|
المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب ومن كتب رجال الحديث وعلله
"معجم الصحابة" للبغوي،
و"الاستعاب للصحابة" لابن عبد البر، و"أسد
الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير،
و"تاريخ البخاري الكبير" و"تاريخ البخاري
الصغير" و"تاريخ ابن أبي حاتم" و"الجرح
والتعديل" لابن أبي حاتم، و"كتاب الكامل" لابن
عدي، و"الضعفاء والمتروكين" للبخاري،
و"الضعفاء والمتروكين" للنسائي، و"الضعفاء"
للعقيلي، و"الضعفاء" لابن شاهين، و"الثقات"
لابن حبان، و"تاريخ نيسابور" للحاكم، و"تاريخ
بغداد" للخطيب، و"ذيله" لابن المديني، و"ذيله"
لابن النجار، و"العلل" و"الطبقات" لمسلم،
و"الضعفاء" لأبي أيوب التميمي، و"الطبقات
الكبرى" لابن سعد، و"الطبقات الصغرى" له،
وكتاب ابن القطان على "الأحكام" ومن "شروح
الحديث التمهيد" لابن عبد البر، و"الاستذكار"
و"المنتقى" للباجي، و"الإكمال" للقاضي عياض،
زو"شرح مسلم" للنووي، و"شرح العمدة" لابن دقيق
العيد.
ومن كتب اللغة
"الصحاح1" و"المحكم2" و"الغريبين" للهروي،
والله أعلم.
قَالَ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ رحمه الله
تعالى: قَالَ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ:"إذَا تَخَايَرَا فِي
الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّقَابُضِ فَهُوَ
كَالتَّفَرُّقِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ لِمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1"الصحاح" للجوهري
2 "المحكم" لابن سيده
ج / 10 ص -11-
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَا يَبْطُلُ
لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى
يَدًا بِيَدٍ.
قُلْت: هَذَا آخِرُ مَا وُجِدَ مِنْ شَرْحِ
أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ رحمه الله،
وَأَقُولُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي
الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ إنَّ
الْإِجَارَةَ لَاغِيَةٌ وَالْخِيَارُ بَاقٍ
بِحَالِهِ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ،
وَقَدْ شَذَّ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ بِذَلِكَ،
فَإِنَّهُمْ مُطْبِقُونَ عَلَى الْبُطْلَانِ.
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ
وَالْمَحَامِلِيِّ الْمُصَنِّفُ وَأَتْبَاعُهُ
وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَحْكُوا خِلَافَ ابْنِ
سُرَيْجٍ وَلَا غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا
سُلَيْمًا1 فِي التَّقْرِيبِ فَإِنَّهُ
حَكَاهُ وَقَالَ: إنَّ الْمَذْهَبَ
الْبُطْلَانُ وَرَأَيْتُهُ بِخَطِّهِ فِي
تَعْلِيقَةِ أَبِي حَامِدٍ، وَقَالَ: إنَّهُ
حَكَاهُ فِي آخِرِ الرَّهْنِ.
وَأَمَّا الْمَرَاوِزَةُ فَالْفُورَانِيُّ فِي
"الْعُمْدَةِ" وَافَقَ الْعِرَاقِيِّينَ
وَجَزَمَ بِالْبُطْلَانِ. وَأَكْثَرُهُمْ
يَحْكِي وَجْهَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ
مَعْنَيَيْهِمَا. فَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ
حَكَى وَجْهَ الْبُطْلَانِ وَوَجْهَ
اللُّزُومِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ
بِتَلْخِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُرَادُهُ كَمَا
ذَكَرْنَاهُ. وَتَبِعَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ
وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ. وَعَيَّنَ أَنَّ
الْمُخَالِفَ هُوَ ابْنُ سُرَيْجٍ. وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ حَكَى عَنْ نَقْلِ شَيْخِهِ
وَصَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَجْهَ إلْغَاءِ
الْإِجَارَةِ وَوَجْهَ اللُّزُومِ وَلَمْ
يَذْكُرْ وَجْهَ الْبُطْلَانِ. وَتَبِعَهُ
الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ
مَعَ زِيَادَةِ تَرْجِيحِ اللُّزُومِ. وَقَدْ
انْفَرَدَ بِتَرْجِيحِ ذَلِكَ مِنْ بَيْنِ
الْمُصَنِّفِينَ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ مِنْ
فُضَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ زَيْنُ الدِّينِ
الْحَلَبِيُّ شَيْخُ صَاحِبِ الْوَافِي.
فَانْتَظَمَ مِنْ النَّقْلَيْنِ فِي طَرِيقَةِ
الْمَرَاوِزَةِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ
الْمَذْكُورَةَ كَمَا هِيَ أَيْضًا
مُفَرَّقَةٌ فِي طَرِيقَةِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَهَا مَجْمُوعَةً صَاحِبُ
الْبَحْرِ. وَعَزَا الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ
إلَى جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ.
وَأَمَّا الرَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى:
فَإِنَّهُ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ مُفَرَّقَةً
فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى وَجْهٍ
يَتَوَقَّفُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَفِي
بَابِ الرِّبَا قَالَ: وَالتَّخَايُرُ قَبْلَ
الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ التَّفَرُّقِ يُبْطِلُ
الْعَقْدَ. خِلَافًا لِابْنِ سُرَيْجٍ، كَمَا
فَعَلَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ.
وَفِي بَابِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ حَكَى
وَجْهَيْنِ أحدهما: إلْغَاءُ الْإِجَارَةِ
والثاني: لُزُومُ الْعَقْدِ كَمَا فَعَلَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ
لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ
الْوَجْهَيْنِ مُخَالِفٌ لِمَا اقْتَضَى
كَلَامُهُ فِي بَابِ الرِّبَا تَرْجِيحَهُ.
فَاقْتِصَارُ الرَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ فِي هَذَا الْمَكَانِ يُوهِمُ
الْجَزْمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَالنَّوَوِيُّ
رحمه الله تعالى: فَعَلَ هُنَا حَيْثُ وَقَفَ
فِي بَابِ الرِّبَا كَمَا فَعَلَ
الرَّافِعِيُّ فِيهِ، وَحَكَى فِي بَابِ
خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَجْهَيْ إلْغَاءِ الْإِجَارَةِ وَلُزُومِ
الْعَقْدِ وَقَالَ: إنَّ أَصَحَّهُمَا
اللُّزُومُ. قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ
أَنَّهُ يُبْطِلُ الْعَقْدَ فَجَمَعَ
الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ. لَكِنْ بِعِبَارَةٍ
تُوهِمُ أَنَّ الْبُطْلَانَ مَرْجُوحٌ. وَهُوَ
قَالَ هُنَا: إنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 منصوب على الاستثناء وكان في الطبعات
السابقة سليمان والنون من خطأ النساخ فيكون
المقصود هنا هو "التقريب في الفروع" للإمام
أبي الفتح سليم ين أيوب الرازي الشافعي
المتوفى سنة سبع وأربعين وأربعمائة والدليل
عليه قوله فيما يلي: لكن سليم في "التقريب".
ج / 10 ص -12-
الْمَذْهَبُ . وأما: قَوْلُهُ: أَصَحُّهُمَا
اللُّزُومُ فَيُمْكِنُ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ
بِأَنَّهُ الْأَصَحُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ
وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهُ الْأَصَحُّ مُطْلَقًا
فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ
يَكُونَ الثَّالِثُ أَصَحَّ مِنْهُ. واعلم:
أَنَّ الرَّافِعِيَّ وَكَذَلِكَ الشَّارِحُ
فِي هَذَا الْفَصْلِ نَقَلَ عَنْ ابْنِ
سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ.
وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ مُرَادُهُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْعَقْدَ؟ أَمْ
تَلْغُو الْإِجَارَةُ؟ وَأَنَّ عَدَمَ
بُطْلَانِ الْعَقْدِ صَادِقٌ عَلَى كِلَا
الْوَجْهَيْنِ. لَكِنْ سُلَيْمٌ فِي
التَّقْرِيبِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ بَيَّنَا
ذَلِكَ صَرِيحًا فَقَالَا: وَعَنْ أَبِي
الْعَبَّاسِ فِيهِ وَجْهٌ أَنَّ الْعَقْدَ
يَلْزَمُ بِذَلِكَ وَلَا يَبْطُلُ، وَكَذَلِكَ
يَقْتَضِيهِ كَلَامُ صَاحِبِ التَّهْذِيبِ
وَكَلَامُ سُلَيْمٍ وَصَاحِبِ الْعُدَّةِ
أَصْرَحُ، وَقَوْلُ سُلَيْمٍ وَصَاحِبُ
الْعُدَّةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ
هُوَ الْمَذْهَبُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ
ذَلِكَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله:
وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا
وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ
وَإِنَّمَا رَأَيْتُهَا فِي كَلَامِ الشَّيْخِ
أَبِي حَامِدٍ فَمَنْ بَعْدَهُ، وَلِأَجْلِ
إجْمَالِ الرَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي
النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ حَصَلَ
الْتِبَاسٌ عَلَى شَيْخِنَا ابْنِ الرِّفْعَةِ
فِي الْكِفَايَةِ، فَجَعَلَ قَوْلَ ابْنِ
سُرَيْجٍ كَقَوْلِ الْمَاوَرْدِيُّ
وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْتُهُ والأصح: عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ كَقَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ،
وَعِنْدَهُمْ احْتِمَالٌ كَمَذْهَبِنَا وأما
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا تَأْتِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمَا،
لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِخِيَارِ
الْمَجْلِسِ.
تَوْجِيهُ كُلُّ وَجْهٍ مِنْ ذَلِكَ
أَمَّا الْقَوْلُ بِإِلْغَاءِ الْإِجَارَةِ
فَقَدْ اسْتَدَلَّ لَهُ الْمَاوَرْدِيُّ
بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْإِمْضَاءِ إنَّمَا
يَكُونُ بَعْدَ تَقَصِّي عَلْقَةِ الْعَقْدِ،
وَبَقَاءُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ مِنْ تَقَصِّي
عَلْقِهِ فَمَنَعَ مِنْ اخْتِيَارِ
إمْضَائِهِ، قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَهَذَا
حَسَنٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ
اخْتِيَارَ الْإِمْضَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
يَسْتَدْعِي سَبْقَ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ
سَبْقَ تَقَصِّي عَلْقِهِ إنْ كَانَ
الْأَوَّلُ فَهُوَ حَاصِلٌ، وَإِنْ كَانَ
الثَّانِي فَمِنْ جُمْلَةِ الْعَلَقِ
الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ، وَلَا
تَتَوَقَّفُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا
وَتَخْصِيصُ مَحَلِّ النِّزَاعِ دُونَ
غَيْرِهِ تَحَكُّمٌ، ثُمَّ إنَّ حَدِيثَ
"الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ"
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ مَعْنَاهُ مَا
لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ
الْخِيَارَ يَبْقَى بَعْدَ التَّخَايُرِ كَانَ
مُخَالِفًا لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، بَلْ
وَلِمَنْطُوقِهِ عَلَى رَأْيِي، فَإِنَّ
فِيهِ: فَإِذَا كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ
خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ،
وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يَحْمِلُ ذَلِكَ
عَلَى التَّخَايُرِ بَعْدَ الْعَقْدِ،
فَاقْتَضَى أَنَّ التَّخَايُرَ مُوجِبٌ
لِلْعَقْدِ مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
وأما قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ فَوَجْهُهُ
ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ التَّقَابُضُ
قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَقَدْ وُجِدَ،
وَإِلْحَاقُ التَّخَايُرِ بِالتَّفَرُّقِ فِي
كُلِّ أَحْكَامِهِ مَمْنُوعٌ. وَاَلَّذِي
ثَبَتَ مِنْ الشَّرْعِ مُسَاوَاةُ
التَّخَايُرِ لِلتَّفَرُّقِ فِي لُزُومِ
الْعَقْدِ لَا مُطْلَقًا، فَمَنْ ادَّعَى
ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلَهُ أَنْ
يَتَمَسَّكَ بِحَدِيثِ
"الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ" وَدَلَالَتُهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَقْدِ بِالتَّخَايُرِ كَمَا
تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ
عُقُودِ الرِّبَا وَغَيْرِهَا.
قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: اشْتِرَاطُ
التَّقَابُضِ قَبْلَ اللُّزُومِ تَحَكُّمٌ
بِغَيْرِ دَلِيلٍ، لَمْ يَبْطُلْ بِمَا إذَا
تَخَايَرَا قَبْلَ الصَّرْفِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا، فَإِنَّ الصَّرْفَ يَقَعُ
لَازِمًا صَحِيحًا قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ
يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَنَحْنُ نَمْنَعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى
الْأَصَحِّ فِي مَذْهَبِنَا، وَمَنْ أَثْبَتَ
الْقَوْلَ الذَّاهِبَ إلَى ذَلِكَ وَأَجْرَى
ذَاكَ فِي عُقُودِ الرِّبَا وَالسَّلَمِ
اسْتَحَالَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّخَايُرَ
مُبْطِلٌ.
ج / 10 ص -13-
واعلم
أَنَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ يُثْبِتُ أَنَّ
ذَاكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله:
أَعْنِي صِحَّةَ اشْتِرَاطِ نَفْيِ خِيَارِ
الْمَجْلِسِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ
تَخْرِيجُ قَوْلٍ مُوَافِقٍ لِابْنِ سُرَيْجٍ
فِي مَسْأَلَتِنَا هُنَا وَلَا سَبِيلَ إلَى
أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي فِي
عُقُودِ الرِّبَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
وَحِينَئِذٍ أَقُولُ فِي تَوْجِيهِ مَا
اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: إنَّ
الدَّلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم"يَدًا بِيَدٍ"وَهَذَا
اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي
أَنَّهُ يُعْطِي بِيَدٍ وَيَأْخُذُ بِأُخْرَى،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لَهُ،
لَكِنَّا خَرَجْنَا عَنْ ذَلِكَ. لِقَوْلِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
لِمَالِكِ بْنِ أَوْسٍ لَمَّا صَرَفَ مِنْ
طَلْحَةَ "لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ
مِنْهُ" فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مَنُوطًا
بِالتَّفَرُّقِ وَلَيْسَ اعْتِبَارُ
التَّفَرُّقِ لِذَاتِهِ، بَلْ لِمَعْنًى
يُمْكِنُ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ
أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ
كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
صلى الله عليه وسلم"كُلُّ
بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى
يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كِلَاهُمَا بِهَذَا اللَّفْظِ.
اقْتَضَى الْحَدِيثُ تَنْزِيلَ الْعَقْدِ
الَّذِي لَمْ يَلْزَمْ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ
التَّخَايُرِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، وَأَنَّهُ
بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَوْ الْخِيَارِ لَيْسَ
كَذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ قَبْلَ
انْقِضَاءِ الْخِيَارِ وُجِدَ فِي وَقْتٍ
كَأَنَّهُ لَمْ تَتَكَامَلْ حَقِيقَةُ
الْعَقْدِ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْقَبْضَ
الْوَاقِعَ وَقْتَ الْعَقْدِ، بِأَنْ يُعْطِيَ
بِيَدٍ وَيَأْخُذَ بِأُخْرَى، فَكَانَ
أَقْرَبَ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"يَدًا بِيَدٍ"بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ
ذَلِكَ بَعْدَ اللُّزُومِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ مِنْ حَيْثُ
هُوَ، فَلَا مَعْنَى لَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِي
الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا أَنَّ
التَّقَابُضَ قَبْلَهُ مُطْلَقًا كَافٍ،
وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ
عِنْدَنَا فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ
التَّحْرِيمُ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ
عَلَى إبَاحَتِهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا
تَعَارَضَ مَا يَقْتَضِي إلْحَاقَ
التَّخَايُرِ بِالتَّفَرُّقِ، وَمَا يَقْتَضِي
عَدَمَهُ، تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَى
الْأَصْلِ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَحْصُلْ
تَعَارُضٌ؟ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنُصَّ
عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ التَّقَابُضُ
قَبْلَ التَّفَرُّقِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَلَا
عَلَى جَعْلِ التَّفَرُّقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ
مَظِنَّةٌ بَلْ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ يَدًا
بِيَدٍ، وَالْعَقْدُ بِالتَّخَايُرِ مَوْجُودٌ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَتَقَدُّمُ صِحَّةِ
الْعَقْدِ عَلَى شَرْطِهِ مُمْتَنِعٌ.
وَأَمَّا مَا قَبْلَ التَّخَايُرِ
فَالصِّحَّةُ الْمَحْكُومُ بِهَا كَلَا
صِحَّةٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَكَذَلِكَ
اُكْتُفِيَ بِالْقَبْضِ فِيهَا، وَأَيْضًا
فَالتَّفَرُّقُ اُعْتُبِرَ لِلدَّلَالَةِ
عَلَى تَكَامُلِ الرِّضَا، وَالتَّخَايُرُ
الْمُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَوْلَى.
فَإِنْ قُلْتَ: التَّخَايُرُ قَبْلَ
التَّقَابُضِ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا
أَوْ بَاطِلًا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَجَبَ
أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ
اللُّزُومُ كَمَا قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ،
وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا وَجَبَ أَنْ يَلْغُو
وَيَبْقَى الْخِيَارُ بِحَالِهِ كَمَا قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ، فَالْحُكْمُ بِكَوْنِهِ
مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ بَعِيدٌ قُلْت:
بُطْلَانُ الْعَقْدِ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ
التَّخَايُرِ، بَلْ عَنْ عَدَمِ التَّقَابُضِ،
وَالتَّخَايُرُ مُبَيِّنٌ لَنَا غَايَةَ
الْوَقْتِ الَّذِي اُشْتُرِطَ فِيهِ
التَّقَابُضُ كَالتَّفَرُّقِ، فَالتَّخَايُرُ
قَاطِعٌ لِلْمَجْلِسِ حَقِيقَةً، لِوُجُودِ
حَقِيقَةِ الرِّضَا الْكَامِلِ، وَإِنْ
تَخَلَّفَ لُزُومُ الْعَقْدِ عَنْهُ،
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
التَّفْرِيعُ: إذَا قُلْنَا
بِقَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَتَقَابَضَا بَعْدَ
ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَقَدْ تَمَّ
الْعَقْدُ لِأَنَّهُ لَزِمَ بِالتَّخَايُرِ،
وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا
انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَهَلْ يَأْثَمَانِ
بِذَلِكَ؟ جَزَمَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ
وَالرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى - وَالنَّوَوِيُّ رحمه الله تعالى:
فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْخِيَارِ
أَنَّهُ بِاللُّزُومِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا
التَّقَابُضُ، وَأَنَّهُمَا إنْ تَفَرَّقَا
قَبْلَ التَّقَابُضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ
بَعْدَ اللُّزُومِ وَلَا يَعْصِيَانِ إنْ
كَانَ تَفَرُّقُهُمَا عَنْ تَرَاضٍ وَإِنْ
فَارَقَ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ
وَعَصَى بِانْفِرَادِهِ بِمَا يُضْمِرُ فَسْخَ
الْعَقْدِ وَاسِقَاطَ الْمُسْتَحَقِّ
عَلَيْهِ، وَمَا جَزَمُوا
ج / 10 ص -14-
بِهِ
مِنْ كَوْنِهِمَا لَا يَعْصِيَانِ إذَا
تَفَرَّقَا عَنْ تَرَاضٍ يُنَافِي مَا قَالَهُ
ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي،
وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ
فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّفَرُّقَ قَبْلَ
التَّقَابُضِ فِي عُقُودِ الرِّبَا
يَأْثَمَانِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ
بَاقِيًا، وَأَنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى
بَيْعِ الرِّبَوِيِّ نَسِيئَةً، وَكَذَلِكَ
جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيُّ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ
رحمه الله تعالى: مَا يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ،
فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ إذَا
تَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ قَبْلَ أَنْ
يَتَقَابَضَا صَارَ رِبًا، وَانْفَسَخَ فِيهِ
الْبَيْعُ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ
مِنْ الْأُمِّ: إذَا صَرَفَ الرَّجُلُ شَيْئًا
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ مَنْ صَرَفَ
مِنْهُ، حَتَّى يَقْبِضَ مِنْهُ، وَلَا
يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ
يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ ثُمَّ يُوَكِّلَ هَذَا
بِأَنْ يُصَارِفَهُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله تعالى: فِيمَا
تَقَدَّمَ:
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ تَعَذَّرَ
عَلَيْهِمَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ
وَأَرَادَا أَنْ يَتَفَرَّقَا لَزِمَهُمَا
أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ قَبْلَ
التَّفَرُّقِ لِئَلَّا يَأْثَمَا فَإِذَا
كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ الْخِيَارِ
فَبَعْدَهُ أَوْلَى بِلَا شَكٍّ وَيَتَّجِهُ
أَنْ يَخْرُجَ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ
إلَى الْآخَرِ وَلِلنَّظَرِ فِي كُلٍّ
مِنْهُمَا مَجَالٌ يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ
إنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ مُطْلَقًا لِأَنَّ
الشَّارِعَ نَهَى عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلَّا
يَدًا بِيَدٍ وَحَكَمَ عَلَى كُلِّ عَقْدٍ
مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ بِأَنَّهُ رِبًا
إلَّا: هَا وَهَا فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا
الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ
وَحَصَلَ الرِّبَا وَالرِّبَا حَرَامٌ وَهَذَا
الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ إطْلَاقِ
الْأَصْحَابِ لَفْظُ الْحُرْمَةِ عَلَى هَذِهِ
الْأُمُورِ فِي عُقُودِ الرِّبَا
كَقَوْلِهِمْ: حَرُمَ النَّسَاءُ
وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ وَلَيْسَ
تَفَرُّقُهُمَا كَتَفَاسُخِهِمَا فَإِنَّهُمَا
بِالتَّفَاسُخِ رَفَعَا الْعَقْدَ فَلَا
يَلْزَمُهُمَا شُرُوطُهُ وَإِذَا لَمْ
يَرْفَعَاهُ وَتَفَرَّقَا فَقَدْ خَالَفَا
بِالتَّفَرُّقِ وَجَعَلَاهُ عَقْدَ رِبًا،
وَالْبُطْلَانِ حُكْمٌ مِنْ الشَّرْعِ
عَلَيْهِمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:
إنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا
بِالْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ شُرُوطٌ فِي الصِّحَّةِ.
قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ رحمه الله: مِنْ
الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ الْمَطْلُوبِ فِي
الْخِلَافِ: إنَّ الْمَعْنِيَّ بِصِحَّةِ
الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ هُنَا وُقُوعُهُ
مُقْتَضِيًا ثُبُوتَ أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ
دُونَ الْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ،
فَإِنَّهُمَا إذَا تَبَايَعَا وَافْتَرَقَا
مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ لَا يَأْثَمَانِ وَلَكِنْ
يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: وَعِنْدَنَا
لَا يَمْتَنِعُ يَعْنِي فِي بَيْعِ الطَّعَامِ
بِالطَّعَامِ فَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ
الْإِمَامَيْنِ غَيْرُ قَائِلَيْنِ
بِالْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالْأَوَّلُ
أَرْجَحُ وَأَقْرَبُ إلَى أَصْلِ
الشَّافِعِيَّةِ الَّذِي تَقَدَّمَتْ
الْإِشَارَةُ إلَيْهِ وَيَأْتِي إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
أما بَعْدَ اللُّزُومِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ
سُرَيْجٍ فَرِضَاهُمَا بِالْفَسْخِ لَا أَثَرَ
لَهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ
التَّفَرُّقِ فَيَتَّجِهُ الْجَزْمُ
بِالتَّحْرِيمِ وَإِنْ رَضِيَا بِهِ
لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِمَا يُحَقِّقُ
الْعَقْدَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، فَالْقَوْلُ
بِالتَّحْرِيمِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ مَعَ
عَدَمِ التَّحْرِيمِ بَعْدَ التَّخَايُرِ
مِمَّا لَا يَجْتَمِعَانِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْقَوْلُ بِعَدَمِ
التَّحْرِيمِ بَعْدَ التَّخَايُرِ إنَّمَا
ذَكَرُوهُ تَفْرِيعًا عَلَى رَأْيِ ابْنِ
سُرَيْجٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ سُرَيْجٍ
مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ فَلَا
يَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ كَلَامُهُ مَعَ
كَلَامِ الْأَصْحَابِ.
قلت: الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ تَفْرِيعًا عَلَى
رَأْيِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَمْ يَنْقُلُوا
التَّفْرِيعَ الْمَذْكُورَ عَنْهُ وَإِنَّمَا
فَرَّعُوهُ كَسَائِرِ التَّفَارِيعِ
الْمَذْهَبِيَّةِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ
الْإِيرَادُ عَلَيْهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ
قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ
تَخْرِيجُ قَوْلٍ مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ
سُرَيْجٍ، وَإِذَا ثَبَتْنَا لِلشَّافِعِيِّ
قَوْلًا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ
فِيمَا إذَا تَبَايَعَا عَلَى أَنْ لَا
خِيَارَ لَهُمَا.
فَإِنْ قُلْتَ: إنَّهُمَا فِي زَمَانِ
الْخِيَارِ مُتَمَكِّنَانِ مِنْ الْفَسْخِ
فَلَهُمَا طَرِيقٌ فِي رَفْعِ الْعَقْدِ
قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَا
ج / 10 ص -15-
يُبَاحُ لَهُمَا التَّفَرُّقُ، وَأَمَّا
بَعْدَ اللُّزُومِ فَلَا طَرِيقَ لَهُمَا
إلَّا التَّفَرُّقَقلت: بَعْدَ اللُّزُومِ لَا
طَرِيقَ لَهُمَا إلَى رَفْعِ الْعَقْدِ،
وَارْتِفَاعُهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِمَا كَتَلَفِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ فَإِذَا تَفَرَّقَا فَقَدْ فَعَلَا
مَا لَيْسَ لَهُمَا فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ
يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ بِهِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وأما: جَزْمُهُمْ بِأَنَّهُ إذَا فَارَقَ
أَحَدُهُمَا يَعْصِي لِقَطْعِهِ مَا هُوَ
مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى قَاعِدَتِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ أَنَّهُمَا إذَا تَفَرَّقَا
رَاضِيَيْنِ لَا يَعْصِيَانِ فِيهِ نَظَرٌ
فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْإِنْسَانِ
أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَفْسِهِ أَوْ خَاصِّ
مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ
غَيْرِهِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ فِي
نَفْسِهِ مُبَاحًا أَلَا تَرَى أَنَّ
الْمُكَاتَبَ يُعْجِزُ نَفْسَهُ فَيَنْقَطِعُ
بِهِ حَقُّ السَّيِّدِ عَنْهُ، وَالزَّوْجُ
يُطَلِّقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَنْقَطِعُ
بِهِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِ الصَّدَاقِ
عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا كَانَ
ذَلِكَ مَقْصُودًا لِلشَّرْعِ فَحِينَئِذٍ
يَمْتَنِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُفَارِقَهُ
لِاسْتِلْزَامِهِ تَفْوِيتَ التَّقَابُضِ
الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ شَرْعًا
تَحَرُّزًا عَنْ الرِّبَا. وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ إذَا فَرَّعْنَا
عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَإِنْ
فَرَّعْنَاهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ فَالْخِيَارُ بَاقٍ بِحَالِهِ
فَإِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ
الِافْتِرَاقِ صَحَّ الْعَقْدُ وَاسْتَقَرَّ
وَكَانَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
أَوْ يَتَخَيَّرَا، كَذَلِكَ صَرَّحَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى مَا اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ
لَا إشْكَالَ فِي التَّفْرِيعِ، فَإِنَّ
التَّخَايُرَ مُلْحَقٌ بِالتَّفَرُّقِ مِنْ
جَمِيعِ وُجُوهِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ
يَأْثَمَا بِهِ كَمَا يَأْثَمَانِ
بِالتَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرُ الْمُبْطِلُ
أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا لِأَنَّهُ
الَّذِي يَنْقَطِعُ بِهِ خِيَارُهُمَا
كَالتَّفَرُّقِ، أَمَّا إذَا أَجَازَ
أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى
التَّفَرُّقِ، حَتَّى يَبْطُلَ بِهِ، فَإِنَّ
مَجْلِسَ الْعَقْدِ بَاقٍ فَإِنْ أَجَازَ
الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّقَابُضِ
لَا إثْمَ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي الْحُكْمِ
بِإِثْمِ السَّابِقِ بِالْإِجَازَةِ مِنْ
غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ نَظَرٌ وَهَذَا الَّذِي
قُلْتُهُ مِنْ التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ
أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ تَفَقُّهٌ لَمْ أَرَ
شَيْئًا مِنْهُ مَنْقُولًا. وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: مَا تَقَدَّمَ مِنْ
الْكَلَامِ فِيمَا إذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا
تَفْرِيعًا عَلَى رَأْيِ ابْنِ سُرَيْجٍ
صُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ
صَاحِبِهِ، كَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ فِي
الْوَسِيطِ، وَعِبَارَتُهُ فِي الْبَسِيطِ:
وَإِنْ هَرَبَ أَحَدُهُمَا وَهِيَ أَصْرَحُ
فِي الْمَقْصُودِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ
إطْلَاقُ الْإِمَامِ وَالرَّافِعِيِّ، أَمَّا
لَوْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا بِرِضَى الْآخَرِ،
فَإِنَّ حُكْمَهُ مَا لَوْ تَفَرَّقَا،
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فرع: جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ الْخِلَافِ فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ فِي
عُقُودِ الرِّبَا وَالصَّرْفِ الَّتِي
يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ وَبِبُطْلَانِ
الْعَقْدِ بِذَلِكَ أَوْ لُزُومِهِ، أَوْ
إلْغَاءِ الْإِجَارَةِ. وَتَفَارِيعُ ذَلِكَ
جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي السَّلَمِ، لَوْ
أَجَزْتَ الْإِجَارَةَ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ
الْمَالِ فِيهِ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
الْمَسْأَلَتَيْنِ وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا.
وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ
التَّهْذِيبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: إذَا بَاعَ مَالَ
وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ
أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُشْتَرَطُ فِيهِ
الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَفَارَقَ
مَجْلِسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ
بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
فِي أَنَّهُ إذَا فَارَقَ الْمَجْلِسَ
يَلْزَمُ الْعَقْدُ. وَقِيلَ لَا يَلْزَمُ
إلَّا بِاخْتِيَارِ اللُّزُومِ وَذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ
أَصْحَابِنَا. فَعَلَى هَذَا فِي الصَّرْفِ
يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ
الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَبْطُلْ الْخِيَارُ
بِاخْتِيَارِ اللُّزُومِ. قَالَهُ صَاحِبُ
التَّهْذِيبِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ. وَلَنَا
وَجْهٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا
يَثْبُتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ
مَجْلِسٍ
ج / 10 ص -16-
أَصْلًا. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَكُونُ
الْمُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْعَقْدِ. فَإِذَا
فَارَقَهُ بَطَلَ. قَالَهُ صَاحِبُ
الْعُدَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ: حَيْثُ
اشْتِرَاطُنَا التَّقَابُضَ، فَسَوَاءٌ
تَرَكَهُ نَاسِيًا أَمْ عَامِدًا فِي فَسَادِ
الْبَيْعِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه
الله فِي الْأُمِّ، وَسَوَاءٌ عَلِمَا فَسَادَ
الْعَقْدِ بِتَأَخُّرِ الْقَبْضِ أَمْ
جَهِلَا. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَسَوَاءٌ
كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا أَوْ كُرْهًا
نَقَلَهُ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ عَنْ
الْإِيضَاحِ. وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ
الِاسْتِقْصَاءِ.
وَلَعَلَّكَ أَنْ تَقُولَ قَدْ حَكَوْا
خِلَافًا فِي انْقِطَاعِ الْخِيَارِ
بِالتَّفَرُّقِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ،
فَجَعَلُوا الْإِكْرَاهَ هُنَاكَ عُذْرًا،
فَهَلْ كَانَ هَاهُنَا عُذْرًا؟ وَكَيْفَ
يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ
الْخِيَارِ الدَّالِّ عَلَى بَقَاءِ
الْمَجْلِسِ؟ وَالشَّرْطُ أَنْ يَتَقَابَضَا
فِي الْمَجْلِسِ لَا غَيْرُ، وَأَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ التَّفَرُّقُ كَلَا تَفَرُّقٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه
الله عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ فِي ذَلِكَ
كَالْعَمْدِ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ
الْإِكْرَاهَ كَالِاخْتِيَارِقلت:
النِّسْيَانُ لَهُ صُورَتَانِ: أَنْ يَنْسَى
الْعَقْدَ وَيُفَارِقَ الْمَجْلِسَ ثُمَّ
يَتَذَكَّرَ. وَفِي هَذَا قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ - رحمه الله: لَا شَكَّ أَنَّهُ
يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ
لِتَقْرِيبِ ذَلِكَ مِنْ الْحِنْثِ فِي
الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ
الْيَمِينَ وَازِعَةً، وَالْيَمِينُ
الْمَنْسِيَّةُ لَا تَزَعُ، وَالنَّاسِي إذَا
فَارَقَ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حُكْمِ
مُضَيِّعِ حَقِّ نَفْسِهِ بِالنِّسْيَانِ،
وَقَصَدَ بِهَذَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُكْرَهِ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ إذَا حُمِلَ
كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه عَلَيْهَا
لَا تُرَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ لِأَنَّ
الْإِكْرَاهَ تَعَلَّقَ بِالتَّفَرُّقِ،
وَالْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ
الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، فَصَارَ وُجُودُ
التَّفَرُّقِ كَعَدَمِهِ، وَالنِّسْيَانُ
الْمَذْكُورُ لَمْ يَتَعَلَّقْ
بِالتَّفَرُّقِ، بَلْ التَّفَرُّقُ مَقْصُودٌ
وَالنِّسْيَانُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقْدِ فَلَا
جُرْمَ رُتِّبَ عَلَى التَّفَرُّقِ
الْمَقْصُودِ اخْتِيَارُ أَثَرِهِ، وَأَمَّا
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ النِّسْيَانِ
فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ التَّفَرُّقُ
غَيْرَ قَاصِدٍ لَهُ، بَلْ عَلَى وَجْهِ
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي
تَسْمِيَةِ هَذَا نِسْيَانًا نَظَرٌ، فَهَذَا
إذَا وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ يُمْكِنُ
إلْحَاقُهُ بِالْإِكْرَاهِ بَلْ يَتَعَيَّنُ.
وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ فِي
النَّاسِي: إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ:
يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِالْمُفَارِقَةِ
نَاسِيًا، لِأَنَّهُ لَا يَعْدَمُ سِوَى
الْقَصْدِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْقَصْدِ إذْ
هُوَ غَيْرُ شَرْطٍ. قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ،
فَإِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَمْ يَرْضَ
بِإِسْقَاطِهِ فَكَيْفَ يُسْقِطُهُ؟
وَيُحْتَمَلُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ
عَلَى التَّفَرُّقِ وَتَرْكِ التَّخَايُرِ،
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْجَاهِلِ، آلَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ الْقَصْدَ
فِي التَّفَرُّقِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَمْ لَا؟
فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ اكْتَفَى بِصُورَةِ
التَّفَرُّقِ، وَمَنْ اشْتَرَطَهُ لَمْ
يَكْتَفِ بِذَلِكَ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ
الْجُنُونُ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْهُ
الْخِيَارُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ
كَالْمَيِّتِ.
قلت: فَإِذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ صَاحِبِ
الذَّخَائِرِ وَعَلَيْهِ كَلَامُ بَعْضِ
الْأَصْحَابِ الَّتِي نَقَلَهَا عَلِمْتَ
أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي
الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَقَوَّى فِيهِ
حِينَئِذٍ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ.
وَمَتَى حُمِلَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا
يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ صَاحِبُ ذَلِكَ
الْوَجْهِ. وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّ التَّفَرُّقَ
عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ لَا
يَقْطَعُ الْخِيَارَ، يَجِبُ أَنْ لَا
يَبْطُلَ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ عَلَى
ذَلِكَ الْوَجْهِ قَبْلَ التَّقَابُضِ،
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
ج / 10 ص -17-
وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّانِي الَّذِي قَالَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ رحمه الله تعالى: فَظَاهِرٌ.
لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ
لَا يَدْفَعُ ثُبُوتَهُ. وَقَوْلُ صَاحِبِ
الذَّخَائِرِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ نَظَرٌ إنْ
حُمِلَ عَلَى الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ
يَتَعَيَّنُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ سُقُوطِ
الْخِيَارِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْجَهْلِ
بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ سُمِّيَ تَفَرُّقًا
اتَّجَهَ أَنْ يَبْقَى خِيَارُهُ. وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ: نَصَّ عَلَيْهَا
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ رضي الله
عنه: وَمَنْ اشْتَرَى فِضَّةً بِخَمْسَةِ
دَنَانِيرَ وَنِصْفٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ سِتَّةً
وَقَالَ: خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ بِاَلَّذِي
عِنْدِي وَنِصْفٌ وَدِيعَةٌ فَلَا بَأْسَ
بِهِ. وَلَا بَأْسَ إذَا صَرَفَ مِنْهُ
وَتَقَابَضَا أَنْ يَذْهَبَا فَيَزِنَا
الدَّرَاهِمَ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ أَنْ
يَذْهَبَ هُوَ عَلَى الِانْفِرَادِ
فَيَزِنَهَا. وَحَمَلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ
عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَرَفَ
الْوَزْنَ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ وَتَقَابَضَا
عَلَى ذَلِكَ، وَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ فِيهِ
بَحْثٌ سَأَذْكُرُهُ فِي بَابِ الصُّبْرَةِ
بِالصُّبْرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَلَا بَأْسَ
أَنْ يَصْرِفَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّرَّافِ
دَرَاهِمَ فَإِذَا قَبَضَهَا وَتَفَرَّقَا
أَوْدَعَهُ إيَّاهَا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
رحمه الله تعالى:: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْبِضَ
بَعْدَ الصَّرْفِ وَيَدْفَعَ مَا قَبَضَهُ
مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَأْمُرَ
الصَّرَّافَ أَنْ يَدْفَعَ بَاقِيَهُ إلَى
غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ
مَقَامِهِمَا حَتَّى يَقْبِضَا جَمِيعَ مَا
بَيْنَهُمَا مِثَالُهُ: أَنْ يَصْرِفَ
دِينَارًا بِعِشْرِينَ مِنْهُ. عَشَرَةٌ ثُمَّ
عَشَرَةٌ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ - رحمه
الله: لَا يَلْزَمُ دَفْعُ جَمِيعِهِ مَرَّةً
وَاحِدَةً. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ
الِافْتِرَاقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا:
تَفَرَّقْنَا عَنْ قَبْضٍ. وَقَالَ الْآخَرُ
بِخِلَافِهِ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ
أَنْكَرَ الْقَبْضَ. وَيَكُونُ الصَّرْفُ
بَاطِلًا. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ:
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ اخْتَلَفَا
بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْإِمْضَاءِ
وَالْفَسْخِ كَانَ الْقَوْلُ فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي
الْإِمْضَاءَ، وَالْبَيْعُ لَازِمٌ؟ فَهَلْ
كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقَبْضِ
مِثْلَهُ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَنْ
ادَّعَى الْفَسْخَ يُنَافِي بِدَعْوَاهُ
مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ
اللُّزُومُ وَالصِّحَّةُ إلَّا أَنْ
يَتَّفِقَا عَلَى الْفَسْخِ، فَكَانَ
الظَّاهِرُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مِنْ ادَّعَى
الْإِمْضَاءَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ ادَّعَى
الْقَبْضَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ
الْقَبْضِ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ
أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْفَسْخِ.
قلت: قَوْلُهُ: إنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ
أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْفَسْخِ،
وَافَقَهُ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ،
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّحَهُ
الرَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ الْقَوْلَ
قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلْفَسْخِ لِأَنَّهُ
الْأَصْلُ.
وأما مَا جَزَمَ بِهِ قَوْلُ مُنْكَرِ
الْقَبْضِ، فَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ ابْنُ
أَبِي عَصْرُونٍ وَنَقَلَ فَقَالَ: إنْ كَانَ
مَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِهِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي عَدَمَ
حُصُولِ الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ
بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالَانِ فِي يَدِ
أَمِينٍ لَا يَعْلَمُ الْحَالَ أَوْ فِي
مَوْضِعِ الْبَائِعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ
يَدَّعِي حُصُولَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ
الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَوُجُودُ مَا
يَقْتَضِيهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً قُدِّمَتْ
بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ لِأَنَّ مَعَهَا
زِيَادَةَ عِلْمٍ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي
الِانْتِصَارِ.
ج / 10 ص -18-
وَوَقَعَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَفْتُ
عَلَيْهَا مِنْ الْمُرْشِدِ فِي الْقِسْمِ
الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ
يَدَّعِي حُصُولَ الْقَبْضِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ
الرِّفْعَةِ عَنْهُ كَذَلِكَ فَجَعَلَ
الْقَوْلَ قَوْلَ مِنْ يَدَّعِي حُصُولَ
الْقَبْضِ فِي الْقِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ
مَحْمُولٌ عَلَى غَلَطٍ مِنْ النُّسْخَةِ
سَقَطَ مِنْهَا عَدَمُ مِنْ النُّسْخَةِ
الَّتِي رَأَيْتُهَا، وَمِنْ النُّسْخَةِ
الَّتِي وَقَعَتْ لِابْنِ الرِّفْعَةِ،
وَلَيْسَ فِي الْمُرْشِدِ تَعْلِيلٌ يُرْشِدُ
إلَى الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْوَهْمُ
لِابْنِ الرِّفْعَةِ، وَهَذِهِ مِنْ آفَةِ
الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ.
وأما الِانْتِصَارُ فَوَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ
عَلَى الصَّوَابِ وَتَعْلِيلُهُ يُرْشِدُ
إلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ أَقْوَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ
أَبِي عَصْرُونٍ، لَكِنَّ ابْنَ الرِّفْعَةِ
بَعْدَ أَنْ حَكَى كَلَامَ صَاحِبِ
الْمُرْشِدِ عَلَى مَا وَجَدَهُ قَالَ:
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ ابْنُ
الصَّبَّاغِ فِي السَّلَمِ فِيمَا إذَا
اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ
التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ أَنَّ الْقَوْلَ
قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، قَالَ:
وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ وَطَرَدَهُ فِيمَا إذَا
كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ. وَادَّعَى
الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ
إيَّاهُ أَوْ غَصَبَهُ
قَاعِدَةٌ: الْأَصْلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ
بِجِنْسِهَا أَوْ مَا يُشَارِكُهَا فِي
عِلَّةِ الرِّبَا التَّحْرِيمُ، إلَّا مَا
قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَهَذَا
الْأَصْلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم
"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ
إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ،
سَوَاءً بِسَوَاءٍ"لَفْظُ مُسْلِمٍ رحمه الله تعالى: فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ "سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ
بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ
بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ،
وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ
بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إلَّا
سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ
زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى"لَفْظُ
مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَمِنْ قَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
عُمَرُ رضي الله عنه
"الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَا وَهَا"الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ
"الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ:
الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ، وَمَنْ قَوْلِهِ صلى
الله عليه وسلم
"فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ"لَفْظُ
مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه
وسلم فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ صَدَّرَهُ
بِالنَّهْيِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي
حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه صَدَّرَهُ
بِالْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ بِالرِّبَا ثُمَّ
اسْتَثْنَى وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَهُوَ
بَقِيَّةُ حَدِيثِ عُبَادَةَ عَلَّقَهُ عَلَى
شَرْطٍ، وَالْمَشْرُوطُ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ
الشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَهَذِهِ
قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ نَافِعَةٌ فِي مَسَائِلَ
مِنْ بَابِ الرِّبَا، كَمَسْأَلَةِ بَيْعِ
الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ، وَالْجَهْلُ
بِالْمُمَاثَلَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَمَا
سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِي مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ وَتَعَارُضِ
الْمَأْخَذِ إذَا تَسَاوَتْ يَجِبُ الْحُكْمُ
بِالتَّحْرِيمِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَقَدْ
صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فِي
الْأُمِّ بِأَنَّ الْأَصْلَ ذَلِكَ
وَيُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ،
لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ
الْجَوَازُ لِانْدِرَاجِهِ فِي جُمْلَةِ
الْبَيْعِ، وَيَجْعَلُونَ عُقُودَ الرِّبَا
وَسَائِرَ مَا نَهَى عَنْهُ مُخْرَجًا مِنْ
ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَيُؤَوَّلُ تَحْقِيقُ
بِحَثِّهِمْ إلَى أَنَّ عَقْدَ الرِّبَا
اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفٍ مُفْسِدٍ فَهُوَ
كَسَائِرِ الْبُيُوعِ الَّتِي اقْتَرَنَ بِهَا
مَا يُفْسِدُهَا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنَقْلِ
هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَ
الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا
الْخِلَافِيِّينَ الشَّرِيفُ
ج / 10 ص -19-
الْمَرَاغِيّ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ
السَّمْعَانِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: وَاللَّفْظُ
الْمُرَاعَى: الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي
الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ التَّحْرِيمُ،
وَالْجَوَازُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِهِ رُخْصَةً
مُقَيَّدَةً بِشُرُوطٍ، وَعِنْدَهُمْ
الْأَصْلُ الْجَوَازُ، وَالتَّحْرِيمُ ثَبَتَ
عَلَى خِلَافِهِ عِنْدَ الْمُفَاضَلَةِ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ
عَنْ أَبِي الْمُطَهَّرِ خَطِيبِ أَصْفَهَانَ
قَالَ: قَالَ لَنَا الْمُنْذِرِيُّ: الْأَصْلُ
فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ حَظْرُ
الْبَيْعِ حَتَّى يَتَّجِهَ تَحْقِيقُ
التَّمَاثُلِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه
الله: الْأَصْلُ إبَاحَةُ الْبَيْعِ حَتَّى
يَمْنَعَهُ حَقِيقَةُ التَّفَاضُلِ، وَمَا
قُلْنَاهُ أَصَحُّ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا
الْأَصْلِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ
الطُّرْطُوشِيُّ وَابْنُهُ فِي كَلَامِهِ،
وَقَدْ رَأَيْتُ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى
الْحَنَفِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ، وَتَحْقِيقُهُ
عِنْدَهُمْ مَا قَدَّمْتُهُ، وَهَذِهِ
الْقَاعِدَةُ يَظْهَرُ نَفْعُهَا فِي
مَوَاضِعَ سَأُنَبِّهُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ
عَلَى بَعْضِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَسْتَقِيمُ دَعْوَى
هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؟ وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ
الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى: فِي كَلَامِهِ
فِي مَعْنَى قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: من الآية275] وَأَنَّ أَظْهَرَ مَعَانِيهَا عِنْدَهُ
أَنَّهَا عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ بَيْعٍ
وَتَقْتَضِي إبَاحَةَ جَمِيعِهَا إلَّا مَا
خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
هَذَا الْمَجْمُوعِ ذِكْرُ أَقْوَالِ
الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى: فِي ذَلِكَ،
وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَصَحُّهَا عِنْدَهُ
وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَعَقْدُ الرِّبَا
فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْبُيُوعِ، فَيَكُونُ
الْأَصْلُ فِيهِ الْجَوَازَ كَمَا تَقُولُهُ
الْحَنَفِيَّةُ، وَمَا خَرَجَ مِنْهَا
بِالتَّخْصِيصِ كَانَ عَلَى خِلَافِ
الْأَصْلِ.
قلت: مُسَلَّمٌ أَنَّ الْآيَةَ شَمِلَتْ
دَلَالَتُهَا كُلَّ بَيْعٍ، وَأُخْرِجَ
مِنْهَا عُقُودُ الرِّبَا بِقَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم
"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ"الْحَدِيثُ وَنَظَائِرُهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: من الآية275] إنْ صَحَّ الِاسْتِدْلَال مِنْهُ لِمَا
سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا ثَابِتًا
أَخَصَّ مِنْ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ هَذَا
خَاصٌّ بِالرِّبَوِيَّاتِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى
مِنْ هَذَا الْأَصْلِ أَحْوَالٌ وَهُوَ مَا
إذَا حَصَلَ الْمُسَاوَاةُ وَالْحُلُولُ
وَالتَّقَابُضُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ.
وَالْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ خَاصَّةً فِي
الْجِنْسَيْنِ. فَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله:
نَظَرَ إلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ
إبَاحَةُ الْبُيُوعِ وَجَعَلَ صُورَةَ
الْمُفَاضَلَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
مُخْرَجَةً مِنْهُ. وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله
نَظَرَ إلَى الْأَصْلِ الثَّانِي الْقَرِيبِ
وَهُوَ التَّحْرِيمُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
كُلِّهَا ثُمَّ جَعَلَ حَالَةَ التَّمَاثُلِ
مُخْرَجَةً مِنْهُ. وَالْحَنَفِيَّةُ
يُنَازِعُونَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ
الثَّانِي وَيَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَهُ صلى
الله عليه وسلم:"لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ
بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ" وَمَا
أَشْبَهَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ فِي
مَعْنًى.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي
الْأُمِّ بِأَنَّ أَصْلَ الْبُيُوعِ كُلِّهَا
مُبَاحٌ إلَّا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي مَعْنَاهُ،
كُلُّ ذَلِكَ وَاحِدٌ، ثُمَّ تَارَةً
يَجْعَلُونَ الْمَقْصُودَ فَسَادَ الْبَيْعِ
عِنْدَ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي هِيَ
وَاجِبَةٌ، قَالَ هَؤُلَاءِ: لِأَنَّ
الْكَلَامَ الْمُفِيدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ
يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ
الْمُسْتَثْنَى وَكُلُّهُمْ يَحُومُونَ عَلَى
جَعْلِ الْمَعْنَى كَلَامًا وَاحِدًا،
وَلِذَلِكَ يَبْنُونَ كَلَامَهُمْ فِي بَابِ
الرِّبَا عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ
"الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ
وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ
يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ
فَقَدْ أَرْبَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ رحمه الله تعالى، فَلَمْ يَأْتِ فِي هَذَا
اللَّفْظِ صِيغَةُ نَهْيٍ وَاسْتِثْنَاءٍ،
فَكَانَ الْمَعْنَى الْحُكْمَ بِإِيجَابِ
الْمُمَاثَلَةِ، قَالُوا: وَلَا يُتَصَوَّرُ
الْحُكْمُ بِدُونِ مَحِلِّهِ، وَمَحِلُّهُ
الْمُمَاثَلَةُ، وَهُوَ الْقَابِلُ لَهَا،
فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي لَا
يَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْكَيْلِ
إجْمَاعًا.
ج / 10 ص -20-
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْ
خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَخَبَرِ عُبَادَةَ
وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِثْبَاتِ فَقَطْ،
وَوَرَدَ بِلَفْظِ النَّهْيِ
وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَأَلْفَاظُهُمَا بِذَلِكَ
كُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا تَنَافِي
بَيْنَهُمَا، وَاللَّفْظُ الَّذِي فِيهِ
نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ فِيهِ زِيَادَةٌ، عَلَى
مَا فِيهِ إثْبَاتٌ فَقَطْ، فَيَجِبُ
الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ
النَّهْيَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي مَعْنَى
كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ النَّهْيُ عَمَّا
وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَقَطْ، وَإِيجَابُ
الْمُسْتَثْنَى فَقَطْ مَمْنُوعٌ وَلَا
دَلِيلَ عَلَيْهِمَا، وَفِيهِمَا تَعْطِيلٌ
لِبَعْضِ مَدْلُولِ الْكَلَامِ، فَهَذِهِ
قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ
بِهَا فَمَنْ أَتْقَنَهَا وَأَتْقَنَ
تَحْقِيقَ الْعِلَّةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ،
وَهَلْ الْجِنْسُ وَصْفٌ فِي الْعِلَّةِ أَوْ
شَرْطٌ فِيهَا أَوْ مَحَلٌّ لَهَا؟ وَحَقَّقَ
النَّظَرَ فِي الْأَجْنَاسِ، فَقَدْ أَحَاطَ
عِلْمًا بِجَمِيعِ أُصُولِ هَذَا الْبَابِ،
وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَأَمْعَنْت
الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَكْثَرَ
مِنْ هَذَا، وَلَكِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ
فِيمَا ذَكَرْتُهُ كِفَايَةٌ، وَسَوْفَ
أَعُودُ إلَيْهَا عِنْدَ الْكَلَامِ فِي
اعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ فِي
أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ كَلَامِ
الْمُصَنِّفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَسَأُنَبِّهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ
الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْتُ إلَيْهِمَا
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَحِلِّهِمَا،
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ: تَقَدَّمَ أَنَّ
الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله
تعالى - أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى عُمُومِهِ
إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَهُوَ مَذْهَبُ
أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَلِلشَّافِعِيِّ
أَقْوَالٌ أُخَرُ تَقَدَّمَ نَقْلُهَا فِي
الْمَجْمُوعِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ
آخَرُ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَمْ تَتَقَدَّمْ
حِكَايَتُهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُنَبِّهَ
عَلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي
الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ الْعُمُومِ الَّذِي لَا
خُصُوصَ فِيهِ وَلَا يَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ
لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ إلَّا وَهُوَ حَلَالٌ.
وَهَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ تَسْمِيَةَ شَيْءٍ
مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ بَيْعًا،
وَيَقُولُونَ: إنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ
الِاسْمِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الِاسْمِ
عَلَيْهِ إلَّا مَجَازًا. حَكَى ذَلِكَ
الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى لِلْحَنَفِيَّةِ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَدَّعُونَهُ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ أُخْرَى: تَقَدَّمَ
فِي كَلَامِي تَوَقُّفٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: من الآية275] عَلَى تَخْصِيصِ الْبَيْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ
النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي مَدْلُولِ الرِّبَا
فَقَالَ ابْنُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ:
حَقِيقَةُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الزِّيَادَةُ
فِي نَفْسِ الشَّيْءِ خَاصَّةً لقوله تعالى:
{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: من الآية5] وَالْأَرْضُ إنَّمَا تَرْبُو فِي نَفْسِهَا لَا
فِيمَا يُقَابِلُهَا وَلَا يُطْلَقُ عَلَى
الزِّيَادَةِ فِي الْمُقَابِلِ إلَّا
مَجَازًا. وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ
حَتَّى يَسُدَّ بَابَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى
أَبِيهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: من الآية275] "هُوَ أَنَّهُ يَشْمَلُ الرِّبَا فِيهِمَا
عَدَا الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ
عَلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ إنَّهُ
وَإِنْ وُضِعَ لِلزِّيَادَةِ فِي نَفْسِ
الشَّيْءِ يُقَابِلُهُ عُرْفًا وَيَكُونُ مِنْ
الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ فِي الشَّرْعِ
كَالصَّلَاةِ. وَمَالَ آخَرُونَ إلَى
انْطِلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ
انْطِلَاقًا مُتَسَاوِيًا. وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ
تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ بَيْعٍ مُحَرَّمٍ.
وَأُضِيفَ هَذَا الْمَذْهَبُ إلَى عَائِشَةَ
رضي الله عنها لَأَجْلِ قَوْلِهَا: "لَمَّا
نَزَلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ
فِي الْخَمْرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَشَارَتْ
إلَى أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ لَمَّا كَانَ
مُحَرَّمًا كَانَ رِبًا. وَأُضِيفَ أَيْضًا
إلَى عُمَرَ رضي الله عنه لِقَوْلِهِ: إنَّ
مِنْ الرِّبَا بَيْعَ التَّمْرِ وَهِيَ
مُعْصِفَةٌ قَبْلَ أَنْ تَطِيبَ،
وَيَحْتَجُّونَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الرِّبَا
عَلَى النَّسِيئَةِ فِي الذَّهَبِ
بِالْفِضَّةِ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَإِنْ
كَانَ التَّفَاضُلُ جَائِزًا حَكَى هَذِهِ
الْأَقْوَالَ الْأَرْبَعَةَ الْإِمَامُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ الْمَالِكِيُّ.
فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ دَاوُد لَا يَكُونُ
الرِّبَا دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْبَيْعِ
أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهِ، بَلْ
يَكُونُ وَارِدًا عَلَى رِبَا
الْجَاهِلِيَّةِ. وَهُوَ أَنْ
ج / 10 ص -21-
يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الْحَقُّ
إلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ:
أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ قَضَاهُ
أَخَذَهُ وَإِلَّا زَادَهُ فِي حَقِّهِ
وَزَادَهُ الْآخَرُ فِي الْأَجَلِ.
وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي
أَبُو حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى حَمْلِ
الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْأَلِفَ
وَاللَّامَ فِي الرِّبَا لِلْعَهْدِ، وَلَيْسَ
هَذَا مَوْضِعَ تَقْوِيَةِ ذَلِكَ أَوْ
تَوْهِينِهِ، وَلَكِنْ غَرَضِي أَنَّ
تَخْصِيصَ قَوْلِهِ:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: من الآية275] بِهَا لَا يَسْلَمُ مِنْ نِزَاعٍ بِخِلَافِ
تَخْصِيصِهِ بِالنَّسِيئَةِ. وَهَكَذَا فَعَلَ
الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه قَالَ فِي
الْأُمِّ: أَصْلُ الْبُيُوعِ كُلِّهَا مُبَاحٌ
إذَا كَانَتْ بِرِضَا الْمُتَبَايِعَيْنِ
الْجَائِزَيْ الْأَمْرِ فِيمَا تَبَايَعَا،
إلَّا مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم مِنْهَا، وَمَا كَانَ فِي
مَعْنَى مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم مُحَرَّمٌ بِإِذْنِهِ دَاخِلٌ
فِي الْمَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَمَا
فَارَقَ ذَلِكَ أَبَحْنَاهُ بِمَا وَصَفْنَا
مِنْ إبَاحَةِ الْبَيْعِ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى ا هـ، فَجَعَلَ الْمُخَصِّصَ هُوَ
السُّنَّةُ فَحَسْبُ.
وَمِمَّنْ مَالَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِالرِّبَا كُلُّ بَيْعٍ فَاسِدٍ أَبُو بَكْرٍ
بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ. وَقَالَ:
إنَّ الْآيَتَيْنِ يَعْنِي قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}
[البقرة: من الآية275] اقْتَضَيَا كِتَابَ
الْبُيُوعِ كُلَّهُ عَلَى الشُّمُولِ دُونَ
التَّفْصِيلِ، وَفَصَّلَهُ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم فِي سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ
حَدِيثًا. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: قِيلَ
الرِّبَا فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمُقَابَلَةِ
عِوَضٍ بِعِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ
التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ
الْعَقْدِ، أَوْ تَأَخَّرَ فِي الْبَدَلَيْنِ
أَوْ فِي أَحَدِهِمَا.
قلت: وَهَذَا حَسَنٌ فِي تَعْرِيفِهِ، سَوَاءٌ
كَانَ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا.
فَصْلٌ: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ
إلَى هَذَا الْمَكَانِ، اقْتَضَى قَوْلُ
الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا بَاعَ الرِّبَوِيَّ
بِجِنْسِهِ حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ
وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ
التَّقَابُضِ، وَإِذَا بَاعَهُ بِمَا
يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ حَرُمَ النَّسَاءُ
وَالتَّفَرُّقُ فَقَطْ، وَأَنَّ الشَّعِيرَ
وَالْحِنْطَةَ جِنْسَانِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ
أَحْكَامٍ مِنْهَا مَا هُوَ مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ
فِيهِ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ وَاحِدًا
وَاحِدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ
فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَالِ
الرِّبَا إذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ،
كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا
أَوْ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ، أَوْ دِينَارٍ
بِدِينَارَيْنِ وَيُسَمَّى رَبَا الْفَضْلِ،
لِفَضْلِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى
الْآخَرِ، وَرِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ
رِبَا النَّسِيئَةِ. وَإِطْلَاقُ التَّفَاضُلِ
عَلَى الْفَضْلِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ.
