المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

التَّفْرِيعُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَام
فرع: عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَا مَصُوغَيْنِ أَوْ تِبْرَيْنِ أَوْ عَيْنَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مَصُوغًا وَالْآخَرُ تِبْرًا أَوْ عَيْنًا، أَوْ جَيِّدَيْنِ أَوْ رَدِيئَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا جَيِّدًا وَالْآخَرُ رَدِيئًا أَوْ كَيْفَ كَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ:"وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُصَارِفَ الرَّجُلُ الصَّائِغَ الْفِضَّةَ بِالْحُلِيِّ الْفِضَّةِ الْمَعْمُولَةِ، وَيُعْطِيَهُ إجَارَتَهُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا نَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ "كَانَ لَا يَرَى الرِّبَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالتِّبْرِ وَلَا بِالْمَصُوغِ،

 

ج / 10 ص -62-       وَيَذْهَبُ إلَى أَنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ فِي التَّفَاضُلِ إلَّا فِي التِّبْرِ بِالتِّبْرِ، وَفِي الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ، وَفِي الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ كَذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَشَرْتُ إلَيْهِ هُنَاكَ.
وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرِ، لِأَنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً. وَحَكَى أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله تعالى: جَوَازَ بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ، كَحُلِيٍّ وَزْنُهُ مِائَةٌ يَشْتَرِيهِ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّنْعَةِ، وَهِيَ الصِّيَاغَةُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ أَهْلُ الشَّامِ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُنْكِرُونَ هَذَا النَّقْلَ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْضَلَ بَيْنَهُمَا قَدْرَ قِيمَةِ الصِّيَاغَةِ. وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْنَا، وَلَيْسَ هَذَا بِقَوْلٍ لَنَا وَلَا لِأَحَدٍ عَلَى وَجْهٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ عُمُومُ الظَّوَاهِرِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَلَيْسَ فِيهَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمَصُوغِ وَالْمَضْرُوبِ.
وَصَرَّحَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بِأَنَّ زِيَادَةَ قِيمَةِ الصَّنْعَةِ إنَّمَا لَا تُرَاعَى إلَّا فِي الْإِتْلَافِ دُونَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلَا وَجْهَ لِنَصْبِ الْخِلَافِ مَعَهُمْ وَهُمْ مُوَافِقُونَ. وَقَدْ نَصَّبَ أَصْحَابَنَا الْخِلَافَ مَعَهُمْ، وَكَانَ شُبْهَةُ النَّقْلِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَسْأَلَةً نَقَلَهَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَنْ مَالِكٍ فَكَأَنَّ الْأَصْحَابَ أَخَذُوا مِنْهَا ذَلِكَ لِمَا كَانَ لَازِمًا بَيِّنًا مِنْهَا. وَهَا أَنَا أَنْقُلُ الْمَسْأَلَةَ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ:
قَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ: رَوَاهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ سَوْءٍ مُنْكَرَةٌ لَا يَقُولُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ مَا يُخَالِفُهَا. قَالَ مَالِكٌ فِي التَّاجِرِ يَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِوَرِقِهِ فَيُعْطِيهِمْ أَجْرَ الضَّرْبِ وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ وَزْنَ وَرِقِهِ مَضْرُوبَةً. قَالَ إذَا كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ خُرُوجِ الرُّقْعَةِ وَنَحْوِهِ فَأَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ سَحْنُونَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَاهُ خَفِيفًا لِلْمُضْطَرِّ وَلِذِي الْحَاجَةِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَذَلِكَ رِبًا وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ لَا يَصْلُحُ هَذَا وَلَا يُعْجِبُنِي ا هـ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ، وَنَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا1، وَقَدْ كَانَ يُعْمَلُ بِهِ بِدِمَشْقَ فِيمَا مَضَى، وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْوَرَعِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَذْمُومَيْنِ أَخَفُّهُمَا خَلْطُ أَذْهَابِ النَّاسِ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الضَّرْبِ أَخَذَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ عَلَى حِسَابِ ذَهَبِهِ، وَأَعْطَى الضَّرَّابَ أُجْرَتَهُ. وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله: أَنَّهُ كَانَ يُعْمَلُ بِهِ فِي زَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ لِأَنَّهُ كَانَتْ سِكَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالتُّجَّارُ كَثِيرٌ وَالنَّاسُ مُجْتَازُونَ وَالْأَسْوَاقُ مُتَقَارِبَةٌ، فَلَوْ جَلَسَ كُلُّ وَاحِدٍ حَتَّى يَضْرِبَ ذَهَبَ صَاحِبِهِ فَاتَتْ الْأَسْوَاقُ، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ الذَّهَبَ يُغَشُّ، وَقَدْ صَارَ لِكُلِّ مَكَان سِكَّةٌ تُضْرَبُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ يَصْلُحُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّانِ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْيَوْمَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ ارْتَفَعَتْ، وَقَالَ سَحْنُونَ: لَا خَيْرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق حقيقا (ط).

 

ج / 10 ص -63-       فِيهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَحُكِيَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ لَقِيَ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ فَلَمْ يُرَخِّصُوا فِيهِ عَلَى حَالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: اسْتِعْمَالُ الدَّنَانِيرِ وَمُبَادَلَتُهَا بِالذَّهَبِ بَعْدَ تَخْلِيصِهَا وَتَصْفِيَتِهَا مَعَ زِيَادَةِ أُجْرَةِ عَمَلِهَا قَالَ1: فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ لِمُضْطَرٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَفَّفَ ذَلِكَ مَالِكٌ رحمه الله فِي وَسْمِ بَدْرٍ2 سَعَةِ مَصْرِفِهَا بَعْدَ هَذَا لِمَا يُصِيبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَبْسِ عَنْ حُقُوقِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا جَوَّزَ الْمَعَرِّيُّ جَوَازَ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا وَكَمَا جَوَّزَ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِمَنْ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: مَا هُوَ مِنْ عَمَلِ الْأَبْرَارِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَرَاهُ حَقِيقًا لِلْمُضْطَرِّ وَذَوِي الْحَاجَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ الَّذِي يُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا خَفَّفَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ مَعَ الضَّرُورَةِ الَّتِي تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الرِّبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ شِرَاءَ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِوَزْنِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَزِيَادَةِ قَدْرِ الصِّيَاغَةِ وَإِنْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُجِيزُ تِبْرَ الذَّهَبِ بِالدَّنَانِيرِ مُتَفَاضِلًا وَالْمَصُوغَ مِنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إذْ لَا ضَرُورَةَ فِي ذَلِكَ فَرَاعَى فِيهِ قَوْلَهُ، انْتَهَى مَا أَرَدْتُ نَقْلَهُ مِنْ كَلَامِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ تَحْرِيرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَوَجْهُ الِاشْتِبَاهِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْهُ وَمَعْنَى مَا قَالَهُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا لَمَّا نَقَلُوا عَنْهُ حُجَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ وَجَوَابَهَا فَنَذْكُرُهَا لِيُسْتَفَادَ وَيَحْصُلَ بِهَا الْجَوَابُ عَنْ مَذْهَبِ مُعَاوِيَةَ وَعَمَّا ذَهَبُوا إلَيْهِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَنَقَلُوا مِنْ احْتِجَاجٍ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ عَلَى رَجُلٍ حُلِيًّا وَزْنُهُ مِائَةٌ وَصِيَاغَتُهُ تُسَاوِي عَشْرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِبًا فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَبْسَطُهُمْ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ قَالَ: الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِقِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى الْإِتْلَافِ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: إذَا أَتْلَفَ عَلَى رَجُلٍ ذَهَبًا مَصُوغًا فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُتْلَفِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ نَقْدُ الْبَلَدِ فِضَّةً وَالْمُتْلَفُ ذَهَبًا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَلَا يَكُونُ رِبًا وَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ جِنْسِ الْمُتْلَفِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعًا ذَهَبًا أَوْ يَكُونَ فِضَّةً فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُقَوَّمُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ مَا قَالُوهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُقَوَّمُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُتْلَفِ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى وَزْنِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ وَضَمَانِ الْبَيْعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّهُ إذَا بَذَلَ فِي مُقَابَلَةِ الذَّهَبِ الْمَصُوغِ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ، وَالصِّيَاغَةُ إنَّمَا هِيَ تَأْلِيفُ بَعْضِ الذَّهَبِ إلَى بَعْضٍ، وَالتَّأْلِيفُ لَا يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يزال القائل هو ابن رشد.
2 كذا ولم نستطع حل هذا الألغاز، وعزوناه إلى تصحيف معقد ولعله كان: في وسم بدا وسعة يصوغها بعد هذا وهو يعني أنه يسمها حليا في منزل يسار وغنى ثم ينوي صرفها. (المطيعي).

 

ج / 10 ص -64-       بَاعَ دَارًا مَبْنِيَّةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ انْهَدَمَتْ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ؟ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إمَّا أَنْ تَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ تَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُسْقِطَ مِنْ الثَّمَنِ جُزْءًا لِأَجْلِ زَوَالِ تَأْلِيفِ الدَّارِ فَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُ مَالِكٍ: إنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ.
والثاني: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْرِيَ التَّفَاضُلُ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَلَا يَجْرِيَ فِي الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ دِرْهَمًا صَحِيحًا بِأَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ مُكَسَّرٍ لَمْ يَجُزْ؟ وَلَوْ أَتْلَفَ عَلَى رَجُلٍ دِرْهَمًا صَحِيحًا وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِثْلٌ فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ بِالْمُكَسَّرِ وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ وَلَا يَكُونُ رِبًا فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِتْلَافِ.
والثالث: أَنَّ الْإِتْلَافَ قَدْ يُضْمَنُ بِهِ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ حُرًّا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا، وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ تَصِحَّ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بِالضَّمَانَيْنِ وَبَطَلَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي نَقَلْتُهُ بِلَفْظِهِ لِحُسْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ أَيْضًا.
نَقَلَتْ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَازَ مُبَادَلَةَ الدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّرَاهِمِ النَّاقِصَةِ بِالْوَازِنَةِ عَلَى وَجْهٍ مَعْرُوفٍ يَدًا بِيَدٍ كَرَجُلٍ دَفَعَ إلَى أَخٍ لَهُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا نَاقِصًا أَوْ طَعَامًا مَأْكُولًا فَقَالَ لَهُ: أَحْسِنْ إلَيَّ أَبْدِلْ هَذَا بِأَجْوَدَ مِنْهُ وَأَنْفِقْهُ فِيمَا يُنْفَقُ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ فَجَازَ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ فِي الْقَرْضِ خَيْرًا مِمَّا أَخَذَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِأَقَلَّ مِنْهُ الدِّينَارَانِ وَالثَّلَاثَةُ إلَى السِّتَّةِ عَلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَإِنْ كَانَ سَحْنُونَ قَدْ أَصْلَحَ السِّتَّةَ وَرَدَّهَا ثَلَاثَةً قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَقَوْلُهُ بِأَجْوَدَ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَدَلِهَا بِأَوْزَنَ وَأَجْوَدَ، خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: مَنَعَ ذَلِكَ أَشْهَبُ كَالدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ النَّقْصِ بِالْوَازِنَةِ، فَلَمْ يُجِزْ الْمَعْفُونَ بِالصَّحِيحِ، وَلَا الْكَثِيرَ الْغِشِّ بِالْخَفِيفِ الْغِشِّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ سَحْنُونَ فِي الْمَعْفُونِ1 وَقَالَ: إنَّهُ لَا يُشْبِهُ الدَّنَانِيرَ، لِأَنَّ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ النَّقْصِ بِالْوَازِنَةِ تَفَاضُلًا بِالْوَزْنِ، وَلَا تَفَاضُلَ فِي الْكَيْلِ بَيْنَ الْمَعْفُونِ وَالصَّحِيحِ، وَأَصْحَابُنَا لَا يُجِيزُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَغْتَفِرُونَ مِنْ التَّفَاضُلِ شَيْئًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِي الْأُمِّ: "وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْهُ وَزْنًا عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، مَعْرُوفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، وَالْمَعْرُوفُ لَيْسَ يُحِلُّ بَيْعًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، فَإِنْ كَانَ وَهَبَ لَهُ دِينَارًا وَأَثَابَهُ الْآخَرُ دِينَارًا أَوْزَنَ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصَ فَلَا بَأْسَ فَإِنَّهُ أَسْلَفَهُ ثُمَّ اقْتَضَى مِنْهُ أَقَلَّ فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ لَهُ بِهِبَةِ الْفَضْلِ وَكَذَلِكَ إنْ تَطَوَّعَ لَهُ الْقَاضِي بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِ ذَهَبِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعَانِي الْبُيُوعِ "ا هـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالتَّمَاثُلِ وَالتَّفَاضُلِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَائِغٍ صُغْ لِي خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ لِأُعْطِيَكَ دِرْهَمَ فِضَّةٍ وَأُجْرَةَ صِيَاغَتِكَ، فَفَعَلَ الصَّائِغُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعفون هو الذي يتقتت بنفسه لطروه الفساد عليه واستعماله هنا مجاز. (المطيعي).

 

ج / 10 ص -65-       وَنَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَكَانَ الْخَاتَمُ عَلَى مِلْكِ الصَّائِغِ لِأَنَّهُ شِرَاءُ فِضَّةٍ مَجْهُولَةٍ بِفِضَّةٍ مَجْهُولَةٍ وَتَفَرُّقٌ قَبْلَ التَّقَابُضِ وَشَرْطُ الْعَمَلِ فِي الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَإِذَا صَاغَهُ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَيْفَ شَاءَ وَبِجِنْسِهِ بِمِثْلِ وَزْنِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ: "وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِالْفَصِّ إلَى الصَّائِغِ فَيَقُولَ لَهُ اعْمَلْهُ لِي خَاتَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ ذَلِكَ وَأُعْطِيَكَ أُجْرَتَكَ، وَقَالَهُ مَالِكٌ "انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَتْ الْحَنْبَلِيَّةُ: "لِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ "أَحَدُهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ وَالثَّانِي أُجْرَةٌ لَهُ فِيمَا إذَا قَالَ: صُغْ لِي خَاتَمًا وَزْنُهُ دِرْهَمٌ وَأُعْطِيكَ مِثْلَ زِنَتِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ لِلصَّائِغِ أَخْذَ الدِّرْهَمَيْنِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فَاسِدٌ، لِمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ وَالشَّرْطِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِحُكْمِ عَقْدٍ جَدِيدٍ يُورِدُهُ عَلَى الْخَاتَمِ الْمَصُوغِ بَعْدَ صِيَاغَتِهِ، فَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى مَالِكٍ فَلَا اتِّجَاهَ لِهَذَا الْفَرْعِ إلَّا عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ فِي الذَّخَائِرِ: وَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ، وَصْفُهُ وَأُجْرَتُكَ كَذَا، وَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَشَرْطِ الْعَمَلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي مَعْنَى هَذَا الْفَرْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الرِّبَا.
فرع: لَوْ نَسَجَ الْحَائِكُ مِنْ ثَوْبٍ بَعْضَهُ فَقَالَ لَهُ: بِعْنِي هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا وَكَذَا عَلَى أَنَّكَ تُتِمُّهُ لَمْ يَجُزْ، نَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّهِ فِي الصَّرْفِ قَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ.
فرع: وَمَنْ كَانَ مَعَهُ قُطُوعٌ مُكَسَّرَةٌ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ نُقْرَةٌ1 فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا بِجِنْسِهَا صِحَاحًا، أَوْ كَانَ مَعَهُ صِحَاحٌ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا بِجِنْسِهَا قُطُوعَاتٍ فَإِمَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَزْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِعَرَضَيْنِ وَيَتَقَابَضَا ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِالْعَرَضَيْنِ مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ فَأَمَّا مَعَ الزِّيَادَةِ أَوْ النَّقْصِ فَهُوَ الرِّبَا كَذَلِكَ قَالَ نَصْرٌ فِي تَهْذِيبِهِ وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ نَصْرٌ: وَهَكَذَا الدِّينَارُ الرُّومِيُّ بِالْعَرَبِيِّ وَالْخُرَاسَانِيُّ بِالْمَغْرِبِيِّ، وَالدَّرَاهِمُ الرُّومِيَّةُ مَعَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة مَعَ الْمَغْرِبِيَّةِ. وَكَذَلِكَ فِي الصَّقَلِّيِّ مَعَ الْمِصْرِيِّ وَسَائِرِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ.
فرع: وَهَكَذَا فِي الْمَطْعُومِ بِلَا خِلَافٍ قَالَ نَصْرٌ فِي التَّهْذِيبِ: إذَا بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ لَهَا رِيعٌ وَافِرٌ بِصَاعِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَيْسَ لَهَا رِيعٌ وَافِرٌ جَازَ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ لِأَجْلِ الرِّيعِ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ، وَهَكَذَا إذَا بَاعَ صَاعًا صَحِيحًا أَوْ مَعْقِلِيًّا بِصَاعِ دَقَلٍ أَوْ صَاعِ جَمْعٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَجْنَاسِ الْمَطْعُومَاتِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَأْمُورَ بِهَا قَدْ وُجِدَتْ فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهَا لِأَمْرٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ بَاعَ دِينَارًا صَرْفُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ صَرْفُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا انْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي المذاب من الذهب والفضة. (المطيعي).

 

ج / 10 ص -66-       فَرْعٌ: عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَلَسِ1 بِالْحِنْطَةِ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ بِالسُّلْتِ، لِأَنَّ عَلَى الْعَلَسِ قِشْرَتَيْنِ.
فرع: مِنْ فُرُوعِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ: إذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا، وَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَعِيرُ الدِّينَارَ الَّذِي قَبَضَهُ بِالْوَزْنِ جَازَ. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ عَرَفَ وَزْنَ الدِّينَارِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ وَتَقَابَضَا عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا جَهِلَ وَزْنَ الدِّينَارِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ، فَإِنْ وَزَنَ أَحَدُهُمَا الدِّينَارَ الَّذِي أَخَذَهُ فَنَقَصَ يَبْطُلُ الصَّرْفُ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى عِوَضَيْنِ مُتَفَاضِلَيْنِ.
فرع: مِنْ فُرُوعِ التَّقَابُضِ إذَا بَاعَ دِينَارًا بِعِشْرِينَ فِي ذِمَّتِهِ فَأَحَالَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى إنْسَانٍ بِالْعِشْرِينَ وَتَفَرَّقَا لَمْ تَقُمْ الْحَوَالَةُ مَقَامَ الْقَبْضِ وَبَطَلَ الصَّرْفُ بِتَفَرُّقِهِمَا قَالَهُ نَصْرٌ فِي التَّهْذِيبِ.
فرع: عَلَى التَّقَابُضِ أَيْضًا. قَدْ عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ زَمَنُ الْعَقْدِ قَصِيرًا، بَلْ سَوَاءٌ طَالَ الْمَجْلِسُ أَمْ قَصُرَ لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي مُصَارَفَةِ طَلْحَةَ. وَوَافَقَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ. وَلَمْ يَسْمَحْ مَالِكٌ رحمه الله بِالِاكْتِفَاءِ بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ إذَا طَالَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: عَلَى تَحْرِيمِ النَّسَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْجِنْسَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْعِلَّةِ.
لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ قَلِيلِ الْأَجَلِ وَكَثِيرِهِ. وَلَيْسَ الْحُلُولُ مُلَازِمًا لِلتَّقَابُضِ. فَقَدْ يُؤَجَّلُ بِسَاعَةٍ وَيَحْصُلُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فَاسِدٌ لِعَدَمِ الْحُلُولِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ وَنَحْوِهِمَا الْغَزَالِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ أَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّسِيئَةِ تَأَخُّرُ الْقَبْضِ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْحُلُولَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالْعُقُودُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى عِوَضِ مَالٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ بِالنَّسِيئَةِ إلَى الْحُلُولِ وَعَدَمِهِ عَلَى أَقْسَامٍ:
منها: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُلُولُ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ عُقُودُ الرِّبَا ومنها: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَجَلُ وَهُوَ الْكِتَابَةُ ومنها: مَا يَجُوزُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، وَهُوَ أَكْثَرُ الْعُقُودِ ومنها: مَا يَجُوزُ مُؤَجَّلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي جَوَازِهِ حَالًّا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
فرع: مِنْ فُرُوعِ اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ - إذَا بِيعَ مِنْهَا الشَّيْءُ بِجِنْسِهِ امْتِنَاعُ السَّلَمِ فِيهَا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّمَاثُلِ فِي الْحُلُولِ قَالَ: وَنَعْنِي بِهِ مَعْنَى الْأَجَلِ وَالسَّلَمِ، يَعْنِي أَنَّ كُلَّ عِوَضَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَالْحِنْطَةِ مَعَ الشَّعِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مَعَ الدَّنَانِيرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ. أَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَظَاهِرٌ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العلس ضرب في الحنطة يكون في القشرة منه حبتان وقد تكون واحدة أو ثلاث وقال بعضهم: هو حبة سوداء تؤكل في الجدب وقيل: هو مثل البر إلا أنه في الاستشفاء، وقيل: هو العدس (ا هـ من المصباح).

 

ج / 10 ص -67-       وَأَمَّا الْحَالُّ فَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى جِنْسِ السَّلَمِ الْأَجَلُ، وَالْغَالِبَ عَلَى الْأَجَلِ أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْمَجْلِسِ، فَلَمَّا اُشْتُرِطَ التَّقَابُضُ كَانَ ظَاهِرًا فِي إخْرَاجِ مَا يَتَأَخَّرُ فِيهِ التَّقَابُضُ غَالِبًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فِي الْأُمِّ: وَلَا يُسَلِّمُ مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا فِي مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَقَالَ أَيْضًا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ ذَهَبًا فِي ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةً فِي فِضَّةٍ، وَلَا ذَهَبًا فِي فِضَّةٍ، وَلَا فِضَّةً فِي ذَهَبٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرُهُمْ. وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فَإِنَّهُ حَكَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ.
ثُمَّ قَالَ: قُلْت: إنَّهُ إنْ أَسْلَمَ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَانَ حَالًّا، فَإِنْ تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ جَازَ عِنْدِي، وَاقْتَضَى كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الْبَسِيطِ تَرْجِيحَ هَذَا. وَجَعْلَهُ بَيْعًا بِلَفْظِ السَّلَمِ. عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ الَّذِي حَكَيْتُهُ اسْتَشْكَلَهُ جَمَاعَةٌ وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ، وَجَعَلَ عَطْفَهُ عَلَى الْأَجَلِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَبَعْضُهُمْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَلَّا يُعْقَدَ بِصِيغَةِ السَّلَمِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.
وَأَمَّا إسْلَامُ النَّقْدَيْنِ فِي الْمَطْعُومَاتِ فَصَحِيحٌ، إذْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَلَّا يَصِحَّ لِأَنَّ الْحَدِيثَ أَخَذَ عَلَيْنَا شَرْطَيْنِ، الْحُلُولَ وَالتَّقَابُضَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. قُلْنَا: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي هَذَا تَنْزِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ الْمَذْكُورَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ جُمْلَتَانِ مُتَفَاضِلَتَانِ النَّقْدَانِ، وَالْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ، تَنْفَرِدُ كُلُّ جُمْلَةٍ بِعِلَّتِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ اخْتِلَافُ الْجِنْسَيْنِ مِنْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ عَامٍّ أَوْ تَقْيِيدُ مُطْلَقٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ. وَسَأَذْكُرُ مَنْ نَقَلَهُ غَيْرَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَاعِدَةٌ: لَعَلَّكَ تَقُولُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطُّعْمُ، وَذَلِكَ مُشْتَرَكٌ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ، فَمَا السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ حَيْثُ كَانَ الْمُحَرَّمُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ شَيْئَيْنِ فَقَطْ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ الْمَحْكُومَ بِكَوْنِهِ عِلَّةً تَارَةً لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَمْرٌ آخَرُ أَصْلًا، فَهَذَا مَتَى ثَبَتَ الْحُكْمُ، وَتَارَةً يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَمْرٌ آخَرُ إمَّا شَرْطٌ فِي تَأَثُّرِهِ، وَإِمَّا مَحَلٌّ يُؤَثِّرُ فِيهِ دُونَ مَحَلٍّ آخَرَ، وَهَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَحَلِّهِ أَوْ مَعَ شَرْطِهِ أَثَّرَ، وَإِذَا وُجِدَ بِغَيْرِ شَرْطِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ الْخَاصُّ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ فِي حُكْمٍ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
مِثَالُهُ: الزِّنَا عِلَّةُ الرَّجْمِ فِي الْمُحْصَنِ فَإِذَا فُقِدَ الْإِحْصَانُ لَا يُؤَثِّرُ الرَّجْمَ وَلَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي حُكْمٍ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الْجَلْدُ. فَالطُّعْمُ عِلَّةٌ فِي تَحْرِيمِ الثَّلَاثَةِ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ وَالتَّفَرُّقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ. أَمَّا إذَا كَانَ فِي جِنْسَيْنِ فَيُؤَثِّرُ فِي النَّسَاءِ وَالتَّفَرُّقِ فَقَطْ. فَمُطْلَقُ الطُّعْمِ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَعِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ فَعِلِّيَّتُهُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ لَكِنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا بِشَرْطٍ وَفِي اثْنَيْنِ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَعِنْدَ هَذَا أَذْكُرُ تَقْسِيمًا فِي مُطْلَقِ الْعُقُودِ. وَهِيَ

 

ج / 10 ص -68-       تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي الْعِوَضَيْنِ اشْتِرَاكٌ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَالْجِنْسِيَّةِ، أَوْ لَا يَحْصُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. أَوْ يَحْصُلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ فَقَطْ أَوْ فِي الْجِنْسِيَّةِ فَقَطْ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يَحْرُمُ فِيهِ النَّسَاءُ إجْمَاعًا وَالتَّفَاضُلُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
والثاني: يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ وَالْبَدَلُ قَبْلَ التَّقَابُضِ. سَوَاءٌ كَانَا مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْحِنْطَةِ أَمْ لَا. كَإِسْلَامِ عَبْدٍ فِي ثَوْبَيْنِ وَفِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.
والثالث: تَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَالتَّفَرُّقِ، وَلَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْمِلْحِ بِالْحِنْطَةِ.
والرابع: يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ نَقْدًا كَبَيْعِ عَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي جَوَازِهِ نَسَاءً، وَلِبَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ فِيهِ، كَمَا إذَا أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي ثَوْبَيْنِ، فَالْقِسْمُ الرَّابِعُ وَأَحَدُ نَوْعَيْ الْقِسْمِ الثَّانِي ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ.
إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْجِنْسِيَّةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، هَلْ نَقُولُ الْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ لِعَمَلِ الْعِلَّةِ؟ فَالْجِنْسِيَّةُ وَحْدَهَا لَا أَثَرَ لَهَا عِنْدَنَا أَوْ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِهَا فَتَكُونُ مُرَكَّبَةً أَوْ مُجْمَلٌ فِيهِ الْعِلَّةُ، فَاَلَّذِي يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ وَصْفٌ وَأَنَّ الْعِلَّةَ مُرَكَّبَةٌ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْكِفَايَةِ فِي تَخْرِيجِ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ مِنْ طَرِيقَةِ نَاصِرِ الْعُمَرِيِّ وَزَعَمَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ اتِّفَاقَ أَصْحَابِهِمْ - مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْخِلَافِ -. وَأَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ إلَى وَقْتِهِ أَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا. قَالَ: وَخَالَفَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ، يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ، فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ الطُّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلَكِنَّ الْجِنْسَ مِنْ شَرْطِهِ فَكَانَ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الطُّعْمُ فِي الْجِنْسِ، سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ كَجِّ الشَّافِعِيَّ بِالدِّينَوَرِ يَقُولُ هَذَا وَيَذْهَبُ إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله، وَلَا عَمَّنْ عَاصَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يَتَحَرَّرُ، وَلَمْ يُدَقِّقُوا فِي النَّظَرِ وَلَا تَعَلَّقُوا فِيهِ إلَى هَذَا التَّضْيِيقِ وَالتَّحْقِيقِ ثُمَّ اخْتَارَ عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّ الْجِنْسَ شَرْطٌ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيَّةِ. وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَرَاوِزَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَصْفٍ، وَأَطْنَبَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ لَا أَثَرَ لَهَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا أَثَرَ لَهُ، وَالْحَنَفِيَّةُ جَعَلُوا الْجِنْسِيَّةَ وَصْفًا فِي الْعِلَّةِ، فَفَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ وَحْدَهَا تُحَرِّمُ النَّسَاءَ، فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُ ثَوْبٍ فِي ثَوْبَيْنِ، وَمَعْنَى الْمَحَلِّ مَا يُعَيَّنُ لِعَمَلِ الْعِلَّةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْمَرَاوِزَةُ هَلْ هِيَ مَحَلٌّ أَوْ شَرْطٌ؟ فَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ يَحْيَى أَنَّهَا مَحَلٌّ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ الْمَرَاغِيُّ، وَالْفَقِيهُ الْقُطْبُ أَنَّهَا شَرْطٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ تَحْتَ هَذَا الِاخْتِلَافِ كَبِيرُ طَائِلٍ، وَمَنَعَ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَصْفًا يَلْزَمُ إفَادَتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْغَزَالِيُّ قَدْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْمَنْعِ أَيْضًا فِي التَّحْصِينِ.
قَاعِدَةٌ: الْعُقُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّقَابُضِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

 

ج / 10 ص -69-       منها: مَا يَجِبُ فِيهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّرْفُ.
ومنها: مَا لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ كَبَيْعِ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُرُوضِ بِالنَّقْدَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
ومنها: مَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.
ومنها: مَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ فِيهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: فِي التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ "الذَّهَبُ" يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَجَمْعُهُ أَذْهَابٌ، وَالْوَرِقُ الْفِضَّةُ، وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ فَتْحُ الْوَاوِ مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا، وَكَسْرُ الْوَاوِ مَعَ إسْكَانِ الرَّاءِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَشْهُورَةٌ وَالرَّابِعَةُ فَتْحُ الْوَاوِ وَالرَّاءِ مَعًا حَكَاهُمَا الصَّاغَانِيُّ فِي كِتَابِ الشَّوَارِدِ فِي اللُّغَاتِ قَالَ: وَقَرَأَ أَبُو عُبَيْدٍ:
{أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف: من الآية19] وَنَقَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَطِّ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيِّ وَضَبْطِهِ وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم "مِثْلًا بِمِثْلٍ"أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ هَكَذَا بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَلَى الْحَالِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمُصَدَّرِ بِالنَّهْيِ التَّقْدِيرُ: لَا تَبِيعُوا الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَالَةٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ التَّقْدِيرُ: الذَّهَبُ مَبِيعٌ بِالذَّهَبِ، فِي حَالَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "مِثْلٌ بِمِثْلٍ" بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ "مِثْلٌ بِمِثْلٍ"مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَأَخَوَاتُهَا وَالتَّقْدِيرُ: مِثْلٌ مِنْهُ بِمِثْلٍ، وَحُذِفَتْ مِنْهُ هَهُنَا كَمَا حُذِفَتْ مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ وَالْمِثْلُ فِي اللُّغَةِ النَّظِيرُ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ.
قَوْلُهُ:"سَوَاءً بِسَوَاءٍ" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مُسْتَوِيًا بِمُسْتَوٍ لَا فَضْلَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: من الآية113] أَيْ مُسْتَوِينَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: من الآية10] أَيْ مُسْتَوِيًا وَهَذَا مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ فَاسْتَوَى الْجَمْعُ وَالْوَاحِدُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فِيهِ، وَيَكُونُ السَّوَاءُ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، وَالنَّصَفَةِ بِمَعْنَى الْوَسَطِ.
قَوْلُهُ "عَيْنًا بِعَيْنٍ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ يُرِيدُ مَرْئِيًّا بِمَرْئِيٍّ، لَا غَائِبًا بِغَائِبٍ، وَلَا غَائِبًا بِحَاضِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَيْنِ عَيْنُ الْمَرْئِيِّ لِأَنَّهَا سَبَبُ الرُّؤْيَةِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ حَاضِرًا بِحَاضِرٍ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ مُعَايَنَةً كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ: "كَلَّمْتُهُ فَاهُ إلَى فِي" أَيْ مُشَافَهَةً، وَالْعَيْنُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: حَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَالْعَيْنِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَالنَّظَرِ، وَالْعَيْنِ الَّذِي يَنْظُرُ لِلْقَوْمِ، وَهُوَ الرِّيبَةُ، وَالْعَيْنِ الَّذِي تُبْقِيهِ لِيَتَجَسَّسَ لَكَ الْخَبَرَ، وَالْعَيْنِ يَنْبُوعِ الْمَاءِ وَعَيْنِ الرَّكِيَّةِ مَصَبِّ مَائِهَا، وَالْعَيْنِ مِنْ السَّحَابِ مَاءٍ عَنْ يَمِينِ قِبْلَةِ الْعِرَاقِ وَقَدْ يُقَالُ الْعَيْنُ مَاءٌ عَنْ يَمِينِ قِبْلَةِ الْعِرَاقِ إلَى النَّاحِيَةِ وَالْعَيْنُ مَطَرُ أَيَّامٍ لَا يُقْلِعُ وَقِيلَ: هُوَ الْمَطَرُ يَدُومُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةً، وَالْعَيْنُ النَّاحِيَةُ، كَذَا أَطْلَقَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَعَيْنُ الرَّكِيَّةِ نُقْرَةٌ فِي مُقَدِّمَتِهَا وَعَيْنُ الشَّمْسِ شُعَاعُهَا الَّذِي لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ. قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ: وَالْعَيْنُ الْمَالُ الْحَاضِرُ.
وَمِنْ كَلَامِهِمْ عَيْنٌ غَيْرُ دُبُرٍ، وَالْعَيْنُ الدِّينَارُ، وَالْعَيْنُ الذَّهَبُ عَامَّةً. قَالَ سِيبَوَيْهِ وَقَالُوا: عَلَيْهِ مِائَةٌ

 

ج / 10 ص -70-       عَيْنًا، وَالرَّفْعُ الْوَجْهُ. وَالْعَيْنُ فِي الْمِيزَانِ الْمَيَلُ وَجِئْتُكَ بِالْحَقِّ مِنْ عَيْنٍ صَافِيَةٍ أَيْ مِنْ فِضَّةٍ، وَجَاءَ بِالْحَقِّ بِعَيْنِهِ أَيْ خَالِصًا وَاضِحًا وَعَيْنُ الْمَتَاعِ خِيَارُهُ وَعَيْنُ الشَّيْءِ نَفْسُهُ وَشَخْصُهُ، وَأَصْلُهُ الْعَيْنُ، وَالْعِينَةُ السَّلَفُ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْعَيْنُ الثُّقْبُ فِي الْمَزَادَةِ وَالْعَيْنُ الْمَالُ النَّاضُّ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَضْرُوبُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْعَيْنُ الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ عَيْنُ الشَّمْسِ فِي السَّمَاءِ قَالَهَا الْأَزْهَرِيُّ. فَهَذِهِ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ لِلْعَيْنِ مَجْمُوعَةٌ مِنْ كَلَامِ الْأَزْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ وَابْنِ فَارِسٍ وَالْهَرَوِيِّ وَأَكْثَرُهَا فِي كَلَامِ ابْنِ سِيدَهْ.
وَقَوْلُهُ: "يَدًا بِيَدٍ" إعْرَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْ مُقَابَضَةً وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِثْلُ كَلَّمْتُهُ فَاهُ إلَى فِي أَيْ مُشَافَهَةً عَنْ سِيبَوَيْهِ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُفْرَدُ مِنْهَا شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ فَلَا تَقُلْ بِعْتُهُ يَدًا حَتَّى تَقُولَ: بِيَدٍ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي. وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَرْفَعُ هَذَا النَّحْوَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَمَنْ جَمَعَ مِنْ الرُّوَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَيْنًا بِعَيْنٍ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَدَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، وَدَعْوَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَعْنًى، فَالْعَيْنُ لِإِفَادَةِ الْحُلُولِ وَالْيَدُ لِإِفَادَةِ التَّقَابُضِ أَيْ مَقْبُوضًا بِمَقْبُوضٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَقُولُ: مُنَاجَزَةً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَيْ يُعْطِي بِيَدٍ وَيَأْخُذُ بِأُخْرَى، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ بَاعَ فُلَانٌ غَنَمَهُ بِالْيَدَيْنِ يُرِيدُ تَسْلِيمَهَا بِيَدٍ وَأَخْذَ ثَمَنِهَا بِيَدٍ قَالَ: وَيُقَالُ أَبِيعَتْ الْغَنَمُ بِالْيَدَيْنِ أَيْ بِثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؟ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْمُنْذِرُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْفَرَّاءِ، وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "هَا وَهَا"فَمَعْنَاهُ التَّقَابُضُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ "هَا وَهَا"مَقْصُورَيْنِ، وَالصَّوَابُ مَدُّهُمَا، وَنَصْبُ الْأَلِفِ مِنْهُمَا، وَجَعْلُ أَصْلِهِ "هَاكَ "، أَيْ خُذْ فَأَسْقَطُوا الْكَافَ وَعَوَّضُوا عَنْهَا الْمَدَّ، يُقَالُ لِلْوَاحِدِ: هَا وَلِلِاثْنَيْنِ هَا، وَأَمَّا بِزِيَادَةِ الْمِيمِ لِلْجَمَاعَةِ فَهَاؤُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: من الآية19] وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ الْمُظَفَّرِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ هَاكَ وَهَاكُمَا وَهَاكُمْ، وَجَرَى فِي ذَلِكَ قَوْلٌ كَثِيرٌ لُبَابُهُ عِنْدَهُ أَنَّ "هَا"تَنْبِيهٌ وَحُذِفَ خُذْ وَأَعْطِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ، وَأَمَّا هَاؤُمَا وَهَاؤُمْ فَقِيلَ فِيهِ مَعْنًى أُمَّا وَأُمُّوا أَيْ اقْصِدُوا، وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْوَاحِدِ إلَّا بِالْكَافِ، فَهِيَ الْأَصْلُ، وَلِذَلِكَ أَجْرَتْ بَعْضُ الْعَرَبِ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي لُحُوقِ الْكَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: "مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يَقُولُ مَنْ زَادَ صَاحِبَهُ عَلَى مَا أَخَذَ، وَازْدَادَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا دَفَعَ، فَقَدْ أَرْبَى، أَيْ دَخَلَ فِي الرِّبَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: "الْأَصْنَافُ" سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي الْأَجْنَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: "كَيْفَ شِئْتُمْ " كَيْفَ هَهُنَا اسْمُ شَرْطٍ، أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ فَبِيعُوا، فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَبِيعُوا الْمُتَقَدِّمُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَيْفَ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ كَمَا هُوَ أُغْلَبُ أَحْوَالِهَا، وَكَوْنُهَا تَأْتِي اسْمَ شَرْطٍ قَدْ ذَكَرَهُ النُّحَاةُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَجَوَابُكَ بِكَيْفَ مَعْنًى لَا عَمَلًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، يَعْنِي أَنَّ الْكُوفِيِّينَ يَجْعَلُونَهَا اسْمَ شَرْطٍ مَعْنًى وَعَمَلًا وَمِنْ مَجِيءِ كَيْفَ شَرْطِيَّةً قوله تعالى:
{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: من الآية64] َيْ كَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ، وَمَعْنَاهَا فِي ذَلِكَ عُمُومُ الْأَحْوَالِ.

 

ج / 10 ص -71-       وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فَرْعًا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ إذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْهُ كَيْفَ شِئْتَ، فَلَهُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْغَبْنِ، وَبِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَعَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ تَجْوِيزُ الْكُلِّ فَيُمْكِنُ اعْتِضَادُهُ بِالْحَدِيثِ فِي إدْرَاجِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَحْتَ الْكَيْفِ. لَكِنْ بَيْنَ هَذَا الْمِثَالِ وَبَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ فَرْقٌ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ مَعًا كَقَوْلِهِ "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا الصِّنْفَ بِصِنْفٍ آخَرَ كَيْفَ شِئْتُمْ عَلَى أَحَدِهِمَا زِيَادَةً" فَشَمِلَ، أَيْ فَبِيعُوا فِي الثَّمَنِ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْمَبِيعِ بِالْكَيْفِيَّةِ إلَى أَحْوَالٍ وَنُقْصَانُهُ عَنْهُ.
وأما الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْوَكَالَةِ فَالْكَيْفِيَّةُ رَاجِعَةٌ إلَى نَفْسِ الْبَيْعِ، فَلَا جَرَمَ شَمِلَ النَّقْدَ وَالنَّسِيئَةَ، وَلَمْ يَشْمَلْ قِلَّةَ الثَّمَنِ وَكَثْرَتَهُ وَبَيَانَ جِنْسِهِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ مُسَمَّى الْبَيْعِ وقوله تعالى:
{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: من الآية64] وَمَوْقِعُ كَيْفَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّمَاثُلَ وَالتَّفَاضُلَ صِفَتَانِ لِلْمَبِيعِ، يَرْجِعَانِ إلَى أَحْوَالِ مُقَابَلَتِهِ بِغَيْرِهِ. وَذَلِكَ مِنْ الْكَيْفِ لَا مِنْ الْكَمِّ، فَلِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: "إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ"قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَذِكْرُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ ثَانِيًا وَاهْتِمَامُهُ بِهِ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَوَّلِ التَّأْكِيدَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ دُونَ قَوْلِهِ عَيْنًا بِعَيْنٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَدًا بِيَدٍ يَدُلُّ عَلَى التَّقَابُضِ صَرِيحًا، وَعَلَى الْحُلُولِ ظَاهِرًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، فَفِي الْأَوَّلِ أَتَى بِاللَّفْظَيْنِ لِيَدُلَّا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ صَرِيحًا، وَفِي الْأَخِيرِ اكْتَفَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ لِلْبَيْعِ أَيْ إذَا كَانَ الْبَيْعُ يَدًا بِيَدٍ، أَيْ مُنَاجَزَةً فَهَاهُنَا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمَبِيعِ. وَفِي الْأَوَّلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمَبِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَبِيعُوا إلَّا مُنَاجَزَةً فَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ بَيْعًا مُنَاجَزَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا" قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: التِّبْرُ مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدَّنَانِيرِ مَا كَانَ غَيْرَ مَصُوغٍ وَلَا مَضْرُوبٍ، وَكَذَلِكَ مِنْ النُّحَاسِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ وَمَا كَانَ كُسَارًا أَوْ غَيْرَ مَصُوغٍ وَلَا مَضْرُوبٍ فُلُوسًا وَأَصْلُ التِّبْرِ مِنْ قَوْلِكَ تَبَّرْتُ الشَّيْءَ أَيْ كَسَّرْتُهُ جِدًّا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ التِّبْرُ بِالتِّبْرِ وَبِالْعَيْنِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاصِلِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ وَقَبْلَ الضَّرْبِ. وَأَمَّا التِّبْرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَعْدِنِ قَبْلَ التَّصْفِيَةِ فَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ فِضَّةٍ، وَلَا يُوجَدُ تِبْرُ ذَهَبٍ خَالِصًا مِنْ فِضَّةٍ، وَلَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ إلَّا بِالتَّصْفِيَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ بَيْعُ التِّبْرِ الْمَذْكُورِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِخَالِصٍ كَبَيْعِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، فَيَمْتَنِعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِنْ تَبَايَعَا دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَ عَيْبًا نَظَرْتَ فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا جَازَ أَنْ يَرُدَّ وَيُطَالِبَ بِالْبَدَلِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ قُبِضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَإِنْ تَفَرَّقَا فَفِيهِ قولان: أحدهما: يَجُوزُ إبْدَالُهُ لِأَنَّ مَا جَازَ إبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ بَعْدَهُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ والثاني: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ لِأَنَّهُ إذَا أَبْدَلَهُ صَارَ الْقَبْضُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ".
الشرح: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ جَوَازِ الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي الْعِوَضَيْنِ وَلَا أَحَدِهِمَا إذَا حَصَلَ التَّعْيِينُ فِي الْمَجْلِسِ. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوَّلًا ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ

 

ج / 10 ص -72-       فَنَقُولُ: إنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ تَارَةً يَرِدُ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَتَارَةً يَرِدُ عَلَى الذِّمَّةِ. وَالْوَارِدُ عَلَى الذِّمَّةِ إمَّا أَنْ يَرِدَ عَلَى شَيْءٍ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ، وَإِمَّا عَلَى شَيْءٍ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْعَقْدِ فَيَتَحَوَّلُ بِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ: الْمُعَيَّنُ والثاني: الْمَوْصُوفُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ والثالث: الدَّيْنُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى عِوَضَيْنِ وَالْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِهِمَا فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ سِتَّةٌ وَتَرْتِيبُهَا أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ قِسْمٍ مَعَ نَفْسِهِ وَمَعَ مَا بَعْدَهُ. وَقَدْ رَتَّبَهَا هَكَذَا:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ الثاني: مَوْصُوفَيْنِ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا دَيْنَيْنِ الرَّابِعُ: مُعَيَّنٌ وَمَوْصُوفٌ الْخَامِسُ: مُعَيَّنٌ وَدَيْنٌ السَّادِسُ: مَوْصُوفٌ وَدَيْنٌ. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا يَمْتَنِعُ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُعَيَّنَيْنِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي جَوَازِهِ كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ أَوْ صَارَفْتُكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَمْوَالِ الرِّبَا كَبِعْتُكَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ أَوْ بِهَذَا الشَّعِيرِ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إطْلَاقُ ذَلِكَ وَتَفَاصِيلُهُ.
وَمِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الْعِوَضَيْنِ يَتَعَيَّنَانِ بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ الْمُتَعَيَّنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَمَتَى تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، حَيْثُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهِ إمَّا بِمُقَابَلَةٍ وَإِمَّا بِرَدٍّ بِعَيْبٍ حَيْثُ ثَبَتَتْ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْدِلَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ بِكُلِّ الْمَبِيعِ أَوْ بِبَعْضِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ وَعَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَخْذُ بِدَلِهَا مِنْ غَيْرِ فَسْخِ الْعَقْدِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَقْدُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ فَاعِلُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ صَحَّ، حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ فِي الْعُمْدَةِ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ الْمَحْكِيُّ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ فِي هَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فَرَّعَهُ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ. قَالَ فِي كِتَابِ الْأَسْرَارِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ: إذَا كَانَ مُعَيَّنًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَخْطَأَ مَنْ جَوَّزَهُ وَهُوَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ. وَاحْتَجُّوا لَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ: إنَّ الثَّمَنَ لَهُ شَرْطَانِ أَنْ يَصْحَبَهُ الْبَائِعُ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ، قِيلَ: إنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَمِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فَقَالَ:
لَا بَأْسَ إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ" وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا.
والجواب: عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَثْمَانِ مُطْلَقَةً وَعَنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ بِأَنَّ التَّعْيِينَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا مَجَالَ لِلُّغَةِ فِيهِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى ثَمَنًا صَارَ بَحْثًا لَفْظِيًّا، وَصَارَ كَمَا

 

ج / 10 ص -73-       إذَا بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبٍ، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ الصَّفْقَةَ خَالِيَةٌ عَنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّسْمِيَةُ فَقَطْ، فَكَمَا أَنَّ الثَّوْبَ مُتَعَيِّنٌ بِالْعَقْدِ كَذَلِكَ النَّقْدُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّ الْفَرَّاءَ خَلَطَ فِي هَذَا الْكِتَابِ اللُّغَةَ بِالْفِقْهِ، وَعَوَّلَ عَلَى فِقْهِ الْكُوفِيِّينَ، فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِه:ِ "قَالَ" وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِيمَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّقْدَيْنِ يَتَعَيَّنَانِ بِأَجْنَاسِهِمَا، فَإِذَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ يَتَعَيَّنُ جِنْسُ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِدَنَانِيرَ يَتَعَيَّنُ جِنْسُ الدَّنَانِيرِ، نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ الْطَاوُسِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ وَحُجَّتُنَا فِي التَّعْيِينِ مِنْ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الرِّبَا "عَيْنًا بِعَيْنٍ".
قَالَ أَصْحَابُنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ كَانَا لَا يَتَعَيَّنَانِ لِمَا كَانَا عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَالْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا كَانَ عِوَضًا بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِوَضٌ مُشَارٌ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَيَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَعَلَى الْقَرْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ وَالصَّدَاقِ وَالْوَكَالَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ حُلِيًّا فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ النَّقْدِ بِخُصُوصِهِ. وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ. لَكِنَّهُمْ اعْتَذَرُوا عَنْ الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا وُجُوبَهَا فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ الْمُعَيَّنَ إنْ صَلُحَ لِلْعِوَضِيَّةِ لَمْ يَجُزْ إبْدَالُهُ لِتَعَلُّقِ الْمِلْكِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا ثَمَنًا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الثَّمَنَ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ. وَمَعْنَى التَّعْيِينِ أَنَّهُ يُوفِي ذَلِكَ الْمُطْلَقَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَنَقُولُ: إنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ فِيهِ بِالتَّعْيِينِ كَالسَّلَمِ إذَا عَيَّنَ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا. وَهَذِهِ حُجَّةُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَرَبْطُ الْعَقْدِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِهِ لِعِلْمِهِ بِحِلِّهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَغْرَاضِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله فَوَائِدَ وَمَقَاصِدَ فِي تَعْيِينِ الثَّمَنِ.
منها: لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِهِ عِنْدَ الْفَلَسِ وَتَبْرِئَةُ ذِمَّتِهِ لِقَصْرِ الْحَقِّ عَلَى تِلْكَ الْعَيْنِ. ومنها: لِلْمُشْتَرِي تَكْمِيلُ مِلْكِهِ إذْ الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ آكَدُ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ. وَلِهَذَا أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِيُسَاوِيَ الْبَائِعَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ. فَبِالتَّسْلِيمِ يَصِيرُ مَا عَلَيْهِ عَيْنًا مِثْلَ الْمَبِيعِ. قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي كِتَابِ الْأَسْرَارِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ رحمه الله تعالى تَعْيِينَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ، فِي بَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ مُخْتَصَرًا، وَلَا فَرْقَ فِي تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ أَوْ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ اُسْتُبْدِلَ عَنْ الْمُعَيَّنِ بَعْدَ التَّقَابُضِ وَالتَّخَايُرِ صَحَّ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ قَبْلَهُمَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ أَوْ بَعْدَ التَّقَابُضِ وَقَبْلَ التَّخَايُرِ صَحَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ، فَإِنَّهُ جَعَلَ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي كَالتَّفَرُّقِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالرَّافِعِيِّ، وَضَعَّفَهُ الْمَاوَرْدِيُّ والثاني: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ إذَا قُلْنَا لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي إلَّا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ لَا يَصِحُّ. أَوْ بَعْدَ التَّخَايُرِ وَقَبْلَ التَّقَابُضِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، فَلَا يُصَادِفُ الِاسْتِبْدَالُ مَحَلًّا، خِلَافًا لِابْنِ سُرَيْجٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ وَهَبَ الصَّيْرَفِيُّ الدَّرَاهِمَ الْمُعَيَّنَةَ لِبَاذِلِهَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهَا

 

ج / 10 ص -74-       لَمْ يَسْتَقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ كَالْبَيْعِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ بَعْدَ قَبْضِهَا وَقَبْلَ التَّفَرُّقِ وَانْقِضَاءِ الْخِيَارِ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ الْمَنْقُولُ عَنْ حِكَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ، فَإِنَّهُ طَرَدَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالتَّزْوِيجِ أَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَزَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ فِي الْمَجْلِسِ.
قَالَ: إنْ قُلْنَا: الْمُشْتَرِي مَلَكَ صَحَّ التَّزْوِيجُ وَإِلَّا فَلَا، وَيَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ.
فرع: إذَا تَعَاقَدَا عَلَى مُعَيَّنَيْنِ يَجُوزُ جُزَافًا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى وَالْأَصْحَابُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَوْصُوفَيْنِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفَيْنِ. وَهُوَ الْمُطْلَقُ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نَقْدٌ مُتَعَارَفٌ. كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ أَوْ صَارَفْتُكَ دِينَارًا مِصْرِيًّا فِي ذِمَّتِي بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ الضَّرْبِ الْفُلَانِيِّ فِي ذِمَّتِكَ فَقَدْ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ إذَا تَوَاصَفَا الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَطْلَقَا وَكَانَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ أَوْ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا غَالِبٌ فَيَرْجِعُ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ ثُمَّ يُعَيِّنَانِ وَيَتَقَابَضَانِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا فَاسْتَقْرَضَا وَتَقَابَضَا جَازَ. وَكَذَلِكَ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ إنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْغَالِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ بِأَنْ كَانَ فِيهَا نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَغْلَبَ مِنْ بَعْضٍ اُشْتُرِطَ تَعْيِينُ النَّوْعِ، كَقَوْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ رَاضِيَةٍ1 أَوْ نَاصِرِيَّةٍ بِدِينَارٍ مَطْبَقِيٍّ أَوْ ماسيانِيٍّ2 أَوْ أَهْوَازِيٍّ أَوْ سَابُورِيٍّ. وَفِي التَّقْوِيمِ يُعَيِّنُ الْقَاضِي وَاحِدًا لِلتَّقْوِيمِ، قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ، فَإِنْ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَسَدَ الْعَقْدُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَالرُّويَانِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ أَنَّهُ حَكَى أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْأَعْيَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
فَإِنْ جَوَّزْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ بَيْعَ الدَّيْنِ فَقَدْ نَهَى صلوات الله عليه عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ قَالَ: فَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ الْعِوَضُ عَيْنًا غَائِبَةً لَمَا كَانَ إلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ سَبِيلٌ، وَاسْتَضْعَفَ الرُّويَانِيُّ هَذَا، وَنَظِيرُ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ صَالِحِ الْمِصْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُعَيَّنًا ثُمَّ يُقْبَضُ فِي الْمَجْلِسِ فَلَوْ عَقَدَ عَلَى مَوْصُوفٍ ثُمَّ أَحْضَرَهُ وَأَقْبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ كِلَا الْبَدَلَيْنِ مَوْصُوفٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: فَهَذَانِ وَجْهَانِ غَرِيبَانِ فِي الْمَذْهَبِ لَمْ يَحْكِهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ غَيْرُ هَذَيْنِ الْمُصَنِّفَيْنِ يَعْنِي صَاحِبَ التَّتِمَّةِ وَالْمَاوَرْدِيَّ فِيمَا أَعْلَمُ، وَلَسْت أَدْرِي هَلْ يُوَافِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ - يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ الْعَبَّادِيَّ وَأَبَا الْعَبَّاسِ الْمِصْرِيَّ صَاحِبَيْ الْوَجْهِ - صَاحِبَهُ فِي مَسْأَلَتِهِ أَمْ لَا؟ وَالْمُسَاوَاةُ مُتَّجَهَةٌ وَقَدْ يُتَكَلَّفُ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ الَّتِي رَوَيْتُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
لَا تَبِيعُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نسبة إلى الإمام الراضي بالله والناصر لدين الله.
2 كذا بالأصل ولعله قاساني أو ساساني نسبة إلى ملوك ساسان من الفرس.

