواه خلاد
ومالك وشهد مع علي الجمل وصفين (ط).
ج / 3 ص -223-
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَهَلْ
تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ؟ فَإِنْ كَانَ فِي
صَلَاةٍ يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ
يَجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي
الْأُمِّ وَالْبُوَيْطِيِّ يَجِبُ، لِمَا
رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ:
"صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم [الصُّبْحَ] فَثَقُلَتْ
عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ
قَالَ: إنِّي لَأَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ
إمَامِكُمْ، قُلْنَا: وَالله أَجَلْ يَا
رَسُولَ الله نَفْعَلُ هَذَا. قَالَ: لَا
تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ
فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ
بِهَا" وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ قِيَامُ الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ الْقِرَاءَةُ
مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْإِمَامِ
وَالْمُنْفَرِدِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا
يَقْرَأُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
"أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ
فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ
مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ:
نَعَمْ يَا رَسُولَ الله قَالَ: إنِّي أَقُولُ
مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ فَانْتَهَى
النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ الله
صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ
بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ حِينَ
سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله
عليه وسلم".
الشَّرْحُ: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُمَا
حَدِيثَانِ حَسَنَانِ. وَصَحَّحَ
الْبَيْهَقِيُّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ
وَضَعَّفَ الثَّانِيَ "حَدِيثَ أَبِي
هُرَيْرَةَ" وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ابْنُ أُكَيْمَةَ - بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ - وَهُوَ
مَجْهُولٌ. قَالَ وَقَوْلُهُ: "فَانْتَهَى
النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ الله
صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ"
وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ
الرَّاوِي عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ قَالَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ
حِينَ مَيَّزَهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ
مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ "أَجَلْ يَا رَسُولَ الله نَفْعَلُ
هَذَا" هُوَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ
وَتَنْوِينِهَا هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ،
وَهَكَذَا ضَبَطَهُ الْبُخَارِيُّ فِي
"مَعَالِمِ السُّنَنِ" ،
وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد
وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ
وَغَيْرِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ
الدَّارَقُطْنِيّ "نَهُذُّهُ هَذًّا" "أَوْ
نَدْرُسُهُ دَرْسًا" قَالَ الْخَطَّابِيُّ
وَغَيْرُهُ: الْهَذُّ السُّرْعَةُ وَشِدَّةُ
الِاسْتِعْجَالِ فِي الْقِرَاءَةِ، هَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقِيلَ
الْمُرَادُ بِالْهَذِّ هُنَا الْجَهْرُ،
وَتَقْدِيرُهُ يَهُذُّ هَذًّا، وَقَدْ
بَسَطْتُ شَرْحَهُ وَضَبْطَهُ فِي
تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ:.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ "وَلِأَنَّ مَنْ
لَزِمَهُ قِيَامُ الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ
الْقِرَاءَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْإِمَامِ"
اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: "لَزِمَهُ قِيَامُ
الْقِرَاءَةِ" عَنْ الْمَسْبُوقِ ،
وَبِقَوْلِهِ "مَعَ الْقُدْرَةِ" عَمَّنْ لَا
يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ وَعَلَى الْمَسْبُوقِ فِيمَا
يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ بِلَا خِلَافٍ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالْمَذْهَبُ
الصَّحِيحُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ
وَالْجَهْرِيَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
"الْقَدِيمِ" : لَا
تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِ وَنَقَلَهُ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ
"الْقَدِيمِ"
وَ
"الْإِمْلَاءِ" ، وَمَعْلُومٌ
أَنَّ الْإِمْلَاءَ مِنْ الْجَدِيدِ،
وَنَقَلَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ "الْقَدِيمِ"
وَ
"الْإِمْلَاءِ"وَبَابِ
صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْجَدِيدِ. وَحَكَى
الرَّافِعِيُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ
وَجْهًا فِي السِّرِّيَّةِ، وَهُوَ شَاذٌّ
ضَعِيفٌ وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ
فِي الْجَهْرِيَّةِ فَالْمُرَادُ بِاَلَّتِي
يُشْرَعُ فِيهَا الْجَهْرُ، فَأَمَّا
ثَالِثَةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَرَابِعَةُ الْعِشَاءِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ
الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ
بِهِ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: لَا
تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِأَنْ
كَانَ أَصَمَّ أَوْ بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ
لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَفِي
وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ
لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ،
أَصَحُّهُمَا: تَجِبُ؛
لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ كَالسِّرِّيَّةِ:
وَالثَّانِي: لَا
ج / 3 ص -224-
تَجِبُ ؛
لِأَنَّهَا جَهْرِيَّةٌ. وَلَوْ جَهَرَ
الْإِمَامُ فِي السِّرِّيَّةِ أَوْ أَسَرَّ
فِي الْجَهْرِيَّةِ فَوَجْهَانِ ،
أَصَحُّهُمَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّ
الِاعْتِبَارَ بِفِعْلِ الْإِمَامِ
وَالثَّانِي: بِصِفَةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ.
وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ الْمَأْمُومُ فَهَلْ
يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّعَوُّذُ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ
"الْعُدَّةِ" وَ
"الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُمَا
أَصَحُّهُمَا: لَا ، إذْ لَا قِرَاءَةَ.
وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ
سِرِّيٌّ، وَإِذَا قُلْنَا: يَقْرَأُ
الْمَأْمُومُ فِي الْجَهْرِيَّةِ كُرِهَ لَهُ
أَنْ يَجْهَرَ بِحَيْثُ يُؤْذِي جَارَهُ ،
بَلْ يُسِرُّ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ لَوْ
كَانَ سَمِيعًا وَلَا شَاغِلَ مِنْ لَفْظ
وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَدْنَى
الْقِرَاءَةِ الْمُجْزِئَةِ كَمَا
سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
مَسَائِلِ الْفَرْعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لَهَا. قَالَ
السَّرَخْسِيُّ فِي
"الْأَمَالِي" :
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي هَذِهِ
السَّكْتَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ فِي دُعَاءِ
الِاسْتِفْتَاحِ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي
وَبَيْنَ خَطَايَايَ" إلَى آخِرِهِ.
"قُلْت" وَمُخْتَارُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ
وَالْقِرَاءَةِ سِرًّا، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ
بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ
حَقِيقِيٌّ فِي حَقِّ الْإِمَامِ
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى قِرَاءَتِهِ فِي
انْتِظَارِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَلَا
تَمْنَعُ تَسْمِيَتُهُ سُكُوتًا مَعَ
الذِّكْرِ فِيهِ كَمَا فِي السَّكْتَةِ بَعْدَ
تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ
سُكُوتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَهْرِ
قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَدَلِيلُ هَذِهِ
السَّكْتَةِ حَدِيثُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
"أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَعِمْرَانَ
بْنَ حُصَيْنٍ تَذَاكَرَا فَحَدَّثَ سَمُرَةُ
أَنَّهُ حَفِظَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله
عليه وسلم سَكْتَتَيْنِ سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ
وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
[الفاتحة:7] فَحَفِظَ ذَلِكَ سَمُرَةُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ
وَكَتَبَا فِي ذَلِكَ إلَى أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ رضي الله عنهم فَكَانَ فِي كِتَابِهِ
إلَيْهِمَا: أَنَّ سَمُرَةَ قَدْ حَفِظَ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا لَفْظُ
أَبِي دَاوُد، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ
بِمَعْنَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ
رَفْعِ الْمَأْمُومِ صَوْتَهُ حَدِيثٌ فِي
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
سَنَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْجَهْرِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي
قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ
قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ
فِي كُلِّ الرَّكَعَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ
السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ. هَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ
قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ
التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: الْقِرَاءَةُ
خَلْفَ الْإِمَامِ هِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ قَالَ:
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ
الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا قِرَاءَةَ عَلَى
الْمَأْمُومِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ
وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
لَا يَقْرَأُ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَتَجِبُ
الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّيَّةِ. وَقَالَ
ابْنُ عَوْنٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ1 تَجِبُ
الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي
السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: تَجِبُ عَلَى
الْمَأْمُومِ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
لَا تَقْرَأُ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
بَعْدَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ
فَذَكَرَ الْمَذَاهِبَ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ
الْمُنْذِرُ، وَحَكَى الْإِيجَابَ مُطْلَقًا
عَنْ مَكْحُولٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
وَحَكَى الْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ
الْإِمَامِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعل: أصحاب الحديث كما هو واضح
من السياق بعد (ط).