فَإِنَّ الْفَضْلَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ
دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ أَطْبَقَتْ الْأُمَّةُ
عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ إذَا اجْتَمَعَ
مَعَ النَّسَاءِ، وَأَمَّا إذَا انْفَرَدَ
نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ
قَدِيمٌ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رضي الله عنهما إبَاحَتُهُ،
وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
مَعَ رُجُوعِهِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه
وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه وَفِيهِ
عَنْ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ مُحْتَمَلٌ. وَزَيْدُ
بْنُ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَأَمَّا
التَّابِعُونَ فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ
الْمَكِّيِّينَ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ
وَعُرْوَةَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَانْتِدَابُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ
لِتَبْيِينِ رُجُوعِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ
الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّشَوُّفِ إلَى
دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَهَا أَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -
أُبَيِّنُ مَا رُوِيَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ
الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ. ثُمَّ مَا رُوِيَ
مِنْ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ عَنْهُ.
ج / 10 ص -22-
ثُمَّ
أَذْكُرُ كَلَامَ مَنْ تَشَوَّفَ لِجَعْلِ
الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعِيَّةً. ثُمَّ أُبَيِّنُ
الْحَقَّ فِي ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى وَقُوَّتِهِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ
فُصُولٍ.
الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ
الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ مِنْ الْآثَارِ
عَنْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ: رَوَيْنَا عَنْ
أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ
أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه
يَقُولُ:"الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ فَقُلْتُ لَهُ:
فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُهُ.
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ:
سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ،
وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ
"لَا رِبًا
إلَّا فِي النَّسِيئَةِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ
لِلْبُخَارِيِّ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ.
وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
ثَلَاثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَرْوِي
بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ
وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ
تَدْرُسَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَدَالٍ سَاكِنَةٍ
وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ قَالَ
"سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ
وَابْنَ عَبَّاسٍ يُفْتِي الدِّينَارُ
بِالدِّينَارَيْنِ فَقَالَ: لَهُ أَبُو
أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وَأَغْلَظَ لَهُ.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ
أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَعْرِفُ قَرَابَتِي
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا يَا أَبَا أُسَيْدٍ.
فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَصَاعُ حِنْطَةٍ بِصَاعِ حِنْطَةٍ،
وَصَاعُ شَعِيرٍ بِصَاعِ شَعِيرٍ، وَصَاعُ
مِلْحٍ بِصَاعِ مِلْحٍ، لَا فَضْلَ
بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ"فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:"إنَّمَا هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَقُولُهُ
بِرَأْيِي وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ
بِشَيْءٍ"رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِ مُسْلِمٍ رحمه الله: وَفِي سَنَدِهِ
عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ الزُّبَيْرِيَّ. قَالَ
الْحَاكِمُ: إنَّهُ شَيْخٌ قُرَشِيٌّ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ وَرَوَيْنَا فِي مُعْجَمِ
الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ
ذَكْوَانَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
بَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَالَ:"هُوَ
حَلَالٌ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، إذَا
كَانَ يَدًا بِيَدٍ قَالَ أَبُو صَالِحٍ:
فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَا
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَالْتَقَيَا وَأَنَا
مَعَهُمَا، فَابْتَدَأَهُ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا
هَذِهِ الْفُتْيَا الَّتِي تُفْتِي بِهَا
النَّاسَ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَشْتَرُوهُ بِنُقْصَانٍ
أَوْ زِيَادَةٍ يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَا أَنَا
بِأَقْدَمِكُمْ صُحْبَةً لِرَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَهَذَا زَيْدُ بْنُ
أَرْقَمَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
يَقُولَانِ سَمِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَرَوَيْنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رحمه الله:
أَيْضًا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ بِالنُّونِ
وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ:"سَأَلْتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الصَّرْفِ
فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ
قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَأَخْبَرْتُ أَبَا
سَعِيدٍ فَقُلْتُ: إنِّي سَأَلْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: أَيَدًا
بِيَدٍ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ: فَلَا بَأْسَ
بِهِ. قَالَ: أَوْ قَالَ ذَلِكَ؟ إنَّا
سَنَكْتُبُ إلَيْهِ فَلَا يُفْتِيكُمُوهُ.
قَالَ:"فَوَاَللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بَعْضُ
فِتْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِتَمْرٍ فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ كَأَنَّ هَذَا
لَيْسَ مِنْ تَمْرِ أَرْضِنَا. قَالَ: كَانَ
فِي تَمْرِ أَرْضِنَا أَوْ فِي تَمْرِنَا
الْعَامِّ بَعْضُ الشَّيْءِ، فَأَخَذْتُ هَذَا
وَزِدْتُ بَعْضَ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ
أَضْعَفْت أَرْبَيْتَ، لَا تَقْرَبْنَ هَذَا،
إذَا رَابَكَ مِنْ تَمْرِكَ شَيْءٌ فَبِعْهُ
ثُمَّ اشْتَرِ الَّذِي تُرِيدُ مِنْ
التَّمْرِ"
ج / 10 ص -23-
وَقَدْ
رُوِيَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِنْ جِهَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْجَوْزَاءِ
وَأَبُو مِجْلَزٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي نُعَيْمٍ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُزَنِيّ وَزِيَادَتُنَا ذِكْرُ
رِوَايَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى - فِي فَصْلِ رُجُوعِهِ عَنْ ذَلِكَ.
أَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
فَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ قَالَ "سَأَلْتُ
ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّرْفِ
فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا، فَإِنِّي
لَقَاعِدٌ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
فَسَأَلْتُهُ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ:مَا
زَادَ فَهُوَ رِبًا، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ
لِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ لَا أُحَدِّثُكَ إلَّا
مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم "جَاءَهُ صَاحِبُ نَخْلَةٍ بِصَاعٍ
مِنْ تَمْرٍ طَيِّبٍ، وَكَانَ تَمْرُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا
اللَّوْنَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم
أَنَّى لَكَ هَذَا؟
قَالَ انْطَلَقْتُ بِصَاعَيْنِ فَاشْتَرَيْتُ بِهِمَا هَذَا الصَّاعَ،
فَإِنَّ سِعْرَ هَذَا فِي السُّوقِ كَذَا
وَسِعْرَ هَذَا كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيْلَكَ
أَرْبَيْتَ، إذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ فَبِعْ
تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ اشْتَرِ
بِسِلْعَتِكَ أَيَّ تَمْرٍ شِئْتَ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ
رِبًا؟ أَمْ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؟ قَالَ:
فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ بَعْدُ فَنَهَانِي،
وَلَمْ آتِ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ:
فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ: أَنَّهُ
سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْهُ
بِمَكَّةَ فَكَرِهَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهَذَا لَفْظُ
رِوَايَتِنَا فِيهِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رضي
الله عنه اسْتَعْمَلَ الْقِيَاسَ فِي
إشَارَتِهِ إلَى أَنَّ الْفِضَّةَ
بِالْفِضَّةِ أَحَقُّ بِالرِّبَا مِنْ
التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ
الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ
مُعَلَّلٌ، وَالْمُرَادُ بِالصَّرْفِ الَّذِي
سُئِلَ عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ
صَرْفُ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ مَعَ عَدَمِ
رِعَايَةِ التَّمَاثُلِ، كَذَلِكَ حَمَلَهُ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ،
وَجَعَلُوا ابْنَ عُمَرَ مِمَّنْ خَالَفَ
ثُمَّ رَجَعَ وَسِيَاقُ الرِّوَايَةِ يُرْشِدُ
إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ
يُحْمَلَ عَلَى الصَّرْفِ الْجَائِزِ،
وَيَكُونُ نَهْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبْيِينًا
لِمُرَادِهِ بِالْإِطْلَاقِ أَوَّلًا لَا
رُجُوعًا، لَكِنَّ السِّيَاقَ وَفَهْمَ أَبِي
نَضْرَةَ عَنْهُ يَأْبَاهُ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وأما عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَرَوَى
الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي
كِتَابِ أَحْكَامِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ
إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:"لَا بَأْسَ
بِالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ "وَهَذَا
إسْنَادٌ صَحِيحٌ نَقَلْتُهُ مِنْ نُسْخَةٍ
مُعْتَبَرَةٍ مِنْ الْأُمِّ، قَالَ فِيهَا
الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
عَاصَرَهُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ فِي
كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالَ: عَنْ
الشَّافِعِيِّ فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ. وَقَدْ رَوَى أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَأَيًّا
مَا كَانَ فَهُوَ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَلَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي
رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُور ٍ"لَا رِبًا
فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ"وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابَيْهِ السُّنَنِ
وَالْآثَارِ، وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ مَعَ
رِوَايَتِهِ لِلَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ
بِلَفْظٍ آخَرَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ،
سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
فَصْلِ الرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ
إلَى ذِكْرِهِ هُنَا لِلِاسْتِغْنَاءِ بِمَا
هُوَ أَصْرَحُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَلَمْ يُحَقَّقْ ذَلِكَ
عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ
مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ، وَجَرَتْ
لَهُ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ رضي الله عنهما مَشْهُورَةٌ،
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله
عنه وَلَعَلَّهَا جَرَتْ مَعَهُمَا
مَرَّتَيْنِ. أَمَّا قِصَّةُ أَبِي
الدَّرْدَاءِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي
الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ "أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ
أَبِي سُفْيَانَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ
أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا،
فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ:"سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى
عَنْ مِثْلِ هَذَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ"
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا
بَأْسًا، فَقَالَ أَبُو
ج / 10 ص -24-
الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ
مُعَاوِيَةَ؟ أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَيُخْبِرُنِي عَنْ
رَأْيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ
بِهَا، ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما
فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ إلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لَا
يَبِيعَ ذَلِكَ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ
وَزْنًا بِوَزْنٍ ". هَذَا لَفْظُ
الْمُوَطَّأِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ إلَى
آخِرِ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
مِثْلًا بِمِثْلٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ،
وَالسِّقَايَةُ الْإِنَاءُ يُسْقَى بِهِ،
وَالسِّقَايَةُ مَوْضِعُ السَّقْيِ. قَالَهُ
فِي الْمُحْكَمِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قِصَّةَ
عُبَادَةَ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي
الْأَشْعَثِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَهَذَا
لَفْظُ رِوَايَتِنَا فِي صَحِيحِهِ
قَالَ:"غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ
مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً،
فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ
فِضَّةٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا أَنْ
يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ،
فَتَصَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَبَلَغَ
عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ
فَقَالَ:"إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ
بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ
بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ،
وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إلَّا سَوَاءً
بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ
أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى" فَرَدَّ
لِلنَّاسِ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ
مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا
مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَحَادِيثَ، قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ
وَنَصْحَبُهُ، فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ،
فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله
عنه فَأَعَادَ الْقِصَّةَ وَقَالَ:
لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَرِهَ
مُعَاوِيَةُ، أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغَمَ، مَا
أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ
لَيْلَةً سَوْدَاءَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي
دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا
وَزْنًا بِوَزْنٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ
تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا"وَفِيهِ
عِنْدَهُمَا
"فَمَنْ زَادَ أَوْ
ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَفِي آخِرِهِ
عِنْدَهُمَا وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ
بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا
يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا"وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ" وَأُمِرْنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ
بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا
بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا".
وَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ مُعَاوِيَةَ
مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الرِّبَا
فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالتِّبْرِ وَلَا
بِالْمَصُوغِ وَكَانَ يُخَيِّرُ فِي ذَلِكَ
التَّفَاضُلِ، وَيَذْهَبُ إلَى أَنَّ الرِّبَا
لَا يَكُونُ فِي التَّفَاضُلِ إلَّا فِي
التِّبْرِ بِالتِّبْرِ، وَفِي الْمَصُوغِ
بِالْمَصُوغِ، وَفِي الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ،
كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ،
فَلَيْسَ مُوَافِقًا ابْنَ عَبَّاسٍ
مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَهَبَ
إلَيْهِ مِنْ الشُّذُوذِ الَّذِي لَا
يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ
عَلَيْهِ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَأَمَّا أُسَامَةُ فَلَا أَعْلَمُ عَنْهُ فِي
ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا رِوَايَتَهُ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا
الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ"وَلَا
يَكْفِي ذَلِكَ فِي نِسْبَةِ هَذَا الْقَوْلِ
إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ
الرِّوَايَةِ الْقَوْلُ بِمُقْتَضَى
ظَاهِرِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا
عِنْدَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ أَوْ يَكُونَ
عِنْدَهُ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ، وَإِنَّمَا
ذَكَرْتُهُ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ
أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ كَالْمَاوَرْدِيِّ
مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ
الْمَقْدِسِيِّ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنْ
الْحَنَابِلَةِ، نَقَلُوهُ عَنْهُ وَعَنْ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَوَافَقَهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ عَلَى هَذَا النَّقْلِ
فِيمَا عَدَا الْبَرَاءَ، وَوَافَقَهُمْ
الْخَطَّابِيُّ فِي أُسَامَةَ، فَإِنْ كَانَ
عِنْدَهُمْ مُسْنَدٌ غَيْرُ ذَلِكَ فَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
أَمَّا الْبَرَاءُ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ
فَكَذَلِكَ لَا أَعْلَمُ النَّقْلَ عَنْهُمَا
صَرِيحًا فِي ذَلِكَ إلَّا مَا رَوَيْنَا عَنْ
أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ
"بَاعَ شَرِيكٌ لِي بِالْكُوفَةِ دَرَاهِمَ
بِدَرَاهِمَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ، فَقُلْتُ:
مَا أَرَى هَذَا يَصْلُحُ، فَقَالَ لَقَدْ
بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَ عَلَيَّ
ذَلِكَ أَحَدٌ فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ
عَازِبٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: "قَدِمَ
ج / 10 ص -25-
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ
وَتِجَارَتُنَا هَكَذَا، فَقَالَ: مَا كَانَ
يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ وَمَا كَانَ
نَسِيئًا فَلَا خَيْرَ فِيهِ"وَأْتِ زَيْدَ
بْنَ أَرْقَمَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ
تِجَارَةً مِنِّي. فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقَ
الْبَرَاءُ"إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَهُ
عِلَّةٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ،
وَسَأَبْسُطُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ دَلِيلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَالْجَوَابِ
عَنْهُ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ
فَلَمْ أَقِفْ عَلَى إسْنَادِهِ إلَيْهِ
بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ حَكَوْهُ
عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا مَا
بَلَغَنِي عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
مِمَّنْ نُسِبَ إلَيْهِ الْقَوْلُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
رحمه الله فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ
"كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى فِي دِينَارٍ
بِدِينَارَيْنِ وَلَا فِي دِرْهَمٍ
بِدِرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ بَأْسًا
وَيَرَاهُ فِي النَّسِيئَةِ "وَكَذَلِكَ
عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَكَانَ يَرْوِي مِثْلَ
قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعِيدٍ
وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَأْيًا
مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ يَحْفَظُ عَنْهُمَا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَهَذَا
قَوْلُ الْمَكِّيِّينَ. هَذَا كَلَامُ
الشَّافِعِيِّ بِحُرُوفِهِ وَجَاءَ عَنْ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ:"سَأَلْتُ عَطَاءَ
بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ:
يَا بُنَيَّ إنْ وَجَدْتَ مِائَةَ دِرْهَمٍ
نَقْدًا فَخُذْهُ"وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا
عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يُجْرُونَ
التَّفَاضُلَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ، أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
رحمه الله.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا
نُقِلَ مِنْ رُجُوعِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ
الصَّدْرِ الْأَوَّلِأما ابْنُ عَبَّاسٍ
فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ، ذَكَرْنَا
مَنْ قَالَ إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ.
قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ أَبِي الصَّهْبَاءِ
الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ
سَأَلَهُ عَنْهُ فَكَرِهَهُ، وَتَقَدَّمَ
أَيْضًا مُنَاظَرَةُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي
أُسَيْدٍ لَهُ فِي قَوْلِهِ بِإِبَاحَتِهِ.
وَعَنْ حَيَّانَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ
وَالْيَاءِ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بِالتَّصْغِيرِ الْعَدَوِيِّ قَالَ:"سَأَلْتُ
أَبَا مِجْلَزٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: كَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا
زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ
عَيْنًا يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ. وَكَانَ
يَقُولُ: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ،
فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ
فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَلَا
تَتَّقِي اللَّهَ؟ إلَى مَتَى تُؤَكِّلُ
النَّاسَ الرِّبَا؟ أَمَا بَلَغَكَ"أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أُمِّ
سَلَمَةَ: إنِّي
لَأَشْتَهِي تَمْرَ عَجْوَةٍ
فَبَعَثَتْ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ
فَجَاءَتْ بَدَلَ صَاعَيْنِ صَاعًا مِنْ
تَمْرِ عَجْوَةٍ فَقَامَتْ فَقَدَّمَتْهُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ
فَتَنَاوَلَ تَمْرَةً ثُمَّ أَمْسَكَ فَقَالَ:
مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَقَالَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ بَعَثْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إلَى
رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَتَى بَدَلَ
صَاعَيْنِ هَذَا الصَّاعُ الْوَاحِدُ. وَهَا
هُوَ كُلْ فَأَلْقَى التَّمْرَ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَقَالَ: رُدُّوهُ لَا
حَاجَةَ لِي فِيهِ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ،
وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ. وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ،
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ
عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ
زَادَ فَهُوَ رِبًا،"ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَيْضًا فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاكَ اللَّهُ يَا أَبَا
سَعِيدٍ الْجَنَّةَ فَإِنَّكَ ذَكَّرْتَنِي
أَمْرًا كُنْتُ نَسِيتُهُ أَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فَكَانَ يَنْهَى
عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدَّ
النَّهْيِ"رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
الْمُسْتَدْرَكِ
ج / 10 ص -26-
وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ،
وَلَمْ يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةَ،
وَفِي حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ نَظَرٌ،
فَإِنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ
الْمَذْكُورَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ
مَا يَرْوِيهِ إفْرَادَاتٌ يَتَفَرَّدُ فِيهَا
وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَتِهِ
حَدِيثَهُ فِي الصَّرْفِ هَذَا بِسِيَاقِهِ،
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفَرَّدَ
بِهِ حَيَّانُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ
وَحَيَّانُ تَكَلَّمُوا فِيهِ. وَاعْلَمْ
أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَنْبَغِي
الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِهِ وَتَبَيُّنُ
صِحَّتِهِ مِنْ سَقَمِهِ لِأَمْرٍ غَيْرِ مَا
نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ مَا
يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ
بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْكَلَامِ أحدهما:
تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ جُمْلَةً وَإِلَيْهِ
أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ
إلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ أَعَلَّهُ بِشَيْءٍ
أُنَبِّهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ
وَهُوَ أَنَّهُ أَعَلَّهُ بِثَلَاثَةِ
أَشْيَاءَ أحدها: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنْ
أَبِي سَعِيدٍ لَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
والثاني: لِذِكْرِهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
رَجَعَ وَاعْتِقَادِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ
ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِمُخَالَفَةِ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ والثالث: أَنَّ حَيَّانَ بْنَ
عُبَيْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ. فَأَمَّا
قَوْلُهُ: إنَّهُ مُنْقَطِعٌ فَغَيْرُ
مَقْبُولٍ، لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ أَدْرَكَ
ابْنَ عَبَّاسٍ وَسَمِعَ مِنْهُ وَأَدْرَكَ
أَبَا سَعِيدٍ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ لَا
تُسْمَعُ دَعْوَى عَدَمِ السَّمَاعِ إلَّا
بِثَبْتٍ، وَأَمَّا مُخَالَفَةُ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي هَذَا
الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ حَيَّانَ بْنَ
عُبَيْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ، فَإِنْ أَرَادَ
مَجْهُولَ الْعَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ
هُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ، رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ الصَّرْفِ
هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمِنْ
جِهَتِهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَذَكَرَهُ
ابْنُ حَزْمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ وَمِنْ جِهَتِهِ
رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَيُونُسُ بْنُ
مُحَمَّدٍ وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرِ بْنِ
عَدِيٍّ. بَصْرِيٌّ سَمِعَ أَبَا مِجْلَزٍ
وَلَاحِقَ ابْنَ حُمَيْدٍ وَالضَّحَّاكَ،
وَعَنْ أَبِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ
وَابْنِ بُرَيْدَةَ، رَوَى عَنْهُ مُوسَى بْنُ
إسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ
وَأَبُو دَاوُد وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، عَقَدَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ تَرْجَمَةً فَذَكَرَ كُلٌّ
مِنْهُمَا بَعْضَ مَا ذَكَرْتُهُ وَلَهُ
تَرْجَمَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا
كَمَا أَشَرْتُ إلَيْهِ فَزَالَ عَنْهُ
جَهَالَةُ الْعَيْنِ.
وَإِنْ أَرَادَ جَهَالَةَ الْحَالِ، فَهُوَ
قَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ
رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ فِي إسْنَادِهِ:
أَخْبَرَنَا رَوْحٌ قَالَ:"حَدَّثَنَا
حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ
رَجُلَ صِدْقٍ" فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ
الشَّهَادَةُ لَهُ بِالصِّدْقِ مِنْ رَوْحِ
بْنِ عُبَادَةَ فَرَوْحٌ مُحَدِّثٌ نَشَأَ فِي
الْحَدِيثِ عَارِفٌ بِهِ مُصَنِّفٌ فِيهِ
مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ،
بَصْرِيٌّ بَلَدِيٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ،
فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ
هَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ
رَاهْوَيْهِ، فَنَاهِيكَ بِهِ وَمَنْ يُثْنِي
عَلَيْهِ إِسْحَاقُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ
هَذَا، وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنْ الْمَشَاهِيرِ
مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ وَمِمَّنْ رَوَى
عَنْهُمْ. وَقَالَ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ
عَنْهُ فَقَالَ: صَدُوقٌ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ
الْكَلَامِ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ قَوْلِهِ:
وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ وَإِنْ
سَلِمَ صِحَّةُ أَصْلِ الْحَدِيثِ،
وَالْأَوْلَى أَنْ أُؤَخِّرَ ذَلِكَ إلَى
مَحَلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
فَإِنَّهُ قَدْ طَالَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ
هَاهُنَا. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ
الرَّبَعِيِّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَوْسِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيِّ
قَالَ:"سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ
يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ وَيُحَدِّثُ ذَلِكَ
عَنْهُ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ
ذَلِكَ، فَلَقِيتُهُ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ:
إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجَعْتَ. قَالَ:
نَعَمْ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّي"
وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى
عَنْ الصَّرْفِ" رَوَيْنَاهُ فِي سُنَنِ ابْنِ
مَاجَهْ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ
الصَّحِيحَيْنِ إلَى
ج / 10 ص -27-
سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ
عَلِيٍّ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ
حَزْمٍ: إنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مَنْ
هُوَ؟ وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ لِمَا
تَبَيَّنَ. وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ
قَالَ:"كُنْت أَخْدُمُ ابْنَ عَبَّاسِ رضي
الله عنهما تِسْعَ سِنِينَ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ
فَسَأَلَهُ عَنْ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ،
فَصَاحَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: إنَّ هَذَا
يَأْمُرُنِي أَنْ أُطْعِمَهُ الرِّبَا،
فَقَالَ نَاسٌ حَوْلَهُ: إنْ كُنَّا
لَنَعْمَلُ بِفُتْيَاكَ، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: قَدْ كُنْتُ أُفْتِي بِذَلِكَ
حَتَّى حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ
عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
نَهَى عَنْهُ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْهُ
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ
الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ أَبُو
الْمُبَارَكِ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَرَوَيْنَا
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ
بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ أَنَّ
أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَقِيَ ابْنَ
عَبَّاسٍ فَشَهِدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَمَنْ زَادَ
فَقَدْ أَرْبَى فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ:"أَتُوبُ إلَى اللَّهِ مِمَّا
كُنْتُ أُفْتِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ" رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ
تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ
الصَّحَابَةِ. وَعَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ
قَالَ:"سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
الصَّرْفِ عَنْ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ
يَدًا بِيَدٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا كَانَ
يَدًا بِيَدٍ بَأْسًا، ثُمَّ قَدِمْت مَكَّةَ
مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَقَدْ نُهِيَ
عَنْهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ.
وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: "سَمِعْتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي
أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْ الصَّرْفِ، إنَّمَا
هَذَا مِنْ رَأْيِي. وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ
مُصَرِّحُونَ بِالتَّحْدِيثِ فِيهِ مِنْ
أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ. وَعَنْ عَطِيَّةَ
وَهُوَ الْعَوْفِيُّ - بِإِسْكَانِ الْوَاوِ
وَبِالْفَاءِ - قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لِابْنِ
عَبَّاسٍ: تُبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ.
قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الذَّهَبِ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ
وَقَالَ
إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّبَا؟ قَالَ فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ: قُلْتُ لَعَطِيَّةَ مَا الرِّبَا؟
قَالَ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ بَيْنَهُمَا
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ
إلَى عَطِيَّةَ وَعَطِيَّةُ مِنْ رِجَالِ
السُّنَنِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ:
صَالِحٌ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، فَالْإِسْنَادُ
بِسَبَبِهِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُزَنِيِّ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَ
مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَجِئْتُ
مَعَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّرْفِ مَا كَانَ
مِنْهُ يَدًا بِيَدٍ إنَّمَا الرِّبَا فِي
النَّسِيئَةِ. فَطَارَتْ كَلِمَتُهُ فِي
أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، حَتَّى
إذَا انْقَضَى الْمَوْسِمُ دَخَلَ عَلَيْهِ
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَقَالَ لَهُ: يَا
ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَلْتَ الرِّبَا
وَأَطْعَمْته، قَالَ: أَوَفَعَلْتُ؟ قَالَ:
نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ تِبْرُهُ
وَعَيْنُهُ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ
فَقَدْ أَرْبَى، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ
أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى" حَتَّى إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلَ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَجِئْتُ مَعَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إنِّي تَكَلَّمْتُ عَامَ أَوَّل بِكَلِمَةٍ
مِنْ رَأْيِي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
تَعَالَى مِنْهُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا
بِمِثْلٍ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ، فَمَنْ زَادَ
أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى"
وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ
السِّتَّةَ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَإِنَّمَا
ذَكَرْنَاهُ مُتَابَعَةً لِمَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا، فَمَنْ
زَادَ وَاسْتَزَادَ بِالْوَاوِ لَا بِأَوْ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ج / 10 ص -28-
وَرَوَى أَبُو جَابِرٍ1 أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الطَّحَاوِيُّ فِي
كِتَابِ الْمَعَانِي وَالْآثَارِ بِإِسْنَادٍ
حَسَنٍ إلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:"قُلْتُ
لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ؟ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:
وَنَزَعَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ " وَرَوَى
الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ نَصْرِ بْنِ
مَرْزُوقٍ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ
أَبِي الصَّهْبَاءِ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
نَزَلَ عَنْ الصَّرْفِ"وَهَذِهِ أَصَرْحُ مِنْ
رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَمسه2 لَهُمَا.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حُسَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ:"إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ وَهُوَ
عَلَيْنَا أَمِيرٌ: مَنْ أَعْطَى
بِالدِّرْهَمِ مِائَةَ دِرْهَمٍ
فَلْيَأْخُذْهَا وَذَكَرَ حَدِيثًا إلَى أَنْ
قَالَ: فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَ
ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مِنِّي.
وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْوَاسِطِيِّ وَاسْمُهُ
يَحْيَى بْنُ دِينَارٍ عَنْ زِيَادٍ
قَالَ:"كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ
بِالطَّائِفِ، فَرَجَعَ عَنْ الصَّرْفِ قَبْلَ
أَنْ يَمُوتَ بِسَبْعِينَ يَوْمًا ذَكَرَهُ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ،
وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حُرَّةَ قَالَ
"سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ عَنْ شَيْءٍ
فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ، فَقَالَ
الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِرَأْيِكَ،
فَقَالَ: إنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِيهِ
بِرَأْيٍ ثُمَّ يَبْدُو إلَيَّ غَيْرُهُ
فَأَطْلُبُك فَلَا أَجِدُكَ، إنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ قَدْ رَأَى فِي الصَّرْفِ رَأْيًا
ثُمَّ رَجَعَ وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ
سِيرِينَ عَنْ الْهُذَيْلِ - بِالذَّالِ
الْمُعْجَمَةِ - ابْنِ أُخْتِ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ قَالَ "سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
الصَّرْفِ فَرَجَعَ عَنْهُ، فَقُلْتُ: إنَّ
النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقَالَ: النَّاسُ
يَقُولُونَ مَا شَاءُوا فَهَذَا مَا بَلَغَنِي
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ ذَلِكَ،
فَإِذَا تَأَمَّلْتَ الرِّوَايَاتِ
الْمَذْكُورَةَ وَجَدْتَ أَصَحَّهَا إسْنَادًا
قَوْلَ أَبِي الصَّهْبَاءِ الَّذِي رَوَاهُ
مُسْلِمٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ
عَنْهُ فَكَرِهَهُ، لَكِنَّ لَفْظَ
الْكَرَاهَةِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فَجَازَ أَنْ
يَكُونَ كَرِهَهُ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ
الْمُنَاظَرَةِ الْكَبِيرَةِ شُبْهَةٌ
تَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنْهُ أَوْ
التَّوَرُّعَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ رُجُوعِ
ابْنِ عَبَّاسٍ تَعَيَّنَ حَمْلُ هَذَا
اللَّفْظِ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ
ظَاهِرٌ فِي الرُّجُوعِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَقُّفِ
إلَّا أَنِّي قَدَّمْتُ مِنْ رِوَايَةِ
الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ مَا
يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ وَيُبَيِّنُ
أَنَّهُ نَزَلَ عَنْ الصَّرْفِ صَرِيحًا،
وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ
فِي الْمُسْتَدْرَكِ صَرِيحٌ، لَكِنَّ
سَنَدَهُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ،
وَلَا يَقْصُرُ عَنْ رُتْبَةِ الْحَسَنِ،
وَيَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ
أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى
مِنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في جميع النسخ وصوابه أبو جعفر.