 

ج / 10 ص -75-       الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَى قَوْلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا إذَا عَيَّنَا فِي الْمَجْلِسِ صَارَ عَيْنًا بِعَيْنٍ، كَمَا إذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَمْ يَرِدْ التَّعْيِينُ وَالتَّقَابُضُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ ا هـ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ حَتَّى يَكُونَ الْعَيْنَانِ حَاضِرَتَيْنِ. وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُظْهِرَ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَيُعَيِّنَ. وَعَنْ زُفَرَ - رحمه الله مِثْلُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ قَبْضُهُ لِمَا لَمْ يُعَيِّنْهُ قَرِيبًا مُتَّصِلًا بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ يُحِلُّهَا مِنْ كِيسِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَاتَّفَقُوا يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ الثَّلَاثَةَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رضي الله عنهم عَلَى جَوَازِ الصَّرْفِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا دَيْنًا وَقَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، دُونَ كَوْنِهِ عَيْنًا ا هـ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي الْعِوَضَيْنِ حِينَ الْعَقْدِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَقَاضِيهِ الدَّرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرَ عَنْ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّ أَخْذَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ صَرْفٌ وَالْمَأْخُوذَ عَنْهُ لَيْسَ مُعَيَّنًا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قُلْت: حَكَمْتُمْ هُنَا بِجَوَازِ الصَّرْفِ عَلَى الْمَوْصُوفَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَرَّمْتُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ إسْلَامَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ لَا يَجُوزُ، وَلَنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ عَلَى النَّظَرِ إلَى الْمُعَيَّنِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ لِأَنَّهُ سَلَمٌ، أَوْ يَحْكُمَ بِصِحَّةِ السَّلَمِ فِيهِ حَالًّا، كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قُلْت: امْتِنَاعُ إسْلَامِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ وَالْكَلَامُ فِيهِ مُخْتَصٌّ بِمَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْأَجَلِ، وَالْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّرْفِ.
فَإِنْ قُلْت: هَذَا نَظَرًا إلَى جَانِبِ اللَّفْظِ وَالسُّؤَالُ إذَا نَظَرْنَا إلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ إنَّ إشْعَارَ اللَّفْظِ بِالْأَجَلِ يَزُولُ بِشَرْطِ الْحُلُولِ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا تَصْحِيحُ السَّلَمِ فِيهَا كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَّا فَسَادُ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ قُلْت: الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ قِسْمَانِ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيْعِ، فَهُمَا خَاصَّانِ تَحْتَ أَعَمَّ وَبَيْنَهُمَا - أَعْنِي الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ - عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُ نَقْدًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَبَيْعَ النَّقْدِ قَدْ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ لَا يَكُونُ. فَفِي مَحَلِّ صِدْقِهِمَا، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ النَّقْدُ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ يَجِبُ النَّظَرُ فِي الْأَحْكَامِ، فَحُكْمُ الصَّرْفِ وُجُوبُ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَحُكْمُ السَّلَمِ قَبْضُ الثَّمَنِ.
وَأَمَّا الْمُثَمَّنُ، فَإِمَّا أَنْ تَقُولَ: إنَّ السَّلَمَ يَقْتَضِي جَوَازَ تَأَخُّرِهِ، فَيَكُونُ بَيْنَ مُقْتَضَاهُ وَمُقْتَضَى الصَّرْفِ تَضَادٌّ، أَوْ تَقُولَ: إنَّ السَّلَمَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا عَدَمَهُ بَلْ مُقْتَضَاهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ فَقَطْ.
فَإِنْ قُلْنَا: بِالْأَوَّلِ فَيُرَجَّحُ بِاللَّفْظِ، فَإِنْ عَقَدَ بِلَفْظِ السَّلَمِ بَطَلَ، وَإِنْ عَقَدَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ الصَّرْفِ صَحَّ، وَكَانَ صَرْفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ وَكَانَ السَّلَمُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ لُزُومِ التَّقَابُضِ فَيَجِبُ أَنْ يُوَفِّيَ الصَّرْفَ حُكْمَهُ، ضَرُورَةَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ صَرْفًا يَقْتَضِي التَّقَابُضَ، وَكَوْنَهُ سَلَمًا غَيْرُ مَانِعٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.

 

ج / 10 ص -76-       فَإِنْ قُلْتَ: التَّرْجِيحُ بِاللَّفْظِ فِيمَا إذَا جَرَى الْعَقْدُ بِلَفْظِ الصَّرْفِ فَيَصِحُّ أَوْ بِلَفْظِ السَّلَمِ فَيَبْطُلُ لِمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ مِنْ التَّضَادِّ. أَمَّا إذْ جَرَى بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، فَيَبْقَى تَعَارُضُ الْمَعْنَيَيْنِ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ ضَرُورَةَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْبَيْعِ قُلْت: بَلْ لَفْظُ الْبَيْعِ وَإِضَافَتُهُ إلَى هَذَا الْمَبِيعِ الْخَاصِّ مُرَجِّحٌ، لِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ بِقَوْلِهِ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ إلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ سَمَّوْا هَذَا النَّوْعَ بِاسْمِ الصَّرْفِ لِمَا سَتَعْرِفُهُ وَهَذَا الْبَحْثُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْقِسْمِ، بَلْ يَجْرِي فِيمَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ مَوْصُوفًا وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ أَوْ دَيْنٌ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالسَّادِسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْإِمَامُ رحمه الله اسْتَشْعَرَ هَذَا الْبَحْثَ فَقَالَ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الصَّرْفِ عَلَى الذِّمَّةِ: وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ السَّلَمِ، فَإِنْ وُضِعَ السَّلَمُ عَلَى اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ فَيُحْسَبُ، وَالصَّرْفُ يَجُوزُ عَقْدُهُ عَلَى وَصْفٍ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رحمه الله إنَّمَا هُوَ ذِكْرُ حُكْمِ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ وَحُكْمُ الْعَقْدِ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ جُزْءًا مِنْهَا، وَفِيمَا قَدَّمْتُهُ كِفَايَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَمْ يَجْزِمْ الْأَصْحَابُ بِجَوَازِ بَيْعِ الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ، بِالطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ كَمَا جَزَمُوا فِي الصَّرْفِ، بَلْ حَكَوْا فِي الطَّعَامِ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّ الْأَشْبَهَ بِكَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ وَجْهَ الْجَوَازِ أَظْهَرُ.
فرع: هَلْ يُسَوَّغُ الِاسْتِبْدَالُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَوْ لَا؟ اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ عَنْ الثَّمَنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَجُوزُ عَلَى الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ وَأَمَّا فِي الصَّرْفِ فَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُبْدِلَ عَنْهُ لَمْ يَحْصُلْ مَدْلُولُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "عَيْنًا بِعَيْنٍ" لَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا فِي الْمَجْلِسِ، فَوَجَبَ الْبُطْلَانُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَنِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الصَّرْفِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لِأَنَّهُ بِعَرَضِيَّةِ الْبُطْلَانِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ قَبْضِهِ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ، وَلِهَذَا جَزَمَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَدْ قُبِضَ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ لَمْ يُقْبَضْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلِلْقَائِلِ الْآخَرِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلِانْفِسَاخِ مِنْ جِهَتِهِ، بِأَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ بِهِ. وَالثَّمَنُ فِي الصَّرْفِ قَابِلٌ لِلِانْفِسَاخِ الْآتِي مِنْ جِهَتِهِ بِعَدَمِ قَبْضِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَلْزَمُ عَلَى الْمَذْهَبِ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا بِخِلَافِ الثَّمَنِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهِ اللُّزُومُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ فَرَّعْنَا عَلَى رَأْيِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي اللُّزُومِ قَبْلَ التَّقَابُضِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْقَائِلِ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْمَبِيعِ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُطْرَدَ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ لِمَا أَشَرْتُ إلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَجْلِسِ وَقَدْ خَرَّجَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرِّفْعَةِ جَوَازَ الِاسْتِبْدَالِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِوَضَانِ نَقْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَاذَا؟ وَحُكِمَ بِأَنَّا إذَا قُلْنَا: الثَّمَنُ النَّقْدُ وَلَا مَبِيعَ هُنَا، فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الِاسْتِبْدَالِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَهْوٌ لَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: الْإِبْرَاءُ عَنْ هَذَا الْعِوَضِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ فِي الصَّرْفِ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا بَطَلَ الصَّرْفُ. لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مِمَّا لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
فرع: جَرَيَانُ الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا إشْكَالَ فِيهِ كَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ اتِّفَاقِ

 

ج / 10 ص -77-       الْجِنْسِ كَأَنْ يَبِيعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فِي الْمُرْشِدِ وَالِانْتِصَارِ وَالْخُوَارِزْمِيّ فِي الْكَافِي.
فرع: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: فَلَوْ بَاعَ بِدِرْهَمٍ مُطْلَقًا وَنَقْدُ الْبَلَدِ مَغْشُوشٌ يَجِبُ دِرْهَمٌ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ مِنْ النُّقْرَةِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ كَتُرَابِ الصَّاغَةِ، وَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ فُلُوسًا أَوْ دَرَاهِمَ غِطْرِيفِيَّةً1 يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا.
فرع: جَرَيَانُ هَذَا الْقِسْمِ فِي صَرْفِ النَّقْدِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَهَلْ يَجُوزُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ حَيْثُ يَكُونُ هُنَاكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَيُمْكِنُ فَرْضُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الصِّفَةُ كَأَنْ يَبِيعَ دَنَانِيرَ مَغْرِبِيَّةً بِدَنَانِيرَ مَشْرِقِيَّةٍ، أَوْ دَرَاهِمَ لَيِّنَةً بِدَرَاهِمَ خَشِنَةٍ، لَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا، وَالظَّاهِرُ الْجَوَاز.
ُفرع: لَوْ بَاعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ طَعَامًا بِطَعَامٍ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ عَيَّنَ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ فَوَجْهَانِ أحدهما: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْوَصْفَ فِيهِ يَطُولُ بِخِلَافِ الصَّرْفِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي النُّقُودِ أَهْوَنُ وَهَكَذَا يَكْفِي فِيهَا الْإِطْلَاقُ والثاني: الْجَوَازُ، قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله: وَالْأَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ هَذَا أَظْهَرُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا دَيْنَيْنِ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ الدِّينَارَ الَّذِي لِي فِي ذِمَّتِك بِالْعَشَرَةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي لَكَ فِي ذِمَّتِي، حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّةُ كُلٍّ مِنَّا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى بِتَطَارُحِ الدَّيْنَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ: وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ لِرَجُلٍ، وَلِلرَّجُلِ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ فَحَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِلَّ، فَتَطَارَحَاهَا صَرْفًا فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ بِدَيْنٍ، وَقَالَ مَالِكٌ إذَا حَلَّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ فَلَا يَجُوزُ. انْتَهَى. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَكِنَّ طَرِيقَهُمَا أَنْ يُبْرِئَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا هَلْ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ: قَالَ أَحْمَدُ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُبَاعَ دَيْنٌ بِدَيْنٍ.
قلت: وَنَاهِيكَ بِنَقْلِ أَحْمَدَ الْإِجْمَاعَ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ سَنَدُهُ فِيهِ مَعَ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ" وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: إنَّ إسْنَادَهُ لَا يَثْبُتُ، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيَصِحُّ فِي هَذَا حَدِيثٌ؟ قَالَ: لَا، فَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ أَمْكَنَ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَإِنَّ الْكَالِئَ بِالْكَالِئِ هُوَ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ نَافِعٌ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَقِيقَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
أما إذَا لَمْ يَثْبُتْ فَالْإِجْمَاعُ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعله مطبقية أو بطريقية (ط).

 

ج / 10 ص -78-       يُؤَوِّلُ هَذَا إلَى تَفْسِيرِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ الْمُجْمَعِ عَلَى مَنْعِهِ، يَعْنِي مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَجْعَلَهُ عَلَيْهِ فِي دَيْنٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي الْقَدْرِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعُ دَيْنٍ بِمَا يَصِيرُ دَيْنًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ مُتَمَسَّكٌ بِضَعْفِهِ وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ التَّوَارُدِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَاحْتَجَّتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه وَتَقَاضِيهِ الدَّرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْمَوْصُوفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: فَلَوْ وَجَبَ لِزَيْدٍ فِي ذِمَّةِ عَمْرٍو دِينَارٌ أَهْوَازِيٌّ وَوَجَبَ لِعَمْرٍو فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ دِينَارٌ أَهْوَازِيٌّ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا1.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مُعَيَّنٌ وَمَوْصُوفٌ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله، فَلَوْ جَرَى هَذَا الْقِسْمُ بِلَفْظِ السَّلَمِ كَانَ بَاطِلًا أَيْضًا كَالْقِسْمِ الثَّانِي وَرَأَى شَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ الْقَطْعَ بِالْجَوَازِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، لِلْبُعْدِ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهَذَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: دَيْنٌ بِعَيْنٍ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دِينَارٌ، فَقَالَ: بِعْتُكَ الدِّينَارَ الَّذِي لِي عَلَيْكَ بِهَذِهِ الْعَشَرَةِ الدَّرَاهِمِ فَيَجُوزُ أَيْضًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ. وَهَذَا قِسْمَانِ أحدهما: أَلَّا يَكُونَ ثَمَنًا وَلَا مُثَمَّنًا كَدَيْنِ الْقِرَاضِ وَالْإِتْلَافِ والثاني: أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا عَلَى الْجَدِيدِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ، فَلَوْ كَانَ فِي الصَّرْفِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ عَنْ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرِ عَنْ الدَّرَاهِمِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ. حُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَالْحَسَنِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَرُوِيَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه: يُؤْخَذُ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَبِأَعْلَى وَبِأَرْخَصَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه: إنَّمَا يَقْضِيهِ إيَّاهَا بِالسِّعْرِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ يَقْضِيهِ إيَّاهَا بِالسِّعْرِ إلَّا مَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا" وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْقَضَاءِ فَيُقَيَّدُ بِالْمِثْلِ كَمَا لَوْ أَحْصَيْنَاهُ مِنْ الْجِنْسِ وَالتَّمَاثُلِ، بَيْنَمَا هُوَ مُتَعَذِّرٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَاعْتُبِرَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، وَالْعُمْدَةُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ما يسمى بالمقاصة في لغة المصارف اليوم.

 

ج / 10 ص -79-       مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ الدَّنَانِيرَ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ الدَّرَاهِمَ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ عَنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ عَنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ عَنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ عَنْ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا بَأْسَ مِنْ أَنْ تَأْخُذَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ" وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَقَدْ تَفَرَّدَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ، لَا يُرْوَى مِنْ غَيْرِ جِهَةِ سِمَاكٍ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ الطَّنَافِسِيُّ قَالَ: ثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَوْ سِمَاكٌ عَلَى الشَّكِّ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ إلَّا سِمَاكًا، وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ بِسِمَاكٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَسِمَاكٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ إنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ، وَأَنَّ شُعْبَةَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَلِسِمَاكٍ حَدِيثٌ كَبِيرٌ مُسْتَقِيمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّهُ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ تَابِعِي الْكُوفِيِّينَ وَأَحَادِيثُهُ حِسَانٌ عَمَّنْ يَرْوِي عَنْهُ وَهُوَ صَدُوقٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُد الطَّيَالِسِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ طَلِيقٍ يَسْأَلُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا بِسْطَامٍ حَدِّثْنِي بِحَدِيثِ سِمَاكٍ فِي اقْتِضَاءِ الْوَرِقِ عَنْ الذَّهَبِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ وَهَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ يَرْفَعُهُ أَحَدٌ إلَّا سِمَاكٌ، قَالَ فَتَذْهَبُ أَنْ أَرْوِيَ عَنْكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَأَخْبَرَنِيهِ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَحَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَرَفَعَهُ سِمَاكٌ، فَأَنَا أُفَرِّقُ بِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ، فَمِنْ جُمْلَةِ مَا رَوَى عَنْهُ حَدِيثُ سُوَيْد بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ أَوْ الْبَحْرَيْنِ، حَدِيثٌ1 لَيْسَ لِزَيْدٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فَهَذَا مَا حَضَرَنِي مِنْ حَالِ سِمَاكٍ، وَهُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى التَّوْثِيقِ أَقْرَبُ. وَحَدِيثُهُ هَذَا يَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْحَسَنِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ عَدِيٍّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: قَدْ أَدْرَكْتُ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْهُ قَالَ:"ذَهَبَ بَصَرِي فَرَأَيْتُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: ذَهَبَ بَصَرِي، قَالَ: انْزِلْ، إلَى الْفُرَاتِ فَاغْمِسْ رَأْسَكَ فِيهِ وَافْتَحْ عَيْنَيْكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرُدُّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ بَصَرِي"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث رواه الحاكم بإسناده عن سماك بن حرب عن سويد بن قيس قال: "جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر أو البحرين فلما كنا بمنى أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى منا سراويل وقباء، ووزان يزن بالأجرة فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن فقال:
زن وأرجح" قال الحاكم: رواه سفيان عن سماك بن حرب (ط). 

 

ج / 10 ص -80-       وَقَدْ جَعَلَ قَوْمٌ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مُعَارِضًا لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَشِبْهِهِ فِي قَوْلِهِ "وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ" قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ الْحَدِيثَانِ بِمُتَعَارِضَيْنِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مُفَسَّرٌ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مُجْمَلٌ، فَصَارَ مَعْنَاهُ لَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا لَيْسَ فِي ذِمَّةٍ بِنَاجِزٍ. وَإِذَا حُمِلَا عَلَى هَذَا لَمْ يَتَعَارَضَا ا هـ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ نَصٌّ فِي أَخْذِ الْمُعَيَّنِ عَنْ الدَّيْنِوأما: الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْمَوْصُوفِ عَنْ الدَّيْنِ فَمُحْتَمَلٌ، فَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ مُحْتَمَلٌ لَأَنْ يَكُونَ يَعْتَاضُ عَنْ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهَا دَرَاهِمَ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَلَمْ يُعَيِّنْهَا، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ: "وَآخُذُ" فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْقَبْضِ لَا فِي مُجَرَّدِ الْمُعَاوَضَةِ وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُفْسِدُهُ الْجَوَابُ وَرَفْعُ الْبَأْسِ مِمَّا إذَا تَفَرَّقَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، وَلَوْ حَصَلَ التَّقَابُضُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ.
وَقَدْ رَدَّ ابْنُ حَزْمٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَنَعَ جَوَازَ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْحَدِيثَ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَلِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ فِي النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كُنْتُ أَبِيعُ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ:
إذَا بَايَعْتَ صَاحِبَكَ فَلَا تُفَارِقْهُ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ" وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ حَدِيثًا وَاحِدًا وَأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ تِلْكَ، فَإِنَّ مَضْمُونَ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْإِبِلَ بِالدَّنَانِيرِ ثُمَّ يَبِيعُ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ وَبِالْعَكْسِ، فَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ عَلَى ذِكْرِ مَا يُفْعَلُ فِي الثَّمَنِ دُونَ شَرْحِ الْقِصَّةِ بِكَمَالِهَا فَلَا تَعَارُضَ وَلَا مُنَافَاةَ، وَمَنْ زَادَ حُجَّةً عَلَى مَنْ اقْتَصَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْخَامِسِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَبَنَى مَسْأَلَةَ مَا إذَا صَالَحَ بِدَيْنٍ عَلَى عَيْنٍ.
فرع: يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عِوَضًا قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ لَمْ يَصِحَّ. أَمَّا تَقْدِيمُ الدَّيْنِ فَيَجُوزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَسْأَلَةُ الِاسْتِبْدَالِ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ، وَلَكِنِّي ذَكَرْتُ هُنَا مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّرْفِ، وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ هُنَا أَنَّهُ إذَا اعْتَاضَ عَرَضًا عَنْ النَّقْدِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ قَبْضُ الْعَرَضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَأَنَّهُ لَوْ اعْتَاضَ عَرَضًا وَنَقْدًا فَفِيهِ قَوْلَا الْجَمْعِ بَيْنَ1 وَلَا يَسْلَمُ لَهُ مَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّرْفِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.
فرع: قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الذِّمَّةِ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: إنَّهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ.
فرع: وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ ذَهَبٌ حَالٌّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر (ش) قلت: لعل السقط (الروايتين) (ط).

 

ج / 10 ص -81-       فَأَعْطَاهُ عَلَى غَيْرِ بَيْعٍ مُسَمًّى مِنْ الذَّهَبِ فَلَيْسَ بِبَيْعٍ، وَالذَّهَبُ1 وَعَلَى هَذَا دَرَاهِمُ مِثْلُ الدَّرَاهِمِ الَّتِي أَخَذَ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ: دَيْنٌ بِمَوْصُوفٍ كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ الدِّينَارَ الَّذِي لِي فِي ذِمَّتِكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَوْصُوفَةٍ أَوْ مُطْلَقَةٍ فِي بَلَدٍ فِيهَا نَقْدٌ غَالِبٌ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ بِشَرْطِ التَّعْيِينِ فِي الْمَجْلِسِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَا إذَا صَالَحَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى دَيْنٍ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ الْمَوْصُوفَيْنِ، فَقَدْ تَلَخَّصَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ، وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه إلَّا الْقِسْمَ الثَّالِثَ فَقَطْ وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالصَّرْفُ فِي الذِّمَّةِ وَاقِعٌ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ؛ الْقِسْمِ الثَّانِي وَالرَّابِعِ وَالسَّادِسِ وَصُوَرُهُ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا كَانَا مَوْصُوفَيْنِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُطْلَقَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمَوْصُوفَيْنِ، فَإِذَا تَبَايَعَا دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ وَوَصَفَا كُلًّا مِنْ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَطْلَقَا، وَكَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ أَوْ غَالِبٌ وَتَقَابَضَا، صَحَّ الْعَقْدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ إلَّا مَا حَكَيْتُهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَإِنَّمَا صُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِوَضَانِ فِي الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَ صَدْرُ كَلَامِهِ مُحْتَمِلًا لِمَا إذَا كَانَتْ الدَّنَانِيرُ فِي الذِّمَّةِ فَقَطْ، لِإِطْلَاقِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرُدَّ وَيُطَالِبَ بِالْبَدَلِ وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ مُعَيَّنًا لَمْ يَأْتِ هَذَا الْحُكْمُ وَالتَّعْلِيلُ إلَّا فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ فَقَطْ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ إنَّ صُورَةَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا وَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَمْ يُنَاجِزَا جَازَ أَنْ يَرُدَّهُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ يُطَالِبُ بِبَدَلِ الْمَقْبُوضِ وَيُطَالِبُ بِالْبَدَلِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ صَحِيحٌ لَا عَيْبَ فِيهِ.
فَإِذَا قَبَضَ مَعِيبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ، إذَا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِبَدَلِهِ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ بِعَيْنِهِ فَلَوْ طَالَبَهُ بِبَدَلِهِ لَطَالَبَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ، فَكَانَ لَهُ فَسْخُهُ وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ فَقَطْ، وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ كَوْنِهِ يَرُدُّ الْعِوَضَ الْمَقْبُوضَ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، وَيُطَالِبُ بِبَدَلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَالْأَصْحَابُ وَجَزَمُوا بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِضَّةً خَشِنَةً أَوْ صَكَّتُهَا مُضْطَرِبَةً مُخَالِفَةً لِصَكَّةِ السُّلْطَانِ أَوْ بِهَا صَدْعٌ أَوْ ثَلْمٌ أَمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَنَانِيرَ فَتَخْرُجَ نُحَاسًا أَوْ فِضَّةً مَطْلِيَّةً بِذَهَبٍ أَوْ شِبْهِهَا، أَوْ يَشْتَرِيَ دَرَاهِمَ فَتَخْرُجَ رَصَاصًا، كَذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمْ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُمَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ بِكُلِّ الْمَقْبُوضِ أَمْ بِبَعْضِهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَالْأَصْحَابُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل والسقط لعله (والذهب المأخوذ عليه دراهم برد بوزنه وعلى هذا دراهم الخ) (ط).

 

ج / 10 ص -82-       فَإِذَا رَدَّ الْعِوَضَ الْمَذْكُورَ وَقَبَضَ بَدَلَهُ وَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ، لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَسُكُوتُهُ عَنْ صِحَّةِ قَبْضِ الْبَدَلِ إذَا أُخِذَ بِشَرْطِهِ، لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِجَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يُطَالِبُ بِالْبَدَلِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِذَا قَبَضَهُ صَحَّ، لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا حُكْمَيْنِ وَعِلَّتَيْنِ، أَوْ يَجْعَلُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَيُطَالِبُ بِالْبَدَلِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا قَبَضَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَقَدْ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ، يُطَالِبُ بِالْبَدَلِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ قَبَضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ كَافِيَةٌ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِجَوَازِ الْمُطَالَبَةِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ هَذَيْنِ النَّقْدَيْنِ وَإِلَّا فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَجْعَلَ عِلَّةَ جَوَازِ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ أَنَّهُ قَدْ قَبَضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، لِأَنَّهُ إلَى الْآنَ لَمْ يَقْبِضْ، وَهَذَا الْخِلَافُ قَرِيبٌ ظَاهِرٌ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ، وَإِذَا قَدَّرْتَ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً مَحْذُوفَةً كَمَا ذَكَرْتُ صَارَ الْمَعْنَى: فَإِذَا قَبَضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَقَدْ قَبَضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَلَامٌ لَغْوٌ، فَإِنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَاجِبَةٌ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُغَايَرَةَ تَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الضَّمِيرَيْنِ فَالضَّمِيرُ فِي قَبْضِ الْأَوَّلِ عَائِدٌ عَلَى الْبَدَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَبْضِ الثَّانِي عَائِدٌ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرْطٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ذَكَرَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَقَاسَهُ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهُ إذَا قَبَضَهُ يَصِحُّ لِوُضُوحِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَبْضَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَاحْتَمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ الْبَحْثِ وَالتَّقْدِيرِ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ كِلَاهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِنَا.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَزَمُوا بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَيُطَالِبَ بِالْبَدَلِ؟ وَلَنَا خِلَافٌ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَنَّ تَعْيِينَهُ فِي الْمَجْلِسِ هَلْ يَكُونُ كَتَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ؟ وَالْأَصَحُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السَّلَمِ: أَنَّ الْمُعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْدِ، وَأَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْفَسْخِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِبَدَلِهِ فَهَلَّا كَانَ كَذَلِكَ هَاهُنَا؟.
قلت: قَدْ تَخَيَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ شُيُوخِنَا وَقَالَ: إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَرَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ أَخْذُ الْبَدَلِ عَلَى وَجْهٍ، كَمَا إذَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى عَيْنِهِ، قَالَ: وَلَمْ أَرَهُ وَهَذَا التَّخَيُّلُ ضَعِيفٌ وَالْأَصْحَابُ كُلُّهُمْ مُطْبِقُونَ عَلَى الْجَزْمِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَلْزَمُوا بِهَا الْمُزَنِيَّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يَرُدُّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَجَعَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ نَاقِصَةً لِدَعْوَى أَنَّ الْمُعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْدِ مُطْلَقًا. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ ظَهَرَ لَكَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ امْتِنَاعَ الِاسْتِبْدَالِ فِي الْمُعَيَّنِ، لِأَنَّهُ نُقِلَ لِلْعَقْدِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْمَوْصُوفِ بَلْ هُوَ مُطَالَبَةٌ بِالْمُسْتَحَقِّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَرِدْ عَلَى هَذَا الْمَقْبُوضِ قَطْعًا وإن قلنا: بِأَنَّهُ بِعَيْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ تَعْيِينُهُ فِي الْعَقْدِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَفِي الرُّجُوعِ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الِانْفِسَاخِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ ارْتِفَاعُ الْمِلْكِ فِيهِ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَثَرِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَلَا تَتَعَيَّنُ حَقِيقَتُهُ بِالْقَبْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 10 ص -83-       وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ هُنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، كَذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَالرُّويَانِيُّ وَجَزَمَا فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ بِجَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَإِجْرَاءِ الْخِلَافِ بَعْدَهُ، وَاَلَّذِي ذَكَرُوهُ فِي السَّلَمِ مِنْ أَنَّهُ إذَا فَسَخَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَوْصُوفًا ثُمَّ عَجَّلَ فِي الْمَجْلِسِ وَهُوَ بَاقٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْأَصَحِّ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْدِ، الَّذِي يَظْهَرُ بِأَنَّهُ يَجْرِي بِعَيْنِهِ فِي الصَّرْفِ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا، حَتَّى لَوْ تَقَايَلَا فِي الصَّرْفِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَوْ جَرَى سَبَبٌ يَقْتَضِي الْفَسْخَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى عَيْنِ الْعِوَضِ الَّذِي سَلَّمَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَزَالَ الْإِيرَادُ وَالتَّخْرِيجُ الَّذِي يُخَيَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ عَلَّلَ الْمَحَلِّيُّ فِي الذَّخَائِرِ جَوَازَ الْإِبْدَالِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِأَنَّ مَا فِي الذِّمَمِ بَاقٍ لَا تَبْرَأُ بِالْمَعِيبِ صَحِيحٌ وَإِنْ جَازَ رَدُّهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ، وَتَلِفَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِيهِ، وَهُمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَالَ فِي التَّهْذِيبِ غَرِمَ مَا تَلِفَ عِنْدَهُ وَيَسْتَبْدِلُ.
فَرْعٌ: لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِهِ بِعَيْبِهِ جَازَ فِي هَذَا الْقِسْمِ إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ أَرْشِهِ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إنْ كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ الْجِنْسِ كَرَدَاءَةِ الْفِضَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إذَا تَفَرَّقَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَيْبُ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُ الْجِنْسِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُ عَلَى أَنَّهُ دَرَاهِمُ فَإِذَا هِيَ رَصَاصٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبٌ فَإِذَا هِيَ تِبْرٌ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَيْبَ فِي الْجَمِيعِ فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ. لِأَنَّ الَّذِي قَبَضَهُ غَيْرُ الْعِوَضِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ إمْسَاكُهُ فَإِذَا عَقَدَ عَقْدَ الصَّرْفِ وَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْبُوَيْطِيِّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: إنَّهُ يَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَعْنِي قَوْلَ مَنْعِ الِاسْتِبْدَالِ فَأَوْهَمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إنَّهُ لَا خِلَافَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الْكُلِّ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ لِمَا قُلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصَحَّ فِي السَّلَمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ رحمه الله: يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْفَسَادَ1 وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقْتَرِنًا بِالصَّفْقَةِ وَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إنَّ تَخْرِيجَهُمَا عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ هُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَلَيْسَ كَمَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ إذَا تَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ حَيْثُ لَا يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ عَدَمَ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ فَسَادٌ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، إذْ تَمَامُ الصَّرْفِ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ فِي الْبَاقِي قَوْلَانِ، فَعَلَى هَذَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر (ش) قلت: ولعل العبارة تستقيم هكذا: "وليس بصحيح لأن الفساد في بعضه يبطله" (ط).

 

ج / 10 ص -84-       إنْ أَبْطَلْنَاهُ فِي الْكُلِّ رَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي السَّلِيمِ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فِي السَّلِيمِ فَيَرْجِعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ يُمْضِيَهُ، فَإِنْ أَمْضَاهُ فِي السَّلِيمِ فَبِمَاذَا يُمْضِيهِ؟ نُظِرَ إنْ كَانَ الصَّرْفُ جِنْسًا وَاحِدًا أَمْضَاهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ.
وَإِنْ كَانَ جِنْسَيْنِ فَقولان: أحدهما: بِحِصَّتِهِ والثاني: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. قُلْتُ: وَمَا قَالَ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، أَمَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا مَثَّلْنَاهُ فِي الْفَرْعِ السَّابِقِ فَمَتَى أَجَازَ بِكُلِّ الثَّمَنِ يَدْخُلْ فِي الْـ1 كَمَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ الْجِنْسِ بَلْ مِنْ حَيْثُ رَدَاءَةُ الْجَوْهَرِ وَخَسَاسَةُ الْمَعْدِنِ، أَوْ قُبْحُ السِّكَّةِ وَالطَّبْعِ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ إمْسَاكَهُ وَالرِّضَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْخِلَافِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَلَهُ رَدُّهُ وَاسْتِرْجَاعُ ثَمَنِهِ، وَهَلْ لَهُ إبْدَالُهُ؟ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بِكُلِّ الْعِوَضِ أَوْ بِبَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَعِيبًا فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ وَهُمَا مَنْصُوصَانِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ أَصَحُّهُمَا: أَنَّ لَهُ الِاسْتِبْدَالَ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَالْمُجَرَّدِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَيْرَانَ فِي اللَّطِيفِ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ وَالْخُوَارِزْمِيّ فِي الْكَافِي وَالْغَزَالِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَالْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ، وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ رِوَايَتَيْهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ لَهُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: لِأَنَّهُ بَيْعُ صِفَةٍ أَجَازَهَا الْمُسْلِمُونَ إذَا قُبِضَتْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُجَّتِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَلَمًا بِصِفَةٍ ثُمَّ قَبَضَهُ فَأَصَابَ بِهِ عَيْبًا أَخَذَ صَاحِبَهُ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَجْهُ الشَّبَهِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَوْصُوفٌ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ، لَكِنْ لِلْمُزَنِيِّ أَنْ يَقُولَ: إنَّ التَّعْيِينَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَا يُصَيِّرُهُ كَالْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْدِ، فَلِهَذَا جَازَ إبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَصَلَ قَبْضُهُ فِي مَجْلِسِ عَقْدِ السَّلَمِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِيهِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ يَجُوزُ إبْدَالُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ إقْبَاضَهُ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا كَإِقْبَاضِ عِوَضِ الصَّرْفِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إقْبَاضِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ بِخِلَافِ الصَّرْفِ.
فَزَادَ الشَّيْخُ فِي الْقِيَاسِ تَبَعًا لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ كَلِمَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لِلْمُزَنِيِّ، فَجَعَلَ الْجَامِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ جَوَازَ الْإِبْدَالِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَجَعَلَهُ مَلْزُومًا بِجَوَازِ الْإِبْدَالِ بَعْدَهُ، وَلَا يُمْكِنُ لِلْمُزَنِيِّ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِمَا قَدَّمْتُهُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ جَوَازِ الْإِبْدَالِ فِي الصَّرْفِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ أَحَدُ أَنْوَاعِ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ - أَعْنِي هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ - أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر (ش) قلت: ولعلها يدخل في" الذمة" أو في "الجنس" (ط).

 

ج / 10 ص -85-       كَقَوْلِهِ: مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ كَالْمُسْلِمِ. فَإِنَّ الطَّلَاقَ نَظِيرُ الظِّهَارِ، فَيَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، كَذَلِكَ هُنَا الْإِبْدَالُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، فَيَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا الْإِبْدَالُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ نَظِيرُ الْإِبْدَالِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، لَكِنْ لِلْمُزَنِيِّ أَنْ يَقْطَعَ النَّظِيرَ وَيَقُولَ: إنَّ الْإِبْدَالَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحْظُورٌ بِخِلَافِ الْإِبْدَالِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حُصُولُ التَّقَابُضِ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّلَمِ لَا مَحْظُورَ فِيهَا أَيْضًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا فِي السَّلَمِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الصَّرْفِ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ اسْتِوَاءِ حُكْمِ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَتَقِفُ الدَّلَالَةُ.
وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ زِيَادَةٌ يَنْدَفِعُ بِهَا هَذَا السُّؤَالُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَمَا جَازَ فِيهِ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ كَافِيَةٌ مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلِلْمُزَنِيِّ أَنْ يَمْنَعَ الْمُلَازَمَةَ وَالْقِيَاسَ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الِامْتِنَاعَ فِيهِ لِأَجْلِ نَقْلِ الْعَقْدِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ وَأَمَّا الْمَوْصُوفُ فَالْمَنْعُ فِيهِ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ قَصَرَ الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي تَعْلِيقِ الطَّبَرِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْمَوْصُوفِ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الْجَوَازِ مُخْتَلِفَانِ فِي الِاعْتِلَالِ. قَالَ: لِأَنَّ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ إنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الِاسْتِبْدَالَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بِعَيْنِهِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ إنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الِاسْتِبْدَالَ، لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَقَعَ التَّقَابُضُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَيُؤَدِّيَ إلَى دُخُولِ الرِّبَا فِيهِ. فَأَشَارَ رحمه الله - بِهَذَا إلَى خِلَافِ الْعِلَّةِ، وَمَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَّةِ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمْ يَبْقَ إلَّا النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِبْدَالِ مُطْلَقًا، فَلْنَذْكُرْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُزَنِيّ وَتَوْجِيهَهُ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِاسْتِبْدَالُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ كَالْجَوَابِ فِي الْمُعَيَّنِ. وَرَجَّحَ الْمُزَنِيّ هَذَا الْقَوْلَ، فَلِهَذَا نَسَبْتُ الْبَحْثَ الْمُتَقَدِّمَ إلَيْهِ، وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ تِلْمِيذُ الْمُصَنِّفِ وَالرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ وَالْبَحْرِ قَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي عَصْرُونٍ فِي الِانْتِصَارِ وَالْمُرْشِدِ، وَجَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ - رحمه الله: وَعَبَّرَ الْأَئِمَّةُ عَنْ حَقِيقَةِ الْقَوْلَيْنِ فَقَالُوا: إذَا فَرَضَ رَدَّ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِبْدَالِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ لَمْ يَجْرِ أَمْ لَا يَسْتَنِدُ الْبَعْضُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَبْضِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ. وَهَذَا بِمَثَابَةِ الِاخْتِلَافِ فِي نَظِيرِ هَذَا مِنْ السَّلَمِ، فَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي جَارِيَةٍ ثُمَّ قَبَضَ جَارِيَةً فَوَجَدَهَا دُونَ الْوَصْفِ، فَإِنْ قَنِعَ بِهَا فَذَاكَ، وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْلُبُ جَارِيَةً عَلَى الْوَصْفِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَكِنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ الَّتِي رُدَّتْ عَلَيْهِ؟ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَأْخُوذَيْنِ مِنْ الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ مَهَّدْنَا الْآنَ. ا هـ.
قَالَ الْمُزَنِيّ فِي الْمُخْتَصَرِ بَعْدَ حِكَايَةِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: إذَا كَانَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الدِّينَارِ بِالدَّرَاهِمِ فِيمَا يَجُوزُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ سَوَاءً، وَفِيمَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ مِنْ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءً لَزِمَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَعِيبِ بَعْدَ الْقَبْضِ سَوَاءً، وَقَدْ قَالَ: يُرَدُّ الدِّرْهَمُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّينَارِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ:

 

ج / 10 ص -86-       أحدهما: أَنَّا إذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَعِيبَ وَيَأْخُذُ الْعِوَضَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا لِعِوَضِ الصَّرْفِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَهَذَا يُوجِبُ فَسَادَ عَقْدِ الصَّرْفِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِيمَا عَلَّقَ عَنْهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ: إنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ أَجْوَدُ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا عُيِّنَ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ مَا عُيِّنَ بِالْعَقْدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ الْمُعَيَّنُ بِالْعَقْدِ.
الثَّالِثُ: دَلَالَةُ الْمُزَنِيِّ يَعْنِي فِي الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَعْنَاهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ وَالصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ فِي الِاسْتِبْدَالِ، قِيَاسًا عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي التَّقَابُضِ.
وَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي حَصَلَ كَانَ قَبْضًا صَحِيحًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَمَّا تَفَرَّقَا لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، وَيَجُوزُ إمْسَاكُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ تَلِفَ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْقَابِضِ فَالْقَبْضُ صَحِيحٌ، لَكِنْ هُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فَإِذَا أَرَادَ الرَّدَّ فَإِنَّهُ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ حِينِهِ، زَادَ الْمَحَامِلِيُّ وَقَامَ الْقَبْضُ الثَّانِي مَقَامَهُ، فَهُمَا قَبْضَانِ تَعَقَّبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَفَرُّقٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بِوَجْهٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ إذَا وَجَدَ الْعَيْبَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعَيِّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا يُعَيِّنُ بِالْعَقْدِ ثُمَّ لَهُ الِاسْتِبْدَالُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ غَيْرَ مَا ابْتَاعَهُ. قَالَ: وَمَا قَالَهُ الْمُزَنِيّ يَنْكَسِرُ بِالِاسْتِبْدَالِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا قَالَ وَافْتَرَقَا فِي ذَلِكَ، فَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ وَجَوَابُهُ.
وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ وَجَدْتَهُ جَوَابًا إلْزَامِيًّا، فَإِنَّهُمْ وَجَدُوا الْمُزَنِيَّ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْدَالُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، هَكَذَا أَوْمَأَ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَرَأَيْتُ ذَلِكَ عَيْنَهُ فِي تَعْلِيقِ الطَّبَرِيِّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحًا، وَوَافَقَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إمْسَاكُهُ، كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَوْ أَنَّ ذَاهِبًا ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مَعِيبًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَانَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ كَانَ لِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا خِلَافًا فِي السَّلَمِ فِي أَنَّ الْمَعِيبَ الْمَقْبُوضَ هَلْ يُمْلَكُ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ أَمْ لَا يُمْلَكُ إلَّا مِنْ حِينِ الرِّضَى بِالْعَيْبِ؟ وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلَ. وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا إذَا قَبَضَ فِي الصَّرْفِ ثُمَّ ظَهَرَ الْعَيْبُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ: إنَّهُ بَانَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمَوْصُوفَ فِي الذِّمَّةِ، فَكَأَنَّ الْقَابِضَ لَمْ يَقْبِضْ وَالْمَجْلِسُ بَعْدُ جَامِعٌ.
هَذَا تَوْجِيهُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لِجَوَازِ الْإِبْدَالِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَكَانَ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ يَنْبَغِي إذَا قَبَضَ الْمَعِيبَ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْعَيْبِ أَلَّا يَمْلِكَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا تَفَرَّقَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَالْعُذْرُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْمَعِيبَ الْمَقْبُوضَ هَلْ يُمْلَكُ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ؟ أَوْ مِنْ حِينِ الرِّضَى؟ يَدُلُّ أَلَّا يُؤْخَذَ بِظَاهِرِهِ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الصَّرْفِ التَّقَابُضُ لَا حُصُولُ الْمِلْكِ بِهِ، وَهَذَا التَّقَابُضُ جَرَى صَحِيحًا بِدَلِيلِ حُصُولِ الْمِلْكِ عِنْدَ الرِّضَى بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَبْضُ صَحِيحًا لَاحْتَاجَ إلَى قَبْضٍ ثَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ وَلَا

 

ج / 10 ص -87-       يَبْقَى تَنَاقُضٌ بَيْنَ مَا جَزَمُوا بِهِ وَبَيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ الشَّرْطَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ حُصُولُ التَّقَابُضِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: الصَّرْفُ أَضْيَقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَصُّ الشَّرْعِ يَقْتَضِي أَلَّا يَبْقَى بَيْنَهُمَا عُلْقَةٌ أَصْلًا، وَالْمِلْكُ أَقْوَى الْعُلَقِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي سَبَقَ اعْتِبَارُهَا تُغْتَفَرُ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْمَقْبُوضِ لَا عَيْبَ فِيهِ مِمَّا يَشُقُّ فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ وَصُحِّحَ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إنَّ الْقَوْلَيْنِ يَلْتَقِيَانِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى عَنْ الذِّمَّةِ إذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ هَلْ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ أَوْ لَا؟ أَوْ كَأَنَّهُ وُجِدَ وَزَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ ثُمَّ تَجَدَّدَ الْمِلْكُ ثَانِيًا بِالرَّدِّ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ، فَائِدَتُهُمَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ جَارِيَةً فَرَدَّهَا بِعَيْبٍ، هَلْ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا؟
وَالثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَبْدًا فَاسْتَكْسَبَهُ وَأَخَذَ كَسْبَهُ وَغَلَّتَهُ ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْبٍ فَهَلْ يَجِبُ رَدُّ الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ؟ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ رحمه الله: إنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ وَالْأَخْذُ فَهَاهُنَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ حَصَلَ التَّفَرُّقُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَإِنْ قُلْنَا هَذَا مِلْكٌ آخَرُ أَيْ وَتَجَدَّدَ الْمِلْكُ بِهِ فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ نَقَلَهُمَا الْقَاضِي وَإِنْ كَانَا قَدْ تَبَيَّنَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَيْنَاهُمَا عَنْ الْأَصْحَابِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُمْلَكُ الْمَعِيبُ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ؟ أَوْ مِنْ حِينِ الرِّضَى؟ فَهُمَا غَيْرُهُمَا، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِمَا السُّؤَالُ، كَمَا وَرَدَ عَلَى قَائِلِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا رَدَّ وَاحِدٌ الْبَدَلَ هَلْ يَقُولُ: إنَّهُ انْتَقَضَ الْمِلْكُ فِي الْأَوَّلِ. وَيَثْبُتُ فِي الْبَدَلِ أَوْ يُقَدِّرُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ فِي الْأَوَّلِ أَصْلًا، وَهَذَا أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ لَا أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْيَقِينِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَدُلُّ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ. فَكَذَلِكَ هَذَا رَفَعَ حُكْمَ الْقَبْضِ مِنْ أَصْلِهِ وَالْعَامِلُ الْآخَرُ يَرْفَعُهُ مِنْ حِينِهِ، فَكَذَلِكَ تَقُولُ إنَّهُ زَالَ الْمِلْكُ فِي الْأَوَّلِ وَعَادَ فِي الثَّانِي، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ كَلَامُ الْقَاضِي، وَلَيْسَ يَلْزَمُ إثْبَاتُ خِلَافٍ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَرُدَّ وَرَضِيَ بِالْعَيْبِ فِي حُصُولِ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ الرِّضَى، أَوْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ فَذَلِكَ الْخِلَافُ عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي سَالِمٌ عَلَى الْإِشْكَالِ. وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى مَنْ غَيَّرَهُ بِالْعِبَارَةِ الْأُولَى، وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ فَقَالَ: إطْلَاقُ الْإِبْدَالِ عَلَى مَا يُوجَدُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ بَدَلًا عَمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَكَانَ إذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَالِهِ فِي الذِّمَّةِ قلنا: إنَّمَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ إذَا تَلِفَ الْمَقْبُوضُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِصِفَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ بِصِفَتِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَرَضِيَ بِهِ جَازَ، وَمَا كَانَ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ، بَلْ لِأَنَّهُ أَخَذَ عَلَى أَنَّهُ بِصِفَةِ مَالِهِ فِي الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا تَلِفَ، فَعَلَى هَذَا الصَّحِيحُ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِبْدَالُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْقَبْضُ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَاقِعًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ

 