ج / 3 ص -225-
فَإِنْ
كَانَتْ جَهْرِيَّةً وَلَمْ يَسْكُتْ لَمْ
يَقْرَأْ، وَإِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً
اُسْتُحِبَّتْ الْفَاتِحَةُ وَسُورَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ عَلَى
الْمَأْمُومِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ
مَعْصِيَةٌ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
الْمُسْلِمِينَ الْقِرَاءَةُ خَلْفَ
الْإِمَامِ فِي السِّرِّيَّةِ
وَالْجَهْرِيَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ
وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَلَى السُّنَّةِ
وَأَحْوَطُهَا، ثُمَّ رَوَى الْأَحَادِيثَ
فِيهِ ثُمَّ رَوَاهُ بِأَسَانِيدِهِ
الْمُتَعَدِّدَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله وَأَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ
عَامِرٍ وَعِمْرَانَ وَعَبْدِ الله بْنِ
مُغَفَّلٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالَ:
وَرَوَيْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
التَّابِعِينَ. فَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَمَكْحُولٍ وَالشَّعْبِيِّ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ رحمهما الله.
وَاحْتُجَّ لِمَنْ قَالَ: لَا يَقْرَأُ
مُطْلَقًا بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ مَكِّيُّ بْنُ
إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مُوسَى
بْنِ أَبِي عَنْبَسَةَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ
شَدَّادٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ صَلَّى
خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ
الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ،
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَرَجُلٌ يَقْرَأُ
خَلْفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَنْ
الَّذِي يُخَالِجُنِي سُورَتِي؟" فَنَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَعَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ قَالَ:
"سُئِلَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفِي كُلِّ
صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَجَبَتْ هَذِهِ؟
فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
وَكُنْتُ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إلَيْهِ: مَا
أَرَى الْإِمَامَ إذَا أَمَّ الْقَوْمَ إلَّا
قَدْ كَفَاهُمْ"
وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم
"مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا
أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ"
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
"مَنْ قَرَأَ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَلَا
صَلَاةَ لَهُ " قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ "الْإِمَامُ ضَامِنٌ" وَلَيْسَ يَضْمَنُ
إلَّا الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ
قَالُوا: وَلِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ فَسَقَطَتْ
عَنْ الْمَأْمُومِ كَالسُّورَةِ فِي
الْجَهْرِيَّةِ وَكَرَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم
"لَا صَلَاةَ لِمَنْ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ،
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُصَلٍّ، وَلَمْ
يَثْبُتْ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ الْمَأْمُومِ
بِمُخَصَّصٍ صَرِيحٍ فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ
وَبِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ
فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا
فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ
وَرَاءَ إمَامِكُمْ قُلْنَا: نَعَمْ هَذَا يَا
رَسُولَ الله قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إلَّا
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ
حَسَنٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إسْنَادُهُ
جَيِّدٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ
رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
سَيَّارٍ عَنْ مَكْحُولٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ وَالْمُدَلِّسُ إذَا
قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ ، لَا يُحْتَجُّ
بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُحَدِّثِينَ ،
فَجَوَابُهُ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيَّ رَوَيَاهُ بِإِسْنَادِهِمَا
عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي
مَكْحُولٌ بِهَذَا فَذَكَرَهُ قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي إسْنَادِهِ: هَذَا
إسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ
قَاعِدَةِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ الْمُدَلِّسَ
إذَا رَوَى حَدِيثَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ قَالَ
فِي إحْدَاهُمَا عَنْ وَفِي الْأُخْرَى
حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي كَانَ
الطَّرِيقَانِ صَحِيحَيْنِ ، وَحُكِمَ
بِاتِّصَالِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ
ج / 3 ص -226-
حَصَلَ
ذَلِكَ هُنَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ
طُرُقٍ، وَكَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي بَعْضِهَا:
"صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم بَعْضَ الصَّلَاةِ الَّتِي يَجْهَرُ
فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: لَا
يَقْرَأَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إذَا جَهَرْتُ
بِالْقِرَاءَةِ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَقِبَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَالْحَدِيثُ
صَحِيحٌ عَنْ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وَلَهُ شَوَاهِدُ. ثُمَّ رَوَى
أَحَادِيثَ شَوَاهِدَ لَهُ. وَاحْتَجَّ
الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ
، خِدَاجٌ ، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:
وَإِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ ،
فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ" إلَى آخِرِ حَدِيثِ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ، وَقَدْ سَبَقَ بِطُولِهِ فِي
مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ،
وَأَطْنَبَ أَصْحَابُنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ،
وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي
احْتَجَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِإِسْقَاطِ
الْقِرَاءَةِ بِهَا أَنَّهَا كُلَّهَا
ضَعِيفَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَبَعْضُهَا مَوْقُوفٌ وَبَعْضُهَا مُرْسَلٌ
وَبَعْضُهَا فِي رُوَاتِهِ ضَعِيفٌ أَوْ
ضُعَفَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ
رحمه الله عِلَلَ جَمِيعِهَا وَأَوْضَحَ
تَضْعِيفَهَا، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لَوْ صَحَّ بِأَنَّهُ
مَحْمُولٌ عَلَى الْمَسْبُوقِ أَوْ عَلَى
قِرَاءَةِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَالْجَوَابُ
عَنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ
فَتُرِكَتْ لِاسْتِمَاعِهِ قِرَاءَةَ
الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْفَاتِحَةِ، وَعَنْ
رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ أَنَّهَا سَقَطَتْ
تَخْفِيفًا عَنْهُ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ
وَالله أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقِرَاءَةِ فِي
السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ بِقَوْلِ
الله تَعَالَى
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا}قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: هَذَا عِنْدَنَا فِي
الْقِرَاءَةِ الَّتِي تُسْمَعُ خَاصَّةً.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله
عنه قَالَ
"خَطَبَنَا
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ
لَنَا سُنَنَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا
فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ
لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ
فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ
فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فَقِيلَ
لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ
عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا
"فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ، فَقِيلَ لِمَ
لَمْ تَضَعْهُ هَاهُنَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ
كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضَعْتُهُ
هَاهُنَا، إنَّمَا وَضَعْتُ هَاهُنَا مَا
أَجْمَعُوا عَلَيْهِ" وَبِحَدِيثِ ابْنِ
أُكَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ
"مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ
الْقِرَاءَةِ" إلَى
آخِرِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ
السَّابِقَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى
الْمَانِعِينَ مُطْلَقًا. وَالْجَوَابُ عَنْ
الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ
الْمُسْتَحَبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ
بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ
الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ كَمَا سَبَقَ
بَيَانُهُ قَرِيبًا وَذَكَرْنَا دَلِيلَهُ
مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَرِيبًا
وَحِينَئِذٍ لَا يَمْنَعُهُ قِرَاءَةَ
الْفَاتِحَةِ
الثَّانِي: أَنَّ
الْقِرَاءَةَ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْإِنْصَاتِ
لَهَا فِي السُّورَةِ وَكَذَا الْفَاتِحَةُ
إذَا سَكَتَ الْإِمَامُ بَعْدَهَا، وَهَذَا
إذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ
حَيْثُ قُرِئَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الَّذِي
أَعْتَقِدُ رُجْحَانَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ
رَوَيْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ وَسُمِّيَتْ
قُرْآنًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ ،
وَرَوَيْنَا فِي
"سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ" عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُمَا
قَالَا: كَانَ النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي
الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ:
"وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا" فَمِنْ أَوْجُهٍ "مِنْهَا" الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا
فِي جَوَابِ الْآيَةِ "وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ
أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَيْسَتْ ثَابِتَةً
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
أَبُو دَاوُد فِي
"سُنَنِهِ" : هَذِهِ
اللَّفْظَةُ لَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ ثُمَّ
رَوَى
ج / 3 ص -227-
الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ
النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ
اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَخَالَفَ
التَّيْمِيُّ جَمِيعَ أَصْحَابِ قَتَادَةَ فِي
زِيَادَتِهِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ ثُمَّ رَوَى
عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَأَبِي حَاتِمٍ
الرَّازِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتْ
مَحْفُوظَةً قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ:
لَيْسَتْ هِيَ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ
الْبَيْهَقِيُّ طُرُقَهَا وَعِلَلَهَا
كُلَّهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي
أُكَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "مَا لِي
أُنَازَعُ الْقُرْآنَ" إلَى آخِرِهِ
فَجَوَابُهُ أَيْضًا مِنْ الْأَوْجُهِ
الثَّلَاثَةِ "الْوَجْهَيْنِ السَّابِقِينَ"
فِي جَوَابِ الْآيَةِ:
وَالثَّالِثُ: أَنَّ
الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ أُكَيْمَةَ
مَجْهُولٌ كَمَا سَبَقَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
ابْنَ أُكَيْمَةَ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ
إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُحَدِّثْ
عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ
عِنْدَ الزُّهْرِيِّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ
أَكْثَرُ مِنْ أَنْ: أُرَاهُ يُحَدِّثُ [عَنْ]
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ثُمَّ قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
الْحُمَيْدِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ:
فِي حَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ: هَذَا حَدِيثُ
رَجُلٍ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ غَيْرُ
الزُّهْرِيِّ فَقَطْ، وَلِأَنَّ الْحُفَّاظَ
مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ
يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ
وَهِيَ قَوْلُهُ: " فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ
الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه
وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ " لَيْسَتْ مِنْ
كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ هِيَ مِنْ
كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مُدْرَجَةٌ فِي
الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ
بَيْنَهُمْ. قَالَ ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ شَيْخُ
الْبُخَارِيِّ وَإِمَامُ أَهْلِ نَيْسَابُورَ،
قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو
دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَالْخَطَّابِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الله
ابْنِ بُحَيْنَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ
أُكَيْمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ
رَوَى عَنْ الْحَافِظِ يَعْقُوبَ بْنِ
سُفْيَانَ قَالَ: هَذَا خَطَأٌ لَا شَكَّ
فِيهِ وَالله أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِذَا
فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمَّنَ، وَهُوَ
سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ
يُؤَمِّنُ وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"
فَإِنْ كَانَ إمَامًا أَمَّنَ وَأَمَّنَ
الْمَأْمُومُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ
تُؤَمِّنُ بِتَأْمِينِهِ فَمَنْ وَافَقَ
تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يُجْهَرُ فِيهَا جَهَرَ الْإِمَامُ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا" وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ لَمَا عُلِّقَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ
عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْفَاتِحَةِ
فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا فِي الْجَهْرِ
كَالسُّورَةِ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ فِي
الْجَدِيدِ لَا يَجْهَرُ، وَقَالَ فِي
الْقَدِيمِ: يَجْهَرُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا
مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ لِمَا
رَوَى عَطَاءٌ " أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
كَانَ يُؤَمِّنُ وَيُؤَمِّنُونَ وَرَاءَهُ
حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً ":
وَالثَّانِي: لَا يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ
مَسْنُونٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجْهَرُ بِهِ
الْمَأْمُومُ كَالتَّكْبِيرَاتِ وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا
يَبْلُغُهُمْ تَأْمِينُ الْإِمَامِ لَا
يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى
الْجَهْرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جَهَرَ
؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى جَهْرٍ
لِلْإِبْلَاغِ، وَحَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى
هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ ، فَإِنْ نَسِيَ
الْإِمَامُ التَّأْمِينَ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ
وَجَهَرَ بِهِ لِيَسْمَعَ الْإِمَامُ
فَيَأْتِيَ بِهِ.
الشرح: الَّذِي أَخْتَارُهُ:
أُقَدِّمُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي
التَّأْمِينِ فَيَحْصُلُ مِنْهَا بَيَانُ مَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَمَا
يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِيمَا
نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، فَمِنْ ذَلِكَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم قَالَ "إذَا أَمَّنَ
الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ
وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَمَالِكٌ فِي
"الْمُوَطَّأِ" وَأَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ هَكَذَا، وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قَالَ
أَحَدُكُمْ آمِينَ، قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ
فِي السَّمَاءِ آمِينَ،
ج / 3 ص -228-
فَإِنْ
وَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ
لَهُ
"إذَا قَالَ
الْإِمَامُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلَا الضَّالِّينَ" فَقُولُوا: آمِينَ
فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ
الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ
"إذَا قَالَ الْقَارِئُ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ" فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ: آمِينَ
فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ "إذَا
أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ
تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ مِنْ
صَحِيحِهِ.
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجُرٍ رضي الله عنه
قَالَ:
"سَمِعْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ "غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"
فَقَالَ: آمِينَ، مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي رِوَايَةِ
أَبِي دَاوُد " رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ "
وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ كُلُّ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ
إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ الْعَبْدَيَّ
جَرَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَوَثَّقَهُ غَيْرُهُ
وَقَدْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَنَاهِيكَ
بِهِ شَرَفًا وَتَوْثِيقًا لَهُ وَهَكَذَا
رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عَنْبَسٍ عَنْ وَائِلِ
بْنِ حُجُرٍ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ
فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ
أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ كَذَلِكَ
وَرَوَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيُّ وَقَالَ فِيهِ "قَالَ: آمِينَ
خَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ" وَرَوَاهُ
الْأَكْثَرُونَ عَنْ سَلَمَةَ بِإِسْنَادِهِ
"قَالُوا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: أَخْطَأَ
شُعْبَةُ إنَّمَا هُوَ جَهَرَ بِهَا، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُ
سُفْيَانَ أَصَحُّ فِي هَذَا مِنْ حَدِيثِ
شُعْبَةَ قَالَ: وَأَخْطَأَ فِيهِ شُعْبَةُ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو
زُرْعَةَ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ
الْقُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ آمِينَ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ،
وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَهَذَا
لَفْظُهُ وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ
الله: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد
"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا
تَلَا "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ" قَالَ: آمِينَ حَتَّى يَسْمَعَ
مَنْ يَلِيهِ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ"
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ "فَيَرْتَجُّ
بِهَا الْمَسْجِدُ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْأُمِّ: "أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ الْأَئِمَّةَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ وَمَنْ بَعْدَهُ يَقُولُونَ:
آمِينَ وَمَنْ خَلْفَهُمْ: آمِينَ حَتَّى إنَّ
لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً، وَذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْأَثَرَ
عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ تَعْلِيقًا فَقَالَ:
وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ، أَمَّنَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى
إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً " وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّ تَعْلِيقَ الْبُخَارِيِّ
إذَا كَانَ بِصِيغَةِ جَزْمٍ مِثْلَ هَذَا،
كَانَ صَحِيحًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ.
هَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ
بِأَحَادِيثِ الْفَصْلِ.
وَأَمَّا لُغَاتُهُ فَفِي آمِينَ لُغَتَانِ
مَشْهُورَتَانِ "أَفْصَحُهُمَا"
وَأَشْهَرُهُمَا وَأَجْوَدُهُمَا عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ آمِينَ بِالْمَدِّ بِتَخْفِيفِ
الْمِيمِ وَبِهِ جَاءَتْ رِوَايَاتُ
الْحَدِيثِ، وَالثَّانِيَةُ أَمِينَ
بِالْقَصْرِ وَبِتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَكَاهَا
ثَعْلَبٌ وَآخَرُونَ، وَأَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ
عَلَى ثَعْلَبٍ وَقَالُوا: الْمَعْرُوفُ
الْمَدُّ وَإِنَّمَا جَاءَتْ مَقْصُورَةً فِي
ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَهَذَا جَوَابٌ
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ الَّذِي جَاءَ
فِيهَا فَاسِدٌ مِنْ ضَرُورِيَّةِ الْقَصْرِ.
ج / 3 ص -229-
وَحَكَى
الْوَاحِدِيُّ لُغَةً ثَالِثَةً آمِينَ
بِالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ مُخَفَّفَةَ
الْمِيمِ، وَحَكَاهَا عَنْ حَمْزَةَ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ
آمِّينَ بِالْمَدِّ أَيْضًا وَتَشْدِيدِ
الْمِيمِ، قَالَ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحُسَيْنِ أَبِي
الْفَضْلِ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ
عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ
قَاصِدِينَ إلَيْكَ وَأَنْتَ الْكَرِيمُ مِنْ
أَنْ تُخَيِّبَ قَاصِدًا.