2 كذا بالأصل فحرر، قلت: ليس فيما روي في مسلم
شيء يتعلق بقصة أبي سعيد مع ابن عباس إلا ما
روي عن سعيد أنه قال له: "أرأيت هذا الذي تقول
أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟" فقال: كلا لا
أقول أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم
أعلم به أما كتاب الله فلا أعلمه ولكن حدثني
أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"ألا إنما الربا في النسيئة" ويؤخذ على الشارح مفاضلته بين مسلم ورواية الطحاوي وبالغة ما بلغت
رواية الطحاوي من الصراحة فلن يكون لها من
الاعتبار ما يقدمها على رواية مسلم، أما
العبارة المبهمة هنا فلعلها: وجمعه لهما، يعني
في روايته عن أبي سعيد وابن عباس وقد سقنا لك
نصها. المطيعي.
ج / 10 ص -29-
وَحَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ الَّذِي قَدَّمْتُهُ
وَبَيَّنْتُ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
صَرِيحٌ فِي الرُّجُوعِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ
رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ
الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، فَهَذِهِ عِدَّةُ
رِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ وَحَسَنَةٍ مِنْ جِهَةِ
خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَدُلُّ
عَلَى رُجُوعِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي رُجُوعِهِ
أَيْضًا غَيْرُ ذَلِكَ وَفِيمَا ذَكَرْتُهُ
غُنْيَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ
عَنْهُ
رَوَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْإِمَامَ
أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ قَالَ:
قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ "مَا كَانَ الرِّبَا قَطُّ فِي هَا
وَهَا وَحَلَفَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
بِاَللَّهِ مَا رَجَعَ عَنْهُ حَتَّى
مَاتَ"وَهَذَا إسْنَادٌ مُتَّفَقٌ عَلَى
صِحَّتِهِ، لَكِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى
نَفْيٍ، وَأَصْرَحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ فُرَاتٍ
الْقَزَّازِ قَالَ "دَخَلْنَا عَلَى سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ نَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مُبَشِّرٍ1 الزَّرَّادُ كَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَ عَنْ الصَّرْفِ،
فَقَالَ سَعِيدٌ: عَهْدِي بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَمُوتَ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا،
وَهُوَ يَقُولُهُ وَمَا رَجَعَ
عَنْهُ"ذَكَرَهُ هَكَذَا بِغَيْرِ إسْنَادٍ
إلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ لَمْ
يَرْجِعْ فِي السُّنَّةِ كِفَايَةٌ عَنْ
قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَمَنْ خَالَفَهَا
رُدَّ إلَيْهَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رضي الله عنه رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى
السُّنَّةِ.
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَيَدُلُّ عَلَى
رُجُوعِهِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
كِتَابَيْهِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ
مُخْتَصَرًا، وَالسُّنَنِ الْكَبِيرِ
مُطَوَّلًا بِإِسْنَادٍ كُلِّهِ ثِقَاتٌ
مَشْهُورُونَ عَنْ أَبِي2 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَمْحِ
بْنِ فَزَارَةَ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ
تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى أُمَّهَا
فَأَعْجَبَتْهُ، فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ،
لِتَزَوُّجِ أُمِّهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ،
فَتَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ وَكَانَ عَبْدَ
اللَّهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَكَانَ
يَبِيعُ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ، يُعْطِي
الْكَثِيرَ وَيَأْخُذُ الْقَلِيلَ، حَتَّى
قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: لَا
يَحِلُّ لِهَذَا الرَّجُلِ هَذِهِ
الْمَرْأَةُ، وَلَا تَصْلُحُ الْفِضَّةُ إلَّا
وَزْنًا بِوَزْنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ
اللَّهِ انْطَلَقَ إلَى الرَّجُلِ فَلَمْ
يَجِدْهُ، وَوَجَدَ قَوْمَهُ فَقَالَ: إنَّ
الَّذِي أَفْتَيْتُ بِهِ صَاحِبَكُمْ لَا
يَحِلُّ، فَقَالُوا إنَّهَا قَدْ نَثَرَتْ
لَهُ بَطْنَهَا قَالَ: وَإِنْ كَانَ، وَأَتَى
الصَّيَارِفَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
الصَّيَارِفَةِ إنَّ الَّذِي كُنْتُ
أُبَايِعُكُمْ لَا يَحِلُّ "لَا تَحِلُّ"
الْفِضَّةُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الملك بن ميسرة الهلالي أبو زيد
العامري الكوفي الزراد إلى صنعة الدروع من
الزرد، وهو ثقة من الطبقة الرابعة، المطيعي.
2 لعله عن ابن عبد الله بن مسعود فإن عبد الله
ليست كنيته أبا عبد الله ولكن كنيته أبو عبد
الرحمن فتكون الرواية عن عبد الرحمن بن عبد
الله بن مسعود أو أن كلمة أبي زائدة وعبد
الرحمن تكلم فيه وقيل: إنه لم يسمع من أبيه
وهذا يعارض قول الشارح: إسناده كلهم ثقات
مشهورون ، والحديث في "السنن الكبير" وهذا
نصه:"أخبرنا أبو الحسن ابن الفضل القطان
ببغداد أنا عنبد الله بن جعفر بن درستويه ثنا
يعقوب بن سفيان ثنا عبيد الله بن موسى عن
إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن إياس عن عبد
الله بن مسعود أن رجلا من بني شمخ بن فزارة
(هكذا بمعجمتين شمخ) إلى آخر الحديث وقد كان
في الطبعات السابقة: إنه قد نثرت وإن الذي كنت
أبايعكم لا يحل الفضة إلا وزنا الخ وقد قومنا
المتن من "السنن الكبير" (ط).
3 يقول ابن تيمية في كتابه "رفع الملام عن
أئمة الأعلام": "إن الذين بلغهم قول النبي صلى
الله عليه وسلم إنما الربا في النسيئة=
ج / 10 ص -30-
النُّفَايَةُ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَفَاءٍ
وَبَعْدَ الْأَلِفِ يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ
تَحْتِ مَا نَفَيْته مِنْ الشَّيْءِ
لِرَدَاءَتِهِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي
رُجُوعِهِ وَلَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي
مُوَافَقَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَوَازِ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ فِي خُصُوصِ النُّفَايَةِ
لِرَدَاءَتِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِصَحِيحٍ أَيْضًا، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي
مُعَاوِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ صَرِيحَةٌ فِي بَيْعِ الدِّرْهَمِ
بِالدِّرْهَمَيْنِ، فَانْتَظَمَ مِنْهَا
وَمِنْ هَذِهِ قَوْلَهُ أَوَّلًا وَرُجُوعَهُ
ثَانِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ تَقَدَّمَ
رُجُوعُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي دَلَّتْ
عَلَى قَوْلِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ، وَاشْتَهَرَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ
مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ قَوْلُهُ
بِالتَّحْرِيمِ وَمُبَالَغَتُهُ فِي ذَلِكَ
رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَلَمْ
يَكُنْ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ قَدْ اشْتَهَرَ
عَنْهُ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ رَأْيُهُ
عَلَيْهِ زَمَانًا، بَلْ رَجَعَ عَنْهُ
قَرِيبًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أُسَامَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ
وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ
التَّوَقُّفُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّهُ غَيْرُ قَائِلٍ بِقَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَعَ شُذُوذِ مَا قَالَ بِهِ أَيْضًا
وَالظَّنُّ بِهِ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ
رضي الله عنه أَنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَلَمْ يُنْقَلْ فِي
رُجُوعِهِمْ شَيْءٌ فِيمَا عَلِمْتُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ غَيْرَ أَنِّي
أَقُولُ: إنَّ الظَّنَّ بِكُلِّ مَنْ سَمِعَ
مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ هَذِهِ
الْأَحَادِيثَ الصَّرِيحَةَ الصَّحِيحَةَ فِي
تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ، أَنْ يَرْجِعَ
إلَيْهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي
بَيَانِ انْقِرَاضِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ
وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ
الْأَمْصَارِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ
تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ
مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَيَعْقُوبُ
وَمُحَمَّدُ1 بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ
بِفِضَّةٍ وَلَا بُرٍّ بِبُرٍّ وَلَا شَعِيرٍ
بِشَعِيرٍ، وَلَا تَمْرٍ بِتَمْرٍ وَلَا
مِلْحٍ بِمِلْحٍ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ
وَلَا نَسِيئَةً، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. قَالَ:
وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَجَمَاعَةٌ يَكْثُرُ
عَدَدُهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يدا بيد، مثل
ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه أبي الشعثاء
وعطاء وطاووس وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم من
أعيان المكيين الذين من صفوة الأمة علما وعملا
لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحدا منهم بعينه أو
من قلده بحيث يجوز تقليده، تبلغهم لعنة آكل
الربا لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلا سائغا
في الجملة" ا هـ
1 لعله محمد بن الحسن ويأتي بعده على المتعلقة
بالجملة المصدرية المؤولة بعدها فحرره لأنها
موهمة إنه محمد بن علي لا على أن (على) حرف جر
(المطيعي).
ج / 10 ص -31-
قُلْتُ: وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ
الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، مِنْهُمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ
وَسَعْدٌ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، رَوَى
مُجَاهِدٌ عَنْهُمْ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ
أَنَّهُمْ قَالُوا:"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَأَرْبَوْا
الْفَضْلَ"وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ ابْنِ فُضَيْلٍ
عَنْ لَيْثٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ وَهَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ مِنْ
الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ
وَمِمَّنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ أَيْضًا غَيْرُ
هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ
فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
كَلَامُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ
وَعُبَادَةَ وَقَدْ رَوَيْتُ أَحَادِيثَ
تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ مِنْ جِهَةِ
غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهَا لِعَدَمِ
قَبُولِهَا لِلتَّأْوِيلِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ
حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: وَالْعَمَلُ عَلَى
هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ
إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَكَذَلِكَ رُوِيَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ
شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ،
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَالْعَمَلُ
عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ
قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ
الْمُبَارَكِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي
الصَّرْفِ اخْتِلَافٌ: هَذَا مُخْتَصَرُ
كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ
خِلَافًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ
بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَسَائِرِ
الْآفَاقِ فِي أَنَّ الدِّينَارَ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهُ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا بِأَكْثَرَ
مِنْهُ وَزْنًا وَلَا الدِّرْهَمُ
بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ
الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، إلَّا مَا كَانَ
عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا
مِنْ إجَازَتِهِمْ التَّفَاضُلَ عَلَى ذَلِكَ
إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، أَخَذُوا ذَلِكَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رحمه الله، قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَمْ يُتَابِعْ ابْنَ
عَبَّاسٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي تَأْوِيلِهِ
حَدِيثَ أُسَامَةَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ،
وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَا مَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ
إلَّا طَائِفَةً مِنْ الْمَكِّيِّينَ أَخَذُوا
ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ
مَحْجُوجُونَ بِالسَّنَةِ الثَّابِتَةِ
الَّتِي هِيَ الْحَجَّةُ عَلَى مِنْ
خَالَفَهَا وَجَهِلَهَا وَلَيْسَ أَحَدٌ
بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ
أُسَامَةَ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
نَسْخِهِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِهِ بِحَدِيثِ
أُسَامَةَ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ مَا عَدَا
ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي
بَيَانِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ
الْإِجْمَاعِيَّةِ أَوَّلًا. اعْلَمْ أَنَّ
دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ مُنْحَصِرَةٌ
فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ
إجْمَاعَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ
سَبْقِ خِلَافٍ اسْتِنَادًا إلَى أَنَّ
نُدْرَةَ الْمُخَالِفِ لَا تَضُرُّ، وَإِمَّا
أَنْ يُسَلِّمَ سَبْقَ الْخِلَافِ
الْمُعْتَدِّ بِهِ وَيَدَّعِي رُجُوعَ
الْمُخَالِفِ، وَصَيْرُورَةَ الْمَسْأَلَةِ
إجْمَاعِيَّةً قَبْلَ انْقِرَاضِ ذَلِكَ
الْعَصْرِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ انْعَقَدَ
إجْمَاعٌ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ انْقِرَاضِ
الْمَاضِينَ الْمُخْتَلِفِينَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ1: فَقَدْ
اقْتَضَى كَلَامُ بَعْضِهِمْ دَعْوَاهُ،
وَزَعَمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرَتْ
عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ
لِمُخَالَفَتِهِ الْجَمَاعَةَ، وَقَدْ
اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي
انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَعَ نُدْرَةِ
الْمُخَالِفِ، فَالْجَمَاهِيرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقسيمها إلى ثلاثة أقسام هو الظاهر من قوله
بعد هنيهة (القسم الثاني) وبعدها.
ج / 10 ص -32-
مِنْ
جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ
الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْمُجْمِعِينَ حِينَئِذٍ
لَيْسُوا كُلَّ الْأَمَةِ، وَالْعِصْمَةُ فِي
الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِكُلِّ
الْأَمَةِ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَلِأَنَّ أَبَا
بَكْرٍ رضي الله عنه خَالَفَ الصَّحَابَةَ
وَحْدَهُ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ
وَكَانَ الْحَقُّ مَعَهُ وَرَجَعُوا إلَيْهِ،
وَخَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ
فِي عِدَّةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ
جَمِيعَ الصَّحَابَةِ وَاعْتُدَّ
بِخِلَافِهِمْ إلَى الْيَوْمِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَرَى
إسْنَادَ الْإِجْمَاعِ إلَى النُّصُوصِ،
وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ
وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ
تَبِعَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ طَرِيقَةِ
الشَّافِعِيِّ وَطَرِيقَةِ الْغَزَالِيِّ
خِلَافٌ يَسِيرٌ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى
التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ بِآيَاتٍ مِنْ
جُمْلَتِهَا قوله تعالى:
{وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}
[النساء: من الآية115] الْآيَةَ.
وَيُقَالُ إنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ احْتَجَّ بِهَا
فَذَكَرَهَا لِلرَّشِيدِ حِينَ طَلَبَ مِنْهُ
حُجَّةً مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِجْمَاعِ
وَالْغَزَالِيُّ رحمه الله: يَقُولُ:
التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى خَطَأٍ"وَنَظَائِرِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَدَلُّ عَلَى
الْمَقْصُودِ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو
بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْكَلَامُ فِي
ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ،
فَعَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مَتَى خَالَفَ
وَاحِدٌ لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْبَاقِينَ
أَنَّهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ حَقِيقَةً فَلَا
تَتَنَاوَلُهُمْ النُّصُوصُ الشَّاهِدَةُ
بِالْعِصْمَةِ.
وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَرَى إسْنَادَ
الْإِجْمَاعِ إلَى جِهَةِ قَضَاءِ الْعَادَةِ
بِاسْتِحَالَةِ إجْمَاعِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ
عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ إلَّا لِدَلَالَةٍ
أَوْ أَمَارَةٍ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ
عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ
الْحَاجِبِ، فَيَصْعُبُ عَلَى هَذَا
الْمَسْلَكِ تَقْرِيرُ أَنَّ مُخَالَفَةَ
الْوَاحِدِ لِلْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْخَلْقِ
الْعَظِيمِ يَقْدَحُ فِي إجْمَاعِهِمْ،
فَإِنَّهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِمْ دُونَهُ
تَقْضِي الْعَادَةُ بِاسْتِحَالَةِ
إجْمَاعِهِمْ عَلَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
وَلَا أَمَارَةَ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ
لِوِفَاقِهِ أَوْ خِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا
فَرَضْنَا أَنَّ مَجْمُوعَ عُلَمَاءِ
الْأُمَّةِ لَا يَبْلُغُونَ مَبْلَغًا تَقْضِي
الْعَادَةُ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمْ
عَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا
الْمَسْلَكِ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ
كُلِّهِمْ حُجَّةً، وَلِهَذَا قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: إنَّ إجْمَاعَ الْمُنْحَطِّينَ
عَنْ رُتْبَةِ التَّوَاتُرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَأْخَذَ الْإِجْمَاعِ
يَسْتَنِدُ إلَى اطِّرَادِ الْعَادَةِ، وَمَعَ
ذَلِكَ وَافَقَ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ
الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ يَقْدَحُ فِي
الْإِجْمَاعِ.
وَالطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ الَّتِي
عَوَّلَ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ
الْأَصْحَابِ، وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ
السَّمْعِ، فَلِذَلِكَ خِلَافُ الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ قَادِحٌ فِي صِحَّةِ
الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ اشْتَهَرَ الْخِلَافُ
فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ
قَالَ: إنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا يَجِبُ عَلَى
ذَلِكَ الْمُخَالِفِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ،
وَوَافَقَهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ الرَّازِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ
وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطُ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ
مَنْدَادٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، ثُمَّ
اخْتَلَفَ النَّقْلُ. عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ
فِيمَا زَادَ عَنْ الِاثْنَيْنِ، فَفِي شَرْحِ
اللُّمَعِ لِلْمُصَنِّفِ أَبِي إِسْحَاقَ
أَنَّهُ إذَا خَالَفَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ
لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَلِكَ قَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّ ابْنَ جَرِيرٍ
طَرَدَ مَذْهَبَهُ فِي الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ وَسَلَّمَ أَنَّ خِلَافَ
الثَّلَاثَةِ مُعْتَبَرٌ. وَتَبِعَهُ
الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ وَنَقَلَ
سُلَيْمُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيّ فِي
تَقْرِيبِهِ الْأُصُولِيِّ أَنَّ ابْنَ
جَرِيرٍ لَا يَعْتَدُّ بِمُخَالَفَةِ
الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ
الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأُصُولِ كَالْقَاضِي
عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي نَصْرٍ بْنِ
الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِ عُدَّةِ الْعَالِمِ
وَغَيْرِهِمْ تَرْجَمُوا الْمَسْأَلَةَ
بِمُخَالَفَةِ
ج / 10 ص -33-
الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَسَكَتُوا عَنْ
الزَّائِدِ. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فِي
الْمُسْتَصْفَى فَلَمْ يَعْتَدَّ بِعَدَدٍ
بَلْ تَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِإِجْمَاعِ
الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ،
وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، تَلْخِيصُ
الْخِلَافِ فِيهِ مِنْ مُتَفَرِّقِ
كَلَامِهِمْ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ أحدها: لَا
يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِينَ والثاني: يَنْعَقِدُ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالْخَيَّاطِ
وَالرَّازِيِّ وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ
عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ.
قُلْتُ: وَرَأَيْتُ الشَّافِعِيَّ فِي
كِتَابِ جِمَاعِ الْعِلْمِ مِنْ الْأُمِّ
حَكَاهُ عَمَّنْ بَحَثَ مَعَهُ وَأَمْعَنَ فِي
الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَسَأَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ
كَلَامِهِ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
والثالث: إنْ بَلَغَ
الْأَقَلُّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لَمْ
يُعْتَدَّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا اُعْتُدَّ
بِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رحمه الله:
وَهَذَا فَاسِدٌ.
والرابع: إنْ سَوَّغَتْ
الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ فِي مَذْهَبِ
الْمُخَالِفِ فَخِلَافُهُ مُعْتَدٌّ بِهِ،
كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْأَلَةِ
الْعَوْلِ، فَإِنَّهَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ
وَإِلَّا فَلَا، وَكَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي مَسْأَلَةِ رِبَا الْفَضْلِ هَذِهِ،
وَمَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ، وَلِذَلِكَ
أَنْكَرَ النَّاسُ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا،
وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ وَهُوَ
الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ
مَنْسُوبًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ
قَالَ: نَقَلَ الْمَرْغِينَانِيُّ فِي شَرْحِ
الْهِدَايَةِ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ
السَّرَخْسِيَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا
مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ
رحمه الله تعالى: أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا
خَالَفَ الْجَمَاعَةَ فَإِنْ سَوَّغُوا لَهُ
ذَلِكَ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ
الْإِجْمَاعِ بِدُونِ قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ
يُسَوِّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ وَأَنْكَرُوا
عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ
الْإِجْمَاعِ،
وَالْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَ
الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ لَا إجْمَاعٌ،
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ رحمه الله.
قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: فِي
الْمُسْتَصْفَى: وَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ
عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إذَا
لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَبِمَاذَا يَكُونُ
حَجَّةً؟
وَالسَّادِسُ: أَنَّ
اتِّبَاعَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَإِنْ جَازَ
خِلَافُهُ، وَضَعَّفَهُ الْغَزَالِيُّ وَحَكَى
قَوْلًا سَابِعًا: بِالْفَرْقِ بَيْنَ أُصُولِ
الدِّينِ فَلَا يَضُرُّ وَالْفُرُوعِ
فَيَضُرُّ، وَلَوْ ثَبَتَ الْخِلَافُ الَّذِي
قَدَّمْتُهُ عَنْ كَلَامِ سُلَيْمٍ وَغَيْرِهِ
عَنْ قَائِلِينَ أَوْ قَائِلٍ وَاحِدٍ فِي
وَقْتَيْنِ، صَارَتْ الْأَقْوَالُ
ثَمَانِيَةً: وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهَا غَلَطًا عَلَى الْمَنْقُولِ عَنْهُ،
أَوْ يَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ
التَّمَسُّكِ، وَيَكُونُ مُرَادُهُ
الْأَكْثَرَ كَمَا ذَكَرَ غَيْرُهُ،
وَبِالْجُمْلَةِ فَيُرَجَّحُ الْأَكْثَرُ
عَلَى الْأَقَلِّ فِيمَا طَرِيقُهُ
الِاجْتِهَادُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ. وَكَمْ
مِنْ مَسْأَلَةٍ ذَهَبَ إلَيْهَا
الشَّافِعِيُّ أَوْ مَالِكٌ أَوْ أَبُو
حَنِيفَةَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهَا إلَّا
الْأَقَلُّونَ، وَكَمْ مِنْ قَلِيلٍ عَلَى
الْحَقِّ، وَكَثِيرٍ عَلَى غَيْرِهِ
{ كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية249] قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَمَّنْ
بَحَثَ مَعَهُ قَالَ: لَا أَنْظُرُ إلَى
قَلِيلٍ مِنْ الْمُتَّقِينَ، وَأَنْظُرُ إلَى
الْأَكْثَرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّقلت:
أَفَتَصِفُ الْقَلِيلَ الَّذِينَ لَا يُنْظَرُ
إلَيْهِمْ أَهُمْ إنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ
نِصْفِ النَّاسِ أَوْ ثُلُثِهِمْ أَوْ
رُبْعِهِمْ؟ قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ
أُحَدِّثَهُمْ وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ،
قُلْتُ: الْعَشَرَةُ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ،
قَالَ: هَؤُلَاءِ مُتَقَارِبُونَقلت:
فَحَدَّهُمْ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: مَا
أَقْدِرُ
ج / 10 ص -34-
عَلَى
أَنْ أَحُدَّهُمْ قلنا: فَكَأَنَّكَ أَرَدْتَ
أَنْ تَجْعَلَ هَذَا الْقَوْلَ مُطْلَقًا
غَيْرَ مَحْدُودٍ، فَإِذَا وُجِدَ مَنْ
يَقُولُ بِقَوْلٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قُلْتُ
عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَإِذَا أَرَدْتُ رَدَّ
قَوْلٍ قُلْتُ هَؤُلَاءِ الْأَقَلُّ،
أَفَتَرْضَى مِنْ غَيْرِكَ مِثْلَ هَذَا
الْجَوَابِ؟
وَطَوَّلَ الشَّافِعِيُّ كَثِيرًا فِي
الْكَلَامِ مَعَهُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ
هَذَا الْمَكَانُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو
إلَى نَقْلِهِ وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْأَمْرِ
بِاتِّبَاعِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ،
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا دَلِيلَ
فِيهِ، وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ وَيَلْزَمُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا
اتَّفَقَ نِصْفُ الْأَمَةِ وَانْضَافَ
إلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ
أَنْ يُوجِبُوا عَلَى الْبَاقِينَ
اتِّبَاعَهُمْ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ
الْجَبَّارِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ.
وأما مَنْ اعْتَبَرَ عَدَدًا مُعَيَّنًا كَمَا
حُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ، فَعَلَى مَا
نَقَلَ عَنْهُ سُلَيْمٌ لَا أَعْلَمُ لَهُ
وَجْهًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ خِلَافَ
الثَّلَاثَةِ لَا يَقْدَحُ، إنْ كَانَ
يَقُولُ: إنَّ خِلَافَ الْأَرْبَعَةِ
بِخِلَافِهِ، وَبِالضَّرُورَةِ نِسْبَةُ
الثَّلَاثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ
كَنِسْبَةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ
آلَافٍ. وَعَلَى مَا نَقَلَهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ خِلَافَ
الثَّلَاثَةِ يَقْدَحُ وَمَا دُونَهَا لَا
يَقْدَحُ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا إلَّا
مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي
الله عنه خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ:
"قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَقَامِي فِيكُمْ فَقَالَ: أَكْرِمُوا
أَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ
الْكَذِبُ، فَيَحْلِفُ الرَّجُلُ وَلَا
يُسْتَحْلَفْ، وَيَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ،
فَمَنْ سَرَّهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ
فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ وَهُوَ مِنْ
الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ"رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عُمَرَ، وَلَمْ أَعْرِفْ ابْنَ سُلَيْمَانَ
هَذَا، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي
السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، رَوَيْنَاهُ فِي
مُسْنَدِ عَلِيِّ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ
حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُمْرَةَ عَنْ عُمَرَ،
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَذَكَرَهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَلِ وَذَكَرَ
فِيهِ اضْطِرَابًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم"إنَّ الشَّيْطَانَ يَهِمُ بِالْوَاحِدِ
وَيَهِمُ بِالِاثْنَيْنِ فَإِذَا كَانُوا
ثَلَاثَةً لَمْ يَهِمْ بِهِمْ"صَحِيحٌ إلَى
سَعِيدٍ، وَهُوَ مِنْ مُرْسَلَاتِهِ، وَفِي
مَعْنَاهُمَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "الْوَاحِدُ
شَيْطَانٌ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ
وَالثَّلَاثَةُ ركب" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِلَفْظِ الرَّاكِبِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو فِهْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"الْأَقَلُّونَ
مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَكْثَرُونَ"وَهَذَا
مُرْسَلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ وَلِذَلِكَ
تَمَسَّكُوا بِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ شُذُوذٌ، وَالشُّذُوذُ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَبِإِنْكَارِ الصَّحَابَةِ
عَلَى ابْنَ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي رِبَا الْفَضْلِ،
وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ عَنْ
الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّاذُّ
أَوْ الْخَارِجُ عَنْ الْإِمَامِ
بِمُخَالَفَةِ الْأَكْثَرِ عَلَى وَجْهٍ
يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، وَعَنْ الْحَدِيثِ
الثَّانِي بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
السَّفَرِ وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ، فَإِنَّ
الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ1 عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ"أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم:
مَنْ صَحِبَك؟ قَالَ: مَا صَحِبْتُ أَحَدًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ
وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله: عبد الله بن عمرو با العاص لأن هذا
الإسناد ينتهي إلى عبد الله لا إلى عمرو.
ج / 10 ص -35-
رَكْبٌ" هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَهَكَذَا لَفْظُ
أَبِي دَاوُد1 وَالنَّسَائِيَّ، فَإِنَّ
الْحَدِيثَ فِيهِمَا بِلَفْظِ الرَّاكِبِ لَا
بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَعَنْ كَوْنِ ذَلِكَ
شُذُوذًا بِأَنَّ الشَّاذَّ عِبَارَةٌ عَنْ
الْخَارِجِ مِنْ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ
الدُّخُولِ فِيهَا، وَأَمَّا الَّذِي لَا
يَدْخُلُ أَصْلًا فَلَا يُسَمَّى شَاذًّا
وَعَنْ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
بِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ
لِمُخَالَفَتِهِ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ لَا
لِلْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ عَدَدِ
التَّوَاتُرِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ يُنَاسِبُ
طَرِيقَةَ مَنْ جَعَلَ مَأْخَذَ الْإِجْمَاعِ
حُكْمَ الْعَادَةِ بِاسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ
عَلَى الْجَمْعِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ بَعِيدٌ،
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تُسَوِّغَ
الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ
الْحُكْمِ أَوْ لَا فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَ
الْجَمَاعَةِ غَيْرُ الْمُخَالِفِ إنْ لَمْ
يَكُنْ حُجَّةً فَلَا أَثَرَ لِتَسْوِيغِهِمْ
وَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً فَهُوَ
مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَيْسَ إنْكَارُهُمْ
عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ إنْكَارِهِ
عَلَيْهِمْ، نَعَمْ هَاهُنَا أَمْرٌ يَجِبُ
التَّنَبُّهُ لَهُ وَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ
الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الْخِلَافُ فِي
مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ، كَالْمَسَائِلِ
الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا، أَوْ فِيهَا نَصٌّ
غَيْرُ صَرِيحٍ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا يَكُونُ
الْخِلَافُ فِيهِ لَهُ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ.