ج / 10 ص -88-       وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ا هـ. وَمَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إبْدَالُ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ ثَانِيًا بَدَلٌ عَنْ الْمَأْخُوذِ أَوَّلًا فَالْإِبْدَالُ الْمَقْبُوضُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ لَا لِمَا فِي الذِّمَّةِ وَالْمُمْتَنِعُ فِي السَّلَمِ إبْدَالُ مَا فِي الذِّمَّةِ. فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٌ يَنْطَلِقُ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ كَالْمُبْهَمِ بَيْنَهَا وَلَا يَتَأَتَّى تَسْلِيمُهُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ يُعَيِّنُهُ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ، وَيَكُونُ مُسْلَمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، إذْ لَا يَتَأَتَّى تَسْلِيمُ مَا فِي الذِّمَّةِ مُجَرَّدًا، فَإِذَا رَدَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ وَأَخَذَ الْبَدَلَ فَقَدْ انْتَقَضَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ وَانْتَقَلَ إلَى مُعَيَّنٍ آخَرَ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ صَادِقٌ عَلَيْهِمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ إبْدَالٌ وَإِنَّمَا الْإِبْدَالُ لِقِيَامِ الْمُعَيَّنِ الثَّانِي مَقَامَ الْمُعَيَّنِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِالْإِبْدَالِ هَاهُنَا الْمُبَادَلَةَ وَالِاعْتِيَاضَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَخْذُ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْأَوَّلِ فَقَدْ بَانَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَارِقِيُّ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ، تَرْجِيحُ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ مُتَوَجَّهٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّفْرِيعُ: إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ وَهُوَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ وَيَأْخُذُ بَدَلَهُ فِي الْمَجْلِسِ. كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَيُوَافِقُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمَحَامِلِيِّ إنَّهُمَا قَبْضَانِ تَعَقَّبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَبِهِ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيبِ. وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ مَعَ ذَلِكَ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إلَّا إنْ وُجِدَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَا خِيَارَ فِي الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا: مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنَّ لَهُ رَدَّهُ وَاسْتِرْجَاعَ ثَمَنِهِ وَكَذَلِكَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَمَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ. وَنَقَلَهُ عَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَاقٍ فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا رُدَّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى بِنَاءِ الْإِمَامِ فَإِنَّا إنَّمَا جَوَّزْنَا الْإِبْدَالَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُلِكَ بِالْقَبْضِ وَمَتَى مُلِكَ الْعَيْبُ بِالْقَبْضِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي الذِّمَّةِ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فِي الِانْتِصَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْآخَرِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ مَعِيبًا وَأَنْ يَرُدَّهُ وَيَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ بِمَا دَفَعَ كَالصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَ الْبَعْضَ وَيَرُدَّ الْبَعْضَ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي تَعْلِيقِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. أحدهما: لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ قَالَ: وَهُوَ أَقْوَى. والثاني: لَهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ الصَّفْقَةَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ قَوْلًا وَاحِدًا أَنْ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ. فَهَذِهِ طَرِيقَانِ فِي جَوَازِ رَدِّ الْبَعْضِ إذَا كَانَ الْكُلُّ مَعِيبًا، وَهُمَا غَرِيبَانِ لَمْ أَرَهُمَا إلَّا فِي تَعْلِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. هَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ مَعِيبًا فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِبَعْضِهِ وَفُرِضَ أَنَّ الْعَيْبَ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ الْجِنْسِ فَقَدْ بَنَاهُ الْأَصْحَابُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَالْمَحَامِلِيُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ إنْ قُلْنَا هُنَاكَ لَهُ الِاسْتِبْدَالُ فَهَاهُنَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْقَدْرَ الَّذِي هُوَ مَعِيبٌ وَيُطَالِبَهُ بِبَدَلِهِ سَلِيمًا وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إنَّهُ هَاهُنَا أَوْلَى.
وَعِبَارَتُهُمْ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي تَعْلِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا إذَا وَجَدَ بَعْضَهُ جَيِّدًا وَبَعْضَهُ رَدِيئًا إنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْجَيِّدَ، وَيَكُونُ لَهُ الرَّدِيءُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ وَهُوَ يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ إذَا كَانَ كُلُّهُ مَعِيبًا، وَقُلْنَا بِجَوَازِ

 

ج / 10 ص -89-       الِاسْتِبْدَالِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِاسْتِبْدَالُ فِيمَا إذَا كَانَ كُلُّهُ مَعِيبًا فَهَاهُنَا كَذَلِكَ. وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ سُلَيْمٍ الدَّارِمِيِّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ هَاهُنَا أَوْلَى فَإِنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ نَظَرْتَ فَإِنْ رَدَّ الْكُلَّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَجَازَ رَدَّ الْبَعْضَ الَّذِي هُوَ مَعِيبٌ، وَإِمْسَاكُهُ السَّلِيمَ بُنِيَ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ لَمْ يَجُزْ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَالرَّدِّ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ، وَإِنْ قُلْنَا: تُبَعَّضُ الصَّفْقَةُ يَجُوزُ رَدُّ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْعَيْبِ، وَإِمْسَاكُ السَّلِيمِ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إمْسَاكِ الْكُلِّ وَرَدِّهِ، وَإِمْسَاكِ السَّلِيمِ بِالْحِصَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا، كَذَلِكَ بَنَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ الْبَغَوِيّ.
وَإِذَا أَمْسَكَ السَّلِيمَ أَمْسَكَهُ بِالْحِصَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ قَالَ: لِأَنَّ الْعَيْبَ مِنْ جِنْسِهِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ فَيَحْصُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْآخَرِ - وَهُوَ مَا إذَا أَصَابَ بِبَعْضِ مَا مَعَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ - ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ جَمَعَهَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْمُخْتَصَرِ وَلَخَصَّهَا الْأَصْحَابُ أحدها: أَنَّهُ يُبْدِلُ الْبَعْضَ الْمَعِيبَ وَالثَّانِي، وَالثَّالِثُ: قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى قَوْلٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْدِلَ، وَلَكِنَّهُ إنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ الصَّفْقَةِ فِي الرَّدِّ فَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْبَعْضَ وَأَمْسَكَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْجَمِيعَ أَوْ أَمْسَكَ الْجَمِيعَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ ظَهَرَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّصَرُّفِ وَبَعْدَ تَلَفِ الْمَقْبُوضِ الْمَعِيبِ ذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ إنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ غَرِمَ مَا تَلِفَ عَنْهُ وَيَسْتَبْدِلُ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِبْدَالَ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا يَسْتَرِدُّ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّفِقًا فَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، يَعْنِي الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُ فِي نَظِيرِهِ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ وَأَصَحُّهَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْشَ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ خِلَافًا لِمَا جَزَمَ بِهِ كَثِيرُونَ كَمَا سَتَعْرِفُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ أَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دِينَارًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا بَعْدَ تَلَفِهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ، وَبِغَيْرِ جِنْسِهِ فِيهِ وَجْهَانِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمَا مَبْسُوطَيْنِ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْرِيعًا عَلَى امْتِنَاعِ أَخْذِ الْأَرْشِ: فَإِذَا رَدَّ مِثْلَ الدِّينَارِ الْمَعِيبِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ أَوْ رَدَّ قِيمَتَهُ وَرِقًا فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَرَى الدِّينَارَ الَّذِي بَانَ عَيْبُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ سَلِيمًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا فَأَفْهَمَ كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ امْتِنَاعَ مَنْ أَخَذَ الْأَرْشَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَجَرَيَانَ الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْجِنْسَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ عَكْسُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ، هَذَا كُلُّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي الذِّمَّةِ، وَمِثْلُهُ جَارٍ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ مَوْصُوفًا وَالْآخَرُ مُعَيَّنًا. أَمَّا إذَا كَانَا مُعَيَّنَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا هَاهُنَا. وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ أَنَّ الصَّرْفَ قِسْمَانِ صَرْفٌ لِلنَّقْدِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ فَالْعَيْبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجِنْسِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْكُلِّ أَوْ بِالْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ بِالْكُلِّ كَمَا إذَا اشْتَرَى دَنَانِيرَ فَخَرَجَتْ نُحَاسًا فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله

 

ج / 10 ص -90-       عنه عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّجْرِيدِ وَالْمُجَرَّدِ، وَالْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيِّ وَالشَّاشِيِّ وَغَيْرِهِمْ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِفْصَاحِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قُدِّرَ عَلَى عَيْنِهِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ: وَإِنْ كَانَ رَأْيُ مَنْ قَبِلَ أَنَّهُ نُحَاسٌ أَوْ شَيْءٌ غَيْرُ فِضَّةٍ فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ غَيْرُ مَا اشْتَرَى، وَالْبَيْعُ مُنْتَقَضٌ بَيْنَهُمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا نَصٌّ يُبْطِلُ كُلَّ تَخْرِيجٍ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجِئْ هَذَا الْخِلَافُ. وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ لَازِمٌ، وَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ وَلَا بَدَلٌ وَهُوَ بَعِيدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَمْ يَقْتَصِرْ الشَّافِعِيُّ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ بِاخْتِلَافٍ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَجَعَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ وَهُوَ غَرِيبٌ أَوْ تَوَسَّعَ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمْثِلَةٌ يَجْمَعُهَا الِاخْتِلَافُ فِي النَّظَرِ إلَى الْإِشَارَةِ أَوْ الْعِبَارَةِ.
منها: إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْبَغْلَةَ فَخَرَجَتْ حِمَارًا وَفِي الْبِغَالِ نَوْعٌ يُشْبِهُ الْحَمِيرَ يَكُونُ بِطَبَرِسْتَانَ.
ومنها: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ قُطْنٍ فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ، نَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ الْأَصْحَابِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ قَزٌّ فَخَرَجَ كَتَّانًا، لِأَنَّ الْكَتَّانَ الْخَامَ يُشْبِهُ الْقَزَّ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.
ومنها: إذَا اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَخَرَجَ زُجَاجًا. نَقَلَهُ الْجَوْزِيُّ1 عَنْ الشَّافِعِيِّ ومنها: إذَا اشْتَرَى غُلَامًا فَكَانَ جَارِيَةً. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي آخِرِ شَطْرٍ مِنْ بَابِ الرِّبَا، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَفِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ مَا إذَا جَرَى الْعَقْدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، أَمَّا إذَا جَرَى بِلَفْظِ الصَّرْفِ فَيَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ النَّقْدِ بِالنُّحَاسِ لَا يَشْمَلُهُ اسْمُ الصَّرْفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ رَدَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَأْخُذُ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِبْدَالُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا بِالْبُطْلَانِ شَرْطُهَا أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْجِنْسِ كَمَا رَأَيْتَ أَمَّا لَوْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَلَا يَبْطُلُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى دَنَانِيرَ عَلَى أَنَّهَا مَغْرِبِيَّةٌ فَخَرَجَتْ مَشْرِقِيَّةً، أَوْ عَلَى أَنَّهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ فَخَرَجَتْ أَصْفَرَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَإِذَا هُوَ غَيْرُ هَرَوِيٍّ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي بَابِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَذَكَرَ فِيهَا وَجْهَيْنِ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَذَكَرَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَثْبَتَ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ قَوْلًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْكِفَايَةِ لِابْنِ الرِّفْعَةِ وَهْمٌ فِي النَّقْلِ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيِّ فِي الْإِجَازَةِ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ بِالْقِسْطِ فَقَالَ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّهُ جَزَمَ بِالْقِسْطِ، وَعَنْ أَبِي الطَّيِّبِ إنَّهُ خَرَّجَهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَذَلِكَ تَخْلِيطٌ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، وَاخْتِلَافُ أَبِي الطَّيِّبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعله المزني.

 

ج / 10 ص -91-       وَالْمَاوَرْدِيِّ لَيْسَ فِي هَذَا الْقِسْمِ، بَلْ فِي قِسْمٍ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ. هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ بِالْجَمِيعِ. أَمَّا إذَا كَانَ بِبَعْضِهَا وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا إذَا اشْتَرَى دَرَاهِمَ فَوَجَدَ بَعْضَهَا نُحَاسًا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي النُّحَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَفِي الْبَاقِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَفْرِيقَ بَطَلَ فِي الْجَمِيعِ وَاسْتَرَدَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ، وَإِنْ قُلْنَا يُفَرَّقُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - كَانَ لَهُ إمْسَاكُ الْبَاقِي، وَبِمَاذَا يُمْسِكُهُ؟ وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِي صَرْفِ النَّقْدِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، هَلْ، يُمْسِكُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ بِالْجَمِيعِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ، وَهُمَا الْقَوْلَانِ فِيمَا عَدَاهَا مِنْ صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْحِصَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَخُشُونَةِ الْفِضَّةِ وَرَدَاءَةِ الْمَعْدِنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ الْعَيْبُ وَالْمَعِيبُ بَاقٍ أَوْ بَعْدَ تَلَفِهِ فَإِنْ ظَهَرَ وَالْمَعِيبُ بَاقٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وَبَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ. وَحُكْمُ الرَّدِّ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِبَدَلِهِ وَلَا يَسْتَبْدِلَ عَنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَبَعْدَهُ فَإِنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ مُعَيَّنٌ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ الْمَعِيبِ، لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يُسْتَحَقُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مَوْضِعُهُ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَفَاصِيلُ ذَلِكَ وَأَحْكَامُهُ فِي بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأَرْشِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْفَرْضُ فِي صَرْفِ النَّقْدِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْأَرْشَ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ.
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالْجَمِيعِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ رَدِّهِ وَبَيْنَ الرِّضَى بِهِ مَعِيبًا بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالْبَعْضِ كَانَ لَهُ رَدُّ الْجَمِيعِ لِوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الصَّفْقَةِ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي الْوَسِيطِ وَجْهًا فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُمَا إلَّا إذَا كَانَا مَعِيبَيْنِ وَسَأَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ وَيُمْسِكَ السَّلِيمَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ: فَإِنْ رَدَّهُ رَدَّ الْبَيْعَ كُلَّهُ، لِأَنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّفْرِيقُ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ. وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ أَطْبَقُوا عَلَى تَخْرِيجِهِ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الدَّوَامِ. وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ فِي بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ التَّفْرِيقِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تُفَرَّقُ فَالْخِلَافُ وَإِنْ كَانَ مُخَرَّجًا عَلَى الْخِلَافِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ غَيْرُ الصَّحِيحِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَبَعَّضُ كُلًّا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ؛ إمْسَاكِ الْجَمِيعِ وَرَدِّ الْجَمِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا تُفَرَّقُ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يُخَيَّرُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ رَدُّ الْعَيْبِ وَإِمْسَاكُ السَّلِيمِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُخَيَّرُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ فِي رَدِّ الْمَعِيبِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَرْجِعُ بِإِزَائِهِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا فَيَكُونُ رَدُّهُ سَفَهًا لِأَنَّ تَبْقِيَتَهُ عَلَى مِلْكِهِ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ رَدِّهِ هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.

 

ج / 10 ص -92-       وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَيَانُ أَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إفْرَادُ الْمَعِيبِ بِالرَّدِّ عَلَى قَوْلِ الْإِجَازَةِ بِكُلِّ الثَّمَنِ لِإِفْضَائِهِ إلَى هَذَا الْمَحْذُورِ؟ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُ السَّلِيمِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ عَلَى الْكُلِّ، فَإِذَا ارْتَفَعَ فِي بَعْضِهِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجْرِي قَوْلُ الْإِجَازَةِ بِالْكُلِّ هَاهُنَا. الْأَوَّلُ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ وَالْجُرْجَانِيِّ فَإِنَّهُمْ قَالُوا1: يَمْتَنِعُ إفْرَادُ الْمَعِيبِ بِالرَّدِّ وَاللَّفْظُ الثَّانِي هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمَحَامِلِيِّ فِي التَّجْرِيدِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ قُلْنَا تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ فَلَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكُ السَّلِيمِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَعِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي فُرُوعٍ فِي آخِرِ بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ يُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ خَاصَّةً؛ رَدِّ الْجَمِيعِ وَإِمْسَاكِ الْجَمِيعِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ لِهَذَا الْمَحْذُورِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةٍ؛ رَدِّ الْجَمِيعِ، وَإِمْسَاكِ الْجَمِيعِ، وَإِمْسَاكِ السَّلِيمِ بِالْحِصَّةِ لَيْسَ إلَّا، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ أَخَذَهُ بِحِسَابِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَيْبُ بَعْضِهَا يُخْرِجُهَا مِنْ الْجِنْسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمَا؟ أَنَّ هَاهُنَا قَدْ كَانَ لَهُ الْمُقَامُ عَلَى الْكُلِّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا فُسِخَ فِي الْبَعْضِ الْمَعِيبِ وَأَقَامَ عَلَى الْبَعْضِ السَّلِيمِ طَلَبًا لِلْحَظِّ. فَلَوْ قِيلَ: يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَانَ فَسْخُ الْبَيْعِ سَفَهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ قَدْ بَطَلَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَجَازَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ السَّلِيمَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرْقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَهَذَا لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالصَّرْفِ وَالرِّبَا، بَلْ هُوَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ أَيْضًا إذَا ظَهَرَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبٌ وَأَرَادَ رَدَّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ، وَإِمْسَاكَ السَّلِيمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمْسِكَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَدُّ الْمَعِيبِ سَفَهًا بِخِلَافِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا وَحُرًّا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إمْسَاكُ الْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ.
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَقُلْنَا بِالتَّفْرِيقِ فَإِنَّهُ يُمْسِكُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَطْعًا عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى صَاحِبُ التَّتِمَّةِ طَرِيقَةً ضَعِيفَةً أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، وَصَاحِبُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهَا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُمْسِكُ السَّلِيمَ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ التَّفْرِيقِ أَوْ جَوَازُهُ وَالْقَطْعُ بِالتَّوْزِيعِ فَفِيهِ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ الْبَحْثِ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ إلَّا مَا فَهِمْتُهُ مِنْ اخْتِلَافِ عِبَارَاتِ الْأَصْحَابِ كَمَا قَدَّمْتُ لَكَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ فِيمَا إذَا كَانَ الصَّرْفُ الْمُعَيَّنُ فِي جِنْسَيْنِ
الْقِسْمُ الثَّانِي:
إذَا كَانَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي كُلِّهِ. وَإِذَا كَانَ فِي كُلِّهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ الْجِنْسِ فَإِمَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ قَبْلَ التَّلَفِ أَوْ بَعْدَهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ أَيْضًا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولا يوجد مقول القول في الاصول ولعل المقصود: يمتنع إفراد المعيب بالرد(ط).

 

ج / 10 ص -93-       الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا كَمَا إذَا اشْتَرَى دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ فَوَجَدَ بِبَعْضِهَا عَيْبًا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ: إنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لِكَوْنِهِ رِبًا فَإِنَّهُ بَاعَ جَيِّدًا وَمَعِيبًا بِجِنْسِهِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا فَيُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ، كَمَا فِي قَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَفِي كَلَامِ الْمَحَامِلِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ مَا يَقْتَضِي النِّزَاعَ فِيهِ، فَإِنَّهُمَا قَالَا فِيمَا إذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ وَفَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ تُفَرَّقُ: أَنَّهُ يُمْسِكُ السَّلِيمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الصَّرْفُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ وَأَمْسَكَ الْبَعْضَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَانَ رِبًا. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَسْأَلَةِ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ: إنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ وَالْجِنْسَيْنِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَاقْتَضَى إطْلَاقُهُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ: فَإِنْ تَصَارَفَا عَيْنًا بِعَيْنٍ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ الْأَقْسَامَ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مَعِيبًا بُنِيَ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ: كُلُّ مَنْ مَلَكَ الْجُمْلَةَ بِعَقْدٍ إذَا وَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا، وَقُلْنَا: لَهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ فِي الرَّدِّ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلٍ وَبِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الصَّرْفِ، وَفِي مَالِ الرِّبَا إذَا بَاعَ جِنْسًا بِجِنْسٍ فَإِنَّهُ يُمْسِكُهُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّفَاضُلِ، وَقَدْ أَقَامَ صَاحِبُ الْبَيَانِ مَا قَالَهُ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ وَجْهًا، فَجَعَلَ الْبُطْلَانَ قَوْلَ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَالْآخَرَ قَوْلَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَثْبَتَهُمَا وَجْهَيْنِ، وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَمَنْ وَافَقَهُ أَوْفَقُ لِإِطْلَاقِهِمْ فِي قَاعِدَةِ "مُدِّ عَجْوَةٍ " وَلَعَلَّ الْآخَرِينَ لَاحَظُوا مَا يَقْتَضِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَلَمْ يُلَاحِظُوا هَذَا الْعَقْدَ الْخَاصَّ وَأَنَّهُ مِنْ صُورَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَلَا يَأْتِي الْوَجْهُ الْآخَرُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ بَعِيدٍ حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ وَآخَرُونَ فِي قَاعِدَةِ "مُدِّ عَجْوَةٍ " أَنَّ اخْتِلَافَ النَّوْعِ أَوْ الْوَصْفِ لَا يُؤَثِّرُ، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ وَالْمَحَامِلِيُّ مِنْ الْمُصَرِّحِينَ بِاشْتِرَاطِ اتِّحَادِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِي الصَّرْفِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي اللُّبَابِ، وَجَزَمَ فِي الْمُجَرَّدِ بِأَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ بِالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ الْمُدْرَكُ فِي ذَلِكَ أَنَّ امْتِنَاعَ بَيْعِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ مَشْرُوطٌ بِمَا إذَا كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ. أَمَّا إذَا خُلِطَا وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي، عَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ وَالتَّهْذِيبِ، وَلْنَسْتَدِلَّ لَهُ بِحَدِيثٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنْ فِي كَوْنِ ذَلِكَ فِي الْمَطْعُومِ خَاصَّةً، أَوْ يَجْرِي فِيهِ وَفِي النَّقْدِ نَظَرٌ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِيهَا، وَأَمَّا الرُّويَانِيُّ رحمه الله فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا وَأَخْرَجَ الْمَعِيبَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ بِالْبَعْضِ وَقَالَ: إنَّ الْمَذْهَبَ الْبُطْلَانُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يُخَرَّجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَوَافَقَ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ ثُمَّ ذَكَرَ خُرُوجَ الْعَيْبِ مِنْ الْجِنْسِ بِالْبَعْضِ، وَجَعَلَهُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَوَافَقَ فِي ذَلِكَ أَبَا حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيَّ، فَلَا أَدْرِي أَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ أَوْ لَا؟ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ قَاعِدَةِ "مُدِّ عَجْوَةٍ" إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ: يَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؟ إنْ كَانَ مِنْ الْجِنْسِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ رَدِّ الْجَمِيعِ وَإِمْسَاكِهِ، وَفِي رَدِّ الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكِ السَّلِيمِ بِمَا يَخُصُّهُ مَا سَبَقَ، وَلَا يَجِيءُ هَاهُنَا قَوْلُ الْإِجَازَةِ بِكُلِّ الثَّمَنِ لَكِنْ يُخَيَّرُ بِالْحِصَّةِ قَطْعًا كَمَا قُلْنَا هُنَاكَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ

 

ج / 10 ص -94-       وَلِعِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ رِبًا فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ التَّفَاضُلُ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَيَبْطُلُ فِي الْمَعِيبِ بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي الثَّانِي قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ أَجَازَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُخَيَّرَ بِالْقِسْطِ قَطْعًا وَقَدْ يُؤَخَّرُ رَأَيْتُ فِي الْكَافِي لِلْخُوَارِزْمِيِّ أَنَّهُ لَوْ تَصَارَفَا عَيْنًا بِعَيْنٍ بِأَنْ تَبَايَعَا دِينَارًا مُعَيَّنًا بِدِينَارٍ مُعَيَّنٍ فَظَهَرَ أَحَدُهُمَا مُسْتَحَقًّا أَوْ نُحَاسًا لَا قِيمَةَ لَهُ بِالْبَيْعِ، وَلَوْ أُخِّرَ بَعْضُهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَانِ فَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، فَلَوْ أَجَازَ يُخَيَّرُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَأَجْرَى قَوْلَ الْإِجَازَةِ بِالْكُلِّ هُنَا، وَهَذَا وَهْمٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَأْتِي وَجْهُ الْإِجَازَةِ بِالْكُلِّ حَذَرًا مِنْ الرِّبَا كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ، فَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّ النُّحَاسَ مَبِيعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ، وَالنَّقْدُ صَرْفٌ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَصَرْفٍ، وَفِيهِ قَوْلَانِ، هَذَا إذَا لَمْ يُلَاحِظْ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ قَاعِدَةَ "مُدِّ عَجْوَةٍ" أَيْضًا، فَإِنْ لَاحَظَهَا وَجَعَلَ ذَلِكَ تَابِعًا بَطَلَ فِي الْكُلِّ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتُهُ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَنْقُولًا، بَلْ ذَكَرْتُهُ تَفَقُّهًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي الْجَمِيعِ وَيَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، كَمَا إذَا بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ فَخَرَجَ نُحَاسًا فَحُكْمُهُ الْبُطْلَانُ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ الْوَجْهُ الَّذِي حَكَاهُ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي الْجَمِيعِ مِنْ الْجِنْسِ، كَرَدَاءَةِ النَّوْعِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّلَفِ فَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ فَلَهُ رَدُّهُ وَإِذَا رَدَّهُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْبَدَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي الْجَمِيعِ مِنْ الْجِنْسِ وَيَتَبَيَّنَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّلَفِ كَمَا إذَا صَارَفَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقًا بِوَرِقٍ وَتَقَابَضَا وَتَلِفَ أَحَدُ الْمَبِيعَيْنِ ثُمَّ عَلِمَ الَّذِي تَلِفَ لَهُ مَا حَصَلَ أَنَّهُ كَانَ بِهِ عَيْبٌ، فَقَدْ ذَكَرَهَا الْمَحَامِلِيُّ فَرْعًا فِي الْمَجْمُوعِ هَاهُنَا، وَالصَّيْمَرِيُّ قَالَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ بَعْدَهُ، وَذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفَرْضُهُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ إنَاءً مِنْ فِضَّةٍ وَزْنُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا وَذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفَرْضُهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حُلِيًّا وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ أَمْثِلَةٌ لِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعَذُّرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْعَيْبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ إذَا كَانَ الْمَعِيبُ بَاقِيًا وَلَكِنْ طَرَأَ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ فَرَأَى الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يَرُدُّهُ وَيَغْرَمُ الْأَرْشَ، مَسْأَلَتُنَا هُنَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعِيبُ تَالِفًا فَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالرَّدِّ إذْ لَا مَرْدُودَ، فَمَاذَا نَصْنَعُ؟.
قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَيَرُدُّ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ وَلْيَسْتَرْجِعْ مَا دَفَعَهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْشَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْعِ تَفَاضُلٌ، وَلَا يُمْكِنُ الرَّدُّ لِأَنَّ ذَلِكَ تَالِفٌ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُقِرُّ الْعَقْدَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَيِّنُ بِالْمَعِيبِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعُدَّةِ وَشَرْحِ الْكِفَايَةِ لِلصَّيْمَرِيِّ، وَالتَّحْرِيرِ لِلْجُرْجَانِيِّ كُلُّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَرْضَى وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ التَّالِفِ فِي عَيْنِهِ وَيَسْتَرْجِعَ مَا أَعْطَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِأَرْشٍ. وَقَالَ

 

ج / 10 ص -95-       الرُّويَانِيُّ: لَيْسَ لَهُ الْأَرْشُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ الْجَيِّدِ. وَيَكُونُ الرَّدِيءُ فِي ذِمَّتِهِ يُعْطِيهِ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إذَا فَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْمَعِيبِ التَّالِفِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ، مِثْلُ إنْ كَانَ التَّالِفُ مَعِيبًا بِعُشْرِ قِيمَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ. وَتَبِعَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَزَادَ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ؛ قَوْلَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَجْهًا أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْشَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا أَعْطَى قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَوَجْهًا أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ كَمَا فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَقَالَ: إنَّ هَذَا أَصَحُّ، وَإِنَّهُ الْمَذْهَبُ قَالَ: لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي مَالِ الرِّبَا تُشْتَرَطُ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَاسْتِرْجَاعُ بَعْضِ الثَّمَنِ حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ ابْتِدَاءً فَلَا يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا.
فرع: اشْتَرَى دِينَارًا مُعَيَّنًا بِدِينَارٍ مُعَيَّنٍ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، فَوَجَدَ بِالْبَاقِي عَيْبًا حُكِمَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا. قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ نُقْرَةً أَوْ إنَاءً مَصْنُوعًا حُكِمَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ أَوْ يَرْضَى بِهِ نَاقِصًا فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَوْ كَانَ قَدْ اشْتَرَى الدِّينَارَ الْمُعَيَّنَ بِدَرَاهِمَ، فَفِي جَوَازِ رُجُوعِهِ بِالْأَرْشِ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي أَقْيَسُهُمَا عِنْدَهُ الْجَوَازُ، فَيَرْجِعُ بِأَرْشِ الدِّينَارِ دَرَاهِمَ، وَبِأَرْشِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا. والثاني: قَوْلُ الشُّيُوخِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لِأَنَّ الصَّرْفَ أَضْيَقُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ فَلَمْ يَتَّسِعْ لِدُخُولِ الْأَرْشِ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأَرْشَ بِالْإِيمَانِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ عَيْبُ الدِّينَارِ التَّالِفِ الَّذِي لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْجِنْسِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً بِهَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا إذَا اشْتَرَى قَاسَانِيًّا فَبَانَ بَعْدَ تَلَفِهِ مَغْرِبِيًّا فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ بَدَلَهُ مَغْرِبِيًّا وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُبَهْرَجًا مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ فَعَلَيْهِ - إذَا لَمْ يَرْضَ بِعَيْبِهِ - أَنْ يَرُدَّ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ وَلَا يَرُدَّ مِثْلَهُ، لِأَنَّ الْمُبَهْرَجَ لَا مِثْلَ لَهُ وَذَكَرَ صَاحِبُ الشَّامِلِ هَذَا الْفَرْعَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ، وَقَالَ فِيهِ: يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَرُدُّ مِثْلَ الَّتِي أَتْلَفَهَا أَوْ قِيمَتَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلٌ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ "يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا" فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي الشَّافِي وَقَالَ: فَإِذَا فُسِخَ رَدَّ مَنْ تَلِفَتْ الدِّرْهَمُ فِي يَدِهِ دِرْهَمًا مَعِيبًا وَاسْتَرَدَّ دِرْهَمَهُ، فَالْجَيِّدُ مَعَ بَقَائِهِ وَبَدَلُهُ مَعَ تَلَفِهِ، فَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ إيهَامُ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْفَسْخِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ بَاذِلَ الْمَعِيبِ حِينَئِذٍ مِنْ الْفَسْخِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى رِضَاهُ وَأَمَّا فَرْقُهُ بَيْنَ الْمِثْلِيِّ وَالْمُتَقَوَّمِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مِثْلِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فِي الِانْتِصَارِ: يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَيَرُدُّ مِثْلَ التَّالِفِ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، فَوَافَقَ صَاحِبَ الشَّامِلِ، وَذَكَرَ مُجْمَلَ هَذَا الْفَرْعِ فِي الذَّخَائِرِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَا ذَكَرْتُهُ وَجَدْتَ مَنْ عَدَا الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَصَاحِبِ التَّهْذِيبِ جَازِمِينَ أَوْ مُرَجِّحِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَرْشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بَقِيَ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْمَكَانِ فَرْعٌ حَسَنٌ. قَالَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَزَلْ يَخْتَلِجُ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْحَابَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي بَابِ الْمَعِيبِ إذَا اشْتَرَى شَاةً مَثَلًا وَقَبَضَهَا نُتِجَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فَلَهُ رَدُّهَا

 

ج / 10 ص -96-       وَالزِّيَادَةُ يَخْتَصُّ الْمُشْتَرِي بِهَا. هَذَا فِي شِرَاءِ الْعَرَضِ، فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَكَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ شَاةً مَوْصُوفَةً فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ أَحْضَرَهَا الْمُسْلِمُ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ افْتَرَقَا وَنُتِجَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهَا عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَتُهُ بِشَاةٍ سَلِيمَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِالصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِالنِّتَاجِ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: هَذَا لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا إلَى الْآنَ وَلَا بَلَغَنِيهِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، بَلْ فَرَّعْتُهُ اسْتِنْبَاطًا مِنْ جِهَتِي حَيْثُ اقْتَضَاهُ التَّفْرِيعُ عَلَى الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ، وَنَشَأَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَصَدَّرَهُ فِي الْقَاعِدَةِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي النِّتَاجِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي الْمَجْلِسِ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ إذَا رَدَّهُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ هَلْ نَقُولُ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ وَبِالرَّدِّ قَدْ يَقْبِضُ الْمِلْكَ؟ أَوْ يُقَالُ بِالرَّدِّ؟ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ أَصْلًا، كَأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ، فِيهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَقَدْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فِي مِلْكِهِ، أَعْنِي فِي مِلْكِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَخْتَصُّ بِهَا. وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ بِالرَّدِّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ أَصْلًا، فَالزِّيَادَةُ حَادِثَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُسْلِمِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّهَا مَعَ الْأَصْلِ. وَهَذَا حَسَنٌ ظَاهِرٌ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ الْعَرَضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْنًا وَبَيْنَ الْعَرَضِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا ثُمَّ يَقْبِضُ فِي الْمَجْلِسِ عَمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ ابْنِ أَبِي الدَّمِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ هَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ؟ أَمْ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ الْمُسْتَأْنَفِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالصَّرْفِ بَلْ تَجْرِي فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الرِّبَا بِيعَ بِجِنْسِهِ. قَالَهُ الرَّافِعِيُّ. وَيَجِيءُ فِي التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الذِّمَّةِ وَفِي الْعَيْنِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَفَرَضَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْفَرْعَ إذَا كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ بِدِينَارٍ فِي الذِّمَّةِ قَالَ: فَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَإِنْ لَمْ يُجَوَّزْ الِاسْتِبْدَالُ مَعَ بَقَائِهِ فَالْحُكْمُ كَالْمَبِيعِ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ فَقولان: أحدهما: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ لِلضَّرُورَةِ والثاني: لَا، بَلْ يَغْرَمُ قِيمَةَ التَّالِفِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِدِينَارٍ سَلِيمٍ أَوْ بِخَلْخَالٍ سَلِيمٍ، وَكَانَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِي بَيْعِ خَلْخَالٍ بِدِينَارٍ. قَالَ: وَهَكَذَا إذَا قُلْنَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ: إذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعِيبًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ. أحدهما: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ والثاني: لَا، بَلْ يَغْرَمُ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالسَّلِيمِ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا بَعْدَ مَا تَلِفَ عِنْدَهُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَيْبًا بَعْدَ مَا تَلِفَ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَعِيبًا سَقَطَ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِهِ، مِثْلُ أَنْ كَانَ الْعَيْبُ يَنْقُصُ عُشْرَ قِيمَتِهِ فَيَسْقُطُ عُشْرُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ يَغْرَمُ مَا تَلِفَتْ عِنْدَهُ وَيَسْتَبْدِلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ فَيَسْقُطُ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِهِ كَمَا فِي الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ أَطْلَقُوا مَا ذَكَرْتُهُ وَلَمْ يُبَيِّنُوا أَنَّ بَدَلَ التَّالِفِ هَلْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ حَتَّى يَكُونَ الْفَسْخُ بِرَدِّهِ أَوْ تَمْكِينِهِ مِنْ الْفَسْخِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالتَّلَفِ؟ وَالْأَقْرَبُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ الْمُتَقَدِّمَةِ الثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي مَذْهَبِهِمْ: إذَا تَلِفَ الْعِوَضُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ

 

ج / 10 ص -97-       عَلِمَ عَيْبَهُ فَسَخَ الْعَقْدَ وَيَرُدُّ الْمَوْجُودَ، وَتَبْقَى قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَيَرُدُّ مِثْلَهَا أَوْ عِوَضَهَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّرْفُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ أَخْذِ الْأَرْشِ. انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ بَيِّنٌ. وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْعَيْبَ مُخْرِجًا لَهُ عَنْ كَوْنِهِ مِثْلِيًّا، فَلِذَلِكَ حُكِمَ بِالْقِيمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ فَحَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ وَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا قَالَ فِي الْمُطَارَحَاتِ: إنْ بَاعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْمَعِيبِ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ طَعَامِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ، وَلَا يَرُدُّ لِمَا حَدَثَ عِنْدَهُ مِنْ الْعَيْبِ شَيْئًاقلت: وَلَوْ بَاعَ نَقْدًا بِنَقْدٍ فَالْحُكْمُ وَالتَّفْصِيلُ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمُطَارَحَاتُ ظَنِّي أَنَّهَا لِابْنِ الْعَطَّارِ، وَكَذَلِكَ رَأَيْتُهَا مَنْسُوبَةً إلَيْهِ فِي نُسْخَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى رَأَيْتهَا مَنْسُوبَةً لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ.
فرع: لَوْ كَانَ الصَّرْفُ فِي الذِّمَّةِ وَحَصَلَ التَّلَفُ الْمَذْكُورُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: إنْ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَغْرَمُ مَا تَلِفَ عِنْدَهُ وَيَسْتَبْدِلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ فَهَكَذَا، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِبْدَالَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ - فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا - يَسْتَرِدَّ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الْعَيْبِ. وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّفِقًا فَعَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ أَصَحُّهَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَيْبًا بَعْدَ تَلَفِهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ، عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ.
فرع: كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ الْجِنْسِ، كَرَدَاءَةِ السِّكَّةِ وَالْجَوْهَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. أَمَّا لَوْ بَانَ بَعْدَ تَلَفِهِ نُحَاسًا أَوْ مَطْلِيَّةً فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَيَتَرَادَّانِ قَالَهُ الصَّيْمَرِيُّ. وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَكُلُّ ذَلِكَ مَفْرُوضٌ فِي صَرْفِ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الْعَيْبِ كَمَا فِي غَيْرِ الصَّرْفِ قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ.
فَرْعَِ: لَهُمَا تَعَلُّقٌ بِالِاسْتِبْدَالِ عَنْ الثَّمَنِ أحدهما: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إذَا بَاعَ شَيْئًا بِدَرَاهِمَ بَرْمَكِيَّةٍ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ عَزِيزُ الْوُجُودِ وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِي بِلَادِنَا هَذِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ فَتْحِيَّةٍ يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَعُمُّ وُجُودُهُ، هَذَا يُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ عَنْهُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ إنْ قُلْنَا: جَائِزٌ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: إنَّهُ إذَا بَاعَ بِمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ فِي الْبَلَدِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ عَنْ الثَّمَنِ هَلْ يَجُوزُ؟ إنْ قُلْنَا يَجُوزُ صَحَّ ثُمَّ إنْ وَجَدَ ذَلِكَ النَّقْدَ وَإِلَّا يَسْتَبْدِلُ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ لَمْ يَصِحَّ. كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِيمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ1 وَهَذَا الْإِطْلَاقُ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ أَوْلَى مِنْ التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
الثَّانِي: إذَا بَاعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ انْقَطَعَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إنْ قُلْنَا يَجُوزُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثاله ما لو باع العملة الصعبة كالدولار أو الاسترليني نسيئة بالجنيه المصري فإنه يبطل فيه السلم لندرته وصعوبة تحصيله إذا عسر التقابض (ط).

 

ج / 10 ص -98-       الِاسْتِبْدَالُ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ فَقولان: أحدهما: يَنْفَسِخُ والثاني: يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ. وَهُمَا كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا انْقَطَعَ.
فَأَمَّا إذَا بَاعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ إنَّ السُّلْطَانَ رَفَعَ ذَلِكَ لَا غَيْرُ، سَوَاءٌ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهَكَذَا لَوْ بَاعَ بِفُلُوسٍ فَنَسَخَهَا السُّلْطَانُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَقَاسَهُ الْبَغَوِيّ عَلَى مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي صَبْطَةٍ فَرَخُصَتْ لَيْسَ لَهُ إلَّا صَبْطَةً. وَحَكَى مَعَ ذَلِكَ وَجْهًا أَنَّ الْبَائِعَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْعَقْدَ فَيَأْخُذَ النَّقْدَ الْأَوَّلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرِدَّ مَا أَعْطَى، كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهَذَا لَوْ بَاعَ بِفُلُوسٍ فَنَسَخَهَا السُّلْطَانُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ جَاءَ بِالنَّقْدِ الثَّانِي الْمُحْدَثِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، فَإِنْ أَرَادَ قَبُولَهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَاضِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَوْ حَصَلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ نَقْدٍ مَعْرُوفٍ فَلَقِيَهُ بِبَلَدٍ آخَرَ لَا يَتَعَامَلُ فِيهِ بِهِ فَقَالَ: خُذْهُ لَزِمَهُ أَخْذُهُ، كَمَا لَوْ حَرَّمَهُ السُّلْطَانُ فِي بَلَدِهِ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ لَا يَتَعَامَلُ بِهِ أَلْبَتَّةَ لَا يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَامَلُ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ بِرَائِجٍ يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ يَثْبُتُ لَهُ عَلَى آخَرَ عُشْرُ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ أَوْ يُبْرِئُهُ.
فَصْلٌ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَصَحِّ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ لَهُ الْإِبْدَالَ فِيمَا إذَا خَرَجَ الْمَقْبُوضُ عَنْ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ مَعِيبًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْحَسَنُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَكَاهُ عَنْهُمْ الْعَبْدَرِيُّ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِي بَابِ خِيَارِ الرَّدِّ بِالرِّبَا فِيهِ وَالِاسْتِحْقَاقِ: وَلَوْ وَجَدَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أَوْ. كَاسِدَةً أَوْ رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ وَيَسْتَبْدِلُ غَيْرَهَا، إنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْبَدَلِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ مِنْ بَابِ السَّلَمِ.
وَلَوْ اشْتَرَى فِضَّةً فَوَجَدَهَا رَدِيئَةً بِغَيْرِ عَيْبٍ لَا يَرُدُّهَا، لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ بَلْ صِفَةٌ تُخْلَقُ عَلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَصِفَةُ الْجَوْدَةِ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إلَّا بِالشَّرْطِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً فَوَجَدَهَا أَرْدَأَ حِنْطَةٍ، لَيْسَ لَهُ رَدُّهَا إلَّا إذَا اشْتَرَطَ جَوْدَتَهَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ الْحَنَفِيُّ أَيْضًا فِي بَابِ مَا يَنْتَقِضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ بَابِ السَّلَمِ: وَلَوْ وَجَدَ رَأْسَ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا وَمَعِيبًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَوَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا فَرَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، فَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ أَوْ رَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ السَّلَمُ لِأَنَّهُ سَلَمٌ لَهُ الْبَدَلُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ صِحَّةَ الْقَبْضِ تَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ، فَإِذَا أَجَازَ يَظْهَرُ أَنَّ قَبْضَهُ وَقَعَ صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ بَطَلَ السَّلَمُ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَلَمْ يُسْلَمْ إلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا وَقَبَضَهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ جَازَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْجَامِعُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ

 

ج / 10 ص -99-       كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ، فَإِنْ قَبَضَ مِثْلَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ وَجَدَ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا فَإِنْ تَجَوَّزَ بِهِ بَطَلَ السَّلَمُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَيَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ رَدَّهُ وَقَبَضَ آخَرَ مَكَانَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ السَّلَمُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ وَانْتَقَضَ قَبْضُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَأَخَّرَ الْقَبْضَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ جَازَ. وَإِنْ وَجَدَهُ زُيُوفًا - فَإِنْ تَجَوَّزَ بِهِ جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ. فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقَا فَوَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا إنْ أَجَازَ الْمَالِكُ وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ جَازَ وَإِلَّا بَطَلَ وَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا1 انْتَقَضَ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ - تَجَوَّزَ بِهِ أَوْ رَدَّ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ. فَيَكُونُ افْتَرَقَا لَا عَنْ قَبْضِ هَذَا الْقَدْرِ.
فرع: حُكْمُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إذَا وَجَدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَيْبًا حُكْمُ بَدَلِ الصَّرْفِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: لَوْ أَحَالَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي اسْتَحَقَّ فِيهَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُسْتَحِقُّ لَهَا مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ. وَإِنْ قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ إنْ قُلْنَا: الْحَوَالَةُ مُعَاوَضَةٌ لَمْ يَجُزْ وإن قلنا: اسْتِيفَاءٌ جَازَ.
فرع: لَوْ اشْتَرَى مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَبَضَ الدِّينَارَ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الصَّيْرَفِيِّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: أَجَلْ، هَذِهِ الْعَشَرَةُ بَدَلٌ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْعَشَرَةُ عَلَى الصَّيْرَفِيِّ قَبْلَ الصَّرْفِ أَوْ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه: إنْ حَصَلَتْ قَبْلَ الصَّرْفِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ حَصَلَتْ بَعْدَهُ جَازَ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
فرع: اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ نَقْدِ سُوقِ كَذَا2، فَإِنْ كَانَ نَقْدُ ذَلِكَ السُّوقِ مُخْتَلِفًا بَطَلَ، وَإِلَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 درهم ستوق كتنور وقدوس وتستوق بضم التاءين زيف وبهرج ملبس بالفضة وقال الكرخي: الستوق وعندهم ما كان الصفر أو النحاس هو الغالب والأكثر فيه وفي "الرسالة اليوسفية" البهرجة إذا غلبها النحاس لا تؤخذ ا هـ من "ترتيب القاموس" للشيخ طاهر الزاوي مفتي ليبيا.
2 قلنا في كتابنا "تاريخ النقود الإسلامية": النقود إما حقيقة وإما رمزية فالحقيقة هي تلك النقود المعدنية المضروبة من الذهب أو الفضة وتكون قيمتها مساوية لوزنها وتنقص قيمتها بنقصان وزنها، وأما الرمزية فهي تلك النقود المطبوعة أو المضروبة في هذا العصر والتي تكون مجرد سندات على الدولة أو على البنك الذي أصدرها ويكون غطاؤها في خزانة المصدر أما ذهبا أو سندات على دول غنية تملك غطاء ذهبيا أو حسابات دائنة على أكثر دول العالم أو تملك منتجات رائجة لا تقبل تسليمها إلا لمن يقدم لها نقدها ومن ثم يكون هذا النقد مرتفع القيمة لدرجة تسميته بالعملة الصعبة كالدولار الأمريكي والمارك الألماني والجنيه الاسترليني والفرنك الفرنسي أو السويسري والليرة الإيطالية والين الياباني وهكذا، ولهذه النقود قيمة وثمن، فأما قيمتها فهي التي تحددها الدول فيما بينها وتتعامل بها عن طريق بنوكها ومصارفها، أما ثمنها في السوق الحرة فيخضع لقانون العرض والطلب وبحسب قيمة المقابل له ومركزه الاقتصادي، فقد يساوي الدولار بسعره الرسمي أربعين قرشا وبسعره الحر ستين أو سبعين كل ذلك من بيع غير المتماثلين الذي يجوز فيه التفاضل يدا بيد=

 

ج / 10 ص -100-    فَوَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا: الْجَوَازُ والثاني: لَا، لِإِمْكَانِ التَّعْيِينِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ ضَرْبِ كَذَا أَوْ بِمَا يَضْرِبُهُ السُّلْطَانُ لَمْ يَجُزْ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِذَا شُرِطَ فِي الصَّرْفِ أَنَّ الذَّهَبَ يُسَاوِي كَذَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بَطَلَ الصَّرْفُ، لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا - فَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فِي الْحَالِ - بَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِنْ عَلِمَاهَا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْبُطْلَانُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِذَا صَرَفَ، بِدِينَارٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا رَاجِحًا قِيرَاطًا فَأَعْطَاهُ عَنْ الْقِيرَاطِ ذَهَبًا مِثْلَهُ جَازَ وَكَذَلِكَ إذَا أَعْطَاهُ فِضَّةً مَعْلُومَةً أَوْ جُزَافًا صَحَّ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَلَوْ جَهِلَا مِقْدَارَ الرُّجْحَانِ فَأَعْطَاهُ بِهِ ذَهَبًا مُمَاثِلًا لَهُ صَحَّ، كَمَا لَوْ بَاعَ سَبِيكَةَ ذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا يَجُوزُ، إنْ جَهِلَا الْقَدْرَ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا قَبَضَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بَدَلَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ زَائِفَةٍ أَوْ مُبَهْرَجَةٍ أَوْ دِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ، فَالضَّمَانُ جَائِزٌ إلْحَاقًا بِضَمَانِ الدَّرَكِ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاطِ، وَهَذِهِ مِنْ مَنْصُوصَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَإِنْ وَجَدَ الْقَابِضُ زَائِفًا أَوْ مُبَهْرَجًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي إبْدَالِهَا إنْ شَاءَ عَلَى الْمُؤَدِّي، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الضَّامِنِ، فَإِنْ أَبْدَلَهَا مِنْ الْمُؤَدِّي بَرِئَ الضَّامِنُ وَإِنْ أَبْدَلَهَا مِنْ الضَّامِنِ يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمُؤَدِّي - إنْ كَانَ الضَّمَانُ بِإِذْنِهِ - فَإِنْ قَالَ الضَّامِنُ: أَعْطُونِي الْمَرْدُودَ لِأُعْطِيَكُمْ بَدَلَهُ لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ، وَقِيلَ لَهُ: الْوَاجِبُ أَنْ تَفْسَخَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْمَرْدُودِ، فَأَنْتَ تَرُدُّ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ مَا ضَمِنْتَهُ، وَهَذَا الْمَرْدُودُ مِنْ مَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَكَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَدَّيْتَ، فَلَوْ أَحْضَرَ الْقَابِضُ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً وَقَالَ: هِيَ مَا قَبَضْتُ وَأَنْكَرَاهُ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَتْ رَدَاءَتُهَا بِعَيْبٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالْقَبْضِ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَ فِضَّةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ ثَابِتٌ، إنَّمَا أَقَرَّ بِقَبْضِ النُّحَاسِ وَهُوَ لَا يَكُونُ قَبْضًا عَنْ الْفِضَّةِ.
قلت: وَقَوْلُهُ "إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ إذَا كَانَتْ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَ فِضَّةٍ " هُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ نَتَعَرَّضُ لَهُ فِي آخِرِ بَابِ السَّلَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ هُنَاكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا كَثِيرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقْبِضُ مَالَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا بِالصَّيْرَفِيِّ. وَيَعْتَمِدُ عَلَى نَقْدِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ يَلْزَمُ الصَّيْرَفِيَّ ضَمَانُ دَرَكِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَتَى لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ضَمَانٌ فَهُوَ أَمِينٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَيَتَعَيَّنُ لِمَنْ يُرِيدُ الِاحْتِرَازَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَدَعَ الصَّيْرَفِيَّ يَتَلَفَّظُ بِالضَّمَانِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِهِ. وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَيُرَدُّ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْمَاوَرْدِيِّ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ نُحَاسًا مِنْ الْمُتَعَامَلِ فِيهِ الَّذِي تَنْزِلُ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً عَنْهُ، فَيَكُونُ كَأَخْذِ النُّحَاسِ عَنْ الْفِضَّةِ، وَلَيْسَ كَأَخْذِ الْمَعِيبِ عَنْ السَّلِيمِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=ونسيئة وسلما ذلك أن يقوم في العالم نظام اقتصادي إسلامي يمنع الكارتلات الدولية والاحتكارات والفوائد على الأموال (الربا) لأن هذه الأمور المحرمة في شرعنا من العوامل المؤثرة في قيمة النقد ومعياره والله أعلم. (المطيعي)

 

 

ج / 10 ص -101-    وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِدِينَارٍ أَوْ تَصَارَفَا وَتَقَابَضَا، ثُمَّ جَاءَ الْمُشْتَرِي بِدِينَارٍ مَعِيبٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَرُدُّ مَعَ يَمِينِهِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، وَفِيهِ وَجْهٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى الْمُسْلِمُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ مَعِيبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَوْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ حَلَفَ وَغَرِمَ التَّالِفَ وَطَالَبَهُ بِالْجَيِّدِ. وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ وَرَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ أَعْطَى مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ قَصْرُ هَذَا الْعَقْدِ عَلَى السَّلَامَةِ قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ، قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نُحَاسًا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَرُدُّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِقلت: وَلَوْ خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي دَعْوَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لَمْ يَبْعُدْ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَوَازَنَا وَقْتَ الْعَقْدِ، بَلْ إذَا وَزَنَا قَبْلَهُ وَعَرَفَا الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا جَازَ.
فرع: قَالَ الْأَصْحَابُ: إذَا كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَمَعَ غَيْرِهِ دِينَارٌ يُسَاوِي عِشْرِينَ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الْعَشَرَةِ شِرَاءَ نِصْفِ الدِّينَارِ جَازَ وَيَقْبِضُهُ كُلَّهُ لِيَكُونَ نِصْفُهُ قَبْضًا بِالشِّرَاءِ وَنِصْفُهُ وَدِيعَةً، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى كَنْزِهِ أَوْ بَيْعِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ كُلَّهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا عَشَرَةٌ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعِشْرِينَ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يُقْبِضَهُ مِنْهَا الْعَشَرَةَ الَّتِي مَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا قَبَضَهَا اسْتَقْرَضَهَا مِنْهُ، فَإِذَا قَبَضَهَا قَضَاهُ الْعَشَرَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدِّينَارِ وَتَقَابَضَا وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الدِّينَارِ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ قَرْضًا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي تَعْلِيقِ أَبِي الطَّيِّبِ وَالشَّامِلِ وَالرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَالْحَاوِي أحدهما: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ، وَهَذِهِ الدَّرَاهِمُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا وَإِنَّمَا رَدَّهَا إلَيْهِ بِحَالِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْقَرْضِ.
وَحَكَى الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ هَذَا الْوَجْهَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ: إنَّ الدَّارَكِيَّ نَقَلَهُ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ غَيْرَهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِ قَبْلَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بَاطِلٌ، وَحَكَى الْمَحَامِلِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَلَّلَهُ بِذَلِكَ وَبِأَنْ1 فَإِنَّهُ يَجُوزُ، هَكَذَا اسْتَشْهَدَ أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الَّذِي حَكَيْتُهُ مَا يُنَازَعُ فِيهِ وَهَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّخَايُرِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّخَايُرِ وَقُلْنَا: إنَّ التَّخَايُرَ بِمَنْزِلَةِ التَّفَرُّقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا وَإِلَّا فَيَجُوزُ قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
أما لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ غَيْرَهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ عَنْ بَقِيَّةِ الثَّمَنِ جَازَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَصَحَّحَ فِي الْبَحْرِ الصِّحَّةَ، وَوَافَقَ الْقَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا فِي الذِّمَّةِ بِدِرْهَمٍ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اقْتَرَضَ الْآخَرُ وَرَدَّهَا عَلَيْهِ هَلْ يَجُوزُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْقَرْضَ مَتَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر قلت: ولعل السقط (وبأن لو وقع بعد انبرامه فإنه يجوز).