وَحَكَى لُغَةَ الشَّدِّ أَيْضًا الْقَاضِي
عِيَاضٌ وَهِيَ شَاذَّةٌ مُنْكَرَةٌ
مَرْدُودَةٌ، وَنَصَّ ابْنُ السِّكِّيتِ
وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا
مِنْ لَحْنِ الْعَوَامّ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا
فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهَا
خَطَأٌ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي
"تَعْلِيقِهِ" : لَا يَجُوزُ
تَشْدِيدُ الْمِيمِ قَالُوا: وَهَذَا أَوَّلُ
لَحْنٍ سُمِعَ مِنْ الْحُسَيْنِ بْنِ
الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ حِينَ دَخَلَ
خُرَاسَانَ، وَقَالَ صَاحِبُ
"التَّتِمَّةِ" : لَا يَجُوزُ
التَّشْدِيدُ فَإِنْ شَدَّدَ مُتَعَمِّدًا
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي
"التَّبْصِرَةِ" وَالشَّيْخُ
نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ لَا تَعْرِفُهُ
الْعَرَبُ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ لَا
تَبْطُلُ بِهِ لِقَصْدِهِ الدُّعَاءَ وَهَذَا
أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ
"التَّتِمَّةِ" .
قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: آمِينَ
مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ اسْمِ الِاسْتِجَابَةِ.
كَمَا أَنَّ صَهٍ مَوْضُوعَةٌ لِلسُّكُوتِ
قَالُوا: وَحَقُّ آمِينَ الْوَقْفُ.؛
لِأَنَّهَا كَالْأَصْوَاتِ فَإِنْ حَرَّكَهَا
مُحَرِّكٌ وَوَصَلَهَا بِشَيْءٍ بَعْدَهَا
فَتَحَهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ
قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ تُكْسَرْ لِثِقَلِ
الْحَرَكَةِ بَعْدَ الْيَاءِ كَمَا فَتَحُوا
أَيْنَ وَكَيْفَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي مَعْنَاهَا "فَقَالَ" الْجُمْهُورُ مِنْ
أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ وَالْفِقْهِ:
مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ "وَقِيلَ"
لِيَكُنَّ كَذَلِكَ "وَقِيلَ" افْعَلْ
"وَقِيلَ" لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا "وَقِيلَ"
لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا غَيْرُكَ "وَقِيلَ"
هُوَ طَابَعُ الله عَلَى عِبَادِهِ يَدْفَعُ
بِهِ عَنْهُمْ الْآفَاتِ "وَقِيلَ" هُوَ
كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ لَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ "وَقِيلَ" هُوَ
اسْمُ الله تَعَالَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ "حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ
لَلَجَّةً" هِيَ بِفَتْحِ اللَّامَيْنِ
وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ
الْأَصْوَاتِ، وَقَوْلُهُ "لِأَنَّهُ تَابِعٌ
لِلْفَاتِحَةِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْجَهْرِ
حُكْمَهَا" اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ تَابِعٌ،
عَنْ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَقَوْلُهُ؛
لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ فِي الصَّلَاةِ
فَلَا يَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ قَالَ
الْقَلَعِيُّ: قَوْلُهُ فِي الصَّلَاةُ
احْتِرَازٌ مِنْ الْأَذَانِ، قَالَ:
وَقَوْلُهُ مَسْنُونٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فَلَوْ
حَذَفَهُ لَمْ تُنْتَقَضْ الْعِلَّةُ
وَإِنَّمَا أَتَى بِهِ لِتَقْرِيبِ الشَّبَهِ
بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَقَوْلُهُ:
وَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ
أَمَّنَ الْمَأْمُومُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَقُولَ: وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ
التَّأْمِينَ لِيَتَنَاوَلَ تَرْكَهُ عَامِدًا
وَنَاسِيًا فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ
بِذَلِكَ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
"الْأُمِّ" : فَإِنْ
تَرَكَهُ.
وَأَمَّا عَطَاءٌ الرَّاوِي هُنَا عَنْ ابْنِ
الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَطَاء بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَحْوَالَهُ فِي
بَابِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ
فَهُوَ أَبُو خُبَيْبٍ - بِضَمِّ الْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ - وَيُقَالُ لَهُ أَبُو بَكْرٍ
عَبْدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ
الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ وَأُمُّهُ
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
رضي الله عنهم وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ
وُلِدَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ،
وُلِدَ بَعْدَ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنْ
الْهِجْرَةِ وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى
مِنْهَا، كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا
لِلرَّحِمِ فَصِيحًا شُجَاعًا، وَلِيَ
الْخِلَافَةَ سَبْعَ سِنِينَ وَقَتَلَهُ
الْحَجَّاجُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ رضي الله عنه وَالله أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ:
فَفِيهِ مَسَائِلُ إحْدَاهَا: التَّأْمِينُ
سُنَّةٌ لِكُلِّ مُصَلٍّ فَرَغَ مِنْ
الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ الْإِمَامُ
ج / 3 ص -230-
وَالْمَأْمُومُ، وَالْمُنْفَرِدُ، وَالرَّجُلُ
وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، وَالْقَائِمُ
وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ وَالْمُفْتَرِضُ
وَالْمُتَنَفِّلُ فِي الصَّلَاةِ
السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَلَا خِلَافَ
فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَنُّ التَّأْمِينُ
لِكُلِّ مَنْ فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ
سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَوْ خَارِجَهَا.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَكِنَّهُ فِي
الصَّلَاةِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا
الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ
سِرِّيَّةً أَسَرَّ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ
بِالتَّأْمِينِ تَبَعًا لِلْقِرَاءَةِ وَإِنْ
كَانَتْ جَهْرِيَّةً وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ
اُسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ
بِالتَّأْمِينِ بِلَا خِلَافٍ، نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ
عَلَيْهِ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَفِي
تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ إشَارَةٌ إلَى
وَجْهٍ فِيهِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ
أَوْ الْمُصَنِّفِ بِلَا شَكٍّ، وَأَمَّا
الْمُنْفَرِدُ فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ
بِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْجَهْرُ
بِالتَّأْمِينِ كَالْإِمَامِ، مِمَّنْ صَرَّحَ
بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي
كِتَابَيْهِ
"الْمَجْمُوعِ" وَ
"الْمُقْنِعِ" وَالشَّيْخُ
نَصْرٌ وَصَاحِبُ
"الْعُدَّةِ" وَ
"الْبَغَوِيُّ"
وَصَاحِبُ الْبَيَانِ
"وَالرَّافِعِيُّ"
وَغَيْرُهُمْ. وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي
حُسَيْنٍ أَنَّهُ يُسِرُّ بِهِ وَهُوَ شَاذٌّ
ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ
الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
"الْجَدِيدِ": لَا يَجْهَرُ،
وَفِي
"الْقَدِيمِ" يَجْهَرُ ،
وَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ أَوْ
مِنْ الْمُصَنِّفِ بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ
الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي
"الْمُخْتَصَرِ" وَهُوَ مِنْ
الْجَدِيدِ: يَرْفَعُ الْإِمَامُ صَوْتَهُ
بِالتَّأْمِينِ وَيُسْمِعُ مَنْ خَلْفَهُ
أَنْفُسَهُمْ.
وَقَالَ فِي
"الْأُمِّ" : يَرْفَعُ
الْإِمَامُ بِهَا صَوْتَهُ فَإِذَا قَالَهَا
قَالُوهَا وَأَسْمَعُوا أَنْفُسَهُمْ، وَلَا
أُحِبُّ أَنْ يَجْهَرُوا ، فَإِنْ فَعَلُوا
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، هَذَا نَصُّهُ
بِحُرُوفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ رَأَى فِيهِ نَصًّا فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْجَدِيدِ.