وأما هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَإِنَّ النُّصُوصَ
الَّتِي فِيهَا صَرِيحَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ
لِلتَّأْوِيلِ بِوَجْهٍ قَرِيبٍ وَلَا
بَعِيدٍ، وَلَا لِلنَّسْخِ لِمَا سَيَأْتِي
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ مَعَ
ذَلِكَ كَالْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَعْنِي مَا يَدُلُّ عَلَى
النَّهْيِ عَنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَا
تَسْتَبْعِدُونَ دَعْوَى التَّوَاتُرِ فِيهَا،
فَمَنْ تَتَبَّعَ الرِّوَايَاتِ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَصَلَ لَهُ
الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَوْ كَادَ. قَالَ
الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ
مِنْ الْأَحَادِيثِ "فَثَبَتَ2"
بِهَذِهِ[الْآثَارِ]الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ
عَنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ
وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا
وَسَأَعْقِدُ فَصْلًا جَامِعًا أُشِيرُ فِيهِ
إلَى أَطْرَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ
وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ
قَطْعِيَّةُ الْمَتْنِ قَطْعِيَّةُ
الدَّلَالَةِ لَمْ يَكُنْ مَظَانُّ
لِلِاجْتِهَادِ، بَلْ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ
قَطْعًا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ
الْمُجْتَهِدَ الْمُخَالِفَ لَمْ يَطَّلِعْ
عَلَيْهَا، وَالتَّوَاتُرُ قَدْ يَحْصُلُ فِي
حَقِّ شَخْصٍ وَلَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ آخَرَ،
فَإِذَا خَالَفَ مُجْتَهِدٌ لِعَدَمِ
اطِّلَاعِهِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ النُّصُوصِ
يَكُونُ مَعْذُورًا فِي مُخَالَفَتِهِ إلَى
حَيْثُ يَطَّلِعُ عَلَى النَّصِّ، وَلَا
يَحِلُّ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، وَلَا
يُقَلِّدُ فِيهِ، وَيُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهِ،
وَلَوْ لَمْ تَصِلْ إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ
مَعَ صَرَاحَةِ دَلَالَتِهَا كَانَ الْحُكْمُ
كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ
خَالِيًا عَنْ وَجْهٍ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ
أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُقْتَضِيَةَ
لِتَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ صَحِيحَةٌ
صَرِيحَةٌ، لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ
الْمُقْتَضِيَةَ لِجَوَازِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ
كَمَا سَيَأْتِي وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنْهُ،
وَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ
وقوله تعالى:
{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: من الآية278] يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث ليس في "المجتبى" للنسائي إذا
أطلق انصرف إلى "المجتبى" ولكني وجدته في
"مسند أحمد" ثنا حسين بن محمد ثنا مسلم يعني
ابن خالد عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده الحديث، ورواه أبو داود
في "سننه" حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن
مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده الخ وأخرجه مالك في "الموطأ".
2 قال الإمام الطحاوي في"شرح معاني الآثار":
فثبت بهذه الآثار المتواترة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم إنه نهى عن بيع الفضة بالفضة
والذهب بالذهب متفاضلا وكذلك سائر الأشياء
المكيلات التي قد ذكرت في هذه الآثار التي
رويناها فالعمل بها أولى من العمل بحديث أسامة
الذي قد يجوز تأويله ا هـ المطيعي.
ج / 10 ص -36-
نَهَى
عَنْهُ مَا كَانَ دَيْنًا، وَكَذَلِكَ كَانَتْ
الْعَرَبُ تَعْقِدُ فِي لُغَتِهَا، وَقَدْ
دَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى
أَنَّ النَّقْدَ لَيْسَ الرِّبَا
الْمُتَعَارَفَ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ
بِقَوْلِهِ "وَلَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ
بِالذَّهَبِ" الْحَدِيثَ فَسَمَّاهُ بَيْعًا،
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبا}
[البقرة: من الآية275] فَذَمَّ مَنْ قَالَ:
إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَفِي
تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
الزِّيَادَةَ فِي الْأَصْنَافِ بَيْعًا
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ
لَا فِي غَيْرِهِ.
قلت: أَمَّا التَّعَارُضُ فَسَنُبَيِّنُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابَ عَنْهُ،
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَوْضَحِ
شَيْءٍ يَكُونُ، وَكَوْنُ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ وَرَدَتْ فِي تَحْرِيمِ نَوْعٍ
مِنْ الرِّبَا إنْ سَلِمَ اقْتِصَارُهَا
عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِ،
وَالتَّعَلُّقُ بِكَوْنِ ذَلِكَ يُسَمَّى
بَيْعًا لَا رِبًا تَعَلُّقٌ بِالْأَلْفَاظِ،
مَعَ تَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ بِالنَّهْيِ
وَالتَّحْرِيمِ وَإِثْبَاتِ الرِّبَا فِيهِ،
وَمِثْلُ هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ الضَّعِيفَةِ
يَجِلُّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ
الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ
التَّعَلُّقِ بِهَا، وَلَوْ لَمْ أَرَهَا
مَذْكُورَةً، وَلَكِنَّ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ
الْمُغَلِّسِ ذَكَرَهَا عَنْ الْقَائِلِينَ
بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ
يَدَّعِي إجْمَاعَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ
بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ لِمَا رُوِيَ مِنْ
رُجُوعِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ،
وَمِمَّنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ مِنْ
الْأَصْحَابِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
تَعْلِيقِهِ، وَالْعَبْدَرِيُّ فِي
الْكِفَايَةِ قَالَا:"رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ
ذَلِكَ"فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعًا
وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ
قَالَ: لَمْ أَعُدُّهُ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ
عَنْهُ مِنْ رُجُوعِهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ
أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ صَحَّ النَّقْلُ
عَنْهُ بِذَلِكَ، فَرَجَعَ عَنْهُ يَقِينًا
كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْهُمْ
مَنْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِي رُجُوعِهِ كَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَبَقِيَّتُهُمْ كَأُسَامَةَ
وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ وَابْنِ
الزُّبَيْرِ لَمْ أُثْبِتْ النَّقْلَ عَنْهُ
بِذَلِكَ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُمْ رُجُوعٌ،
فَإِنْ كَانُوا قَائِلِينَ بِذَلِكَ وَلَمْ
يَرْجِعُوا فَقَدْ تَعَذَّرَ دَعْوَى هَذَا
الْوَجْهِ إلَّا مَا ثَبَتَ[مِنْ]رُجُوعِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ
مُخَالِفٌ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِذَا اخْتَلَفَ
عُلَمَاءُ الْعَصْرِ ثُمَّ اتَّفَقُوا
وَرَجَعَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِأَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ إلَى الْآخَرَ وَصَارُوا
مُطْبِقِينَ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ
إجْمَاعًا أَوْ لَا؟
وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ
إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَقَرَّ أَوْ لَا،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ اسْتَقَرَّ
كَاخْتِلَافِهِمْ فِي قِتَالِ مَانِعِي
الزَّكَاةِ، ثُمَّ إجْمَاعُهُمْ كُلُّهُمْ
عَلَى رَأْي أَبِي بَكْرٍ، فَهَذَا يَجُوزُ
قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ إجْمَاعًا،
وَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ
كَانَ الْخِلَافُ قَدْ اسْتَقَرَّ وَبَرَدَ
فَفِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ
يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ
أَوْ لَا، إنْ قُلْنَا الْعَصْرُ شَرْطٌ
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَقَوْلِ ابْنِ فُورَكٍ وَأَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَنَسَبَهُ
عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَرَجَّحَهُ
سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ الْأُصُولِيِّ،
وَأَطْنَبَ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَذَهَبَ
إلَيْهِ[مِنْ]1 الْمَالِكِيَّةِ أَبُو تَمَامٍ
الْبَصْرِيِّ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ
اتِّفَاقُهُمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ،
وَيَكُونُ كَوْنُهُ إجْمَاعًا مَوْقُوفًا
أَيْضًا عَلَى انْقِرَاضِهِمْ.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ
الْأَوَّلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا نَقَلَهُ
ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، وَأَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ
وَالْأَشَاعِرَةُ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ليس في ش و ق (ط).
ج / 10 ص -37-
الطَّيِّبِ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَأَوْمَأَ
إلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَاخْتَارَهُ
أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ
لِلْمُصَنِّفِ رحمه الله: وَهُوَ الَّذِي
اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَأَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ الْخَطِيبِ وَأَتْبَاعُهُ
وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ قَالَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ
الذَّخِيرَةِ: وَقَدْ غَلَطَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا فَقَالَ: يُعْتَبَرُ انْقِرَاضُ
الْعَصْرِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمِنْ
هَؤُلَاءِ مَنْ يُطْلِقُ أَوْ يُعَمِّمُ
الْحُكْمَ فِي الْإِجْمَاعِ الْقَوْلِيِّ
وَالسُّكُوتِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِي
كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّبْصِرَةِ
تَرْجِيحَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْصِلُ وَيَخُصُّ ذَلِكَ
بِالْقَوْلِيِّ، وَأَمَّا السُّكُوتِيُّ
فَيُعْتَبَرُ فِيهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ،
وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ،
وَاخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي
اللُّمَعِ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مَقْطُوعًا
بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ انْقِرَاضًا، أَوْ
يَتَّفِقُوا عَلَى حُكْمٍ وَيُسْنِدُوهُ إلَى
ظَنٍّ فَلَا يَنْبَرِمُ مَا لَمْ يَطُلْ
الزَّمَانُ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ
انْقِرَاضُ الْعَصْرِ فَهَلْ يَجُوزُ
الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ؟ قِيلَ:
إنَّهُ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ يُنَافِي مَا
أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ تَجْوِيزِ
الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
الْقَوْلَيْنِ. نُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى
الصَّيْرَفِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَمَالَ
إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَدَاوُد وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ عَلَى امْتِنَاعِهِ، لَكِنْ
لِمُدْرَكٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ
مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ
وَافَقَهُ يَقُولُونَ: إنَّهُ يَسْتَحِيلُ
سَمْعًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَإِذَا وَقَعَ لَا
يَكُونُ حُجَّةً، وَهُوَ بَعِيدٌ وَقِيلَ:
يَجُوزُ وَيَكُونُ حُجَّةً تَحْرُمُ
مُخَالَفَتُهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاتِّفَاقَ
بَعْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْعَصْرِ
الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَإِجْمَاعٌ عَلَى
الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ
طَوَائِفُ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ
وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ
الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ
إجْمَاعًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ
الَّذِي لَا يُتَّجَهُ غَيْرُهُ، وَالْقَوْلُ
بِأَنَّهُمْ بِالِاخْتِلَافِ أَجْمَعُوا عَلَى
تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
الْقَوْلَيْنِ مَمْنُوعٌ وَهُوَ قَوْلٌ
بَاطِلٌ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى هَذَيْنِ
الْإِجْمَاعَيْنِ بَعِيدَةٌ لِمَا قَدَّمَتْهُ
مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَأَيْضًا فَلَوْ
سُلِّمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَمِيعَ
الصَّحَابَةِ صَحَّ رُجُوعُهُمْ، فَقَدْ
لَحِقَ زَمَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، مِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ رُجُوعٌ وَالصَّحِيحُ
الْمُخْتَارُ: أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ
الَّذِي نَشَأَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ
وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ
إجْمَاعِهِمْ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ
بِدُونِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى
الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ
وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْقَاضِي
مِنْ الْحَنَابِلَةِ: لَا يُعْتَدُّ بِهِ،
وَأَوْمَأَ أَحْمَدُ إلَى الْقَوْلَيْنِ،
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ.
والثاني: قَوْلٌ ضَعِيفٌ
جِدًّا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ فُقَهَاءِ
التَّابِعِينَ مَاتُوا فِي عَصْرِ
الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ
وَشُرَيْحٌ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ
وَالْأَسْوَدُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
رضي الله عنهم وَسَعِيدٌ بْنُ جُبَيْرٍ
وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَخَلَائِقُ لَا
يُحْصَوْنَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتُ
مِنْ عِلْيَةِ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ
الْمُجْتَهِدِينَ، وَعَصْرُ الصَّحَابَةِ
وَعَصْرُ التَّابِعِينَ مُتَدَاخِلَانِ،
فَإِنَّ عَصْرَ التَّابِعِينَ ابْتِدَاؤُهُ
مِنْ قَبْلِ الْهِجْرَةِ، وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ
بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ
يَرَهُ بِالْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
عَلَى يَدَيْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى
وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ
ج / 10 ص -38-
وَالطَّائِفِ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهَا،
يُعَدُّ مِنْ التَّابِعِينَ، فَمِنْ
الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُقَالَ: إنْ هَؤُلَاءِ
كُلَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِ أَحَدٍ
مِمَّنْ تَفَقَّهَ مِنْهُمْ وَوَصَلَ إلَى
رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ إلَى انْقِرَاضِ
الصَّحَابَةِ فِي سَنَةِ مِائَةٍ مِنْ
الْهِجْرَةِ، وَالْأَعْصَارُ كُلُّهَا
مُتَدَاخِلَةٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، لَا
يُوجَدُ كُلٌّ مِنْهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً،
فَعَدَمُ اعْتِبَارِ قَوْلِ التَّابِعِيِّ
قَوْلٌ ضَعِيفٌ لَا مَعْنَى لَهُ،
وَالتَّابِعُونَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُمْ
الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ،
أَعْنِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ إلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ لَمْ
يَنْقَرِضْ. وَهَذَا الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ
كَلَامِ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ حُكِيَ
الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ، وَعُوِّلَ عَلَى
التَّرْجِيحِ دُونَ التَّمَسُّكِ بِإِجْمَاعٍ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي
جِمَاعِ الْعِلْمِ مِنْ الْأُمِّ أَنَّ ابْنَ
الْمُسَيِّبِ رَوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه فِي الصَّرْفِ
شَيْئًا وَأَخَذَ بِهِ، وَلَهُ فِيهِ
مُخَالِفُونَ مِنْ الْأُمَّةِ، فَلَا أَدْرِي
أَيُشِيرُ الشَّافِعِيُّ إلَى تَحْرِيمِ رِبَا
الْفَضْلِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ فَهُوَ
مُوَلَّدٌ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَذْهَبَ
ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ
بَعْضِ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَقَدْ
ادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ - رحمه الله تعالى:"أَنَّ
تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ قَوْلُ
التَّابِعِينَ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ عَرَفْتَ
مَا فِيه" وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ
يَدَّعِي إجْمَاعَ مُتَأَخِّرٍ بَعْدَ
انْقِرَاضِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَذَلِكَ لَا
يُمْكِنُ فِي أَوَائِلِ عَصْرِ التَّابِعِينَ
لِمَا عَرَفْتَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ، وَمِنْ
جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ عَطَاءُ بْنُ
أَبِي رَبَاحٍ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ
خَمْسَ عَشَرَةَ وَمِائَةٍ أَوْ بَعْدَهَا،
فَإِنْ اُدُّعِيَ إجْمَاعٌ بَعْدَ ذَلِكَ
إمَّا مِنْ بَقِيَّةِ التَّابِعِينَ وَإِمَّا
مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَا أَسْتَحْضِرُ
خِلَافًا يَرُدُّهُ، وَلَكِنَّ
الْأُصُولِيِّينَ وَالْأَصْحَابَ
مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ فَأَصَحُّ
الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ
أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ
وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّهُ إذَا
اتَّفَقَ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ
الصَّحَابَةِ لَا تَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ
إجْمَاعِيَّةً وَلَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ
بِالْقَوْلِ الْآخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَقَالَ
الْمُصَنِّفُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ قَوْلُ
عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ سُلَيْمٌ:
إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا
وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَقَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: إنَّ مَيْلَ الشَّافِعِيِّ
إلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. وَقَالَ
ابْنُ بَرْهَانٍ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رضي
الله عنه إلَى أَنَّ حُكْمَ الْخِلَافِ لَا
يَرْتَفِعُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ
الْمَالِكِيُّ: لَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ
شَيْءٌ، وَالْجَيِّدُ مِنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي
كَانَ يَخْتَارُهُ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ
أَنَّ الْخِلَافَ بَاقٍ. وَذَهَبَ إلَيْهِ
مِنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي، وَهُوَ
الْمَرْجُوحُ عِنْدَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو
عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ وَأَبُو بَكْرٍ
الْقَفَّالُ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ،
وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَأَكْثَرُ
أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٌ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجِبَائِيِّ وَابْنِهِ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْخَطِيبِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ،
وَأَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ، أَنَّهُ
يَصِيرُ إجْمَاعًا لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ
وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى أَنَّ
الْمَيِّتَ هَلْ لَهُ قَوْلٌ؟
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ لَهُ قَوْلًا لَمْ
يَكُنْ إجْمَاعًا، وَإِلَّا كَانَ إجْمَاعًا،
وَالْحَنَفِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ
إجْمَاعٌ يَقُولُونَ: إنَّهُ مِنْ أَدْنَى
مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ. وَلِذَلِكَ قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَنَوَى
ثَلَاثًا ثُمَّ جَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ
وَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ، لَا
يَحِلُّ، لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ
يَرَاهَا
ج / 10 ص -39-
وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَقَدْ أَجْمَعْنَا
بِخِلَافِهِ، وَشُبْهَةُ الثَّلَاثِ صَحِيحَةٌ
بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ،
لَكِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ،
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا
الْإِجْمَاعِ أَهُوَ حُجَّةٌ أَوْ لَا؟ فَلَا
يَصِيرُ مُوجِبًا عِلْمًا بِلَا شُبْهَةٍ.
هَكَذَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي
التَّقْوِيمِ مِنْ كُتُبِهِمْ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ
بِمَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ التَّابِعُونَ
بِتَحْرِيمِ الْقَوْلِ الْآخَرَ، فَإِنْ
صَرَّحُوا بِتَحْرِيمِهِ فَقَدْ تَرَدَّدَ
أَعْنِي الْغَزَالِيَّ هَلْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ
أَوْ لَا وَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ؟
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَبَيْنَ مَا إذَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ
الِاخْتِلَافِ مَعَ بَقَاءِ الْعَصْرِ حَيْثُ
كَانَ الصَّحِيحُ هُنَاكَ أَنَّهُ يَكُونُ
إجْمَاعًا أَنَّ الْمُجْمِعِينَ هُنَاكَ كُلُّ
الْأُمَّةِ؛ وَأَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي
بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهُمْ، لِأَنَّ
الْأُمَّةِ اسْمٌ يَعُمُّ الْحَيَّ
وَالْمَيِّتَ فَعَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ
قَوْلِ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا امْتَنَعَ
دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا
الْفَضْلِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَهَذَا
مُقْتَضَى صُنْعِ أَبِي الْحُسَيْنِ
الْمَحَامِلِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ ذَكَرَ
مَسْأَلَةَ رِبَا الْفَضْلِ فِي مَسَائِلِ
كِتَابِ الْأَوْسَطِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ
وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ
عِنْدَهُ إجْمَاعِيَّةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا،
لَكِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
مُسْتَغْنُونَ فِي الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ
بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ
الْمُتَضَافِرَةِ كَمَا قَدَّمْتُهُ
وَأَقُولُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِجْمَاعِ فِي
مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ مُسْنَدُهَا قِيَاسٌ
أَوْ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُوَافِقُوهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ
تَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثَيْنِ
أحدهما: حَدِيثُ أُسَامَةَ الْمُتَقَدِّمُ،
وَقَدْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ
مَعْنَاهَا سَوَاءٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ منها:
"لَا
رِبًا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ"
ومنها:
"إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" ومنها:"إنَّ
الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ"
ومنها:"لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ" وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ومنها:"لَيْسَ الرِّبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ وَالنَّظِرَةِ" ومنها:"لَا
رِبًا إلَّا فِي الدَّيْنِ"
رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ ومنها:"الرِّبَا
فِي النَّسِيئَةِ"
وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى حَدِيثِ
أُسَامَةَ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي
تَأْوِيلِهِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ بِطُرُقٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ،
فَأَلْفَاظُهُ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ لَا
مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِهَا.
ومنها: لَفْظٌ فِي طَرِيقٍ خَارِجِ الصَّحِيحِ
لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
الْحُمَيْدِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ
وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْمِنْهَالِ
يَقُولُ:"بَاعَ شَرِيكٌ لِي بِالْكُوفَةِ
دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ،
فَقُلْتُ مَا أَرَى هَذَا يَصْلُحُ، فَقَالَ:
لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَ
ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ
بْنَ عَازِبٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ:"قَدِمَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ
وَتِجَارَتُنَا هَكَذَا وَقَالَ
مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَمَا كَانَ نَسِيئًا فَلَا
خَيْرَ فِيهِ"
وَأْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَإِنَّهُ كَانَ
أَعْظَمَ تِجَارَةً مِنِّي، فَأَتَيْتُهُ
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَ
الْبَرَاءُ.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا مَنْسُوخٌ لَا
يُؤْخَذُ بِهَذَا وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنْ
أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ فَإِنَّ رُوَاتَهُ
كُلَّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، وَقَدْ صَرَّحَ
سُفْيَانُ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَمْرٍو
فَانْتَفَتْ شُبْهَةُ تَدْلِيسِهِ. وَلَكِنْ
سَنَذْكُرُ مَا عُلِّلَ بِهِ، فَشَرْطُ
ج / 10 ص -40-
الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ سَلَامَتُهُ
مِنْ التَّعْلِيلِ فَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ. أَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ
فَجَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ
يَجْمَعُهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ تَأْوِيلٌ
وَادِّعَاءُ نَسْخٍ وَتَرْجِيحٌ، وَاعْلَمْ
أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الْأَوَّلُ لَا
يُعْدَلُ إلَى الثَّانِي وَمَتَى ثَبَتَ
مُوجِبُ الثَّانِي لَا يُعْدَلُ إلَى
الثَّالِثِ، فَاعْتَمِدْ هَذَا فِي كُلِّ
نَصَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ
الْأَوْجُهَ الَّتِي نُقِلَتْ فِي الْجَوَابِ،
مِنْهَا وَجْهَانِ تَضَمَّنَهُمَا كَلَامُ
الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ قَالَ فِي
كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ
ذَكَرَ خَبَرَ أُسَامَةَ، وَأَخْبَارَ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
وَأَبِي سَعِيدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ، ذَكَرَهَا
ثُمَّ قَالَ: فَأَخَذْنَا بِهَذِهِ
الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُوَافِقُ حَدِيثَ
عُبَادَةَ، وَكَانَتْ حُجَّتُنَا فِي
أَخْذِنَا بِهَا وَتَرْكِنَا حَدِيثَ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إذْ كَانَ ظَاهِرُهُ
يُخَالِفُهَا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ
النَّفْسَ عَلَى حَدِيثِ الْأَكْثَرِ
أَطْيَبُ. لِأَنَّهُمْ أَشْبَهُ أَنْ
يَحْفَظُوا مِنْ الْأَقَلِّ، وَكَانَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعُبَادَةُ بْنُ
الصَّامِتِ أَسَنَّ، وَأَشَدَّ تَقَدُّمَ
صُحْبَةٍ مِنْ أُسَامَةَ، وَكَانَ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ
أَكْثَرَ حِفْظًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فِيمَا عَلِمْنَا مِنْ أُسَامَةَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يُخَالِفُ
حَدِيثُ أُسَامَةَ حَدِيثَهُمْ؟ قِيلَ: إنْ
كَانَ يُخَالِفُهَا فَالْحُجَّةُ فِيهَا
دُونَهُ لِمَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ:
فَأَنَّى يُرَى هَذَا؟ قِيلَ: اللَّهُ
أَعْلَمُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ
عَنْ الرِّبَا فِي صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ،
ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ وَتَمْرٍ بِحِنْطَةٍ. قَالَ:"إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ" فَحَفِظَهُ فَأَدَّى قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ
يُؤَدِّ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ، فَكَانَ مَا
أَدَّى عِنْدَ مَنْ سَمِعَ أَنْ لَا رِبًا
إلَّا فِي النَّسِيئَةِ. هَذَا جَوَابُ
الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَهُوَ مُشْتَمِلٌ
عَلَى التَّرْجِيحِ وَالتَّأْوِيلِ فَهُمَا
جَوَابَانِ يَعْنِي أَنَّهُ إنْ كَانَ حَدِيثُ
أُسَامَةَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنْ
صِنْفَيْنِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِبَقِيَّةِ
الْأَحَادِيثِ لَا يُخَالِفُهَا، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ وَكَانَ مُخَالِفًا لَهَا
فَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ،
وَرِوَايَةُ جَمَاعَةٍ أَرْجَحُ مِنْ
رِوَايَةِ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجْزِمْ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِالتَّأْوِيلِ
الْمَذْكُورِ لِأَجْلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
رَاوِيَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَائِلٌ بِهِ.
وَرَوَى الْحَاوِي كَلَامَ الشَّافِعِيِّ
بِأَبْسَطَ مِمَّا فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ،
وَهُوَ يُبَيِّنُ مَا شَرَحْت بِهِ كَلَامَهُ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ
الشَّافِعِيُّ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ: إنَّهُ مَعْنَى
الْحَدِيثِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا
التَّأْوِيلِ، بَلْ إجْمَاعُ النَّاسِ - مَا
عَدَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَمَا صَحَّ
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَالْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى
تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسَيْنِ،
الْوَاحِدُ يَجُوزُ التَّمَاثُلُ فِيهِ
نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ نَسَاءً، ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنْ
يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى غَيْرِ
الرِّبَوِيَّاتِ، كَبَيْعِ الدَّيْنِ،
بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا، بِأَنْ يَكُونَ لَهُ
عِنْدَهُ نَقْدٌ مَوْصُوفٌ، فَيَبِيعَهُ
بِعَرْضٍ مَوْصُوفٍ مُؤَجَّلًا. ذَكَرَهُ
النَّوَوِيُّ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ
تَأْوِيلَاتٍ، أَوْضَحُهَا وَأَشْهُرُهَا مَا
قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى:
أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ وَلَيْسَ
مِنْ شَرْطِ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ
يَثْبُتَ كَوْنُهُ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ
عِنْدَهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ
عَامًا، وَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ
بِدَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ أَيُّ دَلِيلٍ كَانَ،
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ
الْأَحَادِيثِ.
ج / 10 ص -41-
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ
الثَّلَاثَةَ مُتَّفِقَةٌ فِي الْجَمْعِ
بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَقَدْ نَبَّهْتُ
فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ
التَّرْجِيحِ فِيمَا أَمْكَنَ، وَكَلَامُ
ابْنُ الصَّبَّاغِ يَقْتَضِي أَنَّ هُنَا
مَانِعًا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ
عُدَّةِ الْعَالَمِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ:
إنَّهُ إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْحَدِيثَيْنِ جُمِعَ إلَى أَنْ يَقَعَ
الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعَارُضِهِمَا، مِثْلُ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ "إنَّمَا الرِّبَا فِي
النَّسِيئَةِ" وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْجِنْسَيْنِ
الْمُخْتَلِفَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْجَمَاعَةَ
اتَّفَقُوا عَلَى تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ،
فَالْأَكْثَرُ تَرَكُوا حَدِيثَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَالْقَلِيلُ أَجْرَوْا حَدِيثَ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْعُمُومِ، فَعَلَى
طَرِيقَةِ ابْنِ الصَّبَّاغِ هَذِهِ
يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ
أَوْ النَّسْخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ:
دَعْوَى النَّسْخِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ
الْحُمَيْدِيُّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ الْحَاوِي: مَنْ
ادَّعَى نَسْخَ ذَلِكَ ذَهَبَ إلَى حَدِيثٍ
فِيهِ مَقَالٌ، وَذَكَرَ حَدِيثًا مِنْ
رِوَايَةِ بَحْرٍ1 السَّقَّاءِ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى
عَنْ الصَّرْفِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ"
قَالَ الْحَاوِي: هَذَا حَدِيثٌ وَاهِي
الْإِسْنَادِ وَبَحْرٌ السَّقَّاءُ لَا
تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. ثُمَّ فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
التَّحْرِيمَ كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَذَكَرَ
حَدِيثًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ"نَهَانَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
نَبِيعَ أَوْ نَبْتَاعَ تِبْرَ الذَّهَبِ
بِالذَّهَبِ، وَتِبْرَ الْفِضَّةِ
بِالْفِضَّةِ الْعَيْنِ قَالَ: وَقَالَ لَنَا:
ابْتَاعُوا تِبْرَ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ،
وَتِبْرَ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ الْعَيْنِ"
قَالَ الْحَاوِي: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا
الْإِسْنَادِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ مِنْ
جِهَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ غَيْرَ أَنَّ لَهُ
أَصْلًا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، ثُمَّ
يَسْنُدُهُ حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ،
فَإِنْ كَانَ أُسَامَةُ سَمِعَهُ مِنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ
خَيْبَرَ فَقَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ، وَإِلَّا
فَالْحُكْمُ مَا صَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ فَبَحَثْنَا هَلْ
نَجِدُ حَدِيثًا يُؤَكِّدُ رِوَايَةَ أَبِي
بَكْرَةَ وَيُبَيِّنُ تَقْدِيمَ حَدِيثِ
أُسَامَةَ إنْ كَانَ مَا سَمِعَهُ
مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا سَمِعَهُ؟
فَرَأَيْنَاهُ ذَكَرَ حَدِيثَ الْحُمَيْدِيِّ
الَّذِي تَقَدَّمَ، وَكَلَامَ الْحُمَيْدِيِّ
وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْه.
ِقلت: وَحَدِيثُ فُضَالَةَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ
التَّحْرِيمَ كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ،
فَإِنَّهُ قَالَ"كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ نُبَايِعُ
الْيَهُودَ، وَفِيهِ الذَّهَبُ
بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُبَايِعُوا الذَّهَبَ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ"وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ
قَالَ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَبَايَعُونَ الْأُوقِيَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان في الطبعات السابقة (بحر الشفاء)
والصواب السقاء قال في "تهذيب التهذيب": بحر
بن كثير الباهلي المعروف بالسقاء وهو جد عمرو
بن علي الفلاس روى عن الحسن البصري وعبد
العزيز بن أبي بكر إلى قوله: وقال الحربي:
ضعيف وقال الساجي تروى عنه مناكير وليس هو
عندهم بقوي الحديث، وقال البخاري: ليس هو
عندهم بقوي، يحدث عن قتادة بحديث لا أصل له من
حديثه ولا يتابع عليه، وقال النسائي في "الجرح
والتعديل": بل ليس بثقة ولا يكتب حديثه وذكره
ابن البرقي في درجة من ترك حديثه وقال السعدي:
ساقط، وقال ابن حبان: كان ممن فحش خطؤه وكثر
وهمه حتى استحق الترك، وسئل أبو داود عن بحر
وعمران فقال: بحر فوق عمران وبحر متروك (ط).