 

ج / 10 ص -102-    يُمْلَكُ؟ وَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ يَبْطُلُ هَذَا الصَّرْفُ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ قَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِالتَّصَرُّفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبِ الشَّامِلِ وَشَيْخِهِ أَبِي الطَّيِّبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَلَى مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُجَرَّدِ، وَقَالَ: إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَهُ فِي الصَّرْفِ نَصًّا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ. لِأَنَّهُ دَفَعَهَا قَضَاءً عَمَّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِهَا النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ الدِّينَارِ.
فرع: يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّرَاهِمَ مِنْ الصَّرَّافِ وَيَبِيعَهَا مِنْهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَتَمَامِ الْعَقْدِ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَايُرِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ. سَوَاءٌ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ أَمْ لَا مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ خِلَافًا لِمَالِكٍ، حَيْثُ قَالَ: إنْ كَانَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ حَرُمَ، وَتَمَسَّكَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْعَادَةَ الْخَاصَّةَ لَا تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ. كَمَا لَوْ نَكَحَ مَنْ عَادَتُهُ الطَّلَاقُ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ كَشَرْطِ الطَّلَاقِ فِي الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ، حَتَّى قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: إذَا كَانَ مَعَهُ دِينَارٌ وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ بِدِينَارٍ وَسُدُسٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ الدِّينَارَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَيَتَقَابَضَا الْعِوَضَيْنِ وَيَتَخَايَرَا ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ دِينَارًا وَسُدُسًا أَوْ مَا يَزِيدُ.
قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ صِحَاحٍ بِمُكَسَّرَةٍ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا يَبِيعُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِعَرَضٍ، ثُمَّ إذَا تَقَابَضَا وَتَفَرَّقَا وَتَخَايَرَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِذَلِكَ الْعَرَضِ الْمُكَسَّرَةَ وَيَجُوزُ ذَلِكَ. سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا، وَقَدْ أَطْبَقَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا جَازَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الشَّيْءَ إلَى أَجَلٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مَنْ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ السِّلَعِ إلَى أَجَلٍ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ. أَكْثَرَ أَوْ دَيْنٍ أَوْ نَقْدٍ لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ غَيْرُ الْبَيْعَةِ الْأُولَى، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَشْتَرِيهَا الْبَائِعُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ. وَزَعَمَ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ زَعَمَ تَتَبُّعَ الْأَثَرِ وَمَحْمُودٌ مِنْهُ أَنْ يَتْبَعَ الْأَثَرَ الصَّحِيحَ فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ الْأَثَرِ إذَا هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ امْرَأَتِهِ عَالِيَةَ بِنْتِ أَنْفَعَ أَنَّهَا دَخَلَتْ مَعَ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ بَيْعًا بَاعَتْهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِكَذَا أَوْ كَذَا إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ، أَخْبِرِي، زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ "وَقَالَ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ أَصْلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ أَنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَالِيَةَ بِنْتِ أَنْفَعَ "أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أَوْ سَمِعَتْ امْرَأَةَ أَبِي السَّفَرِ تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَنْ بَيْعٍ بَاعَتْهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِكَذَا وَكَذَا إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ نَقْدًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا ابْتَعْتِ، أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 10 ص -103-    قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: قَدْ تَكُونُ عَائِشَةُ - لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا عَنْهَا - عَابَتْ عَلَيْهَا بَيْعًا إلَى الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ أَجَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَهَذَا مَا لَا يُجِيزُهُ، وَلَوْ اخْتَلَفَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ شَيْئًا، وَقَالَ غَيْرُهُ خِلَافَهُ فَإِنَّ أَصْلَ مَا نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ الَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ، وَاَلَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: وَحِكْمَةُ هَذَا أَنَّا لَا نُثْبِتُ مِثْلَهُ عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَنَّ زَيْدًا لَا يَبِيعُ إلَّا مَا يَرَاهُ حَلَالًا وَلَا يَبْتَاعُ إلَّا مِثْلَهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ شَيْئًا أَوْ ابْتَاعَهُ نَرَاهُ نَحْنُ مُحَرَّمًا، وَهُوَ يَرَاهُ حَلَالًا، ثُمَّ نَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْبِطُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْئًا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي هَذَا الْكَلَامِ إلَى جَمِيعِ مَا يُقَالُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْأَثَرِ فَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُد بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَدَخَلَتْ مَعَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيِّ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي بِعْتُ غُلَامًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً، وَإِنِّي ابْتَعْتُهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا فَذَكَرَتْهُ " وَهَذَا أَسْلَمُ فِي الدَّلَالَةِ لَهُمْ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ النَّسِيئَةَ وَلَمْ يُعَيِّنْ أَنَّهُ إلَى الْعَطَاءِ حَتَّى يَحْمِلَ الْمَنْعَ إلَى الْجَهَالَةِ، لَكِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ فِيهِ دَاوُد بْنُ الزِّبْرِقَانِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: كَتَبْتُ عَنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا وَرَمَيْتُ بِهِ وَضَعَّفَهُ جِدًّا، وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إنَّهُ كَذَّابٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ مُضْرَبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ هُوَ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُمْ، رَوَى لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: دَاوُد بْنُ الزِّبْرِقَانِ لَا أَتَّهِمُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: دَاوُد بْنُ الزِّبْرِقَانِ شَيْخٌ صَالِحٌ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَيُذَاكِرُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَهُمُّ فِي الْمُذَاكَرَةِ وَيَغْلَطُ فِي الرِّوَايَةِ إذَا حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، وَيَأْتِي الثِّقَاتِ مَا لَيْسَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ فَلَمَّا نَظَرَ يَحْيَى إلَى تَنَكُّرِ الْأَحَادِيثِ أَنْكَرَهَا وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْجَرْحَ بِهَا.
وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ عَلِمَ مَا قُلْنَا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمُتَعَمِّدِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْإِنْسَانُ الْجَرْحَ بِالْخَطَأِ بِخَطَأٍ أَوْ الْوَهْمَ بِوَهْمٍ مَا لَمْ يَفْحُشُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّرْكَ. وَدَاوُد بْنُ الزِّبْرِقَانِ عِنْدَهُ صَدُوقٌ فِيمَا وَافَقَ الثِّقَاتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ حِبَّانَ، وَجَعَلَهُ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمْ، وَوَعَدَ هُنَا بِأَنْ يُمْلِيَ كِتَابًا فِيهِمْ وَيَذْكُرَ السَّبَبَ الدَّاعِيَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالصَّوَابَ فِيهِ، لِئَلَّا يُطْلَقَ عَلَى مُسْلِمٍ الْجَرْحُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَالَ النَّسَائِيُّ: دَاوُد بْنُ الزِّبْرِقَانِ لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَرَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: حَدَّثَنَا فَرَدَّادٌ أَبُو نُوحٍ، قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةِ قَالَتْ خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مُحِبَّةَ إلَى مَكَّةَ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ لَنَا: مِمَّنْ أَنْتُنَّ؟ قُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَتْ: فَكَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَنَّا، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ مُحِبَّةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَإِنِّي بِعْتُهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى عَطَائِهِ، وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، قَالَتْ فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ. فَأَبْلَغِي زَيْدًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا

 

ج / 10 ص -104-    أَنْ يَتُوبَ. فَقَالَتْ لَهَا: أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ مِنْهُ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ قَالَتْ: "فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ". وَهَذَا إسْنَادٌ1.
وَحُجَّةُ الْمُخَالِفِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ"انْفَرَدَ أَبُو دَاوُد عَنْ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ بِتَخْرِيجِ2 هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَطَّابِيُّ فِي كَلَامِهِ عَنْ السُّنَنِ هَذَا الْبَابَ بِالْجُمْلَةِ الْكَافِيَةِ.
وَفَسَّرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ الْعِينَةَ هُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ. قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِبِ الْعِينَةِ سِلْعَةً مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِبِ الْعِينَةِ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَةٌ، وَهِيَ أَهْوَنُ مِنْ الْأُولَى، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَسُمِّيَتْ عِينَةً بِحُصُولِ النَّقْدِ لِصَاحِبِ الْعِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ هُوَ الْمَالُ الْحَاضِرُ فَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنٍ حَاضِرٍ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ نَقْدِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْهَرَوِيِّ وَجَعْلُهُ اسْمَ الْعِينَةِ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعِينَةَ اسْمًا لِلثَّانِي فَقَطْ، وَيُسَمِّي الْأَوَّلَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ شِرَاءَ مَا بَاعَ وَهَذَا صُنْعُ الْحَنَفِيَّةِ وَعِبَارَتُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْعِينَةُ السَّلَفُ، وَعِينَةُ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ قَالُوا: وَيُقَالُ: أَعْيَانٌ إذَا اشْتَرَى بِالْعِينَةِ وَإِذَا أَسْلَفَ، وَأَنْشَدَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

أيدان أَمْ لعيان أَمْ تنْبَرِي               لَنَا فهي مِثْلُ حَدِّ السَّيْف ِهزت مَضَارِبُهْ

وَيُصَحِّحُ الْحَنَفِيَّةُ الثَّانِيَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْعِينَةِ دُونَ الْأَوَّلِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَجْعَلُ اسْمَ الْعِينَةِ شَامِلًا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَالَ الْهَرَوِيُّ3 وَكَذَلِكَ إطْلَاقُ أَصْحَابِنَا وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ الْمَالِكِيُّونَ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت: وتقويم العبارة هكذا "وهذا إسناد حسن" إلا أن أبا الحسن الدارقطني الذي روى هذا الحديث يعقب عليه بقوله: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما، وأخرجه أيضا أحمد في "مسنده" عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته قال في "التنقيح" إسناده جيد وإن كان الشافعي لا يثبت مثله عن عائشة وكذلك الدارقطني وفيه نظر. انتهى (ط).
2 قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "معجمه الكبير" وأحمد في "مسنده" عن ابن عمر أيضا بلفظ: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد أدخل الله تعالى عليهم ذلا لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" ومن هنا لم ينفرد به أبو داود من بين أصحاب الكتب مطلقا وإن كان يصدق عليه قول الإمام السبكي أنه انفرد به من بين الستة. (ط).
3 قال في "اللسان": العينة خيار الشيء، وقال: واعتان الرجل إذا اشترى الشيء نسيئة وعينة الخيل جيادها وقال وعينة قبيحة وهي الاسم وذلك إذا باع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها منه بأقل من الثمن الذي باعها به، وقال ابن الأثير في "النهاية": وفي حديث ابن عباس: "إنه كره العينة" هو أن يبيع من=

 

ج / 10 ص -105-    وَالِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ "النَّهْيِ عَنْ الْعِينَةِ" حَسَدٌ يَكُونُ مِنْ جِهَتِهِمْ لَا مِنْ جِهَةِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ، وَاسْمُهُ إِسْحَاقُ بْنُ أَسِيدٍ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ فِيهِ: شَيْخٌ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ وَلَا يُسْتَقَلُّ بِهِ. وَعَنْ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: هُوَ مَجْهُولٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَهَالَةُ الْحَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ1 فِي هَذَا الْإِسْنَادِ الَّذِي فِي السُّنَنِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي زُرْعَةَ وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ لَهِيعَةَ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ جَهَالَةُ الْعَيْنِ.
وَقَدْ اعْتَرَضَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِهِ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ بِاعْتِرَاضَاتٍ منها: أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَتَغْلِيطَهَا فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفٌ ومنها: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلتَّأْجِيلِ بِالْعَطَاءِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَذْهَبُ إلَى جَوَازِ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ ومنها: أَنَّهَا تُثْبِتُ جِهَةَ الْمَنْعِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبَا لَمَّا اسْتَشْهَدَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} [البقرة: من الآية275] وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَبَقِيَّةُ مَا قَالُوهُ مَمْنُوعٌ، وَقَدْ سَلَّمُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْجَوَازُ.
قَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ: إلَّا أَنَّ تَرْكَهُ وَاجِبٌ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ وُجُوبٌ بِالذَّرَائِعِ وَالْقَوْلُ بِالذَّرَائِعِ أَسْهَلُ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْجَزَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَوَجْهُ الذَّرِيعَةِ فِيهَا هُوَ أَنَّ الْبَائِعَ دَفَعَ مِائَةً نَقْدًا لِيَأْخُذَ مِائَةً وَخَمْسِينَ إلَى أَجَلٍ، وَذِكْرُ السِّلْعَةِ وَالتَّبَايُعِ لَغْوٌ، وَهَذِهِ ذَرِيعَةٌ لِأَهْلِ الْعِينَةِ، أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَتَبِيعُ لِي هَذِهِ السِّلْعَةَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَأَنَا أُرْبِحُكَ دِينَارًا؟ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيُحَصِّلَ مِنْهُ قَرْضَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ بِأَحَدَ عَشَرَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِالْبَائِعِ إلَى السِّلْعَةِ وَإِنَّمَا تَذَرَّعَ بِهَا إلَى قَرْضِ ذَهَبٍ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِذَا وَجَدْنَا فِعْلًا مِنْ الْأَفْعَالِ يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَا يَخْتَلِفُ إلَّا بِالنِّيَّةِ مِنْ فَاعِلِهِ وَالْقَصْدِ وَكَانَ ظَاهِرُهُ وَاحِدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ إلَى تَمْيِيزِ مَقَاصِدِ النَّاسِ وَلَا إلَى تَفْصِيلِ قُصُودِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ، وَجَبَ حَسْمُ الْبَابِ وَقَطْعُ النَّظَرِ إلَيْهِ فَهَذَا وَجْهُ بِنَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الذَّرِيعَةِ قَالُوا: فَإِنْ سَلِمَ لَنَا هَذَا الْأَصْلُ بَنَيْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ نُقِلَ الْكَلَامُ إلَيْهِ هَذَا مَا عَوَّلَتْ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَالنِّزَاعُ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَشْهُورٌ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ وَافَقُونَا كَمَا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى عَدَمِ إنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِالْمَقَاصِدِ، وَوُجُوبِ رَبْطِهَا بِمَظَانَّ ظَاهِرَةٍ فَقَدْ يُوجَدُ الْقَصْدُ الْفَاسِدُ فِي عَقْدٍ نَتَّفِقُ نَحْنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها إلى أجل ممسمى ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذا أيضا عينة وهي أهون من الأولى، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة لأن العين هو المال الحاضر من النقد والمشتري إنما يشتريها بعين حاضرة تصل إليه.
1 كان في الطبعات السابقة سريح وصوابه شريح وهو ابن يزيد الحضرمي أبو العباس الحمصي.

 

ج / 10 ص -106-    وَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ وَقَدْ يُعْدَمُ الْقَصْدُ الْفَاسِدُ فِي عَقْدٍ يَحْكُمُونَ هُمْ بِفَسَادِهِ، وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ بِالْفَسَادِ احْتِكَامٌ بِنَصْبِ شَيْءٍ مُفْسِدٍ، وَذَلِكَ مَنْصِبُ الشَّارِعِ لَيْسَ لِآحَادِ الْفُقَهَاءِ اسْتِقْلَالٌ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرُّجُوعُ إلَى الْمَقَاصِدِ الْخَفِيَّةِ جَائِزًا اتِّفَاقًا فَالْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَوَاهِرِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَدَمُ الْأَحْكَامِ بِأَمْرٍ آخَرَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِطْنَابِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشِبْهِهَا بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ
أَتَمْرُ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ قَالَ: لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ أَرْشَدَهُ صلى الله عليه وسلم إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الرِّبَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَحْصِيلَ الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ وَقَدْ أَطْنَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي فُرُوعِ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَالْأُولَى الَّتِي صَدَّرْنَا الْكَلَامَ بِهَا مُتَرْجَمَةٌ عِنْدَهُمْ بِبُيُوعِ الْآجَالِ. وَتَنْقَسِمُ أَقْسَامًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَفِي بَعْضِهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَارَةً تُفْرَضُ فِي الصَّرْفِ فَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهَا، وَتَارَةً تُفْرَضُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ، فَتَقَعُ تَارَةً بِدُونِ الْأَجَلِ وَتَارَةً بِالْأَجَلِ وَبَوَّبَ الْأَصْحَابُ لَهَا بَابَ الرَّجُلِ يَبِيعُ الشَّيْءَ بِأَجَلٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنْ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ: سَمِعْتُ الْقَاضِي أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ: الْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا أَنَّهُ بَيْعُ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَاهُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبْحِ الْفَاضِلِ لَهُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي عَلَى مَا مَلَكَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، أَوْ فَضَلَ مَا بَيْنَ الْمَضْمُونِ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَالْمَضْمُونِ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، وَالْإِنْسَانُ مَرَّةً يَرْبَحُ بِأَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَى، وَأُخْرَى بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، وَالرِّبْحُ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ إلَّا بِعَقْدَيْنِ، فَتَعُودُ الْعَيْنُ إلَيْهِ مَعَ خُلُوصِ الرِّبْحِ لَهُ وَهَذَا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، بَلْ حَقِيقَةُ الرِّبْحِ قَصْرُ مَا يَمْلِكُ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْمَوْرُوثَ أَوْ الْمَوْهُوبَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، حَسُنَ أَنْ يُقَالَ رَبِحَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا لَهُ فِي الشَّرَائِطِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَأَبُو عَلِيٍّ الَّذِي حَكَى عَنْهُ الْقَاضِي هُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِيمَا أَظُنُّ.
فرع: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِعَادَةٍ أَوْ بِغَيْرِ عَادَةٍ. وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ أَنَّ بِالْمَنْعِ أَفْتَى الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إذَا صَارَ ذَلِكَ عَادَةً، فَيَبْطُلُ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا، يَعْنِي لَا لِأَجْلِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ الْعَادَةَ تَصِيرُ كَالْمَشْرُوطَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ: وَمَسْأَلَةُ الْعِينَةِ قَدْ عَمَّ الْعُرْفُ بِهَا بِالزِّيَادَةِ فِي النُّقُودِ، وَلَنَا وَجْهٌ فَنَقُولُ: فِي مَذْهَبِنَا إنَّ مَا يَتَقَدَّمُ الْعَقْدَ بِهَا مِنْ الْعَادَةِ الَّتِي لَوْ امْتَزَجَتْ بِالْعَقْدِ لَأَفْسَدَتْهُ، فَإِذَا تَقَدَّمَتْ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَا، فَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ مَعَ ضَعْفِهِ بِعُمُومِ الْعُرْفِ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ صَرِيحَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَعَادَةٌ وَغَيْرُ عَادَةٍ سَوَاءٌ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: إنَّ قَصْرَهُ عَلَى مَا إذَا فُرِضَ شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ، فَقِيَاسُ ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِضَعْفِهِوأما: اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ فَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ، يَأْبَاهُ.

 

ج / 10 ص -107-    فرع: فَإِنْ فُرِضَ الشَّرْطُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ بَطَلَ بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ مَحَلَّ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْكَلَامِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مِنْ الْوَاضِحَاتِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْعَشِيُّ فِي تَرْتِيبِ الْأَقْسَامِ.
فرع: عَرَفْتَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا فِي الْجَوَازِ فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَّ - عَادَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَادَةٌ فَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي الْمَذْهَبِ فِي الْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَمَسْأَلَةِ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ، وَفِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ إطْلَاقُ الْعِينَةِ عَلَيْهِمْ وَجَمِيعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ جَازِمَةٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إنَّهُ قَدْ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ إنَّ الشَّخْصَ إذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ - وَلِوَارِثِهِ فِيهِ شُفْعَةٌ - أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُ الْأَصْحَابِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ إذَا بَاعَ عَلَى الْيَتِيمِ شِقْصًا لَهُ شُفْعَةٌ لَا يَأْخُذُهُ بِالشُّفْعَةِ وَقَالَ هُنَا: إنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي مَنْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ قَوْلَيْنِ لَهُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ قَالَ: وَذَلِكَ إثْبَاتُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَبِيعِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا صَارَ إلَيْهِ الْخَصْمُ.
قُلْتُ: وَاَلَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي مَنْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ الَّذِي هُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَامٌّ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدَهُمَا: أَنَّ مَنْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَمْ يَحِلَّ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى إحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَفِي هَذَا مَا يُثْبِتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تُشْبِهُ مَعَانِيَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُ الْمَاءِ إنَّمَا يَحْرُمُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَلَفِ مَا لَا غِنَى بِهِ لِذَوِي الْأَرْوَاحِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَإِذَا مَنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ مَنَعُوا فَضْلَ الْكَلَأِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِلَفْظِهِ، وَقَدْ تَأَمَّلْتُهُ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مُتَعَلَّقًا قَوِيًّا لِإِثْبَاتِ قَوْلِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، بَلْ لِأَنَّ الذَّرِيعَةَ تُعْطَى حُكْمَ الشَّيْءِ الْمُتَوَصَّلِ بِهَا إلَيْهِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لَهُ كَمَنْعِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِمَنْعِ الْكَلَأِ وَمَنْعُ الْكَلَأِ حَرَامٌ وَوَسِيلَةُ الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَالذَّرِيعَةُ هِيَ الْوَسِيلَةُ، فَهَذَا الْقِسْمُ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْوَسَائِلِ مُسْتَلْزِمًا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلْعَقْدِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَسْمَحُ لَهُ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ أَوْ بِبَذْلِهِمَا، أَوْ يَمْنَعُ مَانِعٌ آخَرُ، فَكُلُّ عَقْدٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْآخَرِ لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا فَسَدُّ الذَّرَائِعِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ الذَّرَائِعِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ تَعَرُّضٌ لَهُمَا، وَالذَّرَائِعُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كَلَامُ لَفْظِهِ لَا نِزَاعَ فِي اعْتِبَارِهَا.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَأَمَّا الذَّرَائِعُ فَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أحدها: مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حَسَدًا وَثَانِيهَا مُلْغًى إجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ، وَالشَّرِكَةِ فِي سَلَمِ الْأَذِرَّةِ خَشْيَةَ الرِّبَا، وَثَالِثُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ، اعْتَبَرْنَا نَحْنُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَنَا غَيْرُنَا فَحَاصِلُ الْقِصَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا انْتَهَى كَلَامُهُ.

 

ج / 10 ص -108-    فَالذَّرَائِعُ هِيَ الْوَسَائِلُ وَهِيَ مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا شَدِيدًا قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً وَمَنْدُوبَةً وَمُبَاحَةً، وَتَخْتَلِفُ أَيْضًا مَعَ مَقَاصِدِهَا، بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَضَعْفِهَا، وَانْغِمَارِ الْوَسِيلَةِ فِيهَا وَظُهُورِهَا فَلَا يُمْكِنُ دَعْوَى كُلِّيَّةٌ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغَائِهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهَا الْفِقْهِيَّةَ ظَهَرَ لَهُ هَذَا، وَيَكْفِي الْإِجْمَاعُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَلَامِ الْقَرَافِيُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّرِيعَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي الِاعْتِبَارِ، إذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاعْتُبِرَتْ مُطْلَقًا وَلَأَبْلَغْنَاهُ كَذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ فَضْلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا وَإِلْغَاءَهَا، فَلَا دَلِيلَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَلَى إثْبَاتِ قَوْلٍ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ وَبُيُوعِ الْآجَالِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ تَمَسَّكَ بِهِمَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَلِيِّ إذَا بَاعَ عَلَى الْيَتِيمِ شِقْصًا لَهُ فِيهِ شُفْعَةٌ، وَكَوْنُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ قَالَ بِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ بِالشُّفْعَةِ فَقَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لَا مُتَعَلَّقَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُتْرَكَ النَّظَرُ وَالِاسْتِقْصَاءُ لِلصَّبِيِّ، وَتَسَامَحَ فِي الْبَيْعِ لِيَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ، فَالتُّهْمَةُ الْمَانِعَةُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا جَازَ لَهُمَا الْأَخْذُ لِوُفُورِ الشَّفَقَةِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ إذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شِقْصًا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ وَقِيلَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا يَأْخُذُهُ الْوَارِثُ بِالشُّفْعَةِ لِمَا ذُكِرَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَهَذَا الْوَجْهُ وَالْأَوَّلُ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مَنْقُولَةٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مَجِيءُ مِثْلِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَقِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ الصَّبَّاغِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي، وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الْآخَرِ أَلَّا يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي.
وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْوَجْهَيْنِ لَا يَلْزَمُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لِأَمْرَيْنِ أحدهما: بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي قَهْرًا، وَمُحَابَاةُ الْمَرِيضِ لِلْمُشْتَرِي تَبَرُّعٌ، فَهُوَ بِالْمُحَابَاةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْجَدَ تَبَرُّعًا يَقْدِرُ الْوَارِثُ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِأَخْذِهِ بِدُونِ رِضَا الْمُشْتَرِي فَأَشْبَهَ التَّبَرُّعَ الْحَاصِلَ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فَإِنْ أَخَذَ الْوَارِثُ قَهْرًا مِنْ الْمُشْتَرِي مِثْلَ قَبُولِهِ مِنْ الْمَرِيضِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَإِنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي، بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَقَدْ لَا يُوَافِقُهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخْرِيجَ فِي الْمَذْهَبِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَقْوَالِ الْإِمَامِ، أَمَّا الْوُجُوهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ فَإِنَّمَا يُلْزَمُ قَائِلُهَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ وَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَطْلَقُوا الْجَوَازَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنُوا هَلْ الْمُرَادُ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فِي الِانْتِصَارِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِالْكَرَاهَةِ فِي ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّ دَلَائِلَ الْكَرَاهَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ عَصْرُونٍ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِشَرْطِهِ فِي الْعَقْدِ يُكْرَهُ قَصْدُهُ، وَقَالَ ابْنُ دَاوُد شَارِحُ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: إنَّهُ إنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً كُرِهَ فَأَفْهَمَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَةً وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ مَقْصُودًا كُرِهَ، سَوَاءٌ اعْتَادَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَدْهُ، نَعَمْ إنْ جَرَى ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ لِلْمَكْرُوهِ

 

ج / 10 ص -109-    وَلَا عَادَةٍ، كَقِصَّةِ عَامِلِ خَيْبَرَ، فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا مَرَاتِبُ:
الْأُولَى: أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ بِقَصْدِ الْمَكْرُوهِ مِنْ أَهْلِ التُّهْمَةِ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَائِزٌ عِنْدَنَا مَعَ الْكَرَاهَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْرِيَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْمَكْرُوهِ، وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ مِمَّنْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التُّهْمَةُ كَقِصَّةِ عَامِلِ خَيْبَرَ، فَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ، فَإِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ وَهُوَ التَّخَلُّصُ مِنْ الرِّبَا أَوْ أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا، فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ حَرَامٌ اعْتِبَارًا بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَمَظِنَّةِ التُّهْمَةِ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا سَنَحْكِيهِ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْرِيَ بِقَصْدِ الْمَكْرُوهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التُّهْمَةِ فَيُكْرَهُ عِنْدَنَا وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِنَاطَتِهِمْ ذَلِكَ بِالْمَظِنَّةِ أَنْ يُجَوِّزُوهُ واعلم: أَنَّ مَسْأَلَةَ بُيُوعِ الْآجَالِ تَصْنِيفٌ لَكِنِّي أَذْكُرُ نُبْذَةً يَسِيرَةً جِدًّا.
فَرْعٌ: فِي نُبْذَةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَنْتَهِي فِي التَّفْرِيعِ إلَى أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ مَسْأَلَةً ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ، وَثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِي الشِّرَاءِ إلَى أَجَلٍ مُقَاصَّةً، وَثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِي الشِّرَاءِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي مِنْهُ الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ وَبِأَقَلَّ مِنْهُ وَبِأَكْثَرَ نَقْدًا، وَقَدْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَزِيَادَةً عَلَيْهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَيْضًا وَبِأَقَلَّ مِنْهُ وَبِأَكْثَرَ نَقْدًا، فَهَذِهِ تِسْعُ مَسَائِلَ إذَا لَمْ يَغِبْ الْمُبْتَاعُ عَنْ الطَّعَامِ، وَتِسْعٌ أُخَرُ: إذَا غَابَ عَلَيْهِ ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فِي الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ وَمِثْلُهَا فِي الشِّرَاءِ إذَا غَابَ إلَى أَجَلٍ مُقَاصَّةً وَمِثْلُهَا أَيْضًا فِي الشِّرَاءِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْأَجَلِ، فَمِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً لَا تَجُوزُ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ نَقْدًا الطَّعَامَ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ عَلَيْهِ، أَوْ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ وَزِيَادَةً عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ أَيْضًا مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ غَابَ عَلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا أَوْ مُقَاصَّةً، وَأَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ وَزِيَادَةً عَلَيْهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ نَقْدًا أَوْ مُقَاصَّةً وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونِسِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْعِينَةِ وَبُيُوعِ الْآجَالِ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّانِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: إنَّمَا تُكْرَهُ الْعِينَةُ فِي الْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ وَأَمَّا بَيْعُ النُّقُودِ فَلَا إلَّا مَنْ عُرِفَ بِالْعِينَةِ الْمَكْرُوهَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْبَيْعَةُ الْأُولَى إلَى أَجَلٍ وَالثَّانِيَةُ نَقْدًا أَوْ إلَى أَجَلٍ اُتُّهِمَ فِيهَا كُلُّ أَحَدٍ وَإِذَا كَانَتْ الْأُولَى نَقْدًا فَلَا يُتَّهَمُ فِي الثَّانِيَةِ إلَّا الْعِينَةُ خَاصَّةً قَالَ أَصْبَغُ: وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ فَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِهَا. وَوَقَعَ لِابْنِ وَهْبٍ إذَا كَانَتْ الْأُولَى، نَقْدًا وَالثَّانِيَةُ إلَى أَجَلٍ أَنَّهُمَا يُتَّهَمَانِ فِيهِمَا، كَمَا يُتَّهَمَانِ إذَا كَانَتْ الْأُولَى إلَى أَجَلٍ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ. قَالَ أَعْنِي التُّونِسِيَّ وَمِمَّا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ مِنْهُ سِلْعَةً بِعَشَرَةٍ نَقْدًا ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ الْبَائِعُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ نَقْدًا أَوْ إلَى أَجَلٍ فَيُتَّهَمَ الْمُشْتَرِي أَوْ يَكُونَ دَفَعَ عَشَرَةً انْتَفَعَ بِهَا الْبَائِعُ وَرَدَّ عِوَضَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَكَانَتْ سِلْعَتُهُ لَغْوًا لِرُجُوعِهَا إلَيْهِ، وَمِثْلُ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ سِلْعَةً بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ

 

ج / 10 ص -110-    بِعَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ فَلَا يَجُوزَ فِي أَهْلِ الْعِينَةِ لِأَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا بَاعَ مِنْهُ السِّلْعَةَ مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْبَائِعُ نَقْدًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْهَبْ فَبِعْ مِنْهَا بِعَشَرَةٍ تَدْفَعُهَا إلَيَّ وَالْبَاقِي بِعْتُهُ مِنْكَ بِعَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَمِثْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ إذَا كَانَ إنَّمَا يَشْتَرِي لِيَبِيعَ لَا لِيَأْكُلَ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ سِلْعَةً بِعَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ فَيَذْهَبَ فَيَقُولَ: بِعْتُهَا بِثَمَانِيَةٍ فَحُطَّ عَنِّي مِنْ الرِّبْحِ قَدْرَ الدِّينَارَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا هَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ الَّذِينَ يَبِيعُونَ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ مَا صَحَّ لَكَ فِيهَا رَبِحْتُ عَلَيْكَ فِيهِ الدِّرْهَمَ دِرْهَمًا أَوْ نِصْفًا، فَصَارَ أَصْلُ الْمَبِيعِ الْأَوَّلِ لَا يُعْلَمُ مَا ثَمَنُهُ إلَّا بَعْدَ بَيْعِهِ. وَهَذَا لِمَنْ يَشْتَرِي لِيَبِيعَ، وَيَجُوزُ هَذَا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنْتَفِعَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: اشْتَرِ لِي سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا وَأُرْبِحْكَ فِيهَا كَذَا إلَى أَجَلِ كَذَا، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَخَوَاتِهَا1 جِدًّا.
فرع: اشْتَرَى عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا الْبَعْضَ وَافْتَرَقَا، بَطَلَ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَفِي الْمَقْبُوضِ طَرِيقَانِ، كَمَا لَوْ تَلِفَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إنَّهُ لَا يَجِيءُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَلَا الثَّمَنُ مَجْهُولًا. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: فِي نَظَرِهِ مِنْ السَّلَمِ قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ، وَلَا يَرْتَضِيهِ الْمُحَصِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ وَمَسْأَلَةُ الْعَبْدَيْنِ لَا يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي قَوْلًا وَاحِدًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: خَرَّجَ أَبُو إِسْحَاقَ فِيهِ قَوْلًا: أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ. وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الشَّرْحِ بِخِلَافِهِ. وَلَعَلَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ النَّوَوِيِّ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَعْلُهَا كَمَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ. وَكَلَامُ الرُّويَانِيِّ الَّذِي حَكَيْتُهُ يُوَافِقُهُ، لَكِنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الصَّرْفِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالْفَسَادِ هُنَا احْتِيَاطًا لِلرِّبَا. وَلَا يَخْرُجُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: لَوْ وَكَّلَ فِي الصَّرْفِ وَعَقَدَ الْوَكِيلُ هَلْ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَقْبِضَ وَيَكْتَفِيَ بِقَبْضِهِ عَنْ قَبْضِ الْوَكِيلِ؟ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ: وَيَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالرُّؤْيَةِ، وَقَبْضِ رَأْسِ[مَالِ]السَّلَمِ، وَالتَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ، وَتَتَعَلَّقُ حُقُوقُهُ بِالْمُوَكِّلِ وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَيْهِ. وَهَذَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ. وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ: إنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَبُطْلَانِ الْعَقْدِ بِمُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَخْذِ بَدَلِ الصَّرْفِ. وَقَالَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَتَقْرِيرَ الْمِلْكِ يَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ رحمه الله: وَالْأَصْحَابِ أَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ قَائِمٌ مَقَامَ قَبْضِ الْمُوَكِّلِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق .

 

ج / 10 ص -111-    قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إنَّ كَلَامَ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْجُرْجَانِيِّ الْمَذْكُورُ قَدْ يُنَازَعُ بِإِطْلَاقِهِ فِي هَذَا وَقَدْ يُسَلَّمُ. وَيُقَالُ إنَّ الْوَكِيلَ يَنُوبُ عَنْ الْمُوَكَّلِ، فَإِذَا قَبَضَ فَيَدُهُ كَيَدِهِ، وَالْمُوَكِّلُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْوَكِيلِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَقُمْ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ مَقَامَ قَبْضِ الْوَكِيلِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَجْلِسِ.
قلت: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَلَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْجُرْجَانِيِّ وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ فِي تَسْمِيَةِ الصَّرْفِ
قَالَ ابْنُ سَيِّدَهُ فِي الْمُحْكَمِ: الصَّرْفُ فَضْلُ الدِّرْهَمِ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ عَلَى الدِّينَارِ، وَالصَّرْفُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالصَّرَّافُ وَالصَّيْرَفُ وَالصَّيْرَفِيُّ النُّقَّادُ، وَالْجَمْعُ صَيَارِفُ وَصَيَارِفَةٌ، دَخَلَتْ فِيهِ الْهَاءُ لِدُخُولِهَا فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْقَشَاعِمَةِ لَا لِلنَّسَبِ، وَقَالَ الْأَصْحَابُ: الصَّرْفُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَرَأَيْتُ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الصَّرْفَ اسْمٌ لِبَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ وَالْمُصَارَفَةُ اسْمٌ لِبَيْعِ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَارِفَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمُصَارَفَةِ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كُلَّ دِينَارٍ زَادَ بِدَرَاهِمَ، لِأَنَّ الصِّيغَةَ جَمَعَتْ الصَّرْفَ وَالْمُصَارَفَةَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ حِصَّةُ الْمُصَارَفَةِ مِنْ حِصَّةِ الصَّرْفِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: سُمِّيَ الصَّرْفُ صَرْفًا لِصَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ. وَقِيلَ لِصَرْفِ الْمُسَامَحَةِ عَنْهُ فِي زِيَادَةٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُصَارَفَةَ صَاحِبِهِ أَيْ مُضَايِقَتَهُ.
فرع: كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَأَعْطَاهُ عَشْرَةً عَدَدًا قَضَاءً لِمَا عَلَيْهِ فَوَزَنَهَا الْقَابِضُ فَوَجَدَهَا أَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا. قَالَ الْأَصْحَابُ وَالْقَاضِي وَأَبُو الطَّيِّبِ وَالرَّافِعِيُّ: كَانَ الدِّينَارُ الزَّائِدُ لِلْقَاضِي1 مُشَاعًا فِيهَا، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عِوَضًا وَلَمْ يَأْخُذْهُ أَمَانَةً، وَلَيْسَ كَمَا إذَا سَلَّمَ دِينَارًا نِصْفَهُ شَائِعًا حَيْثُ يَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ أَمَانَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ النِّصْفَ الزَّائِدَ بَدَلًا عَمَّا عَلَيْهِ، وَهُنَا قَبَضَهُ بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ. وَفِي الصُّورَتَيْنِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إنْ شَاءَ الْقَاضِي اسْتَرْجَعَ مِنْهُ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ اشْتَرَى بِهِ مِنْهُ عَرْضًا، أَوْ أَخَذَ بِهِ دَرَاهِمَ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الدَّرَاهِمِ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ ثَمَنًا لِمَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهِ سَلَمًا. هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَفِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الدِّينَارُ بَاقِيًا، فَلَوْ تَلِفَ صَارَ دَيْنًا لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ رَأْسَ مَالٍ فِي السَّلَمِ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي مِقْدَارِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ قَبْضَ الْمَوْزُونِ أَوْ الْمَكِيلِ جُزَافًا فَاسِدٌ حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ الدَّافِعُ: إنَّنِي وَزَنْتهَا وَإِنَّهَا كَذَا فَقَبَضَهَا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ يَكُونُ فَاسِدًا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَجِبُ تَجْدِيدُ الْقَبْضِ، وَمَحَلُّ تَحْرِيرِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي آخِرِ بَابِ السَّلَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القاضي اسم فاعل قضى أي أدى ما عليه لدائنه فيكون القاضي هنا هو المعطي للعشرة عددا وكذلك في قول القاضي أبي الطيب إن شاء القاضي استرجع الخ (ط).

 

ج / 10 ص -112-    فرع: لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَوْصُوفَةٍ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا وَاحِدًا وَزْنُهُ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَلَوْ بَاعَهُ عَبْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَهْوَازِيَّةٍ فَجَاءَهُ بِثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ دِينَارًا وَزْنُهُ مِائَةٌ، لَزِمَهُ أَنْ يَقْبِضَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ مِائَةً وَزْنُهَا وَعَدَدُهَا سَوَاءٌ فَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ ذَلِكَ، قَالَهُمَا الصَّيْمَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إذَا قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الدِّينَارَ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ دِينَارِكَ فَكَانَ دِينَارُهُ زَائِدًا سُدُسًا أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَهَبَهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ أَوْ يَبِيعَهُ مِنْهُ بَعْدُ بِشَيْءٍ آخَرَ وَيَقْطَعَ الزِّيَادَةَ عَنْهُ أَوْ يُشْرِكَهُ فِيهِ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ بِرِضَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فَرْعٌ آخَرُ قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
لَوْ قَالَ بِنِصْفِ دِينَارٍ لَزِمَهُ بِوَزْنِ الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ الْبَلَدِ، فَلَوْ قَالَ بِنِصْفِ هَذَا الدِّينَارِ لَزِمَهُ نِصْفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ وَزْنُهُ دِينَارًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَوْ قَالَ بِنِصْفِ دِينَارٍ مِنْ هَذَا الدِّينَارِ فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُ أَكْثَرَ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ دِينَارٍ، أَوْ إنْ كَانَ وَزْنُهُ نِصْفَ دِينَارٍ دَفَعَ الْكُلَّ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَغْلِيبِ الْإِشَارَةِ أَوْ الْعِبَارَةِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ: إنْ كَانَ وَهَبَ مِنْهُ دِينَارًا أَوْ أَثَابَهُ الْآخَرُ دِينَارًا أَوْزَنَ أَوْ أَنْقَصَ فَلَا بَأْسَ.
فرع: قَالَ الْأَصْحَابُ: إذَا كَانَ لَهُ عِنْدَ صَيْرَفِيٍّ دِينَارٌ فَأَخَذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَالدِّينَارُ لَهُ وَالدَّرَاهِمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ فَطَرِيقُهُمَا أَنْ يَتَبَارَيَا.
فرع: لَهُ عِنْدَ صَيْرَفِيٍّ دِينَارٌ قَبَضَ ثَمَنَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ، وَصَارَ لِلصَّيْرَفِيِّ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، وَلَا يَخْفَى الْحُكْمُ.
فرع: التَّوْلِيَةُ بِبَيْعٍ جَائِزَةٌ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ كَغَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِنَفْسِكَ بِدِينَارٍ، ثُمَّ وَلِّنِي نِصْفَهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ إذَا وَلَّاهُ كَانَ بَيْعَ غَائِبٍ.
فرع: بَاعَ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، صَرَفَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ قَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ لَمْ يَجِبْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ السِّعْرَ يَخْتَلِفُ.
فرع: اشْتَرَى ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَصِحَّ فَلَوْ قَالَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا صَحَّ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ إذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا وَكَانَ يَعْلَمُ قِيمَةَ الدِّرْهَمِ مِنْ الدِّينَارِ إمَّا عُشْرُهُ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَعْلُومٍ مِنْ مَعْلُومٍ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ:
فَرْعٌ: اشْتَرَى ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ لَزِمَهُ شِقُّ دِينَارٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ دِينَارٍ صَحِيحٍ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُ ثَوْبًا آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ لَزِمَهُ نِصْفُ دِينَارٍ آخَرُ مَكْسُورَةٍ وَلَا يَلْزَمُهُ دِينَارٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ أَعْطَاهُ صَحِيحًا فَقَدْ

 

ج / 10 ص -113-    أَحْسَنَ، فَإِنْ شَرَطَ فِي الثَّانِي إنْ كَانَ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَالثَّانِي بَاطِلٌ فَقَطْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الْعَقْدِ بَاقِيًا فَسَدَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَمِيعًا هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا قَوْلُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ أَوْ الصَّحِيحَ إذَا وُجِدَ فِي الْمَجْلِسِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ.
قَالَ: وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَصِحُّ الْعَقْدَانِ وَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بِدِينَارٍ صَحِيحٍ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَعَ ذَلِكَ أَطْلَقَ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِنِصْفِ دِينَارٍ لَا يَجُوزُ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ وَلِعِزَّتِهِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا بِنِصْفِ دِينَارٍ صَحِيحٍ يَجُوزُ لِكَثْرَةِ وُجُودِهِ ثُمَّ يُعْطِيهِ قِطْعَةً وَزْنُهَا نِصْفُ دِينَارٍ، أَوْ يُشْرِكُهُ فِي دِينَارٍ صَحِيحٍ إنْ رَضِيَ بِهِ، وَسَاقَ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ فَأَثَارَ هَذَا الْكَلَامُ إشْكَالًا، فَإِنَّ النِّصْفَ إمَّا أَنْ يُحْمَلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى نِصْفٍ شَائِعٍ مِنْ دِينَارٍ، أَوْ عَلَى جُزْءٍ مُتَمَيِّزٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ تَسْلِيمُ النِّصْفِ شَائِعًا وَلَا يَكْسِرُهُ، فَإِنَّهُ يُنْتَقَصُ قِيمَتُهُ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَسْرَ الْمُشَاعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا فَسَادُ الْعَقْدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَزِيزِ الْوُجُودِ، وَقَدْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نِصْفٍ مِنْ دِينَارٍ صَحِيحٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ مُشَاعًا إلَّا بِرِضَاهُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
وَإِنْ حُمِلَ عَلَى جُزْءٍ مُتَمَيِّزٍ فَيُتَّجَهُ فَسَادُ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ إمَّا عَزِيزُ الْوُجُودِ وَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ بِهِ تَنْقِيصُ عَيْنِ الْمَبِيعِ إذَا أَلْزَمْنَاهُ بِقَطْعِ دِينَارٍ، وَهَذَا إذَا أَطْلَقَ النِّصْفَ وَإِنْ قَيَّدَ فَإِنْ قَالَ: نِصْفًا مِنْ دِينَارٍ صَحِيحٍ، اقْتَضَى الْإِشَاعَةَ، وَلَا يَأْتِي مَا قَالُوهُ فِي تَسْلِيمِ شِقِّ دِينَارٍ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الشَّرْطِ وَإِنْ قَالَ: نِصْفًا صَحِيحًا اقْتَضَى الْفَسَادَ لِعِزَّةِ وُجُودِهِ، كَمَا قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَإِنْ قَالَ نِصْفًا مَكْسُورًا مِنْ دِينَارٍ اقْتَضَى الْفَسَادَ أَيْضًا، إذْ لَا يُوجَدُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ إلَّا عَزِيزًا، وَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ مُكَسَّرًا اقْتَضَى تَنْقِيصَ عَيْنِ الْمَبِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله لَمَّا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُمِّ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالصِّحَّةِ إذَا بَاعَ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَكَذَا قَالَ: إذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِينَارًا فَإِنْ قَيَّدَهُ بِأَلَّا يَكُونَ نِصْفٌ1.
فرع: وَهُوَ مِنْ تَتِمَّةِ مَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَعْلَاهُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: لَوْ قَالَ بِنِصْفِ دِينَارٍ صَحِيحٍ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ: مُدَوَّرًا يَصِحُّ، وَلَوْ سَلَّمَ مُدَوَّرًا وَشِقًّا مِنْ دِينَارٍ يَجُوزُ، وَإِنْ سَلَّمَ ثَقِيلًا وَأَشْرَكَهُ فِيهِ يَجُوزُ، وَإِنْ قَالَ: مُدَوَّرًا وَهُوَ عَامُّ الْوُجُودِ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ نَادِرَ الْوُجُودِ لَا يَجُوزُ، هَكَذَا قَالَ الرُّويَانِيُّ، وَهُوَ كَلَامٌ بَيِّنٌ، فَلْيُنَزَّلْ كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَلَيْهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر، قلت: ونص الشافعي في باب ما جاء في الصرف "ومن باع رجلا ثوبا بنصف دينار ثم باعه ثوبا آخر بنصف دينار حالين أو إلى أجل واحد فله عليه دينار فإن شرط عليه عند البيعة الآخرة أن له عليه دينارا فالشرط جائز وإن قال: دينارا لا يعطيه نصفين ولكن يعطيه واحدا جازت البيعة الأولى ولم تجز البيعة الثانية وإن لم يشترط هذا الشرط ثم أعطاه دينارا وافيا فالبيع جائز ا هـ  (ط).

