|
المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب بَابُ: صَلَاةِ
الْجَمَاعَةِ
قال المصنف
رحمه الله تعالى:"اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
الْجَمَاعَةِ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ
وَأَبُو إِسْحَاقَ: هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ
يَجِبُ إظْهَارُهَا فِي النَّاسِ، فَإِنْ
امْتَنَعُوا مِنْ إظْهَارِهَا قُوتِلُوا
عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي
الْإِمَامَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا
رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ
الصَّلَاةُ إلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ
الشَّيْطَانُ، عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ
فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ مِنْ الْغَنَمِ
الْقَاصِيَةَ" وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هِيَ سُنَّةٌ لِمَا رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ
بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً".
الشرح: حَدِيثُ أَبِي
الدَّرْدَاءِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاسْمُ أَبِي
الدَّرْدَاءِ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدٍ بْنِ
قَيْسٍ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ وَلَقَبُهُ
عُوَيْمِرٌ، وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ
شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَا بَعْدَ أُحُدٍ مِنْ الْمُشَاهَدِ،
وَاخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ أُحُدًا، وَكَانَ
فَقِيهًا حَكِيمًا زَاهِدًا، وَلِيَ قَضَاءَ
دِمَشْقَ لِعُثْمَانَ تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ
سَنَةَ إحْدَى وَقِيلَ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ، وَقَبْرُهُ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَا بَدْوٍ"
هُوَ الْبَادِيَةُ. وَاسْتَحْوَذَ أَيْ:
اسْتَوْلَى وَغَلَبَ، وَالْقَاصِيَةُ
الْمُنْفَرِدَةُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً،
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ بِسَبْعٍ
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَالْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أحدها:
أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فَذِكْرُ الْقَلِيلِ
لَا يَنْفِي الْكَثِيرَ، وَمَفْهُومُ
الْعَدْلِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ
والثاني: أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ أَوَّلًا
بِالْقَلِيلِ ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تعالى
بِزِيَادَةِ الْفَضْلِ فَأَخْبَرَ بِهَا
الثالث: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
أَحْوَالِ الْمُصَلَّيْنَ وَالصَّلَاةِ،
وَتَكُونُ لِبَعْضِهِمْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ،
وَلِبَعْضِهِمْ
ج / 4 ص -62-
سَبْعٌ
وَعِشْرُونَ بِحَسْبِ كَمَالِ الصَّلَاةِ
وَمُحَافَظَتِهِ عَلَى هَيْئَاتِهَا
وَخُشُوعِهَا وَكَثْرَةِ جَمَاعَتِهَا
وَفَضْلِهِمْ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَالْجَمَاعَةُ مَأْمُورٌ بِهَا
لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ،
وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهَا
ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا: أحدها
أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالثَّانِي:
سُنَّةٌ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا
والثالث: فَرْضُ عَيْنٍ لَكِنْ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا
الثَّالِثُ قَوْلُ اثْنَيْنِ مِنْ كِبَارِ
أَصْحَابِنَا الْمُتَمَكِّنِينَ فِي الْفِقْهِ
وَالْحَدِيثِ، وَهُمَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا فَرْضُ
كِفَايَةٍ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ كَمَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَهُوَ قَوْلُ
شَيْخَيْ الْمَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي
إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا
الْمُتَقَدِّمِينَ، وَصَحَّحَهُ أَكْثَرُ
الْمُصَنِّفِينَ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَصَحَّحَتْ
طَائِفَةٌ كَوْنَهَا سُنَّةً، مِنْهُمْ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، فَإِذَا قُلْنَا:
إنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَامْتَنَعَ أَهْلُ
بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ إقَامَتِهَا
قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ وَلَمْ يَسْقُطْ
عَنْهُمْ الْحَرَجُ إلَّا إذَا أَقَامُوهَا،
بِحَيْثُ يَظْهَرُ هَذَا الشِّعَارُ فِيهِمْ
فَفِي الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ يَكْفِي
إقَامَتُهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَفِي
الْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ الْكَبِيرَةِ
يَجِبُ إقَامَتُهَا فِي مَوَاضِعَ بِحَيْثُ
يَظْهَرُ فِي الْمَحَالِّ وَغَيْرِهَا، فَلَوْ
اقْتَصَرُوا عَلَى إقَامَتِهَا فِي الْبُيُوتِ
فَوَجْهَانِ: أصحهما، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يَسْقُطُ
الْحَرَجُ عَنْهُمْ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا
والثاني: يَسْقُطُ إذَا ظَهَرَتْ فِي
الْأَسْوَاقِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ. أَمَّا
إذَا قُلْنَا: إنَّهَا سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ
مُتَأَكَّدَةٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ
تَرْكُهَا، صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ،
فَعَلَى هَذَا لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ
أَوْ قَرْيَةٍ عَلَى تَرْكِهَا فَهَلْ
يُقَاتَلُونَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما: لَا
يُقَاتَلُونَ كَسُنَّةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ
وَغَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا قَطَعَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ والثاني: يُقَاتَلُونَ؛
لِأَنَّهُ شِعَارٌ ظَاهِرٌ، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُ الْوَجْهَيْنِ فِي بَابِ الْأَذَانِ،
وَهُمَا جَارِيَانِ فِي الْأَذَانِ،
وَالْجَمَاعَةِ وَالْعِيدِ إذَا قُلْنَا:
إنَّهَا سُنَنٌ.
فرع: لَوْ أَقَامَ
الْجَمَاعَةَ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْبَلَدِ وَأَظْهَرُوهَا فِي كُلِّ
الْبَلَدِ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا جُمْهُورُ
الْمُقِيمِينَ فِي الْبَلَدِ حَصَلَتْ
الْجَمَاعَةُ، وَلَا إثْمَ عَلَى
الْمُتَخَلِّفِينَ، كَمَا إذَا صَلَّى عَلَى
الْجِنَازَةِ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، هَكَذَا
قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ فِي الْهَمِّ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ
الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ
يُخَالِفُ هَذَا، وَلَكِنْ هَمَّ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيقِهِمْ، وَلَمْ
يَفْعَلْ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا
تَرَكَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي أَهْلِ الْبَوَادِي
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: عِنْدِي فِيهِمْ
نَظَرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا
يَتَعَرَّضُونَ لِهَذَا الْفَرْضِ بَلْ
يَكُونُ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يُقَالَ: يَتَعَرَّضُونَ لَهُ إذَا
كَانُوا سَاكِنِينَ قَالَ: ، وَلَا شَكَّ
أَنَّ الْمُسَافِرِينَ لَا يَتَعَرَّضُونَ
لِهَذَا الْفَرْضِ، قَالَ: وَكَذَا إذَا قَلَّ
عَدَدُ سَاكِنِي قَرْيَةٍ، هَذَا كَلَامُ
إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ
أَهْلَ الْبَوَادِي السَّاكِنِينَ وَالْعَدَدَ
الْقَلِيلَ فِي الْقَرْيَةِ يُتَوَجَّهُ
عَلَيْهِمْ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي
الْجَمَاعَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
السَّابِقِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:
"مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، وَلَا
بَدْوٍ".
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا
تَكُونُ الْجَمَاعَةُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ
فَرْضَ عَيْنٍ، وَلَا فَرْضَ كِفَايَةٍ،
وَلَكِنَّهَا
ج / 4 ص -63-
مُسْتَحَبَّةٌ لَهُنَّ، ثُمَّ فِيهِ
وَجْهَانِ:
أحدهما: يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ اسْتِحْبَابًا
كَاسْتِحْبَابِ الرِّجَالِ وأصحهما: وَبِهِ
قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ:
لَا تَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِنَّ
كَتَأَكُّدِهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ، فَلَا
يُكْرَهُ لَهُنَّ تَرْكُهَا، وَإِنْ كُرِهَ
لِلرِّجَالِ مَعَ قَوْلِنَا: هِيَ لَهُمْ
سُنَّةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ:
وَيُؤْمَرُ الصَّبِيُّ بِحُضُورِ الْمَسَاجِدِ
وَجَمَاعَاتِ الصَّلَاةِ لِيَعْتَادَهَا.
فرع: الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ
فِي أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ
سُنَّةٌ؟ هُوَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ
الْمُؤَدَّيَاتِ، أَمَّا الْجُمُعَةُ فَفَرْضُ
عَيْنٍ، وَأَمَّا الْمَنْذُورُ فَلَا تُشْرَعُ
فِيهَا الْجَمَاعَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا
النَّوَافِلُ فَسَبَقَ فِي بَابِ صَلَاةِ
التَّطَوُّعِ مَا يُشْرَعُ لَهُ الْجَمَاعَةُ
مِنْهَا وَمَا لَا يُشْرَعُ، وَذَكَرْنَا فِي
آخِرِ ذَلِكَ الْبَابِ أَنَّ مَا لَا يُشْرَعُ
لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْهَا لَوْ فَعَلَ
جَمَاعَةً لَمْ يُكْرَهْ وَبَسَطْنَا
دَلِيلَهُ. وَأَمَّا الْمَقْضِيَّةُ مِنْ
الْمَكْتُوبَاتِ فَلَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ
فِيهَا فَرْضَ عَيْنٍ، وَلَا كِفَايَةٍ بِلَا
خِلَافٍ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْجَمَاعَةُ
فِي الْمَقْضِيَّةِ الَّتِي يَتَّفِقُ
الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيهَا بِأَنْ
يَفُوتَهُمَا ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ، وَدَلِيلُهُ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَاتَتْهُ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ
صَلَّاهَا بِهِمْ جَمَاعَةً. قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: لَا
خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ
الْجَمَاعَةِ فِي الْقَضَاءِ إلَّا مَا حُكِيَ
عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ مَنْعِ
ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ اللَّيْثِ
إنْ صَحَّ عَنْهُ مَرْدُودٌ بِالْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الْقَضَاءُ خَلْفَ الْأَدَاءِ،
وَالْأَدَاءُ خَلْفَ الْقَضَاءِ وَقَضَاءُ
صَلَاةٍ خَلْفَ مَنْ يَقْضِي غَيْرَهَا
فَكُلُّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ
الِانْفِرَادَ بِهَا أَفْضَلُ لِلْخُرُوجِ
مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ فِي كُلِّ
ذَلِكَ خِلَافًا لِلسَّلَفِ سَنَذْكُرُهُ فِي
بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ
الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: الصَّحِيحُ
أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَبِهِ قَالَ
طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ عَطَاءٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى
الْأَعْيَانِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلصِّحَّةِ،
وَقَالَ دَاوُد: هِيَ فَرْضٌ عَلَى
الْأَعْيَانِ، وَشَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ وَبِهِ
قَالَ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَجُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ
بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ
فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ سُنَّةٌ؟
وَقَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى
أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لَا فَرْضُ
كِفَايَةٍ وَاحْتَجَّ لِمَنْ قَالَ: فَرْضُ
عَيْنٍ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:
"إنَّ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ
الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا
لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ
ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ
ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ
حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا
يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ
عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله
عنه قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تعالى
غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى
هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى
بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ تعالى شَرَعَ
لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ
الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى،
وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي
بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ
صلى الله عليه وسلم وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ
نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَلَقَدْ
رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا
مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ
كَانَ الرَّجُلِ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ
الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يقام في الصف "رواه
مسلم
ج / 4 ص -64-
وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"أَتَى
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي
قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ:
فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ
فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى، دَعَاهُ
فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ
بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَجِبْ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ1 وَعَنْ ابْنِ أُمِّ
مَكْتُومٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ،
"إنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، شَاسِعُ
الدَّارِ، وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَازِمُنِي،
فَهَلْ لِي رُخْصَةٌ أَنْ أُصَلِّيَ فِي
بَيْتِيِّ؟ قَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا أَجِدُ لَك
رُخْصَةً" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ وَعَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ،
قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ
مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ
الَّتِي صَلَّى"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي
الْمَسْجِدِ2"
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
مِثْلُهُ رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ
"لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي
الْمَسْجِدِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَاحْتَجَّ: أَصْحَابُنَا، وَالْجُمْهُورُ
عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضِ عَيْنٍ
بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ
الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ
"بِخَمْسٍ
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي
سَعِيدٍ قَالُوا: وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ
الْمُفَاضَلَةَ إنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَتُهَا
بَيْنَ فَاضِلِينَ جَائِزَيْنِ.
والجواب: عَنْ حَدِيثِ الْهَمِّ بِتَحْرِيقِ
بُيُوتِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: جَوَابُ
الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ هَذَا وَرَدَ
فِي قَوْمٍ مُنَافِقِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ
الْجَمَاعَةِ، وَلَا يُصَلُّونَ فُرَادَى،
وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ هَذَا
التَّأْوِيلَ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ:
"رَأَيْتُنَا
وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ" صَرِيحٌ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ والثاني: أَنَّهُ - صلى الله عليه
وسلم - قَالَ:
"لَقَدْ
هَمَمْتُ" وَلَمْ يُحَرِّقْهُمْ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَجُزْ التَّحْرِيقُ
لَمَا هَمَّ بِهِ قُلْنَا: لَعَلَّهُ هَمَّ
بِهِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ نَزَلَ وَحَيٌّ
بِالْمَنْعِ مِنْهُ أَوْ تَغَيَّرَ
الِاجْتِهَادُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى
الصَّحِيحِ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ
صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَيْسَ
فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ
وَإِنَّمَا فِيهِ بَيَانُ فَضْلِهَا
وَكَثْرَةُ مُحَافَظَتِهِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا
حَدِيثُ الْأَعْمَى فَجَوَابُهُ: مَا أَجَابَ
بِهِ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ الْفُقَهَاءُ
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
وَالْبَيْهَقِيُّ، قَالُوا: لَا دَلَالَةَ
فِيهِ لِكَوْنِهَا فَرْضَ عَيْنٍ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ
لِعِتَابٍ حِينَ شَكَا بَصَرَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، وَحَدِيثُهُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ لَا رُخْصَةَ لَكَ تُلْحِقُكَ
بِفَضِيلَةِ مَنْ حَضَرَهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ
ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَقَدَّمَ بَيَانُ ضَعْفِهِ،
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورواه البخاري بنحوه أيضا حيث قال فيه
(أتسمع النداء ؟ ثم قال لا أذن )
2 هذا الحديث روى من طرق مرفوعة كلها ضعيفة
وأصحها الموقوف على علي فقد أخرجه الدارقطني
عن جابر ورواه ابن حبان عن عائشة قال البيهقي
في المعرفة: إسناده ضعيف وقال الصغاني: موضوع
: وقال الفيروز أبادي في المختصر ضعيف وقال
السخاوي في المقاصد الحسنة أسانيده ضعيفة ولي
له إسناده يثبت ويغني عنه حديث" من سمع النداء " وحديث
" لو يعلم الناس "(ط)
ج / 4 ص -65-
فَضَعِيفَانِ فِي إسْنَادِهِمَا ضَعِيفَانِ،
وَأَحَدُهُمَا مَجْهُولٌ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ
بْنُ سِكِّينٍ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي
كِتَابِهِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي
تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِكِّينٍ: سَمِعْتُ
أَبِي يَقُولُ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ
وَمُحَمَّدٌ بْنُ سِكِّينٍ مَجْهُولٌ،
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي
تَارِيخِهِ ثُمَّ قَالَ: وَفِي إسْنَادِهِ
نَظَرٌ وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا
وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمْ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي كَوْنِهَا فَرْضَ
كِفَايَةٍ وَرَدَّا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهَا
سُنَّةٌ بِحَدِيثِ مَالِكٍ بْنِ الْحُوَيْرِثِ
قَالَ:
"أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ
مُتَقَارِبُونَ: فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ
عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَفِيقًا فَظَنَّ
أَنَّا أَشْتَقْنَا أَهْلَنَا فَسَأَلْنَا
عَمَّنْ تَرَكْنَا عَنْ أَهْلِنَا
فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: ارْجِعُوا إلَى
أَهْلِيكُمْ فَأُقِيمُوا فِيهِمْ
وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتْ
الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ
ثُمَّ لِيَؤُمّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبِحَدِيثِ
أَبِي الدَّرْدَاءِ السَّابِقِ"مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ، وَلَا بَدْوٍ" الْحَدِيثُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي الْإِشَارَةِ إلَى
بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
فَمِنْهَا حَدِيثُ
"صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا سَبَقَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ
وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا
إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ
لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ
مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ،
وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ
وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتَّهْجِيرُ: التَّبْكِيرُ
إلَى الصَّلَاةِ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولَ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ
اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي
جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ
كُلَّهُ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ
التِّرْمِذِيِّ:
"وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ"
فرع: آكَدُ الْجَمَاعَاتِ فِي
غَيْرِ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةُ الصُّبْحِ
وَالْعِشَاءِ لِلْحَدِيثَيْنِ السَّابِقِينَ
فِي الْفرع: قَبْلَهُ
فرع: فِي الْإِشَارَةِ إلَى
بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي فَضْلِ
الْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ وَكَثْرَةِ
الْخُطَى وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ
نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ
رَاحَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي النَّاسِ أَبْعَدُهُمْ إلَيْهَا
مَشْيًا، وَاَلَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ
حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ
أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ
يَنَامُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"مَنْ تَطَهَّرَ فِي
بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إلَى بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ
فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خُطُوَاتِهِ
إحداها: تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى
تَرْفَعُ دَرَجَةً" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
"كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً عَنْ الْمَسْجِدِ فَأَرَدْنَا أَنْ
نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْرُبَ مِنْ
الْمَسْجِدِ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ لَكُمْ بِكُلِّ
خُطْوَةٍ دَرَجَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه
قَالَ:
"كَانَ رَجُلٌ لَا أَعْلَمُ رِجَالًا أَبْعَدَ مِنْ الْمَسْجِدِ
مِنْهُ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ،
فَقِيلَ لَهُ أَوْ قُلْت لَهُ: لَوْ
اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي
الظَّلْمَاءِ، وَفِي الرَّمْضَاءِ؟ قَالَ: مَا
ج / 4 ص -66-
يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إلَى جَنْبِ
الْمَسْجِدِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي
مَمْشَايَ إلَى الْمَسْجِدِ وَرُجُوعِي إذَا
رَجَعْتُ إلَى أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ جَمَعَ
اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ
"أَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ: إنَّهُ بَلَغَنِي
أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا
قُرْبَ الْمَسْجِدِ، قَالُوا: نَعَمْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَا بَنِي سَلَمَةَ دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ
آثَارَكُمْ، دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ
بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ. وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ
مَا لَمْ يُحْدِثْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ،
اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ
فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ
تَحْبِسُهُ، لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُقْلَبَ
إلَى أَهْلِهِ إلَّا الصَّلَاةُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ
"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ
يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ
الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ
رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ
بِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي
اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا
عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ
ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إنِّي
أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا
تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،
وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ
عَيْنَاهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم
"أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا،
وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إسْبَاغُ
الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ
الْخُطَى إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ
الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ
الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي
بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أَنَّ
أَحَدَكُمْ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ
الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا
تَهُزُّهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَا يُرِيدُ إلَّا
الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا
رَفْعَ اللَّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ
عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ
الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ
فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ هِيَ
تَحْبِسُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ
عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ
الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ
ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ،
اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ
فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا
لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي
الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ،
وَفِيمَا أَشَرْتُ إلَيْهِ أَبْلَغُ
كِفَايَةٍ، وَأَمَّا فَضْلُ الصَّلَوَاتِ
فَقَدْ ذَكَرْتُ جُمْلَةً مِنْ الْأَحَادِيثِ
الْوَارِدَةِ فِيهِ فِي آخِرِ الْبَابِ
الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، -
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَأَقَلُّ
الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ: إمَامٌ وَمَأْمُومٌ،
لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَيُغْنِي عَنْهُ
حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ:
"أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا
وَصَاحِبٌ لِي فَلَمَّا أَرَدْنَا
الْإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَنَا: إذَا
حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ
أَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: أَقَلُّ الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ
إمَامٌ وَمَأْمُومٌ، فَإِذَا صَلَّى رَجُلٌ
بِرَجُلٍ أَوْ بِامْرَأَةٍ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ
بِنْتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ بِغُلَامِهِ
أَوْ بِسَيِّدَتِهِ أَوْ بِغَيْرِهِمْ
حَصَلَتْ لَهُمَا فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ
الَّتِي هِيَ خَمْسٌ أَوْ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ
دَرَجَةً، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ
فِيهِ الْإِجْمَاعَ.
ج / 4 ص -67-
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَفِعْلُهَا
لِلرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ؛
لِأَنَّهُ أَكْثَرُ جَمْعًا، وَفِي
الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا
النَّاسُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رَوَى أُبَيّ بْنُ
كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
"صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى
مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ
مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ
مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ
أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تعالى"فَإِنْ كَانَ فِي جِوَارِهِ مَسْجِدٌ مُخْتَلٍ1 فَفِعْلُهَا فِي
مَسْجِدِ الْجِوَارِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا
فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَكْثُرُ النَّاسُ
فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى فِي مَسْجِد
الْجِوَارِ حَصَلَتْ الْجَمَاعَةُ فِي
مَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ
فَجَمَاعَتُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ
لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم:"لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ
لَهُنَّ"
فَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ حُضُورَ
الْمَسَاجِدِ مَعَ الرِّجَالِ فَإِنْ كَانَتْ
شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً تُشْتَهَى2 كُرِهَ
لَهَا الْحُضُورُ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا
لَا تُشْتَهَى لَمْ يُكْرَهْ؛ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْخُرُوجِ إلَّا
عَجُوزًا فِي مِنْقَلَيْهَا".
الشرح: حَدِيثُ أُبَيٍّ
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ فِيهِ
رَجُلٌ لَمْ يُبَيِّنُوا ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ
أَبُو دَاوُد، وَأَشَارَ عَلِيُّ بْنُ
الْمَدِينِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا
إلَى صِحَّتِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ
صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ
هَذَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٌ عَلَى شَرْط
الْبُخَارِيِّ، وَحَدِيثُ الْعَجُوزِ فِي
مِنْقَلَيْهَا غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٌ
مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "مَا صَلَّتْ امْرَأَةُ صَلَاةً أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةٍ فِي بَيْتِهَا
إلَّا مَسْجِدَيْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
إلَّا عَجُوزًا فِي مِنْقَلَيْهَا"
وَالْمِنْقَلَانِ الْخُفَّانِ، هَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ
اللُّغَةِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
أَنَّهُمَا الْخُفَّانِ الْخَلَقَانِ، وَهُمَا
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، لُغَتَانِ
وَالْفَتْحُ أَشْهُرُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا
فِي التَّهْذِيبِ.
أما الأحكام:فَفِيهِ
مَسَائِلُ: إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
الْمُخْتَصَرِ وَالْأَصْحَابُ: فِعْلُ
الْجَمَاعَةِ لِلرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ
أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبَيْتِ
وَالسُّوقِ وَغَيْرِهِمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إلَى
الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّهُ أَشْرَفُ، وَلِأَنَّ
فِيهِ إظْهَارَ شِعَارِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ
كَانَ هُنَاكَ مَسَاجِدُ فَذَهَابُهُ إلَى
أَكْثَرِهَا جَمَاعَةً أَفْضَلُ لِلْحَدِيثِ
الْمَذْكُورِ، فَلَوْ كَانَ بِجِوَارِهِ
مَسْجِدٌ قَلِيلُ الْجَمْعِ وَبِالْبُعْدِ
مِنْهُ مَسْجِدٌ أَكْثَرُ جَمْعًا
فَالْمَسْجِدُ الْبَعِيدُ أَوْلَى إلَّا فِي
حَالَيْنِ: أحدهما أَنْ تَتَعَطَّلَ جَمَاعَةُ
الْقَرِيبِ لِعُدُولِهِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ
إمَامًا، أَوْ يَحْضُرَ النَّاسُ بِحُضُورِهِ،
فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَرِيبُ أَفْضَلَ
الثاني: أَنْ يَكُونَ إمَامُ الْبَعِيدِ
مُبْتَدِعًا كَالْمُعْتَزِلِيِّ وَغَيْرِهِ
أَوْ فَاسِقًا أَوْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ
بَعْضِ الْأَرْكَانِ فَالْقَرِيبُ أَفْضَلُ.
وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا: أَنَّ
مَسْجِدَ الْجِوَارِ أَفْضَلُ بِكُلِّ حَالٍ،
وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ
مَسْجِدُ الْجِوَارِ لَا جَمَاعَةَ فِيهِ،
وَلَوْ حَضَرَ هَذَا الْإِنْسَانُ فِيهِ لَمْ
يُحَصِّلْ جَمَاعَةً، وَلَمْ يُحَضِّرْ
غَيْرُهُ فَالذَّهَابُ إلَى مَسْجِدِ
الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) يُسَنُّ
الْجَمَاعَةُ لِلنِّسَاءِ بِلَا خِلَافٍ
عِنْدَنَا، لَكِنْ هَلْ تَتَأَكَّدُ فِي
حَقِّهِنَّ كَتَأَكُّدِهَا فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (تختل فيه الجماعة ) (ط)
2 في بعض النسخ ( يشتهي مثلها )
ج / 4 ص -68-
حَقِّ
الرِّجَالِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ
السَّابِقَانِ: أصحهما: الْمَنْعُ،
وَإِمَامَةُ الرَّجُلِ بِهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ
إمَامَةِ امْرَأَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ
بِالصَّلَاةِ، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ
بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَخْلُو وَاحِدٌ بِامْرَأَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ
مَحْرَمًا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ مَبْسُوطًا
بِدَلِيلِهِ فِي بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ
حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
الثالثة: جَمَاعَةُ النِّسَاءِ فِي الْبُيُوتِ
أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِهِنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَصَلَاتُهَا فِيمَا كَانَ مِنْ
بَيْتِهَا أَسْتَرُ أَفْضَلُ لَهَا لِحَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي
حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا
أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى
شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ حُضُورَ
الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ قَالَ أَصْحَابُنَا:
إنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً
تُشْتَهَى كُرِهَ لَهَا وَكُرِهَ لِزَوْجِهَا
وَوَلِيّهَا تَمْكِينُهَا مِنْهُ. وَإِنْ
كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى لَمْ
يُكْرَهْ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ
صَحِيحَةٌ تَقْتَضِي هَذَا التَّفْصِيلَ.
مِنْهَا مَا رَوَى1 ابْنُ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا
اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى
الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعُهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي
رِوَايَةٍ لَهُمَا:
"إذَا
اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى
الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ" وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
"لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ
النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا
مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فرع: يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ
أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إذَا اسْتَأْذَنَتْهُ
إلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ
عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى وَأَمِنَ
الْمُفْسِدَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا
لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ
مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا
مَذْهَبُنَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ
قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَيُجَابُ عَنْ
حَدِيثِ
"لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ" بِأَنَّهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي
مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ فَلَا
تَتْرُكْهُ لِلْفَضِيلَةِ
فرع: إذَا أَرَادَتْ
الْمَرْأَةُ حُضُورَ الْمَسْجِدِ كُرِهَ لَهَا
أَنْ تَمَسَّ طِيبًا، وَكُرِهَ أَيْضًا
الثِّيَابُ الْفَاخِرَةُ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ
الثَّقَفِيَّةِ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي
الله عنه وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إذَا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ
لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ،
وَتَفِلَات بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ
فَوْقُ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ تَارِكَاتٌ
الطَّيِّبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصول كلها ماروي عن ابن عمر وروي هنا
صيغة لا تجوز أن تكون بين يدي حديث متفق عليه
كما ترى وقد رفعناها جريا على مذهب النووي في
هذا (ط)
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
لِلنِّسَاءِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهَا لَهُنَّ. قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: كُلُّ صَلَاةٍ
اُسْتُحِبَّ لِلرِّجَالِ الْجَمَاعَةُ فِيهَا
اُسْتُحِبَّ الْجَمَاعَةُ فِيهَا لِلنِّسَاءِ
فَرِيضَةً كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً، وَحَكَاهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ
بْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
ج / 4 ص -69-
وَمَالِكٌ: لَا تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ أَحَدًا
فِي فَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ قَالَ: وَقَالَ
أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُكْرَهُ
وَيَجْزِيهِنَّ، قَالَ: وَقَالَ الشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ: تَؤُمّهُنَّ فِي
النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ، وَاحْتَجَّ
أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أُمِّ وَرَقَةَ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
أَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَعَنْ رَيْطَةَ
الْحَنَفِيَّةِ قَالَتْ:
"أَمَّتْنَا عَائِشَةُ فَقَامَتْ بَيْنَهُنَّ
فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ " وَعَنْ حُجَيْرَةَ قَالَتْ:
" أَمَّتْنَا أُمُّ سَلَمَةَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَقَامَتْ
بَيْنَنَا" رَوَاهُمَا
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ.
فرع: في مذاهبهم في حضور
العجوز التي لا تشتهي المسجد للصلاة.
قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يكره ذلك في شيء من
الصلاة، قال العبدري: وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: يكره إلا في الفجر والعشاء
والعيد، دليلنا عموم الأحاديث الصحيحة في
النهي عن منعهن المساجد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا تَصِحُّ
الْجَمَاعَةُ حَتَّى يَنْوِيَ الْمَأْمُومُ
الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتْبَعَ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ
الِاتِّبَاعِ، فَإِنْ رَأَى رَجُلَيْنِ
يُصَلِّيَانِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَنَوَى
الِائْتِمَامَ بِهِمَا لَمْ تَصِحَّ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَقْتَدِيَ بِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،
وَإِنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِأَحَدِهِمَا
بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.
لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَا يُمْكِنُهُ
الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا
يُصَلِّي بِالْآخَرِ فَنَوَى الِاقْتِدَاءَ
بِالْمَأْمُومِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ صَلَّى
رَجُلَانِ فَنَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ لَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يُصَلِّي لِنَفْسِهِ، ، وَإِنْ نَوَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ
بِالْآخَرِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ائْتَمَّ بِمَنْ
لَيْسَ بِإِمَامٍ".
الشرح: اتَّفَقَ نَصُّ
الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ
يَنْوِيَ الْمَأْمُومُ الْجَمَاعَةَ
وَالِاقْتِدَاءَ وَالِائْتِمَامَ، قَالُوا:
وَتَكُونُ هَذِهِ النِّيَّةُ مَقْرُونَةً
بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَسَائِرِ مَا
يَنْوِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فِي
الِابْتِدَاءِ، وَأَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ
نَوَى الِاقْتِدَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ
فَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ
هَذَا، وَإِذَا تَرَكَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ
وَالِانْفِرَادِ وَأَحْرَمَ مُطْلَقًا
انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ
تَابَعَ الْإِمَامَ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ
غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ فَوَجْهَانِ:
حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي
تَعْلِيقِهِ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ
أصحهما وَأَشْهُرُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ ارْتَبَطَ بِمَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ
لَهُ فَأَشْبَهَ الِارْتِبَاطَ بِغَيْرِ
الْمُصَلِّي، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيّ
وَآخَرُونَ.
والثاني: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى
بِالْأَرْكَانِ عَلَى وَجْهِهَا، وَبِهَذَا
قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا
تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَانَ مُنْفَرِدًا، وَلَا
يَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ بِلَا
خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي
وَغَيْرُهُ. وَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ فَإِنَّمَا تَبْطُلُ إذَا انْتَظَرَ
رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ وَغَيْرَهُمَا
لِيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ مَعَهُ وَطَالَ
انْتِظَارُهُ، فَأَمَّا إذَا اتَّفَقَ
انْقِضَاءُ فِعْلِهِ مَعَ انْقِضَاءِ فِعْلِهِ
أَوْ انْتَظَرَهُ يَسِيرًا جِدًّا فَلَا
تَبْطُلُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ شَكَّ فِي
أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ فِي نِيَّةِ
الِاقْتِدَاءِ لَمْ تَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُ
إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْآنَ الْمُتَابَعَةَ،
وَحَيْثُ قلنا: بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ
عَدَمُ النِّيَّةِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ
كَانَ نَوَى قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا: حُكْمُهُ
حُكْمُ مَنْ شَكَّ فِي نِيَّةِ أَصْلِ
الصَّلَاةِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ
يَفْعَلَ فِعْلًا عَلَى خِلَافِ مُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ، وَهُوَ شَاكٌّ لَمْ يَضُرَّهُ.
وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ فِعْلًا
عَلَى مُتَابَعَتِهِ فِي الشَّكِّ بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ إذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ: إنَّ
الْمُنْفَرِدَ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ
بِالْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ
شَكِّهِ لَهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ، وَلَيْسَ
لَهُ الْمُتَابَعَةُ حَتَّى قَالَ
أَصْحَابُنَا: لَوْ عَرَضَ لَهُ هَذَا
ج / 4 ص -70-
الشَّكُّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ
سَلَامُهُ عَلَى سَلَامِ الْإِمَامِ. أَمَّا
إذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ فَسَلَّمَ مِنْ
صَلَاتِهِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ؟ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،
وَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ هَذَا
هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ فِيهِ
الْخِلَافَ السَّابِقَ فِيمَنْ شَكَّ بَعْدَ
فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، هَلْ تَرَكَ
رُكْنًا مِنْ صَلَاتِهِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا
ضَعِيفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِمَأْمُومٍ
أَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِاثْنَيْنِ
مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا لَا
بِعَيْنِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِمَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَوْ صَلَّى
رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوَى
أَنَّهُ مَأْمُومٌ فَصَلَاتُهُمَا بَاطِلَةٌ.
وَإِنْ نَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ
إمَامٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ وَلَوْ شَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ
بَعْدَ فَرَاغِهِمَا فِي أَنَّهُ إمَامٌ أَمْ
مَأْمُومٌ، فَصَلَاتَاهُمَا بَاطِلَتَانِ
بِالِاتِّفَاقِ ذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ
وَغَيْرُهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْآخِرِ،
وَلَوْ شَكَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إمَامٌ أَوْ
مَأْمُومٌ، وَعَلِمَ الْآخَرُ أَنَّهُ إمَامٌ
أَوْ مُنْفَرِدٌ فَصَلَاةُ الْأَوَّلِ
بَاطِلَةٌ، وَصَلَاةُ الثَّانِي صَحِيحَةٌ،
وَإِنْ ظَنَّ الثَّانِي أَنَّهُ مُقْتَدٍ
بِالْأَوَّلِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ أَيْضًا،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ اقْتَدَى بِمَأْمُومٍ وَظَنَّهُ
إمَامًا بِأَنْ رَأَى رَجُلَيْنِ
يُصَلِّيَانِ، وَقَدْ خَالَفَا سُنَّةَ
الْوُقُوفِ فَوَقَفَ الْمَأْمُومُ عَنْ
يَسَارِ الْإِمَامِ فَطَرِيقَانِ:
الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا الْجَزْمُ بِبُطْلَانِ
صَلَاتِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ
وَآخَرُونَ والثاني: قَالَهُ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ: يَخْرُجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ
فِيمَا لَوْ تَابَعَ مَنْ لَمْ يَنْوِ
الِاقْتِدَاءَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ
أَفْعَالَهُ عَلَى أَفْعَالِهِ. قَالَ: ،
وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ
مُحْدِثٍ لَمْ يَعْلَمْ حَدَثَهُ صَحَّتْ
صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَفَ فِعْلَهُ
عَلَى فِعْلِهِ قُلْتُ: الْأَصَحُّ هُنَا
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ
مُفَرِّطٌ بِخِلَافِ مَنْ صَلَّى خَلْفَ
الْمُحْدِثِ
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ
لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَأْمُومِ،
وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ نَقَلَ
الْأَصْحَابُ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَحَكَى
صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ أَصْحَابِنَا
أَنَّهُمْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَأَمَّا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
" صَلَّى فِي مَرَضِهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
يَقْتَدِي بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلَاةِ أَبِي
بَكْرٍ" فَمَعْنَاهُ الْجَمِيعُ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالنَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ
يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ، وَقَدْ جَاءَ
هَذَا اللَّفْظُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي
رِوَايَتَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ:
وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ.
فرع: فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ
الِاقْتِدَاءِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ الصحيح
الْمَشْهُورُ: الِاشْتِرَاطُ كَغَيْرِهَا
والثاني: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهَا لَا
تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ فَلَمْ يُحْتَجْ
إلَى نِيَّتِهَا.
فرع: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ تَعْيِينُ
الْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ، بَلْ يَكْفِيهِ
نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ
الْحَاضِرِ، أَوْ إمَامِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ،
فَلَوْ عَيَّنَ وَأَخْطَأَ نُظِرَ إنْ لَمْ
يُشِرْ إلَى الْإِمَامِ بِأَنْ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ، وَهُوَ يَظُنُّ
الْإِمَامَ زَيْدًا فَبَانَ عَمْرًا لَمْ
تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى
بِغَائِبٍ، وَهُوَ كَمَنْ عَيَّنَ الْمَيِّتَ
فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَأَخْطَأَ لَا
تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَكَمَنْ نَوَى الْعِتْقَ
عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارِهِ فَكَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلٍ لَا تُجْزِئُهُ،
وَإِنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ هَذَا
الْإِمَامِ فَكَانَ عَمْرًا فَفِي صِحَّةِ
اقْتِدَائِهِ بِهِ وَجْهَانِ لِتَعَارُضِ
إشَارَتِهِ وَتَسْمِيَتِهِ وَالْأَصَحُّ:
صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ، وَنَظِيرُهُ لَوْ
قَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ فَكَانَ
بَغْلًا، وَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ج / 4 ص -71-
فرع: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فَإِنْ لَمْ
يَنْوِهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ
الْمَأْمُومِينَ. وَفِي وَجْهٍ غَرِيبٍ
حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ حِكَايَةِ أَبِي
الْحَسَنِ الْعَبَّادِيِّ عَنْ أَبِي حَفْصٍ
الْبَابْشَامِيِّ وَالْقَفَّالِ أَنَّهُمَا
قَالَا: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نِيَّةُ
الْإِمَامَةِ وَأَشْعَرَ كَلَامُ
الْعَبَّادِيِّ بِأَنَّهُمَا يَشْتَرِطَانِهَا
فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، وَالصَّوَابُ:
أَنَّ نِيَّةَ الْإِمَامَةِ لَا تَجِبُ، وَلَا
تُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَبِهِ
قَطَعَ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا، وَسَوَاءٌ
اقْتَدَى بِهِ رِجَالٌ أَمْ نِسَاءٌ، لَكِنْ
يَحْصُلُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ
لِلْمَأْمُومَيْنِ، وَفِي حُصُولِهَا
لِلْإِمَامِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أصحها
وَأَشْهُرُهَا: لَا تَحْصُلُ، وَبِهِ قَطَعَ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ
وَالْفُورَانِيُ وَآخَرُونَ، لِأَنَّ
الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ والثاني:
تَحْصُلُ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ
لِمُتَابِعِيهِ فَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ
والثالث: قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إنْ
عَلِمَهُمْ، وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ لَمْ
تَحْصُلْ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ
اقْتَدُوا بِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ
اقْتِدَاءَهُمْ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ
الْجَمَاعَةِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمِنْ
فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا لَمْ
يَنْوِ الْإِمَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
هَلْ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ؟ فَالْأَصَحُّ
أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَلَوْ نَوَى
الْإِمَامَةَ وَعَيَّنَ الْمُقْتَدِيَ فَبَانَ
خِلَافُهُ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ غَلَطَهُ لَا
يَزِيدُ عَلَى تَرْكِ النِّيَّةِ، وَلِأَنَّهُ
لَا يَرْبِطُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي نِيَّةِ الْإِمَامَةِ
ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ
مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الْجَمَاعَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
وَآخَرُونَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ: تَجِبُ، وَعَنْ
أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إنْ
صَلَّى بِرَجُلٍ لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ صَلَّى
بِامْرَأَةٍ أَوْ نِسَاءٍ وَجَبَتْ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَتَسْقُطُ
الْجَمَاعَةُ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ أَشْيَاءُ:
مِنْهَا الْمَطَرُ، وَالْوَحَلُ، وَالرِّيحُ
الشَّدِيدَةُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ
رضي الله عنهما قَالَ:
"كُنَّا إذَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
سَفَرٍ وَكَانَتْ لَيْلَةٌ مُظْلِمَةٌ أَوْ
مَطِيرَةٌ نَادَى مُنَادِيهِ أَنْ صَلُّوا فِي
رِحَالِكُمْ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُ
رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِهِ:
أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ
الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي
السَّفَرِ"
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ
"يَأْمُرُ
الْمُؤَذِّنَ إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ
ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي
الرِّحَالِ"
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الرِّحَالُ
الْمَنَازِلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ مَدَرٍ
أَوْ شَعْرٍ وَوَبَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ،
وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَذَانِ أَنَّ هَذَا
الْكَلَامَ يُقَالُ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ
أَمْ بَعْدَهُ، وَالْوَحَلُ، بِفَتْحِ
الْحَاءِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ
بِإِسْكَانِهَا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَسْقُطُ الْجَمَاعَةُ
بِالْأَعْذَارِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّهَا
سُنَّةٌ أَمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَمْ فَرْضُ
عَيْنٍ، لِأَنَّا، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا
سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ،
وَيُكْرَهُ تَرْكُهَا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ،
فَإِذَا تَرَكَهَا لِعُذْرٍ زَالَتْ
الْكَرَاهَةُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا
تَرَكَ الْجَمَاعَةَ لِعُذْرٍ تَحْصُلُ لَهُ
فَضِيلَتُهَا، بَلْ لَا تَحْصُلُ لَهُ
فَضِيلَتُهَا بِلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ سَقَطَ الْإِثْمُ وَالْكَرَاهَةُ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ
الْمَطَرَ وَحْدَهُ عُذْرٌ، سَوَاءٌ كَانَ
لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَفِي الْوَحَلِ
وَجْهَانِ الصحيح الَّذِي قَطَعَ بِهِ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ عُذْرٌ
وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ
النَّهَارِ، والثاني: لَيْسَ بِعُذْرٍ،
حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ.
فرع: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ
عُذْرٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَشِدَّةُ
الْحَرِّ عُذْرٌ فِي الظُّهْرِ، وَالثَّلْجُ
عُذْرٌ إنْ بَلَّ
ج / 4 ص -72-
الثَّوْبَ، وَالرِّيحُ الْبَارِدَةُ عُذْرٌ فِي اللَّيْلِ دُونَ
النَّهَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَقُولُ
بَعْضُ الْأَصْحَابِ: الرِّيحُ الْبَارِدَةُ
فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ. قَالَ:
وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اشْتِرَاطِ
الظُّلْمَةِ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَمِنْهَا:
أَنْ يَحْضُرَ الطَّعَامُ وَنَفْسُهُ
تَتُوقُهُ1 أَوْ يُدَافِعَ الْأَخْبَثَيْنِ؛
لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها
قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ:
"لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ
الْأَخْبَثَانِ".
الشرح: حَدِيثُ عَائِشَةَ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ،
وَالْأَخْبَثَانِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ
وَيُقَالُ حَضْرَةُ فُلَانٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ
وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ
مَشْهُورَاتٍ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ
عُذْرَانِ يُسْقِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْجَمَاعَةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا مَا
كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا، قَالَ أَصْحَابُنَا:
يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى فِي هَذِهِ
الْأَحْوَالِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ
فِي آخِرِ بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ
مَبْسُوطَةً، وَحُضُورُ الشَّرَابِ الَّذِي
يَتُوقُ إلَيْهِ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ
كَحُضُورِ الطَّعَامِ، وَمُدَافَعَةُ الرِّيحِ
كَمُدَافَعَةِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَمِنْهَا:
أَنْ يَخَافَ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ أَوْ يَكُونَ بِهِ مَرَضٌ يَشُقُّ
مَعَهُ الْقَصْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ[عَنْ]ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا
مِنْ عُذْرٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ"
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَيِّمًا لِمَرِيضٍ
يَخَافُ ضَيَاعَهُ، لِأَنَّ حِفْظَ
الْآدَمِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حِفْظِ
الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ
قَرِيبٌ مَرِيضٌ يَخَافُ مَوْتَهُ؛ لِأَنَّهُ
يَتَأَلَّمُ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا
يَتَأَلَّمُ بِذَهَابِ الْمَالِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ
وَفِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُدَلِّسٌ،
وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَمِنْ الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ
الْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ بِهِ مَرَضٌ
يَشُقُّ مَعَهُ الْقَصْدُ، وَإِنْ كَانَ
يُمْكِنُ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي ذَلِكَ
وَحَرَجًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى:
"وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ" فَإِنْ كَانَ مَرَضٌ يَسِيرٌ لَا يَشُقُّ مَعَهُ الْقَصْدُ
كَوَجَعِ ضِرْسٍ، وَصُدَاعٍ يَسِيرٍ، وَحُمَّى
خَفِيفَةٍ، فَلَيْسَ بِعُذْرٍ وَضَبَطُوهُ:
بِأَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ كَمَشَقَّةِ
الْمَشْيِ فِي الْمَطَرِ، وَمِنْهَا: أَنْ
يَكُونَ مُمَرِّضًا لِمَرِيضٍ يَخَافُ
ضَيَاعَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَيْرُهُ
يَتَعَهَّدُهُ لَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ
بِهِ فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَيَانِ أصحهما: أَنَّهُ
عُذْرٌ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ تَرْكِهِ أَعْظَمُ
مِنْ مَشَقَّةِ الْمَطَرِ، وَلِأَنَّهُ
يَذْهَبُ خُشُوعُهُ.