ج / 10 ص -42-
مِنْ
ذَهَبٍ وَخَزٍّ وَغَيْرِهِ بِدِينَارَيْنِ،
ظَنًّا مِنْهُمْ جَوَازَهُ لِلِاحْتِيَاطِ،
حَتَّى يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ حَرَامٌ حَتَّى تَمَيَّزَ، وَهَا
أَنَا أَتَكَلَّمُ عَلَى حَدِيثِ
الْحُمَيْدِيِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أما حَدِيثُ الْحُمَيْدِيِّ فَادُّعِيَ فِيهِ
أَمْرَانِ أحدهما: النَّسْخُ كَمَا قَالَ
رَاوِيهِ الْحُمَيْدِيُّ، وَنَاهِيكَ بِهِ
عِلْمًا وَاطِّلَاعًا لَكِنَّ الصَّحِيحَ
عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ قَوْلَ
الرَّاوِي هَذَا مَنْسُوخٌ لَا يُرْجَعُ
إلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ
مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ مَا
إذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فَإِنَّهُ
يُقْبَلُ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى مَاءٍ
قَلِيلٍ فَقَالَ عَدْلٌ: قَدْ وَلَغَ فِيهِ
كَلْبٌ، يُقْبَلُ. فَلَوْ قَالَ: هُوَ نَجَسٌ
وَلَمْ يُبَيِّنْ لِمَ يُقْبَلُ. وَمِمَّنْ
صَرَّحَ بِذَلِكَ سُلَيْمٌ وَالْغَزَالِيُّ
وَابْنُ بَرْهَانٍ، خِلَافًا لِأَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ
بَرْهَانٍ مُطْلَقًا وَابْنُ الْخَطِيبِ
نَقَلَهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ فِيمَا إذَا لَمْ
يُعَيِّنْ النَّاسِخُ وَجَعَلَ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْمَالِكِيُّ
قَوْلَهُ: نُسِخَ كَذَا بِكَذَا فِي مَعْنَى
ذِكْرِهِ تَقَدُّمَ التَّارِيخِ، وَمَحَلُّ
الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ
الْقَوْلُ مِنْ صَحَابِيٍّ، كَذَلِكَ فَرَضَ
الْغَزَالِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ
الْخَطِيبِ الْمَسْأَلَةَ.
وَأَطْلَقَ الْقُرْطُبِيُّ الْفَرْضَ فِي
الرَّاوِي، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ سَائِلٍ
سَأَلَ فِي الْعِبَارَةِ وَإِلَّا فَهُوَ
بَعِيدٌ، فَإِنْ ثَبَتَ خِلَافٌ فِي غَيْرِ
الصَّحَابِيِّ كَانَ قَوْلُ الْحُمَيْدِيِّ
هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَإِلَّا فَلَا،
غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ مَوْضِعٍ
آخَرَ تَقَدُّمُ تَارِيخِ الْإِبَاحَةِ مِنْ
حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ،
وَتَأَخُّرُ التَّحْرِيمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
بَكْرَةَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا
تَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ
ظَهَرَ مُسْتَنَدُ الْحُمَيْدِيِّ رضي الله
عنه وَصَحَّ النَّسْخُ. وَالْمَاوَرْدِيُّ
جَزَمَ بِالنَّسْخِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ
وَزَيْدٌ قَالَ: لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَحْرِيمِ
الرِّبَا. وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ
دَعْوَى النَّسْخِ إذَا سَلِمَ يَظْهَرُ
بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنْ تَكُونَ
أَحَادِيثُ التَّحْرِيمِ نَاسِخَةً
لِأَحَادِيثِ الْإِبَاحَةِ، أَمَّا أَنَّ
الْآيَةَ تَكُونُ نَاسِخَةً لِأَحَادِيثِ
الْإِبَاحَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَمْرَيْنِ
أحدهما: أَنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْسَخُ
السُّنَّةَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ
الْجَوَازَ والثاني: أَنَّ الْأَحَادِيثَ
الْمُبِيحَةَ خَاصَّةٌ بِالنَّقْدِ وَالْآيَةُ
عَامَّةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ تَقَدُّمُ الْخَاصُّ عَلَى
الْعَامِّ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الْعَامُّ لَا
يَكُونُ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَإِذَا ظَهَرَ
أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا هُوَ بَيِّنٌ
فَحِينَئِذٍ أَقُولُ: إمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ
الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى رِبَا
الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَا. فَإِنْ قُلْنَا
بِذَلِكَ فَلَا إشْكَالَ وَصَارَ النَّظَرُ
مَقْصُورًا عَلَى السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ
نَقُلْ بِهِ وَحَمَلْنَاهَا عَلَى الْعُقُودِ
الرِّبَوِيَّةِ إمَّا عَامَّةٌ فِيهَا
وَإِمَّا مُجْمَلَةٌ، فَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا
مُتَأَخِّرًا عَنْ جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ
الْمُبِيحَةِ وَالْمُحَرِّمَةِ فَيَكُونُ
مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ الْمَنْسُوخَةِ
وَالنَّاسِخَةِ أَوْ النَّاسِخَةِ فَقَطْ،
مُبَيِّنَةً أَوْ مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ
وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إنَّ آخِرَ آيَةٍ
نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ
نُزُولُ الْآيَةِ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ
الْمُبِيحَةِ وَالْمُحَرِّمَةِ، وَهُوَ مَا
يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها
لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَاتُ فِي آخِرِ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا "خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَرَّمَ
التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ" مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي
السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، عَلَى
أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
جَدَّدَ تَحْرِيمَ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ
وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلَ تَحْرِيمِهَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَأَنَّ
نُزُولَ آيَةِ الرِّبَا بَعْدَ الْأَحَادِيثِ
الْمُبِيحَةِ وَقَبْلَ الْمُحَرِّمَةِ
فَالْمُبِيحَةُ مُبَيِّنَةٌ أَوْ
ج / 10 ص -43-
مُخَصِّصَةٌ لِلْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَحِينَئِذٍ فَنَتَصَدَّى النَّظَرَ فِي أَنَّ
الْعَامَّ الْمُخَصَّصَ هَلْ أُرِيدَ بِهِ
الْقَدْرُ الْبَاقِي بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مَعَ
قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَخْرَجِ؟ أَوْ
أُرِيدَ بِهِ الْبَاقِي وَخُرُوجُ غَيْرِهِ،
وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ
مُرَادًا بِهَا تَحْرِيمَ النَّسَاءِ،
وَالْأَحَادِيثُ الْمُبَيِّنَةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ تَقْتَضِي حُكْمَيْنِ
أحدهما: تَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَهُوَ
مُوَافِقٌ لِلْآيَةِ والثاني: إبَاحَةُ
النَّقْدِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ
الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخُ
بِالسُّنَّةِ، مَعَ كَوْنِ الْآيَةِ بَاقِيَةً
عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِهَا النَّسِيئَةَ،
وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا فِيمَا عَدَاهُ
وَتَحْرِيمُ النَّقْدِ بِالسُّنَّةِ زَائِدٌ
عَلَيْهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يَأْتِي
بَحْثُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ
عَلَى النَّصِّ إذَا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ
بِهِ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ، وَالصَّوَابُ أَنَّ
ذَلِكَ لَا يَأْتِي هَاهُنَا، لِأَنَّ
إبَاحَةَ النَّقْدِ لَمْ تُفْهَمْ مِنْ
الْآيَةِ. وَهُمْ إنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ
فِيمَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَدْفَعُ
مَفْهُومَ اللَّفْظِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ
بِدَعْوَى النَّسْخِ فِي ذَلِكَ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: مِمَّا
اُدُّعِيَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَزَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ هَذَا أَنَّهُ مَعْلُولٌ،
فَيَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ. وَهَذِهِ
الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا الْحَافِظُ
أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ
لَفْظَهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي
الْمِنْهَالِ قَالَ "سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ
عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنْ
الصَّرْفِ"فَقَالَا: كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: إنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلَا
يَصْلُحُ"رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
وَعَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
بِلَفْظٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ
"بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا نَسِيئَةً إلَى
الْمَوْسِمِ أَوْ إلَى الْحَجِّ، فَجَاءَ
إلَيَّ فَأَخْبَرَنِي فَقُلْتُ: هَذَا
الْأَمْرُ لَا يَصْلُحُ قَالَ فَقَدْ بِعْتُهُ
فِي السُّوقِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ
أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ:"قَدِمَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَبِيعُ
هَذَا الْبَيْعَ فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ
نَسِيئَةً فَهُوَ رِبًا"وَأْتِ زَيْدَ بْنَ
أَرْقَمَ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ تِجَارَةً مِنِّي
فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ
ذَلِكَ"وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَمُسْلِمٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ
سُفْيَانَ وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ اللَّذَانِ
فِي الصَّحِيحِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا
وَلَا إشْكَالَ وَلَا حُجَّةَ لَمُتَعَلِّقٍ
فِيهِمَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ
عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بَيْعَ دَرَاهِمَ بِشَيْءٍ لَيْسَ
رِبَوِيًّا، وَيَكُونُ الْفَسَادُ لَأَجْلِ
التَّأْخِيرِ بِالْمَوَاسِمِ أَوْ الْحَجِّ
فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّرٍ وَلَا سِيَّمَا
عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ
والثاني: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى
اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَيَدُلُّ لَهُ
رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ
قَالَ:"سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ
وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنْ الصَّرْفِ
فَكِلَاهُمَا يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ
بِالْوَرِقِ دَيْنًا"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَفِي لَفْظِ
مُسْلِمٍ "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ
بِالذَّهَبِ دَيْنًا"فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ
الْمُرَادَ صَرْفُ الْجِنْسِ بِجِنْسٍ آخَرَ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَدِيثِ
شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ
عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ وَالرِّوَايَاتُ
الثَّلَاثُ الْأُوَلُ رِوَايَةُ
الْحُمَيْدِيِّ وَاللَّتَانِ فِي الصَّحِيحِ،
وَكُلُّهَا أَسَانِيدُهَا فِي غَايَةِ
الْجُودَةِ، وَلَكِنْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ
مِنْ الْحُمَيْدِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ
الْمَدِينِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ
وَمُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَكُلٌّ مِنْ
الْحُمَيْدِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
فِي غَايَةِ التَّثَبُّتِ.
وَيَتَرَجَّحُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ هُنَا
بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ
وَمُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ لَهُ
وَبِشَهَادَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ لِرِوَايَتِهِ،
وَشَهَادَةِ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ لِرِوَايَةِ شَيْخِهِ، وَلِأَجْلِ
ذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رحمه الله:
إنَّ
ج / 10 ص -44-
رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ بَاعَ دَرَاهِمَ
بِدَرَاهِمَ خَطَأٌ عِنْدَهُ1 فَهَذَا جَوَابُ
حَدِيثِي، وَقَدْ لَا يَجْسُرُ الْفَقِيهُ
عَلَى الْحُكْمِ لِتَخْطِئَتِهِ بِمُجَرَّدِ
ذَلِكَ. وَنَقُولُ إنَّهُ لَا مُنَافَاةَ
بَيْنَ رِوَايَاتِ عَمْرِو بْنَ دِينَارٍ،
فَإِنَّ مِنْهَا مَا أُطْلِقَ فِيهِ الصَّرْفُ
ومنها: مَا بَيَّنَ أَنَّهَا دَرَاهِمُ
بِدَرَاهِمَ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى
الْمُقَيَّدِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ
فَإِنَّ أَحَدَهُمَا بَيَّنَ مَا أَبْهَمَهُ
الْآخَرُ. وَيَكُونُ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ حَدِيثًا آخَرَ وَارِدًا فِي
الْجِنْسَيْنِ وَتَحْرِيمِ النَّسَاءِ
فِيهِمَا. وَلَا تَنَافِي فِي ذَلِكَ وَلَا
تَعَارُضَ، وَحِينَئِذٍ يُضْطَرُّ إلَى
النَّسْخِ إنْ ثَبَتَ مُوجِبُهُ أَوْ
تَرْجِيحُهُ. وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا بِأُمُورٍ
منها: أَنَّ رِوَايَةَ أَحَادِيثِ
التَّحْرِيمِ أَكْثَرُ كَمَا سَبَقَتْ
عَلَيْهِمْ. وَالْقَاعِدَةُ التَّرْجِيحُ
بِالْكَثْرَةِ. وَهَذَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا.
فَإِنَّهُ رُوِيَ تَحْرِيمُ الْفَضْلِ عَنْ
عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ وَعُبَادَةَ وَقَالَ: رِوَايَةُ
خَمْسَةٍ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ: إنَّ
الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه أَوْمَأَ فِي
مَوْضِعٍ إلَى أَنَّهُ لَا تَرْجِحَ
بِالْكَثْرَةِ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ،
وَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَوْمٌ
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا
بِالشَّهَادَةِ حَيْثُ لَمْ يُرَجَّحْ فِيهَا
بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ
اللُّمَعِ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا. ومنها: أَنَّهُمْ أَسَنُّ،
فَإِنَّ فِيهِمْ عُثْمَانَ وَعُبَادَةَ
وَغَيْرَهُمْ، مِمَّنْ هُمْ أَسَنُّ مِنْ
الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ كَمَا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أُسَامَةَ.
ومنها: بِالْحِفْظِ فَإِنَّ فِيهِمْ أَبَا
هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ وَغَيْرَهُمَا،
مِمَّنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْحِفْظِ أَكْثَرُ
مِنْ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ
فِي زَمَانِ الصِّبَا، وَهُوَ مَرْجُوحٌ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا
قُلْتُ إنَّ تَحَمُّلَ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ
فِي حَالَةِ الصِّبَا لِأَنَّهُمَا
قَالَا:"قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم2 الْمَدِينَةَ وَتَحَادُثُنَا"هَكَذَا
قَالَ وَعِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم كَانَ سِنُّ كُلٍّ مِنْهُمَا
عَشْرًا أَوْ نَحْوَهَا لِمَا ذَكَرَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ سَلَمَةَ
الْخُزَاعِيِّ أَنَّهُ رَوَى بِإِسْنَادِهِ
إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَصْغَرَهُ
يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ
وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَأَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ وَسَعِيدَ بْنَ حَبِيبَةَ
وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ. وَعَنْ
الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَوَّلَ غَزْوَةٍ
شَهِدَاهَا الْخَنْدَقُ.
وَمِنْ الْمُرَجِّحَاتِ أَيْضًا أَنَّ حَدِيثَ
الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ مُبِيحٌ، وَأَحَادِيثُ
عُبَادَةَ وَأَصْحَابِهِ مُحَرِّمَةٌ، وَإِذَا
تَعَارَضَ الْمُقَرِّرُ وَالنَّاقِلُ
فَالْمُرَجَّحُ النَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ
الْأَصْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الَّذِي
جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَسُلَيْمٌ،
لِأَنَّهُ يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا
خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْخَطِيبِ حَيْثُ قَالَ: يُقَدَّمُ
الْمُقَرِّرُ، وَإِنْ حَصَلَ التَّعَارُضُ فِي
التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ
اعْتِضَادٍ بِأَصْلٍ، فَالْمُحَرِّمُ رَاجِحٌ
عَلَى الْمُبِيحِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَوَافَقَهُمْ
الْكَرْخِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو
يَعْلَى مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ
خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نص قول البيهقي في "السنن الكبرى" جـ 5 ص
281 وروي عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن
دينار عن أبي المنهال قال: باع شريك لي
بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل (عندي) إن
هذا خطأ والصحيح ما رواه علي بن المديني ومحمد
بن حاتم وهو المراد بما أطلق في رواية ابن
جريج فيكون الخبر واردا في بيع الجنسين أحدهما
بالآخر فقال: ما كان منه يدا بيد فلا بأس، وما
كان منه نسيئة فلا وهو المراد بحديث أسامة
والله أعلم.
2 نص الحديث: قدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال:
ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا الخ.
ج / 10 ص -45-
مِنَّا
وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ
وَأَبِي هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ
الْمُتَكَلِّمِينَ، حَيْثُ قَالُوا: هُمَا
سَوَاءٌ، وَثَمَّ وُجُوهٌ أُخَرُ مِنْ
التَّرْجِيحِ لَا تَخْفَى عَنْ الْفِطَنِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْجِيحَ أَحَدِ
الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَالْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ
الْمَعْلُومُ مِنْ اسْتِقْرَاءِ أَحْوَالِ
الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ
الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالَ: يَتَعَيَّنُ
الْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ سِوَاهُمَا
أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ
الصَّوَابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ
اتَّضَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّكَ تَرَى
أَنِّي أَطَلْتُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ فَاعْلَمْ
أَنِّي مَتَى جَاءَتْ قَاعِدَةٌ مِنْ هَذِهِ
الْقَوَاعِدِ حَدَدْتُهَا1، وَأَقْوَالَ
الْأَئِمَّةِ فِيهَا وَالرَّاجِحَ مِنْهَا،
ثُمَّ إذَا عَادَ ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعٍ
آخَرَ حَمَلْتُ عَلَى الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَحْرِيمِ
رِبَا الْفَضْلِ
رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَعُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفَضَالَةَ بْنِ
عُبَيْدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَمَعْمَرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُسَيْدٍ
السَّاعِدِيِّ وَبِلَالٍ وَجَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَرُوَيْفِعٍ بْنِ ثَابِتٍ وَبُرَيْدَةَ رضي
الله عنهم أَجْمَعِينَ. أَمَّا حَدِيثُ أَبِي
بَكْرٍ رضي الله عنه فَمَشْهُورٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ
عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ:"الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَالزَّائِدُ
وَالْمُسْتَزِيدُ فِي النَّارِ"رَوَاهُ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعُبَيْدُ
بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا. وَاخْتُلِفَ
عَنْ الْكَلْبِيِّ فِيهِ فَفِي سُنَنِ أَبِي
قُرَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ
أَبِي رَافِعٍ وَالْكَلْبِيُّ ضَعِيفٌ
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِهِ وَلَمْ
يَصِحَّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه
فَرَوَاهُ أَبُو حَمْزَةَ مَيْمُونٌ
الْقَصَّابُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ،
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ،
مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى"وَأَبُو حَمْزَةَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ اضْطَرَبَ عَنْهُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي
كِتَابِ الْعِلَلِ: وَأَبُو حَمْزَةَ
مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ وَالِاضْطِرَابُ فِي
الْإِسْنَادِ مِنْ قِبَلِهِ، وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ. وأما حَدِيثُ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ فَصَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَلَفْظُهُ فِي رِوَايَتِنَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا
تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ
وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ"
وأما حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فَأَخْرُجهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ
فِي سُنَنِهِمَا، وَالْحَاكِمُ فِي
الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ جَدِّ الشَّافِعِيِّ عَنْ عُمَرَ
بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ عَنْ جَدِّهِ وَهُوَ عَلِيٌّ
رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل في العبارة تصحيفا وصوابه (حررتها) (ط).
ج / 10 ص -46-
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"الدِّينَارُ
بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ،
لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا مَنْ كَانَتْ لَهُ
حَاجَةٌ بِوَرِقٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ،
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِذَهَبٍ
فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ وَالصَّرْفُ هَا
وَهَا"وَقَالَ الْحَاكِمُ: إنَّهُ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
رضي الله عنه فَمُخَرَّجٌ فِي كُتُبِ
السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالدَّارَقُطْنِيّ
وَالْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ
لِلْحَاكِمِ، وَهَذَا لَفْظُ الْمُسْتَدْرَكِ
قَالَ سَعْدٌ:"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَنْ اشْتِرَاءِ الرُّطَبِ
بِالتَّمْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم
أَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ الرُّطَبُ يَنْقُصُ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا
يَصِحُّ هَذَا" وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ
فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا مِنْ جِهَةِ
أَنَّهُ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْفَضْلِ،
فَهَؤُلَاءِ خَمْسَةٌ مِنْ الْعَشَرَةِ
فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ.
وأما حَدِيثُ عُبَادَةَ فَهُوَ أَتَمُّ
الْأَحَادِيثِ وَأَكْمَلُهَا، وَلِذَلِكَ
جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ الْعُمْدَةَ فِي هَذَا
الْبَابِ، وَعُبَادَةُ أَسَنُّ وَأَقْدَمُ
صُحْبَةً مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ مِنْ
أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ مَعَهُ مِنْ
أَصْحَابِ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ
مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ
رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْهُ قَالَ
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ،
وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ
بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ،
وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ
بِالْمِلْحِ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ
وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ
ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى"وَهَذَا اللَّفْظُ
هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ
أَوَّلًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا
الْبَابِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ بِهَذَا
اللَّفْظِ هَكَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ
الْكُتُبِ السِّتَّةِ غَيْرُهُ، وَقَدْ
اشْتَبَهَ عَلَى ابْنِ مَعْنٍ الْمُتَكَلِّمِ
عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَنَسَبَهُ إلَى
مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ
وَنَسَبَ الثَّانِي إلَى مُسْلِمٍ وَحْدَهُ
فَأَرَدْتُ التَّنْبِيهَ عَلَى ذَلِكَ
لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ، فَإِنَّ
الْمُحَدِّثَ إذَا نَسَبَ الْحَدِيثَ إلَى
كِتَابٍ مُرَادُهُ مِنْهُ أَصْلُ الْحَدِيثِ
فَيُحْتَمَلُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا
الْفَقِيهُ فَمُرَادُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ
الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ
الْمُوَافَقَةِ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا
اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ
عُبَادَةَ قَالَ "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ
بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ،
وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ
بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ قَالَ
أَحَدُهُمَا: وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، وَلَمْ
يَقُلْهُ الْآخَرُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ،
يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ
الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ
بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ
وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ
شِئْنَا - قَالَ أَحَدُهُمَا: فَمَنْ زَادَ
أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى"وَرَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ كَذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ،
وَقَدَّمَ الْوَرِقَ عَلَى الذَّهَبِ وَبَعْضَ
قَوْلِهِ:"وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ
الذَّهَبَ" وَقَوْلِهِ:"مَنْ زَادَ أَوْ
ازْدَادَ" وَرِوَايَةُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ
هَذِهِ مُنْقَطِعَةٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ
ذَلِكَ مِنْ عُبَادَةَ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ
مِنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْهُ. وَأَمَّا
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ
وَيُقَالُ لَهُ ابْنُ هُرْمُزٍ فَمُتَّصِلَةٌ
فِيمَا أَظُنُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ
الشَّافِعِيِّ رحمه الله كَذَلِكَ مِنْ
حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَرَجُلٍ آخَرَ
عَنْ عُبَادَةَ، وَلَفْظُهُ فِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ،
وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ
بِالشَّعِيرِ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ
وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، إلَّا سَوَاءً
بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ
وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ،
وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ. وَالْبُرَّ
بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ،
وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ
بِالتَّمْرِ. يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ"قَالَ:
وَنَقَصَ أَحَدُهُمَا التَّمْرَ وَالْمِلْحَ
وَزَادَ الْآخَرُ:"فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى".
ج / 10 ص -47-
وَكَذَلِكَ رَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ
الشَّافِعِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ
حَرْفًا بِحَرْفٍ إلَّا أَنَّهُ
قَالَ:"وَزَادَ أَحَدُهُمَا: مَنْ زَادَ أَوْ
ازْدَادَ"وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
الْمَعْرِفَةِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ
عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ
مُتَّصِلًا بِلَفْظٍ قَرِيبٍ مِنْ اللَّفْظِ
الْأَوَّلِ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا
مُتَّفِقَةٌ فِي تَصْدِيرِ الْحَدِيثِ
بِالنَّهْيِ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْأَجْنَاسِ
السِّتَّةِ، وَانْفَرَدَتْ رِوَايَةُ
الشَّافِعِيِّ بِالْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ
"عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ". وَلَمْ
أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ
إلَّا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَلَا فِي
أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إلَّا فِي حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الَّذِي
تَقَدَّمَ، وَفِيهِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا.