ثُمَّ لِلْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ طُرُقٌ
أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا وَاَلَّتِي قَالَهَا
الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ:
وَالثَّانِي: يُسِرُّ. قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَنَقَلَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ فِي
"الْبَسِيطِ" عَنْ
أَصْحَابِنَا:
وَالثَّانِي: يَجْهَر قَوْلًا
وَاحِدًا:
وَالثَّالِثُ: إنْ كَثُرَ
الْجَمْعُ وَكَبُرَ الْمَسْجِدُ جَهَرَ،
وَإِنْ قَلُّوا أَوْ صَغُرَ الْمَسْجِدُ
أَسَرَّ
وَالرَّابِعُ: حَكَاهُ
الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا
أَنَّهُ إنْ لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ جَهَرَ
وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَالْأَصَحُّ مِنْ
حَيْثُ الْحُجَّةُ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ
بِهِ، مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي
"التَّنْبِيهِ"
وَالْغَزَالِيُّ فِي
"الْوَجِيزِ" وَالْبَغَوِيُّ
وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِهِ
الْمَحَامِلِيُّ فِي
"الْمُقْنِعِ" وَآخَرُونَ،
وَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مِمَّا يُفْتَى فِيهَا عَلَى
"الْقَدِيمِ" عَلَى مَا
سَبَقَ إيضَاحُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا
الشَّرْحِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ،
أَمَّا إذَا لَمْ يُؤَمِّنْ الْإِمَامُ
فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ التَّأْمِينُ
جَهْرًا بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي
"الْأُمِّ" ، وَاتَّفَقُوا
عَلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ الْإِمَامُ فَيَأْتِي
بِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَوَاءٌ تَرَكَهُ
الْإِمَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا،
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ،
مِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ
تَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْلِيقِ
وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي
"الْأُمِّ" فَإِنَّهُ قَالَ:
وَإِنْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ قَالَهُ مَنْ
خَلْفَهُ وَأَسْمَعَهُ لَعَلَّهُ يَذْكُرُ
فَيَقُولُهُ وَلَا يَتْرُكُونَهُ لِتَرْكِهِ،
كَمَا لَوْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ
وَالتَّسْلِيمَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَرْكُهُ.
هَذَا نَصُّهُ.
الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ
أَنْ يَقَعَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ مَعَ
تَأْمِينِ الْإِمَامِ لَا قَبْلَهُ وَلَا
بَعْدَهُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"فَمَنْ وَافَقَ
ج / 3 ص -231-
تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ وَالْمَلَائِكَةِ دَفْعَةً
وَاحِدَةً، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى هَذَا مِنْ
أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي
كُتُبِهِ وَالرَّافِعِيُّ وَقَدْ أَشَارَ
إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّنَ
الْمَأْمُومُ مَعَهُ. قَالُوا: فَإِنْ فَاتَهُ
التَّأْمِينُ مَعَهُ أَمَّنَ بَعْدَهُ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَانَ شَيْخِي
يَقُولُ: لَا يُسْتَحَبُّ مُقَارَنَةُ
الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي هَذَا. قَالَ
الْإِمَامُ يُمْكِنُ تَعْلِيلُ اسْتِحْبَابِ
الْمُقَارَنَةِ بِأَنَّ الْقَوْمَ لَا
يُؤَمِّنُونَ لِتَأْمِينِهِ وَإِنَّمَا
يُؤَمِّنُونَ لِقِرَاءَتِهِ وَقَدْ فَرَغَتْ
قِرَاءَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صلى
الله عليه وسلم:
"إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا" فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ: "إذَا قَالَ الْإِمَامُ
"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ" فَقُولُوا آمِينَ" وَكِلَاهُمَا
فِي
الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَبَقَ
فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. فَيُحْمَلُ
الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إذَا
أَرَادَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ فَأَمِّنُوا
لِيُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ
وَغَيْرُهُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ إذَا رَحَلَ
الْأَمِيرُ فَارْحَلُوا، أَيْ إذَا تَهَيَّأَ
لِلرَّحِيلِ فَتَهَيَّئُوا لِيَكُنْ
رَحِيلُكُمْ مَعَهُ وَبَيَانُهُ فِي
الْحَدِيثِ الْآخَرِ "إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ
آمِينَ، وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: آمِينَ
فَوَافَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ" فَظَاهِرُهُ
الْأَمْرُ بِوُقُوعِ تَأْمِينِ الْجَمِيعِ فِي
حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ
الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَاهُ
الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْأُمِّ: وَلَا يُقَالُ
آمِينَ إلَّا بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَإِنْ
لَمْ يَقُلْ لَمْ يَقْضِهِ فِي مَوْضِعٍ
غَيْرِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا تَرَكَ
التَّأْمِينَ حَتَّى اشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ
فَاتَ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي: إنْ تَرَكَ
التَّأْمِينَ نَاسِيًا فَذَكَرَهُ قَبْلَ
قِرَاءَةِ السُّورَةِ أَمَّنَ، وَإِنْ
ذَكَرَهُ فِي الرُّكُوعِ لَمْ يُؤَمِّنْ،
وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْقِرَاءَةِ فَهَلْ
يُؤَمِّنُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ
الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ
الْعِيدِ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ،
وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ،
وَقَالَ: الْأَصَحُّ لَا يُؤَمِّنُ ، وَقَطَعَ
غَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَمِّنُ وَهُوَ
ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ الْبَغَوِيّ: فَلَوْ قَرَأَ
الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ مَعَ الْإِمَامِ
وَفَرَغَ مِنْهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ
فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُؤَمِّنَ حَتَّى
يُؤَمِّنَ الْإِمَامُ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُخْتَارُ أَوْ
الصَّوَابُ أَنَّهُ يُؤَمِّنُ لِقِرَاءَةِ
نَفْسِهِ، ثُمَّ يُؤَمِّنُ مَرَّةً أُخْرَى
بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ
فِي
الْأَمَالِي: وَإِذَا أَمَّنَ
الْمَأْمُومُ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ ثُمَّ
قَرَأَ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ أَمَّنَ
ثَانِيًا لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ، قَالَ فَلَوْ
فَرَغَا مِنْ الْفَاتِحَةِ مَعًا كَفَاهُ أَنْ
يُؤَمِّنَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
فرع: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا
أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
أَنْ لَا يَصِلَ لَفْظَةَ آمِينَ بِقَوْلِهِ:
وَلَا الضَّالِّينَ، بَلْ بِسَكْتَةٍ
لَطِيفَةٍ جِدًّا ، لِيُعْلَمَ أَنَّ آمِينَ
لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لِلْفَصْلِ
اللَّطِيفِ نَظَائِرُهَا فِي السُّنَّةِ
وَغَيْرِهَا سَتَرَاهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِمَّنْ نَصَّ
عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكْتَةِ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ، وَأَبُو
الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ فِي
الْبَسِيطِ وَالْبَغَوِيُّ
فِي التَّهْذِيبِ وَصَاحِبُ
الْبَيَانِ وَالرَّافِعِيُّ
وَأَمَّا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ
يُتْبِعُ التَّأْمِينَ الْقِرَاءَةَ
فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ
الْجَمَاعَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَا
يَسْكُتُ طَوِيلًا. وَالله أَعْلَمُ.
فرع: السُّنَّةُ فِي
التَّأْمِينِ أَنْ يَقُولَ آمِينَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُ لُغَاتِهَا وَأَنَّ
الْمُخْتَارَ "آمِينَ" بِالْمَدِّ
ج / 3 ص -232-
وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَبِهِ جَاءَتْ
رِوَايَاتُ الْأَحَادِيثِ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي
الْأُمِّ: لَوْ قَالَ آمِينَ
رَبَّ الْعَالَمِينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
ذِكْرِ الله تَعَالَى كَانَ حَسَنًا لَا
تَنْقَطِعُ الصَّلَاةُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ
الله تَعَالَى: قَالَ: وَقَوْلُهُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ
الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا
فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي
التَّأْمِينِ
قَدْ ذَكَرْنَا: أَنَّ
مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهُ لِلْإِمَامِ
وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَأَنَّ
الْإِمَامَ وَالْمُنْفَرِدَ يَجْهَرَانِ بِهِ،
وَكَذَا الْمَأْمُومُ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَالْعَبْدَرِيُّ الْجَهْرَ بِهِ
لِجَمِيعِهِمْ عَنْ طَاوُسٍ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ
الْمُنْذِرِ وَدَاوُد، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ: يُسِرُّونَ بِالتَّأْمِينِ،
وَكَذَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَأْمُومِ
وَعَنْهُ فِي الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ
إحْدَاهُمَا: يُسِرُّ بِهِ:
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَأْتِي
بِهِ، وَكَذَا الْمُنْفَرِدُ عِنْدَهُ،
وَدَلِيلُنَا: الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
السَّابِقَةُ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي
الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ،
بَلْ احْتَجَّتْ الْحَنَفِيَّةُ بِرِوَايَةِ
شُعْبَةَ وَقَوْلِهِ: "وَخَفَضَ بِهَا
صَوْتَهُ".