 

ج / 10 ص -114-    فرع: اشْتَرَى ثَوْبًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَجَاءَ بِعِشْرِينَ صِحَاحًا وَزْنُهَا عِشْرُونَ وَنِصْفٌ وَقَبَضَ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فِضَّةً جَازَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي أَصْلِ بَيْعِ الثَّوْبِ لَمْ يَصِحَّ. لِأَنَّهُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ.
فرع: لَوْ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِدِينَارٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ دِينَارٌ صَحِيحٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَلَوْ بَاعَ الثَّوْبَ الْأَوَّلَ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَالثَّانِي بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِينَارًا كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَائِزَيْنِ هَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالثَّانِي لَا يُنَافِيهِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ أَنَّ الدِّينَارَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِفْهُ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يُنَافِي نِصْفَيْ دِينَارٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَوَّلًا بِدِينَارٍ مُطْلَقٍ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَجْلِ الْإِطْلَاقِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَ هَذِهِ الْفُرُوعَ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، رحمه الله وَغَيْرُهُ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحَرَّمُ فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ، كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالذَّهَبِ وَالشَّعِيرِ بِالْفِضَّةِ حَلَّ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ، لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ إسْلَامِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ".
الشرح:هَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحَرَّمُ فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ عَلَى الثَّمَنِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ الرِّبَا فِيهِ وَحْدَهُ بِعِلَّتَيْنِ وَيَعُودُ ضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ عَلَيْهِ وَلَا إلَى الْمَبِيعِ وَحْدَهُ كَذَلِكَ وَلَا إلَيْهِمَا لِامْتِنَاعِ عَوْدِ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ إلَى اثْنَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى جِنْسِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَهُوَ مَا يُحَرَّمُ فِيهِ الرِّبَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْفَصْلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِيهِمَا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى مُثَنَّى عَلَى مَعْنًى مَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّثْنِيَةُ وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعِيدَهُ عَلَى لَفْظِهَا فَيَقُولُ: فِيهِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الرِّبَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَأَمَّا الْمَجْمُوعُ حَالَةَ الْمُقَابَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يُحَرَّمُ فِيهِ الرِّبَا أَصْلًا، لَا بِعِلَّةٍ وَلَا بِعِلَّتَيْنِ وَذَلِكَ وَاضِحٌ فَلَمْ تَجْتَمِعْ الْعِلَّتَانِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بَلْ الطَّعْمُ عِلَّةٌ لِحُرْمَةِ الرِّبَا فِي الْمَطْعُومَاتِ فَقَطْ، وَالثَّمَنِيَّةُ عِلَّةُ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ فَالْعِلَّتَانِ مُوجِبَتَانِ لِنَوْعِ حُرْمَةِ الرِّبَا الْمُقَيَّدِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ.
وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَخَصُّ مِنْ عِبَارَتِهِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يُحَرَّمْ فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِمَا إذَا بَاعَ الرِّبَوِيَّ بِغَيْرِ رِبَوِيٍّ، وَإِنْ كَانَ التَّمْثِيلُ بَعِيدًا وَالْحُكْمُ لَا يَخْتَلِفُ وَعِبَارَتُهُ فِي الْمُهَذَّبِ خَاصَّةٌ بِمَا إذَا كَانَ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ وَأَمَّا غَيْرُ الرِّبَوِيِّ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ لَهُ الْفَصْلَ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُدْرِجَهُ فِي كَلَامِهِ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ إدْرَاجَهُ فِي الْكَلَامِ لَجَاءَتْ الْأَقْسَامُ خَمْسَةً، لِأَنَّهُ إمَّا أَلَّا يَكُونَ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رِبَوِيًّا دُونَ الْآخَرِ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا يَحْرُمُ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا رِبَوِيَّيْنِ. فَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَحْرُمُ فِيهِمَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الرِّبَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا أَوْ يَخْتَلِفَا، فَإِنْ اشْتَرَكَا حُرِّمَ النَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا لَمْ يُحَرَّمْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا رِبَوِيًّا.
إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَإِذَا بَاعَ الرِّبَوِيَّ بِرِبَوِيٍّ آخَرَ يُخَالِفُهُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا حَلَّ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ

 

ج / 10 ص -115-    قَبْلَ التَّقَابُضِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَلِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فِي الْإِمْلَاءِ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُهُ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَلَفْظُهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَصْرَحُ قَالَ فِيهِ: لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ يُسَلَّمَانِ فِيمَا سِوَاهُمَا وَقَالَ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الْآجَالِ فِي الصَّرْفِ: "وَلَا أَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ يُسَلَّمَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُسَلَّمُ فِي الْآخَرِ" وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ رحمه الله:"وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا فِي أَنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ يُسَلَّمَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُسَلَّمُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ" ا هـ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِجَوَازِ السَّلَمِ عَلَى جَوَازِ النَّسَاءِ - إذَا مَنَعْنَا التَّسَلُّمَ الْحَالَّ - وَاضِحٌ. وَأَمَّا إذَا جَوَّزْنَاهُ فَطَرِيقُ تَقْرِيرِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّرْفِ عَلَى الذِّمَّةِ، فَكُلُّ سَلَمٍ هُوَ بَيْعُ نَسِيئَةٍ، وَأَمَّا إنَّ كُلَّ بَيْعِ نَسِيئَةٍ سَلَمٌ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ إذَا بَاعَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ هَلْ يَكُونُ سَلَمًا أَوْ بَيْعًا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ إنْ قُلْنَا: يَكُونُ سَلَمًا فَصَارَ السَّلَمُ وَالْبَيْعُ نَسِيئَةً شَيْئًا وَاحِدًا فَيُقَالُ عَلَى هَذَا فِي هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ: يَجُوزُ نَقْدًا وَنَسِيئًا وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا لَا سَلَمًا، فَإِنَّا نَقُولُ يَجُوزُ نَقْدًا وَنَسِيئًا، وَيَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ. ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَقَالَ أَيْضًا: وَمَعْنَى قَوْلِنَا نَقْدًا وَنَسِيئًا أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ إلَى أَجَلِ كَذَا، وَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا، وَيَشْتَرِطُ تَسْلِيمَهُ إلَى أَجَلٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.
قلت: وَلَا يَنْحَصِرُ الْفَسَادُ فِيمَا قَالَهُ، بَلْ تَارَةً يَكُونُ النَّسَاءُ فِي الْمَبِيعِ وَصُورَتُهُ مَا ذَكَرَ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ إرْدَبَّ قَمْحٍ فِي ذِمَّتِي إلَى شَهْرٍ بِهَذَا الدِّينَارِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الثَّمَنِ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُكَ هَذَا الْإِرْدَبَّ الْقَمْحَ بِدِينَارٍ فِي ذِمَّتِكَ إلَى شَهْرٍ، وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُشْتَرَطُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ إذَا جَعَلْنَاهُ سَلَمًا. وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَحْضٌ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله: يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ مَبِيعَةً فِي الذِّمَّةِ نَسَاءً بِالذَّهَبِ، فَيَكُونُ سَلَمًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ بَيْعًا فِي مَعْنَى السَّلَمِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِذَهَبٍ فِي الذِّمَّةِ نَسَاءً، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ نَسَاءً فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى السَّلَمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ دَلِيلُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِلْحَاقُ جَلِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ، ثُمَّ إذَا جَازَ الْبَيْعُ نَسِيئَةً تَبِعَهُ جَوَازُ التَّفَرُّقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ، لِأَنَّ كُلَّ عِوَضَيْنِ حَرُمَ التَّفَرُّقُ فِيهِمَا قَبْلَ التَّقَابُضِ حَرُمَ النَّسَاءُ فِيهِمَا، وَمَا لَا فَلَا، وَلَا يُنْتَقَضُ بِبَيْعِ الْجَوْهَرَةِ بِالْجَوْهَرَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِمَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَى النَّسَاءِ، بَلْ لِكَوْنِهِ لَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ فَيَكُونُ الْمُسْلَمُ مَجْهُولًا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ ذَكَرَ خِلَافًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي جَوَازَ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالذَّهَبِ وَالشَّعِيرِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً وَلَا أَشْعَرَ بِهِ، إلَّا أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمِ الظَّاهِرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى مَرَاتِبَ الْإِجْمَاعِ: "وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِابْتِيَاعَ بِدِينَارَيْنِ أَوْ دَرَاهِمَ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مَقْبُوضَةٍ وَبِهَا إلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ

 

ج / 10 ص -116-    بِالْأَيَّامِ أَوْ الْأَهِلَّةِ وَالسَّاعَاتِ وَالْأَعْوَامِ الْقَمَرِيَّةِ، مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ الْأَجَلُ جِدًّا جَائِزٌ، مَا لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ شَيْئًا مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ مَوْصُوفٍ، وَأَمَّا حَالًّا فَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَتَضَمَّنَ كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ إثْبَاتَ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ "فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ" لَفْظُ مُسْلِمٍ وَاخْتِلَافُ الْأَصْنَافِ، وَيَشْمَلُ اخْتِلَافَهُمَا عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ عِلَّةُ الرِّبَا فِيهِمَا وَاحِدَةً أَوْ مُتَعَدِّدَةً وَقَدْ شُرِطَ فِي ذَلِكَ التَّقَابُضُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ: وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ وُجُوبَ التَّقَابُضِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ لِقَوْلِهِ "يَدًا بِيَدٍ" ا هـ وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمَكِيلَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ كَانَ غَرَضُهُ بِذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يُخَالِفُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فِي الْعِلَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَعِنْدَنَا الْمَطْعُومَاتُ وَعِنْدَهُمْ الْمَكِيلَاتُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي اسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الِاسْمِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَهُمَا جِنْسَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ فِيهِمَا التَّفَاضُلَ إذَا بَاعَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا بِمَا وَافَقَهُ فِي الِاسْمِ وَأَبَاحَ فِيهَا التَّفَاضُلَ إذَا بَاعَهُ بِمَا خَالَفَهُ فِي الِاسْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الِاسْمِ فَهُمَا جِنْسَانِ".
الشرح: لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ الرِّبَوِيِّ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ إذَا بِيعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ، فَإِنَّ كُلَّ رِبَوِيَّيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي أُمُورٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِي أُمُورٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الضَّابِطَ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَحَرَّرَهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ كَاللُّحُومِ وَالْأَلْبَانِ وَالْأَدِقَّةِ1 وَاعْتِرَاضَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ عَلَيْهَا سَتَنْكَشِفُ لَكَ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ فِي بَابِ جِمَاعِ تَفْرِيعِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مَا مُلَخَّصُهُ: إنَّكَ تَنْظُرُ إلَى الِاسْمِ الْأَعَمِّ الْجَامِعِ كَالنَّبَاتِ مَثَلًا ثُمَّ تَقْسِمُهُ إلَى الْحَبِّ، اسْمًا وَغَيْرُهُ بِمَعْنَى الِاسْمِ الَّذِي يُمَيِّزُهُ بِهِ عَمَّا يُشَارِكُهُ مِنْ الْحَبِّ وَالنَّبَاتِ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يَشْمَلُهُمَا أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَنْقَسِمُ ذَلِكَ إلَى تِبْرٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ يَنْقَسِمُ التِّبْرُ إلَى ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا، فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ أَخَصُّ الْأَسْمَاءِ الصَّادِقَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَنْقَسِمُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إلَى الصِّفَاتِ فَيُقَالُ: تَمْرٌ بَرْنِيُّ، وَتَمْرٌ مَعْقِلِيٌّ، وَذَهَبٌ مِصْرِيٌّ، وَذَهَبٌ مَغْرِبِيٌّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَخُصُّهُ، بَلْ إذَا أُرِيدَ مَعْرِفَتُهُ ذَكَرَ الِاسْمَ الْخَاصَّ وَهُوَ التَّمْرُ وَالذَّهَبُ. ثُمَّ قِيلَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالتَّمْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التِّبْرِ وَالْحَبِّ لَا يُذْكَرُ الِاسْمُ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا بَلْ اسْمُهُمَا بِخُصُوصِهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأدقة جمع قيق (ط).

 

ج / 10 ص -117-    قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: الْحِنْطَةُ جِنْسٌ، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ وَتَبَايَنَتْ فِي الْأَسْمَاءِ، كَمَا يَتَبَايَنُ الذَّهَبُ وَيَتَفَاضَلُ فِي الْأَسْمَاءِ قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِحِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ يُسَاوِي مُدُّهَا دِينَارًا بِحِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يُسَاوِي مُدُّهَا سُدُسَ دِينَارٍ، وَلَا حِنْطَةٍ حَدِيثَةٍ بِحِنْطَةٍ قَدِيمَةٍ، وَلَا حِنْطَةٍ بَيْضَاءَ صَافِيَةٍ بِحِنْطَةٍ سَوْدَاءَ قَبِيحَةٍ مَثَلًا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ قَالَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ: احْتِرَازٌ مِنْ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ كَالْفَاكِهَةِ فَإِنَّهُ اسْمٌ يَعُمُّ، وَكَذَلِكَ الثَّمَرُ، فَإِذَا قَالَ تَمْرٌ فَقَدْ خَصَّصَ.
قلت: فَلِمَ قَالَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ؟ وَالْأَسْمَاءُ تُوضَعُ وَلَا يُقَالُ تُخْلَقُ، قَالَ: فِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ الدَّقِيقِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ وَلَكِنَّ الِاسْمَ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ هُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ فَإِنَّ الدَّقِيقَ لَمْ يُخْلَقْ عَلَى هَيْئَتِهِ وَإِنَّمَا يُخْلَقُ حَبًّا ثُمَّ يُطْحَنُ فَيَصِيرُ دَقِيقًا انْتَهَى، وَكَذَلِكَ اللُّحُومُ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: قِيلَ وَلَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ هَذَا الْقَيْدِ كَمَا أَسْقَطَهُ فِي التَّتِمَّةِ، فَإِنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ فِيهَا لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ: دَقِيقُ بُرٍّ وَدُهْنُ سِمْسِمٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ.قلت: وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِنْسَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الِاسْمِ، وَلَمْ يَقُلْ الْخَاصَّ كَمَا قَالَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الِاسْمِ صَادِقٌ بِطَرِيقَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: بِالِاخْتِلَافِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعَامِّ كَمَا مَثَّلَ. والثاني: الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ الْعَامِّ أَيْضًا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ. وَإِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي التَّجَانُسِ فَالِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ الْعَامِّ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ مِنْ اسْمٍ عَامٍّ، لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ لِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ التَّفَاضُلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ التَّمْرِ بِالْبُرِّ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ وَهُوَ الْحَبُّ وَالتِّبْرُ، وَحَرَّمَ التَّفَاضُلَ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِمِثْلِهَا كَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الِاسْمِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ كَالْقَاسَانِيِّ وَالسَّابُورِيِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ حُرِّمَ التَّفَاضُلُ، وَحَيْثُ اخْتَلَفَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ جَازَ التَّفَاضُلُ وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُنَا هُنَا بِاتِّفَاقِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُصَنِّفُ. الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ، فَحَيْثُ اتَّفَقَ الِاسْمُ صَدَقَ أَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَصِنْفٌ وَاحِدٌ.
وَحَيْثُ اخْتَلَفَ يُقَالُ: جِنْسَانِ وَصِنْفَانِ، فَلِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي مُسْلِمٍ
"فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ" وَكَذَلِكَ اللَّوْنُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ "فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ" وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَلْوَانِ مِنْ التَّمْرِ أَوْ الْحِنْطَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَلْوَانَ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَامِلِ خَيْبَرَ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْجَمْعِ وَالْجَنِيبِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْأَلْوَانِ الْأَصْنَافُ، فَحِينَئِذٍ الْجِنْسُ وَالصِّنْفُ وَاللَّوْنُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ، هَاهُنَا مَا يَتَعَارَفُهُ الْأُصُولِيُّونَ، فَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ آخَرُ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: إنَّ قَوْلَنَا جِنْسٌ تَارَةً يَرْجِعُ إلَى اتِّفَاقٍ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي اشْتِرَاكِهَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْإِجْزَاءِ فِي الضَّحَايَا

 

ج / 10 ص -118-    وَالْهَدَايَا، وَإِنَّهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، ذَكَرَ فِي تَأْيِيدِ قَوْلِهِمْ فِي اللُّحُومِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُقْتَضَى هَذَا الضَّابِطِ أَنْ يَكُونَ الطَّلْعُ وَالرُّطَبُ وَالتَّمْرُ أَجْنَاسًا لِاخْتِلَافِهَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الطَّلْعِ بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ، وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ وَالْحِنْطَةُ مُخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ.
فَالْجَوَابُ: أَمَّا الطَّلْعُ فَإِنَّهُ اسْمٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ طَلْعُ النَّخْلَةِ كُلُّهُ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ إلَى حَالَةٍ تُسَمَّى بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا، فَهُوَ حِينَ كَانَ طَلْعًا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا بِلَا إشْكَالٍ لِلِاتِّفَاقِ فِي الِاسْمِ وَالْحَقِيقَةِ، فَحِينَ انْتَقَلَ شَيْءٌ مِنْ الطَّلْعِ إلَى حَالَةٍ يُسَمَّى فِيهَا تَمْرًا أَوْ رُطَبًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ جِنْسٌ غَيْرُ الطَّلْعِ لِأَنَّهُ هُوَ مَعَ تَبَدُّلِ صِفَتِهِ، وَحَصَلَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ تَبَعًا لِتِلْكَ الصِّفَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْجِنْسِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِالْيُبْسِ وَالرُّطُوبَةِ وَالتَّلَوُّنِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ حَقِيقَتِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ اخْتِصَاصُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ أَخَصَّ مِنْ الطَّلْعِ فِي جَعْلِهَا أَجْنَاسًا، لِأَنَّ الطَّلْعَ الَّذِي فَرَضْنَا الْكَلَامَ[فِيهِ]طَلْعُ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا تَبَدَّلَتْ حَالَاتُهُ، فَالطَّلْعُ اسْمٌ خَاصٌّ بِتِلْكَ الذَّاتِ وَلِأَفْرَادِهَا أَسْمَاءٌ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ. وَهَذَا أَوْلَى بِالِاتِّحَادِ مِنْ الْمَعْقِلِيِّ وَالْبَرْنِيِّ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ، وَاخْتِلَافُ النَّوْعِ أَشَدُّ مِنْ اخْتِلَافِ الْوَصْفِ، فَإِنَّ النَّوْعَيْنِ اخْتِلَافُهُمَا فِي النَّوْعِيَّةِ ثَابِتٌ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، بِخِلَافِ التَّمْرِ مَعَ الرُّطَبِ وَالطَّلْعِ وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ هُوَ الْحِنْطَةُ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ تَبَدَّلَتْ صِفَتُهُ. وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ إنَّمَا جُعِلَ مَنَاطَ اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الذَّوَاتِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ أَمَّا مَعَ اتِّحَادِهَا فَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِهِ التَّابِعِ لِلصِّفَاتِ، وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا أَنَّهُ مَعَ اخْتِلَافِهَا لَا أَثَرَ لِلِاتِّحَادِ الطَّارِئِ كَاللُّحْمَانِ وَالْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ وَالْخُلُولِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي السَّلَمِ، هَلْ اخْتِلَافُ النَّوْعِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِثْلُهُ، وَهَا هُنَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ النَّوْعِ لَيْسَ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ نَوْعٍ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَايَتَيْنِ؟
قلت: الْقَوْلُ فِي السَّلَمِ أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا تَبْرَأَ ذِمَّةٌ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا لَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ بِهِ. وَأَمَّا الرِّبَوِيَّاتُ فَالْمُعْتَبَرُ مُسَمَّى الْجِنْسِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّوْعَيْنِ، وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا فِي السَّلَمِ لَا يَأْخُذُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ عَنْ الْآخَرِ لَا نَجْعَلُهُمَا جِنْسَيْنِ، بَلْ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ نَمْنَعُ مِنْ الْأَخْذِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَنْوَاعُ التَّمْرِ كُلُّهَا كَالْمَعْقِلِيِّ وَالْبَرْنِيِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنْوَاعُ الْحِنْطَةِ كَالصَّعِيدِيِّ وَالْبُحَيْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنْوَاعُ الذَّهَبِ كَالْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَغَيْرِهِمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَأَنْوَاعُ الزَّبِيبِ كَالْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَسَائِرِ أَصْنَافِهِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ حَدِيثُ بِلَالٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ"

 

ج / 10 ص -119-    فَائِدَةٌ: الْبَرْنِيُّ ضَرْبٌ مِنْ التَّمْرِ أَصْفَرُ مُدَوَّرٌ عَنْ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ أَنَّهُ أَجْوَدُ التَّمْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي السَّلَمِ: إنَّ الْمَعْقِلِيَّ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُمْ فِي الْبَرْنِيِّ: إنَّهُ مُدَوَّرٌ أَصْفَرُ، كَذَلِكَ لَقَدْ رَأَيْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ تَدْوِيرٌ. وَالْمَعْقِلِيُّ بِالْعِرَاقِ مَنْسُوبٌ إلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ نَهْرُ مَعْقِلٍ بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ لَا يُسْتَكْمَلُ الْغَرَضُ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الضَّابِطِ وَتَحْرِيرِهِ إلَّا بِذِكْرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ فِي ذَلِكَ. فَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا الْأَصْلِ. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ" مَقْصُودُهُ بِالِاسْمِ الِاسْمُ الْخَاصُّ الَّذِي مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ. وَسَكَتَ عَنْ تَقْيِيدِهِ بِذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ.
وَلِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْمُ الْمَعْهُودُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَإِنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُورَدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ التَّمْرُ وَالرُّطَبُ فَإِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِاسْمِ وَلَا يَرِدُ التَّمْرُ، فَإِنَّ اسْمَ التَّمْرِ طَارِئٌ عَلَيْهِ بَعْدَ كَوْنِهِ رُطَبًا. وَكَذَلِكَ لَا يَرِدُ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ فَإِنَّهُمَا يُذْكَرَانِ صِفَةً لَا اسْمًا فَيُقَالُ شَاةٌ ضَانِيَةٌ وَشَاةٌ مَاعِزَةٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَا اُتُّخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ وَالْعَصِيرِ وَالدُّهْنِ تُعْتَبَرُ بِأُصُولِهَا فَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ أَجْنَاسًا فَهِيَ أَجْنَاسٌ وَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ جِنْسًا وَاحِدًا فَهِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ".
الشرح: لِمَا أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي الِاسْمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، احْتَاجَ أَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدِهِمَا: مَا يَكُونُ مُتَّحِدًا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا كَالدَّقِيقِ وَالدُّهْنِ والثاني: مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَاللُّحُومِ وَالْأَلْبَانِ، وَسَيَأْتِي.
أما الْقِسْمُ الْأَوَّلُ كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَخْبَازِ وَالْأَدْهَانِ وَالْعَصِيرِ وَالْخُلُولِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالْأَصْحَابُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأُصُولِهَا، فَإِنْ كَانَتْ، أُصُولُهَا أَجْنَاسًا فَهِيَ أَجْنَاسٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَاشْتِرَاكِهَا فِي اسْمٍ عَامٍّ وَهُوَ الدَّقِيقُ أَوْ الدُّهْنُ مَثَلًا، لَا يُوجِبُ اتِّحَادَهَا، كَمَا يَشْتَرِكُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ فِي الْحَبِّ، وَلَيْسَا مُتَّحِدَيْنِ فِي الْجِنْسِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ لِكُلٍّ مِنْ الْأَدِقَّةِ اسْمًا يَخُصُّهُ بَلْ اكْتَفَتْ فِيهِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمُتَمَيِّزِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاتِّحَادَ فِي الْجِنْسِ، وَكَوْنُهَا مُخْتَلِفَةَ الْحَقَائِقِ نَاشِئٌ مِنْ أَجْنَاسٍ تُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فَاعْتُبِرَتْ بِأُصُولِهَا كَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الْأَدْهَانِ وَقَالَ:
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَجْمَعُهَا اسْمُ الدُّهْنِ، قِيلَ: وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ الْحِنْطَةَ وَالْأَذِرَّةَ وَالْأُرْزَ اسْمُ الْحَبِّ، وَلَيْسَ لِلْأَدْهَانِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ إنَّمَا سُمِّيَتْ مَعَانٍ لِأَنَّهَا تُنْسَبُ إلَى مَا يَكُونُ يُشِيرُ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ إلَى مَا قُلْتُهُ وَمِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتَفَدْتُهُ، وَهُوَ أَسْهَلُ فِي التَّقْرِيرِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ اتِّفَاقًا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ، ثُمَّ يَدَّعِيَ اخْتِلَافَهُمَا لِاخْتِلَافِ أُصُولِهِمَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ، وَقَدْ وَضَعُوا لِبَعْضِ الْأَدْهَانِ اسْمًا بِخُصُوصِهِ، كَالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتِ فَصَارَ اخْتِلَافُهُمَا لِأَمْرَيْنِ اخْتِلَافِ اسْمِهِمَا الْخَاصِّ، وَاخْتِلَافِ أَصْلِهِمَا، وَبِهَذَا يَزُولُ اعْتِرَاضُ

 

ج / 10 ص -120-    مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ الِاسْمَ فَالْأَدِقَّةُ وَالْأَدْهَانُ وَاللُّحُومُ وَالْأَلْبَانُ كُلٌّ مِنْهَا مُتَّحِدَةُ الِاسْمِ، فَهَذِهِ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا وَسَنَذْكُرُ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ وَالْخُلُولِ خِلَافًا ضَعِيفًا، وَكَذَلِكَ فِي الْعَصِيرِ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْأَصْلُ الْمُمَهَّدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَعَلَى هَذَا دَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ جِنْسَانِ وَخُبْزُ الْحِنْطَةِ وَخُبْزُ الشَّعِيرِ جِنْسَانِ وَدُهْنُ الْجَوْزِ وَدُهْنُ اللَّوْزِ جِنْسَانِ".
الشرح: هَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ لَا خَفَاءَ فِيهِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَبِهِ جَزَمَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ مَسْأَلَتَيْ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَدِقَّةَ أَجْنَاسٌ، وَالْأَخْبَازُ أَجْنَاسٌ وَكَذَلِكَ ادَّعَى الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَدِقَّةِ، وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ فِي حَرْمَلَةَ - كَلَامًا يُؤَدِّي إلَى أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِي الْأَدِقَّةِ حِكَايَةُ قَوْلِ الْإِمَامِ فِي حَرْمَلَةَ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَلَامُ الْمَحَامِلِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُصَرَّحًا بِهِ، فَلَا يُجْزَمُ بِإِثْبَاتِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَتَأَمَّلَ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الرَّافِعِيَّ رحمه الله تعالى: نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ قَوْلًا وَكَيْفَمَا قُدِّرَ فَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ خِلَافُهُ فَعَلَى الْمَشْهُورِ فِي أَنَّهَا أَجْنَاسٌ فَيُبَاعُ دَقِيقُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رُطَبًا أَوْ يَابِسًا بِيَابِسٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ وُجُودُ التَّفَاضُلِ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ ثَبَتَ الْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي بَيْعِ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِهَا، وَخُبْزِهَا بِخُبْزِهَا، وَسَيَأْتِي حُكْمُهَا فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ: إنَّ الطَّرِيقَةَ الْجَازِمَةَ بِأَنَّ الْأَدِقَّةَ أَجْنَاسٌ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُرْضِيَةُ. وَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ غَرَضُ الَّذِي خَرَّجَهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي اللُّحْمَانِ إلَّا بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَدِقَّةِ فَنَقُولُ: الدَّقِيقُ عَيْنُ أَجْزَاءِ الْحَبِّ وَلَكِنَّهَا مَجْمُوعَةٌ فَتَفَرَّقَتْ، وَالدُّهْنُ الْمُعْتَصَرُ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ وَلَكِنَّهُ فِي ظَنِّ النَّاسِ كَالشَّيْءِ الْمُحَصَّلِ جَدِيدًا وَقَدْ تَجِدُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ، كَالْمُرَادِ بِهِ مَا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأما الْأَدْهَانُ فَالْقَوْلُ الْجَمَلِيُّ فِيهَا أَنَّهَا أَجْنَاسٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ مَعَ ذَلِكَ قَوْلًا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْعِرَاقِيُّونَ حَكَوْا ذَلِكَ عَنْ تَخْرِيجِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَزَيَّفُوهُوأما: الْقَوْلُ التَّفْصِيلِيُّ فَقَدْ قَسَّمَهَا الْأَصْحَابُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ دُهْنٌ يُعَدُّ لِلْأَكْلِ وَدُهْنٌ يُعَدُّ لِلدَّوَاءِ، وَدُهْنٌ يُعَدُّ لِلطِّيبِ، وَدُهْنٌ لَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ وَلَا لِلدَّوَاءِ وَلَا لِلطِّيبِ، فَالْأَوَّلُ الْمُعَدُّ لِلْأَكْلِ كَدُهْنِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْحُلْوِ وَالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَدُهْنِ الصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ وَالْخَرْدَلِ وَالْحَبَّةِ الْخَضْرَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا رِبَوِيَّةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ قَالَ: فِيهَا وَفِي الْخُلُولِ1 قَوْلَانِ كَمَا فِي اللُّحْمَانِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي تَعْلِيقِ الطَّبَرِيِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أنواع المخللات أو الطراشي.

 

ج / 10 ص -121-    عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَعْنِي الْأَدْهَانَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إلَى فَسَادِ هَذَا التَّخْرِيجِ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ فِي مَسْأَلَةِ اللُّحْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ جِنْسِهِ جَازَ بِشَرْطِ رِعَايَةِ الْحُلُولِ وَالتَّمَاثُلِ وَالتَّقَابُضِ لَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الشَّيْرَجَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي أَيْضًا فِي زَيْتِ الزَّيْتُونِ وَزَيْتِ الْفُجْلِ خِلَافٌ. وَمِمَّنْ أَثْبَتَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَجَانُسِ الْأَدْهَانِ الْمَحَامِلِيُّ فِي اللُّبَابِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الرَّوْنَقِ الْمَنْسُوبِ لِأَبِي حَامِدٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُقْصَدُ لِلدَّوَاءِ كَدُهْنِ الْخِرْوَعِ وَاللَّوْزِ وَالْمُرِّ وَنَوَى الْمِشْمِشِ وَنَوَى الْخَوْخِ، وَعَدَّ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْحَبَّةَ الْخَضْرَاءَ وَأَبُو الطَّيِّبِ الْخَرْدَلَ، فَهَذَا رِبَوِيٌّ كَالسَّقَمُونْيَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ، وَحُكْمُ هَذَا الضَّرْبِ فِي كَوْنِهِ أَجْنَاسًا حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْهُ بِجِنْسِهِ حَرُمَتْ الْمُفَاضَلَةُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ حَلَّتْ الْمُفَاضَلَةُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ، وَمُقْتَضَى مَا نَذْكُرُهُ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ جَرَيَانُ خِلَافٍ فِي هَذَا الضَّرْبِ فِي كَوْنِهِ رِبَوِيًّا وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله: نَصَّ صَرِيحًا فِي بَابِ مَا يَكُونُ رَطْبًا أَبَدًا قَالَ فِيهِ: وَدُهْنُ كُلِّ شَجَرٍ يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ بَعْدَ الَّذِي وَصَفْتُ وَاحِدٌ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ الْفَضْلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ مِنْهُ حَلَّ الْفَضْلُ يَدًا بِيَدٍ، وَلَمْ يَجُزْ نَسِيئَةً، وَلَا بَأْسَ بِدُهْنِ الْحَبِّ الْأَخْضَرِ بِدُهْنِ الشَّيْرَجِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةٌ، وَالْأَدْهَانُ الَّتِي تُشْرَبُ لِلدَّوَاءِ عِنْدِي فِي مَرْتَبَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ، دُهْنُ الْخِرْوَعِ وَدُهْنُ اللَّوْزِ وَالْمُرِّ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَدْهَانِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الطِّيبُ كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالنَّيْلُوفَرِ وَالْخَيْرِيِّ وَالزِّئْبَقِ، فَهَذَا كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ لِأَنَّ أَصْلَ الْجَمِيعِ السِّمْسِمُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ لَا رِبَا فِي هَذَا النَّوْعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْكُولٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله: الَّذِي شَرَحَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: أَوَّلَ الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَا ذَلِكَ هُنَا لِاسْتِيفَاءِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَرُدَّ هَذَا الْوَجْهُ بِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَإِنَّمَا لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ لِعِزَّتِهِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ حُكْمُ الرِّبَا كَالزَّعْفَرَانِ، هُوَ مَطْعُومٌ وَإِنْ كَانَ يُقْصَدُ لِلصَّبْغِ وَالطِّيبِ فَيُبَاعُ دُهْنُ الْوَرْدِ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ مُتَمَاثِلًا، وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْوَرْدِ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ أَصْنَافًا وَيُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
قَالَ الْأَصْحَابُ: وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ هَذِهِ الْأَدْهَانِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مَعَ الدُّهْنِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا الْوَرْدُ يُرْتَبُ بِهِ السِّمْسِمُ فَيُفْرَشُ السِّمْسِمُ وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى يَجِفَّ ثُمَّ يُطْرَحُ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا حَتَّى يَطِيبَ ثُمَّ يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الدُّهْنُ فَلَا يَكُونُ مَعَ الدُّهْنِ غَيْرُهُ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الدُّهْنَ مُسْتَخْرَجٌ أَوَّلًا ثُمَّ يُطْرَحُ أَوْرَاقُهَا فِيهِ حَتَّى يَطِيبَ أَوْ يُطْبَخَ مَعَ الْوَرْدِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَالرُّويَانِيُّ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: هَذَا يَظْهَرُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الدُّهْنَ مَوْزُونًا، أَمَّا مَنْ يَجْعَلُهُ مَكِيلًا فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ

 

ج / 10 ص -122-    الدُّهْنُ مِنْ الْأَوْرَاقِ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْمِكْيَالِ، وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ أَطْلَقَ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي تَمَاثُلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُتَنَاوَلُ أَدَمًا وَلَا دَوَاءً وَلَا هُوَ طِيبٌ، كَدُهْنِ بَذْرِ الْكَتَّانِ الْمَقْصُودِ لِلِاسْتِصْبَاحِ، وَدُهْنِ السَّمَكِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: فِي أَوَّلِ الْبَابِ فِيمَا شَرَحَهُ النَّوَوِيُّ رضي الله عنه وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: إنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ رِبَوِيٌّ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ طَرِيًّا، وَيُقْلَى بِهِ السَّمَكُ، وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه قَالَ فِي الْأُمِّ: إنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْهَانِ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُشْرَبُ بِحَالٍ أَبَدًا لِدَوَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الرِّبَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مِثَالًا فَبَقِيَ تَحْقِيقُ مَنَاطِ أَنَّ هَذَا هَلْ يُؤْكَلُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ؟ وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ اخْتِيَارَ الْقَاضِي الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ رِبَوِيٌّ وَعَلَّلَهُ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّ دُهْنَ السَّمَكِ1 يَأْكُلُهُ الْمَلَّاحُونَ، وَدُهْنُ بَذْرِ الْكَتَّانِ يُؤْكَلُ أَوَّلَ مَا يُسْتَخْرَجُ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ أَقْسَامُ الدُّهْنِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ رحمه الله: سَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ فَجَعَلَهَا أَرْبَعَةَ أَضْرُبٍ:
أحدها: مَأْكُولَةٌ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَفِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا وَأُصُولِهَا.
الثاني: مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَدُهْنِ الْمَحْلَبِ وَالْبَانِ وَالْكَافُورِ فَلَا رِبَا فِيهَا.
الثَّالِثُ: مَا هِيَ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عُرْفًا كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْخَيْرِيِّ وَالْيَاسَمِينِ لَكِنَّهَا مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ وَهُوَ السِّمْسِمُ، فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ. وَكَذَلِكَ دُهْنُ السِّمْسِمِ. وَأَمَّا دُهْنُ الْبَذْرِ وَالْقُرْطُمِ قَالَ: فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أُصُولِهَا، هَلْ هِيَ مَأْكُولَةٌ يَثْبُتُ الرِّبَا فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا فِيهَا الرِّبَا فَفِي أَدْهَانِهَا وَجْهَانِ لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ
الرَّابِعُ: مَا اُسْتُخْرِجَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ لَكِنَّهَا بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولًا كَدُهْنِ الْخِرْوَعِ وَالْقَرْعِ؛ فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ نَظَرًا إلَى أَنْفُسِهَا وَأُصُولِهَاقلت: قَوْلُهُ: فِي الْقَرْعِ سَبَقَهُ إلَيْهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَيَعْنِي بِهِ الْقَرْعَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله: دُهْنُ اللَّوْزِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْحُلْوَ فَيَكُونَانِ جَمِيعًا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ رِبَوِيٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مُطْلَقًا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُرُّ، وَقَدْ أَشْعَرَ كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا بِجَرَيَانِ خِلَافٍ فِيهِ، حَيْثُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي دُهْنِ الْخِرْوَعِ الْمَأْكُولِ لِلتَّدَاوِي الْمُتَّخَذِ مِنْ أَصْلٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ رِبَوِيًّا لَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فِي الْأَدْهَانِ. قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا نَحْكِيهِ عَنْهُ فِي زَيْتِ الْفُجْلِ وَزَيْتِ الزَّيْتُونِ وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْوَرْدِ وَالْحُبُوبِ كُلِّهَا: كُلُّ دُهْنٍ مِنْهُ مُخَالِفٌ دُهْنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يمكن أن يلحق دهن السمك بالأدهان الطبية كزيت الخروكع والسقمونيا ونوى الخوخ وهي من الربويات بلا خلالف. (المطيعي).

 

ج / 10 ص -123-    غَيْرِهِ، وَدُهْنُ الصَّنَوْبَرِ وَدُهْنُ الْحَبِّ الْأَخْضَرِ وَدُهْنُ الْخَرْدَلِ وَدُهْنُ السِّمْسِمِ وَدُهْنُ اللَّوْزِ وَدُهْنُ الْجَوْزِ، فَكُلُّ دُهْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْهَانِ خَرَجَ مِنْ حَبَّةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ فَاخْتَلَفَ مَا يَخْرُجُ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ أَوْ تِلْكَ الْحَبَّةِ أَوْ تِلْكَ الْعُجْمَةِ فَهُوَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَيَدًا بِيَدٍ، وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهُ خَرَجَ مِنْ حَبِّهِ أَوْ ثَمَرِهِ أَوْ عُجْمِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ صِنْفِهِ الْوَاحِدِ مِنْهُ بِالِاثْنَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ نَسِيئَةً، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَ مَا خَرَجَ مِنْهُ وَاحِدًا فَهُوَ صِنْفٌ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَصْلَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ فَهُمَا صِنْفَانِ يَفْتَرِقَانِ كَالْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ، فَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْأَدْهَانِ الْمَأْكُولَةِ وَالْمَشْرُوبَةِ لِلْغِذَاءِ وَالتَّلَذُّذِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهَا، كَهُوَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ سَوَاءٌ. هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بِحُرُوفِهِ
فرع: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّمْنِ بِالْوَدَكِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَكَذَلِكَ الشَّحْمُ غَيْرُ الْمُذَابِ بِالسَّمْنِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَكْلَهُ سَاعَتَئِذٍ فَيَجُوزُ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه يُجَوِّزُونَ بَيْعَ الدُّهْنِ الْمُطَيَّبِ مُتَفَاضِلًا وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ وَاحِدًا إذَا اخْتَلَفَ طِيبُهُ، وَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ مَكِيلِهِ مِنْ دُهْنِ الْوَرْدِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُهْنِ الْخَيْرِيِّ، لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِمَا مُخْتَلِفٌ فَصَارَا كَالْجِنْسَيْنِ. وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ الْمُطَيَّبُ بِغَيْرِ الْمُتَطَيِّبِ مُتَفَاضِلًا.
فَرْعٌ: ذُكِرَ فِي الرَّوْنَقِ الْمَنْسُوبِ لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: اخْتَلَفَ فِي الْحِيتَانِ وَالْأَجْبَانِ وَالْأَسْمَانِ وَالْأَدْهَانِ وَالْخُلُولِ، هَلْ هِيَ أَنْوَاعٌ أَوْ نَوْعٌ وَاحِدٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ وَالْخُلُولُ، وَحَصَلَتْ لِي رِيبَةٌ فِي نِسْبَةِ الرَّوْنَقِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِي الْخُلُولِ وَالْأَدْهَانِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ قَرِيبًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ لَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي التَّعْلِيقَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ السَّمْنَ مَعَ سَائِرِ الْأَدْهَانِ جِنْسَانِ لِأَنَّ اسْمَ الْأَدْهَانِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّمْنِ - يَعْنِي وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَدْهَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي زَيْتِ الزَّيْتُونِ وَزَيْتِ الْفُجْلِ فَقَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا اسْمُ الزَّيْتِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ فَكَانَا جِنْسَيْنِ كَالتَّمْرِ الْهِنْدِيِّ وَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَلِأَنَّهُمَا فَرْعَانِ لِجِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَانَا جِنْسَيْنِ كَدُهْنِ الْجَوْزِ وَدُهْنِ اللَّوْزِ".
الشرح: اخْتِلَافُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ مَا يَجْمَعُ التَّمْرَ وَمَا يُخَالِفُهُ، قَالَ: وَكُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ زَيْتِ الزَّيْتُونِ فَهُوَ صِنْفٌ وَاحِدٌ يَجُوزُ مِنْهُ مَا يَجُوزُ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَيُرَدُّ مَا يُرَدُّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ لَا يَخْتَلِفُ، وَقَدْ يُعْصَرُ مِنْ الْفُجْلِ دُهْنٌ يُسَمَّى زَيْتَ الْفُجْلِ، وَلَيْسَ مِمَّا يَكُونُ بِبِلَادِنَا يُعْرَفُ لَهُ اسْمٌ بِأُمِّهِ، وَلَسْتُ أَعْرِفُهُ يُسَمَّى زَيْتًا إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ دُهْنٌ لَا اسْمَ لَهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْضِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الزَّيْتُ، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلزَّيْتِ فِي طَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَشَجَرَتِهِ، وَهُوَ فَرْعٌ وَالزَّيْتُونُ أَصْلٌ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِهِ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَلَّا يُحْكَمَ بِأَنْ يَكُونَ زَيْتًا وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِأَنْ يَكُونَ دُهْنًا مِنْ الْأَدْهَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْوَاحِدُ مِنْهُ بِالِاثْنَيْنِ مِنْ زَيْتِ الزَّيْتُونِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ رَجُلٌ: أَكَلْتُ زَيْتًا أَوْ اشْتَرَيْتُ زَيْتًا أَعْرِفُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ زَيْتُ الزَّيْتُونِ، لِأَنَّ

 

ج / 10 ص -124-    الِاسْمَ لَهُ دُونَ زَيْتِ الْفُجْلِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ صِنْفٌ مِنْ الزَّيْتِ فَلَا يُبَاعُ بِالزَّيْتِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالسَّلِيطُ دُهْنُ الْجُلْجُلَانِ وَهُوَ صِنْفٌ غَيْرُ زَيْتِ الْفُجْلِ وَغَيْرُ زَيْتِ الزَّيْتُونِ، فَلَا بَأْسَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُ بِالِاثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَصْحَابُ عَادَتُهُمْ إذَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مِثْلَ هَذَا التَّرَدُّدِ يَجْعَلُونَهُ تَرَدُّدَ قَوْلٍ لَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي اللُّمَعِ: وَقَدْ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّرْفِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَعَلَّ نَصَّهُ هُنَاكَ أَصَرْحُ مِنْ هَذَا، وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ حِكَايَةَ الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا فِي بَابِ مَا يَكُونُ رَطْبًا أَبَدًا. وَقَالَ فِيهِ: فَزَيْتُ الزَّيْتُونِ صِنْفٌ وَزَيْتُ الْفُجْلِ صِنْفٌ غَيْرُهُ، جَزَمَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَكَذَلِكَ جَزَمَ فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ مِنْ الْأُمِّ فَقَالَ: وَلَا بَأْسَ بِزَيْتِ الزَّيْتُونِ بِزَيْتِ الْفُجْلِ. وَزَيْتِ الْفُجْلِ بِالسَّمْنِ مُتَفَاضِلًا. وَقَدْ اقْتَضَى كَلَامُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْجِيحَهُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَقَدْ اقْتَضَى كَلَامُ الرَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الزَّيْتُ الْمَعْرُوفُ مَعَ زَيْتِ الْفُجْلِ جِنْسَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ حُكْمُهُمَا حُكْمُ اللُّحْمَانِ: وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله. وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي تَرْجِيحِهِ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ إلَى مَنْعِ اتِّفَاقِهِمَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ. وَأَنَّ زَيْتَ الْفُجْلِ لَا يُسَمَّى زَيْتًا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ الْأَدْهَانِ الَّتِي لَمْ يُوضَعْ لَهَا اسْمٌ خَاصٌّ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي بَعْضِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الزَّيْتُ أَطْلَقَ اسْمَ زَيْتٍ أَيْ مَجَازًا.
هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ بَحْثِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الدَّقِيقِ وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا انْتَفَى وَضْعُ الْخَاصِّ لَهُمَا وَكَانَا مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَيْ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَالشَّجَرَةِ حَكَمْنَا بِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَقَاسَهُمَا الْمُصَنِّفُ عَلَى التَّمْرِ الْهِنْدِيِّ وَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ بِجَامِعٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ التَّمْرَ الْهِنْدِيَّ جِنْسٌ بِرَأْسِهِ جَزْمًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَعَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهٌ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّمْرِ، وَلَعَلَّ شُبْهَةَ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ يَظُنُّ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْخَاصِّ كَمَا قُلْنَا فِي الزَّيْتِ. وَجَوَابُهُ يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بِأَنَّ التَّمْرَ الْهِنْدِيِّ لَا يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ التَّمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مُقَيَّدًا: تَمْرٌ هِنْدِيٌّ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَبَادَرُ الدُّهْنُ إلَى التَّمْرِ الْمَعْرُوفِ لَا إلَى الْهِنْدِيِّ.
فَلَمْ يَكُنْ اسْمُ التَّمْرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَالْمُوجِبُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ الِاتِّفَاقُ فِي الِاسْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الزَّيْتِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إلَّا تَمْرٌ هِنْدِيٌّ مُقَيَّدًا بِخِلَافِ الزَّيْتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ مُجَرَّدًا فَلَا يَحْسُنُ إلْحَاقُهُ بِهِ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الصَّعْبِيِّ عَلَى الْمُهَذَّبِ أَنَّ التَّمْرَ الْهِنْدِيَّ لَمْ يَدْخُلْ الرِّبَا فِيهِ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَاللُّحُومِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْقَلَعِيُّ فِي احْتِرَازَاتِهِ: قَوْلُهُ فَرْعَانِ لِجِنْسَيْنِ احْتِرَازٌ مِنْ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ، وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ السَّمْرَاءِ، فَإِنَّهُمَا فَرْعَانِ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: مُخْتَلِفَيْنِ تَأْكِيدٌ لَا احْتِرَازَ فِيهِ، فَإِنَّ تَغَايُرَ الْجِنْسِيَّةِ وَتَعَدُّدَهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا ضَرُورَةً، وَقَدْ أَفَادَ ابْنُ الصَّعْبِيِّ أَنَّ فِي مُخْتَلِفَيْنِ فَائِدَةٌ وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ حَاصِلٌ قَبْلَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمِ الزَّيْتِ، أَيْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ هُوَ عِلَّةُ

 

ج / 10 ص -125-    التَّعَدُّدِ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا فِي الْأَصْلِ، فَيَصِيرُ فِي اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِعِلَّةِ التَّعَدُّدِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ إنْ فُقِدَ فِي الْفَرْعِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْلِ.
قَاعِدَةٌ: السَّلِيطُ الشَّيْرَجُ وَالْخُلْجَانُ السِّمْسِمُ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.
فرع: مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الْبِطِّيخِ الْمَعْرُوفِ مَعَ الْهِنْدِبَاءِ، وَالْقِثَّاءِ مَعَ الْخِيَارِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ. الْبُقُولُ كَالْهِنْدِبَاءِ وَالنَّعْنَاعِ وَغَيْرِهِمَا أَجْنَاسٌ إذَا قُلْنَا: بِجَرَيَانِ الرِّبَا فِيهَا، قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَدُهْنُ السِّمْسِمِ وَكُسْبُهُ جِنْسَانِ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ كَالْمَخِيضِ وَالسَّمْنِ وَفِي عَصِيرِ الْعِنَبِ مَعَ خَلِّهِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ لِإِفْرَاطِ التَّفَاوُتِ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ وَالْمَقْصُودِ وَفِي السُّكَّرِ وَالْفَانِيذِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ قَصَبِهِمَا، وَكَذَا السُّكَّرُ النَّبَاتُ والطَّبْرَزْدُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَفِي1 السُّكَّرِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ الْقَوَالِبُ وَهُوَ عَكَرُ الْأَبْيَضِ وَمِنْ قَصَبِهِ تَرَدُّدٌ لِلْأَئِمَّةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ قَالَ الْإِمَامُ: وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ السُّكَّرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: الذُّرَةُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَتْ الذُّرَةُ الْمَعْرُوفَةُ بَيْضَاءَ اللَّوْنِ كَثِيرَةَ الْحَبَّاتِ وَاَلَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّخَنِ صَغِيرَةُ الْحَبَّاتِ صَفْرَاءُ اللَّوْنِ إلَّا أَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْكُلَّ وَيَتَقَارَبَانِ فِي الطَّعْمِ وَالطَّبْعِ وَأَنْوَاعُ الْعِنَبِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، حَتَّى إنَّ الْمِشْمِشَ مَعَ سَائِرِ الْأَعْنَابِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنْوَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْكُمَّثْرَى وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلُ وَالتُّفَّاحُ وَالْمِشْمِشُ أَنْوَاعٌ كُلٌّ مِنْهَا جِنْسٌ، وَأَنْوَاعُ الْبِطِّيخِ جِنْسٌ وَاحِدٌ الْحُلْوُ وَغَيْرُ الْحُلْوِ، فَإِنَّ الْبِطِّيخَ الَّذِي فِيهِ الْحَبَّاتُ السُّودُ وَيُعْرَفُ فِي الْعِرَاقِ بِالرِّيفِيِّ وَالرُّومِيِّ، وَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِالْهِنْدِيِّ مَعَ الْبِطِّيخِ الْمَعْرُوفِ جِنْسٌ وَاحِدٌ أَوْ جِنْسَانِ، فِيهِ وَجْهَانِ.
فرع: الْجَوْزُ الْهِنْدِيُّ مَعَ الْجَوْزِ الْمَعْرُوفِ جِنْسَانِ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ خِلَافَ ابْنِ الْقَطَّانِ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: التَّمْرُ الْهِنْدِيُّ مَعَ التَّمْرِ الْمَعْرُوفِ جِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الْجَوْزُ الْمَعْرُوفُ مَعَ الْجَوْزِ الْهِنْدِيِّ، وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْكُلَّ وَكَلَامُهُ أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ نَاقِلَ الْوُجُوهِ لَا يُخَرِّجُ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي اللُّحْمَانِ فَقَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: هِيَ أَجْنَاسٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ فَكَانَتْ أَجْنَاسًا كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ والثاني: أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ فِي أَوَّلِ دُخُولِهَا فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، فَكَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا كَالتُّمُورِ، وَتُخَالِفُ الْأَدِقَّةَ وَالْأَدْهَانَ لِأَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، فَاعْتُبِرَ فُرُوعُهَا بِهَا، وَاللُّحْمَانُ لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي أُصُولِهَا فَاعْتُبِرَتْ بِنَفْسِهَا".
الشرح: الْقَوْلَانِ فِي اللَّحْمِ مَشْهُورَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْمُخْتَصَرِ: اللَّحْمُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَحْشِيُّهُ وَإِنْسِيُّهُ وَطَائِرُهُ، لَا يَحِلُّ فِيهِ الْبَيْعُ حَتَّى يَكُونَ يَابِسًا وَزْنًا بِوَزْنٍ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر قلت: والطبرزد هو السكر معرب وهو ما يسميه الناس سكر بلاط.