والثاني: لَيْسَ بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَخَافُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا
الْمَرِيضُ قَرِيبًا أَوْ صِدِّيقًا،
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَرِيبًا لَا مَعْرِفَةَ
لَهُ بِهِ وَخَافَ ضَيَاعَهُ، وَمِنْهَا: أَنْ
يَكُونَ لَهُ قَرِيبٌ أَوْ صَدِيقٌ يَخَافُ
مَوْتَهُ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، وَمِنْهَا: أَنْ يَخَافَ عَلَى
نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى مَنْ
يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْهُ مِنْ سُلْطَانٍ
أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَظْلِمُهُ أَوْ
يَخَافُ مِنْ غَرِيمٍ لَهُ يَحْبِسُهُ أَوْ
يُلَازِمُهُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ. فَيُعْذَرُ
بِذَلِكَ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْخَوْفِ مِمَّنْ
يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ هُوَ ظَالِمٌ فِي
مَنْعِهِ، بَلْ عَلَيْهِ تَوْفِيَةُ الْحَقِّ
وَالْحُضُورُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَدْخُلُ
فِي الْخَوْفِ عَلَى الْمَالِ مَا إذَا كَانَ
خُبْزُهُ فِي التَّنُّورِ، وَقِدْرُهُ عَلَى
النَّارِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ
يَتَعَهَّدُهُمَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ
عَبْدٌ فَأَبَقَ، أَوْ دَابَّةٌ فَشَرَدَتْ
أَوْ زَوْجَةٌ نَشَزَتْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ،
وَيَرْجُو تَحْصِيلَهُ بِالتَّأَخُّرِ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (ونفسه توق إليه ) وهو الصواب
للزوم مادة توق (ط)
ج / 4 ص -73-
قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَمِنْ
الْأَعْذَارِ: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ،
وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لَقَتَلَهُ
وَيَرْجُو أَنَّهُ لَوْ غَيَّبَ وَجْهَهُ
أَيَّامًا لَذَهَبَ جَزَعُ الْمُسْتَحِقِّ،
وَعَفَا عَنْهُ مَجَّانًا أَوْ عَلَى مَالٍ
فَلَهُ التَّخَلُّفُ بِذَلِكَ، وَفِي
مَعْنَاهُ حَدُّ الْقَذْفِ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ:
فَإِنْ لَمْ يَرْجُ الْعَفْوَ لَوْ تَغَيَّبَ
لَمْ يَجُزْ التَّغَيُّبُ، وَلَمْ يَكُنْ
عُذْرًا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا
يُعْذَرُ مَنْ عَلَيْهِ حَدُّ شُرْبٍ أَوْ
سَرِقَةٍ أَوْ حَدُّ زِنًا بَلَغَ الْإِمَامَ
وَكَذَا كُلُّ مَا لَا يَسْقُطُ
بِالتَّوْبَةِ، وَاسْتَشْكَلَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ جَوَازَ التَّغَيُّبِ لِمَنْ
عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ
الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهَذَا
التَّغَيُّبُ طَرِيقٌ إلَى الْعَفْوِ،
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِيًّا لَا
لِبَاسَ لَهُ فَيُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ،
سَوَاءٌ وَجَدَ سَاتِرَ الْعَوْرَةِ أَمْ لَا؛
لِأَنَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فِي تَبَذُّلِهِ
بِالْمَشْيِ بِغَيْرِ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِهِ،
وَمِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ سَفَرًا وَتَرْتَحِلَ
الرُّفْقَةُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ نَشَدَ
ضَالَّةً يَرْجُوهَا إنْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ،
أَوْ وَجَدَ مَنْ غَصَبَ مَالَهُ، وَأَرَادَ
اسْتِرْدَادَهُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ
أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا وَكُرَّاثًا
وَنَحْوَهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ
الرَّائِحَةِ بِغُسْلٍ وَمُعَالَجَةٍ. فَإِنْ
أَمْكَنَتْهُ أَوْ كَانَ مَطْبُوخًا لَا رِيحَ
لَهُ فَلَا عُذْرَ. وَمِنْهَا: غَلَبَةُ
النَّوْمِ وَالنُّعَاسِ إنْ انْتَظَرَ
الْجَمَاعَةَ فَهُوَ عُذْرٌ، قَالَ صَاحِبُ
الْحَاوِي: وَالزَّلْزَلَةُ عُذْرٌ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ
لِمَنْ قَصَدَ الْجَمَاعَةَ أَنْ يَمْشِيَ
إلَيْهَا، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ
وَالْوَقَارُ؛ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ
خَافَ فَوْتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى
أَسْرَعَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "اشْتَدَّ إلَى
الصَّلَاةِ" "وَقَالَ: "بَادِرُوا حَدَّ
الصَّلَاةِ يَعْنِي التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى"
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعُونَ،
وَلَكِنْ ائْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ،
وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا
أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ
فَأَتِمُّوا".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَى فِي
الصَّحِيحَيْنِ:"وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" وَفِي رِوَايَةٍ
" فَاقْضُوا"
وَرِوَايَاتٌ
"فَأَتِمُّوا"
أَكْثَرُ قَالَ أَصْحَابُنَا: السُّنَّةُ
لِقَاصِدِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَمْشِيَ
إلَيْهَا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ سَوَاءٌ خَافَ
فَوْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا
أَمْ لَا، وَفِيهِ هَذَا الْوَجْهُ لِأَبِي
إِسْحَاقَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، مُنَابِذٌ
لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ
لَا يَعْبَثَ فِي مَشْيِهِ إلَى الصَّلَاةِ،
وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمُسْتَهْجَنٍ، وَلَا
يَتَعَاطَى مَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا
الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّهُ:1 يُسْتَحَبُّ
الْمُحَافَظَةُ عَلَى إدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ بِأَنْ
يَتَقَدَّمَ إلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ وَقْتِ
الْإِقَامَةِ، وَجَاءَ فِي فَضِيلَةِ
إدْرَاكِهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ عَنْ
السَّلَفِ مِنْهَا هَذَا الْمَذْكُورُ عَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَأَشْيَاءُ عَنْ غَيْرِهِ؛
وَيُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه
وسلم
"إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ
فَكَبِّرُوا"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَنْ
رِوَايَةِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ،
وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ الْفَاءَ
عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لِلتَّعْقِيبِ،
فَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ
بِتَعْقِيبِ تَكْبِيرَتِهِ بِتَكْبِيرَةِ
الْإِمَامِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا
يُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أصحها:
بِأَنْ يَحْضُرَ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ،
وَيَشْتَغِلَ عَقِبهَا بِعَقْدِ صَلَاتِهِ
مِنْ غَيْرِ وَسْوَسَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِنْ
أَخَّرَ لَمْ يُدْرِكْهَا والثاني:
يُدْرِكُهَا مَا لَمْ يَشْرَعْ الْإِمَامُ فِي
الْفَاتِحَةِ فَقَطْ والثالث: بِأَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصول (فرع )
ج / 4 ص -74-
يُدْرِكَ الرُّكُوعَ فِي الرَّكْعَةِ
الْأُولَى والرابع: بِأَنْ يُدْرِكَ شَيْئًا
مِنْ الْقِيَامِ والخامس: إنْ شَغْلَهُ أَمْرٌ
دُنْيَوِيٌّ لَمْ يُدْرِكْ بِالرُّكُوعِ،
وَإِنْ مَنَعَهُ عُذْرٌ أَوْ سَبَبٌ
لِلصَّلَاةِ كَالطَّهَارَةِ أَدْرَكَ بِهِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ فِي
الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ: هُمَا
فِيمَنْ لَمْ يَحْضُرْ إحْرَامَ الْإِمَامِ،
فَأَمَّا مَنْ حَضَرَ فَقَدْ فَاتَهُ
فَضِيلَةُ التَّكْبِيرَةِ، وَإِنْ أَدْرَكَ
الرَّكْعَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا: أَنَّ السُّنَّةَ لِقَاصِدِ
الْجَمَاعَةِ أَنْ يَمْشِيَ بِسَكِينَةٍ
سَوَاءٌ خَافَ فَوْتَ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ أَمْ لَا، وَحَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَأَنَسٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحَكَاهُ
الْعَبْدَرِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ،
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَهُمَا
تَابِعِيَّانِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ
أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا خَافَ فَوْتَ
تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَسْرَعَ.
دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"فَإِنْ حَضَرَ،
وَالْإِمَامُ لَمْ يَحْضُرْ فَإِنْ كَانَ
لِلْمَسْجِدِ إمَامٌ رَاتِبٌ قَرِيبٌ
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْفُذَ إلَيْهِ
لِيَحْضُرَ؛ لِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ
الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ،
وَإِفْسَادًا لِلْقُلُوبِ. وَإِنْ خَشِيَ
فَوَاتَ أَوَّلِ الْوَقْتِ لَمْ يَنْتَظِرْ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرٍو بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَ
النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه وَحَضَرَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ فِي
الصَّلَاةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ".
الشرح: حَدِيثُ قِصَّةِ
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدَيْ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا حَضَرَتْ
الْجَمَاعَةُ، وَلَمْ يَحْضُرْ إمَامٌ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ إمَامٌ رَاتِبٌ
قَدَّمُوا وَاحِدًا وَصَلَّى بِهِمْ، وَإِنْ
كَانَ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ، فَانٍ كَانَ
قَرِيبًا بَعَثُوا إلَيْهِ مَنْ سَيَعْلَمُ
خَبَرَهُ لِيَحْضُرَ أَوْ يَأْذَنَ لِمَنْ
يُصَلِّي بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا أَوْ
لَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنْ عَرَفُوا
مِنْ حُسْنِ خُلُقِهِ أَنْ لَا يَتَأَذَّى
بِتَقَدُّمِ غَيْرِهِ، وَلَا يَحْصُلُ
بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ
يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ وَيُصَلِّي بِهِمْ،
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلِحِفْظِ أَوَّلِ
الْوَقْتِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ وَأَحْبُهُمْ إلَى
الْإِمَامِ، وَإِنْ خَافُوا أَذَاهُ أَوْ
فِتْنَةً انْتَظَرُوهُ. فَإِنْ طَالَ
الِانْتِظَارُ وَخَافُوا فَوَاتَ الْوَقْتِ
كُلِّهِ صَلُّوا جَمَاعَةً، هَكَذَا ذَكَرَ
هَذِهِ الْجُمْلَةَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: ، وَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامُ
وَبَعْضُ الْمَأْمُومِينَ صَلَّى بِهِمْ
الْإِمَامُ، وَلَا يَنْتَظِرُ اجْتِمَاعَ
الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ مَعَ جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ أَفْضَلُ
مِنْ فِعْلِهَا آخِرَ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ
كَثِيرَةٍ.
فرع: لَوْ جَرَتْ عَادَةُ
الْإِمَامِ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ
أَوَّلِ الْوَقْتِ وَفِعْلِهَا فِي
أَثْنَائِهِ أَوْ آخِرِهِ فَهَلْ الْأَفْضَلُ
أَنْ يَنْتَظِرَهُ لِيُصَلِّيَ مَعَهُ؟ أَمْ
يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا؟
فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ إيضَاحُهُ فِي بَابِ
التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ تَعْجِيلِ
التَّيَمُّمِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ دَخَلَ
فِي صَلَاةٍ نَافِلَةٍ ثُمَّ أُقِيمَتْ
الْجَمَاعَةُ فَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ
الْجَمَاعَةِ أَتَمَّ النَّافِلَةَ ثُمَّ
دَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ خَشِيَ
فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ قَطَعَ النَّافِلَةَ؛
لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَفْضَلُ".
الشرح: هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ
الْأَصْحَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَمُرَادُهُ
بِقَوْلِهِ:
ج / 4 ص -75-
خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ أَنْ تَفُوتَ كُلُّهَا بِأَنْ
يُسَلِّمَ مِنْ صَلَاتِهِ، هَكَذَا صَرَّحَ
بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالشَّيْخُ
نَصْرٌ وَآخَرُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ دَخَلَ
فِي فَرْضِ الْوَقْتِ ثُمَّ أُقِيمَتْ
الْجَمَاعَةُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْطَعَ
وَيَدْخُلَ فِي الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنْ نَوَى
الدُّخُولَ فِي الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَقْطَعَ صَلَاتَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ قَالَ
فِي الْإِمْلَاءِ: لَا يَجُوزُ، وَتَبْطُلُ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ سَبَقَتْ
تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا
لَوْ حَضَرَ مَعَهُ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ
فَكَبَّرَ قَبْلَهُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ
وَالْجَدِيدِ: يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَ
صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ يُصَلِّيَ
إمَامًا بِأَنْ يَجِيءَ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ،
جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَ صَلَاتِهِ
مُنْفَرِدًا، ثُمَّ يَصِيرُ مَأْمُومًا،
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ
قَدْ رَكَعَ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ لَمْ
يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ
يَتَغَيَّرُ تَرْتِيبُ صَلَاتِهِ
بِالْمُتَابَعَةِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا
فَرْقَ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ
يُفَرِّقْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ
تَرْتِيبُ صَلَاتِهِ بِالْمُتَابَعَةِ
كَالْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا دَخَلَ فِي فَرْضِ
الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَرَادَ
الدُّخُولَ فِي جَمَاعَةٍ اُسْتُحِبَّ أَنْ
يُتِمَّهَا رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ مِنْهَا
فَتَكُونَ نَافِلَةً؛ ثُمَّ يَدْخُلَ فِي
الْجَمَاعَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقْطَعَهَا ثُمَّ
يَسْتَأْنِفَهَا فِي الْجَمَاعَةِ؛ هَكَذَا
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي
الْمُخْتَصَرِ؛ وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ
عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِينَ، وَيُنْكَرُ عَلَى
الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ قَالَ: يَقْطَعُ
الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَقُلْ: يُسَلِّمُ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ، وَيُتَأَوَّلُ كَلَامُهُ
عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إذَا خَشِيَ فَوْتَ
الْجَمَاعَةِ لَوْ تَمَّمَ رَكْعَتَيْنِ،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ قَطْعُهَا
فَلَوْ لَمْ يَقْطَعْهَا، وَلَمْ يُسَلِّمْ
بَلْ نَوَى الدُّخُولَ فِي الْجَمَاعَةِ
وَاسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاةِ - فَقَدْ نَصَّ
الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْمَزْنِيِّ
عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَاتَّفَقَ
الْأَصْحَابُ عَلَى كَرَاهَتِهِ كَمَا نَصَّ
عَلَيْهِ، وَفِي صِحَّتِهَا طَرِيقَانِ:
أحدهما: الْقَطْعُ بِبُطْلَانِهَا، حَكَاهُ
الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَبِي حَنِيفَةَ. والثاني: ، وَهُوَ
الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَطْبَقَ
عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَفِيهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ: يَصِحُّ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي
مُعْظَمِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ. وَالثَّانِي:
لَا يَصِحُّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ
مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ، وَدَلِيلُهَا مَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَيُسْتَدَلُّ
لِلصِّحَّةِ أَيْضًا بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَبْلَ مَجِيءِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمُوا
أَبَا بَكْرٍ لِيُصَلِّيَ، ثُمَّ جَاءَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ فِي
الصَّلَاةِ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ
وَاقْتَدَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَالْجَمَاعَةُ،
فَصَارَ أَبُو بَكْرٍ مُقْتَدِيًا فِي
أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ
الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ
مَشْهُورَةٍ أحدها الْقَوْلَانِ فِيمَنْ
دَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ بَعْدَ رُكُوعِهِ
مُنْفَرِدًا فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ رُكُوعِهِ
صَحَّتْ قَوْلًا وَاحِدًا والثاني:
الْقَوْلَانِ فِيمَنْ دَخَلَ فِيهَا قَبْل
رُكُوعِهِ فَإِنْ دَخَلَ فِيهَا بَعْدَهُ
بَطَلَتْ قَوْلًا وَاحِدًا والثالث:
الْقَوْلَانِ إذَا اتَّفَقَا فِي الرَّكْعَةِ
أُولَى أَوْ ثَانِيَةٍ، فَإِنْ اخْتَلَفَا
وَكَانَ الْإِمَامُ فِي رَكْعَةٍ،
وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى مُتَقَدِّمَةٍ
أَوْ مُتَأَخِّرَةٍ بَطَلَتْ قَوْلًا
وَاحِدًا.
والرابع: وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ
الْقَوْلَيْنِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا
لِوُجُودِ عِلَّةٍ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ،
وَالْمَذْهَبُ
ج / 4 ص -76-
صِحَّتُهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَسَوَاءٌ اقْتَدَى
بِإِمَامٍ أَحْرَمَ بَعْدَهُ أَمْ بِإِمَامٍ
كَانَ مُحْرِمًا قَبْلَ إحْرَامِ هَذَا
الْمُقْتَدِي.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ
بِمَنِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ
الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَقَامَ
الْمُقْتَدِي وَاقْتَدَى فِي رَكْعَتَيْهِ
الْبَاقِيَتَيْنِ بِآخَرَ فَفِيهِ
الْقَوْلَانِ، وَمِثْلُهُ هَذَا الَّذِي
يَعْتَادُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُدْرِكُ
الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ
فَيُحْرِمُ خَلْفَهُ بِالْعِشَاءِ، فَإِذَا
سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ الْمُقْتَدِي
لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ ثُمَّ يُحْرِمُ
الْإِمَامُ بِرَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فِي
التَّرَاوِيحِ فَيَقْتَدِي بِهِ فِيهِمَا،
فَفِي صِحَّتِهِ الْقَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا:
الصِّحَّةُ.
وَهَكَذَا لَوْ اقْتَدَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
فَفِيهِ الْخِلَافُ بِالتَّرْتِيبِ وَأَوْلَى
بِالْبُطْلَانِ، فَإِذَا قلنا: بِالصِّحَّةِ
فَاخْتَلَفَا فِي الرَّكْعَةِ لَزِمَ
الْمَأْمُومُ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ
فَيَقْعُدُ فِي مَوْضِعِ قُعُودِهِ وَيَقُومُ
فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ، فَإِنْ تَمَّتْ
صَلَاةُ الْإِمَامِ أَوَّلًا قَامَ
الْمَأْمُومُ بَعْدَ سَلَامِهِ لِتَتِمَّةِ
صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ، وَإِنْ
تَمَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ أَوَّلًا لَمْ
يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي
الزِّيَادَةِ، بَلْ إنْ شَاءَ فَارَقَهُ
عِنْدَ تَمَامِهَا وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ،
وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ
فَارَقَهُ بِعُذْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ،
وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ فِي التَّشَهُّدِ
وَطُولِ الدُّعَاءِ حَتَّى يَلْحَقَهُ
الْإِمَامُ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَقِبَهُ وَلَوْ
سَهَا الْمَأْمُومُ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ لَمْ
يَتَحَمَّلْ عَنْهُ الْإِمَامُ، بَلْ إذَا
سَلَّمَ الْإِمَامُ سَجَدَ هُوَ لِسَهْوِهِ
إنْ كَانَتْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَإِلَّا
سَجَدَ عِنْدَ تَمَامِهَا، وَإِنْ سَهَا
بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ حَمَلَ عَنْهُ
الْإِمَامُ، وَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ قَبْلَ
الِاقْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ لَحِقَ
الْمَأْمُومَ سَهْوُهُ، وَيَسْجُدُ مَعَهُ
وَيُعِيدُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى
الْأَظْهَرِ كَالْمَسْبُوقِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ
هُنَا أَنَّ الْقَوْلَ الْقَدِيمَ: صِحَّةُ
صَلَاةِ هَذَا الْمُقْتَدِي، كَمَا نَصَّ
عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَتَابَعَهُ عَلَى
هَذَا صَاحِبَا الْمُعْتَمَدِ وَالْبَيَانِ
تَقْلِيدًا لَهُ، وَاَلَّذِي نَقَلَهُ
أَصْحَابُنَا عَنْ الْقَدِيمِ بُطْلَانُ
صَلَاتِهِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ ذَلِكَ صَرِيحًا
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ الْحَاوِي
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَالْمَحَامِلِيُّ فِي التَّجْرِيدِ
وَالْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ،
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ نَصَّهُ فِي
الْقَدِيمِ قَالَ قَائِلٌ: يَدْخُلُ مَعَ
الْإِمَامِ وَيَعْتَدُّ بِمَا مَضَى،
وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا
فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
الشَّافِعِيُّ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ: يُسَلِّمُ
مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَكُونُ نَافِلَةً هُوَ
الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ فِي فصل:النِّيَّةِ
مَسَائِلُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيهَا
خِلَافٌ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ فِي
التَّرْجِيحِ كَمَا سَبَقَ هُنَاكَ، وَفِي
هَذَا النَّصِّ وَاتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ
عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى
جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْ فَرِيضَةٍ دَخَلَ
فِيهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا لِلْعُذْرِ،
وَأَمَّا إذَا خَرَجَ مِنْهَا بِلَا عُذْرٍ
فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى
الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ الَّذِي
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ
الْجُمْهُورُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ
الْمَسْأَلَةِ مُسْتَقْصًى فِي بَابِ
التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ
الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَقَالَ
الْمُتَوَلِّي: إذَا قُلْنَا: إنْ قَلَبَ
فَرْضَهُ نَفْلًا لَا يَنْقَلِبُ بَلْ
تَبْطُلُ صَلَاتُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ هُنَا
أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيَدْخُلَ
فِي الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَبْطَالَ
فَرْضٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الْمُتَوَلِّي غَلَطٌ ظَاهِرٌ مُخَالِفٌ
لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَصْحَابِ
جَمِيعِهِمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ،
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ
قَطْعُ الْفَرْضِ لِعُذْرٍ، وَتَحْصِيلُ
الْجَمَاعَةِ عُذْرٌ مُهِمٌّ؛ لِأَنَّهُ إذَا
جَازَ قَطْعُهُ لِعُذْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَحَظِّ
نَفْسِهِ فَجَوَازُهُ لِمُصْلِحَةِ الصَّلَاةِ
وَلِسَبَبِ تَكْمِيلِهَا أَوْلَى، ثُمَّ
تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ إبْطَالُ فَرْضٍ
تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ
الْفَرْضِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ قُلْنَا:
يَنْقَلِبُ نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
ج / 4 ص -77-
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ: أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَمَاعَةَ،
وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ
صَلَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ
كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ اُسْتُحِبَّ
أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا مَعَ
الْجَمَاعَةِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا
الرَّافِعِيُّ.
فرع: هَذَا الَّذِي سَبَقَ
هُوَ فِيمَا إذَا دَخَلَ فِي فَرْضِ الْوَقْتِ
ثُمَّ أَرَادَ جَمَاعَةً، فَأَمَّا إذَا
دَخَلَ فِي فَائِتَةٍ ثُمَّ أَرَادَ
الدُّخُولَ فِي جَمَاعَةٍ فَانٍ كَانَتْ
الْجَمَاعَةُ تُصَلِّي تِلْكَ الْفَائِتَةَ
فَالْجَمَاعَةُ مَسْنُونَةٌ لَهَا. فَهِيَ
كَفَرْضِ الْوَقْتِ فِيمَا ذَكَرَهُ، وَإِنْ
كَانَتْ الْجَمَاعَةُ غَيْرَ تِلْكَ
الْفَائِتَةِ لَمْ يَجِبْ التَّسْلِيمُ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ، وَلَا قَطْعُهَا لِتَحْصِيلِ
تِلْكَ الْفَائِتَةِ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ
الْجَمَاعَةَ لَا تُشْرَعُ حِينَئِذٍ كَمَا
سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ.
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ
التَّتِمَّةِ قَالَ: لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ
لَيْسَتْ مِنْ مَصْلَحَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ،
وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ فَرِيضَةٍ لِمُرَاعَاةِ
مَصْلَحَةِ فَرِيضَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا
بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَعَ فِي فَائِتَةٍ فِي
يَوْمِ غَيْمٍ، ثُمَّ انْكَشَفَ وَخَافَ
فَوْتَ الْحَاضِرَةِ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ وَيَشْتَغِلُ بِالْحَاضِرَةِ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ شَرَعَ فِي
فَرِيضَةٍ فِي آخِرِ وَقْتِهَا مُنْفَرِدًا،
وَأَمْكَنَهُ إتْمَامُهَا فِي الْوَقْتِ
مُنْفَرِدًا، وَحَضَرَ قَوْمٌ يُصَلُّونَهَا
جَمَاعَةً، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ
مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَعَ
بَعْضُهَا خَارِجَ الْوَقْتِ أَوْ شَكَّ فِي
ذَلِكَ حُرِّمَ عليه السلام مِنْ
رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ
فَرْضٌ، وَالْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ، فَلَا
يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِمُرَاعَاةِ
سُنَّةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ
الْبَيَانِ: إذَا افْتَتَحَ جَمَاعَةً ثُمَّ
نَقَلَهَا إلَى جَمَاعَةٍ أُخْرَى بِأَنْ
أَحْرَمَ خَلْفَ جُنُبٍ أَوْ مُحْدِثٍ لَمْ
يَعْلَمْ ، ثُمَّ عَلِمَ الْإِمَامُ فَخَرَجَ
فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَحْرَمَ
بِالصَّلَاةِ فَأَلْحَقَ الْمَأْمُومُ
صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ ثَانِيًا أَوْ جَاءَ
آخَرُ فَأَلْحَق الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ
بِصَلَاتِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِحَدَثِ
الْأَوَّلِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ
ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَتَكُونُ صَلَاةُ
الْمَأْمُومِ انْعَقَدَتْ جَمَاعَةً ثُمَّ
صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جَمَاعَةً، وَهَذَا لَا
خِلَافَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ
مُنْفَرِدًا، وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ
الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ وَجَوَّزْنَا
الِاسْتِخْلَافَ فَإِنَّ الْمَأْمُومِينَ
نَقَلُوا صَلَاتَهُمْ مِنْ جَمَاعَةٍ إلَى
جَمَاعَةٍ هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ،
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
التَّعْلِيقِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ
نَحْوَهُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ:
قَلْبُ الْفَرْضِ إلَى غَيْرِهِ أَرْبَعَةُ
أَنْوَاعٍ:
أحدها: أَنْ يُحْرِمَ بِالطُّهْرِ ظَانًّا
دُخُولَ الْوَقْتِ فَيَتَبَيَّنُ عَدَمَهُ
فَيَقَعُ نَافِلَةً هَكَذَا جَزَمُوا بِهِ،
وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ
فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
الثَّانِي: يُحْرِمُ بِفَرِيضَةٍ ثُمَّ
يَنْوِي قَلْبَهَا فَرِيضَةً أُخْرَى أَوْ
مَنْذُورَةً فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ فِي انْقِلَابهَا
نَفْلًا قَوْلَانِ سَبَقَا.
الثالث: يُحْرِمُ بِفَرِيضَةٍ ثُمَّ يَنْوِي
قَلْبَهَا نَافِلَةً فَتَبْطُلُ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ وَحَكَى
هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ وَغَيْرُهُمْ
وَجْهًا أَنَّهُ يَقَعُ نَفْلًا.
الرابع مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ: أَنْ
يُحْرِمَ بِفَرْضٍ مُنْفَرِدًا ثُمَّ يُرِيدُ
دُخُولَ جَمَاعَةٍ فَيَقْتَصِرُ عَلَى
رَكْعَتَيْنِ
ج / 4 ص -78-
نَصَّ
الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى
وُقُوعِهَا نَافِلَةً، وَطَرَدَ جَمَاعَةٌ
فِيهَا الْخِلَافَ، وَالْمَذْهَبُ وُقُوعُهَا
نَافِلَةً، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ هُنَا
مَعْذُورٌ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَقْلُ الصَّلَاةِ
إلَى صَلَاةٍ أَقْسَامٌ: أحدها: نَقْلُ فَرْضٍ
إلَى فَرْضٍ فَلَا يَحْصُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
الثاني: نَقْلُ نَفْلٍ رَاتِبٍ إلَى نَفْلٍ
رَاتِبٍ كَوِتْرٍ إلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ
فَلَا يَحْصُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الثالث:
نَقْلُ نَفْلٍ إلَى فَرْضٍ فَلَا يَحْصُلُ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا الرابع: نَقْلُ فَرْضٍ إلَى
نَفْلٍ فَهَذَا نَوْعَانِ: نَقْلُ حُكْمٍ
كَمَنْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ قَبْلَ
الزَّوَالِ جَاهِلًا فَتَقَعُ نَفْلًا،
وَالثَّانِي: نَقْلُ نِيَّةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ
قَلْبَهُ نَفْلًا عَامِدًا فَيَبْطُلَ
فَرْضُهُ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ
لَا يَنْقَلِبُ نَفْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ دَخَلَ فِي
جَمَاعَةٍ ثُمَّ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى
فَنَوَى قَطْعَ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ
الْأَوَّلِ ثُمَّ نَوَى مُتَابَعَةَ الثَّانِي
فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِقَطْعِ
الِاقْتِدَاءِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ،
وَسَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تعالى وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ
سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ،
فَعَلَى هَذَا فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ
الثَّانِي الْقَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الَّتِي نَحْنُ فِيهَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي
وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ حَضَرَ
وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ لَمْ يَشْتَغِلْ
عَنْهَا بِنَافِلَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ
قَوْلُهُ: رُوِيَ بِصِيغَةِ تَمْرِيضٍ مَعَ
أَنَّهُ صَحِيحٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ
كُرِهَ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْفَرِيضَةَ
افْتِتَاحُ نَافِلَةٍ. سَوَاءٌ كَانَتْ
سُنَّةً رَاتِبَةً لِتِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ
تَحِيَّةَ مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرَهَا لِعُمُومِ
هَذَا الْحَدِيثِ. وَسَوَاءٌ فَرَغَ
الْمُؤَذِّنُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ أَمْ
كَانَ فِي أَثْنَائِهَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ
أَنَّهُ يَفْرُغُ مِنْ النَّافِلَةِ
وَيُدْرِكُ إحْرَامَ الْإِمَامِ أَمْ لَا.
لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، هَذَا مَذْهَبُنَا،
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَابْنُهُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدٌ بْنُ
جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتِي
الْفَجْرِ، وَالْإِمَامُ فِي الْمَكْتُوبَةِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا وَجَدَهُ فِي
الْفَجْرِ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى سُنَّتَهَا
يَخْرُجُ إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ
فَيُصَلِّيهَا ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي
مَعَهُ الْفَرِيضَةَ، حَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ وَمَكْحُولٍ
وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَحَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ، وَقَالَ مَالِكٌ مِثْلَهُ
إنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرَّكْعَةِ فَإِنْ
خَافَهُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ
طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَ صَلَاةَ الْإِمَامِ
صَلَّاهُمَا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ وَإِلَّا
فَلِيُحْرِمْ مَعَهُ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ
أَدْرَكَهُ فِي الْقِيَامِ وَخَشِيَ أَنْ
تَفُوتَهُ الْقِرَاءَةُ تَرَكَ دُعَاءَ
الِاسْتِفْتَاحِ وَاشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ؛
لِأَنَّهَا فَرْضٌ فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ
بِالنَّفْلِ، فَإِنْ قَرَأَ بَعْضَ
الْفَاتِحَةِ فَرَكَعَ الْإِمَامُ فَفِيهِ
وَجْهَانِ أحدهما يَرْكَعُ وَيَتْرُكُ
الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ
آكَدُ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا
سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ، الثاني:
يَلْزَمُهُ أَنْ يُتِمَّ الْفَاتِحَةَ؛
لِأَنَّهُ لَزِمَ بَعْضَ الْقِرَاءَةِ
فَلَزِمَهُ إتْمَامُهَا".
ج / 4 ص -79-
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا حَضَرَ مَسْبُوقٌ فَوَجَدَ الْإِمَامَ
فِي الْقِرَاءَةِ وَخَافَ رُكُوعَهُ قَبْلَ
فَرَاغِهِ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ
لَا يَقُولَ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ
وَالتَّعَوُّذِ، بَلْ يُبَادِرُ إلَى
الْفَاتِحَةِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ،
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا
قَالَ الدُّعَاءَ وَالتَّعَوُّذَ أَدْرَكَ
تَمَامَ الْفَاتِحَةِ اُسْتُحِبَّ
الْإِتْيَانُ بِهِمَا فَلَوْ رَكَعَ
الْإِمَامُ، وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ
الْفَاتِحَةِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها:
يُتِمُّ الْفَاتِحَةَ والثاني: يَرْكَعُ
وَيَسْقُطُ عَنْهُ قِرَاءَتُهَا،
وَدَلِيلُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ،
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: هَذَا الثَّانِي
هُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ، قَالَ: ،
وَهُوَ الْمَذْهَبُ والثالث، وَهُوَ
الْأَصَحُّ، ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي
زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَصَحَّحَهُ
الْقَفَّالُ وَالْمُعْتَبَرُ1 أَنَّهُ إنْ
لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ دُعَاءِ
الِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ رَكَعَ وَسَقَطَ
عَنْهُ بَقِيَّةُ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ قَالَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ
مِنْ الْفَاتِحَةِ بِقَدْرِهِ لِتَقْصِيرِهِ
بِالتَّشَاغُلِ فَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ
إتْمَامُ الْفَاتِحَةِ فَتَخَلَّفَ لِيَقْرَأَ
كَانَ مُتَخَلِّفًا بِعُذْرٍ فَيَسْعَى خَلْفَ
الْإِمَامِ عَلَى نَظْمِ صَلَاةِ نَفْسِهِ
فَيُتِمُّ الْقِرَاءَةَ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ
يَعْتَدِلُ ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى يَلْحَقَ
الْإِمَامَ وَيُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ
بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ مَقْصُودَةٍ وَتُحْسَبُ
لَهُ رَكْعَتُهُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى
ثَلَاثَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تعالى فِي فصل مُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ.
فَإِنْ خَالَفَ، وَلَمْ يُتِمَّ الْفَاتِحَةَ
بَلْ رَكَعَ عَمْدًا عَالِمًا بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ لِتَرْكِهِ الْقِرَاءَةَ عَامِدًا،
وَإِنْ قُلْنَا: يَرْكَعُ رَكَعَ مَعَ
الْإِمَامِ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ
وَحُسِبَتْ لَهُ الرَّكْعَةُ. فَلَوْ
اشْتَغَلَ بِإِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ كَانَ
مُتَخَلِّفًا بِلَا عُذْرٍ، فَإِنْ سَبَقَهُ
الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ وَقَرَأَ هَذَا
الْمَسْبُوقُ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ لَحِقَهُ فِي
الِاعْتِدَالِ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا
لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْهُ فِي
مُعْظَمِهَا، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْأَصْحَابُ، وَهَلْ
تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا قُلْنَا
بِالْمَذْهَبِ: إنَّ التَّخَلُّفَ بِرُكْنٍ
وَاحِدٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَآخَرُونَ أصحهما: لَا تَبْطُلُ كَمَا فِي
غَيْرِ الْمَسْبُوقِ والثاني: تَبْطُلُ؛
لِأَنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ
فِيمَا فَاتَتْ بِهِ رَكْعَةٌ فَكَانَ
كَالتَّخَلُّفِ بِرَكْعَةٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ وَجَبَ
اسْتِئْنَافُهَا وَحُرِّمَ الِاسْتِمْرَارُ
فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهَا، وَإِنْ
قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ قَالَ الْإِمَامُ:
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَعَ؛ لِأَنَّ
الرُّكُوعَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَهُ، وَلَكِنْ
يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الْهَوَى إلَى
السُّجُودِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ
الْآنَ، وَالرَّكْعَةُ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ
لَهُ، ثُمَّ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ
يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ مَا يُمْكِنْهُ
فِيهِ إتْمَامُ الْفَاتِحَةِ، فَأَمَّا إذَا
أَتَى بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ وَتَعَوَّذَ
ثُمَّ سَبَّحَ أَوْ سَكَتَ طَوِيلًا فَإِنَّهُ
مُقَصِّرٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَسْقُطُ
عَنْهُ الْفَاتِحَةُ صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ
أَدْرَكَهُ، وَهُوَ رَاكِعٌ كَبَّرَ
لِلْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ
يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَرْكَعُ، فَإِنْ
كَبَّرَ تَكْبِيرَةً[وَاحِدَةً]2نَوَى بِهَا
الْإِحْرَامَ، وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ لَمْ
تُجْزِئْهُ عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ
أَشْرَكَ فِي النِّيَّةِ بَيْنَ الْفَرْضِ
وَالنَّفَلِ، وَهَلْ تَنْعَقِدُ[لَهُ]صَلَاةُ
نَفْلٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: تَنْعَقِدُ،
كَمَا لَوْ أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
وَنَوَى بِهَا الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ
التَّطَوُّعِ والثاني: لَا تَنْعَقِدُ؛
لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي النِّيَّةِ بَيْنَ
تَكْبِيرَةٍ هِيَ شَرْطٌ وَتَكْبِيرَةٍ
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق ( والمعتبر ون ) وليس كذلك (ط)
2 مابين المعقوفين ليس في ش و ق (ط)
ج / 4 ص -80-
الشرح: إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ قَائِمًا
ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَهْوِي
إلَيْهِ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ لَمْ
تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ،
وَلَا تَنْعَقِدُ نَفْلًا أَيْضًا عَلَى
الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ بَيَانُهُ
فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَسَبَقَ
هُنَاكَ، أَنَّ الْأَشْهَرَ مِنْ مَذْهَبِ
مَالِكٍ أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ
الْإِمَامَ رَاكِعًا وَوَقَعَتْ تَكْبِيرَةُ
إحْرَامِهِ فِي حَدِّ الرُّكُوعِ انْعَقَدَتْ
صَلَاتُهُ فَرْضًا، دَلِيلُنَا الْقِيَاسُ
عَلَى غَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَإِذَا كَبَّرَ
لِلْإِحْرَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ
بِالْفَاتِحَةِ بَلْ يَهْوِي لِلرُّكُوعِ
مُكَبِّرًا لَهُ، وَكَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ
قَائِمًا فَكَبَّرَ فَرَكَعَ الْإِمَامُ
بِمُجَرَّدِ تَكْبِيرِهِ. فَلَوْ اقْتَصَرَ
فِي الْحَالَيْنِ عَلَى تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ
وَأَتَى بِهَا بِكَمَالِهَا فِي حَالِ
الْقِيَامِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أحدها: أَنْ يَنْوِيَ تَكْبِيرَةَ
الْإِحْرَامِ فَقَطْ فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ
فَرِيضَةً الثاني: أَنْ يَنْوِيَ تَكْبِيرَةَ
الرُّكُوعِ فَلَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ
الثالث: يَنْوِيهِمَا جَمِيعًا فَلَا
تَنْعَقِدُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي
انْعِقَادِهَا نَفْلًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ: لَا
تَنْعَقِدُ وَالثَّانِي: تَنْعَقِدُ.
وَالثَّالِثُ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ: إنْ كَانَتْ الَّتِي أَحْرَمَ
بِهَا نَافِلَةً انْعَقَدَتْ نَافِلَةً،
وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً فَلَا الْحَالُ
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ وَاحِدَةً
مِنْهُمَا، بَلْ يُطْلِقُ التَّكْبِيرَ،
فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ في"الأم" وَقَطَعَ
بِهِ الْجُمْهُورُ لَا تَنْعَقِدُ.
وَالثَّانِي: تَنْعَقِدُ فَرْضًا لِقَرِينَةِ
الِافْتِتَاحِ، وَمَالَ إلَيْهِ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ. وَأَمَّا قِيَاسُ الْمُصَنِّفِ
عَلَى مَنْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ وَنَوَى بِهَا
الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
فَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَقَعُ صَدَقَةَ
تَطَوُّعٍ بِلَا خِلَافٍ، وَلَكِنَّهُ قِيَاسٌ
ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ بَيْنَهَا
جَامِعٌ وَعِلَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَوْ كَانَ
فَالْفَرْقُ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ
تَجْزِهِ عَنْ الزَّكَاةِ، فَبَقِيَتْ
تَبَرُّعًا، وَهَذَا مَعْنَاهُ صَدَقَةُ
التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا تَكْبِيرَةُ
الْإِحْرَامِ فَهِيَ رُكْنٌ لِصَلَاةِ
الْفَرْضِ وَلِصَلَاةِ النَّفْلِ، وَلَمْ
تَتَمَحَّضْ هَذِهِ التَّكْبِيرَةُ
لِلْإِحْرَامِ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ فَرْضًا،
وَكَذَا النَّفَلُ؛ إذْ لَا فَرْقَ
بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ
أَدْرَكَ مَعَهُ مِقْدَارَ الرُّكُوعِ
الْجَائِزِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ،
وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ لَمْ يُدْرِكْ
الرَّكْعَةَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى،
وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ فَلْيُتِمَّ
الظُّهْرَ أَرْبَعًا".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ
بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ،
وَلَفْظُهُ
"مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً
فَلْيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى، فَإِنْ
أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى الظُّهْرَ
أَرْبَعًا" فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا أَدْرَكَ مَسْبُوقٌ
الْإِمَامَ رَاكِعًا وَكَبَّرَ، وَهُوَ
قَائِمٌ ثُمَّ رَكَعَ فَإِنْ وَصَلَ
الْمَأْمُومُ إلَى حَدِّ الرُّكُوعِ
الْمُجْزِئِ، وَهُوَ أَنْ تَبْلُغَ رَاحَتَاهُ
رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ
عَنْ حَدِّ الرُّكُوعِ الْمُجْزِئِ فَقَدْ
أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ وَحُسِّبَتْ لَهُ قَالَ
صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ
يَطْمَئِنَّ الْمَأْمُومُ فِي الرُّكُوعِ
قَبْلَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَنْ حَدِّ
الرُّكُوعِ الْمُجْزِئِ. وَأَطْلَقَ جُمْهُورُ
الْأَصْحَابِ الْمَسْأَلَةَ، وَلَمْ
يَتَعَرَّضُوا لِلطُّمَأْنِينَةِ، وَلَا بُدَّ
مِنْ اشْتِرَاطِهَا كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ
الْبَيَانِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ
أَصْحَابُنَا: ، وَلَا يَضُرُّ ارْتِفَاعُ
الْإِمَامِ عَنْ أَكْمَلِ الرُّكُوعِ إذَا
لَمْ يَرْتَفِعْ عَنْ الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إدْرَاكِ
الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ هُوَ
الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ، وَقَالَهُ جَمَاهِيرُ
الْأَصْحَابِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ،
وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَطْبَقَ
عَلَيْهِ النَّاسُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ
ج / 4 ص -81-
مُزَيَّفٌ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ
بِذَلِكَ، حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ عَنْ
إمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِنَا
الْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، وَحَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّبْغِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ
بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِسْكَانِ
الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَالِغِينَ
الْمُعْجَمَةِ، قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ:
هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ
الْأَعْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى الْإِدْرَاكِ
بِهِ فَخِلَافُ مَنْ بَعْدَهُمْ لَا يُعْتَدُّ
بِهِ، فَإِذَا قلنا: بِالْمَذْهَبِ، وَهُوَ
أَنَّهُ يُدْرِكُهَا فَشَكَّ هَلْ بَلَغَ
حَدَّ الرُّكُوعِ الْمُجْزِئِ وَاطْمَأَنَّ
قَبْلَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَنْهُ أَمْ
بَعْدَهُ؟ فَطَرِيقَانِ: أحدهما، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ فِي
الطَّرِيقَتَيْنِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَا يَكُونُ
مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ
عَدَمُ الْإِدْرَاكِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ
بِالِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ
الرُّكُوعِ رُخْصَةٌ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ
إلَّا بِيَقِينٍ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ
حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَعَلَهُمَا
الْغَزَالِيُّ قَوْلَيْنِ، وَالصَّوَابُ
وَجْهَانِ أصحهما هَذَا والثاني: يَكُونُ
مُدْرِكًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ
ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إدْرَاكِ
الْمَأْمُومِ الرَّكْعَةَ بِإِدْرَاكِ رُكُوعِ
الْإِمَامِ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ الرُّكُوعُ
مَحْسُوبًا لِلْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مَحْسُوبًا لَهُ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ
مُحْدِثًا، أَوْ قَدْ سَهَا وَقَامَ إلَى
الْخَامِسَةِ فَأَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فِي
رُكُوعِهَا، أَوْ نَسِيَ تَسْبِيحَ الرُّكُوعِ
وَاعْتَدَلَ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ ظَانًّا
جَوَازَهُ فَأَدْرَكَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ
مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ
الصَّحِيحِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ؛
لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ إنَّمَا
يَسْقُطَانِ عَنْ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ
الْإِمَامَ يَحْمِلُهُمَا عَنْهُ، وَهَذَا
الْإِمَامُ غَيْرُ حَامِلٍ فَإِنَّ الرُّكُوعَ
فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ
مَحْسُوبٍ لَهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ
يَكُونُ مُدْرِكًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ،
وَسَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى فِي
بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ
الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُحْدِثِ.
فرع: إذَا أَدْرَكَ
الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ بَعْدَ فَوَاتِ
الْحَدِّ الْمُجْزِئِ مِنْ الرُّكُوعِ فَلَا
خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا
لِلرَّكْعَةِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ
مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ،
وَإِنْ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ فَإِنْ أَدْرَكَهُ
فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ لَزِمَهُ أَنْ
يَجْلِسَ مَعَهُ، وَهَلْ يُسَنُّ لَهُ
التَّشَهُّدُ مَعَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ
وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ
الصَّبَّاغِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ
مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ الصحيح الْمَنْصُوصُ
أَنَّهُ يُسَنُّ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ
والثاني: لَا يُسَنُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
مَوْضِعُهُ فِي حَقِّهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
، وَلَا يَجِبُ التَّشَهُّدُ عَلَى هَذَا
الْمَسْبُوقِ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ
الْقُعُودِ فِيهِ، فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ
الْإِمَامِ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَفْعَالِ،
وَكَذَا فِي الْأَقْوَالِ الْمَحْسُوبَةِ
لِلْإِمَامِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْأَقْوَالِ
الَّتِي لَا تُحْسَبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَحِلُّ تَرْكُهَا بِصُورَةِ الْمُتَابَعَةِ
بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ، وَمَتَى أَدْرَكَهُ
فِي رُكُوعٍ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَأْتِي
بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ لَا فِي الْحَالِ،
وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ حَتَّى لَوْ أَدْرَكَهُ
فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ فَأَحْرَمَ وَجَلَسَ
فَسَلَّمَ الْإِمَامُ عَقِبَ جُلُوسِهِ
فَقَامَ إلَى تَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ لَمْ
يَأْتِ بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ لِفَوَاتِ
مَحَلِّهِ، وَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ جُلُوسِهِ
أَتَى بِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ
مُوَضَّحَةً فِي أَوَائِلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
فرع: ذَكَرنَا[أَنَّهُ]إذَا لَمْ يُدْرِكْ
الْمَسْبُوقُ الرُّكُوعَ لَا تُحْسَبُ لَهُ
الرَّكْعَةُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ زُفَرُ:
تُحْسَبُ إنْ أَدْرَكَهُ فِي الِاعْتِدَالِ.
قَالَ المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ
الْإِمَامُ قَدْ رَكَعَ وَنَسِيَ تَسْبِيحَ
الرُّكُوعِ فَرَجَعَ إلَى الرُّكُوعِ
لِيُسَبِّحَ فَأَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ فِي
هَذَا الرُّكُوعِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ
الطَّبَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
مُدْرِكًا
ج / 4 ص -82-
لِلرَّكْعَةِ كَمَا لَوْ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ
فَأَدْرَكَهُ مَأْمُومٌ فِيهَا.
وَالْمَنْصُوصُ في"الأم" أَنَّهُ لَا يَكُونُ
مُدْرِكًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ
لِلْإِمَامِ، وَيُخَالِفُ الْخَامِسَةَ؛
لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ أَتَى بِهَا
الْمَأْمُومُ وَهَهُنَا لَمْ يَأْتِ بِمَا
فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ".
الشرح:
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم
الله: إذَا نَسِيَ الْإِمَامُ تَسْبِيحَ
الرُّكُوعِ فَاعْتَدَلَ ثُمَّ تَذَّكَّرَهُ
لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى
الرُّكُوعِ لِيُسَبِّحَ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ
سُنَّةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ
الِاعْتِدَالِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ فَإِنْ
عَادَ إلَيْهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ
أَحَدٍ بِهِ، وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ جَاهِلًا
بِتَحْرِيمِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَكِنَّ هَذَا
الرُّجُوعَ لَغْوٌ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنْ
صَلَاتِهِ، فَإِنْ اقْتَدَى بِهِ مَسْبُوقٌ،
وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ
الَّذِي هُوَ لَغْوٌ وَالْمَسْبُوقُ جَاهِلٌ
بِالْحَالِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ، وَهَلْ
تُحْسَبُ لَهُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ بِإِدْرَاكِ
هَذَا الرُّكُوعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الصحيح
بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ: أَنَّهَا لَا
تُحْسَبُ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَغْوٌ فِي
حَقِّ الْإِمَامِ، وَكَذَا فِي حَقِّ
الْمَأْمُومِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ
فِي الرُّكُوعِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي
الِاعْتِدَالِ حُكْمًا وَالْمُدْرِكُ فِي
الِاعْتِدَالِ لَا تُحْسَبُ لَهُ الرَّكْعَةُ
والثاني: تُحْسَبُ.