وَاحْتَجَّتْ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ
سُنَّةَ الدُّعَاءِ بِآمِينَ لِلسَّامِعِ
دُونَ الدَّاعِي، وَآخِرُ الْفَاتِحَةِ
دُعَاءٌ فَلَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ؛
لِأَنَّهُ دَاعٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ: هَذَا غَلَطٌ، بَلْ إذَا
اُسْتُحِبَّ التَّأْمِينُ لِلسَّامِعِ
فَالدَّاعِي أَوْلَى بِالِاسْتِحْبَابِ،
وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "فَإِنْ
لَمْ يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ وَأَحْسَنَ
غَيْرَهَا، قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ، وَهَلْ
يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بِقَدْرِ
حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ، كَمَا إذَا
فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ طَوِيلٍ لَمْ
يُعْتَبَرْ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي
يَوْمٍ بِقَدْرِ سَاعَاتِ الْأَدَاءِ،
وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ عَدَدُ آيِ
الْفَاتِحَةِ اُعْتُبِرَ قَدْرُ حُرُوفِهَا،
وَيُخَالِفُ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لَا
يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ فِي
السَّاعَاتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَإِنْ لَمْ
يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ
أَنْ يَأْتِيَ بِذِكْرٍ، لِمَا رَوَى عَبْدُ
الله بْنُ أَبِي أَوْفَى: رضي الله عنه
"أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي
لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْفَظَ شَيْئًا مِنْ
الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي
الصَّلَاةِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ، وَالله أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِالله"
وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
الصَّلَاةِ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ فِيهِ
عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى بَدَلٍ كَالْقِيَامِ.
وَفِي الذِّكْرِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ رضي الله عنه: يَأْتِي مِنْ
الذِّكْرِ بِقَدْرِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؛
لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَهَا فَاعْتُبِرَ
قَدْرُهَا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ رضي الله
عنه: يَجِبُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ
صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ
كَالتَّيَمُّمِ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيهِ
عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
وَإِنْ أَحْسَنَ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ
وَأَحْسَنَ غَيْرَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ،
أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَقْرَأُ الْآيَةَ
ثُمَّ يَقْرَأُ سِتَّ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا؛
لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهَا
انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ
يُحْسِنُ بَعْضَهَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ
فِيمَا لَمْ يُحْسِنْ إلَى غَيْرِهَا، كَمَا
لَوْ عَدِمَ بَعْضَ الْمَاءِ، وَالثَّانِي:
يَلْزَمُهُ تَكْرَارُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا
أَقْرَبُ إلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ
شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ الذِّكْرِ
قَامَ بِقَدْرِ سَبْعِ آيَاتٍ، وَعَلَيْهِ
أَنْ يَتَعَلَّمَ ، فَإِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ
وَلَمْ يَفْعَلْ وَصَلَّى، لَزِمَهُ أَنْ
يُعِيدَ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ مَعَ
الْقُدْرَةِ، فَأَشْبَهَ إذَا تَرَكَهَا،
وَهُوَ يُحْسِنُ.
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا:
إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ
الْقَدْرِ بِتَعَلُّمٍ ، أَوْ
ج / 3 ص -233-
تَحْصِيلُ مُصْحَفٍ يَقْرَؤُهَا فِيهِ
بِشِرَاءٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ،
فَإِنْ كَانَ فِي لَيْلٍ أَوْ ظُلْمَةٍ
لَزِمَهُ تَحْصِيلُ السِّرَاجِ عِنْدَ
الْإِمْكَانِ، فَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ
عِنْدَ الْإِمْكَانِ أَثِمَ وَلَزِمَهُ
إعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَبْلَ
قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَدَلِيلُنَا:
الْقَاعِدَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْأُصُولِ
وَالْفُرُوعِ: أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مَقْدُورٌ
لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَهَذَا
الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَجِبُ
إعَادَةُ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَبْلَ
قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ هُوَ الْمَذْهَبُ،
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَفِي
الْحَاوِي وَجْهٌ آخَرُ:
أَنَّهُ تَجِبُ إعَادَةُ مَا صَلَّى مِنْ
حِينِ أَمْكَنَهُ التَّعْلِيمُ إلَى أَنْ
شَرَعَ فِي التَّعْلِيمِ فَقَطْ، وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ
الْفَاتِحَةُ لِتَعَذُّرِ التَّعْلِيمِ
لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ بَلَادَتِهِ أَوْ
عَدَمِ الْمُعَلِّمِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ تَرْجَمَةُ
الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ
يَنْظُرُ إنْ أَحْسَنَ غَيْرَهَا مِنْ
الْقُرْآنِ لَزِمَهُ قِرَاءَةُ سَبْعِ آيَاتٍ،
وَلَا يُجْزِيهِ دُونَ سَبْعٍ، وَإِنْ كَانَتْ
طِوَالًا بِلَا خِلَافٍ.
وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي
التَّبْصِرَةِ وَآخَرُونَ: اتِّفَاقَ
الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا، وَلَا يَضُرُّ
طُولُ الْآيَاتِ وَزِيَادَةُ حُرُوفِهَا عَلَى
حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ
لَا يَنْقُصَ عَنْ حُرُوفِهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ
جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلَيْنِ، وَحَكَاهُ
جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ فِي طَرِيقَتَيْ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ
صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ: اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَبَعْضُهُمْ حَكَاهُ
قَوْلَيْنِ وَبَعْضُهُمْ حَكَاهُ وَجْهَيْنِ،
وَنَقَلَهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
تَعْلِيقِهِ قَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ
أَنْ تَكُونَ بِعَدَدِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ،
وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ
وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ: تَجِبُ
سَبْعُ آيَاتٍ، طِوَالًا كُنَّ أَوْ قِصَارًا.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ
ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا
بِاتِّفَاقِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْقِصَ
حُرُوفَ الْآيَاتِ السَّبْعِ عَنْ حُرُوفِ
الْفَاتِحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنَّ كُلَّ
آيَةٍ بِقَدْرِ آيَةٍ، بَلْ يُجْرِيهِ أَنْ
يَجْعَلَ آيَتَيْنِ بَدَلَ آيَةٍ، بِحَيْثُ
يَكُونُ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ لَا يَنْقُصُ
عَنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَالْحَرْفُ
الْمُشَدَّدُ بِحَرْفَيْنِ فِي الْفَاتِحَةِ
وَالْبَدَلِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ فِي
التَّبْصِرَةِ وَهُوَ
وَاضِحٌ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ أَنْ
يَعْدِلَ حُرُوفَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ الْبَدَلِ
حُرُوفُ آيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ عَلَى
التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ مِثْلَهَا أَوْ
أَطْوَلَ ، حَكَاهُ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ
وَضَعَّفُوهُ.
وَالثَّالِثُ: يَكْفِي سَبْعُ
آيَاتٍ نَاقِصَاتٍ كَمَا يَكْفِي صَوْمٌ
قَصِيرٌ عَنْ طَوِيلٍ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ:
لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ السَّاعَاتِ إلَّا
بِمَشَقَّةٍ، لَا يُسَلَّمُ، بَلْ يُمْكِنُهُ
ذَلِكَ بِالِاسْتِظْهَارِ بِأَطْوَلَ مِنْهُ
كَمَا قُلْنَا هُنَا ، ثُمَّ إنْ لَمْ
يُحْسِنْ سَبْعَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةً
بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَانَ لَهُ
الْعُدُولُ إلَى مُفَرَّقَةٍ بِلَا خِلَافٍ.
نُصَّ عَلَيْهِ فِي
الْأُمِّ ، وَاتَّفَقُوا
عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا
الْمَسْأَلَةَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
لَوْ كَانَتْ الْآيَةُ الْفَرْدَةُ لَا
تُغَيِّر1ُ مَعْنًى مَنْظُومًا إذَا قُرِئَتْ
وَحْدَهَا كَقَوْلِهِ:
{ثُمَّ نَظَرَ}
، فَيَظْهَرُ أَنْ لَا نَأْمُرَهُ بِقِرَاءَةِ
هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ،
وَنَجْعَلَهُ لَا يُحْسِنُ قُرْآنًا أَصْلًا ،
فَسَيَأْتِي بِالذِّكْرِ. وَالْمُخْتَارُ: مَا
سَبَقَ عَنْ إطْلَاقِ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ
كَانَ يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ
بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ، فَوَجْهَانِ
حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ، فِي الْأَمَالِي
وَغَيْرِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعلها (لا تفيد معنى) وإنما
إصابها التصحيف والله أعلم.