فَهَذَا اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الَّذِي
أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ
مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُ،
وَنِعْمَ مَا فَعَلَ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِي
آخِرِهِ: اسْتَزَادَ لَيْسَ فِي مُسْلِمٍ بَلْ
فِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ
وَالنَّسَائِيَّ فِي رِوَايَةٍ مِنْ لَفْظِ
عُبَادَةَ وَإِنَّمَا جَاءَ لَفْظُ:
اسْتَزَادَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ وَلَفْظُ عُبَادَةَ ازْدَادَ. هَذَا
الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي رِوَايَتِنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِمُسْلِمٍ عَنْ عُبَادَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم
"الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ
وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ. مِثْلًا بِمِثْلٍ
سَوَاءً بِسَوَاءٍ. يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا
كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ"وَهَذَا اللَّفْظُ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا
الْفَصْلِ. لَكِنَّهُ قَدَّمَ التَّمْرَ عَلَى
الْبُرِّ وَلَمْ يَقُلْ: سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ:"مِثْلًا
بِمِثْلٍ". وَرَوَاهُ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا
اللَّفْظِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
الْأَشْعَثِ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد فِيهِ:
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدًّا بِمُدٍّ
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدًّا بِمُدٍّ،
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدًّا بِمُدٍّ،
وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدًّا بِمُدٍّ،
فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى،
وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ
وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ،
وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا، وَلَا بَأْسَ
بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ
أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا
النَّسِيئَةُ فَلَا"
وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ
"الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ
بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ
أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. بِيعُوا
الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا
بِيَدٍ وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ
شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ
بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ"قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ: وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا
الْحَدِيثَ عَنْ خَالِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ
وَقَالَ: "بِيعُوا
الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا
بِيَدٍ". وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ
عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
الْحَدِيثَ. وَزَادَ فِيهِ: قَالَ خَالِدٌ:
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ
"فَبِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ"فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَفْظُ النَّسَائِيّ قَرِيبٌ مِنْ لَفْظِ
أَبِي دَاوُد مُخْتَصَرًا وَهَذِهِ
الْأَلْفَاظُ مُشْتَرَكَةٌ فِي تَصْدِيرِ
الْحَدِيثِ بِالْإِثْبَاتِ لَا بِالنَّهْيِ
وَفِيهَا زِيَادَةُ تَصْرِيحٍ بِالْأَصْنَافِ
الْمُخْتَلِفَةِ وَعِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ
حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ عُبَادَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ: "الذَّهَبُ الْكِفَّةُ
بِالْكِفَّةِ، وَالْفِضَّةُ الْكِفَّةُ
بِالْكِفَّةِ، حَتَّى قَالَ: الْمِلْحُ
الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ" وَقَدْ رَوَى مَا
تُوُهِّمَ أَنَّ حَكِيمًا لَمْ يَسْمَعْهُ
مِنْ عُبَادَةَ، فَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْكُتُبِ
الْخَمْسَةِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا أَطَلْتُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا
الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ فَهُوَ أَتَمُّهَا وَأَحْسَنُهَا
بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ، لَا سِيَّمَا
وَهُوَ الْمَنَاظِرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي
ذَلِكَ، وَهُوَ فِي
ج / 10 ص -48-
أَصْلِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَدْ
اعْتَمَدَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله
عنه فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ
الْعَوْفِيِّ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ الَّذِي
اتَّفَقَا عَلَيْهِ مُخْتَصَرًا "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا
تَبِيعُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا
تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا
مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا بَعْضَهَا
عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا
غَائِبًا بِنَاجِزٍ"
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
"إلَّا يَدًا بِيَدٍ"
وَلَفْظُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:"كُنَّا
نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ وَهُوَ الْخِلْطُ
مِنْ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ
بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم لَا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ
وَلَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ"هُوَ
كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ
"لَا
صَاعَيْ تَمْرٍ بِصَاعٍ، وَلَا صَاعَيْ
حِنْطَةٍ بِصَاعٍ، وَلَا دِرْهَمَيْنِ
بِدِرْهَمٍ" قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ زَيْدٌ:"وَلَا صَاعَا تَمْرٍ بِصَاعٍ، وَلَا صَاعَا حِنْطَةٍ بِصَاعٍ" وَفِي
رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ "سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ
مِثْلًا بِمِثْلٍ"وَلَفْظُهُ
عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ
بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ،
فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى،
الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ" وَهُوَ أَتَمُّ أَلْفَاظِهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي
الْمُسْنَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ
أَلْفَاظِهِ عَنْ ذِكْرِ مَذْهَبِ ابْنِ
عَبَّاسٍ غَيْرُ هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ
أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله
عنهما قَدْ تَقَدَّمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
مَقْرُونًا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ
بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا
بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ
بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ
بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ
جَنِيبًا"وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم
"التَّمْرُ
بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ،
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ،
فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى،
إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ" وَفِي أُخْرَى
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ
مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ
وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ
زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا"
وَفِي
رِوَايَةٍ عِنْدَهُ قَالَ:"الدِّينَارُ
بِالدِّينَارِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا،
وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ
بَيْنَهُمَا"وَفِي
رِوَايَةٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ صَحِيحَةٍ
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقُ
بِالْوَرِقِ، وَلَا تُفَضِّلُوا بَعْضَهَا
عَلَى بَعْضٍ" وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
فَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ "نَّهُ
جَاءَهُ صَائِغٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ إنِّي أَصُوغُ الذَّهَبَ ثُمَّ
أَبِيعُ الشَّيْءَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ
مِنْ وَزْنِهِ، فَاسْتَفْضَلَ فِي ذَلِكَ
قَدْرَ عَمَلِ يَدَيْ، فَنَهَاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ
الصَّائِغُ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ
وَعَبْدُ اللَّهِ يَنْهَاهُ، حَتَّى انْتَهَى
إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى دَابَّتِهِ،
يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَهَا. ثُمَّ قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: الدِّينَارُ
بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ
لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا. هَذَا عَهْدُ
نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إلَيْنَا
وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ " هَكَذَا رَوَاهُ
مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ فَجَعَلَهُ مِنْ
مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مِنْ
جِهَتِهِ النَّسَائِيُّ فَذَكَرَهُ هَكَذَا
فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ
عُمَرَ، وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُجْتَبَى
أَيْضًا مِنْ جِهَتِهِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي
رِوَايَتِنَا عَنْهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ، وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَقَالَ:
إنَّ النَّسَائِيَّ جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ
عُمَرَ وَاَلَّذِي أَظُنُّ أَنَّ الَّذِي
وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا عَنْهُ عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ، وَأَخَذَ
بِظَاهِرِهِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ
الْأُصُولِ وَقَالَ: إنَّ النَّسَائِيَّ
جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَمْرٍو الَّذِي
أَظُنُّ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي
رِوَايَتِنَا غَلَطُ سَقْطِ ابْنِ وَكَذَلِكَ
مِنْ النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِابْنِ
الْأَثِيرِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ج / 10 ص -49-
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَقِبَ
رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ مَالِكٍ: هَذَا خَطَأٌ
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
عَنْ وَرْدَانَ الدَّوِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
فَقَالَ فِيهِ: هَذَا عَهْدُ صَاحِبِنَا
إلَيْنَا وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَعْنِي
بِصَاحِبِنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي
الله عنه قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي
الْمَعْرِفَةِ: وَهُوَ كَمَا قَالَ،
فَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ فِي ذَلِكَ مِنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، ثُمَّ
قَالَ يَعْنِي الشَّافِعِيَّ: يَجُوزُ أَنْ
يَقُولَ: هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا،
وَهُوَ يُرِيدُ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَمَا
ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا
بِمَا لَا أَسْتَحْسِنُ أَنْ أُقَابِلَهُ
بِمِثْلِهِ لِمَا أَلْزَمْتُ نَفْسِي مِنْ
الْأَدَبِ مَعَ الْعُلَمَاءِ. وَنَسَبَ
الشَّافِعِيُّ إلَى الْغَلَطِ، وَرَأَى أَنَّ
رِوَايَةَ سُفْيَانَ مُجْمَلَةٌ، وَرِوَايَةَ
مَالِكٍ مُبَيِّنَةٌ، فَيَكُونُ مُرَادُهُ
بِقَوْلِهِ صَاحِبُنَا هُوَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله، فَإِنَّ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ:"كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ،
وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا"وَلَكِنْ لِرِوَايَةِ
ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَصْلٌ فِي
تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ؛ فَإِنَّهُ رَوَى
عَنْهُ قَالَ: "كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ فَدَعَا بِلَالًا
بِتَمْرٍ عِنْدَهُ فَجَاءَ بِتَمْرٍ
أَنْكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَقَالَ: مَا هَذَا التَّمْرُ؟ قَالَ:
التَّمْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَنَا
أَبْدَلْنَاهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ. فَقَالَ:
رُدَّ عَلَيْنَا تَمْرَنَا"رَوَيْنَاهُ فِي
مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي دِهْقَانَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ شُرَحْبِيلَ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ
وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثُوا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عَيْنًا
بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ
أَرْبَى" قَالَ شُرَحْبِيلُ: "إنْ لَمْ أَكُنْ
سَمِعْتُهُ مِنْهُمْ فَأَدْخَلَنِي اللَّهُ
النَّارَ". وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ
عُمَرَ أَرْسَلَ ذَلِكَ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ
مِنْ جِهَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ
فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ: "كُنَّا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَوْمَ خَيْبَرَ نُبَايِعُ الْيَهُودَ
الْأُوقِيَّةَ الذَّهَبَ بِالدِّينَارَيْنِ
وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم"لَا
تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا
وَزْنًا بِوَزْنٍ"
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي
بَكْرَةَ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
قَالَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ،
وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلَّا سَوَاءً
بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْتَاعَ
الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا
وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ
شِئْنَا"رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَمَّا
حَدِيثُ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
فَصَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ
أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ فَقَالَ:
بِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ
الْغُلَامُ فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ
بَعْضِ صَاعٍ فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا
أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ:
لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ،
وَلَا تَأْخُذْنَ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ،
فَإِنِّي كُنْتُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ:"الطَّعَامُ
بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"وَكَانَ
طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِيرُ، قِيلَ لَهُ:
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ قَالَ: إنِّي
أَخَافُ أَنْ يُضَارَعَ" وَقَدْ ذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ الْمُسْنَدَ مِنْهُ فِي
الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ
عَلَى الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
فَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي
شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ ثنا
ج / 10 ص -50-
عُمَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ ثنا عَاصِمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ:"مَشَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ فِي حَدِيثٍ بَلَغَهُ عَنْهُ فِي
بَيَانِ الصَّرْفِ، فَأَتَاهُ فَدَخَلَ
عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ
رَافِعٌ:"سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ
عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: لَا تَشْفُوا الدِّينَارَ عَلَى الدِّينَارِ، وَلَا الدِّرْهَمَ عَلَى
الدِّرْهَمِ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا
مِنْهَا بِنَاجِزٍ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَكَ
حَتَّى يَدْخُلَ عَتَبَةَ بَابِهِ" وَأَمَّا حَدِيثُ بِلَالٍ رضي الله عنه فَرَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ
الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيِّ
وَرَوَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ أَنَا
إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ بِلَالٍ قَالَ:"كَانَ عِنْدِي
مُدُّ تَمْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَوَجَدْتُ أَطْيَبَ مِنْهُ صَاعًا
بِصَاعَيْنِ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ
مِنْ أَيْنَ
لَكَ هَذَا يَا بِلَالُ؟ قُلْتُ اشْتَرَيْتُهُ
صَاعًا بِصَاعَيْنِ. قَالَ: رُدَّهُ وَرُدَّ
عَلَيْنَا تَمْرَنَا"
وَأَمَّا حَدِيثُ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَرَوَاهُ
الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا فِي
زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
نُعْطِي الصَّاعَ مِنْ حِنْطَةٍ فِي سِتَّةِ
آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ
مِنْ الطَّعَامِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا
مِثْلًا بِمِثْلٍ"وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ
وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ نُهُوا
مِنْ الصَّرْفِ، رَفَعَهُ رَجُلَانِ مِنْهُمْ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الصَّرْفُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْفَضْلِ
فِي بَيْعِ النَّقْدِ بِمِثْلِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ، هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ
لَفْظِهِ فِيهِ إشْكَالٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ
كَرَاهَةَ الطَّعَامِ بِجِنْسِهِ إلَّا
مِثْلًا بِمِثْلٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ
الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ بِفَتْحِ الصَّادِ
عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ"مَا
وُزِنَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا
وَاحِدًا، وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ،
فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ"بِهِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ
عَنْ الرَّبِيعِ هَكَذَا وَخَالَفَهُ
جَمَاعَةٌ فَرَوَوْهُ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ
ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظٍ
غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ
فَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا فَهْدٌ
قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنَا
نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
حَسَّانَ التُّجِيبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ
حَنَشًا الصَّنْعَانِيَّ1 يُحَدِّثُ عَنْ
رُوَيْفِعِ بْنِ الْحَارِثِ فِي غَزْوَةِ
أُنَاسٍ قِبَلَ الْمَغْرِبِ يَقُولُ:"إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي
غَزْوَةِ خَيْبَرَ:
بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَبْتَاعُونَ الْمِثْقَالَ بِالنِّصْفِ
وَالثُّلُثَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ
إلَّا الْمِثْقَالُ بِالْمِثْقَالِ
وَالْوَزْنُ بِالْوَزْنِ"وَرُوَيْفِعُ
بْنُ ثَابِتٍ هَذَا أَنْصَارِيٌّ صَحَابِيٌّ،
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ
الْكَبِيرِ: يُعَدُّ فِي الْمِصْرِيِّينَ،
وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي
تَارِيخِهِ فِي الْأَنْصَارِ، وَرَوَى لَهُ
حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم
وأما حَدِيثُ بُرَيْدَةَ فَرَوَاهُ
الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ الْفَضْلُ بْنُ
حَبِيبٍ السَّرَّاجُ إلَى بُرَيْدَةَ "أَنَّ
رَسُولَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الخبر ورد في ش و ق مشوها لا يقرأ
فقومناه مقابلة على "معاني الآثار" (ط).
ج / 10 ص -51-
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَهَى تَمْرًا
فَأَرْسَلَ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَلَا أَرَاهَا
إلَّا أُمَّ سَلَمَةَ بِصَاعَيْنِ مِنْ
تَمْرٍ، فَأَتَوْا بِصَاعٍ مِنْ عَجْوَةَ،
فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
أَنْكَرَهُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا قَالُوا: بَعَثْنَا بِصَاعَيْنِ فَأَتَيْنَا
بِصَاعٍ فَقَالَ: رُدُّوهُ فَلَا حَاجَةَ لِي
فِيهِ"فَهَؤُلَاءِ مَنْ حَضَرَنِي رِوَايَاتُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي
الله عنهم عِشْرُونَ صَحَابِيًّا. وَرَوَاهُ
مُرْسَلًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ قَالَ "أَمْرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّعْدَيْنِ
يَوْمَ خَيْبَرَ أَنْ يَبِيعَا آنِيَةً مِنْ
الْمَغْنَمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ،
فَبَاعَا كُلَّ ثَلَاثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ
عَيْنًا، أَوْ كُلَّ أَرْبَعَةٍ بِثَلَاثَةٍ
عَيْنًا، فَقَالَ لَهُمَا:
أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا"رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالسَّعْدَانِ سَعْدُ بْنُ
مَالِكٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. وَرُوِيَ
أَيْضًا مُرْسَلًا بِزِيَادَةٍ عَلَى
السِّتَّةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ بْنِ
الْحَدَثَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالزَّبِيبُ
بِالزَّبِيبِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ،
وَالسَّمْنُ بِالسَّمْنِ. وَالزَّيْتُ
بِالزَّيْتِ وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ،
وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضْلَ
بَيْنَهُمَا"وَهُوَ مُرْسَلٌ وَإِسْنَادُهُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فِيهِ رَجُلٌ
وَضَّاعٌ وَآخَرُ مَجْهُولٌ.
فَهَذِهِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا،
مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ أَبِي
سَعِيدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَفِي مُسْلِمٍ
وَحْدَهُ حَدِيثُ عُبَادَةَ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وَفَضَالَةَ، وَعَلَى الْخَمْسَةِ الْأُوَلِ
اقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه ومنها:
خَارِجُ الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ صَحِيحُ
حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ
وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. وَفِي بَقِيَّةِ ذَلِكَ مَا
يُنْظَرُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ الثَّانِي
تَحْرِيمُ النَّسِيئَةِ وَهُوَ حَرَامٌ فِي
الْجِنْسِ، وَالْجِنْسَيْنِ إذَا كَانَ
الْعِوَضَانِ جَمِيعًا مِنْ أَمْوَالِ
الرِّبَا كَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ،
وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْحِنْطَةِ
بِالْحِنْطَةِ، وَالْحِنْطَةِ بِالتَّمْرِ،
وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَمِمَّنْ نَقَلَ
الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ صَرِيحًا الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ عَدَمَ
الْخِلَافِ فِيهِ فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ
بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ مَرَاتِبِ
الْإِجْمَاعِ: وَاتَّفَقُوا أَنَّ بَيْعَ
الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
نَسِيئَةً حَرَامٌ، وَأَنَّ بَيْعَ الْفِضَّةِ
بِالْفِضَّةِ نَسِيئَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
حَرَامٌ إلَّا أَنَّا وَجَدْنَا لِعَلِيٍّ رضي
الله عنه أَنَّهُ بَاعَ مِنْ عَمْرِو بْنِ
حُرَيْثٍ جُبَّةً مَنْسُوجَةً بِالذَّهَبِ
بِذَهَبٍ إلَى أَجَلٍ، وَأَنَّ عَمْرًا
أَحْرَقَهَا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مِنْ
الذَّهَبِ أَكْثَرَ مِمَّا ابْتَاعَهَا بِهِ،
وَوَجَدْنَا لِلْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ
صَاحِبِ مَالِكٍ أَنَّ دِينَارًا وَثَوْبًا
بِدِينَارَيْنِ أَحَدُهُمَا نَقْدًا
وَالْآخَرُ نَسِيئَةً جَائِزٌ، وَاتَّفَقُوا
أَنَّ بَيْعَ الْقَمْحِ بِالْقَمْحِ نَسِيئَةً
حَرَامٌ، وَأَنَّ بَيْعَ الشَّعِيرِ
بِالشَّعِيرِ كَذَلِكَ نَسِيئَةً حَرَامٌ،
وَأَنَّ بَيْعَ الْمِلْحِ بِالْمِلْحِ
نَسِيئَةً حَرَامٌ، وَأَنَّ بَيْعَ التَّمْرِ
بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً حَرَامٌ ا هـ كَلَامُ
ابْنِ حَزْمٍ.
وَقَدْ رَأَيْتُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي
أَشَارَ إلَيْهَا عَنْ الْمُغِيرَةِ
الْمَخْزُومِيِّ فِي تَعْلِيقَةِ أَبِي
إِسْحَاقَ التُّونِسِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ
وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ،
وَلَعَلَّ لَهُ تَأْوِيلًا أَوْ وَقَعَ وَهْمٌ
فِي النَّقْلِ. وَمِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى
التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ
الْمُتَقَدِّمَةُ كَحَدِيثِ أُسَامَةَ
وَحَدِيثِ الْبَرَاءِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
أَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ فَقَوْلُهُ
"إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ"إنْ
جَعَلْنَاهُ مَنْسُوخًا فَالْمَنْسُوخُ مِنْهُ
الْحَصْرُ
ج / 10 ص -52-
خَاصَّةً، كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي "إنَّمَا
الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ"فَإِنَّ الْحُكْمَ
بِالْإِثْبَاتِ مُسْتَمِرٌّ لَمْ يُنْسَخْ،
وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ
عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَيَكُونُ
دَالًّا عَلَى تَحْرِيمِ النَّسَاءِ فِي
الْجِنْسَيْنِ، وَفِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ
بِطَرِيقٍ أَوْلَى، لِأَنَّ تَحْرِيمَ
النَّسَاءِ آكَدُ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِهِ فِي
الْجِنْسَيْنِ، فَإِذَا حُرِّمَ التَّفَاضُلُ
فَالنَّسَاءُ أَوْلَى وَإِنْ حَمَلْنَاهُ
عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ وَهُوَ بَيْعُ
الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَلَا تَبْقَى فِيهِ
دَلَالَةٌ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ وَزَيْدٍ
صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ
بِالْوَرِقِ دَيْنًا، فَفِي الْجِنْسِ
الْوَاحِدِ أَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ "وَلَا تَبِيعُوا
مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ"وَهَذَا صَرِيحٌ
فِي مَنْعِ الْأَجَلِ فِي الْجِنْسِ
الْوَاحِدِ، بَلْ عُمُومُهُ شَامِلٌ لِكُلِّ
الْمَذْكُورِ، سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا أَوْ
جِنْسَيْنِ. وَقَدْ أُخِذَ هَذَا الْحُكْمُ
أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"هَا وَهَا"إمَّا لِأَنَّ اللَّفْظَةَ
تَقْتَضِي ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَإِمَّا
لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّقَابُضَ، وَمِنْ
ضَرُورَتِهِ الْحُلُولُ غَالِبًا. وَأَمَّا
فَرْضُ أَجَلٍ يَسِيرٍ يَنْقَضِي فِي
الْمَجْلِسِ فَنَادِرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ
وَمَنَعَ الْمَاوَرْدِيُّ أَخْذَهُ مِنْ
هَذَا. وَقَالَ هُوَ وَالْغَزَالِيُّ: إنَّهُ
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: عَيْنًا بِعَيْنٍ.
إذْ الْعَيْنُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَجَلُ
وَلَا يُمْكِنُهُمَا الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَى
هَذَا الِاسْتِدْلَالِ. لِأَنَّهُمَا
وَجَمِيعَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ
التَّعْيِينَ بَلْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَرِدَ
عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ كَمَا
سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
لَكِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنْ غَلَبَ إطْلَاقُ
الدَّيْنِيَّةِ فِي الْأَجَلِ
وَالْعَيْنِيَّةِ فِي مُقَابِلِهِ. وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا. وَفِي تَسْلِيمِ
هَذِهِ الْغَلَبَةِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ
تَحْرِيمُ التَّفَرُّقِ قَبْلَ
التَّقَابُضِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ رِبَا الْيَدِ
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ
وَالْجِنْسَانِ، أَمَّا فِي الذَّهَبِ
وَالْوَرِقِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ
فِيهِ. عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ:
أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ
أَنْ يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ:
جَوَّزَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ
التَّفَرُّقَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْأَحَادِيثِ
وَالْإِجْمَاعِ. وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ
الْحَدِيثُ وَلَوْ بَلَغَهُ لَمَا خَالَفَهُ.
وَأَمَّا الطَّعَامُ فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ
أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَقَالَ: إنَّهُ
إذَا بَاعَ الطَّعَامَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ
وَافْتَرَقَا مِنْ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ
تَقَابَضَا بَعْدُ، لَمْ يَضُرَّ الْعَقْدَ،
إلَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ جُزْءًا مُشَاعًا
مِنْ صُبْرَةٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الصَّرْفِ.
وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ التَّقَابُضُ
عِنْدَهُ مِنْ قَاعِدَةِ الرِّبَا فِي شَيْءٍ،
لَا فِي الصَّرْفِ وَلَا فِي الطَّعَامِ
وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ فِي الصَّرْفِ لِأَجْلِ
التَّعْيِينِ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ
الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ
بِالْقَبْضِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ
الْقَبْضِ لَصَارَ دَيْنًا وَلَكَانَ فِي
ذَلِكَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ
وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ
فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَغَيْرِهَا،
وَيَجْعَلُونَ قَوْلَهُ: يَدًا بِيَدٍ
لِمَنْعِ النَّسَاءِ، وَقَوْلَهُ: عَيْنًا
بِعَيْنٍ تَأْكِيدًا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ
أَصْحَابُنَا، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا
احْتِمَالٌ يُتْرَكُ بِهِ الظَّاهِرُ إذَا
تَأَيَّدَ بِدَلِيلٍ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ
الْكِتَابُ وَالْقِيَاسُ.
أما الْكِتَابُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي
الْآيَةِ هُوَ الرِّبَا، وَالرِّبَا هُوَ
الزِّيَادَةُ، وَذَلِكَ إمَّا فِي
الْمِقْدَارِ، وَإِمَّا فِي الْمِيعَادِ
لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ النَّسَاءُ أَوْ
الْجَوْدَةُ، أَمَّا فِي الْجَوْدَةِ فَقَدْ
أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ حَيْثُ قَالَ:
جَيِّدُهَا
ج / 10 ص -53-
وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ، رَوَاهُ1 وَلِسُقُوطِ
قِيمَتِهَا تَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ وَفِي
هَذَا بَنَوْا أَنَّ مَنْ فَوَّتَ جَوْدَةَ
الْحِنْطَةِ لَا يَضْمَنُهَا عَلَى حَالِهَا
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ لِأَنَّ
قِيمَةَ الْجَوْدَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
سَاقِطَةٌ بِزَعْمِهِمْ عَلَى خِلَافِ
الْقِيَاسِ، وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمِقْدَارِ
أَوْ فِي الْمِيعَادِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ
هُوَ الرِّبَا فَلَيْسَ التَّقَابُضُ مِنْ
الرِّبَا فِي شَيْءٍ، إذْ قِيمَةُ
الْمَقْبُوضِ بَعْدَ كَوْنِهِ نَقْدًا
كَقِيمَةِ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فِي
الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ قِيمَةِ الْمُؤَجَّلِ
فَإِنَّهُ يُخَالِفُ قِيمَةَ الْحَالِ، فَلَوْ
حُرِّمَ تَرْكُ التَّقَابُضِ بِحُكْمِ
الرِّبَا لَكَانَ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ
مُوجِبٌ لِلْعَقْدِ إذْ بِالْعَقْدِ يَجِبُ
الْإِقْبَاضُ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ؟
لِأَنَّ حَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يَقْتَرِنَ
بِالْعَقْدِ فَالْوَاجِبُ التَّعْيِينُ فَقَطْ
لَا الْقَبْضُ. وَوَجْهُ الْكِنَايَةِ عَنْ
هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: يَدًا بِيَدٍ
أَنَّ الْيَدَ آلَةُ الْإِحْضَارِ
وَالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ، كَمَا
أَنَّهَا آلَةُ الْقَبْضِ، فَكَمَا يُكَنَّى
بِهَا عَنْ الْقَبْضِ يَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى
بِهَا عَنْ التَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَ
الْمَعْنَى مُحْتَمَلًا وَتَأَيَّدَ بِدَلِيلٍ
فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ. فَالتَّعْيِينُ
هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَفِي
السَّلَمِ أَيْضًا، فَإِذَا أَسْلَمَ
دَرَاهِمَ فِي حِنْطَةٍ وَجَبَ إقْبَاضُ
الدَّرَاهِمِ لِيَتَعَيَّنَ، فَلَا يَكُونُ
بَيْعَ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَالْأَصْلُ
فِي السَّلَمِ أَنْ يَجْرِيَ بِالْأَثْمَانِ،
فَيَكُونَ الثَّمَنُ مُسْلَمًا فِيهِ وَهُوَ
دَيْنٌ، وَالثَّمَنُ رَأْسُ الْمَالِ وَهُوَ
دَيْنٌ، فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ، ثُمَّ لَمَّا
عَسُرَ عَلَى الْعَوَامّ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ
مَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ وَمَا لَا يَجِبُ،
أَوْجَبَ الشَّرْعُ الْقَبْضَ فِي رَأْسِ
الْمَالِ مُطْلَقًا بِاسْمِ السَّلَمِ،
وَأَوْجَبَ فِي الْأَثْمَانِ بِاسْمِ
الصَّرْفِ تَيْسِيرًا لِمُرَادِهِمْ،
وَتَحْقِيقًا لِلْغَرَضِ، قَالُوا: وَلَوْ
كَانَ الْمُرَادُ التَّقَابُضَ لَقَالَ يَدًا
مِنْ يَدٍ، فَلَمَّا قَالَ: يَدًا بِيَدٍ
كَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ عَيْنًا بِعَيْنٍ.
والجواب عَنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ
التَّقَابُضُ فِي الصَّرْفِ لِلْخَلَاصِ عَنْ
بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ لَوَقَعَ
الِاكْتِفَاءُ بِالْقَبْضِ فِي أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ بَيْعَ الْعَيْنِ
بِالدَّيْنِ جَائِزٌ كَمَا فِي السَّلَمِ،
فَوُجُوبُهُ فِي الْجَانِبَيْنِ لَا مُسْنَدَ
لَهُ إلَّا الْحَدِيثُ فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ
فَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهِمَاقلت: الْوُجُوبُ
عِنْدَهُمْ هُنَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ
يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَلْ
مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحْصُلْ
انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَتَعْلِيقُ انْفِسَاخِ
الْعَقْدِ عَلَى عَدَمِ قَبْضِ أَحَدِهِمَا
غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَقَدْ تَمَسَّكُوا فِي
الْوُجُوبِ فِيهِمَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ
الْعِوَضَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
التَّسْوِيَةُ لِحَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
فَيَنْبَغِي إذَا أَسْقَطَاهَا أَنْ يَسْقُطَ
وَأَنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ بِمَا إذَا بَاعَ
دِرْهَمًا بِثَوْبَيْنِ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ
عَلَى قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ مَعَ
فُقْدَانِ التَّسْوِيَةِ.
وأما قَوْلُهُمْ إنَّ "عَيْنًا
بِعَيْنٍ"تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: يَدًا بِيَدٍ
فَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ جَمَعَ
بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ
يَكُونَ "عَيْنًا بِعَيْنٍ"مُتَأَخِّرًا
حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا
وَهُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَفِي لَفْظِ الْمُسْتَدْرَكِ
بِتَقْدِيمِ "يَدًا بِيَدٍ "عَلَى "عَيْنًا
بِعَيْنٍ".
وأما فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ فَلَمْ أَقِفْ
عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ
وَفِيهَا تَقْدِيمُ قَوْلِهِ: عَيْنًا
بِعَيْنٍ عَلَى: يَدًا بِيَدٍ. وَالْمُؤَكِّدُ
لَا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْمُؤَكَّدِ
فَإِنْ جَعَلُوا يَدًا بِيَدٍ تَأْكِيدًا
فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى تِلْمِيذُ
الْغَزَالِيِّ حَيْثُ سَبَقَ قَوْلُهُ:
عَيْنًا بِعَيْنٍ يَمْنَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ
فَإِنَّ الصَّرِيحَ فِي مَعْنًى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر، قلت: رواه الشافعي وهو
بالمعنى في رواية مسلم وغيره. (المطيعي)
ج / 10 ص -54-
يَسْتَغْنِي عَنْ التَّأْكِيدِ بِمُحْتَمَلٍ،
كَيْفَ وَتَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى
فَائِدَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى
وَاحِدَةٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْيَدَ آلَةٌ
لِلتَّعْيِينِ كَمَا هِيَ آلَةٌ لِلْإِقْبَاضِ
فَالْجَوَابُ أَنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ
لِلْإِقْبَاضِ.
وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَيُشَارِكُهَا فِيهِ
الْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ
كَذَلِكَ لَقَالَ: يَدًا مِنْ يَدٍ لَيْسَ
بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَدًا بِيَدٍ
مَعْنَاهُ مَقْبُوضًا بِمَقْبُوضٍ فَعَبَّرَ
بِالْيَدِ عَنْ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهَا
إلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ
الْفَاعِلِيِّ عَنْ الْمُسَبَّبِ،
وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ حَالَ
كَوْنِهِ مَقْبُوضًا بِمَقْبُوضٍ وَالْبَاءُ
لِلسَّبَبِيَّةِ، فَيَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ
الْقَبْضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ قَالَ
مِنْ يَدٍ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ، ثُمَّ
اشْتَهَرَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ
حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً حَيْثُ أُطْلِقَ "يَدًا
بِيَدٍ ". لَا يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ
غَيْرُ التَّقَابُضِ وَقَدْ اعْتَضَدَ
أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْمَعْنَى.
أَمَّا الْأَثَرُ فَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله
عنه مَعَ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ وَطَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ لَمَّا تَصَارَفَا،
وَقَوْلُهُ: لَا تُفَارِقْهُ فَقَدْ نَهَى
عُمَرُ مَالِكًا عَنْ مُفَارَقَةِ طَلْحَةَ
حَتَّى يَقْبِضَ مِنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "إلَّا
هَا وَهَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ
مِنْهُ التَّقَابُضَ لَا مُجَرَّدَ
الْحُلُولِ. وَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ
قَاعِدَةِ الرِّبَا لَا مِنْ قَاعِدَةِ
التَّعْيِينِ وَبَيْعِ الْكَالِئِ
بِالْكَالِئِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ سَيَأْتِي
مُسْتَوْفًى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفَهْمُ الرَّاوِي أَوْلَى مِنْ فَهْمِ
غَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا مِثْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَلَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا بَعْدَ تَسْلِيمِ الِاحْتِجَاجِ
بِمِثْلِ خِلَافِ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ تَرْكَ
التَّقَابُضِ رِبًا، لِأَنَّ الرِّبَا
عِبَارَةٌ عَنْ الْفَضْلِ الْمُطْلَقِ.
وَالْفَضْلُ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
يَكُونُ قَدْرًا فِي الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ.
وَنَقْدًا فِي الْعَيْنِ بِالنَّسَاءِ.
وَقَبْضًا فِي الْمَقْبُوضِ وَغَيْرِ
الْمَقْبُوضِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: بَلْ
الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ الْيَدُ فَوْقَ
الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَيْنِيَّةُ.
لِأَنَّ الْأَعْيَانَ إنَّمَا تُطْلَبُ
لِيُتَوَصَّلَ إلَيْهَا بِالْأَيْدِي،
وَلِأَنَّ الْيَدَ تُقْصَدُ بِنَفْسِهَا فِي
كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ، وَالْعَيْنِيَّةَ
لَا تُقْصَدُ بِنَفْسِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ
أَنَّهُ رِبًا فَيَجِبُ التَّقَابُضُ نَفْيًا
لِلرِّبَا. وَمَتَى جَازَ تَأْخِيرُ أَحَدِ
الْعِوَضَيْنِ أَمْكَنَ الرِّبَا فَلَا
يُؤْمَنُ ذَلِكَ إلَّا بِإِيجَابِ
التَّقَابُضِ فِيهِمَا. وَهَذَا مُلَخَّصُ
سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ
السَّمْعَانِيِّ رحمه الله. وَسَيَأْتِي
الْقَوْلُ فِي تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ1
الَّذِي جَعَلُوا بِنَاءَ كَلَامِهِمْ
عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ
مُوَافِقُونَ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ،
يَشْتَرِطُونَ التَّقَابُضَ فِي بَيْعِ
الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ كَمَا هُوَ فِي
الصَّرْفِ، وَقَدْ أَطَالَ كُلٌّ مِنْ
الْفَرِيقَيْنِ الْحَنَفِيَّةِ
وَمُقَابِلِيهِمْ مِنْ أَصْحَابِنَا
وَغَيْرِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ
وَالْإِلْزَامَاتِ بِمَا لَمْ أَرَ تَطْوِيلَ
الْكِتَابِ بِذِكْرِهِ. وَعُمْدَةُ
الْحَنَفِيَّةِ فِي الْجَوَابِ مَبْنِيٌّ
عَلَى أَنَّ الْأَثْمَانَ لَا يَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي
ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَتَى
لَمْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْأَصْلُ
انْحَلَّ كَلَامُهُمْ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ بِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى
اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ،
وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فَرْقٌ، بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الطَّعَامِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني تقويم عين السلعة بالثمن.
ج / 10 ص -55-
فَائِدَةٌ
قَالَ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ - رحمه الله:
فَتَحَصَّلَ فِي الْقَبْضِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ،
مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ
بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّرْفُ، وَمَا لَا
يُعْتَبَرُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ
بَيْعُ الْمَطْعُومِ بِنَقْدٍ، وَمُخْتَلَفٌ
فِيهِ، وَهُوَ الْمَطْعُومُ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ.
الْحُكْمُ الرَّابِعُ
جَوَازُ التَّفَاضُلِ عِنْدَ اخْتِلَافِ
الْجِنْسِ مَعَ تَحْرِيمِ النَّسَاءِ
وَالتَّفَرُّقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ وَلَا
خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُفَاضَلَةِ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لِلْأَحَادِيثِ
الصَّرِيحَةِ السَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ
تَحْرِيمُ النَّسَاءِ عِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي
عِلَّةِ الرِّبَا كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا فِي
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَبِالْإِجْمَاعِ،
وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَبِإِجْمَاعِ
الْقِيَاسَيْنِ، وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ
التَّقَابُضِ حَرَامٌ كَذَلِكَ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ.
خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِيمَا عَدَا
الصَّرْفَ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَقَدْ مَضَى
الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَمَضَتْ الْأَحَادِيثُ
الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّقَابُضِ
عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَأَمَّا
الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ
التَّقَابُضِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَاتِّحَادِهِ فَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه
وَهُوَ حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ،
خَرَّجَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ فِي كُتُبِهِمْ وَهَذَا لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ "عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ
أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ
قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ فَتَزَاوَدْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ
مِنِّي وَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي
يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي
مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رضي الله عنه يَسْمَعُ فَقَالَ عُمَرُ رضي
الله عنه وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى
تَأْخُذَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هَا وَهَا، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ
رِبًا إلَّا هَا وَهَا، وَالتَّمْرُ
بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَا وَهَا
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَا
وَهَا"وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ قَالَ
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ فَذَكَرَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عُمَرُ: "وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَرُدَّنَّ إلَيْهِ
ذَهَبَهُ، أَوْ لَيَنْقُدَنَّهُ
وَرِقَهُ"يَقُولُ عُمَرُ ذَلِكَ لِمَالِكِ
بْنِ أَوْسٍ. وَفِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ "هَذَا
أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فِي هَذَا. يَعْنِي فِي
الصَّرْفِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ "الْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا
إلَّا هَا وَهَا، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ
رِبًا إلَّا هَا وَهَا"فَرَوَاهَا ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ
أَوْسٍ وَأَسَانِيدُ الرِّوَايَاتِ
الْمُتَقَدِّمَةِ أَصَحُّ وَهِيَ فِي صَرْفِ
النَّقْدِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ "لَا
تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا
مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ
بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا
تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالذَّهَبِ أَحَدُهُمَا
غَائِبٌ وَالْآخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنْ
اسْتَنْظَرَكَ حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا
تُنْظِرْهُ إلَّا يَدًا بِيَدٍ هَاتِ وَهَذَا،
إنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الرِّبَا".
وَمِمَّا هُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي
الصَّرْفِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:"كُنْتُ
أَبِيعُ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ أَوْ
الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ
بِذَلِكَ فَقَالَ"صلى الله عليه وسلم
إذَا بَايَعْتَ صَاحِبَكَ فَلَا تُفَارِقْهُ
وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ"لَفْظُ النَّسَائِيّ. وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ
سِمَاكٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُرْوَى بِلَفْظٍ فِي
أَخْذِ الْبَدَلِ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ.
ج / 10 ص -56-
الْحُكْمُ الْخَامِسُ
إنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ،
فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ
مُتَفَاضِلًا. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: وَالثَّوْرِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد، وَهُوَ
مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ،
وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ بِهِ
مِنْ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَعُبَادَةُ
بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
وَخَالَفَ مَالِكٌ رحمه الله
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ
بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَبِهِ
قَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ
وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ
بِلَالٍ، وَرُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ
الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ
الشَّامِ. وَدَلِيلُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ
قَالَ:"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم
التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ
بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ
وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ
يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ
فَقَدْ أَرْبَى إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ
أَلْوَانُهُ"
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ: "فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ
الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا
كَانَ يَدًا بِيَدٍ"وَأَيْضًا فَإِنَّهُ نَصَّ
عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَأَفْرَدَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمٍ، وَإِنَّمَا
قَصَدَ الْأَجْنَاسَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْبُرَّ جِنْسٌ وَالشَّعِيرَ جِنْسٌ
وَيَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ
"فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ"وَمِنْ
رِوَايَةِ النَّسَائِيّ "وَأُمِرْنَا أَنْ
نَبِيعَ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ
بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ
وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ
شِئْنَا"وَهَذَا نَصٌّ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ
تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ وَفِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد
"وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ
وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا، يَدًا
بِيَدٍ"وَأَمَّا النَّسِيئَةُ وَكَذَلِكَ
عِنْدَ النَّسَائِيّ: "وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ
الشَّعِيرِ بِالْحِنْطَةِ يَدًا بِيَدٍ
وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا"رَوَاهُ مِنْ
طَرِيقَيْنِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثَةٍ إلَى
عُبَادَةَ أَيْضًا فَقَالَ فِي آخِرِ
حَدِيثِهِ: "وَأُمِرْنَا أَنْ نَبِيعَ
الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ
بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ
وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ. يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ
شِئْنَا"وَكُلُّ هَذِهِ الطُّرُقِ تَرْجِعُ
إلَى مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عُبَادَةَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مُسْلِمَ
بْنَ يَسَارٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الْأَشْعَثِ
عَنْ عُبَادَةَ، لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ فِي
جَامِعِهِ ذَكَرَ اخْتِلَافًا فِي هَذِهِ
اللَّفْظَةِ فَذَكَرَ أَوَّلًا بِإِسْنَادِهِ
مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ
أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ
عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ فِيهِ: "وَبِيعُوا
الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا
بِيَدٍ"ثُمَّ قَالَ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ
رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ
خَالِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ:
"بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ
شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ". وَرَوَى بَعْضُهُمْ
هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ
عَنْ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ قَالَ خَالِدٌ:
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بِيعُوا الْبُرَّ
بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ انْتَهَى كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ
فَقَدْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ هَلْ الْمَذْكُورُ فِي
مُقَابَلَةِ الشَّعِيرِ التَّمْرُ أَوْ
الْبُرُّ؟ فَإِنْ كَانَ التَّمْرَ فَلَا
دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ
لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهِ، وَأَنَّهُمَا
جِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ الْبُرَّ
فَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، هَلْ هَذَا
مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَوْ مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ
أَبِي قِلَابَةَ؟ كَمَا ذَكَرَهُ
التِّرْمِذِيُّ فِي الرِّوَايَةِ
الْأَخِيرَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْ نَحْوِهِ قَالَ
أَبُو بَكْرٍ
ج / 10 ص -57-
الْأَبْهَرِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي
شَرْحِ كِتَابِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: إنَّ
قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ:"بِيعُوا
الشَّعِيرَ بِالْحِنْطَةِ كَيْفَ شِئْتُمْ"
لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَى
صِحَّتِهِ، وَلَا يَلْزَمُنَا حُجَّةٌ بِهِ،
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ مِنْ
الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا فِي مُخْتَصَرِهِ
لِكِتَابِ الطَّحَاوِيِّ: إنَّ قَوْلَهُ:"بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ"زِيَادَةٌ
لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا جَمِيعُ الرُّوَاةِ،
فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ
قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
"فَإِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ"
وَالْجَوَابُ عَنْ
هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ
عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَرِوَايَةُ
التَّمْرِ بَدَلَ الْبُرِّ وَرَدَتْ عَنْهُ
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَلَمْ
يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْهُ، وَقَدْ
انْفَرَدَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْكُتُبِ
الْخَمْسَةِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ
سُفْيَانَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَشْجَعِيِّ
عَنْهُ: "الْبُرُّ بِالشَّعِيرِ". رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ.
وَكَذَلِكَ رَأَيْتُهُ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ
بْنِ بِشْرٍ الدُّولَابِيِّ مِنْ رِوَايَةِ
عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ
الْعَدَنِيُّ عَنْ سُفْيَانَ وَقَالَ فِيهِ:"بِيعُوا
الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ،
وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ مِثْلَ ذَلِكَ "قَالَ سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ ثنا فَزَالَتْ شُبْهَةُ التَّدْلِيسِ.
وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ سُفْيَانَ فَلَمْ
يَذْكُرُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ اللَّفْظَيْنِ
مِثْلُ أَبِي قُرَّةَ مُوسَى بْنِ طَارِقٍ
رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ
فِيهِ: وَالْمِلْحُ بِالتَّمْرِ، وَلَمْ
يَذْكُرْ بُرًّا وَلَا شَعِيرًا فِيهِ،
فَإِذَا نَظَرْتَ مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مَعَ
مَا ذَكَرْتُهُ عَنْ الدُّولَابِيِّ
وَالْبَيْهَقِيِّ عَلِمْتَ أَنَّ الْخِلَافَ
وَقَعَ عَلَى سُفْيَانَ، وَالرَّاجِحُ عَنْهُ
رِوَايَةُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ، لِأَنَّ
الْأَشْجَعِيَّ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِيهِ
وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْوَلِيدِ وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ. فَهَذَا
مَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ عَلَى خَالِدٍ،
يُوهِنُ رِوَايَةَ "التَّمْرَ
بِالشَّعِيرِ"وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ رُجْحَانٌ
فِي الْخِلَافِ عَلَى سُفْيَانَ وَلَا عَلَى
خَالِدٍ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ
الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِ رِوَايَاتِ خَالِدٍ.
وَقَدْ رَأَيْنَا غَيْرَ خَالِدٍ مِثْلُ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
يَسَارٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ
وَمِثْلُ قَتَادَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ رَوَيَا
خِلَافَ مَا رُوِيَ عَنْ خَالِدٍ، وَقَالَا
"الشَّعِيرَ بِالْبُرِّ "وَفِي حَدِيثِ ابْنِ
سِيرِينَ "وَأُمِرْنَا أَنْ نَبِيعَ الذَّهَبَ
بِالْوَرِقِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ
وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ
شِئْنَا".
وَقَوْلُهُ: أُمِرْنَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ
الْآمِرَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لَا عُبَادَةُ فَلَا وَجْهَ لِتَحَمُّلِ
الْإِدْرَاجِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ
بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى
التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ عَلَى خَالِدٍ،
وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِمَا فِي الصَّحِيحِ
مِنْ قَوْلِهِ:"إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ
أَلْوَانُهُ"فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه فَإِنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ أَنَّ
التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَالشَّعِيرَ
بِالشَّعِيرِ يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا إذَا
اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ، صَدَّنَا عَنْ
ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ، فَتَبْقَى
فِي الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ عَلَى مُقْتَضَى
الدَّلِيلِ، وَبِقَوْلِهِ
"إذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ".
وَاَلَّذِي عَوَّلَتْ الْمَالِكِيَّةُ
عَلَيْهِ أَمْرَانِ أحدهما: مَا رُوِيَ عَنْ
مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّهُ
أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ:
بِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ
الْغُلَامُ فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ
بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا
أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ
لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرَدَّهُ
وَلَا تَأْخُذْ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ،
فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ:"الطَّعَامُ
بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"وَكَانَ
طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ، قِيلَ:
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ قَالَ: إنِّي
أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ،
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
بَلَغَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ
ج / 10 ص -58-
قَالَ:"فَنَى عَلَفُ دَابَّةِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ: خُذْ
مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ فَابْتَعْ بِهَا
شَعِيرًا، وَلَا تَأْخُذْ إلَّا بِمِثْلِهِ
"وَهَذَا الْأَثَرُ مُنْقَطِعٌ فِي
الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَوْصُولًا عَنْ
شَبَّابَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارَ. وَرَوَى زَيْدٌ
أَبُو عَيَّاشٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ
أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ الْبَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
قَالَ الْبَيْضَاءُ فَنَهَاهُ عَنْ
ذَلِكَ"وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْ شَرْيِ
التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَنْقُصُ
الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ
فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ"أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد وَغَيْرُهُ مِمَّا رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْبَيْضَاءُ
وَالشَّعِيرُ مَعْرُوفٌ ذَلِكَ عِنْدَ
الْعَرَبِ بِالْحِجَازِ، كَمَا أَنَّ
السَّمْرَاءَ عِنْدَهُمْ الْبُرُّ، قَالَ
مَالِكٌ وَبَلَغَنِي عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ
مِثْلُ ذَلِكَ هَكَذَا هُوَ فِي مُوَطَّأِ
الْعَقَبِيِّ عَنْ مُعَيْقِيبٍ وَفِي
مُوَطَّأِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ
مُعَيْقِيبٍ وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ
نَافِعٍ إنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ فَنَى عَلَفُ دَابَّةِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ
عَبْدِ يَغُوثَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ:"خُذْ
مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ طَعَامًا فَابْتَعْ
بِهِ شَعِيرًا وَلَا تَأْخُذْ إلَّا مِثْلَهُ"
وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامًا لَهُ بِصَاعٍ مِنْ
بُرٍّ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ صَاعًا مِنْ
شَعِيرٍ، وَزَجَرَهُ إنْ زَادَ أَوْ
يَزْدَادَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى
مُعَيْقِيبًا وَمَعَهُ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ
وَقَدْ اسْتَبْدَلَهُ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ،
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه "لَا
يَحِلُّ لَكَ إنَّمَا الْحَبُّ مُدٌّ بِمُدٍّ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ"
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَاحْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ عُمَرُ رَأَى الْحُبُوبَ كُلَّهَا
صِنْفًا وَاحِدًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ
الْبُرُّ عِنْدَهُ وَالشَّعِيرُ فَقَطْ
صِنْفًا وَاحِدًا، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ وَمَعْمَرٌ وَمُعَيْقِيبٌ
الدَّوْسِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُوَ مِنْ
كِبَارِ التَّابِعِينَ مَنَعُوا التَّفَاضُلَ
بَيْنَهُمَا، مَعَ ظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا
بِمِثْلٍ"فَهَذَا وَجْهٌ مِنْ التَّمَسُّكِ
بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مُغْنٍ عَنْ تَحْقِيقِ
كَوْنِهَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ.
والثاني: إثْبَاتُ
كَوْنِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا بِالنَّظَرِ
فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّقَارُبِ،
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَ التَّفَاضُلُ
بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَشْمَلْهُمَا مَنْطُوقُ
قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَلْ يَكُونُ مَفْهُومُهُ مَانِعًا مِنْ التَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا
عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا جِنْسًا،
قَالُوا: لِأَنَّ تَقَارُبَ الْأَغْرَاضِ
وَالْمَنَافِعِ فِي الشَّيْءِ يُصَيِّرُهُ
كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ
اتِّفَاقِهِمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالْعَلَسِ1،
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُمَا
وَأَجْنَاسُهُمَا وَمَا بَيْنَ الْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ مِنْ التَّقَارُبِ أَشَدُّ
مِمَّا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَلَسِ هَذَا
مَعَ اتِّفَاقِ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فِي
الْمَنْبَتِ وَالْمَحْصَدِ، وَأَنَّ
أَحَدَهُمَا لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْ
الْآخَرِ فَلَوْلَا أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ
لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْبُرِّ وَفِيهِ شَيْءٌ
مِنْ الشَّعِيرِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
تَفَاوُتِهِمَا فَهُمَا نَوْعَانِ لِجِنْسٍ
وَاحِدٍ كَالْحِنْطَةِ الْحَمْرَاءِ مَعَ
السَّمْرَاءِ وَالِاعْتِبَارُ فِي
الْجِنْسِيَّةِ مَعَ التَّقَارُبِ فِي
الْأَحْكَامِ كَالتَّقَارُبِ بَيْنَ التَّمْرِ
وَالزَّبِيبِ فِي الْخَرْصِ وَكَذَلِكَ
التَّقَارُبُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْحَلَاوَةِ
لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّفْسِ تَخْتَلِفُ فِي
كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا وَذَكَرَ الْقَاضِي
عَبْدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العلس ضرب من الحنطة تقع كل حبتين في قشرة،
وهو طعام أهل صنعاء (ط).
ج / 10 ص -59-
الْوَهَّابِ هَذَا جَوَابًا عَنْ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه "إنَّ تَقَارُبَ
التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَشَدُّ مِنْ
تَقَارُبِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَقَالَ
إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَرَجَّحُوا مَعَ
هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَذْهَبَهُمْ
بِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّبَا.
والجواب عَنْ أَثَرِ مَعْمَرٍ أَنَّ فِيهِ
التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ
وَإِنَّمَا تَرَكَهُ تَوَرُّعًا وَخَشْيَةَ
أَنْ يُضَارِعَهُ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ
الْمَالِكِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمَا صِنْفَانِ،
وَجَوَازُ التَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا فَلَا
وَجْهَ لِلْمُضَارَعَةِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ
الشُّبْهَةِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّوأما:
الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ وَمُعَيْقِيبٍ
فَمُنْقَطِعَانِ.
وأما الْأَثَرُ عَنْ سَعْدٍ فَعَلَى ظَاهِرِ
رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ لَا
دَلِيلَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ
سَعْدٍ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ كَمَا
فَعَلَ مَعْمَرٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدًا سُئِلَ عَنْ
الْبَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ فَقَالَ سَعْدٌ:
أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ الْبَيْضَاءُ
فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ إلَى آخِرِهِ. فَقَدْ
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى:
عَنْهُ فِي الْأُمِّ فَقَالَ فِي بَابِ بَيْعِ
الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ عَلَى الْحَدِيثِ:
رَأْيُ سَعْدٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَرِهَ
الْبَيْضَاءَ بِالسُّلْتِ1 فَإِنْ كَانَ
كَرِهَهَا نَسِيئَةً فَذَلِكَ مُوَافِقٌ
لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَبِهِ نَأْخُذُ وَلَعَلَّهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ - تَعَالَى - كَرِهَهَا لِذَلِكَ
وَإِنْ كَرِهَهَا مُتَفَاضِلَةً فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ
أَجَازَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا
فَلَيْسَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ حُجَّةٌ مَعَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ
الْقِيَاسُ عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَيْضًا وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ
الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لَا مَزِيدَ عَلَى
حُسْنِهِ وَفِيهِ تَسْلِيمٌ أَنَّ
الْبَيْضَاءَ بِالسُّلْتِ هِيَ الْبُرُّ
بِالشَّعِيرِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ غَرِيبِ
الْحَدِيثِ لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّ
السُّلْتَ حَبَّةٌ بَيْضَاءُ مُضَرَّسَةٌ
وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يُسَمُّونَ جِنْسًا مِنْ
الشَّعِيرِ لَا قِشْرَ لَهُ السُّلْتَ ذُكِرَ
ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ السَّادِسِ أَنَّ
سَعْدًا سُئِلَ عَنْ السُّلْتِ بِالذُّرَةِ
فَكَرِهَهُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الْحَرْبِيُّ مَعَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَيْضَاءَ
وَالسُّلْتَ الَّذِينَ، سُئِلَ عَنْهُمَا
سَعْدٌ نَوْعَانِ مِنْ الشَّعِيرِ، لَا
سِيَّمَا وَسَعْدٌ كَانَ بِالْعِرَاقِ
فَيُحْمَلُ السُّلْتُ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ
عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ،
وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
بِالشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا، لِأَنَّهُ نَوْعٌ
مِنْهُ كَمَا أَنَّ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ
نَوْعَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهُمَا مُتَفَاضِلًا لَكِنَّ رِوَايَةَ
الْحَرْبِيِّ تَقْتَضِي أَنَّ سَعْدًا كَرِهَ
السُّلْتَ بِالذُّرَةِ أَيْضًا، فَلَعَلَّهُ
يُطْرِدُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ،
أَوْ يَكُونُ مَذْهَبُهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ
مِنْ مَذْهَبِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، لَكِنَّ
ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ جَعَلَ ذِكْرَ
الذُّرَةِ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ مِنْ وَهْمِ
وَكِيعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ يُونُسَ وَخَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ
كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَا فِيهِ:
السُّلْتُ بِالذُّرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: السُّلْتُ
ضَرْبٌ مِنْ الشَّعِيرِ، قَالَ: وَقِيلَ فِي
السُّلْتِ هُوَ الشَّعِيرُ بِعَيْنِهِ،
وَقِيلَ: هُوَ الشَّعِيرُ الْحَامِضُ، وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي
الْغَرِيبَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
الْبَيْضَاءُ الْحِنْطَةُ وَهِيَ
السَّمْرَاءُ. وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ
لِأَنَّهُمَا عِنْدَهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، هَذَا
قَوْلُ الْهَرَوِيِّ، وَعَنْهُ أَنَّ
السُّلْتَ هُوَ حَبٌّ مِنْ الْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ لَا قِشْرَ لَهُ، رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي بَعْضِ نُسَخِ
السُّنَنِ الْكَبِيرِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السلت بضم السين نوع من الشعير لا قشر له.
(المطيعي).
ج / 10 ص -60-
بِإِسْنَادِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ
سَعْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلَيْنِ
تَبَايَعَا بِالسُّلْتِ وَالشَّعِيرِ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ، وَالسُّلْتُ هُوَ الشَّعِيرُ،
فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَيْضَاءُ نَوْعٌ
مِنْ الْبُرِّ أَبْيَضُ اللَّوْنِ، وَفِيهِ
رَدَاءَةٌ يَكُونُ بِبِلَادِ مِصْرَ،
وَالسُّلْتُ نَوْعٌ غَيْرُ الْبُرِّ وَهُوَ
أَدَقُّ1 حَبًّا مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْبَيْضَاءُ هِيَ الرُّطَبُ مِنْ السُّلْتِ،
وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ، لِأَنَّ هَذَا
الْقَوْلَ أَلْيَقُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ
وَعَلَيْهِ يُبْنَى مَوْضِعُ التَّشْبِيهِ
مِنْ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَإِذَا كَانَ
الرُّطَبُ مِنْهُمَا جِنْسًا وَالْيَابِسُ
جِنْسًا آخَرَ لَمْ يَصِحَّ التَّشْبِيهُ،
انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ. فَإِنْ
صَحَّ أَنَّ الْبَيْضَاءَ الرُّطَبُ مِنْ
السُّلْتِ فَمَنْعُ سَعْدٍ ظَاهِرٌ
كَالرُّطَبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْأَسْوَدِ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ بَلْ هُوَ
تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وُلِدَ عَلَى حَيَاةِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ
صَحَّ الْقَوْلُ بِذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ مُعَارِضًا.
وأما: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم"الطَّعَامُ
بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ جِنْسًا
خَاصًّا، أَوْ كُلَّ مَا يُطْعَمُ، فَإِنْ
كَانَ جِنْسًا خَاصًّا أَمَّا الْحِنْطَةُ
وَحْدَهَا أَوْ الشَّعِيرُ كَمَا قَدْ
يُفْهِمُهُ قَوْلُهُ:"وَكَانَ طَعَامُنَا
يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ" فَلَا دَلِيلَ فِيهِ
عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ
كُلَّ مَا يُطْعَمُ لَزِمَ أَلَّا يُبَاعَ
الْقَمْحُ بِالتَّمْرِ، وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ
الْمَطْعُومَاتِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ،
وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا أَحَدٌ،
فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ
مِنْ جِنْسِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:"فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا
كَيْفَ شِئْتُمْ" وَحِينَئِذٍ تَقِفُ
الدَّلَالَةُ مِنْ الْحَدِيثِ وَيُحْتَاجُ فِي
تَحْقِيقِ كَوْنِهَا جِنْسَيْنِ أَوْ جِنْسًا
وَاحِدًا إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ هَذَا الْحَمْلُ مِنْ
بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ؟ أَوْ مِنْ بَابِ
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ؟
قُلْتُ: مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ
وَالْمَخْصُوصُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ:
بِالطَّعَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: الطَّعَامُ
بِالطَّعَامِ الْمُجَانِسِ لَهُ مِثْلًا
بِمِثْلٍ، وَالتَّجَانُسُ فِي اللَّفْظِ
يُشْعِرُ بِالتَّجَانُسِ فِي الْمَعْنَى،
وَأَمَّا حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى
الْمُقَيَّدِ فَمُتَعَذَّرٌ فِيمَا إذَا كَانَ
الْحُكْمَانِ نَهْيَيْنِ فَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ النَّهْيَ عَنْ
بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا
بِمِثْلٍ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ عَلَى
الْفَهْمِ، وَالْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ
الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهُ هَاهُنَا حَمَلَ
الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَإِنْ كَانَ
الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ بَيَانَ وُجُوبِ
الْمُمَاثَلَةِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمُرَادَ
بِالْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ
الْعُمُومُ، كَمَا هُوَ رَأْيُ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ، فَأَيْضًا لَا إطْلَاقَ وَلَا
تَقْيِيدَ، وَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَى
التَّخْصِيصِ وإن قلنا: لَا يَعُمُّ
فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهِ عَلَى بُعْدٍ،
لِأَنَّ إيجَابَ وَصْفٍ فِي مُطْلَقِ
مَاهِيَّةٍ لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبَهُ فِي
كُلِّ أَفْرَادِهَا وَوَجْهُ بُعْدِهِ لَا
يَخْفَى.
وأما: مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ جِهَةِ
الْمَعْنَى وَتَحْقِيقِ كَوْنِهِمَا جِنْسًا
وَاحِدًا تَتَقَارَبُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِمَا،
وَالْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَقَدْ
أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْقَمْحَ
وَالشَّعِيرَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصِّفَةِ
وَالْخِلْقَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ
الْقَمْحَ يُوَافِقُ الْآدَمِيَّ وَلَا
يُوَافِقُ الْبَهَائِمَ وَالشَّعِيرَ
بِالْعَكْسِ، يُوَافِقُ الْبَهَائِمَ وَلَا
يُوَافِقُ الْآدَمِيَّ غَالِبًا، وَلَا
يَغْلِبُ اقْتِيَاتُهُمَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ،
وَإِنَّمَا يَغْلِبُ اقْتِيَاتُ الشَّعِيرِ
فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ الْقَمْحُ فِيهِ،
وَهَذِهِ الذُّرَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ما يسمى في صعيد مصر بالذرة القيظي
لزرعها صيفا فما كان منها أبيض اللون فهو
القيظي وما كان منها أصفر إلى سواد فهو
العويجة. (المطيعي).
ج / 10 ص -61-
يَقْتَاتُهَا خَلْقٌ مِنْ النَّاسِ،
وَالْأُرْزُ يُقْتَاتُ غَالِبًا فِي بَعْضِ
الْبِلَادِ، وَهُمَا عِنْدَ مَالِكٍ صِنْفَانِ
جَائِزٌ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ
كُلٍّ مِنْهُمَا وَبَيْنَ الْبُرِّ، وَجَعَلَ
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الذُّرَةَ وَالدُّخْنَ
وَالْأُرْزَ صِنْفًا، وَسَلَّمَ فِي
الْقَطَانِيِّ كَالْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ
وَالْفُولِ وَالْجُلُبَّانِ فَنُلْزِمُهُ
بِالْفُولِ، لِأَنَّهُ يُقْتَاتُ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ وَيُخْتَبَزُ، وَقَدْ جَعَلَ
ذَلِكَ هُوَ الْعِلَّةُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ،
وَقَدْ حَصَلَ اخْتِلَافُ الْمَالِكِيَّةِ فِي
الْقَطَانِيِّ، وَسَأَذْكُرُ خِلَافَهُمْ فِي
ذَلِكَ فِي فَصْلٍ جَامِعٍ أَتَكَلَّمُ فِيهِ
عَلَى تَحْقِيقِ الْأَجْنَاسِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي
أَلْزَمْنَاهُمْ بِهِ هَاهُنَا قَوْلُ مَالِكٍ
الَّذِي لَا اخْتِلَافَ عَنْهُ فِيهِ.
وَأَمَّا إلْغَاءُ الْقَاضِي عَبْدِ
الْوَهَّابِ مَا أَلْزَمَهُمْ الشَّافِعِيُّ
بِهِ مِنْ التَّقَارُبِ بَيْنَ التَّمْرِ
وَالزَّبِيبِ فِي أَنَّهُمَا حُلْوَانِ
وَيُخْرَصَانِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا
فَإِلْغَاءٌ عَلَى وَجْهِ التَّحَكُّمِ
وَإِلَّا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبْطَالِ
هَذِهِ الشُّبَهِ وَاعْتِبَارِ مَا ادَّعَاهُ
هُوَ؟وأما: احْتِجَاجُهُمْ بِبَيْعِ الْبُرِّ
بِالْبُرِّ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّعِيرِ،
فَإِنْ كَانَ الشَّعِيرُ الْمُخَالِطُ قَدْرًا
لَوْ مُيِّزَ لَظَهَرَ عَلَى الْمِكْيَالِ
فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ وَعِنْدَنَا
أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّعِيرُ الْمُخَالِطُ
لَا يَظْهَرُ عَلَى الْمِكْيَالِ لَوْ
مُيِّزَ، فَجَوَازُ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ
لِعَدَمِ ظُهُورِهِ فِي الْمِكْيَالِ لَا
لِمُوَافَقَتِهِ فِي الْجِنْسِ، أَلَا تَرَى
أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِي
الْمِكْيَالِ لَا تَضُرُّ مُخَالَطَتُهُ
وَلَيْسَ بِجِنْسِ الطَّعَامِ. وَقَوْلُهُمْ
إنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ
الْحَمْرَاءِ مَعَ السَّمْرَاءِ مَمْنُوعٌ
فَإِنَّ الْحِنْطَتَيْنِ لَيْسَ لِكُلٍّ
مِنْهُمَا اسْمٌ خَاصٌّ بِخِلَافِ الشَّعِيرِ
مَعَ الْقَمْحِ. وَأَمَّا الْعَلَسُ فَإِنَّهُ
يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحِنْطَةِ،
بِخِلَافِ الشَّعِيرِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ
حِنْطَةٌ لَا فِي لُغَةٍ وَلَا غَيْرِهَا.
ثُمَّ إنَّ مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ
الْمَعْنَى يَنْكَسِرُ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ فَإِنَّ قِيَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا
مَقَامَ الْآخَرِ أَعْظَمُ مِنْ قِيَامِ
الشَّعِيرِ مَقَامَ الْبُرِّ وَمَعَ ذَلِكَ
هُمَا جِنْسَانِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّصُّ
مُغْنٍ عَنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَعْنَى،
وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي جَانِبِنَا كَمَا
تَقَدَّمَ صَرِيحًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا
وَظَاهِرًا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُبَادَةَ، وَقَدْ
قَاسَ أَصْحَابُنَا عَلَى مَا إذَا أَتْلَفَ
لَهُ حِنْطَةً أَوْ أَقَرَّ لَهُ أَوْ
صَالَحَهُ عَلَيْهَا أَوْ ضَرَبَهَا
الْإِمَامُ جِزْيَةً أَوْ وَجَبَ عُشْرُ
حِنْطَةٍ لَمْ يَقُمْ الشَّعِيرُ مَقَامَهَا
فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. |