وَاحْتَجُّوا لَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ
أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي خَامِسَةٍ قَامَ
إلَيْهَا جَاهِلًا وَأَدْرَكَ مَعَهُ
الْقِيَامَ، وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، فَإِنَّ
هَذِهِ الرَّكْعَةَ تُحْسَبُ لِلْمَسْبُوقِ،
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْسُوبَةٍ
لِلْإِمَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ
وَقِيَاسُهُ عَلَى الْخَامِسَةِ بَاطِلٌ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا؛
لِأَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ أَدْرَكَهَا
بِكَمَالِهَا، وَلَمْ يَحْمِلْ الْإِمَامُ
عَنْهُ شَيْئًا وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ
يُدْرِكْ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ، وَلَا
الرُّكُوعَ الْمَحْسُوبَ لِلْإِمَامِ، فَلَا
يَصِحُّ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ
أَنْ يُدْرِكَهُ فِي رُكُوعِ الْخَامِسَةِ
وَحِينَئِذٍ لَا يُحْسِبُ لَهُ الرَّكْعَةُ
عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَحَكَى
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي
عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ بِكَسْرِ السِّينِ
الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ النُّونِ
وَبِالْجِيمِ وَجْهًا ضَعِيفًا جِدًّا أَنَّهُ
يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَذَكَرَ
وَجْهًا بَعِيدًا مُزَيَّفًا أَنَّهُ إذَا
أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ جَمِيعَ
الْخَامِسَةِ وَهُمَا جَاهِلَانِ بِأَنَّهَا
الْخَامِسَةُ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ لَا
يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَلَكِنَّ
صَلَاتَهُ مُنْعَقِدَةٌ، وَهُوَ خِلَافُ
الْمَذْهَبِ بَلْ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ
أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ، وَلَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ جَمِيعَ
ثَالِثَةٍ مِنْ الْجُمُعَةِ قَامَ إلَيْهَا
سَاهِيًا، فَإِنْ قلنا: فِي غَيْرِ
الْجُمُعَةِ لَا تُحْسَبُ لَهُ الرَّكْعَةُ
لَمْ تُحْسَبْ هُنَا رَكْعَةً مِنْ
الْجُمُعَةِ، وَلَا مِنْ الظُّهْرِ. وَإِنْ
قُلْنَا: تُحْسَبُ، فَهُنَا وَجْهَانِ بِنَاءً
عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ بَانَ إمَامُ
الْجُمُعَةِ مُحْدِثَا، وَاخْتَارَ ابْنُ
الْحَدَّادِ هُنَا أَنَّهُ لَا تُحْسَبُ لَهُ
الرَّكْعَةُ، أَمَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ
مُحْدِثًا فَحُكْمُ إدْرَاكِ الْمَسْبُوقِ
لَهُ فِي رُكُوعِهِ حُكْمُ إدْرَاكِهِ فِي
رُكُوعِ الْخَامِسَةِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
لَا تُحْسَبُ لَهُ الرَّكْعَة.ُ
أَمَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُتَطَهِّرًا
فَأَدْرَكَهُ مَسْبُوقٌ فِي الرُّكُوعِ
فَاقْتَدَى بِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ
فِي السُّجُودِ فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يَكُونُ
مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ بِلَا
خِلَافٍ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ رُكُوعًا
مَحْسُوبًا لِلْإِمَامِ. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ
وَغَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَمَّا إذَا قَامَ
الْإِمَامُ إلَى خَامِسَةٍ جَاهِلًا
فَاقْتَدَى بِهِ مَسْبُوقٌ عَالِمًا
بِأَنَّهَا خَامِسَةٌ فَالصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
الْأَصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ: أَنَّهُ
لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ
فِي رَكْعَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَغْوٌ،
وَحَكَى الْبَغَوِيّ عَنْ الْقَفَّالِ أَنَّ
صَلَاتَهُ تَنْعَقِدُ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ
الْإِمَامَ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنْ لَا
يُتَابِعُهُ فِي
ج / 4 ص -83-
الْأَفْعَالِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ إحْرَامِهِ
يَقْعُدُ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّ
التَّشَهُّدَ مَحْسُوبٌ لِلْإِمَامِ، قَالَ
الْبَغَوِيّ: وَعَلَى هَذَا لَوْ نَسِيَ
الْإِمَامُ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ
الْأُولَى فَاقْتَدَى بِهِ مَسْبُوقٌ فِي
قِيَامِ الثَّانِيَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ
- فَفِي انْعِقَادِهَا هَذَا الْخِلَافُ،
الصَّحِيحُ: لَا تَنْعَقِدُ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ
أَدْرَكَهُ سَاجِدًا كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ
ثُمَّ يَسْجُدُ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، وَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُكَبِّرُ كَمَا
يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَالْمَذْهَبُ
الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَحِلَّ
التَّكْبِيرِ مِنْ السُّجُودِ، وَيُخَالِفُ
مَا إذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَإِنَّ هَذَا
مَوْضِعُ رُكُوعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ فَصَارَ
كَالْمُنْفَرِدِ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا:
إذَا أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ فِي
التَّشَهُّدِ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ قَائِمًا
وَيَجِبُ أَنْ يُكْمِلَ حُرُوفَ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ قَائِمًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ
قَرِيبًا فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ فَإِذَا
كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ لَزِمَهُ أَنْ
يَنْتَقِلَ إلَى الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ
الْإِمَامُ، وَهَلْ يُكَبِّرُ لِلِانْتِقَالِ؟
فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ، أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ: لَا يُكَبِّرُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ
إذَا انْتَقَلَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ
السُّجُودِ أَوْ غَيْرِهِ مُوَافَقَةً
لِلْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا
لِهَذَا الْمَسْبُوقِ، وَإِذَا قَامَ
الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إلَى
تَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ
الْجُلُوسُ الَّذِي قَامَ مِنْهُ مَوْضِعَ
جُلُوسِ هَذَا الْمَسْبُوقِ بِأَنْ أَدْرَكَهُ
فِي ثَالِثَةِ رُبَاعِيَّةٍ، أَوْ ثَانِيَةِ
الْمَغْرِبِ قَامَ مُكَبِّرًا وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ بِأَنْ أَدْرَكَهُ
فِي الْأَخِيرَةِ أَوْ ثَانِيَةِ رُبَاعِيَّةٍ
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصحيح
الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ: يَقُومُ
بِلَا تَكْبِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ
تَكْبِيرٍ لَهُ وَقَدْ كَبَّرَ فِي
ارْتِفَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ مَعَ الْإِمَامِ
وَهُوَ الِانْتِقَالُ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ
هُوَ الْآنَ مُتَابِعًا لِلْإِمَامِ فَلَا
يُكَبِّرُ والثاني: يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّهُ
انْتِقَالٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الشَّيْخِ
أَبِي حَامِدٍ، وَاَلَّذِي فِي تَعْلِيقِ
أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ
فَلَعَلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْهُ فِي غَيْرِ
تَعْلِيقِهِ والثالث: ذَكَرَهُ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ وَجَزَمَ بِهِ أَنَّهُ
يَقُومُ مَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ
الْأَخِيرَ فَلَا يُكَبِّرُ، وَيَقُومُ مَنْ
أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً بِتَكْبِيرٍ؛
لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ رَكْعَةٍ لَهُ
تَكْبِيرٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ جُلُوسِ
الْمَسْبُوقِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُكْثُ
بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَإِنْ مَكَثَ
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ
قِيَامًا، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ
جَازَ الْمُكْثُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّ تَطْوِيلَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى
تَخْفِيفَهُ، وَالسُّنَّةُ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ
يَقُومَ بَعْدَ تَسْلِيمَتَيْ الْإِمَامِ؛
لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مَحْسُوبَةٌ مِنْ
الصَّلَاةِ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي
حُسَيْن وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ
وَآخَرُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ
تَمَامِ الْأُولَى فَإِنْ قَامَ قَبْلَ
تَمَامِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ تَعَمَّدَ
الْقِيَامَ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مَبْسُوطَةً فِي فصل:صِفَةِ الصَّلَاةِ فِي
فصل:صِفَةِ السَّلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الْإِمَامَ
فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى مِنْ رَكْعَةٍ
فَسَجَدَهَا مَعَهُ ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ
وَانْصَرَفَ، فَهَلْ يَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ
السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
تَعْلِيقِهِ فِي آخِرِ بَابِ سُجُودِ
السَّهْوِ. أحدهما: يَلْزَمهُ أَنْ يَسْجُدَ؛
لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ بِمُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيِّ
بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وأصحهما وَبِهِ قَالَ
جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَا يَسْجُدُ؛
لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ غَيْرُ
مَحْسُوبَةٍ لَهُ. وَإِنَّمَا كَانَ يَأْتِي
بِهَا مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ. وَقَدْ
زَالَتْ الْمُتَابَعَةُ.
ج / 4 ص -84-
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ
أَدْرَكَهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ كَبَّرَ
لِلْإِحْرَامِ، وَقَعَدَ وَحَصَلَتْ لَهُ
فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ".
الشرح: قَدْ
قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَهُ
فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ كَبَّرَ
لِلْإِحْرَامِ قَائِمًا وَقَعَدَ وَتَشَهَّدَ
مَعَهُ، وَلَا يُكَبِّرُ لِلْقُعُودِ عَلَى
الصَّحِيحِ، وَالتَّشَهُّدُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ
بِوَاجِبٍ عَلَى هَذَا الْمَسْبُوقِ بِلَا
خِلَافٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا،
وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ وَجْهًا أَنَّهُ
لَا يُسَنُّ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَا
يَقْرَأُ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ فِي الْحَالِ
وَلَا بَعْدَ الْقِيَامِ، وَسَبَقَ دَلِيلُ
الْجَمِيعِ، وَتَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ
الْجَمَاعَةِ لَكِنْ دُونَ فَضِيلَةِ مَنْ
أَدْرَكَهَا مِنْ أَوَّلِهَا، هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ
أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ
وَالْخُرَاسَانِيِّينَ، وَجَزَمَ
الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ
مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ إلَّا إذَا أَدْرَكَ
رُكُوعَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا
خِلَافَ بِأَنَّ صَلَاتَهُ تَنْعَقِدُ، وَلَوْ
لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْجَمَاعَةُ لَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا تَنْعَقِدَ، فَإِنْ قِيلَ:
لَمْ يُدْرِكْ قَدْرًا يُحْسَبُ لَهُ قُلْنَا:
هَذَا غَلَطٌ بَلْ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ
أَدْرَكَهَا مَعَهُ، وَهِيَ مَحْسُوبَةٌ لَهُ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ أَدْرَكَ
مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ كَانَ ذَلِكَ
أَوَّلَ صَلَاتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:
"مَا أَدْرَكْتَ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِكَ" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يُكَبِّرُ فَإِذَا سَلَّمَ
الْإِمَامُ قَامَ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ
صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ
فِيهَا قُنُوتٌ فَقَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ
أَعَادَ الْقُنُوتَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ؛
لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ
فَعَلَهُ لِلْمُتَابَعَةِ فَإِذَا بَلَغَ إلَى
مَوْضِعِهِ أَعَادَهُ1 كَمَا إذَا تَشَهَّدَ
مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَامَ إلَى مَا بَقِيَ
فَإِنَّهُ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ".
الشرح: مَذْهَبُنَا أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فَهُوَ أَوَّلُ
صَلَاتِهِ، وَمَا يَتَدَارَكُهُ2 بَعْدَ
سَلَامِ الْإِمَامِ آخِرُ صَلَاتِهِ فَيُعِيدُ
فِيهِ الْقُنُوتَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ
أَدْرَكَ أَوَّلَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ
رُبَاعِيَّةٍ ثُمَّ قَامَ لِلتَّدَارُكِ
يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ)
وَقِيلَ: هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ:
تُسَنُّ السُّورَةُ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ
وَلَا تَخْتَصُّ بِالْأُولَيَيْنِ) أَمَّا
إذَا خَصَّصْنَا فَلَا يَقْرَأُ السُّورَةَ،
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِئَلَّا تَخْلُوَ
صَلَاتُهُ مِنْ السُّورَةِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي صِفَةِ
الصَّلَاةِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا
أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ
الْعِشَاءِ لَا يُسَنُّ الْجَهْرُ فِيمَا
يَتَدَارَكُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ
آخِرُ صَلَاتِهِ، وَقِيلَ فِي الْجَهْرِ
قَوْلَانِ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ مِنْ
جَهْرٍ، وَأَوْضَحْت الْمَسْأَلَةَ هُنَاكَ،
وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ
قَامَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَيُصَلِّي
رَكْعَةً ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ ثَالِثَةً
وَيَتَشَهَّدُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ
الْمَسْبُوقُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَا
يَتَدَارَكُهُ آخِرُهَا، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَعَطَاءٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَمَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَإِسْحَاقُ، حَكَاهُ عَنْهُمْ ابْنُ
الْمُنْذِرِ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، قَالَ:
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي
الدَّرْدَاءَ وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُمْ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ دَاوُد.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ: مَا أَدْرَكَهُ
آخِرُ صَلَاتِهِ وَمَا يَتَدَارَكُهُ أَوَّلُ
صَلَاتِهِ. وَحَكَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخ المهذب (أعاد) بغير ضمير وبدل: كما
إذا (كما لو) (ط)
2 ما أدركه ما كن في صلب الإمام وما تداركه ما
يصليه منفردا (ط)
ج / 4 ص -85-
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ
سِيرِينَ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ صلى
الله عليه وسلم
"مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا
بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم"مَا
أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ
فَأَتِمُّوا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الَّذِينَ رَوَوْا
فَأَتِمُّوا أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ وَأَلْزَمُ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي هُوَ رَاوِي
الْحَدِيثِ، فَهُمْ أَوْلَى قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ: وَإِتْمَامُ
الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ
أَوَّلِهِ وَبَقِيَّةِ آخِرِهِ، وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ مَذْهَبِنَا عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ وَأَبِي
الدَّرْدَاءَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَحَسَنٍ
وَعَطَاءٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي قِلَابَةَ
رضي الله عنهم. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَلِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ
الْمَغْرِبِ فَقَامَ لِلتَّدَارُكِ يُصَلِّي
رَكْعَةً ثُمَّ يَجْلِسُ وَيَتَشَهَّدُ، ثُمَّ
يَقُومُ إلَى الثالثة:، وَهَذَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَغَوِيُّ،
وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ الَّذِي فَاتَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَمْ
يَجْلِسْ عَقِبَ رَكْعَةٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَأَمَّا رِوَايَةُ
فَاقْضُوا فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَنَّ رُوَاةَ فَأَتِمُّوا أَكْثَرُ
وَأَحْفَظُ والثاني: أَنَّ الْقَضَاءَ
مَحْمُولٌ عَلَى الْفِعْلِ لَا الْقَضَاءِ
الْمَعْرُوفِ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّ
هَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ،
وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَضَاءَ بِمَعْنَى
الْفِعْلِ، قَالَ اللَّهُ تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ـ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ}
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالْمُرَادُ: وَمَا فَاتَكُمْ مِنْ
صَلَاتِكُمْ أَنْتُمْ لَا مِنْ صَلَاةِ
الْإِمَامِ وَاَلَّذِي فَاتَ الْمَأْمُومَ
مِنْ صَلَاةِ نَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ آخِرُهَا،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ حَضَرَ
وَقَدْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ
فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ
كُرِهَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِيهِ جَمَاعَةً؛
لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ قَصَدَ
الْكِيَادَ وَالْإِفْسَادَ، وَإِنْ كَانَ
الْمَسْجِدُ فِي سُوقٍ أَوْ مَمَرِّ النَّاسِ
لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ
الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ
الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْكِيَادِ، وَإِنْ
حَضَرَ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا مَنْ صَلَّى
اُسْتُحِبَّ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ أَنْ
يُصَلِّيَ مَعَهُ لِتَحْصُلَ لَهُ
الْجَمَاعَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ
رَجُلًا جَاءَ، وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ
"مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَيْنَا فِي سُنَنِ
الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي
قَامَ فَصَلَّى مَعَهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وَقَوْلُهُ صلى
الله عليه وسلم
"مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟"
فِيهِ تَسْمِيَةُ مِثْلِ هَذَا صَدَقَةٌ،
وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه
وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ
جَابِرٍ، وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ
حُذَيْفَةَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إعَادَةِ
الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِمَنْ صَلَّاهَا
فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ
أَقَلَّ مِنْ الْأُولَى وَأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ
الشَّفَاعَةُ إلَى مَنْ يُصَلِّي مَعَ
الْحَاضِرِ، وَأَنَّ الْمَسْجِدَ الْمَطْرُوقَ
لَا يُكْرَهُ فِيهِ جَمَاعَةٌ بَعْدَ
جَمَاعَةٍ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَحْصُلُ
بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ.
أما حكم المسألة: فَقَالَ
أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ إمَامٌ
رَاتِبٌ، وَلَيْسَ هُوَ مَطْرُوقًا كُرِهَ
لِغَيْرِهِ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ
ابْتِدَاءً قَبْلَ فَوَاتِ مَجِيءِ إمَامِهِ،
وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ كُرِهَ أَيْضًا
إقَامَةُ جَمَاعَةٍ أُخْرَى فِيهِ بِغَيْرِ
إذْنِهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى
الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ،
ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْآذَانِ، وَهُوَ شَاذٌّ
ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَطْرُوقًا
أَوْ غَيْرَ مَطْرُوقٍ، وَلَيْسَ لَهُ إمَامٌ
رَاتِبٌ لَمْ تُكْرَهْ
ج / 4 ص -86-
إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، أَمَّا إذَا حَضَرَ وَاحِدٌ
بَعْدَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَيُسْتَحَبُّ
لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ الَّذِينَ صَلَّوْا
أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ لِتَحْصُلَ لَهُ
الْجَمَاعَةُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْفَعَ
لَهُ مَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي عَدَمِ الصَّلَاةِ
مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيُصَلِّيَ مَعَهُ
لِلْحَدِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي
مَسْجِدٍ أُقِيمَتْ فِيهِ جَمَاعَةٌ قَبْلَهَا
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ
فَلَا كَرَاهَةَ فِي الْجَمَاعَةِ
الثَّانِيَةِ وَالثالثة: وَأَكْثَرَ
بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ
إمَامٌ رَاتِبٌ وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ
مَطْرُوقًا فَمَذْهَبُنَا كَرَاهَةُ
الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ،
وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَابْنُ
الْمُنْذِرِ: لَا يُكْرَهُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَمَنْ صَلَّى
مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً
يُصَلُّونَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ
مَعَهُمْ، وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ
بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ
صُبْحًا أَوْ عَصْرًا لَمْ يُسْتَحَبَّ؛
لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ
بَعْدَهُمَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا
رَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَامِرِيُّ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْغَدَاةِ فِي
مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى فِي آخِرِ
الْقَوْمِ رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ
فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا
مَعَنَا؟ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ
صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: فَلَا
تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي
رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ
جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا
لَكُمَا نَافِلَةٌ" فَإِنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً أُخْرَى
فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُعِيدُ لِلْخَبَرِ
والثاني: لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَازَ
فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا صَلَّى ثُمَّ
أَعَادَ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَالْفَرْضُ هُوَ
الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ
لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْفَرْضَ
بِالْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ
الثَّانِيَةُ نَفْلًا. وَقَالَ فِي
الْقَدِيمِ: يَحْتَسِبُ اللَّهَ أَيَّتَهُمَا
شَاءَ، وَلَيْسَ بِشَيْء".
الشرح: حَدِيثُ يَزِيدَ
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ
صَلَاةَ الْغَدَاةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا
بَأْسَ بِتَسْمِيَةِ الصُّبْحِ غَدَاةً،
وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْ اسْتِعْمَالِ
الصَّحَابَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ،
وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ
شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي
الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ
بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحًا،
وَالرِّحَالُ: الْمَنَازِلُ مِنْ مَدَرٍ أَوْ
وَبَرٍ وَشَعْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَإِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ الْفَرِيضَةَ
مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً
يُصَلُّونَهَا فِي الْوَقْتِ اُسْتُحِبَّ لَهُ
أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ
يُعِيدُ الظُّهْرَ وَالْعِشَاءَ فَقَطْ وَلَا
يُعِيدُ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ، وَالنَّافِلَةُ
بَعْدَهُمَا مَكْرُوهَةٌ، وَلَا الْمَغْرِبَ؛
لِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَهَا لَصَارَتْ شَفْعًا.
هَكَذَا عَلَّلُوهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ
تُعَلَّلَ بِأَنَّهَا يَفُوتُ وَقْتُهَا
تَفْرِيعًا عَلَى الْجَدِيدِ وَهَذَا
الْوَجْهُ غَلَطٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا
عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَحُكِيَ وَجْهٌ
ثَالِثٌ: يُعِيدُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا أَمَّا
إذَا صَلَّى جَمَاعَةً ثُمَّ أَدْرَكَ
جَمَاعَةً أُخْرَى فَفِيهِ أَرْبَعَةُ
أَوْجُهٍ: الصحيح مِنْهَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْأَصْحَابِ يُسْتَحَبُّ إعَادَتُهَا
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالْحَدِيثِ
السَّابِقِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا
"مَنْ
يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟" وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
والثاني: لَا يُسْتَحَبُّ لِحُصُولِ
الْجَمَاعَةِ. قَالُوا: فَعَلَى هَذَا
تُكْرَهُ إعَادَةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ؛
لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يُكْرَهُ
غَيْرُهُمَا والثالث: يُسْتَحَبُّ إعَادَةُ
مَا سِوَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ والرابع: إنْ
كَانَ فِي
ج / 4 ص -87-
الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةُ
فَضِيلَةٍ لِكَوْنِ الْإِمَامِ أَعْلَمَ أَوْ
أَوَرَعَ أَوْ الْجَمْعِ أَكْثَرَ أَوْ
الْمَكَانِ أَشْرَفَ اُسْتُحِبَّ الْإِعَادَةُ
وَإِلَّا فَلَا، وَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ
الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ
بِتَصْحِيحِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ،
وَنَقَلَ أَنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي
الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ
وَالْبَغَوِيُّ وَخَلَائِقُ كَثِيرُونَ لَا
يُحْصَوْنَ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ
الْجُمْهُورِ.
وَإِذَا اسْتَحْبَبْنَا الْإِعَادَةَ لِمَنْ
صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ
فَأَعَادَ فَفِي فَرْضِهِ قَوْلَانِ
وَوَجْهَانِ الصحيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ
الْجَدِيدُ فَرْضُهُ الْأَوَّلُ لِسُقُوطِ
الْخِطَابِ بِهَا، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه
وسلم
"فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ" يَعْنِي
الثَّانِيَةَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَئِمَّةِ
الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ قَالَ:
"صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ
نَافِلَةً"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، وَالْقَوْلُ
الثَّانِي، وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّ فَرْضَهُ
إحداها: لَا بِعَيْنِهَا، وَيَحْتَسِب اللَّهَ
بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا وَعَبَّرَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ
الْفَرْضَ أَكْمَلُهُمَا، وَأَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ، حَكَاهُ
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَهُوَ مَذْهَبُ
الْأَوْزَاعِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِهَا وَالْأُولَى
مُسْقِطَةٌ لِلْحَرَجِ لَا مَانِعَةٌ مِنْ
وُقُوعِ الثَّانِيَةِ فَرْضًا، وَهَذَا كَمَا
قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
إذَا صَلَّتْهَا طَائِفَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ
عَنْ الْبَاقِينَ. فَلَوْ صَلَّتْ طَائِفَةٌ
أُخْرَى وَقَعَتْ الثَّانِيَةُ فَرْضًا
أَيْضًا، وَتَكُونُ الْأُولَى مُسْقِطَةً
لِلْحَرَجِ عَنْ الْبَاقِينَ لَا مَانِعَةً
مِنْ وُقُوعِ فِعْلِهَا فَرْضًا. وَهَكَذَا
الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ،
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ
هَذَا الشَّرْحِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: الْفَرْضُ أَكْمَلُهُمَا،
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي
الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ قلنا:
بِغَيْرِ الْجَدِيدِ نَوَى بِالثَّانِيَةِ
الْفَرِيضَةَ أَيْضًا وَإِنْ قلنا:
بِالْجَدِيدِ فَوَجْهَانِ أصحهما عِنْدَ
الْأَصْحَابِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ:
يَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ أَيْضًا، قَالُوا:
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ،
وَإِنْ كَانَتْ نَفْلًا هَكَذَا صَحَّحَهُ
الْأَكْثَرُونَ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ
تَصْحِيحَهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. والثاني:
يَنْوِي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ مَثَلًا،
وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَرْضِ، وَهَذَا هُوَ
الَّذِي اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ
الْقَوَاعِدُ وَالْأَدِلَّةُ، فَعَلَى هَذَا
إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا فَوَجْهَانِ
حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ الصحيح
مِنْهُمَا أَنَّهُ يُعِيدُهَا كَالْمَرَّةِ
الْأُولَى
والثاني: يُسْتَحَبُّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ
أَنْ يَقُومَ بِلَا سَلَامٍ فَيَأْتِيَ
بِرَكْعَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يُسَلِّمَ لِتَصِيرَ
هَذِهِ الصَّلَاةُ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا
وِتْرًا. كَمَا إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ
وِتْرًا، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ صَرِيحٌ،
وَلَوْلَا خَوْفُ الِاغْتِرَارِ بِهِ لَمَا
حَكَيْتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: اسْتِحْبَابُ
إعَادَةِ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ
سَوَاءٌ صَلَّى الْأُولَى جَمَاعَةً أَمْ
مُنْفَرِدًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ
وَالزُّهْرِيِّ، وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَحُذَيْفَةَ وَأَنَسٍ رضي
الله عنهم، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا فِي
الْمَغْرِبِ: يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى،
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَعِنْدَنَا لَا
يُضِيفُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَالِكٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: يُعِيدُ
الْجَمِيعَ إلَّا الْمَغْرِبَ لِئَلَّا
تَصِيرَ شَفْعًا، وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: يُعِيدُ الْجَمِيعَ إلَّا
الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: يُعِيدُ الظُّهْرَ وَالْعِشَاءَ
فَقَطْ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُعِيدُهَا
كُلَّهَا إلَّا الصُّبْحَ وَالْمَغْرِبَ،
وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ ضَعِيفَةٌ
ج / 4 ص -88-
لِمُخَالَفَتِهَا الْأَحَادِيثَ، وَدَلِيلُنَا
عُمُومُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
السَّابِقَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"يُسْتَحَبُّ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ خَلْفَهُ
بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم"اعْتَدِلُوا فِي صُفُوفِكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ
وَرَاءِ ظَهْرِي" قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتَ أَحَدَنَا يَلْصَقُ مَنْكِبَهُ
بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ".
الشرح: حَدِيثُ أَنَسٍ
صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي
صَحِيحَيْهِمَا بِلَفْظِهِ لِلْبُخَارِيِّ
وَمَعْنَاهُ لِمُسْلِمٍ مُخْتَصَرًا،
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"وَتَرَاصُّوا" فَهُوَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ:
مَعْنَاهُ تَضَامُّوا وَتَدَانُوا لِيَتَّصِلَ
مَا بَيْنَكُمْ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسَنُّ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ الْمَأْمُومِينَ
بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ إرَادَةِ
الْإِحْرَامِ بِهَا، وَيُسْتَحَبُّ إذَا كَانَ
الْمَسْجِدُ كَبِيرًا أَنْ يَأْمُرَ
الْإِمَامُ رَجُلًا يَأْمُرُهُمْ
بِتَسْوِيَتِهَا، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُنَادِي فِيهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَأْمُرَ
بِذَلِكَ مَنْ رَأَى مِنْهُ خَلَلًا فِي
تَسْوِيَةِ الصَّفِّ، فَإِنَّهُ مِنْ
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّعَاوُنِ
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالْمُرَادُ
بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إتْمَامُ الْأَوَّلِ
فَالْأَوَّلِ، وَسَدُّ الْفُرَجِ، وَيُحَاذِي
الْقَائِمِينَ فِيهَا بِحَيْثُ لَا
يَتَقَدَّمُ صَدْرُ أَحَدٍ وَلَا شَيْءٌ
مِنْهُ عَلَى مَنْ هُوَ بِجَنْبِهِ، وَلَا
يَشْرَعُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي حَتَّى
يُتِمَّ الْأَوَّلَ. وَلَا يَقِفُ فِي صَفٍّ
حَتَّى يُتِمَّ مَا قَبْلَهُ.
فرع: فِي جُمْلَةٍ مِنْ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الصُّفُوفِ"
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم:
"سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ
الصَّلَاةِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي
رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ
"فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ" مَعْنَاهُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تعالى
بِهَا فِي قوله تعالى
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ:
"كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ
مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ
اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ
قُلُوبُكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ "لَتُسَوُّونَ1 صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ
وُجُوهِكُمْ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا
حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ،
حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ،
ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ
فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنْ
الصَّفِّ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ
لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ
اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ".
وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى
نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا
وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ
قُلُوبُكُمْ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ
الْأَوَّلِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
"أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا
الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إخْوَانِكُمْ
وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ،
وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ،
وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بَيْنَ
الْمَنَاكِبِ بِالْأَعْنَاقِ فَوَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ
يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ
الْحَذَفُ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه في البخاري نسخة الحموي والكشميهني أما
النسخة اليونينية (لتسون ) بتشديد الواو
المضمومة والنون الثقيلة التوكيدية (ط)
ج / 4 ص -89-
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ الْحَذَفُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ
مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ فَاءٍ
وَهِيَ غَنَمٌ سُود صِغَارٌ تَكُونُ
بِالْيَمَنِ، وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ
"أَتِمُّوا
الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ
فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ" رواهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ
كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ غَيْرَ هَذِهِ، وَفِي
هَذِهِ كِفَايَةٌ
وَأَمَّا فَضِيلَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ
وَمَيَامِنِ الصُّفُوفِ فَسَتَأْتِي فِيهِ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تعالى حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي
بَابِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ.
فرع: مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ
الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ
وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ الْكَلَامِ بَعْدَ
إقَامَةِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ
لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ إلَّا لِحَاجَةٍ
وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ
الْكُوفِيِّينَ، وَدَلِيلُنَا هَذِهِ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يُخَفِّفَ فِي الْقِرَاءَةِ
وَالْأَذْكَارِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ
السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ" وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ، فَإِنَّ
صَلَّى بِقَوْمٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ لَمْ يُكْرَهْ
التَّطْوِيلُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِأَجْلِهِمْ
وَقَدْ رَضُوا".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَرَوَيَاهُ
أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِمْ
" وَذَا الْحَاجَةِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ
يُخَفِّفَ الْقِرَاءَةَ وَالْأَذْكَارَ
بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ مِنْ الْأَبْعَاضِ
وَالْهَيْئَاتِ شَيْئًا، وَلَا يَقْتَصِرُ
عَلَى الْأَقَلِّ وَلَا يَسْتَوْفِي
الْأَكْمَلَ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمُنْفَرِدِ
مِنْ طُوَالِ الْمُفصل:وَأَوْسَاطِهِ،
وَأَذْكَارِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالَ
صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَآخَرُونَ:
التَّطْوِيلُ مَكْرُوهٌ، وَقَدْ أَشَارَ
إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: إنْ آثَرُوا
التَّطْوِيلَ لَمْ يُكْرَهْ، وَقَدْ نَصَّ
عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في"الأم" قَالَ
في"الأم" فِي بَابِ مَا عَلَى الْإِمَامِ مِنْ
التَّخْفِيفِ قَالَ: " وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ
أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلَهَا
فَإِنْ عَجَّلَ عَمَّا أَحْبَبْتُ مِنْ
الْإِكْمَالِ أَوْ زَادَ عَلَى مَا أَحْبَبْتُ
مِنْ الْإِكْمَالِ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ،
وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى مَنْ
خَلْفَهُ إذَا جَاءَ بِأَقَلَّ مِمَّا
عَلَيْهِ ".
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ صَلَّى بِقَوْمٍ
مَحْصُورِينَ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ
أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ لَمْ
يُكْرَهْ التَّطْوِيلُ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَغَيْرُهُمَا: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ
التَّطْوِيلُ حِينَئِذٍ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ
الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي تَطْوِيلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ جَهِلَ حَالَهُمْ أَوْ
كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْثِرُ التَّطْوِيلَ
وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُؤْثِرُهُ لَمْ
يُطَوِّلْ، اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا
وَيُؤَيِّدُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"إنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ
أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ
الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي
كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَإِنْ كَانُوا
يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ، وَلَكِنَّ
الْمَسْجِدَ مَطْرُوقٌ بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي
الصَّلَاةِ مَنْ حَضَرَ بَعْدَ دُخُولِ
الْإِمَامِ فِيهَا لَمْ يُطَوِّلْ. وَفِي
فَتَاوَى الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ
الصَّلَاحِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ كَانُوا
يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ إلَّا وَاحِدًا أَوْ
اثْنَيْنِ وَنَحْوَهُمَا فَإِنْ كَانَ لَا
يُؤْثِرُهُ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ مَرَّةً وَنَحْوَهَا خَفَّفَ، وَإِنْ
كَثُرَ حُضُورُهُ طَوَّلَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ
الرَّاضِينَ وَلَا يُفَوِّتُ حَقَّهُمْ
لِهَذَا الْفَرْدِ الْمُلَازِمِ وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ
مُتَعَيَّنٌ.
ج / 4 ص -90-
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِذَا أَحَسَّ
بِدَاخِلٍ وَهُوَ رَاكِعٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: يُكْرَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ؛ لِأَنَّ
فِيهِ تَشْرِيكًا بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْعِبَادَةِ،
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا
يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(الكهف: من الآية110) والثاني: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْتَظِرَ وَهُوَ
الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ انْتِظَارٌ لِيُدْرِكَ
بِهِ الْغَيْرُ رَكْعَةً فَلَمْ يُكْرَهْ
كَالِانْتِظَارِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ،
وَتَعْلِيلُ الْأَوَّلِ يَبْطُلُ بِإِعَادَةِ
الصَّلَاةِ لِمَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ،
وَيَرْفَعُ الصَّوْتَ بِالتَّكْبِيرِ
لِيُسْمِعَ مَنْ وَرَاءَهُ فَإِنَّ فِيهِ
تَشْرِيكًا ثُمَّ يُسْتَحَبُّ. وَإِنْ أَحَسَّ
بِهِ وَهُوَ قَائِمٌ لَمْ يَنْتَظِرْهُ؛
لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ يَحْصُلُ لَهُ
بِالرُّكُوعِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ وَهُوَ
يَتَشَهَّدُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما:
أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
التَّشْرِيكِ والثاني: يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ
يُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ".
الشرح: إذَا دَخَلَ
الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ طَوَّلَ
لِانْتِظَارِ مُصَلٍّ فَلَهُ أَحْوَالٌ:
أحدها: أَنْ يُحِسَّ وَهُوَ رَاكِعٌ مَنْ
يُرِيدُ الِاقْتِدَاءَ فَهَلْ يَنْتَظِرَهُ؟
فِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ
الْمُصَنِّفِ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
وَالْأَكْثَرِينَ: يُسْتَحَبُّ انْتِظَارُهُ
والثاني: يُكْرَهُ، وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ
الْأَصْحَابِ: لَا يُسْتَحَبُّ الِانْتِظَارُ،
وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ: فِي أَنَّهُ
يُكْرَهُ أَمْ لَا؟ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَطَائِفَةٍ. قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ هَذِهِ
الطَّرِيقَةُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ
نَصَّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي الْجَدِيدِ
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُكْرَهُ وَإِنَّمَا
الْقَوْلَانِ فِي اسْتِحْبَابِهِ وَعَدَمِهِ،
وَقِيلَ: إنْ عَرَفَ عَيْنَ الدَّاخِلِ لَمْ
يَنْتَظِرْهُ، وَإِلَّا انْتَظَرَهُ، وَقِيلَ:
إنْ كَانَ مُلَازِمًا لِلْجَمَاعَةِ
انْتَظَرَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: إنْ
لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ انْتَظَرَ
وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. وَقِيلَ: لَا
يَنْتَظِرُ قَطْعًا.
وَإِذَا اخْتَصَرْتُ هَذَا الْخِلَافَ
وَجَعَلْتُهُ أَقْوَالًا كَانَ خَمْسَةً
أحدها: يُسْتَحَبُّ الِانْتِظَارُ والثاني:
يُكْرَهُ والثالث: لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا
يُكْرَهُ والرابع: يُكْرَهُ انْتِظَارُ
مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ والخامس: إنْ كَانَ
مُلَازِمًا انْتَظَرَهُ، وَإِلَّا فَلَا،
وَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ الِانْتِظَارِ
مُطْلَقًا بِشُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ
الْمَسْبُوقُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ حِينَ
الِانْتِظَارِ، وَأَلَّا يَفْحُشَ طُولُ
الِانْتِظَارِ، وَأَنْ يَقْصِدَ بِهِ
التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى، لَا
التَّوَدُّدَ إلَى الدَّاخِلِ وَتَمْيِيزِهِ؛
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا يُمَيِّزُ
بَيْنَ دَاخِلٍ وَدَاخِلٍ فَإِنْ قُلْنَا: لَا
يَنْتَظِرُ فَانْتَظَرَ لَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ، وَحَكَى جَمَاعَةُ
الْخُرَاسَانِيِّينَ فِي بُطْلَانِهَا قَوْلًا
ضَعِيفًا غَرِيبًا كَالِانْتِظَارِ الزَّائِدِ
فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. الْحَالُ الثاني: أَنْ
يُحِسَّ بِهِ وَهُوَ فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ
الْأَخِيرِ؛ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ
حُكْمُ الرُّكُوعِ فَفِيهِ الْخِلَافُ؛ ثُمَّ
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ الْخِلَافُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ؛
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ وَجْهَانِ: ،
وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمُصَنِّفِ وَالْبَغَوِيِّ
وَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ الِانْتِظَارِ
بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ
يَحْصُلُ بِهِ إدْرَاكُ الْجَمَاعَةِ كَمَا
يَحْصُلُ بِالرُّكُوعِ إدْرَاكُ الرَّكْعَةِ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُحِسَّ بِهِ فِي
غَيْرِ الرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ
كَالْقِيَامِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ
وَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَفِيهِ طُرُقٌ
أصحها وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَكْثَرُونَ: لَا يَنْتَظِرُهُ لِعَدَمِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ
مُمْكِنٌ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ،
وَلَا يَفُوتُ بِغَيْرِهِمَا مَقْصُودٌ
والثاني: فِي الِانْتِظَارِ الْخِلَافُ
كَالرُّكُوعِ، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَآخَرُونَ والثالث: لَا يَنْتَظِرُ فِي
غَيْرِ الْقِيَامِ، وَفِي الْقِيَامِ
الْخِلَافُ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَظِرُ
فَشَرْطُهُ مَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَفِي
بُطْلَانِ الصَّلَاةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ،
فَهَذَا مُلَخَّصُ حُكْمِ الْمَذْهَبِ فِي
الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ مُشَعَّبَةٌ،
وَالْمُخْتَصَرُ مِنْهَا أَنَّ الصَّحِيحَ
اسْتِحْبَابُ الِانْتِظَارِ فِي الرُّكُوعِ
وَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَكَرَاهَتُهُ فِي
غَيْرِهِمَا، وَأَنَّهُ إذَا قُلْنَا:
يُكْرَهُ فَطَوَّلَ لَا تَبْطُلُ.
ج / 4 ص -91-
فرع: لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ لِجَمَاعَةٍ فَطَوَّلَ لِيَلْحَقَهُ
قَوْمٌ آخَرُونَ تَكْثُرُ بِهِمْ
الْجَمَاعَةُ، أَوْ لِيَلْحَقَهُ رَجُلٌ
مَشْهُورٌ عَادَتُهُ الْحُضُورُ، أَوْ نَحْوُ
ذَلِكَ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ
أَصْحَابِنَا، وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ
الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ، وَصَاحِبُ الْبَيَانِ قَالُوا:
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي سُوقٍ أَوْ
مَحَلَّةٍ، وَعَادَةُ النَّاسِ يَأْتُونَهُ
بَعْدَ الْإِقَامَةِ فَوْجًا فَوْجًا أَمْ
لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ الْمُنْتَظَرُ
مَشْهُورًا بِدِينِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ
دُنْيَاهُ، وَكُلُّهُ مَكْرُوهٌ
بِالِاتِّفَاقِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم
"إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ" وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذٌ؟" وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلِأَنَّهُمْ
مُقَصِّرُونَ بِالتَّأْخِيرِ، وَلِأَنَّ فِيهِ
إضْرَارًا بِالْمَأْمُومِينَ، وَلِأَنَّهُ
إذَا لَمْ يَنْتَظِرْهُمْ حَثَّهُمْ ذَلِكَ
عَلَى الْمُسَارَعَةِ إلَى الصَّلَاةِ
وَالتَّبْكِيرِ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ،
وَقَدْ جَاءَ وَقْتُ الدُّخُولِ فِيهَا،
وَحَضَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ، وَيَرْجُو
زِيَادَةً - فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَجِّلَهَا،
وَلَا يَنْتَظِرَهُمْ، وَإِنْ حَضَرَ
الْمَأْمُومُونَ دُونَ الْإِمَامِ فَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلَ هَذَا
الْبَابِ، وَسَبَقَ أَيْضًا الْخِلَافُ فِيمَا
إذَا عُلِمَ أَنَّ عَادَةَ الْإِمَامِ
التَّأْخِيرُ، هَلْ الْأَفْضَلُ انْتِظَارُهُ
لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ؟ أَمْ تَعْجِيلُ
الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا وَسَبَقَتْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ وَنَظَائِرُهَا الْكَثِيرَةُ
مَبْسُوطَةً فِي بَابِ التَّيَمُّمِ.
فرع: فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ
الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ: "أَحَسَّ" هِيَ
اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَلَا
يُقَالُ: حَسَّ إلَّا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ
غَرِيبَةٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي
أَوْفَى كُنْيَتُهُ: أَبُو إبْرَاهِيمَ
وَقِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَقِيلَ أَبُو
مُعَاوِيَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَاسْمُ أَبِي
أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُوهُ
صَحَابِيَّانِ، شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ
بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، نَزَلَ الْكُوفَةَ
وَتُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ،
وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ
بِالْكُوفَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي
أَوْفَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
فَسَنَذْكُرُهُ فِي الْفرع بَعْدَهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي انْتِظَارِ
الْإِمَامِ وَهُوَ رَاكِعٌ الدَّاخِلَ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا
اسْتِحْبَابُهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي
مِجْلَزٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى، وَهُمْ تَابِعِيُّونَ وَعَنْ
أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ
يَنْتَظِرُهُ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى
أَصْحَابِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ
وَالْمُزَنِيِّ وَدَاوُد: لَا يَنْتَظِرُهُ
وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَاحْتَجَّ لِهَؤُلَاءِ بِعُمُومِ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَمْرِ
بِالتَّخْفِيفِ وَبِأَنَّ فِيهِ تَشْرِيكًا
فِي الْعِبَادَةِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى
الِانْتِظَارِ فِي غَيْرِ الرُّكُوعِ
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا
بِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم الِانْتِظَارُ فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ
مَوْجُودَةٌ وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ الَّذِي سَبَقَ قَرِيبًا
"أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ فَقَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى
هَذَا؟ فَصَلَّى مَعَهُ رَجُلٌ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ
لِإِتْمَامِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِ فَهَذَانِ
الْحَدِيثَانِ هُمَا الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا
الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ
الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ ابْنِ أَبِي
أَوْفَى
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ فِي الرَّكْعَةِ
مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ
وَقْعَ قَدَمٍ" فَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو دَاوُد عَنْ رَجُلٍ لَمْ
يُسَمَّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَمَّى
بَعْضُ الرُّوَاةِ هَذَا الرَّجُلَ طُرْفَةَ
الْحَضْرَمِيَّ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ،
وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ،
وَالْقِيَاسُ عَلَى رَفْعِ الْإِمَامِ
صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ لِمَصْلَحَةِ
الْمَأْمُومِ.
ج / 4 ص -92-
وَالْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ
بِأَحَادِيثَ التَّخْفِيفِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَنَّا لَا نُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّ
الِانْتِظَارَ الَّذِي نَسْتَحِبُّهُ هُوَ
الَّذِي لَا يَفْحُشُ وَلَا يَشُقُّ
عَلَيْهِمْ كَمَا سَبَقَ والثاني: أَنَّهَا
مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ
حَاجَةٌ بِدَلِيلِ انْتِظَارِهِ صلى الله عليه
وسلم فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَأَمَّا
الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَاهُمْ التَّشْرِيكَ:
فَلَا نُسَلِّمُ التَّشْرِيكَ، وَإِنَّمَا
هُوَ تَطْوِيلُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ
لِلَّهِ تعالى بِقَصْدِ مَصْلَحَةِ صَلَاةِ
آخَرَ، وَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ مِثْلَهُ
وَأَسْمَعَ أَصْحَابَهُ التَّكْبِيرَ
وَالتَّأْمِينَ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى
اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْإِمَامِ أَوْ
الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرَاتِ
لِلْإِعْلَامِ بِانْتِقَالِ الْإِمَامِ،
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى غَيْرِ
الرُّكُوعِ: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ
بِخِلَافِ الرُّكُوعِ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَيَنْبَغِي
لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ الْإِمَامَ وَلَا
يَتَقَدَّمَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ؛
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا
عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا،
وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا قَالَ:
سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا:
اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا
سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَلَا تَرْفَعُوا
قَبْلَهُ" فَإِنْ كَبَّرَ قَبْلَهُ أَوْ كَبَّرَ مَعَهُ لِلْإِحْرَامِ لَمْ
تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ
صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ تَنْعَقِدَ
فَلَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ
بِأَنْ رَكَعَ قَبْلَهُ أَوْ سَجَدَ قَبْلَهُ
لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه
وسلم
"أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ
أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ
حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ
حِمَارٍ"
وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعُودَ إلَى
مُتَابَعَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى لَحِقَهُ فِيهِ لَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
مُفَارَقَةٌ قَلِيلَةٌ، وَإِنْ رَكَعَ قَبْلَ
الْإِمَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ
يَرْكَعَ رَفَعَ فَلَمَّا أَرَادَ الْإِمَامُ
أَنْ يَرْفَعَ سَجَدَ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا
بِتَحْرِيمِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ مُفَارَقَةٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ
جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ لَمْ تَبْطُلْ
صَلَاتُهُ، وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهَذِهِ
الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْ
الْإِمَامَ فِي مُعْظَمِهَا، وَإِنْ رَكَعَ
قَبْلَهُ فَلَمَّا رَكَعَ الْإِمَامُ رَفَعَ،
وَوَقَفَ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ
وَاجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الْقِيَامِ - لَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ
بِرُكْنٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ قَدْرٌ يَسِيرٌ،
وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ
قَائِمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ عَنْهُ
بِسَجْدَتَيْنِ وَجِلْسَةٍ بَيْنَهُمَا،
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا تَبْطُلُ؛
لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ
السُّجُودُ".
الشرح:
الْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ رَوَاهُمَا
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ بِاللَّفْظِ الَّذِي
ذَكَرْتُهُ هُنَا، وَفِيهِ بَعْضُ مُخَالَفَةٍ
فِي الْحُرُوفِ لِلَفْظِهِ فِي الْمُهَذَّبِ
وَقَوْلُهُ: (وَاجْتَمَعَ مَعَهُ) هَذِهِ
اللَّفْظَةُ قَدْ أَنْكَرَهَا الْحَرِيرِيُّ
فِي كِتَابِهِ دُرَّةِ الْغَوَّاصِ وَقَالَ:
لَا يُقَالُ اجْتَمَعَ فُلَانٌ مَعَ فُلَانٍ،
وَإِنَّمَا يُقَالُ اجْتَمَعَ فُلَانٌ
وَفُلَانٌ، وَجَوَّزَهَا غَيْرُهُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ:
فَقَدْ اخْتَصَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَحَذَفَ
مُعْظَمَ مَقَاصِدِهَا وَأَنَا أَذْكُرُهَا
إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى مُسْتَوْفَاةَ
الْأَحْكَامِ مُخْتَصَرَةَ الْأَلْفَاظِ
وَالدَّلَائِلِ قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم
الله: يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَةُ
الْإِمَامِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ
يَتَقَدَّمَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ نَصَّ
الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ سَبْقِهِ
بِرُكْنٍ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
نَصَّهُ وَقَرَّرَهُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ
مِنْ الْأَصْحَابِ قَالُوا: وَالْمُتَابَعَةُ
أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَثَرِ الْإِمَامِ
بِحَيْثُ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ لِكُلِّ فِعْلٍ
مُتَأَخِّرًا عَنْ ابْتِدَاءِ الْمَأْمُومِ،
وَمُقَدَّمًا عَلَى فَرَاغِهِ مِنْهُ،
وَكَذَلِكَ يُتَابِعُهُ فِي الْأَقْوَالِ
فَيَتَأَخَّرُ ابْتِدَاؤُهُ عَنْ أَوَّلِ
ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ إلَّا فِي التَّأْمِينِ
فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ مُقَارَنَتُهُ كَمَا
أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ. فَلَوْ
خَالَفَهُ فِي الْمُتَابَعَةِ فَلَهُ
أَحْوَالٌ: أحدها: أَنْ يُقَارِنَهُ فَإِنْ
قَارَنَهُ فِي تَكْبِيرَةِ
ج / 4 ص -93-
الْإِحْرَامِ، أَوْ شَكَّ فِي مُقَارَنَتِهِ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ
تَأَخَّرَ فَبَانَ مُقَارَنَتُهُ لَمْ
تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ بِاتِّفَاقِ
أَصْحَابِنَا مَعَ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ
وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ:
تَنْعَقِدُ كَمَا لَوْ قَارَنَهُ فِي
الرُّكُوعِ.
دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ،
وَيُخَالِفُ الرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ
هُنَاكَ دَاخِلٌ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ
مَسْأَلَتِنَا. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَيُشْتَرَطُ تَأَخُّرُ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ
الْمَأْمُومِ عَنْ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ
الْإِمَامِ، وَإِنْ قَارَنَهُ فِي السَّلَامِ
فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ
لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ: أصحهما: يُكْرَهُ
وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ والثاني: تَبْطُلُ.
وَإِنْ قَارَنَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ
يُكْرَهُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَتَفُوتُ
بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ.
الْحَالُ الثاني: أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ
الْإِمَامِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ بِغَيْرِ عُذْرٍ
نَظَرْتَ فَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ
لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ
الْمَشْهُورِ، وَفِيهِ وَجْهٌ
لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ أَنَّهَا تَبْطُلُ،
وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ بَطَلَتْ
بِالِاتِّفَاقِ لِمُنَافَاتِهِ
لِلْمُتَابَعَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمِنْ
التَّخَلُّفِ بِلَا عُذْرٍ أَنْ يَرْكَعَ
الْإِمَامُ فَيَشْتَغِلَ الْمَأْمُومُ
بِإِتْمَامِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ قَالُوا:
وَكَذَا لَوْ اشْتَغَلَ بِإِطَالَةِ تَسْبِيحِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَمَّا بَيَانُ
صُورَةِ التَّخَلُّفِ بِرُكْنٍ فَيَحْتَاجُ
إلَى مَعْرِفَةِ الرُّكْنِ الطَّوِيلِ
وَالْقَصِيرِ، فَالْقَصِيرُ الِاعْتِدَالُ
عَنْ الرُّكُوعِ، وَكَذَا الْجُلُوسُ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
وَالطَّوِيلُ مَا عَدَاهُمَا قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَالطَّوِيلُ مَقْصُودٌ فِي
نَفْسِهِ. وَفِي الْقَصِيرِ وَجْهَانِ
لِلْخُرَاسَانِيَّيْنِ: أصحهما وَبِهِ قَالَ
الْأَكْثَرُونَ وَمَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
إلَى الْجَزْمِ بِهِ: أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي
نَفْسِهِ. والثاني: لَا بَلْ تَابِعٌ
لِغَيْرِهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ.
فَإِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ فَرَكَعَ
الْمَأْمُومُ وَأَدْرَكَهُ فِي رُكُوعِهِ
فَلَيْسَ مُتَخَلِّفًا بِرُكْنٍ فَلَا
تَبْطُلُ صَلَاتُهُ قَطْعًا. فَلَوْ اعْتَدَلَ
الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِي
الْقِيَامِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ
وَجْهَانِ: أصحهما: لَا تَبْطُلُ. وَاخْتُلِفَ
فِي مَأْخَذِهِمَا فَقِيلَ: مَبْنِيَّانِ
عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ رُكْنٌ مَقْصُودٌ
أَمْ لَا؟ إنْ قلنا: مَقْصُودٌ بَطَلَتْ؛
لِأَنَّ الْإِمَامَ فَارَقَ رُكْنًا
وَاشْتَغَلَ بِرُكْنٍ آخَرَ مَقْصُودٍ،
وَإِلَّا فَلَا تَبْطُلُ كَمَا لَوْ
أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ. وَقِيلَ
مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ التَّخَلُّفَ
بِرُكْنٍ يُبْطِلُ أَمْ لَا؟ إنْ قلنا:
يُبْطِلُ فَقَدْ تَخَلَّفَ بِرُكْنِ
الرُّكُوعِ تَامًّا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ.