ج / 3 ص -234-
أَحَدُهُمَا: لَا تُجْزِيهِ الْمُتَفَرِّقَةُ، بَلْ تَجِبُ قِرَاءَةُ سَبْعِ
آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي
الْبَسِيطِ وَالرَّافِعِيُّ
أَصَحُّهُمَا: تُجْزِيهِ
الْمُتَفَرِّقَةُ مِنْ سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ،
وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
تَعْلِيقِهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ
وَصَاحِبُ
الْبَيَانِ وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ فِي
الْأُمِّ. أَمَّا إذَا كَانَ
يُحْسِنُ دُونَ سَبْعِ آيَاتٍ كَآيَةٍ أَوْ
آيَتَيْنِ فَوَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: يَقْرَأُ مَا
يُحْسِنُهُ ثُمَّ يَأْتِي بِالذِّكْرِ عَنْ
الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْبَاقِي
فَانْتَقَلَ إلَى بَدَلِهِ. وَالثَّانِي:
يَجِبُ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُهُ حَتَّى
يَبْلُغَ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهُ
أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ الذِّكْرِ، فَلَوْ
لَمْ يُحْسِنْ إلَّا بَعْضَ الْفَاتِحَةِ
وَلَمْ يُحْسِنْ بَدَلًا مِنْ الذِّكْرِ
وَجَبَ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُهُ حَتَّى
يَبْلُغَ قَدْرَهَا بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ
أَحْسَنَ آيَةً أَوْ آيَاتٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ
وَلَمْ يُحْسِنْ جَمِيعَهَا، فَإِنْ لَمْ
يُحْسِنْ لِبَاقِيهَا بَدَلًا، وَجَبَ
تَكْرَارُ مَا أَحْسَنَهُ حَتَّى يَبْلُغَ
قَدْرَ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ
أَحْسَنَ لِبَاقِيهَا بَدَلًا فَفِيهِ خِلَافٌ
حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا وَجْهَيْنِ،
وَكَذَا حَكَاهُمَا الْجُمْهُورُ فِي
طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِيِّينَ وَخُرَاسَانَ
وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي
التَّنْبِيهِ قَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ
حَكَاهُمَا الشَّيْخُ نَصْرٌ فِي
تَهْذِيبِهِ ، وَأَصَحُّهُمَا:
بِاتِّفَاقِهِمْ: أَنَّهُ يَجِبُ قِرَاءَةُ
مَا يُحْسِنُهُ مِنْ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ
يَأْتِي بِبَدَلِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ
الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ أَصْلًا
وَبَدَلًا.
وَالثَّانِي: يَجِبُ
تَكْرَارُ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ الْفَاتِحَةِ،
حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرَهَا. وَيَجْرِي
الْخِلَافُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ الَّذِي
يُحْسِنُهُ قُرْآنًا أَوْ ذِكْرًا، صَرَّحَ
بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ،
لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى
الذِّكْرِ إلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ
الْقُرْآنِ.
"فَإِنْ قُلْنَا"
بِالْأَصَحِّ: إنَّهُ يَقْرَأُ مَا يُحْسِنُهُ
وَيَأْتِي بِالْبَدَلِ، وَجَبَ التَّرْتِيبُ
بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ أَوَّلَ
الْفَاتِحَةِ أَتَى بِهِ، ثُمَّ يَأْتِي
بِالْبَدَلِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ. وَإِنْ
كَانَ يَحْفَظُ آخِرَهَا أَتَى بِالْبَدَلِ
ثُمَّ قَرَأَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنْهَا،
فَلَوْ عَكَسَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ.
وَحَكَى الْبَغَوِيّ وَجْهًا: أَنَّهُ لَا
يَجِبُ هَذَا التَّرْتِيبُ، بَلْ كَيْفَ أَتَى
بِهِ أَجْزَأَهُ، فَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: اتَّفَقَ
أَئِمَّتُنَا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ
وَاجِبٌ، وَعُلِّلَ بِعِلَّتَيْنِ
إحْدَاهُمَا: أَنَّ
التَّرْتِيبَ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ الْبَدَلُ قَبْلَ
النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْفَاتِحَةِ،
فَلْيُقَدِّمْهُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ
الْبَدَلَ لَهُ حُكْمُ الْمُبْدَلِ،
وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ فِي نِصْفَيْ
الْفَاتِحَةِ وَكَذَا فِي نِصْفِهَا، وَمَا
قَامَ مَقَامَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْوَطَ وَالْمُسْتَحَبَّ
لِمَنْ يُحَفِّظُ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ
أَنْ يُكَرِّرَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ،
وَيَأْتِيَ مَعَ ذَلِكَ بِبَدَلِ مَا زَادَ
عَلَيْهَا؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ،
وَمِمَّنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الشَّيْخُ
أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ، هَذَا
حُكْمُ مَنْ يُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ
الْقُرْآنِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَتَى
أَحْسَنَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَا
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا، وَيَنْتَقِلَ
إلَى الذِّكْرِ، فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ دُونَ
سَبْعٍ، فَهَلْ يُكَرِّرُهُ؟ أَمْ يَأْتِي
بِبَدَلِ الْبَاقِي؟ فِيهِ الْخِلَافُ
السَّابِقُ ,
فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهُ وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ
بَدَلَهَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ
عِنْدَنَا، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا فِيهِ
بِحَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي
الله عنهما قَالَ:
"جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي لَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ
شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي مِنْهُ
قَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالله
أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِالله قَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا لِلَّهِ
فَمَا لِي؟ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي
وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي. فَلَمَّا
قَامَ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَقَالَ
رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم أَمَّا
هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَهُ مِنْ الْخَيْرِ" . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَلَكِنَّهُ
مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ السَّكْسَكِيِّ
وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ
رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ:
"كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ،
فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فِي نَاحِيَةِ
الْمَسْجِدِ فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله
عليه وسلم
ج / 3 ص -235-
يَرْمُقُهُ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَرَدَّ
عَلَيْهِ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ
لَمْ تُصَلِّ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ
فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، قَالَ مَرَّتَيْنِ
أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ
أَوْ الرَّابِعَةِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك
بِالْحَقِّ لَقَدْ اجْتَهَدْتُ فِي نَفْسِي
فَعَلِّمْنِي وَأَرِنِي، فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَدْتَ
أَنْ تُصَلِّيَ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ
اللَّهُ، ثُمَّ تَشَهَّدْ فَأَقِمْ، ثُمَّ
كَبِّرْ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ
فَاقْرَأْ بِهِ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ
وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ، ثُمَّ ارْكَعْ
فَاطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ اعْتَدِلْ
قَائِمًا - وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الذِّكْرِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ: أَنَّهُ
يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ الله
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَالله أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِالله، فَتَجِبُ هَذِهِ
الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ وَتَكْفِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا
تَتَعَيَّنُ وَيَجِبُ مَعَهَا كَلِمَتَانِ
مِنْ الذِّكْرِ لِيَصِيرَ سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ
مَقَامَ سَبْعِ آيَاتٍ، وَالْمُرَادُ
بِالْكَلِمَاتِ أَنْوَاعُ الذِّكْرِ لَا
الْأَلْفَاظُ الْمُسْرَدَةُ،
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَجُمْهُورِ
الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَيْضًا فِي
الدَّلِيلِ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ
مِنْ الذِّكْرِ، بَلْ يُجْزِيهِ جَمِيعُ
الْأَذْكَارِ مِنْ التَّهْلِيلِ
وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهَا.