 

ج / 10 ص -126-    وَنَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا إلَى الْقَدِيمِ، وَقَدْ رَأَيْتُ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَلَكِنْ فِي آخِرِهِ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَتَوَهَّمْتُ أَنَّهُ غَلَطٌ مِنْ نَاسِخٍ، فَرَأَيْتُهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ نُسْخَةٍ، وَنَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ إلَى الْجَدِيدِ.
وَقَالَ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ: وَالْقَوْلُ فِي اللُّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أحدهما: أَنَّ لَحْمَ الْغَنَمِ صِنْفٌ، وَلَحْمَ الْإِبِلِ صِنْفٌ، وَلَحْمَ الْبَقَرِ صِنْفٌ، وَلَحْمَ الظِّبَاءِ وَلَحْمَ كُلِّ مَا تَفَرَّقَتْ بِهِ أَسْمَاءٌ دُونَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِعَةِ صِنْفٌ. فَيُقَالُ كُلُّهُ حَيَوَانٌ وَكُلُّهُ دَوَابُّ وَكُلُّهُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَهَذَا جِمَاعُ أَسْمَائِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ يُعْرَفُ أَسْمَاؤُهُ فَيُقَالُ: لَحْمُ غَنَمٍ وَلَحْمُ بَقَرٍ وَلَحْمُ إبِلٍ، وَيُقَالُ: لَحْمُ ظِبَاءٍ، وَلَحْمُ أَرَانِبَ، وَلَحْمُ يَرَابِيعَ، وَلَحْمُ ضِبَاعٍ، وَلَحْمُ ثَعَالِبَ ثُمَّ يُقَالُ فِي الطَّيْرِ هَكَذَا: لَحْمُ كَرَاكِي، وَلَحْمُ حُبَارَيَاتٍ، وَلَحْمُ حَجَلٍ، وَلَحْمٌ مُعَاقَبٌ، كَمَا يُقَالُ: طَعَامٌ. ثُمَّ يُقَالُ: حِنْطَةٌ وَذُرَةٌ وَشَعِيرٌ، وَهَذَا قَوْلٌ يَصِحُّ وَيَنْقَاسُ.
وَأَطَالَ الشَّافِعِيُّ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَحْوَ وَرَقَةٍ ثُمَّ قَالَ: الثَّانِي فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: اللَّحْمُ كُلُّهُ صِنْفٌ، كَالتَّمْرِ كُلِّهِ صِنْفٌ، وَمَنْ قَالَ هَذَا لَزِمَهُ عِنْدِي أَنْ يَقُولَهُ فِي الْحِيتَانِ لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ جَامِعٌ لِهَذَا الْقَوْلِ. وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ لَزِمَهُ إذَا أَخَذَهُ بِجَامِعِ اللَّحْمِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَامِعُ مَعَ التَّمْرِ يَجْعَلُ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الثِّمَارِ صِنْفًا. وَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدِي. فَاقْتَضَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه هَذَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِلْزَامَهُ بِأَنْ يَقُولَ: إنَّ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمٍ جَامِعٍ وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ اسْمٌ عَامٌّ لَا خَاصٌّ.
وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ خَاصٌّ. ثُمَّ يُقَرِّرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يَئُولُ إلَى بَحْثٍ لَفْظِيٍّ. فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْخَاصِّ مَا لَمْ يُوضَعْ لِمَا تَحْتَهُ مِنْ أَنْوَاعِهِ اسْمٌ بِخُصُوصِهَا، فَاسْمُ اللَّحْمِ عَلَى هَذَا خَاصٌّ وَمَا تَحْتَهُ مِنْ لَحْمِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ شَبِيهٌ بِالْمَعْقِلِيِّ وَالْبَرْنِيِّ إذْ لَيْسَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْمٌ يَخُصُّهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ أَسْمَاءٌ صَادِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ هُوَ أَخَصَّهَا كَالْحَبِّ وَالْحِنْطَةِ فَاسْمُ اللَّحْمِ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِخَاصٍّ وَأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ وَالْحَيَوَانِ وَالدَّوَابِّ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَا يَصْدُقُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى اللَّحْمِ حَالَةَ كَوْنِهِ لَحْمًا.
عَلَى أَنَّ تَقْسِيمَ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَدَّمَتْهُ آنِفًا يُشْعِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجْرِيَ كَلَامُهُ هُنَا وَفِي الْأَدْهَانِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْأَدْهَانَ مِمَّا لَا يُوضَعُ لَهَا اسْمٌ خَاصٌّ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا حَالَةَ كَوْنِهَا دُهْنًا اسْمُ مَا اُسْتُخْرِجَتْ مِنْهُ، بَلْ تُذْكَرُ مُضَافَةً إلَيْهِ كَمَا يُذْكَرُ اللَّحْمُ مُضَافًا إلَى الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ فَإِنْ جَعَلْنَا اسْمَ اللَّحْمِ لَيْسَ بِخَاصٍّ سَهُلَ النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِثْبَاتُ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ، وَإِنْ جَلَعْنَاهُ خَاصًّا فَقَدْ وَجَّهَ الْأَصْحَابُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي زَيْتِ الزَّيْتُونِ وَزَيْتِ الْفُجْلِ أَنَّهُمَا فَرْعَانِ لِجِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَقَوْلُهُ هُنَا: إنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ، فَلَمْ يَقُلْ: فُرُوعٌ لِأَجْنَاسٍ كَمَا قَالَ، وَلَا قَالَ:

 

ج / 10 ص -127-    مُخْتَلِفَةٌ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الزَّيْتُونِ وَالْفُجْلِ جِنْسَيْنِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا فِيهِمَا.
وَأَمَّا كَوْنُ الْحَيَوَانَاتِ أَجْنَاسًا فَتَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الرِّبَا، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهَا أَجْنَاسٌ؟ أَوْ جِنْسٌ وَاحِدٌ؟ فَلِذَلِكَ جَعَلَ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ أَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ. ثُمَّ قَالَ: هِيَ أَجْنَاسٌ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الدَّعْوَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، كَذَلِكَ اسْتَدَلَّ لَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَلَمَّا كَانَ زَيْتُ الزَّيْتُونِ وَزَيْتُ الْفُجْلِ يَشْتَرِكَانِ فِي اسْمِ الزَّيْتِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ الدُّهْنِ. وَذَلِكَ يُوهِمُ اتِّحَادَهُمَا احْتَاجَ أَنْ يُوَضِّحَ التَّبَايُنَ فِي أُصُولِهِمَا بِقَوْلِهِ: مُخْتَلِفَيْنِ. وَاللُّحْمَانُ كُلُّهَا إنَّمَا تَتَمَيَّزُ بِالْإِضَافَةِ كَبَقِيَّةِ الْأَدْهَانِ. مِمَّا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ يَخُصُّهُ اعْتَنَى بِإِثْبَاتِ أَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ. وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى زِيَادَةِ لَفْظِ الِاخْتِلَافِ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ وَهَذَا مِنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَطْعٌ بِأَنَّ اللُّحْمَانَ أَصْنَافٌ وَقَدْ قَطَعَ قَبْلَ هَذَا الْبَابِ بِأَنَّ أَلْبَانَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ. فَلُحُومُهَا الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْأَلْبَانِ بِالِاخْتِلَافِ أَوْلَى.
وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَمِنْ هُنَا نَسَبَ الْأَصْحَابُ إلَى الْمُزَنِيِّ اخْتِيَارَ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ وَأَنَّ كَلَامَ الْمُزَنِيِّ يَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْقَطْعِ بِهِ وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ لِأَجْلِ أَنَّ مَا تَمَسَّكَ بِهِ فِي مَأْخَذِهِ غَيْرُ خَالٍ عَنْ احْتِمَالٍ. فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي اسْمٍ خَاصٍّ كَالتَّمْرِ وَالْبُرِّ، وَاشْتِرَاكُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فِي اسْمٍ عَامٍّ وَهُوَ الثَّمَرَةُ، وَبِهِ يَنْقَطِعُ الْإِلْزَامُقلت: وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مَا يَقْتَضِي حِكَايَةَ طَرِيقَةٍ قَاطِعَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَوْلُهُ: فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ احْتِرَازٌ مِنْ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي اسْمِ عَامٍّ كَالْحَبِّ وَالثَّمَرَةِ وَقَوْلُهُ: فِي أَوَّلِ دُخُولِهَا فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا احْتِرَازٌ مِنْ الْأَدِقَّةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُنِعَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ وَهُوَ الدَّقِيقُ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ أَوَّلَ حَالِ الرِّبَا. لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي حَبَّاتِهَا وَلَا يَشْتَرِكُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ. وَقِيَاسُهُ عَلَى التُّمُورِ؛ قَالَ الْقَاضِي: إنَّ أَصْحَابَنَا يَقِيسُونَ عَلَى التَّمْرِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الرِّبَا يَسْبِقُ كَوْنَهُ رُطَبًا وَبُسْرًا وَتَمْرًا وَخَلًّا. وَلِأَنَّ الطَّلْعَ مَطْعُومٌ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا. وَهُوَ أَوَّلُ حَالَيْهِ فَوَجَبَ بِأَنْ يُقَاسَ عَلَى الطَّلْعِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ وَهُوَ الطَّلْعُ يَجْمَعُ الْجَمِيعَ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الشَّامِلِ.
وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الطَّلْعَ اسْمٌ لِطَلْعِ النَّخْلَةِ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ بَلَحًا أَوْ بُسْرًاوأما: إطْلَاقُهُ عَلَى الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ فَمِنْ بَابِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يُتَّجَهْ قَوْلُ الْقَاضِي أَنَّهُ اسْمٌ يَجْمَعُ الْجَمِيعَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَشْيَاءَ تَشْتَرِكُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِ الرِّبَا، فَلَا جَرَمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. لَمْ يَعْتَمِدْ الْمُصَنِّفُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ كَوْنِهِ شَيْخَهُ وَمُعْتَمَدَهُ وَاعْتَمَدَ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ.
وأما الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي فَجَوَابُهُ أَنَّ أَنْوَاعَ التَّمْرِ مُشْتَرِكَةٌ فِي اسْمٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ

 

ج / 10 ص -128-    أَحْوَالِهَا مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهَا فِي الرِّبَا، يَكُونُ كُلٌّ مِنْهَا طَلْعٌ ثُمَّ يَصِيرُ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا ثُمَّ يَصِيرُ تَمْرًا، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ الثَّلَاثِ يَصْدُقُ ذَلِكَ الِاسْمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمَعْقِلِيِّ وَالْبَرْنِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَذَلِكَ الِاسْمُ خَاصٌّ فَصَحَّ أَنَّ أَنْوَاعَ التُّمُورِ تَشْتَرِكُ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهَا فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا إلَى آخِرِهَا فِي اسْمٍ خَاصٍّ، هُوَ: إمَّا طَلْعٌ وَإِمَّا رُطَبٌ وَإِمَّا تَمْرٌ. فَإِنَّ ثَلَاثَتَهَا أَنْوَاعٌ لِلثَّمَرَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهَا فِي الرِّبَا تَشْتَرِكُ فِي اسْمِ التَّمْرِ فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِي وَهُوَ مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبِذَلِكَ يَحْسُنُ الِاحْتِرَازُ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ الْأَدْهَانِ وَالْأَدِقَّةِ فَإِنَّ دَقِيقَ الْقَمْحِ وَدَقِيقَ الشَّعِيرِ مَثَلًا إنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ حِينَ صَارَا دَقِيقًا وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا قَمْحًا وَهَذَا شَعِيرًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ فِي اسْمٍ خَاصٍّ لَا دَقِيقٍ وَلَا قَمْحٍ وَلَا شَعِيرٍ وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي اسْمِ الْحَبِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتُ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي بِعَيْنِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَلْبَانِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ. وَبَعْدَ أَنْ حَرَّرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْقِيَاسَ عَلَى الطَّلْعِ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ، أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الطَّلْعَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ اشْتِرَاكُهُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ، لِأَنَّ أُصُولَهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْأَصْنَافِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللُّحُومُ، فَإِنَّ أُصُولَهَا أَصْنَافٌ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِأُصُولِهَا، كَمَا نَقُولُ فِي الْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الْأَلْبَانِ أَنَّ فِي اللُّحْمَانِ طَرِيقَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُمَا. وَلَعَلَّ فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً قَاطِعَةً بِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ، وَأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّهَا كَاللُّحْمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَلْبَانُ أَجْنَاسٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَيُخَالِفُ الْأَدِقَّةَ وَالْأَدْهَانَ إلَخْ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللُّحْمَانِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَحْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ؟ فَإِنَّ الْفَرْقَ أَبْدَى مَعْنًى فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ مَفْقُودًا فِي الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَاهُ فِي الْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ كَوْنُ أُصُولِهَا أَجْنَاسًا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضِ مُتَفَاضِلًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ مَفْقُودًا فِي أُصُولِ اللُّحْمَانِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ تَحْرِيمُ النَّسَاءِ، فَلَيْسَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَهُمَا جَوَازُ التَّفَاضُلِ وَعَدَمُ حُرْمَةِ الرِّبَا تَضَادٌّ، فَكَانَتْ الْمُقَابَلَةُ الظَّاهِرَةُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ أُصُولَ الْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ رِبَوِيَّةٌ بِخِلَافِ أُصُولِ اللُّحْمَانِ. هَكَذَا صَنَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ.
قلت: لَمَّا كَانَ حُكْمُ الرِّبَا فِي الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ مَعْلُومًا سَكَتَ عَنْهُ، وَجَعَلَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَحِلِّ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الرِّبَا وَلِهَذَا صَرَّحَ بِجَوَازِ التَّفَاضُلِ، فَإِنَّهُ أَثَرُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُ الْجِنْس مُعْتَبَرًا فِيهَا اُعْتُبِرَ فِي فُرُوعِهَا بِخِلَافِ أُصُولِ اللُّحْمَانِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا إلَّا أَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِيهَا فِي الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا، فَنَبَّهَ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِي الْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِاخْتِلَافِ الْفُرُوعِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ فِي مَحِلٍّ رِبَوِيٍّ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي أُصُولِ اللُّحْمَانِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهَا، لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ تَكُنْ رِبَوِيَّةً لَا يَصِحُّ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الرِّبَا ضَرُورَةً، فَكَأَنَّهُ نَفَى الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بِدَلِيلِهِ؛ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللُّحْمَانَ لَا تُعْتَبَرُ فِي أُصُولِهَا فِي كَوْنِهَا أَجْنَاسًا بِخِلَافِ الْأَدِقَّةِ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ بِأُصُولِهَا فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ اعْتِبَارَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَصْلِهِ فِي كَوْنِهِ رِبَوِيًّا أَوْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ الْفَرْعَيْنِ رِبَوِيٌّ قَطْعًا، فَثُبُوتُ حُكْمِ الرِّبَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

 

ج / 10 ص -129-    وَالْفَرْقُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ أُصُولَ الْأَدِقَّةِ وَالْأَدْهَانِ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الرِّبَا، بِخِلَافِ أُصُولِ اللُّحْمَانِ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا، وَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ أُصُولَ اللُّحْمَانِ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالرِّبَا، فَإِنَّ حُكْمَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ وَالْأَصْنَافِ فِيهَا سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تُضَمُّ إلَى الشَّعِيرِ فِي الزَّكَاةِ؟ وَيَكُونَانِ صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الرِّبَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ تَبَيَّنَ إلْغَاءُ الْفَرْقِ
والجواب عَنْ الْقِيَاسِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ لِكَوْنِهَا جِنْسًا أَنَّ جَعْلَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ الطَّلْعُ فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ عَنْهُ، وَأَنَّ جَعْلَ الْقِيَاسِ عَلَى التُّمُورِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْقِلِيَّ وَالْبَرْنِيَّ أَصْلُ كُلٍّ مِنْهَا لَيْسَ جِنْسًا مُخَالِفًا لِأَصْلِ الْآخَرَ. لِأَنَّ أَصْلَهَا التَّمْرُ وَالرُّطَبُ وَالطَّلْعُ، وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ أُصُولٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ اللُّحْمَانِ، فَإِنَّ لَهَا أُصُولًا مُخْتَلِفَةً، كُلٌّ مِنْهَا صِنْفٌ مُسْتَقِلٌّ فَاعْتُبِرَ بِهِ، فَقَدْ تَحَرَّرَ الْمَذْهَبُ نَقْلًا وَدَلِيلًا أَنَّ اللُّحْمَانَ أَجْنَاسٌ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَالشَّاشِيُّ فِي الْحِلْيَةِ وَالرَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَلْبَانِ: إنَّهُ الْقِيَاسُ، وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إلَى الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ كُتُبِهِ، وَخَالَفَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الْمُزَنِيّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْهُ، وَقَدْ اعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا لِكَوْنِهَا أَجْنَاسًا فَقَالَ: لَا تَأْثِيرَ لِلْوَصْفِ، فَإِنَّ الثِّيَابَ الْهَرَوِيَّةَ وَالْمَرْوِيَّةَ عِنْدَهُمْ أَجْنَاسٌ، وَإِنْ كَانَتْ فُرُوعًا لِجِنْسٍ وَاحِدٍ هَذَا يُسَمَّى بِعَدَمِ التَّأَثُّرِ. وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يُعْدَمَ الْحُكْمُ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ تَتَعَجَّبُ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِكَوْنِهِ اسْتَدَلَّ لِلْقَوْلِ الثَّانِي، وَأَجَابَ عَنْ دَلِيلِهِ الْأَوَّلِ وَسَكَتَ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ كَوْنِهِ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَا عَجَبَ، وَالسَّبَبُ الدَّاعِي لِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ - وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْمَذْهَبِ - فَهُوَ مَقْصُورٌ فِي الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ كَالصَّحِيحِ عِنْدَنَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ مَعْنٍ صَاحِبُ التَّنْقِيبِ عَلَى الْمُهَذَّبِ فَقَالَ: قَوْلُهُ مُشْتَرِكٌ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ فِي أَوَّلِ دُخُولِهَا فِي الرِّبَا فِيهِ خَلَلٌ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْجِنْسِيَّةِ وَعَدَمَهَا لَا يُتَلَقَّى مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَإِنَّمَا تَحْرِيمُ الرِّبَا يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ الْجِنْسِيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَإِذَا كَانَتْ أُصُولُهَا أَجْنَاسًا فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا كَانَتْ أَجْنَاسًا إذَا دَخَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ يَظْهَرُ جَوَابُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَاللُّحْمَانُ - بِضَمِّ اللَّامِ - وَهَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ؟ كَلَامُ ابْنِ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ جَمْعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّحْمُ وَاللُّحْمُ لُغَتَانِ، وَالْجَمْعُ أَلْحُمٌ وَلُحُومٌ وَلِحَامٌ وَلُحْمَانٌ.
فَرْعٌ فِي ذِكْرِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَالصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنَقَلَ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَفَصَّلَتْ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لُحُومُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالْوَحْشِ صِنْفٌ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلِّهِ صِنْفٌ، وَلُحُومُ ذَوَاتِ الْمَاءِ كُلِّهَا صِنْفٌ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ تَقَارُبَ

 

ج / 10 ص -130-    الْمَنْفَعَةِ وَالرُّجُوعَ إلَى الْعَادَةِ، فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رحمه الله: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْوُحُوشُ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، لَا يَجُوزُ مِنْ لُحُومِهَا وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَالطَّيْرُ كُلُّهَا صِنْفٌ إنْسِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا، لَا يَصْلُحُ مِنْ لَحْمِهَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَالْحِيتَانُ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَا بَأْسَ بِلَحْمِ الْحِيتَانِ بِلَحْمِ الْبَقَرَةِ مُتَفَاضِلًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنَّهَا كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّحْمَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَحْمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ بِلَحْمِ غَيْرِهِ مُتَفَاضِلًا، وَهَلْ يَدْخُلُ لَحْمُ السَّمَكِ فِي ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ يَدْخُلُ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَحْمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَقَعُ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: من الآية14] وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ لَحْمُ السَّمَكِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ السَّمَكِ".
الشرح: إذَا قُلْنَا: إنَّ اللُّحْمَانَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالْوُحُوشِ كُلِّهَا وَالطُّيُورِ كُلِّهَا جَمِيعُ ذَلِكَ صِنْفٌ وَاحِدٌ، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ بِآخَرَ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَلَا يُبَاعُ لَحْمُ الْعُصْفُورِ بِلَحْمِ الْجَمَلِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَكَذَلِكَ بَقِيَّتُهَا. وَهَكَذَا تَحْرُمُ الْبَحْرِيَّاتُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْفُورَانِيُّ: بَلْ أَوْلَى، وَلَعَلَّ الْأَوْلَوِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأُصُولِهَا حُكْمُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، بِخِلَافِ لُحْمَانِ الْبَرِّ، فَإِنَّ أُصُولَهَا ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا السَّمَكُ مَعَ الْبَرِّيَّاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْعِرَاقِيُّونَ الْخُرَاسَانِيُّونَ أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ اللُّحُومِ، وَادَّعَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ الَّذِي حَكَيْتُهُ عَنْهُ قَرِيبًا - وَمَنْ قَالَ بِهَذَا لَزِمَهُ عِنْدِي أَنْ يَقُولَ فِي الْحِيتَانِ: إنَّ اسْمَ اللَّحْمِ جَامِعٌ -، وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} [فاطر: من الآية12] وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ، وَهِيَ أَنَصُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَ فِيهَا اللَّحْمَ عَلَيْهِ بِصَرَاحَةٍ.
وَأَمَّا  قَوْلُهُ:
{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً} [فاطر:12] فَأَطْلَقَ فِيهَا مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مَعًا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلتَّغْلِيبِ.
والثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَاخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْمُصَنَّفِ وَالْمَحَامِلِيِّ، وَقَالَ: إنَّ الْمَنْصُوصَ أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ اللُّحُومِ وَأَنَّهَا مَعَهَا جِنْسَانِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إنَّهُ الْأَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ، وَعَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَسُلَيْمٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ لِأَنَّ لَهَا اسْمًا أَخَصُّ مِنْ اللَّحْمِ وَهُوَ السَّمَكُ. وَحَمَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورَ عَلَى أَنَّهُ أَلْزَمَ مَنْ قَالَ: اللُّحْمَانُ صِنْفٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَلَمْ يَرْتَضِ أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا. وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - وَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ

 

ج / 10 ص -131-    يَقُولَهُ - عَلَى التَّمْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه ذَلِكَ. وَأَجَابَ أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ كَوْنِ السَّمَكِ أَخَصَّ بِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ جَامِعٌ بِدَلِيلِ الْآيَةِ، وَالرَّاجِحُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمُتَابِعُوهُ وَلَا دَلَالَةَ لِأَبِي الطَّيِّبِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلِمَا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ عَنْ اسْمِ اللَّحْمِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَامِعًا لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ مِنْهُ إلَى مَا سِوَى لَحْمِ السَّمَكِ، وَالْآيَةُ فِيهَا قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ إرَادَتَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ} [النحل: من الآية14] أَيْ مِنْ الْبَحْرِ، فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقًا، وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى السَّمَكِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ لَحْمِ السَّمَكِ. كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَفِيهِ وَجْهٌ عَنْ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَلَوْ كَانَ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِهِ لَحَنِثَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: إنَّ صِدْقَ اللَّحْمِ عَلَى لَحْمِ السَّمَكِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ إنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَقَيَّدُ بِمَا عَدَا السَّمَكَ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ حَقِيقَتِهِ، كَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَا يُسَمَّى مَاءً. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ أَيْضًا بِأَنَّ السَّمَكَ لَا يُضَافُ لَحْمُهُ إلَيْهِ فَلَا يُقَالُ لَحْمُ سَمَكٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ سَمَكٌ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ اللُّحْمَانِ لَصَحَّ أَنْ يُضَافَ بِاسْمِ اللَّحْمِ إلَى جِنْسِهِ، فَيُقَالُ لَحْمُ السَّمَكِ كَمَا يُقَالُ لَحْمُ الْغَنَمِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللُّحْمَانِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ اللُّحْمَانُ كُلُّهَا صِنْفَيْنِ، فَلُحُومُ حَيَوَانِ الْبَرِّ عَلَى اخْتِلَافِهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ حِيتَانِ الْبَحْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَكْثَرِينَ إنَّمَا فَرَضُوهُ فِي السَّمَكِ مَعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، وَفِي الْبَحْرِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَهَلْ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ جَارٍ فِي جَمِيعِهَا؟ أَمْ كَيْفَ الْحَالُ فِيهَا؟ أَمَّا الْفُورَانِيُّ فَكَلَامُهُ يَقْتَضِي تَعْمِيمَ ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَأَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي لُحْمَانِ الْبَرِّ مَعَ لُحْمَانِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ، وَأَمَّا الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَتَوَقَّفَ فَقَالَ فِي السَّمَكِ مَعَ اللَّحْمِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا إذَا قُلْنَا بِأَنَّ اللُّحُومَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ أَجْنَاسٌ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ مُخَالِفَةٌ لِحَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، وَأَمَّا حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ فَفِيهَا خِلَافٌ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ كَمَا قَالَهُ الْفُورَانِيُّ وَأَفْهَمَهُ كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْإِمَامِ، عَلَى أَنَّ اسْمَ السَّمَكِ وَالْحُوتِ هَلْ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ حَتَّى يَحِلَّ أَكْلُ خِنْزِيرِ الْمَاءِ وَكَلْبِهِ أَوْ لَا؟
فَإِنْ قُلْنَا إنَّ اسْمَ السَّمَكِ وَالْحُوتِ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ كَانَتْ كُلُّهَا جِنْسًا وَاحِدًا ذَا أَنْوَاعٍ وإن قلنا: إنَّ اسْمَ السَّمَكِ وَالْحُوتِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ فَالْحُوتُ مَعَ مَا لَا يُسَمَّى حُوتًا جِنْسَانِ، وَمَا عَدَا الْحُوتِ أَجْنَاسٌ أَيْضًا، فَغَنَمُ الْمَاءِ وَبَقَرُهُ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ جِنْسَانِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ اسْمُ السَّمَكِ، فَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ مِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ أَطْلَقَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ وَهُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ اسْمَ السَّمَكِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَحَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَفَصَّلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ فِي السَّمَكِ مَعَ اللَّحْمِ وَجْهَانِ، فَأَمَّا سَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ - إنْ قُلْنَا إنَّ السَّمَكَ مَعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ

 

ج / 10 ص -132-    جِنْسَانِ - فَسَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ مَعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ أَيْضًا جِنْسَانِ، بَلْ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ السَّمَكَ مَعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَهَلْ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْكُلَّ هَلْ يُسَمَّى سَمَكًا أَمْ لَا؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ:إنْ قُلْنَا: الْكُلُّ يُسَمَّى سَمَكًا فَحُكْمُ الْكُلِّ حُكْمُ السَّمَكِ وَإِلَّا فَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ قلت: وَالْأَصَحُّ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ أَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى سَمَكًا فَلِذَلِكَ أَتَى الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ السَّمَكِ لِشُمُولِهِ لِلْجَمِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ فِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مُنَاقَشَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُدْرَكَ فِي اسْتِثْنَاءِ السَّمَكِ، أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي بَقِيَّةِ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، فَيَنْبَغِي، أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا السَّمَكُ مِنْ جِنْسِ لُحُومِ الْبَرِّ فَبَقِيَّةُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ أَوْلَى وإن قلنا: السَّمَكُ جِنْسٌ آخَرُ فَفِي بَقِيَّةِ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى سَمَكًا أَوْ لَا؟ إنْ قُلْنَا: يُسَمَّى سَمَكًا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ اللُّحُومِ فَيَكُونُ جِنْسًا آخَرَ وإن قلنا: لَا يُسَمَّى سَمَكًا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ اللُّحُومِ لِعَدَمِ الِاسْمِ الْخَاصِّ، أَعْنِي أَنَّ لَحْمَهَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ بِخُصُوصِهِ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّرْتِيبُ فَيَجِيءُ فِي حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ مُطْلَقًا والثاني: جِنْسٌ آخَرُ مُطْلَقًا والثالث: أَنَّ غَيْرَ السَّمَكِ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ، وَالسَّمَكُ جِنْسٌ آخَرُ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَوْجُهٍ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَحُكْمُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ.
فرع: عَنْ التَّتِمَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ: الْجَرَادُ هَلْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: نَعَمْ كَالسَّمَكِ والثاني: لَا، لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْجَرَادِ، وَصُورَتُهُ لَيْسَتْ صُورَةَ اللَّحْمِ، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ فِي أَنَّ السَّمَكَ لَا يَدْخُلُ فِي اللَّحْمِ فَالْجَرَادُ هَلْ يَلْحَقُ بِحَيَوَانِ الْبَحْرِ لِحِلِّ مَيْتَتِهِمَا؟ وَلِأَنَّهُ نُقِلَ فِي الْآثَارِ أَنَّ أَصْلَهُ سَمَكٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَخَّصَ الرَّافِعِيُّ ذَلِكَ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ جَازَ بَيْعُ لَحْمِ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ بِلَحْمِ جِنْسٍ آخَرَ مُتَفَاضِلًا فَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْبَقَرِ بِلَحْمِ الْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا وَلَحْمِ بَقَرِ الْوَحْشِ بِلَحْمِ بَقَرِ الْأَهْلِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الضَّأْنِ بِلَحْمِ الْمَعْزِ وَلَا لَحْمِ الْبَقَرِ بِلَحْمِ الْجَوَامِيسِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ
الشرح: إذَا قُلْنَا بِأَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَحْرِيَّ مَعَ الْبَرِّيِّ جِنْسَانِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ، وَأَمَّا الْبَرِّيُّ مَعَ الْبَرِّيِّ، وَالْبَحْرِيُّ مَعَ الْبَحْرِيِّ، فَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه إنَّ لَحْمَ الْغَنَمِ صِنْفٌ وَلَحْمَ الْإِبِلِ صِنْفٌ إلَخْ. وَبَسَطَ الْأَصْحَابُ ذَلِكَ فَقَالُوا: الْأَهْلِيَّاتُ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ مَعَ الْوَحْشِيَّاتِ جِنْسَانِ لِكُلٍّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَجْنَاسٌ فَلُحُومُ الْإِبِلِ بِأَنْوَاعِهَا جِنْسٌ، بَخَاتِيُّهَا وَعِرَابُهَا وَأَرْحَبِيُّهَا وَنَجْدِيُّهَا وَمَهْرِيُّهَا، وَسَائِرُ أَنْوَاعِهَا جِنْسٌ، عِرَابُهَا وَجَوَامِيسُهَا وَدَرَنَانِيُّهَا هَكَذَا رَأَيْتهَا مَضْبُوطَةً بِخَطِّ سُلَيْمٍ - بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ - وَالْغَنَمُ الْأَهْلِيَّةُ ضَأْنُهَا وَمَاعِزُهَا جِنْسٌ، وَالْوُحُوشُ أَجْنَاسٌ، فَالظِّبَاءُ جِنْسٌ، مَا تَأَنَّسَ مِنْهَا وَمَا تَوَحَّشَ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَبَقَرُ الْوَحْشِ صِنْفٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمُصَنِّفُ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا وَلَا يُضَمُّ إلَيْهَا فِي الزَّكَاةِ، وَسَيَأْتِي فِيهِ وَجْهٌ أَنَّهَا جِنْسَانِ.

 

ج / 10 ص -133-    وَالضِّبَاعُ جِنْسٌ، وَالْأَرَانِبُ جِنْسٌ، وَالثَّعَالِبُ جِنْسٌ، وَالْيَرَابِيعُ جِنْسٌ، وَالْوَحْشِيُّ مِنْ الْغَنَمِ جِنْسٌ غَيْرُ الْغَنَمِ الْإِنْسِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَقَالُوا: إنَّ الْوَحْشِيَّ مِنْ الْغَنَمِ هُوَ الظِّبَاءُ، وَالْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ صِنْفٌ، قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ.
قَالَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ فِي الْإِبِلِ وَحْشِيٌّ، وَفِي الظِّبَاءِ مَعَ الْأُيَّلِ - بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِ - تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَيَسْتَقِرُّ جَوَابُهُ عَلَى أَنَّهُمَا كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَفِي التَّتِمَّةِ أَيْضًا حِكَايَةُ وَجْهٍ أَنَّ الظِّبَاءَ وَالْأُيَّلَ تَلْحَقُ بِالْغَنَمِ، لِأَنَّهَا تَقْرُبُ مِنْهُ، وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الظِّبَاءِ وَالْمَعْزِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَطَرَدَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ مَعَ الْإِنْسِيِّ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْمَذْكُورِ فِي الْأَيْمَانِ عَنْ صَاحِبِ التَّهْذِيبِ أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى لَحْمِ الْبَقَرِ لَا يَحْنَثُ بِالْوَحْشِيِّ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُجْعَلُ جِنْسًا فِي الرِّبَا؟ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي وَعَدْتُ بِذِكْرِهِ قَرِيبًا.
وَالطُّيُورُ أَصْنَافٌ: الْكَرَاكِيُّ صِنْفٌ، وَالْإِوَزُّ صِنْفٌ، وَالْعَصَافِيرُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَأَمَّا لَحْمُ اللبح1 فَجِنْسٌ وَاحِدٌ غَيْرُ لَحْمِ الْعُصْفُورِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى عُصْفُورًا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْبَطُّوطُ صِنْفٌ، وَالْفَوَاخِتُ صِنْفٌ، وَالدَّجَاجُ صِنْفٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَالَ الرَّبِيعُ: وَالْحَمَامُ صِنْفٌ، وَالْحَمَامُ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَاَلَّذِي عِنْدِي الْقَوْلُ بِأَنَّ الْفَوَاخِتَ جِنْسٌ، وَالْقَمَارِيَّ جِنْسٌ، وَالدَّبَّاسِيُّ جِنْسٌ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ قَالَ: وَعَنْ الرَّبِيعِ أَنَّ الْحَمَامَ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فِي الْحَجِّ وَهُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ جِنْسٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقُمْرِيُّ وَالدُّبْسِيُّ وَالْفَاخِتُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاسْتَبْعَدَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسًا بِرَأْسِهِ.
قلت: وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ قَالَ الرَّبِيعُ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْيَمَامَ مِنْ الْحَمَامِ فَلَا يَجُوزُ لَحْمُ الْيَمَامِ بِلَحْمِ الْحَمَامِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا انْتَهَى تَبَيُّنُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحَمَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مُتَفَاضِلًا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ جَزْمٌ مِنْ الرَّبِيعِ بِأَنَّ الْيَمَامَ مِنْ جِنْسِ الْحَمَامِ، لَكِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ فِي الْحَجِّ أَنَّ الْيَمَامَ وَالْقُمْرِيَّ وَالْفَاخِتَ وَالدُّبْسِيَّ وَالْقَطَا كُلَّهَا دَاخِلَةٌ فِي اسْمِ الْحَمَامِ، وَقَدْ قَالَ الرَّبِيعُ هُنَا: إنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْيَمَامَ مِنْ الْحَمَامِ فَلَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا اقْتَضَى مَجْمُوعُ هَذَيْنِ أَنَّ الْيَمَامَ بِالْحَمَامِ لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، فَيَكُونُ كَذَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّبِيعُ مُوَافِقًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَجِّ حَتَّى يُنْسَبَ إلَيْهِ، وَالْأَصْحَابُ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عَنْ الرَّبِيعِ فِيهِ شَيْئًا مُوَافَقَةً وَلَا مُخَالَفَةً. وَكَلَامُ الرَّبِيعِ الْآنَ فِيمَا يَحْضُرُنِي هُنَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ خِلَافٍ فِي دُخُولِ الْيَمَامِ تَحْتَ اسْمِ الْحَمَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ نَفْسِهِ اخْتِيَارًا فِي ذَلِكَ. وَاسْتِبْعَادُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ ذَلِكَ فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ دُخُولُهَا فِي اسْمِ الْحَمَامِ فِي الْحَجِّ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهَا لَهَا اسْمٌ خَاصٌّ كَالْجَوَامِيسِ مَعَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر قلت: واللبح صوابه البلح بضم الباء وفتح اللام قال ابن سيده: إنه طائر أغبر اللون أعظم من النسر محترق الريش لاتقع ريشه منه وسط ريش طائر آخر إلا أحرقته.

 

ج / 10 ص -134-    الْبَقَرِ، فَلَا جَرَمَ ذَهَبَ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوِيُّ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَكَذَا كُلُّ جِنْسٍ مِنْ الطُّيُورِ لُحُومُ جِنْسِهَا صِنْفٌ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ الرَّبِيعِ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَبَّ وَهَدَرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الصَّبَّاغِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ وَصِفَةٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِنْفًا وَفِي الْأُمِّ قَالَ الرَّبِيعُ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْيَمَامَ مِنْ الْحَمَامِ فَلَا يُجَوِّزُ لَحْمَ الْيَمَامِ بِلَحْمِ الْحَمَامِ مُتَفَاضِلًا وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ حَمَامٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ مُتَفَاضِلًا. وَفِي الْمُجَرَّدِ حِكَايَةُ الْوَجْهَيْنِ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ وَأَنَّ الشَّيْخَ يَعْنِي أَبَا حَامِدٍ قَالَ: هِيَ أَصْنَافٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَهَكَذَا السُّمُوكُ أَجْنَاسٌ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي غَنَمِ الْمَاءِ وَبَقَرِهِ: وَكَذَا بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَحَيَوَانَاتِ الْبَرِّقلت: وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ: وَلَا بَأْسَ بِلَحْمِ ظَبْيٍ بِلَحْمِ أَرْنَبٍ رَطْبًا بِرَطْبٍ وَيَابِسًا بِيَابِسٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِأَكْثَرَ وَزْنًا بِجُزَافٍ، وَجُزَافًا بِجُزَافٍ لِاخْتِلَافِ الصِّنْفَيْنِ، وَهَكَذَا الْحِيتَانُ كُلُّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ هُوَ صِنْفٌ لِأَنَّهُ سَاكِنُ الْمَاءِ، وَلَوْ زَعَمْته زَعَمْت أَنَّ سَاكِنَ الْأَرْضِ كُلَّهُ صِنْفٌ: وَحْشِيُّهُ وَإِنْسِيُّهُ، وَكَانَ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ فِي وَحْشِيِّهِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْمُ الصَّيْدِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُوتَانِ فَكُلُّ مَا تَمَلَّكْته وَيَصِيرُ لَكَ فَلَا بَأْسَ بِرَطْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَرْطَالٍ مِنْ آخَرَ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَجُزَافًا بِجُزَافٍ وَجُزَافًا بِوَزْنٍ، هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ بِلَفْظِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْحِيتَانِ: كُلُّ مَا اخْتَصَّ بِاسْمٍ وَصِفَةٍ فَهُوَ صِنْفٌ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِي غَنَمِ الْمَاءِ وَبَقَرِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السُّمُوكِ وَكَذَا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قَوْلَانِ "أَصَحُّهُمَا" أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَحَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ حَكَى فِي لُحُومِ الْحِيتَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَنَّ جَمِيعَهَا صِنْفٌ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إلَّا حِيتَانُهُ.
والثاني: أَنَّهَا أَصْنَافٌ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حَيَوَانَ الْبَحْرِ كُلَّهُ مَأْكُولٌ حِيتَانُهُ وَدَوَابُّهُ وَمَا فِيهِ مِنْ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ السَّمَكُ كُلُّهُ صِنْفًا وَاحِدًا وَالنِّتَاجُ صِنْفًا، وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِاسْمٍ يُخَالِفُ غَيْرَهُ صِنْفًاقلت: وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُوتَيْنِ قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَيَكُونَانِ جِنْسَيْنِ فَهُوَ يَرُدُّ مَا قَالَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ مِنْ الْأُمِّ "إذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُ الْحِيتَانِ فَلَا بَأْسَ بِبَعْضِهَا مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ لَحْمُ الطَّيْرِ إذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا " هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ بِحُرُوفِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلٍ، بَلْ أَطْلَقَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَالْأَصْحَابُ: إذَا قُلْنَا اللُّحُومُ أَجْنَاسٌ فَبَاعَ جِنْسًا بِجِنْسٍ آخَرَ فَجَازَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كَانَا رَطْبَيْنِ أَمْ يَابِسَيْنِ، أَمْ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَزْنًا وَجُزَافًا، مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا، إذَا كَانَ نَقْدًا، يَدًا بِيَدٍ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْبَقَرَ الْوَحْشِيَّ جِنْسًا مُخَالِفًا لِلْبَقَرِ، لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ

 

ج / 10 ص -135-    لَفْظِ الْبَقَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكَانَ كَالتَّمْرِ الْهِنْدِيِّ مَعَ التَّمْرِ وَزَيْتِ الْفُجْلِ مَعَ الزَّيْتِ، وَكَذَلِكَ غَنَمُ الْوَحْشِ مَعَ غَنَمِ الْأَهْلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الظِّبَاءُ جِنْسًا وَحْشِيًّا وَمَا تَأَنَّسَ مِنْهَا لِأَنَّ الِاسْمَ الصَّادِقَ عَلَيْهِمَا وَاحِدٌ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى بَقَرِ الْوَحْشِ وَبَقَرِ الْأَهْلِ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى أَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ نُفَرِّعُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ نَوْعَانِ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: إنَّ ذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ الْعِرَابُ وَالْجَوَامِيسُ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَوَامِيسَ اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا فَكَانَتْ كَالسَّمَكِ مَعَ اللَّحْمِ.
وَأَمَّا الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا صِنْفَانِ لِنَوْعَيْ الْغَنَمِ لَا اسْمًا فَأَشْبَهَا الْمَعْقِلِيَّ وَالْبَرْنِيَّ، وَفِي النَّفِيسِ مِنْ الْجَوَامِيسِ - وَإِنْ سَلَّمْنَا صِدْقَ الْبَقَرِ عَلَيْهَا - فَذَلِكَ كَصِدْقِ الدُّهْنِ عَلَى الزَّيْتِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْلُوفِ وَالرَّاعِي، وَلَا بَيْنَ الْمَهْزُولِ وَالسَّمِينِ.
تَنْبِيهٌ: إطْلَاقُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ عَلَى عِبَارَتِهِمْ أَنَّ السَّمَكَ مَعَ اللَّحْمِ إذَا قُلْنَا بِأَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ جِنْسَانِ، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ لُحُومُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، وَبَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَرْقٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي لَحْمَيْهِمَا، أَمَّا السَّمَكَةُ الْكَامِلَةُ فَفِي بَيْعِهَا بِاللَّحْمِ حَيَّةً وَمَيِّتَةً كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَرْعُ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ جِنْسٌ وَاحِدٌ هَلْ الْجَرَادُ مِنْ جِنْسِ اللُّحُومِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ إنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهُوَ مِنْ الْبَرِّيَّات أَوْ الْبَحْرِيَّات فِيهِ وَجْهَانِ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فَاجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ َصَحُّهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللُّحُومِ وَاسْتَدَلَّ الرُّويَانِيُّ بِكَوْنِهِ مِنْ الْبَحْرِيَّاتِ لِكَوْنِهِ نَقَلَ فِي الْآثَارِ أَنَّ أَصْلَهُ سَمَكٌ، وَلِهَذَا حَلَّتْ مَيْتَتُهُ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَصْلٌ وَاللَّحْمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَحْمٌ، وَاللَّحْمُ وَالشَّحْمُ جِنْسَانِ وَاللَّحْمُ وَالْأَلْيَةُ جِنْسَانِ وَالشَّحْمُ وَالْأَلْيَةُ جِنْسَانِ وَاللَّحْمُ وَالْكَبِدُ جِنْسَانِ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ جِنْسَانِ، وَاللَّحْمُ وَالْكُلْيَةُ جِنْسَانِ، لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الِاسْمِ وَالْخِلْقَةِ"
الشرح: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي اللَّحْمِ الَّذِي تَخْتَلِفُ صِفَتُهُ، وَفِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ فَأَمَّا اللَّحْمُ الْمُخْتَلِفُ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ فِيهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا خِلَافَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَنَّ اللَّحْمَ الْأَبْيَضَ السَّمِينَ وَاللَّحْمَ الْأَحْمَرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ. يَعْنِي إنْ قُلْنَا إنَّ اللَّحْمَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَذَلِكَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ وَاحِدٍ أَمْ مِنْ حَيَوَانَيْنِ.
وإن قلنا: إنَّهُمَا جِنْسَانِ، فَإِذَا انْقَسَمَ لَحْمُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إلَى أَبْيَضَ وَأَحْمَرَ كَانَ جِنْسًا، وَلَا أَثَرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الْوَصْفِ، أَمَّا إذَا كَانَ الْأَبْيَضُ مِنْ جِنْسٍ وَالْأَحْمَرُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ، لِاخْتِلَافِ أَصْلَيْهِمَا وَصِفَتَيْهِمَا، وَقَدْ أَطْبَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ اللَّحْمَ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ جِنْسٌ. وَسَنَذْكُرُ خِلَافًا عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ فِي أَنَّ مَا حَمَلَهُ الظَّهْرُ مِنْ جِنْسِ الشَّحْمِ

 

ج / 10 ص -136-    أَوَّلًا وَمُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ جِنْسَ الشَّحْمِ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلَّحْمِ، وَذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي حَقِيقَتِهِ هَلْ هُوَ لَحْمٌ أَبْيَضُ أَوْ شَحْمٌ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمِ التَّسْمِيَةِ؟ وَأَمَّا أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ كَالْكَرِشِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالْقَلْبِ وَالرِّئَةِ فَفِيهَا طَرِيقَانِ أَشْهُرُهُمَا أَنَّا إذَا قُلْنَا اللُّحُومُ أَجْنَاسٌ فَهَذِهِ أَوْلَى لِاخْتِلَافِ أَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا. وإن قلنا: إنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَوَجْهَانِ، لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ اللَّحْمَ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَهَذَا كَالْخِلَافِ فِي أَنَّ لَحْمَ السَّمَكِ أَجْنَاسٌ أَوْ هُوَ جِنْسٌ كَسَائِرِ اللَّحْمِ. هَكَذَا عَبَّرَ الرَّافِعِيُّ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَعَبَّرَ الْإِمَامُ عَنْهَا بِأَنَّا إنْ قُلْنَا: اللُّحُومُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكُلُّ مَا حَنِثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ اللُّحْمَانِ وَفِيمَا لَا حِنْثَ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي اللَّحْمِ الَّذِي مَعَ لُحُومِ الْحِيتَانِ، وَالْكَلَامَانِ رَاجِعَانِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَالرَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى اللَّحْمِ لَا يَحْنَثُ بِهَذِهِ. وَحَكَى الْخِلَافَ مَعَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى مَا قَالَهُ.
وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْخِلَافَ مُرَتَّبًا فَنَقُولُ إنْ قُلْنَا: إنَّهَا جِنْسٌ فَإِنْ قُلْنَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى اللَّحْمِ بِهَا فَهِيَ جِنْسٌ وإن قلنا: لَا يَحْنَثُ فَفِي الْمُجَانَسَةِ وَجْهَانِ كَالسَّمَكِ مَعَ اللَّحْمِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَقْرَبُ إلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى مَعَ عَدَمِ حِكَايَةِ الْخِلَافِ، فَكَأَنَّهُ جَزَمَ بِالِاخْتِلَافِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، أَوْ رَجَّحَ الْقَوْلَ بِالِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللُّحُومَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَلَوْ تَحَقَّقَ مِنْ الْمُصَنِّفِ الْجَزْمُ بِذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ طَرِيقَةً ثَالِثَةً فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْقَفَّالِ. قَالَ الْإِمَامُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ رَدِيئَةٌ لَمْ أَرَهَا إلَّا لِشَيْخِنَا حَكَاهَا عَنْ الْقَفَّالِ. قَالَ: فَلَا أَعُدُّهَا مِنْ الْمَذْهَبِ فَإِنَّا إنْ جَعَلْنَا اللُّحُومَ جِنْسًا وَاحِدًا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُجَانِسَةٌ لَهَا، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا أَجْنَاسًا فَوَجْهَانِ لِاتِّحَادِ الْحَيَوَانِ وَصَارَ كَلَحْمِ الظَّهْرِ مَعَ شَحْمِهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَكَيْفَمَا قَرَّرَ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، فَتُذْكَرُ الْأَعْضَاءُ كَمَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ مُفَصَّلَةً، وَمَا ذَكَرَهُ مَعَهَا مِمَّا يُشْبِهُ الْأَعْضَاءَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسَمَّى عُضْوًا وَنَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ عَلَى تَرْتِيبِهِ.
أَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ فَجِنْسَانِ، سَوَاءٌ كَانَا مِنْ حَيَوَانٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ حَيَوَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ. وَإِنْ قُلْنَا: اللُّحُومُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ اسْمَيْهِمَا فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْمًا يَخُصُّهُ، وَمَعَ اخْتِلَافِ الِاسْمِ الْخَاصِّ لَا أَثَرَ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَوْ اخْتِلَافِهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةِ، قَالَ هُوَ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: وَأَرَادَ بِهِ الشَّحْمَ الَّذِي فِي الْجَوْفِ فَأَمَّا الَّذِي عَلَى جَنْبِ الْبَهِيمَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَحْمٌ أَبْيَضُ وَلَيْسَ بِشَحْمٍ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَيْضًا الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي شَحْمِ الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ لِاحْتِكَارِهَا عِنْدَ الْهُزَالِ. وَقِيلَ مِنْ جِنْسِ الشَّحْمِ لقوله تعالى:
{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ

 