وَإِنْ قلنا: لَا فَمَا دَامَ فِي
الِاعْتِدَالِ لَمْ يُكْمِلْ الرُّكْنَ
الثَّانِي فَلَا تَبْطُلُ فَلَوْ هَوَى إلَى
السُّجُودِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ،
وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِي الْقِيَامِ فَإِنْ
قلنا: بِالْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ لَمْ
تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي رُكْنٍ
مَقْصُودٍ، وَإِنْ قلنا: بِالثَّانِي
بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِدَالِ قَدْ
تَمَّ هَكَذَا رَتَّبَ الْمَسْأَلَةَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقِيَاسُهُ أَنْ
يُقَالَ: إذَا ارْتَفَعَ عَنْ حَدِّ
الرُّكُوعِ، وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِي
الْقِيَامِ فَقَدْ حَصَلَ التَّخَلُّفُ
بِرُكْنٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدِلْ الْإِمَامُ
فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ إنْ قلنا: التَّخَلُّفُ
بِرُكْنٍ مُبْطِلٌ أَمَّا إذَا انْتَهَى
الْإِمَامُ إلَى السُّجُودِ، وَالْمَأْمُومُ
بَعْدُ فِي الْقِيَامِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ
بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
ثُمَّ إنْ اكْتَفَيْنَا بِابْتِدَاءِ
الْهُوِيِّ مِنْ الِاعْتِدَالِ وَابْتِدَاءِ
الِارْتِفَاعِ عَنْ حَدِّ الرُّكُوعِ
فَالتَّخَلُّفُ بِرُكْنَيْنِ هُوَ أَنْ
يَتِمَّ لِلْإِمَامِ رُكْنَانِ،
وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِيمَا قَبْلَهُمَا.
وَالتَّخَلُّفُ بِرُكْنٍ أَنْ يُتِمَّ
الْإِمَامُ الرُّكْنَ الَّذِي سَبَقَ إلَيْهِ،
وَالْمَأْمُومُ بَعْدُ فِيمَا قَبْلَهُ.
وَإِنْ لَمْ نَكْتَفِ بِذَلِكَ
فَلِلتَّخَلُّفِ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ
يُلَابَسَ بَعْدَ تَمَامِهِمَا أَوْ تَمَامِهِ
رُكْنٌ آخَرُ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ
الْبَغَوِيِّ تَرْجِيحُ الْبُطْلَانِ فِيمَا
إذَا تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ كَامِلٍ مَقْصُودٍ
بِأَنْ اسْتَمَرَّ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى
اعْتَدَلَ الْإِمَامُ وَسَجَدَ،
ج / 4 ص -94-
هَذَا
كُلُّهُ فِي التَّخَلُّفِ بِلَا عُذْرٍ،
أَمَّا الْأَعْذَارُ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا:
الْخَوْفُ. وَسَيَأْتِي فِي بَابِ صَلَاةِ
الْخَوْفِ إنْ شَاءَ الله تعالى.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ بَطِئَ
الْقِرَاءَةِ لِضَعْفِ لِسَانِهِ وَنَحْوِهِ
لَا لِوَسْوَسَةٍ، وَالْإِمَامُ سَرِيعَهَا،
فَيَرْكَعَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ
الْفَاتِحَةَ فَوَجْهَانِ: حَكَاهُمَا
جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْهُمْ
الرَّافِعِيُّ. أَحَدُهُمَا: يُتَابِعُهُ
وَيَسْقُطُ عَنْ الْمَأْمُومِ بَاقِيهَا
فَعَلَى هَذَا إنْ اشْتَغَلَ بِإِتْمَامِهَا
كَانَ مُتَخَلِّفًا بِلَا عُذْرٍ.
وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيّ
وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَسْقُطُ بَاقِيهَا بَلْ
يَلْزَمهُ أَنْ يُتِمَّهَا وَيَسْعَى خَلْفَ
الْإِمَامِ عَلَى نَظْمِ صَلَاةِ نَفْسِهِ مَا
لَمْ يَسْبِقْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَرْكَانٍ مَقْصُودَةٍ.
فَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَوَجْهَانِ:
أحدهما: يَجِبُ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ عَنْ
الْمُتَابَعَةِ لِتَعَذُّرِ الْمُوَافَقَةِ
وأصحهما: لَهُ الدَّوَامُ عَلَى
مُتَابَعَتِهِ، وَعَلَى هَذَا وَجْهَانِ:
أحدهما: يُرَاعِي نَظْمَ صَلَاتِهِ، وَيَجْرِي
عَلَى أَثَرِهِ. وَبِهَذَا أَفْتَى
الْقَفَّالُ وأصحهما: يُوَافِقُهُ فِيمَا هُوَ
فِيهِ. ثُمَّ يَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ بَعْدَ
سَلَامِ الْإِمَامِ، وَهُمَا كَالْقَوْلَيْنِ
فِي مَسْأَلَةِ الزِّحَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي
بَابِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهَا أَخَذُوا
التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ
مَقْصُودَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي
مَسْأَلَةِ الزِّحَامِ إنَّمَا هُمَا إذَا
رَكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَة، وَقَبْل
ذَلِكَ لَا يُوَافِقُهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ
التَّخَلُّفُ قَبْلَهُ بِالسَّجْدَتَيْنِ
وَالْقِيَامِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ الْجُلُوسُ
بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ
قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا
يَجْعَلُ التَّخَلُّفَ بِغَيْرِ الْمَقْصُودِ
مُؤَثِّرًا. وَأَمَّا مَنْ لَا يُفَرِّقُ
بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ أَوْ
يُفَرِّقُ وَيَجْعَلُ الْجُلُوسَ مَقْصُودًا
أَوْ رُكْنًا طَوِيلًا؛ فَالْقِيَاسُ عَلَى
أَصْلِهِ؛ التَّقْدِيرُ بِأَرْبَعَةِ
أَرْكَانٍ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ
الزِّحَامِ، وَلَوْ اشْتَغَلَ الْمَأْمُومُ
بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ فَرَكَعَ
الْإِمَامُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ
الْفَاتِحَةِ أَتَمَّهَا كَبَطِيءِ
الْقِرَاءَةِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَأْمُومِ
الْمُوَافِقِ أَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا قَرَأَ
بَعْضَ الْفَاتِحَةِ فَرَكَعَ الْإِمَامُ
فَقَدْ سَبَقَ فِي رُكُوعِهِ وَإِتْمَامِهِ
الْفَاتِحَةَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: وَمِنْهَا
الزِّحَامُ، وَسَيَأْتِي فِي الْجُمُعَةِ إنْ
شَاءَ الله تعالى.
وَمِنْهَا النِّسْيَانُ، فَلَوْ رَكَعَ مَعَ
الْإِمَامِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ
الْفَاتِحَةَ أَوْ شَكَّ فِي قِرَاءَتِهَا
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ لِقِرَاءَتِهَا
لِفَوَاتِ مَحِلِّهَا وَوُجُوبِ مُتَابَعَةِ
الْإِمَامِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ
لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ، وَلَوْ
تَذَكَّرَ تَرْكَ الْفَاتِحَةِ أَوْ شَكَّ
فِيهِ، وَقَدْ رَكَعَ الْإِمَامُ، وَلَمْ
يَكُنْ هُوَ رَكَعَ؛ لَمْ تَسْقُطْ
الْقِرَاءَةُ بِالنِّسْيَانِ، وَفِي وَاجِبِهِ
وَجْهَانِ: أحدهما: يَرْكَعُ مَعَهُ فَإِذَا
سَلَّمَ الْإِمَامُ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِرَكْعَةٍ وأصحهما: تَجِبُ قِرَاءَتُهَا،
وَبِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ، وَعَلَى هَذَا
تَخَلُّفُهُ تَخَلُّفُ مَعْذُورٍ عَلَى
أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ: والثاني: أَنَّهُ
غَيْرُ مَعْذُورٍ لِتَقْصِيرِهِ
بِالنِّسْيَانِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ
يَتَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى الْإِمَامِ
بِرُكُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ
فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ
التَّقَدُّمُ ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ لَمْ
يَسْبِقْ بِرُكْنٍ كَامِلٍ بِأَنْ رَكَعَ
قَبْلَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَرْفَعْ حَتَّى
رَكَعَ الْإِمَامُ؛ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ
عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا؛ لِأَنَّهُ
مُخَالَفَةٌ يَسِيرَةٌ هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ
الطَّبَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ إنْ
تَعَمَّدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَهُوَ شَاذٌّ
ضَعِيفٌ. وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ
فَهَلْ يَعُودُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ
الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ
غَيْرِهِمْ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ إلَى
الْقِيَامِ وَيَرْكَعَ مَعَهُ. وَلَا يَلْزَمُ
ذَلِكَ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَغَيْرُهُ هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ
والثاني: يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إلَى
الْقِيَامِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هُنَا، وَنَقَلَهُ
أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي
الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي بَابِ صِفَةِ
الصَّلَاةِ: يُسْتَحَبُّ لَهُ
ج / 4 ص -95-
الْعَوْدُ، وَنَقَلَ عَنْ نَصِّهِ في"الأم"
أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ. قَالَ أَبُو
حَامِدٍ: وَسَوَاءٌ تَعَمَّدَ السَّبْقَ أَمْ
سَهَا والثالث: وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ: يَحْرُمُ
الْعَوْدُ فَإِنْ عَادَ عَمْدًا بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ
كَانَ تَقَدُّمُهُ سَهْوًا فَوَجْهَانِ:
أصحهما: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْعَوْدِ
وَالدَّوَامِ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى يَرْكَعَ
الْإِمَامُ والثاني: يَجِبُ الْعَوْدُ فَإِنْ
لَمْ يَعُدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ سَبَقَ
بِرُكْنَيْنِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ
عَامِدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنْ
كَانَ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ
لَمْ تَبْطُلْ لَكِنْ لَا يُعِيدُ تِلْكَ
الرَّكْعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْ
الْإِمَامَ فِي مُعْظَمِهَا فَيَلْزَمهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِ
الْإِمَامِ، وَلَا تَخْفَى صُورَةُ
التَّقَدُّمِ بِرُكْنَيْنِ مِنْ قِيَاسِ مَا
سَبَقَ فِي التَّخَلُّفِ، وَمَثَّلَ
الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ
الْعِرَاقِيِّينَ ذَلِكَ بِمَا إذَا رَكَعَ
قَبْلَ الْإِمَامِ فَلَمَّا أَرَادَ
الْإِمَامُ أَنْ يَرْكَعَ رَفْعَ هُوَ
فَلَمَّا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَرْفَعَ
سَجَدَ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا
يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ قَالَ: فَيَجُوزُ
أَنْ يُقَدِّرَ مِثْلَهُ فِي التَّخَلُّفِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ هَذَا بِالتَّقْدِيمِ؛
لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهِ أَفْحَشُ،
وَإِنْ سَبَقَ بِرُكْنٍ مَقْصُودٍ بِأَنْ
رَكَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَرَفَعَ
وَالْإِمَامُ فِي الْقِيَامِ ثُمَّ وَقَفَ
حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ وَاجْتَمَعَا فِي
الِاعْتِدَالِ فَوَجْهَانِ: أحدهما: تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ
وَجَمَاعَةٌ قَالُوا: فَإِنْ سَبَقَ بِرُكْنٍ
غَيْرِ مَقْصُودٍ فَإِنْ اعْتَدَلَ وَسَجَدَ،
وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي الرُّكُوعِ أَوْ
سَبَقَ بِالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
بِأَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ
الْأُولَى وَجَلَسَ وَسَجَدَ الثَّانِيَةَ،
وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي السَّجْدَةِ
الْأُولَى فَوَجْهَانِ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي
مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ التَّقَدُّمَ بِرُكْنٍ
لَا يُبْطِلُ كَالتَّخَلُّفِ بِهِ، وَبِهَذَا
قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ
الْعِرَاقِيِّينَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ
غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ،
هَذَا كُلُّهُ فِي التَّقَدُّمِ فِي
الْأَفْعَالِ،
وَأَمَّا السَّبْقُ بِالْأَقْوَالِ فَإِنْ
كَانَ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ.
وَإِنْ فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَوْ
التَّشَهُّدِ قَبْلَ شُرُوعِ الْإِمَامِ
فِيهَا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصحيح لَا
يَضُرُّ بَلْ يَجْزِيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَظْهَرُ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ والثاني:
تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ والثالث: لَا
تَبْطُلُ لَكِنْ لَا تُجْزِئُ بَلْ يَجِبُ
قِرَاءَتُهُمَا مَعَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ
أَوْ بَعْدَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ سَهَا
الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي
قِرَاءَةٍ فَتَحَ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ؛
لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ:
"كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَقِّنُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّلَاةِ" وَإِنْ كَانَ فِي ذِكْرٍ غَيْرِهِ جَهَرَ بِهِ الْمَأْمُومُ
لِيَسْمَعَهُ[الْإِمَامُ]فَيَقُولُهُ، وَإِنْ
سَهَا فِي فِعْلٍ سَبَّحَ لَهُ لِيُعْلِمَهُ
فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ سَهَا
لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ
مَنْ شَكَّ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ
فِيهِ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، كَالْحَاكِمِ
إذَا نَسِيَ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ فَشَهِدَ
شَاهِدَانِ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ
وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ
فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ سَهْوُ
الْإِمَامِ فِي تَرْكِ فَرْضٍ مِثْلَ أَنْ
يَقْعُدَ وَفَرْضُهُ أَنْ يَقُومَ، أَوْ
يَقُومَ وَفَرْضُهُ أَنْ يَقْعُدَ لَمْ
يُتَابِعْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ
مُتَابَعَتُهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ،
وَمَا يَأْتِي بِهِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ
الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ فِي تَرْكِ
سُنَّةٍ لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ؛ لِأَنَّ
الْمُتَابَعَةَ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَشْتَغِلَ بِسُنَّةٍ
فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّسْلِيمَةَ
الثَّانِيَةَ أَوْ سُجُودَ السَّهْوِ لَمْ
يَتْرُكْهُ الْمَأْمُومُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي
بِهِ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ
الْمُتَابَعَةِ، فَإِنْ نَسِيَا جَمِيعًا
التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، وَنَهَضَا
لِلْقِيَامِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ
يَسْتَتِمَّ الْقِيَامَ، وَالْمَأْمُومُ قَدْ
اسْتَتَمَّ الْقِيَامَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي
فَرْضٍ والثاني: يَرْجِعُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛
لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ آكَدُ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ
الرُّكُوعِ أَوْ
ج / 4 ص -96-
السُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ لَزِمَهُ
الْعَوْدُ إلَى مُتَابَعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ
حَصَلَ فِي فَرْضٍ".
الشرح: حَدِيثُ أَنَسٍ
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ
مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ، وَقَالَ: هُوَ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِشَوَاهِدَ.
قَوْلُهُ: فَتَحَ عَلَيْهِ هُوَ بِتَخْفِيفِ
التَّاءِ أَيْ: لَقَّنَهُ وَفَتَحَ
الْقِرَاءَةَ عَلَيْهِ وفوله: لَزِمَهُ
الْعَوْدُ إلَى مُتَابَعَتِهِ. هَذَا
تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَرِيبًا
ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَفِيهِ
مَسَائِلُ: إحداها: إذَا اُرْتُجَّ عَلَى
الْإِمَامِ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ
اُسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ تَلْقِينُهُ؛ لِمَا
سَنَذْكُرُهُ فِي فرع: مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ
إنْ شَاءَ الله تعالى، وَكَذَا إذَا كَانَ
يَقْرَأُ فِي مَوْضِعٍ فَسَهَا وَانْتَقَلَ
إلَى غَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ،
وَكَذَا إذَا سَهَا عَنْ ذِكْرٍ فَأَهْمَلَهُ،
أَوْ قَالَ غَيْرُهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقُولَهُ جَهْرًا
لِيَسْمَعَهُ فَيَقُولَهُ الثانية: إذَا سَهَا
الْإِمَامُ فِي فِعْلٍ فَتَرَكَهُ أَوْ هَمَّ
بِتَغْيِيرِهِ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ
يُسَبِّحَ لِيَعْلَمَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ دَلِيلِ التَّسْبِيحِ فِي
هَذَا فِي بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ،
فَإِنْ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ عَمِلَ بِذَلِكَ،
وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِهِ مَا
نَبَّهَهُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ لَمْ يَجُزْ
لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ الْمَأْمُومِينَ
بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِيَقِينِ
نَفْسِهِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَلَا
يُقَلِّدُهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُهُمْ
كَثِيرًا، وَكَذَا لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُمْ
مِمَّنْ هُوَ حَاضِرٌ هُنَاكَ، وَصَرَّحَ
بِلَفْظِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُونَ
قَلِيلِينَ أَوْ كَثِيرِينَ، هَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَكْثَرُونَ.
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ
الْمُخْبِرُونَ كَثِيرِينَ كَثْرَةً ظَاهِرَةً
بِحَيْثُ يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى
الْخَطَأِ وَجْهَيْنِ: أحدهما: لَا يَرْجِعُ
إلَى قَوْلِهِمْ والثاني: يَرْجِعُ، وَمِمَّنْ
حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ
وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، قَالَ فِي الْبَيَانِ:
قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: لَا يَرْجِعُ
إلَيْهِمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ
الطَّبَرِيُّ: يَرْجِعُ وَصَحَّحَ
الْمُتَوَلِّي الرُّجُوعَ لِحَدِيثِ ذِي
الْيَدَيْنِ السَّابِقِ فِي بَابِ السَّهْوِ
فَإِنَّ ظَاهِرَهُ رُجُوعُ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم إلَى قَوْلِ الْمَأْمُومِينَ
الْكَثِيرِينَ، وَأَجَابَ جُمْهُورُ
الْأَصْحَابِ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ صلى الله
عليه وسلم لَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِهِمْ،
بَلْ رَجَعَ إلَى يَقِينِ نَفْسِهِ. حِينَ
ذَكَّرُوهُ فَتَذَكَّرَ، وَلَوْ جَازَ
الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ
لَصَدَّقَهُ وَتَرَكَ الْيَقِينَ لِرُجُوعِ
ذِي الْيَدَيْنِ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ:"لَمْ
تُقْصَرْ الصَّلَاةُ وَلَمْ أَنْسَ، فَقَالَ
ذُو الْيَدَيْنِ: بَلْ نَسِيتَ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثالثة: إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ فِعْلًا
فَإِنْ كَانَ فَرْضًا بِأَنْ قَعَدَ فِي
مَوْضِعِ الْقِيَامِ أَوْ عَكْسَهُ، وَلَمْ
يَرْجِعْ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ
مُتَابَعَتُهُ فِي تَرْكِهِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ
سَهْوًا؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ عَمْدًا
فَقَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ
سَهْوًا فَفِعْلُهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ بَلْ
يُفَارِقُهُ وَيُتِمُّ مُنْفَرِدًا. وَإِنْ
تَرَكَ سُنَّةً فَإِنْ كَانَ فِي اشْتِغَالِ
الْمَأْمُومِ بِهَا تَخَلُّفٌ فَاحِشٌ
كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالتَّشَهُّدِ
الْأَوَّلِ؛ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ
الْإِتْيَانُ بِهَا. فَإِنْ فَعَلَهَا
بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَهُ فِرَاقُهُ
لِيَأْتِيَ بِهَا، وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ
سُجُودَ السَّهْوِ أَوْ التَّسْلِيمَةَ
الثَّانِيَةَ أَتَى بِهِ الْمَأْمُومُ؛
لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْقُدْوَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
اشْتِغَالِ الْمَأْمُومِ بِهَا تَخَلُّفٌ
فَاحِشٌ بِأَنْ تَرَكَ الْإِمَامُ جِلْسَةَ
الِاسْتِرَاحَةِ أَتَى بِهَا الْمَأْمُومُ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ
فِيهَا يَسِيرَةٌ، قَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ
أَرَادَ قَدْرَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا
لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَقَالُوا: لَا
بَأْسَ بِتَخَلُّفِهِ لِلْقُنُوتِ إذَا
تَرَكَهُ الْإِمَامُ وَلَحِقَهُ عَلَى قُرْبٍ
بِأَنْ لَحِقَهُ فِي
ج / 4 ص -97-
السَّجْدَةِ الْأُولَى الرَّابِعَةُ: إذَا قَعَدَ الْإِمَامُ
لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَانْتَصَبَ
الْمَأْمُومُ قَائِمًا سَهْوًا أَوْ نَهَضَا
لِلْقِيَامِ سَاهِيَيْنِ فَانْتَصَبَ
الْمَأْمُومُ، وَعَادَ الْإِمَامُ إلَى
الْجُلُوسِ قَبْلَ انْتِصَابِهِ فَفِي
الْمَأْمُومِ وَجْهَانِ: مَشْهُورَانِ
أَطْلَقَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْغَزَالِيُّ
وَطَائِفَةٌ فَقَالُوا: أحدهما: يَرْجِعُ
والثاني: لَا يَرْجِعُ، وَقَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ مِنْ
الْعِرَاقِيِّينَ: أصحهما: يَجِبُ الرُّجُوعُ
إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ والثاني: لَا
يَجِبُ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِوُجُوبِ
الرُّجُوعِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
أحدهما: يَجُوزُ الرُّجُوعُ والثاني: لَا
يَجُوزُ قَالَ: وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ
الرُّجُوعَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ نَقْلَ
الْعِرَاقِيِّينَ فِي الْوُجُوبِ، وَيُحْمَلُ
كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ
أَنَّ الْوَجْهَيْنِ: فِي الْوُجُوبِ، وَفِي
كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَكَلَامُ
الْغَزَالِيِّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي
الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ مِنْ كَلَامِ
الْإِمَامِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ: أصحهما: يَجِبُ الرُّجُوعُ والثاني:
يَحْرُمُ والثالث: يَجُوزُ، وَلَا يَجِبُ.
وَدَلِيلُ الْأَصَحِّ: أَنَّ مُتَابَعَةَ
الْإِمَامِ آكَدُ، ثُمَّ يَحْصُلُ مَعَهَا
التَّشَهُّدُ، وَلَا يَفُوتُ الْقِيَامُ
الَّذِي هُوَ فِيهِ بِخِلَافِ عَكْسِهِ،
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَخِيرِ أَنَّ مَنْ
تَلَبَّسَ بِفَرْضٍ لَا يَرْجِعُ إلَى
سُنَّةٍ، وَلَا نُسَلِّمُ رُجُوعَهُ إلَى
سُنَّةٍ بَلْ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ
الْوَاجِبَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ
الْأَوْجُهُ مَعَ فُرُوعِهَا فِي بَابِ
سُجُودِ السَّهْوِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي تَلْقِينِ الْإِمَامِ: قَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا: اسْتِحْبَابُهُ،
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ
سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ بِالْقَافِ
وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي أَسْمَاءَ
الرَّحَبِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ قَالَ: وَكَرِهَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: بِالتَّلْقِينِ
أَقُولُ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِمَنْ كَرِهَهُ
بِحَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ
الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا
عَلِيُّ
"لَا تَفْتَحْ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ" وَدَلِيلُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ حَدِيثُ الْمُسَوَّرِ بِضَمِّ
الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ
الْوَاوِ بْنُ يَزِيدَ الْمَالِكِيُّ
الصَّحَابِيُّ رضي الله عنه قَالَ:
"شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
يَقْرَأُ فِي الصَّلَوَاتِ فَتَرَكَ شَيْئًا
لَمْ يَقْرَأْهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلَّا
أَذْكَرْتَنِيهَا؟" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ،
وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا لَمْ يُضَعِّفْهُ
فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى
صَلَاةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِ
فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأَبِي أَصَلَّيْتَ
مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ، فَمَا
مَنَعَكَ؟"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
كَامِلِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ،
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ الَّذِي احْتَجَّ
بِهِ الْكَارِهُونَ فَضَعِيفٌ جِدًّا لَا
يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّ
الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ
الْمُحَدِّثِينَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ،
وَلِأَنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو إِسْحَاقَ
مِنْ الْحَارِثِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ
لَيْسَ هَذَا مِنْهَا
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ أَحْدَثَ
الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ
الْمُسْتَخْلَفَ كَانَ لَا يَجْهَرُ، وَلَا
يَقْرَأُ السُّورَةَ، وَلَا يَسْجُدُ
لِلسَّهْوِ، فَصَارَ يَجْهَرُ وَيَقْرَأُ
السُّورَةَ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَذَلِكَ
لَا يَجُوزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ
فِي الْأُمِّ: يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَتْ
عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ
"لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي
تُوُفِّيَ فِيهِ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّهُ رَجُلٌ أَسِيفٌ.