فَيَجِبُ سَبْعَةُ أَذْكَارٍ، وَلَكِنْ هَلْ
يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُنْقِصَ حُرُوفَ مَا
أَتَى بِهِ عَنْ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: يُشْتَرَطُ
وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْبَدَلِ مِنْ
الْقُرْآنِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
وَلَا يُرَاعَى هُنَا إلَّا الْحُرُوفُ
بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْسَنَ قُرْآنًا غَيْرَ
الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّا نُرَاعِي الْآيَاتِ
وَفِي الْحُرُوفِ خِلَافٌ. وَقَالَ
الْبَغَوِيّ: يَجِبُ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ
الذِّكْرِ يُقَامُ كُلُّ نَوْعٍ مَقَامَ
آيَةٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا أَقْرَبُ
مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ.
وَاحْتُجَّ لِأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ
بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَلَيْسَ
فِيهِ غَيْرُ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ،
وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالصَّحِيحِ:
بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْيُ وُجُوبِ زِيَادَةٍ
مِنْ الْأَذْكَارِ، "فَإِنْ قِيلَ: لَوْ
وَجَبَ زِيَادَةٌ لَذُكِرَتْ
"قِيلَ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ
الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَالله
أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذِّكْرِ
وَالْقُرْآنِ؟ حَيْثُ جَوَّزْتُمْ - عَلَى
قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ - خَمْسَ كَلِمَاتٍ،
وَلَمْ تُجَوِّزُوا الْقُرْآنَ إلَّا سَبْعَ
آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ؟ فَالْفَرْقُ: مَا
ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: أَنَّ
الْقُرْآنَ بَدَلٌ لِلْفَاتِحَةِ مِنْ
جِنْسِهَا فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا،
وَالذِّكْرُ بِخِلَافِهَا، فَجَازَ أَنْ
يَكُونَ دُونَهُ كَالتَّيَمُّمِ عَنْ
الْوُضُوءِ.
فَرْعٌ: إذَا عَجَزَ عَنْ
الْقُرْآنِ وَانْتَقَلَ إلَى الْأَذْكَارِ،
فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُجْزِيهِ
التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ
وَالتَّحْمِيدُ وَالْحَوْقَلَةُ وَنَحْوُهَا.
وَأَمَّا الدُّعَاءُ الْمَحْضُ: فَفِيهِ
تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْجُوَيْنِيِّ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
وَلَعَلَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ الَّذِي
يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ
يُجْزِيهِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ
بِالدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ
الْإِمَامُ هُوَ الْمُرَجَّحُ، رَجَّحَهُ
الْغَزَالِيُّ فِي
الْبَسِيطِ.
فرع: شَرْطُ الذِّكْرِ
الَّذِي يَأْتِي بِهِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ
شَيْئًا آخَرَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ
يَقْصِدَ بِهِ الْبَدَلِيَّةَ أَمْ يَكْفِيهِ
الْإِتْيَانُ بِهِ بِلَا قَصْدٍ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا صَاحِبُ
التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَمُتَابِعُوهُ. قَالَ
الرَّافِعِيُّ: الْأَصَحُّ لَا يُشْتَرَطُ
فَلَوْ أَتَى بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ أَوْ
بِالتَّعَوُّذِ وَقَصَدَ بِهِ بَدَلَ
الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَهُ عَنْهَا، فَإِنْ
قَصَدَ الِاسْتِفْتَاحَ أَوْ التَّعَوُّذَ
لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا
فَفِيهِ الْوَجْهَانِ.
الْأَصَحُّ: يُجْزِيهِ عِنْدَ
الْأَصْحَابِ.
فرع: إذَا لَمْ يُحْسِنْ
شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحْسِنْ
الذِّكْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَحْسَنَهُ
بِالْعَجَمِيَّةِ أَتَى بِهِ
ج / 3 ص -236-
بِالْعَجَمِيَّةِ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ
الْحَاوِي كَمَا يَأْتِي
بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ
إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ، وَقَدْ
سَبَقَ تَفْصِيلُ مَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ
التَّكْبِيرَةِ.
فرع: إذَا أَتَى بِبَدَلِ
الْفَاتِحَةِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ
حَيْثُ يَجُوزَانِ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ
وَاسْتَمَرَّ الْعَجْزُ عَنْ الْفَاتِحَةِ
أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَا إعَادَةَ،
فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي
الرُّكُوعِ أَوْ مَا بَعْدَهُ، فَقَدْ مَضَتْ
رَكْعَتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَا يَجُوزُ
الرُّجُوعُ إلَى الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ
تَمَكَّنَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَلِ
لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ
كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْبَدَلِ فَوَجْهَانِ،
حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ فِي الْأَمَالِي
قَوْلَيْنِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
الْفَاتِحَةُ بِكَمَالِهَا. وَالثَّانِي:
يَكْفِيهِ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ
قَدْرَ مَا بَقِيَ. وَإِنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ
فَرَاغِ الْبَدَلِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ
فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا السَّرَخْسِيُّ
وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ
أَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ
قَدَرَ الْمُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ عَلَى
الرَّقَبَةِ بَعْدَ الصَّوْمِ وَالثَّانِي:
فِيهِ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ تَمَكَّنَ فِي
أَثْنَاءِ الْبَدَلِ، وَمِمَّنْ حَكَى
الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي
التَّبْصِرَةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَالتَّمَكُّنُ قَدْ يَكُونُ بِتَلْقِينٍ
وَقَدْ يَكُونُ بِمُصْحَفٍ وَغَيْرِهِمَا.
فرع: إذَا لَمْ يُحْسِنْ
شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ الذِّكْرِ
وَلَا أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ، وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ
سَاكِتًا، ثُمَّ يَرْكَعَ، وَيُجْزِيهِ
صَلَاتُهُ بِلَا إعَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ،
فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا أَتَى
بِالْآخَرِ لِقَوْلِهِ: "صلى الله عليه وسلم
إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ
مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي
هَذَا الْفَصْلِ عَبْدَ الله بْنَ أَبِي
أَوْفَى، وَهُوَ وَأَبُوهُ صَحَابِيَّانِ رضي
الله تعالى عنهما، وَاسْمُ أَبِي أَوْفَى
عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ،
وَكُنْيَةُ عَبْدِ الله أَبُو إبْرَاهِيمَ،
وَقِيلَ: أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبُو
مُعَاوِيَةَ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ
وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ قِيلَ: هُوَ آخِرُ مَنْ
مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "لِأَنَّهُ رُكْنٌ
مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ" فَجَازَ أَنْ
يُنْتَقَلَ عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى
بَدَلٍ كَالْقِيَامِ، وَقَوْلُهُ "مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ" احْتِرَازٌ مِنْ
الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا بَدَلَ لِأَرْكَانِهِ،
وَقَوْلُهُ: "فَجَازَ أَنْ يُنْتَقَلَ" لَوْ
قَالَ: "وَجَبَ" كَانَ أَصْوَبَ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ لَا يُحْسِنُ
الْفَاتِحَةَ كَيْفَ يُصَلِّي إذَا لَمْ
يُحْسِنْ التَّعَلُّمَ؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا:
أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ
قِرَاءَةُ سَبْعِ آيَاتٍ غَيْرَهَا، فَإِنْ
لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ
لَزِمَهُ الذِّكْرُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُ
وَلَا أَمْكَنَهُ وَجَبَ أَنْ يَقِفَ بِقَدْرِ
قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا
عَجَزَ عَنْ الْقُرْآنِ قَامَ سَاكِتًا وَلَا
يَجِبُ الذِّكْرُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا
يَجِبُ وَلَا الْقِيَامُ، وَقَدْ سَبَقَ
دَلِيلُنَا عَلَيْهِمَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ
قَرَأَ الْقُرْآنَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَمْ
تُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْقُرْآنِ
اللَّفْظُ [وَالنَّظْمُ1] وَذَلِكَ لَا
يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ: مَذْهَبُنَا:
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ سَوَاءٌ
أَمْكَنَهُ الْعَرَبِيَّةُ أَوْ عَجَزَ
عَنْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ
غَيْرِهَا، فَإِنْ أَتَى بِتَرْجَمَتِهِ فِي
صَلَاةٍ بَدَلًا عَنْ الْقِرَاءَةِ لَمْ
تَصِحَّ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).
ج / 3 ص -237-
أَحْسَنَ
الْقِرَاءَةَ أَمْ لَا، هَذَا مَذْهَبُنَا،
وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ
مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ وَتَصِحُّ
بِهِ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ لِلْعَاجِزِ
دُونَ الْقَادِرِ. وَاحْتُجَّ لِأَبِي
حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
|