ج / 10 ص -137-    ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: من الآية146]وَأَمَّا شَحْمُ الْبَطْنِ فَمُغَايِرٌ لِلَّحْمِ بِلَا خِلَافٍ وَشَحْمُ الْعَيْنِ جَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فِي الْأَيْمَانِ بِأَنَّهُ كَشَحْمِ الْبَطْنِ. ثُمَّ حَكَى فِيهِ وَجْهَيْنِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ. قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: وَيَجُوزُ بَيْعُ شَحْمِ الْبَطْنِ بِشَحْمِ الظَّهْرِ وَلَحْمِهِ مُتَفَاضِلًا وَجُزَافًا وَرَطْبًا وَيَابِسًا لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَتَابَعَهُ الرَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَجَزَمَ فِي الرِّبَا بِكَوْنِهِمَا جِنْسَيْنِ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: يَتَعَيَّنُ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ. وَذَكَرُوا وَجْهًا فِي الْأَيْمَانِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ الْحَالِفَ إنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَشَحْمُ الظَّهْرِ شَحْمٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهُ شَحْمًا، وَإِنْ كَانَ عَجَمِيًّا فَهُوَ لَحْمٌ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَظْهَرُ جَرَيَانُهُ فِي الرِّبَا، لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ فِي الرِّبَا لَيْسَتْ رَاجِعَةٌ إلَى فَهْمِ الْمُتَعَاقِدِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ اللَّحْمُ وَالْأَلْيَةُ جِنْسَانِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ. وَعَلَّلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْوَجْهَ الْآخَرَ بِأَنَّ الْأَلْيَةَ لَحْمٌ إلَّا أَنَّهُ سَمِينٌ، فَأَشْبَهَ لَحْمَ الظَّهْرِ وَلَحْمَ الْجَنْبِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالشَّحْمُ وَالْأَلْيَةُ جِنْسَانِ جَزَمَ بِهِ فِي التَّهْذِيبِ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي: إنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إنَّ الْخِلَافَ فِيهَا كَاللَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ بَعْدَمَا حَكَى قَوْلَ الْأَصْحَابِ فِي الْأَلْيَةِ مَعَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ احْتِمَالَ الْإِمَامِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ أَنَّهُ حَكَى طَرِيقَيْنِ فِي الْأَلْيَةِ مَعَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ أحدهما: أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ والثاني: أَنَّهَا مِنْ اللَّحْمِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْأَصَحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْأَلْيَةَ لَيْسَتْ بِلَحْمٍ وَلَا شَحْمٍ. وَقِيلَ لَحْمٌ، وَقِيلَ شَحْمٌ.أما الشُّحُومُ وَحْدَهَا هَلْ هِيَ أَجْنَاسٌ أَوْ جِنْسٌ وَاحِدٌ؟ فِيهَا قَوْلَانِ كَاللُّحُومِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
قَالَ: وَلَكِنْ هَلْ تَكُونُ الْأَلْيَةُ وَمَا حَمَلَهُ الظَّهْرُ صِنْفًا مِنْ الشَّحْمِ أَمْ لَا؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الشَّحْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والثاني: أَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - وَلِتَوْجِيهِ ذَلِكَ مَوْضِعٌ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَاللَّحْمُ وَالْكَبِدُ جِنْسَانِ عَلَى مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَيْمَانِ، قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْجِنْسِ الْآخَرِ مُتَفَاضِلًا.
فرع: وَهُوَ أَصْلٌ: قَالَ الْإِمَامُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: الْقَوْلُ فِي هَذَا يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ أَمْرٍ إلَى أَصْلٍ فِي الْأَيْمَانِ، إذَا قَالَ الرَّجُلُ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ اللَّحْمَ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْكَبِدِ وَالْكَرِشِ وَالطِّحَالِ وَالْمِعَاءِ وَالرِّئَةِ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمَّى لَحْمًا.
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَوْلَيْنِ أحدهما: هَذَا والثاني: يَحْنَثُ فَإِنَّهَا فِي مَعْنَى اللَّحْمِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْأَصْحَابُ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهَا، وَلَسْتُ أَعْنِي سَمِينَ اللَّحْمِ، فَإِنَّهُ مَعْدُودٌ مِنْ اللَّحْمِ، اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ نَقَلُوهُ.
وأما الْقَلْبُ، فَقَدْ قَطَعَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَرَاوِزَةِ بِأَنَّهُ لَحْمٌ، وَذَكَرَ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ كَالْكَبِدِ وَاَلَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ وَالْكَلِمَةُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْقَلْبِ وَالْأَلْيَةِ لَمْ يَعُدَّهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ اللَّحْمِ وَلَا مِنْ

 

ج / 10 ص -138-    الشَّحْمِ، وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ عِنْدِي، فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَاللَّحْمِ السَّمِينِ يُجْمَعُ لِلصَّائِرِ عَلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْأَيْمَانِ، وَاسْتِقْصَاؤُهُ يُحَالُ عَلَى مَوْضِعِهِ، عُدْنَا إلَى غَرَضِنَا
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْبَيْضُ فَنَوْعَانِ بَيْضُ طَيْرٍ وَبَيْضُ سَمَكٍ فَبَيْضُ الطَّيْرِ لَا يَكُونُ صِنْفًا مِنْ لَحْمِ الطَّيْرِ، لِأَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صِنْفًا مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ لِلْحَيَوَانِ، فَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ اللُّحْمَانُ أَصْنَافٌ فَالْبَيْضُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَصْنَافًا، وَإِذَا قِيلَ: هَذَا صِنْفٌ وَاحِدٌ فَفِي الْبَيْضِ وَجْهَانِوأما: بَيْضُ السَّمَكِ فَهَلْ يَكُونُ نَوْعًا مِنْ لَحْمِ السَّمَكِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ صِنْفٌ غَيْرُهُ كَمَا أَنَّ بَيْضَ الطَّيْرِ صِنْفٌ غَيْرُ لَحْمِهِ والثاني: أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ لَحْمِ السَّمَكِ، يُؤْكَلُ مَعَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْبَيْضِ فِي آخِرِ الْبَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ لَهُ، وَالْأَصَحُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي بَيْضِ الطُّيُورِ أَنَّهُ أَجْنَاسٌ.
فرع: صُفْرَةُ الْبَيْضِ وَبَيَاضُهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ هَكَذَا قَالَ الرُّويَانِيُّ.
فَرْعٌ: بَيْعُ الْبَيْضِ الْمَقْلِيِّ بِالْمَقْلِيِّ أَوْ الْمَقْلِيِّ بِغَيْرِ الْمَقْلِيِّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ لِتَغَيُّرِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، وَلِدُخُولِهِ النَّارَ والثاني: يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِالْمَقْلِيِّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَالِ الْإِدْخَارِ وَالنَّارُ لَا تَنْقُصُ، مِنْهُ شَيْئًاقلت: إنْ كَانَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَنْزُوعِ الْقِشْرِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ بِقِشْرِهِ فَلَا يُسَمَّى مَقْلِيًّا. فَلْيُنْظَرْ ا هـ.
وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ جِنْسَانِ، قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ، وَالْفُؤَادُ صِنْفٌ آخَرُ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَكَذَلِكَ الْمُخُّ وَالدِّمَاغُ وَالْكَرِشُ وَالْمُصْرَانُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ أَيْضًا، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إنَّ الْكَرِشَ وَالْمُصْرَانَ كَاللَّحْمِ مَعَ الشَّحْمِ، يَعْنِي فَيَكُونَانِ جِنْسَيْنِ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ صِنْفٌ آخَرُ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، وَالْقَلْبُ وَالْأَلْيَةُ، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنُ: قَدْ قِيلَ: فِيهِمَا وَجْهَانِ، لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ لَحْمًا، وَجَزَمَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ أَنَّ الْقَلْبَ وَالرِّئَةَ وَاللَّحْمَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي الرَّافِعِيِّ فِي الْأَيْمَانِ، وَالْمُخُّ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جِنْسٌ آخَرُ، قَالَ الْإِمَامُ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَكَذَا الْجِلْدُ جِنْسٌ آخَرُ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْجِلْدَ لَيْسَ رِبَوِيًّا، فَيَجُوزُ بَيْعُ جِلْدٍ بِجُلُودٍ وَبِغَيْرِهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ: إنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ.
قلت: وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ عَلَى الْجِلْدِ الَّذِي يُؤْكَلُ كَجِلْدِ السَّمِيطِ فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ رِبَوِيًّا؟ وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ بِجَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ الْمَسْمُوطِ فِي جِلْدِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّهُ إذَا بَاعَ اللَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِ جِلْدٌ يُؤْكَلُ كَجِلْدِ الْحِدَأِ وَالدَّجَاجِ بِمِثْلِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ كَالْعَظْمِ، وَقَالَ فِي الرَّوْنَقِ الْمَنْسُوبِ لِأَبِي حَامِدٍ الْجُلُودُ مِمَّا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ هَلْ نَوْعٌ أَوْ أَنْوَاعٌ فَيَصِحُّ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَيَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ اللَّحْمَ مَعَ جِلْدِهِ الْمَأْكُولِ بِلَحْمٍ كَانَ مِنْ قَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَصُورَةِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ اللَّحْمُ يَابِسًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَأَيْتُ فِي الْبَحْرِ لِلرُّويَانِيِّ مَا هُوَ أَغْرُبُ مِنْ هَذَا، قَالَ إذَا بَاعَ جِلْدَ الْغَنَمِ بِجِلْدِ الْبَقَرِ مُتَفَاضِلًا

 

ج / 10 ص -139-    هَلْ يَصِحُّ؟ يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي اللُّحْمَانِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الرَّافِعِيِّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجِلْدَ رِبَوِيٌّ، وَأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِجِلْدٍ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَجُزْ التَّفَاضُلُ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجِيبٌ، وَاَلَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ هُوَ الْأَقْرَبُ، وَفِي شَحْمِ الظَّهْرِ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ وَجْهَانِ، قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَسَنَامُ الْبَعِيرِ مَعَ شَحْمِ ظَهْرِهِ وَشَحْمِ بَطْنِهِ جِنْسَانِ قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَالرَّافِعِيُّ، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَلَامُ التَّهْذِيبِ صَرِيحٌ، وَلَحْمُ الرَّأْسِ وَالْأَكَارِعِ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ.
وَفِي الْأَكَارِعِ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْإِمَامِ، قَالَ: إنَّ الْأَئِمَّةَ قَطَعُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا اعْتِرَاضَ فِي الِاتِّفَاقِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ أَكْلُ اللَّحْمِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْقَصَبَةَ الْمُفْرَدَةَ لَيْسَتْ لَحْمًا، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيّ أَنَّ فِي لَحْمِ الرَّأْسِ وَالْخَدِّ وَاللِّسَانِ وَالْأَذْرُعِ طَرِيقَيْنِ أَصَحُّهُمَا: يَحْنَثُ بِأَكْلِهِمَا إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ اللَّحْمَ، وَالثَّانِيَةُ: عَلَى وَجْهَيْنِ فَيَكُونُ مَا قَالَهُ فِي الرِّبَا جَرْيًا عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالْعَظْمُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ، الصُّلْبُ مِنْهُ وَالْمُشَاشِيُّ وَالْغُضْرُوفِيُّ، وَقَدْ عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الِاسْمِ وَالْخِلْقَةِ، وَهِيَ عِلَّةٌ شَامِلَةٌ، غَيْرُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي ضَابِطِهِ إلَّا اخْتِلَافُ الِاسْمِ وأما اخْتِلَافُ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
فرع: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّحُومَ جِنْسٌ غَيْرُ اللَّحْمِ، وَفِي الشُّحُومِ نَفْسِهَا قَوْلًا كَاللَّحْمِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: وَهَلْ الْأَلْيَةُ وَمَا حَمَلَهُ الظَّهْرُ صِنْفَانِ مِنْ الشَّحْمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والثاني: أَنَّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ الشَّحْمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَأَمَّا الْأَلْبَانُ فَفِيهَا طَرِيقَانِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هِيَ كَاللُّحْمَانِ؛ وَفِيهَا قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَلْبَانُ أَجْنَاسٌ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْحَيَوَانُ أَجْنَاسٌ فَكَذَلِكَ الْأَلْبَانُ، وَاللُّحْمَانِ لَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا كَاللُّحْمَانِ".
الشرح: نَصُّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ جَازِمٌ بِأَنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ قَالَ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ مَا يَكُونُ رَطْبًا أَبَدًا: وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ لَبَنُ الْغَنَمِ مَاعِزُهُ وَضَانِيهِ وَالصِّنْفُ الَّذِي يُخَالِفُهُ الْبَقَرُ دَرْنَانِيَّةٌ وَعِرَابِيَّةٌ وَجَوَامِيسُهُ، وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ الَّذِي يُخَالِفهُمَا مَعًا لَبَنُ الْإِبِلِ: أَوَارِكِهَا وَعَوَادِيهَا وَمُهْرَيْهَا وَنَجِيبِهَا وَعِرَابِهَا. قَالَ فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ: وَالْأَلْبَانُ مُخْتَلِفَةٌ وَذَكَرَ أَصْنَافَهَا وَصَرَّحَ بِبَيْعِهَا مُتَفَاضِلًا، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: إنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّهُ نَصَّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَمَا اقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَنَصَّ فِي الْأُمِّ فِي اللُّحْمَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَلْبَانُ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللُّحْمَانِ. وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ اللُّحْمَانِ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ كَمَا فِي اللُّحْمَانِ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ

 

ج / 10 ص -140-    وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَتَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْ اللُّحْمَانِ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ. وَرَجَّحَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمُصَنِّفُ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهَا الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللُّحْمَانِ بِفَرْقَيْنِ أحدهما: مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ لَبُونٍ بِشَاةٍ لَبُونٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِالشَّاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا لَبَنٌ وَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهَا مِنْ اللَّحْمِ مِنْ بَيْعِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى تَوَلَّدَ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا. ثُمَّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْأَقْوَى تَخْرِيجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ والثاني: أَنَّ الْأُصُولَ الَّتِي حَصَلَ اللَّبَنُ مِنْهَا بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ فَيُدَامُ حُكْمُهَا عَلَى الْفُرُوعِ بِخِلَافِ أُصُولِ اللَّحْمِ، قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَفِي كُلٍّ مِنْ الْفَرْقَيْنِ نَظَرٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي فِي الْكِتَابِ فَلِأَنَّ لَقَائِلٍ أَنْ يُغَلِّبَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَلْبَانَ تَتَوَلَّدُ مِنْ الْحَيَوَانِ بِانْتِقَالِهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ حِينَ كَانَتْ جُزْءَ حَيَوَانٍ دَمًا إلَى أُخْرَى. فَنَاسَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ بِنَفْسِهَا، وَاللُّحْمَانِ لَا تَتَوَلَّدُ، بَلْ هِيَ عَيْنُ جُزْءِ الْحَيَوَانِ فَارَقَتْهُ الرُّوحُ، فَكَانَ إجْرَاءُ حُكْمِهَا عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْفَرْقُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مَفْقُودٌ فِي الْأَدِقَّةِ وَهِيَ أَجْنَاسٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَرْقًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ اللَّبَنَ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْحَيَوَانِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الْفَرْقُ رَدِيءٌ فَإِنَّ الْأَلْبَانَ فِي الضُّرُوعِ، وَقَدْ اشْتَرَكَتْ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَوَّلِ حُصُولِهَا، وَهَذَا مُعْتَمَدُ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِي إجْرَاءِ الرِّبَا فِيهَا فِي الضُّرُوعِ بَعْدَ الْقَطْعِ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ فِي اللُّحْمَانِ أَيْضًا طَرِيقَةً قَاطِعَةً فَعَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْأَلْبَانُ أَوْلَى، وَعَلَى طَرِيقَةِ إجْرَاءِ الْقَوْلَيْنِ يَأْتِي الطَّرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ هُنَا.
التَّفْرِيعُ: إنْ قُلْنَا: إنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنٍ بِلَبَنٍ إلَّا مُتَمَاثِلًا، وَلَهُ أَحْكَامٌ تُذْكَرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشْرَ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا يُسَمَّى لَبَنًا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُلْنَا: أَصْنَافٌ فَلَبَنُ الْبَقَرِ الْأَهْلِيَّةِ جِنْسٌ، وَلَبَنُ الْبَقَرِ الْوَحْشِيَّةِ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا جِنْسٌ، وَلَبَنُ الْغَنَمِ الْأَهْلِيَّةِ جِنْسٌ وَلَبَنُ الْغَنَمِ الْوَحْشِيَّةِ وَهِيَ الظِّبَاءُ وَأَنْوَاعُهَا جِنْسٌ، وَلَبَنُ الْإِبِلِ بِأَنْوَاعِهَا جِنْسٌ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِبِلِ وَحْشٌ، فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَبَيْعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ مِنْ الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي اللُّحُومِ وَلَكِنِّي أَقْصِدُ زِيَادَةَ الْبَيَانِ، وَتَأَسَّيْت أَيْضًا بِالْأَصْحَابِ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوهُ كَذَلِكَ، وَلَبَنُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَبَنُ الْوَعْلِ مَعَ الْمَعْزِ الْأَهْلِيِّ جِنْسَانِ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ، قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ، وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ جِنْسٌ، قَالَهُ ابْنُ سُرَاقَةَ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ إذَا قُلْنَا إنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ، أَمَّا إذَا قُلْنَا الْأَلْبَانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا صِنْفٌ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهَا أَصْنَافٌ.
فَائِدَةٌ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ الْأُمَوِيُّ فِي نَوَادِرِهِ: وَلَا أَقُولُ صِنْفًا إنَّمَا هُوَ صَنْفٌ -

 

ج / 10 ص -141-    بِالْفَتْحِ - وَصُنُوفٌ وَأَنْشَدَ:

إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ1                                                                           

الْبَيْتُ.
فرع: إنْ قُلْنَا الْأَلْبَانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَبَنُ الْآدَمِيِّ مَعَ غَيْرِهِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكُلَّ جِنْسٌ وَاحِدٌ والثاني: لَا، لِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيِّ جِنْسٌ وَسَائِرُ الْأَلْبَانِ جِنْسٌ آخَرُ، لِأَنَّ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ هَذَا اللَّبَنُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَيُخَالِفُ سَائِرَ الْأَلْبَانِ فِي الْحُكْمِ، فَكَانَ جِنْسًا آخَرَ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَصْلٌ: وَمَا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ حَتَّى يَتَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ فِيمَا يُكَالُ، وَالْوَزْنُ فِيمَا يُوزَنُ، لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ، وَزْنًا بِوَزْنٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ، وَزْنًا بِوَزْنٍ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى".
الشرح: حَدِيثُ عُبَادَةَ هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَلَمْ يَخْرُجْهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ النَّسَائِيّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُجْتَبَى بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا إلَّا قَوْلَهُ فِي آخِرِهِ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَإِنَّ مَوْضِعَهَا عِنْدَهُ "سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ " وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عُبَادَةَ رضي الله عنه فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى منها: حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ رحمه الله، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الصَّاعِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ بِقَرِيبٍ مِمَّا فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَزْنِ لَكِنْ قَالَ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ: مُدْيٌ بِمُدْيٍ2 قَالَ الْقَلَعِيُّ: وَالْمُدْيُ مِكْيَالٌ لِأَهْلِ الشَّامِ مَعْرُوفٌ يَسَعُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ رِطْلًا، وَالتِّبْرُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: التِّبْرُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا كَانَ غَيْرَ مَصُوغٍ وَلَا مَضْرُوبٍ وَكَذَلِكَ مِنْ النُّحَاسِ، وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ مَا كَانَ كِسَارًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ آنِيَةً وَلَا مَضْرُوبٍ فُلُوسًا، وَأَصْلُ التِّبْرِ مِنْ قَوْلِكَ: تَبَرْت الشَّيْءَ أَيْ كَسَرْتُهُ حِدَادًا وَقَدْ، تَقَدَّمَ فِي التِّبْرِ بَحْثٌ وَقَوْلُهُ: عَيْنُهُ يُرِيدُ ذَاتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البيت ساقه الإمام النووي في الجزء الثالث هكذا:

إذا مت كان الناس نصفين شامت                     وآخر مثن بالذي كنت أصنعه

قلت: وفي "اللسان": الصنف والصنف بالكسر والفتح لغتان والله أعلم (ط).
2 المدي بضم الميم وإسكان الدال وزان قفل مكيال يسع تسعة عشر صاعا وهو غير المد فانتبه (ط).

 

ج / 10 ص -142-    وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْمَكِيلَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَلَا اخْتِلَافُ الْمَوْزُونَيْنِ فِي الْكَيْلِ، فَأَمَّا مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَيْلًا بِكَيْلٍ، نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِجْمَاعَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا أَصْلُهُ الْكَيْلُ فَنَقَلَ الْفُورَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَزْنًا، حَكَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ. مِنْهُمْ ابْنُ يُونُسَ وَقَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ: إنَّهُ - أَعْنِي الْفُورَانِيَّ - حَكَاهُ عَنْهُ الْمُهَذَّبُ، وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ الْمَنْعَ وَمُوَافَقَةَ الْأَصْحَابِ.
وَحَكَى الْجَوَازَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِ الْمَوْزُونَاتِ بِبَعْضٍ جُزَافًا، وَسَيَأْتِي النَّقْلُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْمَكِيلَ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَوَزْنًا بِوَزْنٍ، قَالَ: لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالتَّسَاوِي، فَإِذَا وُجِدَ بِالْوَزْنِ جَازَ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ بِالْوَزْنِ جَازَ، وَلَنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ فِي الْكَيْلِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ التَّمْرِينَ ثَقِيلًا، فَيُؤَدِّي إلَى بَيْعِ صَاعٍ بِأَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَوْزُونِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا، وَالْمُسَاوَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ هِيَ الْمَأْمُورُ بِهَا، وَهُوَ الْكَيْلُ فِي الْمَكِيلِ وَالْوَزْنُ فِي الْمَوْزُونِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ مَضْبُوطَ الْقَدْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ تُرَاعَى الْمُمَاثَلَةُ عَلَى مَا أَمَرْنَا بِهَا فِي الشَّرْعِ.
فرع: فَصَلَ الْقَاضِي حُسَيْنُ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا فِي الْمِلْحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قِطَعًا كِبَارًا أَوْ صِغَارًا، فَإِنْ كَانَ مَسْحُوقًا نَاعِمًا، أَوْ مَدْقُوقًا بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ جُرْمُهُ عَلَى جُرْمِ التَّمْرِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ الْقِطَعُ كِبَارًا فَوَجْهَانِ أحدهما: يُبَاعُ وَزْنًا، وَبِهِ جَزَمَ فِي التَّهْذِيبِ، وَكَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ والثاني: يُسْحَقُ وَيُبَاعُ كَيْلًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: وَفِي هَذَا ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، وَأَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارُهُ بِالْوَزْنِ.
فَرْعٌ: وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله تعالى: فِيمَا يُكَالُ وَفِيمَا يُوزَنُ يَعْنِي بِالنَّظَرِ إلَى جِنْسِهِ لَا إلَى قَدْرِهِ، فَلَوْ امْتَنَعَ لِأَجْلِ الْقِلَّةِ كَالْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ، فَإِنَّهَا لَا تُكَالُ وَالذَّرَّةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُوزَنُ، فَعِنْدَنَا يَمْتَنِعُ بَيْعُهَا بِمِثْلِهَا فَلَا يُبَاعُ حَفْنَةٌ بِحَفْنَةٍ، وَلَا بِحَفْنَتَيْنِ، وَلَا تَمْرَةٌ بِتَمْرَتَيْنِ، وَلَا ذَرَّةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ بِذَرَّةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَأْخَذِنَا وَمَأْخَذِهِ. وَضَابِطُ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَكِيلَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَلَا يَبْلُغَ نِصْفَ صَاعٍ، فَلَوْ بَلَغَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ امْتَنَعَ عِنْدَهُمْ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَطْوِيلَاتٌ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ لَا ضَرُورَةَ إلَى إيرَادِهَا هُنَا وَقَدْ رَأَيْتُهَا فِي مَبَاحِثِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه مَعَهُمْ فِي الْإِمْلَاءِ، فَنَقَلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ، وَالتَّمْرَتَيْنِ بِالْأَرْبَعِ عَدَدًا، وَأَطَالَ فِي الْبَحْثِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَأَلْزَمَهُ بِالْمَوْزُونِ وَكَأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهِ وَلَعَلَّ أَصْحَابَهُمْ فَرَّعُوا ذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالنَّوَوِيُّ رضي الله عنه هُنَا أَنَّ كُلَّ مَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَزْنًا، وَظَاهِرُ ذَلِكَ شُمُولُهُ لِمَا عُلِمَ مِعْيَارُ جِنْسِهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَمْ يُعْلَمْ فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّمْرَ الْكِبَارَ الَّذِي يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ يُبَاعُ وَزْنًا، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ نَعَمْ هَذَا الضَّابِطُ

 

ج / 10 ص -143-    ذَكَرَهُ غَيْرُ الرَّافِعِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ مِعْيَارُهُ وَعِبَارَةُ التَّهْذِيبِ مُطْلَقَةٌ كَعِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ - وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُمَا - لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"لَا تُبَاعُ الصُّبْرَةُ مِنْ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ".
الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْكِتَابِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَزَادَ "وَلَا الصُّبْرَةُ مِنْ الطَّعَامِ بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ الطَّعَامِ " وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظٍ آخَرَ فَقَالَ فِيهِ جَابِرٌ"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ، لَا يَعْلَمُ مَكِيلَهَا، بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ" وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ سَوَاءً، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْحَاكِمَ ذَكَرَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ نُسْخَتِهِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ غَفَلَ1 عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقِفَ أَحَدٌ عَلَى كِتَابِ الْمُسْتَدْرَكِ فَيَظُنَّ الْوَهْمَ فِي نِسْبَتِهِ إلَى مُسْلِمٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ التَّمْرِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ مُسْلِمٍ وَالرِّوَايَةِ الْأُولَى فِي تَقْيِيدِهِ الصُّبْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ بِالتَّمْرِ، رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ مُقَيِّدَةٌ لَهَا وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مُطْلِقَةٌ، وَالنَّسَائِيِّ رَوَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَتَرْجَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا يُنَاسِبُهُ وَالسَّنَدُ وَاحِدٌ فِيهِمَا وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ ضَارٍّ، وَلَعَلَّهُمَا جَمِيعًا ثَابِتَانِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لَا سِيَّمَا وَالْإِطْلَاقُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّقْيِيدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ، فَلَعَلَّ جَابِرًا حَضَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ صُبْرَةٍ مِنْ التَّمْرِ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْمِكْيَالِ، فَنَهَى عَنْهَا وَذَكَرَ صلى الله عليه وسلم إمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ لَفْظًا شَامِلًا تَنْدَرِجُ فِيهِ تِلْكَ الصُّبْرَةُ وَغَيْرُهَا وَرُوِيَ الْأَمْرَانِ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْبَابِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ - حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْكَلَامَانِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحِينَئِذٍ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالْإِثْبَاتِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَلَا مَجَالَ لَهُ فِي النَّفْيِ، وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ مِثَالٌ لِذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ وَأَنَّ الصَّادِرَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا فَقَطْ وَأَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ، فَالْأَخْذُ بِاللَّفْظِ الْمَنْسُوبِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِاللَّفْظِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ التَّرْجِيحُ الْمَذْكُورُ، وَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا الرِّوَايَةُ الْمُقَيَّدَةُ لَكَانَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّمْرِ وَغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَامٌ وَالْمُرَادُ بِهِ خَاصٌّ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتَا غَيْرُ مَعْلُومَتَيْنِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
إذَا عَرَفَ ذَلِكَ، فَإِذَا بَاعَ صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ بِصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُمَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصُّبْرَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ، نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ حُجَّةٌ لَهُ، وَلِهَذَا نَقُولُ: إنَّ الْجَهْلَ بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ وَلَا يَجُوزُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه من سقطات الفحول وسبحان من تفرد بالكمال (ط).

 

ج / 10 ص -144-    ذَلِكَ جُزَافًا وَلَا بِالتَّحَرِّي وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ فِي الْبَادِيَةِ وَالسَّفَرِ فِي الْمَكِيلِ دُونَ الْمَوْزُونِ لِأَنَّ الْبَادِيَةَ يَتَعَذَّرُ فِيهَا وُجُودُ الْمِكْيَالِ، وَأَجَابَ الْقَاضِي بِمَنْعِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَيْلَ يُمْكِنُ بِالْإِنَاءِ وَالْقَصْعَةِ وَالدَّلْوِ وَحَفْرِ حَفِيرَةٍ يَكِيلُ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ جُزَافًا وَلَا بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ وَالتَّحَرِّي، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ سَوَاءٌ خَرَجَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ أَمْ لَا. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْأُمِّ وَالْأَصْحَابُ.
أَمَّا إذَا ظَهَرَ التَّفَاضُلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا خَرَجَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ فَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ شَرْطٌ، وَشَرْطُ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً لَا يَدْرِي أَهِيَ مُعْتَدَّةٌ أَمْ لَا؟ أَوْ هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَمْ لَا؟ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ بَقِيَّةَ شُرُوطِ الْمَبِيعِ كَالْمِلْكِ وَشَبَهِهِ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ حَيٌّ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ بِالْحَدِيثِ، فَالْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ وَالْعِلْمُ بِهَا شَرْطٌ آخَرُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ دُونَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ فِي الْمَبِيعِ، كَالْمِلْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ حَيْثُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فَقَطْ لَا الْعِلْمُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِلِاحْتِيَاطِ فِيمَا أَصْلُهُ التَّحْرِيمُ، فَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَفِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ اُشْتُرِطَ فِيهَا الْعِلْمُ بِالشُّرُوطِ وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ الْحِلُّ فَلِذَلِكَ صَحَّ فِي بَيْعِ الْمَالِ الَّذِي يَظُنُّهُ لِأَبِيهِ إذَا تَبَيَّنَ خِلَافَهُ.
وَنَقَلَ عَنْ زُفَرَ رحمه الله: أَنَّهُ إذَا خَرَجَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ صَحَّ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ عَلِمَا التَّسَاوِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَزُفَرُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بَلْ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْعِلْمُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، وَكُلُّ مَا قُلْنَاهُ فِي الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ وَفِي الدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ وَفِي كُلِّ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ، صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِذَلِكَ وَلِأَجْلِ جَزْمِ الْأَصْحَابِ بِالْمَنْعِ فِي ذَلِكَ رَدَّ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ. وَالشَّرْطُ عَدَمُ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ رحمه الله: إنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَدْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ نَظِيرُهُ بَيْعُ مَالٍ ظَنَّهُ لِأَبِيهِ، وَكَانَ لِنَفْسِهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ قَبْلَ بَيْعِهِقلت: وَهَذَا التَّخْرِيجُ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْأَصْحَابَ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْمَنْعِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِيهِ وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ الْإِجْمَاعِ إنْ ثَبَتَ وَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُ زُفَرَ فَالْوَجْهُ الْجَوَابُ عَنْ بَيْعِ مَا ظَنَّهُ لِأَبِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا أَنْ يُطْلَبَ تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَتَمْرٍ بِزَبِيبٍ أَوْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَتَبَايَعَاهُمَا جُزَافًا جَازَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ" وَلِمَفْهُومِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ رِوَايَتَيْ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي فِيهَا الْكَيْلُ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ، فَتَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا بِجِنْسٍ غَيْرِ التَّمْرِ لَجَازَ وَهَذَا التَّقْيِيدُ هُنَا زِيَادَةٌ مِنْ الرَّاوِي يَجِبُ قَبُولُهَا وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْبَحْثِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ حَلَالًا1 بِجُزَافٍ وَكَانَتْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر (ش) قلت: وتحرير النص في "الأم" هكذا: كل كيل لا يجوز أن يباع بمثله وزنا وكل وزن فلا يجوز أن يبتاع بمثله كيلا وإن كان أصله الوزن وجزافا. (ط).  

 

ج / 10 ص -145-    الزِّيَادَةُ إذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ حِلًّا فَلَيْسَ فِي الْجُزَافِ مَعْنًى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ. وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُجَازَفَةً".
وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْكِيَا مِنْ أَصْحَابِنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي بَعْضِ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ قَالَ: فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُجَازَفَةً كَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ جُزَافًا. وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ. وَجَوَّزَ أَحْمَدُ رضي الله عنه بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ جُزَافًا كَبَيْعِ صُبْرَةٍ مِنْ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي بَيْعِ مَا يُكَالُ بِمَا يُكَالُ أَوْ مَا يُوزَنُ بِمَا يُوزَنُ جُزَافًا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الصُّبْرَةُ بِالصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَلَا يَدْرِي مَا كَيْلُ هَذَا" وَهَذَا نَصٌّ فِي الصُّبْرَةِ وَعَامٌّ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ قَالَ: وَتَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ الْجَهْلَ مَانِعًا فَالنَّهْيُ بِالتَّسَاوِي لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ فَحَيْثُ جَوَّزَ الشَّرْعُ التَّفَاضُلَ وَقَالَ: إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ الْمُجَازَفَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ هُوَ مَأْخَذُنَا وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ، انْتَهَى.
عَلَى أَنَّ ابْنَ قَدَامَةَ الْحَنْبَلِيَّ فِي كِتَابِهِ الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلَ الْمَانِعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ رَدَّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ وَرَجَّحَ الْجَوَازَ وَقَالَ: إذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الْفَضْلِ لَا تَمْنَعُ فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَلَّا يَكُونَ مَانِعًا قَالَ: وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ، فَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ "نَهَى أَنْ تُبَاعَ الصُّبْرَةُ لَا يَعْلَمُ مَكِيلَهَا مِنْ التَّمْرِ بِالصُّبْرَةِ لَا يَعْلَمُ مَكِيلَهَا مِنْ التَّمْرِ" وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَايَعَا ذَلِكَ مُجَازَفَةً يَجُوزُ أَنْ يَتَبَايَعَا الْمَكِيلَ مَوْزُونًا وَالْمَوْزُونُ مَكِيلًا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى وَلْنَرْجِعْ إلَى أَلْفَاظِ الْكِتَابِ:
قَوْلُهُ: "صُبْرَةُ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ" أَيْ مِنْ جِنْسِهِ، وَحَذَفَ ذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَهُ السَّابِقَ فِي بَيْعِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، فَأَغْنَى عَنْ تَقْيِيدِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّعَامَ فِي عُرْفِ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ يَخْتَصُّ بِالْقَمْحِ، فَلِذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ الْعِرَاقِيُّونَ وَيُرِيدُونَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ بَاعَ صُبْرَةَ دَرَاهِمَ بِصُبْرَةِ دَرَاهِمَ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ وَزْنَهُمَا، أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ كَذَلِكَ، فَلَوْ حَذَفَ لَفْظَةَ الطَّعَامِ كَانَ أَشْمَلَ، لَكِنَّهُ قَيَّدَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مُنْطَبِقًا عَلَى دَعْوَاهُ وَافِيًا بِمَقْصُودِهِ.
وَقَوْلُهُ: "وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ" ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الضَّمَائِرِ كُلِّيَّةٌ كَالْعَامِّ، وَلِأَنَّ النَّفْيَ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ وَلَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَلَا يَعْلَمَا وَأَنْ يَعْلَمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الصُّبْرَةِ إذَا عَلِمَ الْبَائِعُ كَيْلَهَا دُونَ الْمُبْتَاعِ أَنَّ عَطَاءً وَابْنَ سِيرِينَ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدًا وَمَالِكًا وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَهُ جُزَافًا، وَإِذَا عَرَفَ كَيْلَهُ أَحَبُّ إلَيْهِ، وَمُرَادُهُ إذَا بَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، وَإِلَّا بَيْعُ الصُّبْرَةِ بِجِنْسِهَا لَا يُجِيزُ الشَّافِعِيُّ رضي

 

ج / 10 ص -146-    الله عنه فِيهِ الْجُزَافَ. نَعَمْ إذَا عَلِمَ الْبَائِعُ كَيْلَهَا وَأَخْبَرَ بِهِ الْمُشْتَرِيَ فَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ.
وَقَوْلُهُ: "لَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهَا" أَفْرَدَ الضَّمِيرَ، وَهُوَ صَالِحٌ لَأَنْ يَعُودَ عَلَى الصُّبْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَعَلَى الصُّبْرَةِ الَّتِي هِيَ ثَمَنٌ، وَالْحُكْمُ شَامِلٌ لَهُمَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْهَلَ كِلْتَا الصُّبْرَتَيْنِ أَوْ أَحَدَاهُمَا. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَالْأَصْحَابُ. وَدَلِيلُهُ الرِّوَايَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ مُسْلِمٍ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ، لَا يَعْلَمُ مَكِيلَهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنْ التَّمْرِ".
فرع: لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارَيْنِ مِمَّنْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، وَلَمْ يَعْلَمْ فَسَادَهَا، لَا يَجُوزُ - كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ بِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ ظَاهِرًا ثُمَّ انْكَشَفَ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ، وَالْحُكْمُ صَحِيحٌ لَكِنَّ قَوْلَ الرُّويَانِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا يَصِحُّ أَوْ لَا يَحِلُّ، فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الصِّحَّةِ فَعَدَمُ الصِّحَّةِ حَاصِلٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً أَمْ صَحِيحَةً، وَسَوَاءٌ عَلِمَ السَّيِّدُ بِهَا أَمْ جَهِلَ فَلَا وَجْهَ لِتَشْبِيهِهَا بِمَسْأَلَةِ النِّكَاحِ وَإِنْ أَرَادَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمَ الْحِلِّ، فَهَذِهِ الْمُعَامَلَةُ إذَا صَدَرَتْ مِنْ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ الْقِنِّ حُكْمُهَا حُكْمُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنَّ حُكْمَنَا بِأَنَّ تَعَاطِيَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ حَرَامٌ وَهُوَ الْحَقُّ إذَا أُرِيدَ بِهَا تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَرْعًا، فَحِينَئِذٍ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَمُكَاتِبِهِ لَا تَحِلُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِفَسَادِ الْكِتَابَةِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، لَا يَصِحُّ تَشْبِيهًا بِمَسْأَلَةِ النِّكَاحِ الْمَذْكُورَةِ.
وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ تَعَاطِيَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَ بِحِرَامٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَبْدِهِ الْقِنِّ دِينَارًا بِدِينَارَيْنِ فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ هُنَا بِالتَّحْرِيمِ، ثُمَّ أَيَكْفِي حُصُولُ الْإِثْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَائِرٌ مَعَ الظَّنِّ وُجُودًا وَعَدَمًا؟ وَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ هَاهُنَا مَعَ ظَنِّهِ تَحْرِيمَهُ فَيَأْثَمُ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا، كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَيٌّ، فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي الصِّحَّةِ لَا فِي الْحِلِّ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسَادَ كَمَا قَالَ الرُّويَانِيُّ إنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّ التَّشْبِيهَ فِيهِ نَظَرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ، صَاعًا بِصَاعٍ، فَخَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ فَفِيهِ قولان: أحدهما: أَنَّهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ بِطَعَامٍ مُتَفَاضِلًا والثاني: أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا تَسَاوَيَا فِيهِ لِأَنَّهُ شَرْطُ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ. وَمَنْ نَقَصَتْ صُبْرَتُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَبَيْنَ أَنْ يُمْضِيَهُ بِمِقْدَارِ صُبْرَتِهِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ الصُّبْرَةِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ".
الشرح: بَيْعُ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَهُ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ جُزَافًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ والثاني: أَنْ يَكُونَ مُكَايَلَةً، كَمَا إذَا بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ صَاعًا بِصَاعٍ وَالْكَلَامُ الْآنَ فِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ هَكَذَا كَمَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله. مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الْمُزَابَنَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: وَلَوْ عَقَدَا بِبَيْعِهِمَا أَنْ يَتَكَايَلَا هَذَيْنِ الطَّعَامَيْنِ جَمِيعًا بِأَعْيَانِهِمَا مِكْيَالًا بِمِكْيَالٍ فَتَكَايَلَا فَكَانَا مُسْتَوِيَيْنِ جَازَ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ فَقولان: أحدهما: أَنَّ لِلَّذِي نَقَصَتْ صُبْرَتُهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ فَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ أَوْ رَدُّ الْبَيْعِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ

 

ج / 10 ص -147-    مَفْسُوخٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ بَعْضُهُ حَرَامٌ وَبَعْضُهُ حَلَالٌ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ وَبِهَذَا أَقُولُ، وَالْقَوْلُ الَّذِي حَكَيْتُ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا نَقَصَ لَا فِي الزِّيَادَةِ1 بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَأَمَّا فِيمَا فِيهِ رِبًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ عَلَى الْكُلِّ فَوَجَدْنَا الْبَعْضَ مُحَرِّمًا أَنْ يَمْلِكَ بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ بَيْعَةٍ وَفِيهَا حَرَامٌ. هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: بِحُرُوفِهِ، وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالرَّافِعِيُّ وَالْعِمْرَانِيُّ وَآخَرُونَ، كُلُّهُمْ جَزَمُوا بِالصِّحَّةِ فِيمَا إذَا خَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي السِّلْسِلَةِ: جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَغْرَبَ الشَّاشِيُّ فَقَالَ فِي الْحِلْيَةِ إنْ خَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ وَقُلْنَا عِنْدَ التَّفَاضُلِ يَبْطُلُ فَهَاهُنَا وَجْهَانِ أحدهما: يَبْطُلُ قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْخِلَافِ فِي مُتَابِعٍ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ حَصَلَ فِي ذَلِكَ وَهْمٌ، وَانْتِقَالٌ مِنْ الْفَرْعِ الَّذِي سَيَأْتِي إذَا تَقَابَضَا مُجَازَفَةً وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ تَكَايَلَا وَخَرَجَتَا سَوَاءً فَهُنَاكَ وَجْهَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ الْجَزْمُ بِالصِّحَّةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُمَاثَلَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ شَرْطٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَكْفِي عِنْدَنَا بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَبَايَعَا جُزَافًا ثُمَّ ظَهَرَ التَّسَاوِي فِي الْمَجْلِسِ لَا يَكْفِي، وَإِنْ تَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مُقَابَلَةَ كُلِّ صَاعٍ بِصَاعٍ لَا مُقَابِلَةَ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ بَلْ الْمُقَابَلَتَانِ مَقْصُودَتَانِ وَانْطِبَاقُ الْجُمْلَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا تُبَاعُ الصُّبْرَةُ مِنْ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ" وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ التَّمْرِ لَا يَعْلَمُ مَكِيلَهَا.
وَقَدْ يَعْتَذِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْمُكَايَلَةُ هُنَا مُشْتَرَطَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْبَائِعِ اكْتَفَى بِهَا وَفَارَقَ بِذَلِكَ التَّبَايُعُ جُزَافًا، فَإِنَّ الْكَيْلَ لَيْسَ وَاجِبًا فِيهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَبَطَلَ، وَهَذَا الْعُذْرُ لَا يُفِيدُ، قَوْلُهُ: "وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ فَقَوْلَانِ" كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ رَجَّحَ رضي الله عنه فِي كَلَامِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيبِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فَصَحَّحَ فِي الِانْتِصَارِ وَجَزَمَ فِي الْمُرْشِدِ وَالْأَحْكَامِ الْمُخْتَارَةِ بِالصِّحَّةِ فِيمَا تَسَاوَيَا فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ الْبُطْلَانُ، وَعَلَّلَهُ الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَهُمَا مُتَفَاوِتَتَانِ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: الْمُتَقَدِّمُ يُرْشِدُ إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَفِي الْمَطْلَبِ أَنَّ الْمَأْخَذَ فِي ذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِيمَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً إلَّا قَفِيزًا وَأَنَّ الْقَائِلَ الْآخَرَ يَنْظُرُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا، وَقَالَ إنَّ هَذَا أَشْبَهُ مِنْ الْمَأْخَذِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ، لِأَنَّهُ لَا مُقَابَلَةَ مَعَ اشْتِرَاطِ كَيْلٍ بِكَيْلٍ وَمَا قَالَهُ مَمْنُوعٌ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ حَاصِلَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلَّةِ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ الْمَعْرُوفِ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا والذي في "الأم" "إنما يكون له الخيار فيما نقص مما لا ربا في زيادة بعضه على بعض، فأما ما فيه الربا فقد انعقد البيع على الكل فوجد البعض محرما أن يملك بهذه العقدة الخ" (المطيعي).

 

ج / 10 ص -148-    مَنْعِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ الْأُمِّ أَنَّهُ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَكِنَّهُ - لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الصَّفْقَةَ تُفَرَّقُ - لَمْ يَطَّرِدْ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّهُ لَا جَرَيَانَ لَهُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَمْ نَقُلْ بِصِحَّتِهِ فِي دِرْهَمٍ مُشَاعًا؟ وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَنْعِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَالضَّابِطُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ تَخَلَّلَ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْفَسَادُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ إنَّمَا كَانَ تَخَلُّلٌ فِي الْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَكَوْنُ هَذِهِ الْمُقَابِلَةِ مَحْظُورَةً مِنْ الشَّارِعِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى كُلٍّ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَجْزَاءُ كُلٍّ مِنْ الْعِوَضَيْنِ صَالِحَةٌ لِإِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَجْمِعٌ شَرَائِطَ الْبَيْعِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ الْقَوْلُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِيهِ، وَفَسَدَ فِي الْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا خِلَافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِيهَا لَمْ يَسْتَجْمِعْ شَرَائِطَ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ1 الْفَسَادُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْإِبْطَالِ فِيهِ، وَتَصْحِيحُ غَيْرِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَرَامَ فِي صُورَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ هُوَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ وَالْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ2 إنَّمَا حَرُمَتْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ. فَإِذَا فُرِضَ الْإِبْطَالُ زَالَ الْمُقْتَضِي لِتَحْرِيمِهَا وَعُقُودُ الرِّبَا بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ فِيهَا لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ الْجُزْأَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَنِسْبَتُهَا إلَى كُلِّ الْأَجْزَاءِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلِذَلِكَ بَطَلَ فِي الْجَمِيعِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بِأَنَّهُ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْءٍ بَعْضُهُ حَرَامٌ وَبَعْضُهُ حَلَالٌ يُخَالِفُ مَا بَطَلَ فِي الْجَمِيعِقلت: ظَاهِرُهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَهُ إلَى آخِرِهِ عَلِمَ مَا قُلْتُهُ، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الرِّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى مَا قُلْتُهُ غَيْرُ مُمْتَنِعِ النَّظَرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ تَعَسُّفٍ.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا نَقَصَ لَا فِيمَا لَا رِبَا فِي زِيَادَةِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ إلَى آخِرِهِ، يُؤَيِّدُهُ إذَا بَاعَهُ صُبْرَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَثَلًا، كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَخَرَجَتْ نَاقِصَةً عَنْ الْعَشَرَةِ، فَهَاهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَصِحُّ فِي الصُّبْرَةِ بِجَمِيعِ الْعَشَرَةِ، لِأَنَّهُ لَا رِبَا فِيهَا، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ هُنَاكَ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ أَنَّهَا مَتَى خَرَجَتْ نَاقِصَةً أَوْ زَائِدَةً بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ بَاعَ جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ بِعَشْرَةٍ، وَشَرْطُ مُقَابَلَةِ كُلِّ صَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مُمْتَنِعٌ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي مَسْأَلَتِنَا أَيْضًا، لَكِنْ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ اتَّفَقَتْ طَرِيقَةُ الْأَصْحَابِ عَلَى حِكَايَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي تَعْلِيقِ الطَّبَرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ الْبَيْعُ جَائِزًا إذَا كَانَ لَيْسَ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ، مِثْلُ الْحِمَّصِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَأَمَّا مَا فِيهِ الرِّبَا فَإِنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا.
التَّفْرِيعُ: إنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فِيمَا تَسَاوَيَا فِيهِ فَيَثْبُتُ الَّذِي بَاعَ الصُّبْرَةَ النَّاقِصَةَ وَهُوَ مُشْتَرِي النَّاقِصَةِ وَهُوَ مُشْتَرِي الصُّبْرَةِ الْكَثِيرَةِ الْخِيَارِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ويمكن أن يكون السقط: من حيث انتفاء الفساد في المعقود عليه (ط).
2 الهيئة الاجتماعية المراد بها كيفية اجتماع الصفقة على هيئة واحدة غير متفرقة (ط).