ج / 4 ص -98-
وَمَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِ، فَلَا
يَسْتَطِيعُ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ
بِالنَّاسِ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ
وَمَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِ فَلَا
يَسْتَطِيعُ فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ
بِالنَّاسِ: قَالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ
صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَوَجَدَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ
خِفَّةً فَخَرَجَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ
ذَهَبَ لِيَسْتَأْخِرَ، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ
بِيَدِهِ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِهِ
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَبُو بَكْرٍ
يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ".
فَإِنْ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ
الْأُولَى أَوْ الثالثة: جَازَ عَلَى قَوْلِهِ
فِي الْأُمِّ. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ لَمْ يَجُزْ؛
لِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُ تَرْتِيبَ الْأَوَّلِ
فَيُشَوِّشُ؛ وَإِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ
وَبَقِيَ عَلَى بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ بَعْضُ
الصَّلَاةِ فَقَدَّمُوا مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ
فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَجُوزُ كَمَا
يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ والثاني: لَا يَجُوزُ؛
لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الْأُولَى قَدْ تَمَّتْ
فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِخْلَافِ".
.
الشرح: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي
اسْتِخْلَافِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه وَخُرُوجِهِ
وَتَأَخُّرِ أَبِي بَكْر، وَصَلَاةِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَوْلُهَا: أَبُو بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ أَيْ
حَزِينٌ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) أَيْ فِي
تَظَاهُرِهِنَّ عَلَى مَا يُرِدْنَ،
وَإِلْحَاحِهِنَّ فِيهِ، كَتَظَاهُرِ
امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَنِسْوَتِهَا عَلَى
صَرْفِ يُوسُفَ (ص) عَنْ رَأْيِهِ فِي
الِاعْتِصَامِ، فَحَمَاهُ اللَّهُ الْكَرِيمُ
مِنْهُنَّ. وَالْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ
رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ صَوَاحِبُ وَفِي
الْمُهَذَّبِ صَوَاحِبَات وَالْأَوَّلُ
أَحْرَى عَلَى اللُّغَةِ وقوله: فِي
الْمُهَذَّبِ فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ
بِالنَّاسِ، لَيْسَ لِعَلِيٍّ ذِكْرٌ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ
الْمَشْهُورَةِ، وَوَقَعَ فِي الْمُهَذَّبِ
(يَبْكِي)، وَلَا يَسْتَطِيعُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ. وَفِي الصَّحِيحِ زِيَادَةٌ
فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ،
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحِ: لَا
يُسْمِعُ النَّاسَ، وَفِي بَعْضِهَا: لَا
يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
قَوْلُهُ: فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً هِيَ
بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ نَشَاطًا وَقُوَّةً،
وقول المصنف:(فَيُشَوِّشُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ
مَعْدُودَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ
اللُّغَةِ فِي لَحْنِ الْعَوَامّ، قَالُوا:
وَصَوَابُهُ فَيُهَوِّسُ، وَمَعْنَاهُ
يُخْلِطُ، وَغَلَّطَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ
اللَّيْثَ وَالْجَوْهَرِيَّ فِي
تَجْوِيزِهِمَا التَّشْوِيشَ، قَالَ ابْنُ
الْجَوَالِيقِيِّ فِي كِتَابِهِ لَحْنِ
الْعَوَامّ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى
أَنَّ التَّشْوِيشَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي
الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ
الْمُوَلَّدِينَ وَخَطَّئُوا اللَّيْثَ فِيهِ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ:
فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ
عَنْ الصَّلَاةِ بِحَدَثٍ تَعَمَّدَهُ أَوْ
سَبَقَهُ أَوْ نَسِيَهُ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ،
أَوْ بِلَا سَبَبٍ فَفِي جَوَازِ
الِاسْتِخْلَافِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ
الصحيح الْجَدِيدُ: جَوَازُهُ لِلْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ (وَالْقَدِيمُ) وَالْإِمْلَاءُ:
مَنْعُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ
رضي الله عنه مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً فِي
مَرَضِهِ، وَمَرَّةً حِينَ ذَهَبَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ
بِالنَّاسِ فَحَضَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ
فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم"
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَطَعَ
بِالْجَوَازِ، وَقَالَ: إنَّمَا الْقَوْلَانِ
فِي الِاسْتِخْلَافِ فِي الْجُمُعَةِ
خَاصَّةً، وَهَذَا أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ،
وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ
طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي جَمِيعِ
الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا. قَالَ
أَصْحَابُنَا: فَإِنْ مَنَعْنَا
الِاسْتِخْلَافَ أَتَمَّ الْمَأْمُومُونَ
صَلَاتَهُمْ فُرَادَى، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ
فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخَلِيفَةِ
ج / 4 ص -99-
صَالِحًا لِإِمَامَةِ هَؤُلَاءِ
الْمُصَلِّينَ، فَلَوْ اسْتَخْلَفَ
لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ امْرَأَةً فَهُوَ
لَغْوٌ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ إلَّا أَنْ
يَقْتَدُوا بِهَا، وَكَذَا لَوْ اسْتَخْلَفَ
أُمِّيًّا أَوْ أَخْرَسَ أَوْ أَرَتَّ،
وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ: إنَّهُ لَا تَصِحُّ
إمَامَتُهُمْ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَيُشْتَرَطُ
الِاسْتِخْلَافُ عَلَى قُرْبٍ، فَلَوْ
فَعَلُوا فِي الِانْفِرَادِ رُكْنًا امْتَنَعَ
الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا صِفَةُ
الْخَلِيفَةِ فَإِنْ اسْتَخْلَفَ مَأْمُومًا
يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ أَوْ مِثْلَهَا
فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ صَحَّ
بِالِاتِّفَاقِ. وَسَوَاءٌ كَانَ مَسْبُوقًا
أَمْ غَيْرَهُ وَسَوَاءٌ اسْتَخْلَفَهُ فِي
الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ غَيْرِهَا؛
لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِتَرْتِيبِ الْإِمَامِ
بِاقْتِدَائِهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى
الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ
أَجْنَبِيًّا فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصحيح
الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ: أَنَّهُ إنْ اسْتَخْلَفَ فِي
الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ الثالثة: مِنْ
رُبَاعِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُخَالِفُهُمْ فِي التَّرْتِيبِ، وَإِنْ
اسْتَخْلَفَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ
الْأَخِيرَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ
لِتَرْتِيبِ الْإِمَامِ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ
بِالْقُعُودِ عَلَى تَرْتِيبِ الْإِمَامِ
فَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ.
وَالْوَجْهُ الثاني: وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ
أَبِي حَامِدٍ: إنْ اسْتَخْلَفَهُ فِي
الْأُولَى جَازَ، وَإِنْ اسْتَخْلَفَهُ فِي
غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إذَا
اسْتَخْلَفَهُ فِي الثالثة: خَالَفَهُ فِي
الْهَيْئَاتِ فَيَجْهَرُ، وَكَانَ تَرْتِيبًا
غَيْرَ مُلْتَزَمٍ لِتَرْتِيبِ الْإِمَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَبِهِ قَطَعَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِ
مَأْمُومٍ مُطْلَقًا، قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: فَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ
أَجْنَبِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً، بَلْ
هُوَ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ صَلَاةً، فَإِنْ
اقْتَدَى بِهِ الْمَأْمُومُونَ فَهُوَ
اقْتِدَاءُ مُنْفَرِدِينَ فِي أَثْنَاءِ
الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ
فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ قُدْوَتَهُمْ
انْقَطَعَتْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِذَا اسْتَخْلَفَ مَأْمُومًا
مَسْبُوقًا لَزِمَهُ مُرَاعَاةُ تَرْتِيبِ
الْإِمَامِ فَيَقْعُدُ مَوْضِعَ قُعُودِهِ،
وَيَقُومُ مَوْضِعَ قِيَامِهِ، كَمَا كَانَ
يَفْعَلُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْإِمَامُ مِنْ
الصَّلَاةِ فَلَوْ اقْتَدَى الْمَسْبُوقُ فِي
ثَانِيَةِ الصُّبْحِ ثُمَّ أَحْدَثَ
الْإِمَامُ فِيهَا فَاسْتَخْلَفَهُ فِيهَا
قَنَتَ وَقَعَدَ عَقِبَهَا وَتَشَهَّدَ، ثُمَّ
يَقْنُتُ فِي الثَّانِيَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ
كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَهَا قَبْلَ
اقْتِدَائِهِ أَوْ بَعْدَهُ سَجَدَ فِي آخِرِ
صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَأَعَادَ فِي آخِرِ
صَلَاةِ نَفْسِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ
كَمَا سَبَقَ. وَإِذَا تَمَّتْ صَلَاةُ
الْإِمَامِ قَامَ لِتَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ،
وَالْمَأْمُومُونَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا
فَارَقُوهُ وَسَلَّمُوا وَتَصِحُّ صَلَاتُهُمْ
بِلَا خِلَافٍ لِلضَّرُورَةِ، وَإِنْ شَاءُوا
صَبَرُوا جُلُوسًا لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ هَذَا
كُلُّهُ إذَا عَرَفَ الْمَسْبُوقُ نَظْمَ
صَلَاةِ الْإِمَامِ وَمَا بَقِيَ مِنْهَا،
فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا
صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَآخَرُونَ وَهُمَا
مَشْهُورَانِ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ
هُمَا مَنْصُوصَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ
خَرَّجَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقِيلَ هُمَا
وَجْهَانِ: أَقْيَسُهُمَا: لَا يَجُوزُ،
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ أصحهما
الْجَوَازُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ
الشَّافِعِيِّ الْجَوَازَ وَلَمْ يَذْكُرْ
غَيْرَهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَعَلَى هَذَا يُرَاقِبُ
الْخَلِيفَةُ الْمَأْمُومِينَ إذَا أَتَمَّ
الرَّكْعَةَ، فَإِنْ هَمُّوا بِالْقِيَامِ
قَامَ وَإِلَّا قَعَدَ، قَالَ الْبَغَوِيّ:
وَلَا يُمْنَعُ قَبُولُ غَيْرِهِ
وَإِشَارَتُهُ1 مِنْ اسْتِخْلَافِهِ كَمَا
لَوْ أَخْبَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّ الْبَاقِيَ
مِنْ الصَّلَاةِ كَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ
اعْتِمَادُهُ لِلْخَلِيفَةِ بِالِاتِّفَاقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله: وإشارة من أستخلفه.
ج / 4 ص -100-
قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَسَهْوُ الْخَلِيفَةِ قَبْلَ
حَدَثِ الْإِمَامِ يَحْمِلُهُ الْإِمَامُ
فَلَا يَسْجُدُ لَهُ أَحَدٌ، وَسَهْوُهُ
بَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ يَقْتَضِي سُجُودَهُ
وَسُجُودَهُمْ، وَسَهْوُ الْقَوْمِ قَبْلَ
حَدَثِ الْإِمَامِ وَبَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ
مَحْمُولٌ وَبَيْنَهُمَا غَيْرُ مَحْمُولٍ،
بَلْ يَسْجُدُ السَّاهِي بَعْدَ سَلَامِ
الْخَلِيفَةِوَلَوْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ
خَلْفَ مُصَلِّي الصُّبْحِ فَأَحْدَثَ
الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَهُ قَنَتَ فِي
الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ قُنُوتِ
الْإِمَامِ فَلَا يَقْنُتُ فِي آخِرِ
صَلَاتِهِ وَلَوْ أَحْرَمَ بِالصُّبْحِ
خَلْفَ[مُصَلِّي]الظُّهْرِ فَأَحْدَثَ
الْإِمَامُ وَحْدَهُ لَمْ يَقْنُتْ فِي آخِرِ
صَلَاتِهِ، هَكَذَا نَقَلَهُمَا الْبَغَوِيّ،
ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ
يَقْنُتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ
دُونَ الْأُولَى ، وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ
الْقُدْوَةِ بِالْخَلِيفَةِ فِي الْجُمُعَةِ
وَغَيْرِهَا وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا
الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ أصحهما
وَأَشْهَرُهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ
الْخَلِيفَةَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ؛
وَقَدْ سَبَقَتْ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ
والثاني: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّهُمْ بِحَدَثِ
الْأَوَّلِ صَارُوا مُنْفَرِدِينَ، وَلِهَذَا
لَحِقَهُمْ سَهْوُ أَنْفُسِهِمْ بَيْنَ
الْحَدَثِ وَالِاسْتِخْلَافِ قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ
الْإِمَامُ قَدَّمَ الْقَوْمُ وَاحِدًا
بِالْإِشَارَةِ، وَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ
بِنَفْسِهِ جَازَ، وَتَقْدِيمُ الْقَوْمِ
أَوْلَى مِنْ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ؛
لِأَنَّهُمْ الْمُصَلُّونَ. قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ
وَاحِدًا وَالْقَوْمُ آخَرَ فَأَظْهَرُ
الِاحْتِمَالَيْنِ: أَنَّ تَقْدِيمَ الْقَوْمِ
أَوْلَى، قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ:
وَيَجُوزُ اسْتِخْلَافُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ
وَأَرْبَعَةٍ وَأَكْثَرَ يُصَلِّي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَائِفَةٍ فِي غَيْرِ
الْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى
الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ وَحَكَى ابْنُ
الْمُنْذِرِ جَوَازَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ
وَمَنْعَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: وَإِذَا
تَقَدَّمَ خَلِيفَةٌ فَمَنْ شَاءَ تَابَعَهُ
وَمَنْ شَاءَ أَتَمَّ مُنْفَرِدًا. قَالَ
الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: فَلَوْ تَقَدَّمَ
الْخَلِيفَةُ فَسَبَقَهُ حَدَثٌ وَنَحْوُهُ
جَازَ لِثَالِثٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَإِنْ
سَبَقَهُ حَدَثٌ وَنَحْوُهُ فَلِرَابِعٍ
وَأَكْثَرَ، وَعَلَى جَمِيعِهِمْ تَرْتِيبُ
صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَصْلِيِّ،
وَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ مَا شُرِطَ فِي
الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ
الْإِمَامُ، وَعَادَ وَاقْتَدَى بِخَلِيفَةٍ
ثُمَّ أَحْدَثَ الْخَلِيفَةُ فَتَقَدَّمَ
الْإِمَامُ الْأَوَّلُ جَازَ، هَذَا
مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِخْلَافِ
فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ أَمَّا
الِاسْتِخْلَافُ فِي الْجُمُعَةِ فَقَدْ
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهَا،
وَهُنَاكَ يُشْرَحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ –
تَعَالَى.
فرع: إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ
وَفِي الْمَأْمُومِينَ مَسْبُوقُونَ فَقَامُوا
لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِمْ فَقَدَّمُوا مَنْ
يُتْمِمْهَا بِهِمْ وَاقْتَدَوْا بِهِ فَفِي
جَوَازِهِ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ
وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ،
أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي
التَّجْرِيدِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ
قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِخْلَافِ، قَالَا:
وَالْوَجْهَانِ: مُفرع:انِ عَلَى جَوَازِ
الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَمْ
يَجُزْ هَذَا وَجْهًا وَاحِدًا، وَمَا
ذَكَرْتُهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْجَوَازِ
فَاعْتَمِدْهُ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا فِي
الِانْتِصَارِ لِأَبِي سَعِيدِ بْنِ عَصْرُونٍ
مِنْ تَصْحِيحِ الْمَنْعِ، وَكَأَنَّهُ
اغْتَرَّ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
فِي تَعْلِيقِهِ: لَعَلَّ الْأَصَحَّ
الْمَنْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ كَانَ
هَذَا فِي الْجُمُعَةِ لَمْ يَجُزْ
لِلْمَسْبُوقِينَ الِاقْتِدَاءُ فِيمَا بَقِيَ
عَلَيْهِمْ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا
تَجُوزُ جُمُعَةٌ بَعْدَ جُمُعَةٍ بِخِلَافِ
غَيْرِهَا.
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاسْتِخْلَافِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا جَوَازُهُ. قَالَ
الْبَغَوِيّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ،
وَعَلْقَمَةَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ
وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِ
ج / 4 ص -101-
الرَّأْيِ وَأَحْمَدَ، وَلَمْ يُصَرِّحْ ابْنُ
الْمُنْذِرِ بِحِكَايَةِ مَنْعِ
الِاسْتِخْلَافِ عَنْ أَحَدٍ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ نَوَى
الْمَأْمُومُ مُفَارَقَةَ الْإِمَامِ
وَأَتَمَّ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ
لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ"؛ لِأَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه أَطَالَ الْقِرَاءَةَ فَانْفَرَدَ
عَنْهُ أَعْرَابِيٌّ وَذَكَرَ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِ" وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما:
تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ
مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ إحْدَاهُمَا إلَى
الْأُخْرَى كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ والثاني:
يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ
الْجَمَاعَةَ فَضِيلَةٌ فَكَانَ لَهُ
تَرْكُهَا كَمَا لَوْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاةِ
النَّفْلِ قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ".
الشرح: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ
جَابِرٍ، ثُمَّ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَذِهِ
الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد
وَالنَّسَائِيَّ كَانَتْ فِي الْمَغْرِبِ
وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
أَنَّ مُعَاذًا افْتَتَحَ سُورَةَ
الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ
أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ
فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَرَأَ{اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ}(القمر: من
الآية1)فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ
بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمَا
قَضِيَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ
فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ كَمَا
سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى،
وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ فَإِنَّ مُعَاذًا لَا يَفْعَلُهُ
بَعْدَ النَّهْيِ، وَيَبْعُدُ أَنَّهُ نَسِيَ
النَّهْيَ،
وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى تَرْجِيحِ
رِوَايَةِ الْعِشَاءِ وَرَدِّ الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى فَقَالَ: رِوَايَاتُ الْعِشَاءِ
أَصَحُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ
الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَوْلَى،
وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ
رِوَايَةِ الْقِرَاءَةِ بِالْبَقَرَةِ
وَالْقِرَاءَةِ بِ (اقْتَرَبَتْ) بِأَنَّهُ
قَرَأَ هَذِهِ فِي رَكْعَةٍ وَهَذِهِ فِي
رَكْعَةٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ
فَانْفَرَدَ عَنْهُ أَعْرَابِيٌّ فَلَيْسَ
بِمَقْبُولٍ، بَلْ الصَّوَابُ: انْصَرَفَ
عَنْهُ أَنْصَارِيٌّ صَاحِبُ نَاضِجٍ
وَنَخْلٍ. هَكَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي
الصَّحِيحَيْنِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ
فَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد اسْمُهُ
حَزْمُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ، وَقِيلَ اسْمُهُ
حَازِمٌ، وَقِيلَ سُلَيْمٌ، وَالْأَصَحُّ
أَنَّهُ حَرَامُ بِالرَّاءِ بْنُ مِلْحَانَ
خَالُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَمْ يَذْكُرْ
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ
غَيْرَهُ.
وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ
عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ مُفَارَقَةُ
الْإِمَامِ وَالْبِنَاءُ عَلَى مَا صَلَّى
مَعَهُ. لَكِنْ احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ
في"الأم" وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَآخَرُونَ عَلَى الْمُفَارَقَةِ بِغَيْرِ
عُذْرٍ، قَالُوا: وَتَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ
لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ
وَآخَرُونَ عَلَى الْمُفَارَقَةِ بِعُذْرٍ
وَجَعَلُوا طُولَ الْقِرَاءَةِ عُذْرًا،
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ
بِهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ فَارَقَهُ، وَبَنَى عَلَى
صَلَاتِهِ بَلْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ اسْتَأْنَفَ
الصَّلَاةَ، وَلَفْظُ رِوَايَتِهِ قَالَ:
"افْتَتَحَ مُعَاذٌ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ
فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى
وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ" وَهَذَا لَفْظُهُ
بِحُرُوفِهِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ
لَمْ يَبْنِ بَلْ قَطَعَ الصَّلَاةَ ثُمَّ
اسْتَأْنَفَهَا فَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ
دَلَالَةٌ لِلْمُفَارَقَةِ وَالْبِنَاءِ.
وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى
الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ:
لَا أَدْرِي هَلْ حُفِظَتْ هَذِهِ
الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي مُسْلِمٍ لِكَثْرَةِ
مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سُفْيَانَ
دُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا
انْفَرَدَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ
سُفْيَانَ. وَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ نَظَرٌ؛
لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ وَعُلِمَ أَنَّ
الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ قَبُولُ زِيَادَةِ
الثِّقَةِ، لَكِنْ يُعْتَضَدُ قَوْلُ
الْبَيْهَقِيّ بِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي عُلُومِ
الْحَدِيثِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَدِّثِينَ
يَجْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ
شَاذًّا ضَعِيفًا مَرْدُودًا، فَالشَّاذُّ
عِنْدَهُمْ أَنْ يُرْوَى مَا لَا يَرْوِيهِ
سَائِرُ الثِّقَاتِ، سَوَاءٌ خَالَفَهُمْ أَمْ
لَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ
مِنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ أَنَّ الشَّاذَّ
مَا
ج / 4 ص -102-
يُخَالِفُ الثِّقَاتِ أَمَّا مَا لَا
يُخَالِفُهُ فَلَيْسَ بِشَاذٍّ، بَلْ
يُحْتَجُّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ.
فَعَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ
هَذِهِ اللَّفْظَةُ شَاذَّةٌ لَا يُحْتَجُّ
بِهَا، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ
"أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
مَعَ الْقَوْمِ فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا
طَوَّلَ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَحِقَ
بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ، فَلَمَّا قَضَى مُعَاذٌ
الصَّلَاةَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: إنَّهُ
لَمُنَافِقٌ تَعَجَّلَ عَنْ الصَّلَاةِ مِنْ
أَجْلِ سَقْيِ نَخْلِهِ".
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ "لِأَنَّهُمَا
صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْحُكْمِ"
فَاحْتِرَازٌ مِمَّنْ نَوَى الْقَصْرَ ثُمَّ
الْإِتْمَامَ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؛
لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ لَيْسَتَا
مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ
كَانَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي الْعَدَدِ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ: فَقَالَ
أَصْحَابُنَا: إذَا أَخْرَجَ الْمَأْمُومُ
نَفْسَهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ نُظِرَ
إنْ فَارَقَهُ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ
وَقَطْعَ الْقُدْوَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
بِالْإِجْمَاعِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ
الْإِجْمَاعَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ،
وَإِنْ نَوَى مُفَارِقَتَهُ، وَأَتَمَّ
صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا بَانِيًا عَلَى مَا
صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ فَالْمَذْهَبُ وَهُوَ
نَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ
مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ
أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ مُطْلَقًا حَكَاهُ
الْخُرَاسَانِيُّونَ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ
قَدِيمٌ: تَبْطُلُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
عُذْرٌ وَإِلَّا فَلَا قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: وَالْأَعْذَارُ كَثِيرَةٌ
وَأَقْرَبُ مُعْتَبَرٍ أَنَّ كُلَّ مَا
جَوَّزَ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ ابْتِدَاءً
جَوَّزَ الْمُفَارَقَةَ، وَأَلْحَقُوا بِهِ
مَا إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ سُنَّةً
مَقْصُودَةً كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
وَالْقُنُوتِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَصْبِرْ
عَلَى طُولِ الْقِرَاءَةِ لِضَعْفٍ أَوْ
شُغْلٍ فَهَلْ هُوَ عُذْرٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أصحهما أَنَّهُ عُذْرٌ، وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ
مُعَاذٍ عَلَيْهِ والثاني: لَا وَبِهِ قَطَعَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. هَذَا كُلُّهُ إذَا
قَطَعَ الْمَأْمُومُ الْقُدْوَةَ،
وَالْإِمَامُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ صَحِيحَةٍ
فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
فَأَمَّا إذَا بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ
بِحَدَثٍ وَنَحْوِهِ أَوْ قَامَ إلَى
خَامِسَةٍ أَوْ أَتَى بِمُنَافٍ غَيْرِ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يُفَارِقُهُ وَلَا يَضُرُّ
الْمَأْمُومَ هَذِهِ الْمُفَارَقَةُ بِلَا
خِلَافٍ، أَمَّا إذَا فَارَقُوا الْإِمَامَ
فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ
مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ، وَلَوْ نَوَى
الصُّبْحَ خَلْفَ مُصَلِّي الظُّهْرِ
وَتَمَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فَإِنْ شَاءَ
انْتَظَرَ فِي التَّشَهُّدِ حَتَّى يَفْرَغَ
الْإِمَامُ، وَيُسَلِّمَ مَعَهُ، وَهَذَا
أَفْضَلُ، وَإِنْ شَاءَ نَوَى مُفَارَقَتَهُ
وَسَلَّمَ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ هُنَا
بِالْمُفَارَقَةِ بِلَا خِلَافٍ لِتَعَذُّرِ
الْمُتَابَعَةِ، وَكَذَا فِيمَا أَشْبَهَهَا
مِنْ الصُّوَرِ، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ
ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِي الْمُفَارَقَةَ
فِي صَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بُطْلَانُ صَلَاةِ
الْمُفَارِقِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ
كَالْقَوْلَيْنِ. |