 

ج / 10 ص -149-    الْمَطْلَبِ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَغِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهَذَا النَّظَرُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهِ إحَالَةً لِتَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ صُورَتَهَا أَنْ تَقَعَ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَظْنُونَةٌ فَإِذَا قَامَتْ الْمُمَاثَلَةُ بَطَلَ الْخِيَارُ وَمِمَّنْ وَافَقَنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالصِّحَّةِ عِنْدَ التَّسَاوِي وَثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ الْحَنَابِلَةُ.
فرع: لَوْ تَفَرَّقَا بَعْدَ تَقَابُضِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَقِيلَ الْكَيْلُ فِي الْمَكِيلِ، وَالْوَزْنُ فِي الْمَوْزُونِ فَهَلْ يَبْطُلُ الْعَقْدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي الْإِبَانَةِ وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا وَنَسَبَهُمَا الرُّويَانِيُّ إلَى الْقَفَّالِ أصحهما عَلَى مَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيبِ وَالرَّافِعِيُّ لَا، لِوُجُودِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ والثاني: نَعَمْ لِبَقَاءِ الْعَلَقَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إنَّهُ الْأَشْبَهُ قَالَ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْقَبْضَ جُزَافًا فِي هَذِهِ لَا يَصِحُّ فَقَدْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِقلت: وَقَدْ بَنَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي السِّلْسِلَةِ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوِيَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ وَسَائِرَ الْأَصْحَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بَلْ وَالشَّافِعِيَّ بَلْ وَسَائِرَ الْعُلَمَاءِ جَازِمُونَ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيمَا يُبَاعُ مُكَايَلَةً لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْكَيْلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ: وَمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا كَيْلًا فَقَبْضُهُ أَنْ يَكْتَالَهُ. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ فِي بَابِ الصَّرْفِ: وَالْقَبْضِ مِنْ الْبُيُوعِ كُلُّ مَا كَانَ يَنْتَقِلُ مِثْلُ الصَّيْدِ وَالْعُرُوضِ أَوْ يُوزَنُ وَيُكَالُ فَقَبْضُهُ الْكَيْلُ وَالِانْتِقَالُ وَالْوَزْنُ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: وَلَوْ أَعْطَى طَعَامًا فَصَدَّقَهُ فِي كَيْلِهِ لَمْ يَجُزْ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّهُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَا بِيعَ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مَقْبُوضًا إلَّا كَيْلًا أَوْ وَزْنًا وَأَطْلَقَ الْأَصْحَابُ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ الرَّافِعِيُّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ فَاسِدٌ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ وَجَزَمَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ طَعَامًا بِالْكَيْلِ فَدَفَعَ إلَيْهِ الطَّعَامَ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ لَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الثِّمَارِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى طَعَامًا مُكَايَلَةً وَقَبَضَهُ جُزَافًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَفِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ لِبَقَاءِ الْكَيْلِ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّهُ فِي بَابِ الْقَبْضِ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ مُسَلَّطًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إنَّهُ يَصِحُّ قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَهَذَا أَقْيَسُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَصِحُّ وَادَّعَى الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ السَّلَمِ وَأَبُو الطَّيِّبِ هُنَا أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ شِيَخَةٌ وَطَوَائِفُ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّ الْجُمْهُورَ عَلَيْهِ. وَرَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّ الْمُرَادَ بِفَسَادِ الْقَبْضِ هَاهُنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ فِي مِقْدَارِهِ. وَهَذَا لَيْسَ مَحْمَلًا وَاضِحًا. قَالَ: وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ إطْلَاقُ الْفَسَادِ مِمَّنْ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ مِنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَيْقَنِ. وَسَنُوَضِّحُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّلَمِ حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الرَّافِعِيَّ مِنْ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِبَارِهِ الْقَبْضَ الْمَذْكُورَ فَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ أَلَّا يَعْتَبِرَهُ فِي الصَّرْفِ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ، وَيُكْتَفَى بِصُورَةِ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ وَجْهِ كَوْنِهِ نَاقِلًا لِلضَّمَانِ عَلَى أَشْكَالِهِ، لَكِنَّ بَابَ الرِّبَا يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَأَلَّا يُكْتَفَى إلَّا بِمَا هُوَ قَبْضٌ تَامٌّ،

 

ج / 10 ص -150-    وَيُعَضِّدُهُ مَفْهُومُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم "لَا بَأْسَ إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ" فَاقْتَضَى اشْتِرَاطَ أَلَّا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْعَلَقِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْكَيْلُ.
وَقَدْ أَجَازَ الْإِمَامُ فَبَنَى الْوَجْهَيْنِ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ بِالتَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي أَنَّ التَّقَابُضَ عَلَى الْمُجَازَفَةِ هَلْ يُسَلَّطُ عَلَى بَيْعِ مَا اسْتَتْبَعَتْهُ؟ إن قلنا:  نَعَمْ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أحدهما: يَبْطُلُ لِنُقْصَانِ الْقَبْضِ والثاني: لَا، لِجَرَيَانِهِ وَاقْتِضَائِهِ لِنَقْلِ الضَّمَانِ، وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فَقَالَ: الْوَجْهَانِ يُبْنَيَانِ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ مُكَايَلَةٍ هَلْ يَكُونُ قَبْضًا صَحِيحًا فِي انْبِرَامِ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أحدهما: صَحِيحٌ لِانْتِقَالِ الضَّمَانِ والثاني: لَا لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الْقَبْضَ الْمَذْكُورَ لَا يَكْفِي وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الصَّرْفِ: إذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا، وَمَضَى كُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَعِيرُ الدِّينَارَ الَّذِي قَبَضَهُ بِالْوَزْنِ جَازَ، وَنَزَّلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرَفَ وَزْنَ الدِّينَارِ فَصَدَّقَهُ الْآخَرُ وَتَقَابَضَا، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْطُلَ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ حِينَئِذٍ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ الْمَذْكُورَ كَافٍ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ رحمه اللهقلت: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَ صَاحِبِ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ، وَتَأْوِيلِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ فِي الْفُرُوعِ السَّالِفَةِ أَوَّلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ لَهُ صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُمَاثَلَةِ اعْتِمَادًا عَلَى خَبَرِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِ وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْصُلَ التَّقَابُضُ بِالْجُزَافِ مَعَ الْجَهْلِ وَالتَّرَدُّدِ فَأَمَّا هَذِهِ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَيَظْهَرُ فِيهَا الْحُكْمُ بِفَسَادِ الْقَبْضِ، وَأَنَّ التَّفَرُّقَ بَعْدَهُ قَبْلَ جَرَيَانِ قَبْضٍ صَحِيحٍ مُبْطِلٌ لِبَقَاءٍ عَلَّقَ الْعَقْدَ وَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ بَيْعٌ لَازِمٌ فِي صُبْرَةٍ بِصُبْرَةٍ لَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُمَا، وَذَلِكَ مُصَادِمٌ لِلْحَدِيثِ وأما الصُّورَةُ الْأُولَى فَوَجْهُ الْحُكْمِ بِفَسَادِ الْقَبْضِ فِيهَا أَنَّ الِاكْتِيَالَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ شَرَطَ الْكَيْلَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إذَا أَعْطَاهُ طَعَامًا فَصَدَقَنَا فِي كَيْلِهِ صُوَرُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ اشْتَرَاهُ مُشَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ فَعَزَلَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ قَدْرًا وَقَالَ: قَدْ كِلْتُ هَذَا وَالْحُكْمُ بَعْدَ الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ مَا نَقَلْتُهُ فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ مُوَافَقَةِ صَاحِبِ الْبَيَانِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ وَصَاحِبَ الشَّامِلِ جَعَلُوا مِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا عَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ، ثُمَّ قَبَضَهُ مِنْهُ جُزَافًا إنْ قَالَ لَهُ: قَدْ كِلْتُهُ أَوْ هُوَ عَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ فَقَبَلَ قَوْلَهُ وَقَبَضَهُ فَإِنَّ الْقَبْضَ فَاسِدٌ، قَالَ: لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْكَيْلَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ السُّنَّةِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِعُثْمَانَ:
"إذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَوْلُ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي"

 

ج / 10 ص -151-    وَلَوْلَا الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ كَانَ تَقَوِّي الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكْتَفِي بِالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا فَيَكْتَفِي بِهِ. لَكِنَّ السُّنَّةَ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَضَّدَهَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي يَقْتَضِي كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ نَقْلَهُ، مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ غَنِيَّةٌ عَنْ الِاعْتِضَادِ بِغَيْرِهَا. وَمَهْمَا ثَبَتَ فِي الطَّعَامِ ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي النَّقْدِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِمَا، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّاجِحَ فَسَادُ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الْفَرْعِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ فِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي بِذَلِكَ الْقَبْضُ، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاجَعَةِ مَا قَدَّمْتُهُ فِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ فِيهِمَا حَتَّى يَحْصُلَ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: عَلَى هَذَا الْفَرْعِ: إذَا قُلْنَا بِمَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَالرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا إنْ كِيلَتَا بَعْدَ ذَلِكَ فَخَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَانِ صَحَّ، وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ جَرَى الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَعَلَى الصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَصِحُّ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وإن قلنا: بِالْوَجْهِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْطُلُ فَلَا فَرْقَ عَلَى ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يُكَالَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَخْرُجَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ أَوْ مُتَفَاضِلَتَيْنِ. وَسَلَكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ تَرْتِيبًا آخَرَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ اخْتِلَافٌ فَقَالَ: إذَا تَقَابَضَا جُزَافًا ثُمَّ تَكَايَلَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ - فَإِنْ خَرَجَتَا مُتَفَاوِتَتَيْنِ - هَلْ يَجُوزُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَسَاوَيَا فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: وَجْهَانِ، إنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ فَلِأَيِّ مَعْنًى؟ فِيهِ مَعْنَيَانِ أحدهما: أَنَّهُمَا تَفَرَّقَا وَبَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَقَةُ التَّقَابُضِ، وَالْبَابُ بَابُ رِبًا وَ الثاني: لِوُجُودِ الْفَضْلِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: َوْ خَرَجَتَا مُتَفَاوِتَتَيْنِ يَجُوزُ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ لَا يَجُوزُ فَهَاهُنَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ إنْ قُلْنَا: لْمَعْنَى فِيهِ بَقَاءُ الْعَلَقَةِ لَمْ يَجُزْ وإن قلنا: بِالثَّانِي جَازَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا خَرَجَتَا مُتَفَاوِتَتَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ يُبْنَيَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا حُسْنَ التَّرْتِيبِ وَالْبِنَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إذَا كَانَتْ الصُّبْرَتَانِ مَعْلُومَتَيْ الْمِقْدَارِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْقَدْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، قُلْتُ: وَلَا يَحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي قَبْضِهَا إلَى كَيْلٍ، بَلْ حُكْمُهُ فِي الْقَبْضِ حُكْمُ الْجُزَافِ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْكَيْلُ، وَالْكَيْلُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْكَيْلُ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا بِيعَ مُجَازَفَةً قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ جُزَافًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَيْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ.
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِسَنَدِهِ إلَى طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُبَاعَ صُبْرَةٌ بِصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ لَا يُعْرَفُ مَكِيلُهُمَا أَوْ يُعْلَمُ مَكِيلَةُ إحْدَاهُمَا، وَلَا يُعْلَمُ مَكِيلَةُ الْأُخْرَى، أَوْ يُعْلَمُ مَكِيلَتُهُمَا جَمِيعًا هَذِهِ بِهَذِهِ، وَهَذِهِ بِهَذِهِ، قَالَ: لَا، إلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ طَاوُسًا يَقُولُ بِالْمَنْعِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَلَى أَنَّ الصُّبْرَتَيْنِ مَعْلُومَتَا الْمِقْدَارِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْ

 

ج / 10 ص -152-    الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلَوْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَةً عِنْدَ بَائِعَهَا فَقَطْ جَاءَ فِيهِ الْبَحْثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الدِّينَارَيْنِ، وَالْأَحْوَالُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْتهَا فِي الدِّينَارَيْنِ جَارِيَةٌ فِي الصُّبْرَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ
فرع: إذَا قَالَ بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِكَيْلِهَا مِنْ صُبْرَتِكَ، وَصُبْرَةُ الْمُخَاطَبِ كَبِيرَةٌ صَحَّ جَزَمَ بِذَاكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ، وَزَادَ الْقَاضِي فِي تَصْوِيرِهَا أَنْ يَقُولَ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إنَّهُ يَأْتِي فِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذًا مِمَّا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ صَاعًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، لِأَنَّ الْمُقَابِلَ بِالصُّبْرَةِ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، قَالَ: وَلَا شَكَّ عِنْدِي فِيهِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ نَقْدًا أَوْ مِنْ النَّوْعِ.
قُلْتُ:وَمَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ يُمْكِنُ فَرْضُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الصُّبْرَتَانِ مَعْلُومَتَيْ الْمِقْدَارِ، فَلَا يَأْتِي فِيهِمَا الْوَجْهُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ، وَإِنْ فُرِضَ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً، فَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا عَنْ ذَلِكَ تَفْرِيعًا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمُهَذَّبِ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنْ التَّخْرِيجِ مُتَّجَهٌ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّقْدِ وَغَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الصُّبْرَةِ مَبِيعًا أَوْ ثَمَنًا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَالَا فِي الْمَجْلِسِ وَتَقَابَضَا تَمَّ الْعَقْدُ وَمَا زَادَتْ الْكَبِيرَةُ لِصَاحِبِهَا، وَإِنْ تَقَابَضَا الْجُمْلَتَيْنِ وَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْكَيْلِ فَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْقِطْعَةَ الذَّهَبَ بِقَدْرِهَا مِنْ دِينَارِكَ، أَوْ هَذَا الْإِنَاءَ الْفِضَّةَ بِمَا يُوَازِنُهُ مِنْ فِضَّتِك يَصِحُّ. قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ.
فَرْعٌ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَيْلِ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ بِمِكْيَالٍ فَاكْتَالَهُ بِغَيْرِ جِنْسِ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ لَمْ يَجُزْ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِائَةَ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ فَاكْتَالَهُ بِالْقَفِيزِ لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ، فَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُ قَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ فَاكْتَالَهُ مِنْهُ بِالْمَكُّوكِ الَّذِي هُوَ رُبْعُ الْقَفِيزِ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَهَذَا لَوْ اكْتَالَ الصَّاعَ بِالْمُدِّ فَفِيهِ وَجْهَانِ ا هـ
فرع: لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ بِصَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ أُخْرَى جَازَ. قَالَهُ فِي الْإِبَانَةِ وَالتَّتِمَّةِ، وَفِيهِ مِنْ الْبَحْثِ مَا تَقَدَّمَ، يَنْبَغِي إنْ كَانَتَا مَعْلُومَتَيْ الصِّيعَانِ صَحَّ جَزْمًا وَإِنْ كَانَتَا مَجْهُولَتَيْنِ يَأْتِي فِيهِمَا خِلَافُ الْقَفَّالِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ شَعِيرٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَخَرَجَتْ مُتَسَاوِيَتَيْنِ جَازَ وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ - فَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُ الصُّبْرَةِ الزَّائِدَةِ بِتَسْلِيمِ الزِّيَادَةِ - أَقَرَّ الْعَقْدَ وَوَجَبَ عَلَى الْآخَرِ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْجَمِيعَ بِالْعَقْدِ وَإِنْ رَضِيَ صَاحِبُ الصُّبْرَةِ النَّاقِصَةِ بِقَدْرِ صُبْرَتِهِ مِنْ الصُّبْرَةِ الزَّائِدَةِ أَقَرَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ تَشَاحَّا فُسِخَ الْبَيْعُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاعَ صُبْرَتَهُ بِجَمِيعِ صُبْرَةِ صَاحِبِهِ عَلَى التَّسَاوِي فِي الْمِقْدَارِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَفُسِخَ الْعَقْدُ".
الشرح:إذَا بَاعَ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا مُكَايَلَةً جَازَ الْبَيْعُ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ وَاضِحٌ، وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمُصَنِّفُ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: إنْ

 

ج / 10 ص -153-    تَبَرَّعَ صَاحِبُ الصُّبْرَةِ الزَّائِدَةِ بِالزِّيَادَةِ جَازَ الْبَيْعُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَمَنْ تَبِعَهُ: وَوَجَبَ عَلَى الْآخَرِ قَبُولُهُ وَعِلَّتُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ أَنَّهُ مَلَكَ الْجَمِيعَ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ فَاتَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا غَرَضٌ.
أَمَّا بَائِعُ الصُّبْرَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ أَوْرَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِلصُّبْرَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ فَاتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَفَوَاتُ الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ أَيْضًا وَمُسَامَحَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا تَحْصُلُ لِغَرَضِ الْآخَرِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَلَكَ الْجَمِيعَ بِالْعَقْدِ فَارَقَ ذَلِكَ مَسْأَلَةَ الْإِعْرَاضِ بِالنَّقْدِ فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ، وَمَسْأَلَةُ إذَا تَرَكَ الْبَائِعُ حَقَّهُ لِلْمُشْتَرِي فِي الثِّمَارِ الْمُخْتَلِطَةِ فَإِنَّ الْمَتْرُوكَ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ إذَا قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْقَبُولِ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى قَبُولِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ امْتَنَعَ وَرَضِيَ صَاحِبُ الصُّبْرَةِ النَّاقِصَةِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِهَا مِنْ الصُّبْرَةِ الزَّائِدَةِ جَازَ الْبَيْعُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ تَمَانَعَا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لَا لِأَجْلِ الرِّبَا، وَلَكِنْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاعَ صُبْرَتَهُ بِجَمِيعِ صُبْرَةِ صَاحِبِهِ، عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمِقْدَارِ فَإِذَا تَفَاضَلَا وَتَمَانَعَا وَجَبَ فَسْخُ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا، هَذِهِ عِلَّةُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمُصَنِّفِ، وَمُقْتَضَى مَا قَدَّمْتُهُ آنِفًا أَنْ يَثْبُتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارُ الْخُلْفِ، فَإِنْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَذَاكَ، وَإِنْ أَصَرَّا عَلَى الطَّلَبِ وَالْمُنَازَعَةِ فُسِخَ بَيْنَهُمَا كَمَا يُفْسَخُ فِي التَّخَالُفِ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِيمَا إذَا خَرَجَتَا مُتَفَاضِلَتَيْنِ: فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما يَجُوزُ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مَبِيعَةٍ وَلِمُشْتَرِيهَا الْخِيَارُ، هَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَخَرَجَتْ بِخِلَافِهِ.
وَالرَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: أَتَى بِعِبَارَةٍ مُشْكِلَةٍ فَقَالَ: إنَّهُ لَوْ بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةِ شَعِيرٍ صَاعًا بِصَاعٍ أَوْ بِصَاعَيْنِ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ خَرَجَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ صَحَّ، وَإِنْ خَرَجَتَا عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّوْزِيعُ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَفِيهِ نَظَرٌ، الْبُطْلَانُ هُنَاكَ مَأْخَذُهُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ بِالْقَوْلَيْنِ، وَأَنَّهُ نَاقِلُ الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ صَاحِبِ التَّهْذِيبِ، فِيمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلُّ صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ أصحهما عِنْدَ صَاحِبِ التَّهْذِيبِ الْبُطْلَانُ لِأَنَّهُ بَاعَ جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ بِالْعَشَرَةِ بِشَرْطِ مُقَابَلَةِ كُلِّ صَاعٍ مِنْهُمَا بِدِرْهَمٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مُحَالٌ وَهَذَا حَاصِلٌ هَاهُنَا وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُعَيَّنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا صَاحِبُ التَّهْذِيبِ عِلَّةً لِلْبُطْلَانِ هِيَ بِعَيْنِهَا عِلَّةُ الْمُصَنِّفِ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي الْفَسْخِ.
 وَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذِكْرُ الْكُلِّ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، أَوْ فِي مَعْرِضِ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ كُلُّ صَاعٍ مِنْهَا بِصَاعٍ مِنْهَا،

 

ج / 10 ص -154-    فَهَذَا تَفْصِيلُ الثَّمَنِ وَالصَّفْقَةُ تَتَعَدَّدُ بِهِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا لِعَقْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أحدهما: مُقَابَلَةُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ والثاني: الْمُقَابَلَةُ التَّفْصِيلِيَّةُ، فَيَتَّجِهُ هُنَا الْبُطْلَانُ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ.
وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ، عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَشْرَةُ آصُعٍ مَثَلًا، فَيَتَّجِهُ هُنَا مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا إلَّا صَفْقَةٌ تَضَمَّنَتْ شَرْطًا وَقَدْ أَخْلَفَ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ نَبَّهَ النَّوَوِيُّ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَدْرِكًا عَلَى الرَّافِعِيِّ فَنَقَلَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْقَاضِي عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ يُفْسَخُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّمَانُعِ فَنَظِيرُهُ إذَا اشْتَرَى ثَمَرَةً وَلَمْ يَأْخُذْهَا حَتَّى حَدَثَتْ ثَمَرَةٌ أُخْرَى وَاخْتَلَطَتْ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إذَا تَشَاحَّا يَفْسَخُ الْحَاكِمُ الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا.
فَرْعٌ: ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مَعَ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَطْلَقَهُ وَيَتَعَيَّنُ ذِكْرُهُ هُنَا وَحَمْلُهُ عَلَى الْجِنْسِ بِمَا يُخَالِفُهُ إذَا قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ، فَخَرَجَتْ عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ خَرَجَتْ أَحَدَ عَشْرَ هَلْ يَجُوزُ الْعَقْدُ أَوْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ :إنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فَلَا كَلَامَ وإن قلنا: يَصِحُّ فِي الْعَشَرَةِ فَالْقَدْرُ الزَّائِدُ لِمَنْ يَكُونُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّا غَلَّبْنَا الْإِشَارَةَ والثاني: أَنَّهُ لِلْبَائِعِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ سَلَّمَ لَهُ الْمَبِيعَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ إنْ قُلْنَا: إنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي فَهَلْ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ لَا؟ الصَّحِيحُ لَا، لِوُجُودِ التَّفْرِيطِ مِنْ جِهَتِهِ فِي تَرْكِ الْمُكَايَلَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ قُلْنَا: الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ظَاهِرَانِ أحدهما: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ جَمِيعَ الصُّبْرَةِ والثاني: لَا، لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ عَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَتْ تِسْعَةً، فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ إنْ قُلْنَا: يَصِحُّ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ دُونَ الْبَائِعِ، فَإِنْ فَسَخَ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ أَجَازَ فَبِكَمْ يُجِيزُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ والثاني: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ - هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَفْهُومُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمِ، وَقَوْلُهُ: إنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ فِيمَا نَقَصَ فِيمَا لَا رِبَا فِيهِ، يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا بَاعَ صُبْرَةً بِغَيْرِ جِنْسِهَا سَوَاءٌ كَانَ طَعَامًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مُكَايَلَةً، فَخَرَجَتْ إحْدَاهَا نَاقِصَةً أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنْ الْبُطْلَانِ إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَخَرَجَتْ نَاقِصَةً أَوْ زَائِدَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ بِدِينَارٍ، عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ فَتَفَرَّقَا، وَكَانَ وَزْنُهُ تِسْعِينَ، قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَلَا خِيَارَ لَهُ وَهَلْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ؟ إذَا قَالَ: عِنْدِي أَنَّ الْوَزْنَ مِائَةٌ فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي وَكَانَ عَالِمًا بِهِ فَلَا خِيَارَ، وَإِنْ صَدَّقَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وَإِنْ بَاعَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ لَا عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ فَلَا خِيَارَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ بِكَيْلِ الْحِجَازِ وَوَزْنِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
"الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ".

 

ج / 10 ص -155-    الشرح: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد "الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" وَلَفْظُ النَّسَائِيّ "الْمِكْيَالُ عَلَى مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ" رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد اخْتِلَافًا فِي سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وأما السَّنَدُ فَقِيلَ فِيهِ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لَا يَضُرُّ، فَإِنَّهُ أَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ صَحَابِيٌّ وَأَمَّا الْمَتْنُ فَإِنَّهُ رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: "وَزْنُ الْمَدِينَةِ وَمِكْيَالُ مَكَّةَ" قَالَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا: اُخْتُلِفَ فِي الْمَتْنِ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم1 قَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ. الْحَدِيثِ فَقَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: "الْمِيزَانُ مِيزَانُ الْمَدِينَةِ وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ مَكَّةَ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ إنَّمَا يَأْتَمُّ النَّاسُ فِيهِمَا بِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ لِي: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَتَخَبَّطَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ تَعْدِيلَ الْمَوَازِينِ وَالْأَرْطَالِ وَالْمَكَايِيلِ، وَجَعَلَ عِيَارَهَا أَوْزَانَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَكَايِيلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ عِنْدَ الشَّارِعِ حُكْمًا بَيْنَ النَّاسِ يُحْمَلُونَ عَلَيْهَا إذَا تَدَاعَوْا، فَادَّعَى بَعْضُهُمْ وَزْنًا أَوْفَى، أَوْ مِكْيَالًا أَكْبَرَ، وَادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ الَّذِي لَزِمَهُ هُوَ الْأَصْغَرُ مِنْهُمَا دُونَ الْأَكْبَرِ، قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ خَارِجٌ عَمَّا عَلَيْهِ أَقَاوِيلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَكِيلَةٍ أَوْ بِغَيْرِهِ أَوْ بِرِطْلٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَكِيلَةِ وَالرِّطْلِ، فَإِنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى عُرْفِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يُعْطَى بِرِطْلِ مَكَّةَ وَلَا بِمِكْيَالِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَفَ فِي عَشَرَةِ مَكَايِيلِ قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا مَكِيلَةً وَاحِدَةً مَعْرُوفَةً، فَإِنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَكَايِيلَ مُخْتَلِفَةً فَأَسْلَفَهُ فِي عَشَرَةِ مَكَايِيلَ وَلَمْ يَصِفْ الْكَيْلَ بِصِفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ وَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْحَدِيثُ فِي نَوْعِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة أبي داود هكذا (رواه الفريابي وأبو أحمد عن سفيان ووافقهما في المتن، وقال أبو أحمد عن ابن عباس – كان عمر – ورواه  الوليد بن مسلم عن حنظلة فقال: "وزن المدينة ومكيال مكة" واختلف في المد في حديث مالك بن دينار عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا) قال العلامة شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" وفي "نيل الأوطار": والحديث فيه دليل على أنه يرجع عند الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة، وعند الاختلاف في الوزن إلى وزن مكة، فقال ابن حزم: بحثت غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه فوجدت كلا يقول: إن دينار الذهب بمكة ووزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة فالرطل مائة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي، وفي رواية لأبي داود: عن ابن عمر وفي رواية: وزن المدينة ومكيال مكة انتهى. قلت: حديث طاوس عن ابن عمر سكت عنه المؤلف والمنذري وأخرجه أيضا البزار وصححه ابن حبان والدارقطني إلى قوله: قال المحدثون: طريق سفيان الثوري عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر هي أصح الروايات وروى الدارقطني عن طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عباس ورواه من طريق أبي نعيم عن حنظلة عن سالم بدل طاوس عن ابن عباس قال الدارقطني: أخطأ أبو أحمد فيه (ط).

 

ج / 10 ص -156-    مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دُونَ مَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ فِي بِيَاعَاتِهِمْ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: "وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ" يُرِيدُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ خُصُوصًا دُونَ سَائِرِ الْأَوْزَانِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَزْنَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ فِي النُّقُودِ دُونَ أَهْلِ مَكَّةَ وَهِيَ دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ الْمُعَدَّلَةِ مِنْهَا الْعَشَرَةُ بِسَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، فَإِذَا مَلَكَ رَجُلٌ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مُخْتَلِفَةُ الْأَوْزَانِ فِي بَعْضِ الْبَلَدَانِ وَالْأَمَاكِنِ فَمِنْهَا الْبَغْلِيُّ، وَمِنْهَا الطَّبَرِيُّ، وَمِنْهَا الْخُوَارِزْمِيُّ، وَأَنْوَاعٌ غَيْرُهَا، فَالْبَغْلِيُّ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ وَهُوَ نَقْدُ أَهْلِ مَكَّةَ وَوَزْنُهُمْ الْجَائِزُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَعَامَلُونَ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَقْتَ مَقْدِمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ "إنْ شِئْت أَعْدَدْتهَا لَهُمْ " فَأَرْشَدَهُمْ صلى الله عليه وسلم إلَى الْوَزْنِ فِيهَا وَجَعَلَ الْعِيَارَ وَزْنَ أَهْلِ مَكَّةَ دُونَ مَا يَتَفَاوَتُ وَزْنُهُ فِيهَا فِي سَائِرِ الْبَلَدَانِ.
وَأَطَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَحْقِيقِ الدَّرَاهِمِ وَضَرْبِهَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" فَإِنَّمَا هُوَ الصَّاعُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَاتِ، وَيَجِبُ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَهُ، وَتَكُونُ بِقَدْرِ النَّفَقَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِعْيَارٌ، وَلِلنَّاسِ صِيعَانٌ مُخْتَلِفَةٌ فَصَاعُ أَهْلِ الْحِجَازِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَصَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيمَا يَذْكُرُهُ زُعَمَاءُ الشِّيعَةِ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ وَيَنْسُبُونَهُ إلَى جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَصَاعُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَهُوَ صَاعُ الْحَجَّاجِ الَّذِي سَعَّرَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَلَمَّا وَلِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ الْعِرَاقَ ضَاعَفَ الصَّاعَ فَبَلَغَ بِهِ سِتَّةَ عَشْرَ رِطْلًا فَإِذَا جَاءَ بَابُ الْمُعَامَلَاتِ حَمَلْنَا الْعِرَاقِيَّ عَلَى الصَّاعِ الْمُتَعَارَفِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ بِلَادِهِ وَالْحِجَازِيَّ عَلَى الصَّاعِ الْمَعْرُوفِ بِبِلَادِهِ الْحِجَازِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى عُرْفِ أَهْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ وَأَحْكَامُهَا فَهُوَ صَاعُ الْمَدِينَةِ1 فَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَتَوْجِيهُهُ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ رحمه الله. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَعْنٍ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ، إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ التَّسَاوِيَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْكَيْلِ بِمِكْيَالِ الْمَدِينَةِ وَلَا التَّسَاوِي بِمِيزَانِ مَكَّةَ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، بَلْ أَيُّ كَيْلٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَعَرَفَ التَّسَاوِي جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِيزَانُ مَكَّةَ أَوْ كَيْلُ الْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ اعْتِبَارَ مَكَايِيلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَوَازِينِ أَهْلِ مَكَّةَ لَا تُرَاعَى. وَقَالَ الشَّارِحُونَ لِلْمُهَذَّبِ وَالْأَصْحَابُ: إنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُكَالُ إلَّا بِكَيْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يُوزَنُ بِوَزْنِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا إلَى هَذَيْنِ الْبَلَدَيْنِ، فَكُلُّ مَطْعُومٍ كَانَ أَصْلُهُ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَيْلَ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَاللُّوبْيَةِ وَالْبَاقِلَا، قَالَهُمَا صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَاعْتِبَارُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والعبارة بهذا ينقصها شيء من الترابط والنسق المفيد، ويمكن تقويمها هكذا "فإذا جاءت الشريعة وأحكامها تقرر لكل بلد صاعه المتعارف فيه فهو صاع المدينة في الحكم فهذا هو معنى الحديث الخ".

 

ج / 10 ص -157-    الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ بِالْكَيْلِ، وَمَا كَانَ أَصْلُهُ بِالْحِجَازِ الْوَزْنَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، فَاعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ بِالْوَزْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ مِنْ الْأُمِّ: وَأَصْلُ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ بِالْحِجَازِ، فَكُلُّ مَا وُزِنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْلُهُ الْوَزْنُ وَكُلُّ مَا كِيلَ فَأَصْلُهُ الْكَيْلُ وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْهُ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَأَنَّهُ إنْ أَحْدَثَ النَّاسُ خِلَافَ ذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَاسْتَدَلَّ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُمَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ مَا كَانَ مَكِيلًا مِنْهُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ بِتَفَاضُلِ الْكَيْلِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ يُوزَنُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمَا بَلْ الْحِجَازُ كُلُّهُ كَذَلِكَ وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ ذَلِكَ إطْلَاقًا. وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَإِسْمَاعِيلُ الْخُضَرِيُّ شَارِحُ الْمُهَذَّبِ مُبَيَّنًا فَقَالَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَمَخَالِيفَهُمَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ تَبَعًا لِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيِّ وَغَيْرِهِمَا: وَذَكَرَ مِكْيَالَ أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ وَمِيزَانَ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ بِمَا ذُكِرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي الْوَجْهَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمَا أَبُو دَاوُد فِي الْمَتْنِ فِي رِوَايَةِ "وَزْنُ مَكَّةَ وَمِكْيَالُ الْمَدِينَةِ" وَفِي رِوَايَةِ "وَزْنُ الْمَدِينَةِ وَمِكْيَالُ مَكَّةَ" وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ فِي الْبَلَدَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَتْ تُكَالُ كَانَتْ الْعَادَةُ فِيهِمَا الْكَيْلُ، وَكَذَلِكَ الْوَزْنُ وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا اللُّغَةِ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَأَوْلَى الْعَادَاتِ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَوْلَى. فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ "الْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ" َاعْتِبَارِ الْوَزْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَعْتَبِرَ الِاكْتِيَالَ بِمِكْيَالِ الْحِجَازِ بَلْ إنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّسَاوِي بِهِ، وَمَتَى تَسَاوَى طَعَامَانِ فِي مِكْيَالٍ، أَيُّ مِكْيَالٍ كَانَ، فَعُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي مِكْيَالِ الْحِجَازِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كِيلَا بِهِ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوَى مَوْزُونَانِ فِي أَيِّ مِيزَانٍ كَانَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَوْ وُزِنَا بِمِيزَانِ الْحِجَازِ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فَهَذَا وَجْهُ تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ نَفْيَ فَسَادِ الْمَكِيلِ فِي الْوَزْنِ أَوْ الْمَوْزُونِ فِي الْكَيْلِ، وَإِنْ أَرَدْتُ دَفْعَ السُّؤَالِ مَرَّةً فَاجْعَلْ قَوْلَهُ بِكَيْلِ الْحِجَازِ وَوَزْنِهِ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: وَيُكَالُ وَيُوزَنُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي الْمَذْكُورُ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونِ فِيمَا هُوَ مَكِيلٌ بِالْحِجَازِ أَوْ مَوْزُونٌ بِهِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ مَكِيلًا بِالْحِجَازِ وَلَا مَوْزُونًا بِهِ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ، فَهَذَا مَحْمَلٌ سَائِغٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بِكَيْلِ الْحِجَازِ وَوَزْنِهِ فِيمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُطْلَقًا لَمْ يَحْسُنْ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ بِالْحِجَازِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
وَجَوَّزَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي حَمْلِ الْحَدِيثِ احْتِمَالَيْنِ أحدهما: مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، والثاني: أَنَّهُ لَعَلَّ اتِّحَادَ الْمَكَايِيلِ كَانَ يَعُمُّ فِي الْمَدِينَةِ، وَاتِّحَادَ الْمَوَازِينِ كَانَ يَعُمُّ بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَادَةِ.

 

ج / 10 ص -158-    قلت: وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُمْكِنٌ، وَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ أَقْرَبُ إلَى تَأْسِيسِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا انْحِصَارُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَلَا يَلْزَمُ بَلْ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ انْدِرَاجُهَا فِيهِ كُلُّ مَا اُعْتُبِرَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ فَيُعْتَبَرُ بِهِ فَيَصِحُّ اسْتِدْلَالُ الشَّيْخِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِعَادَةِ الْحِجَازِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمَكِيلِ بِالْكَيْلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْوَزْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُهُ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالسِّرُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا تُجَّارًا لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانُوا أَصْحَابَ النَّخِيلِ وَالْكَيْلِ، وَقَوْلُ الشَّيْخِ بِكَيْلِ الْحِجَازِ وَوَزْنِهِ، أَيْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ. وَأَمَّا الْعَادَةُ الْحَادِثَةُ بِالْحِجَازِ فِي غَيْرِ زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا اتِّفَاقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ اتَّحَدَ مِكْيَالٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي عَصْرِ الشَّارِعِ وَكَانَ يَجْرِي التَّمَاثُلُ بِهِ فَالْوَجْهُ لِلْقَطْعِ بِجَوَازِ رِعَايَةِ التَّمَاثُلِ بِهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَعَهَّدْنَا فِي الْحَدِيثِ إلَّا بِالْكَيْلِ الْمُطْلَقِ فِيمَا يُكَالُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مِكْيَالًا.
قلت: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَا قَدَّمْتُهُ لَكَ مِنْ أَنَّ التَّسَاوِيَ فِي مِكْيَالٍ دَالٌّ عَلَى التَّسَاوِي فِي كُلِّ مِكْيَالٍ تَنَبَّهْت لِذَلِكَ. فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَعْيَانَ الْمَكَايِيلِ، فَإِنَّا إذَا كِلْنَا صَاعًا بِصَاعِ الْمَدِينَةِ وَعَلِمْنَا بِأَنَّ الصَّاعَ يَسَعُ قَدَحَيْنِ بِالْكَيْلِ الْمِصْرِيِّ عَلِمْنَا أَنَّ الصَّاعَ يُسَاوِي الْقَدَحَيْنِ. هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَزَنَّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ فِي مِيزَانِ بَعْضِ الْبِلَادِ وَتَسَاوَيَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ إذَا كَانَتْ كُلُّهَا صَحِيحَةً.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ أَئِمَّتُنَا عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ إذَا بِيعَتْ بِالدَّرَاهِمِ وَعُدِّلَتَا بِالتَّسَاوِي فِي كِفَّتَيْ مِيزَانٍ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي مَا تَحْوِيهِ كُلُّ كِفَّةٍ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي مِكْيَالٍ يَجْرِي الْعُرْفُ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُعْهَدْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ بِيعَ مِلْءُ قَصْعَةٍ بِمِلْئِهَا وَمَا جَرَى الْعُرْفُ بِالْكَيْلِ بِأَمْثَالِهَا، فَقَدْ حَكَى شَيْخِي تَرَدُّدًا عَنْ الْقَفَّالِ وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا الْجَوَازُ قلت: هَذَا الَّذِي رَجَّحَهُ الْإِمَامُ هُوَ الرَّاجِحُ عَنْ الْأَصْحَابِ وَجَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَكَذَلِكَ يُكَالُ بِالدَّلْوِ وَالدَّوْرَقِ وَالْجَرَّةِ وَالْجَفْنَةِ وَالزِّمْبِيلِ وَبِحَفْرِ حُفْرَةٍ تُكَالُ فِيهَا. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمَحِلُّ خِلَافِ الْقَفَّالِ فِي قَصْعَةٍ لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِالْكَيْلِ بِهَا، أَمَّا قَصْعَةٌ يُعْتَادُ الْكَيْلُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ الشَّارِعِ فَيَجُوزُ جَزْمًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَفَّالِ وَابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْوَسِيطِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ: وَالْوَزْنُ بِالطَّيَّارِ وَزْنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لِسَانٌ. وَالِاسْتِوَاءُ يَبِينُ فِيهِ بِتَسَاوِي فَرْعَيْ الْكِفَّتَيْنِ. وَالْوَزْنُ بالقرطستون1 وَزْنٌ قَالَا: وَقَدْ يَتَأَتَّى الْوَزْنُ بِالْمَاءِ بِأَنْ يُوضَعَ الشَّيْءُ فِي ظَرْفٍ وَيُكْفَى عَلَى الْمَاءِ وَيُنْظَرُ إلَى مِقْدَارِ غَوْصِهِ. وَلَكِنَّهُ لَيْسَ وَزْنًا شَرْعِيًّا وَلَا عُرْفِيًّا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله من موازين عصره.

 

ج / 10 ص -159-    عَلَيْهِ فِي تَمَاثُلِ الرِّبَوِيَّاتِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: قَدْ عَوَّلَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ فِي أَدَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَفِي الزَّكَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءِ بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ. قَالَ: وَلَكِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْوَزْنِ بِالطَّيَّارِ لِعَدَمِ اللِّسَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً، فَإِنَّمَا تَنْفَعُ فِيمَا سِوَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَاوأما: السِّتَّةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ حَدِيثُ عُبَادَةَ، وَالتَّنْصِيصُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مَوْزُونَانِ، وَالْأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ مَكِيلَةٌ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُ فِي الْمِلْحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْمُخَالِفُ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه نَقَلَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا مَكِيلَةٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ فِيهَا وَأَمَّا مَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِعَادَةِ النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَادَةِ الْحِجَازِ، وَلَا بِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَوْ أَحْدَثَ النَّاسُ فِيهَا عَادَةً غَيْرَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
فرع: عَدَّ الْمَاوَرْدِيُّ أَشْيَاءَ ادَّعَى فِيهَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم مَكِيلَةً منها: الْحُبُوبُ وَالْأَدْهَانُ وَالْأَلْبَانُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَمَا ادَّعَاهُ سَالِمٌ لَهُ إلَّا فِي الْأَدْهَانِ فَيَسْتَغْرِقُ حُكْمَهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ عَرَضَ لِي هَاهُنَا بَحْثٌ مِنْ قَوْلِ الْخَطَّابِيِّ، أَنَّ الطَّبَرِيَّ الَّذِي هُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ هُوَ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَقلت: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهِ، وَالدِّرْهَمُ الْيَوْمَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ" يَنْفِي اعْتِبَارَ غَيْرِهِ مِمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمِمَّا حَدَثَ بَعْدُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الدِّرْهَمِ الْمُعَدَّلِ بَيْنَ وَزْنِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِ، الَّذِي ضُرِبَ فِي زَمَانِ عَبْدِ الْمَلِكِ؟.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ، النِّصَابُ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْيَوْمَ1 مِائَةً وَثَلَاثَةً وَثُلُثَا وَوَاجِبُهَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، وَإِنَّمَا بِوَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ مِائَتَانِ وَالْمُخْرَجُ خَمْسَةٌ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الدَّرَاهِمُ الْمَغْشُوشَةُ الْيَوْمَ كُلُّ مِائَتَيْنِ مِنْهَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ لِأَنَّ فِيهَا مِنْ الْخَالِصِ هَذَا الْمِقْدَارَ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ إنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالْبَغْلِيَّةِ وَالطَّبَرِيَّةِ نِصْفَيْنِ مِائَةٌ بِغَلِيَّةٍ وَمِائَةٌ طَبَرِيَّةٌ، فَكَانَ فِي مِائَتَيْنِ الزَّكَاةُ، لَكِنَّا نَقُولُ مُجَرَّدُ الْمُعَامَلَةِ لَا يَكْفِي إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَارَفًا فِي مَكَّةَ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ وَزْنَهَا عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى أَنَّ الْخَطَّابِيَّ قَدَّمَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ وَزْنَ مَكَّةَ مُوَافِقٌ لِلْوَزْنِ الَّذِي هُوَ الْيَوْمَ.
فرع: فِيمَا هُوَ مَكِيلٌ وَمَا هُوَ مَوْزُونٌ. الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مَوْزُونَانِ بِالنَّصِّ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ مَكِيلَانِ بِالنَّصِّ، وَالْمِلْحُ مَكِيلٌ بِالنَّصِّ، إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ اسْتَثْنَوْا مَا إذَا كَانَ قِطَعًا كِبَارًا فَإِنَّهُ مَوْزُونٌ، وَكُلُّ مَا هُوَ فِي جُرْمِ التَّمْرِ وَدُونِهِ فَهُوَ مَكِيلٌ كَاللَّوْزِ وَالْعُنَّابِ، وَكُلُّ مَا فَوْقَهُ مَوْزُونٌ قَالَهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ،  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي عصر المؤلف وهو القرن الثامن الهجري.

 

ج / 10 ص -160-    وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا قَبْلَ ذَلِكَ بِسَطْرٍ قَالَ: إنَّ دُهْنَ اللَّوْزِ مَوْزُونٌ لِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ أَصْلٍ مَوْزُونٍ، وَالْأُرْزُ مَكِيلٌ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ وَالسِّمْسِمُ، قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
فرع: قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ رحمه الله: وَصَاحِبُ الْبَحْرِ وَغَيْرُهُمَا: إذَا كَانَتْ صِيغَةُ بِتَسَاوِي طَعَامًا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ1 وَلَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَاعْرِفْ مِنْ حَالِهِ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهِ بِالْكَيْلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَزْنًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أحدهما: لَا، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ النَّصِّ وَتَغْيِيرِ الْعُرْفِ والثاني: يَجُوزُ لِكَوْنِ الْوَزْنِ فِيهِ ثَابِتًا عَنْ الْكَيْلِ لِلْعِلْمِ بِمُوَافَقَتِهِ كَمَا كَانَ مِكْيَالُ الْعِرَاقِ ثَابِتًا عَنْ مِكْيَالِ الْحِجَازِ لِمُوَافَقَتِهِ فِي الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمِكْيَالَيْنِ، وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ التَّفَاضُلُ، وَالْوَهْمُ كَالْحَقِيقَةِ، ثُمَّ نَقَلَ مَعَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَزْنًا، سَوَاءٌ تَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ أَوْ تَسَاوَيَا، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ يُبَاعُ فِيهَا الطَّعَامُ وَزْنًا، فَبَاعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مُوَازَنَةً وَجْهَيْنِ وَقَالَ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنَّهُ تَوَهَّمَ جَوَازَ بَيْعِهَا وَزْنًا، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْكَيْلِ عَلَى وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إلَّا مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ بِالْحِجَازِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ نَظَرْتُ - فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ - اُعْتُبِرَ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْوَزْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ فِي الْحِجَازِ، فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إلَّا كَيْلًا وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إلَّا مَوْزُونًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ بِالْحِجَازِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحِجَازِ أَصْلٌ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ اُعْتُبِرَ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ والثاني: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ".
الشرح: قَوْلُهُ: "وَإِنْ كَانَ" أَيْ الَّذِي يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ الَّذِي صَدَرَ الْفَصْلُ بِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَبِيعَ الْمَطْعُومَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ لَا، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُهِدَ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ أَوْ لَا فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ الْمَعْهُودُ بِالْحِجَازِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْكَيْلُ فِي الْمَكِيلِ وَالْوَزْنُ فِي الْمَوْزُونِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْقِطْعَةِ مِنْ الْفَصْلِ، وَإِنَّمَا فَرَضْتُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي ذَلِكَ لِيَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا قَوْلًا وَاحِدًا قَدِيمًا وَجَدِيدًا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ2 الَّذِي فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفَرَّعَهُ عَلَى الْجَدِيدِ فَأَفَادَ كَلَامُهُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ التَّصْوِيرِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ يُونُسَ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ عَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل العبارة: إذا كانت صفقة تساوي طعاما. (ط).
2 كذا بالأصل وحررته فقلت: فإنه ذكر القسمين الأخيرين اللذين فرق فيهما بين ما له أصل في الحجاز وما ليس له أو القسمين اللذين فرق فيه ما بينما يكال ويوزن وليس كذلك فالأول الاعتبار فيه بمكيال وميزان مكة والثاني فسيأتي كلامه الذي فيما لا يكال الخ والله أعلم. (ط).

 

ج / 10 ص -161-    الْمَشْهُورِ فِي الْكُتُبِ أَنَّ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فِي الْحِجَازِ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فِي الْقَدِيمِ وَيَجْرِي فِي الْجَدِيدِ لَيْسَ كَمَا قَالَ، وَلَمْ يُحَرِّرْ الْعِبَارَةَ فَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ اشْتِرَاطُ الْحِجَازِ فِي ذَلِكَ فِي اعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَافْهَمْهُ.
إذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَالْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ، إمَّا لِأَنَّهُ حَدَثَ بِالْحِجَازِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ فِيمَا عَدَاهَا مِنْ الْبِلَادِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ كَيْلُهُ أَوْ لَا، وَلَا يَتَأَتَّى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِنَا أَنَّهُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ هَذَا بِالْإِطْلَاقِ إذَا صَحَّ وَاحِدٌ فَقَطْ، فَقَدْ صَحَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَقَدْ جَزَمَ الْمُصَنِّفُ وَأَتْبَاعُهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيهِ الْوَزْنُ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتُوا بِلَفْظِ الْإِمْكَانِ أَوْ عَدَمِهِ بَلْ جَعَلُوا مَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ يُبَاعُ وَزْنًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ جِمَاعِ مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَفُ وَمَا لَا يَجُوزُ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يُكَالَ مَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ حَتَّى يَكُونَ الْمِكْيَالُ يُرَى مُمْتَلِئًا وَبَطْنُهُ غَيْرُ مُمْتَلِئٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمِكْيَالِ مَعْنًى، وَضَبَطَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى جُرْمِ التَّمْرِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: الَّذِي سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ ذَلِكَ عَنْ الْقَفَّالِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ مَا يَتَجَافَى وَمَا لَا يَتَجَافَى، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَائِلُونَ بِالْوَزْنِ فِيهَا بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي كَلَامِهِمْ، فَصَحَّ عَدُّهُمْ فِيمَنْ يَقُولُ بِالْوَزْنِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فَمِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ، لِأَنَّهُ رِبَوِيٌّ قَطْعًا لِاجْتِمَاعِ الطَّعَامِ وَالْوَزْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْحِجَازِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَ التَّقْدِيرَ فِي الرِّبَا، وَلَا بُدَّ مِنْ مِعْيَارٍ تُعْرَفُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا مِعْيَارَ إلَّا الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ، وَالْكَيْلُ مُمْتَنِعٌ لِمَا فُرِضَ فَتَعَيَّنَ الْوَزْنُ فَهَذَا بَسْطُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: "لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ" وَهُمَا انْحِصَارُ الْمِعْيَارِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَامْتِنَاعُ الْكَيْلِ، فَإِنْ عُدِمَ إمْكَانُ غَيْرِ الْوَزْنِ إمَّا لَتَعَذُّرِهِ كَالْكَيْلِ وَإِمَّا لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، فَهَذِهِ الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ "غَيْرُهُ" وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مِعْيَارٍ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ صَدْرِ كَلَامِهِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ، فَهَذَا التَّعْلِيلُ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا عَلَى عِبَارَةِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَأَتْبَاعِهِ فَقَدْ لَا نُسَلِّمُ لَهُمْ امْتِنَاعَ الْكَيْلِ فِيمَا زَادَ عَلَى التَّمْرِ بِقَلِيلٍ، فَلِذَلِكَ عَلَّلَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ الْكَيْلَ بِالْحِجَازِ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ التَّمْرِ، وَبِأَنَّهُ يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ وَيَكْثُرُ التَّفَاوُتُ وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا جُزْأَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً بَلْ جَمَاعَاتٍ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الْخِلَافَ فِيمَا لَا أَصْلَ لَهُ بِالْحِجَازِ مُطْلَقًا، وَإِطْلَاقُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: السَّمْنُ وَالزَّبِيبُ وَالْعَسَلُ وَالسُّكَّرُ كُلُّهَا وَزْنًا عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَسَيَأْتِي فِي بَعْضِهَا خِلَافٌ نَذْكُرُهُ عِنْدَ تَعَرُّضِ الْمُصَنِّفِ لِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

ج / 10 ص -162-    فرع: هُوَ كَالْقَاعِدَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ فِي بَابِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا: أَصْلُ السَّلَفِ فِيمَا يَتَبَايَعُهُ النَّاسُ أَصْلَانِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ يَصْغُرُ وَتَسْتَوِي خِلْقَتُهُ فَيَحْتَمِلُهُ الْمِكْيَالُ وَلَا يَكُونُ إذَا كَيْلٌ تَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ، فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا بَائِنَةٌ فِي الْمِكْيَالِ عَرِيضَةُ الْأَسْفَلِ دَقِيقَةُ الرَّأْسِ، أَوْ عَرِيضَةُ الْأَسْفَلِ وَالرَّأْسِ دَقِيقَةُ الْوَسَطِ، فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ إلَى جَنْبِهَا مَنَعَهُ عَرْضُ أَسْفَلِهَا مِنْ أَنْ يَلْصَقَ بِهَا، وَوَقَعَ فِي الْمِكْيَالِ وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَجَافٍ، ثُمَّ كَانَتْ الطَّبَقَةُ الَّتِي فَوْقَهُ مِنْهُ. هَكَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَالَ. وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا تَرَكُوا كَيْلَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّفَ فِيهِ كَيْلًا، وَفِي شَبِيهٍ بِهَذَا الْمَعْنَى مَا عَظُمَ وَاشْتَدَّ فَصَارَ يَقَعُ فِي الْمِكْيَالِ مِنْهُ الشَّيْءُ مُعْتَرِضًا وَمَا بَيْنَ الْقَائِمِ تَحْتَهُ مُتَجَافٍ فَيَسُدُّ الْمُعْتَرِضُ الَّذِي فَوْقَهُ الْفُرْجَةُ الَّتِي تَحْتَهُ، وَيَقَعُ عَلَيْهِ فَوْقَهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ مِنْ الْمِكْيَالِ شَيْءٌ فَارِغٌ بَيْنَ الْفَرَاغِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا كَانَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَفُ فِي هَذَا كَيْلًا، وَلَوْ تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ سَلَفًا، وَمَا صَغُرَ وَكَانَ يَكُونُ فِي الْمِكْيَالِ فَيَمْتَلِئُ الْمِكْيَالُ بِهِ وَلَا يَتَجَافَى التَّجَافِيَ الْبَيِّنَ مِثْلَ التَّمْرِ، وَأَصْغَرُ مِنْهُ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ خِلْقَتُهُ اخْتِلَافًا بَائِنًا مِثْلُ السِّمْسِمِ وَمَا أَشْبَهَهُ أُسْلِمُ فِيهِ كَيْلًا، وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ كَيْلًا فَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِيهِ وَزْنًا، انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهُوَ ضَابِطٌ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَفِيهِ شَاهِدٌ لِمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَيُمْكِنُ تَنْزِيلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَثَّلَ الرُّويَانِيُّ مَا يَتَجَافَى بِعُرُوقِ الشَّجَرِ وَقِطَعِ الْخَشَبِ مِمَّا يُتَدَاوَى بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إنَّ السَّعْمَقَ يُبَاعُ وَزْنًا قَدْ يَكُونُ فُتَاتًا وَيَكُونُ قِطَعًا، فَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ كَيْلُهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُمْكِنُ وَزْنُهُ، وَهَكَذَا صَوَّرَ الْإِمَامُ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ جَمِيعًا فَبِمَاذَا تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ؟ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَالِكِي طَرِيقَتِهِمْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَشْهُورٌ فِي طَرِيقَةِ الْعِرَاقِ، صَحَّحَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، وَجَزَمَ بِهِ سَلَّامُ الْمَقْدِسِيُّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِمَا حَكَمَتْ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ حَلَّ، وَمَا اسْتَخْبَثَتْهُ حَرُمَ، وَمَا لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ رُدَّ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَرْجِعَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ أَنْ تَرُدَّ إلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ بِهَا. وَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ فِي اسْتِدْلَالِهِ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْحِجَازِ، أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَرْجِعَ إلَى الْحِجَازِ وَلَيْسَ لَهُ بِهَا أَصْلٌ فَنَعْتَبِرُ مَا يُشْبِهُهُ مُحَافَظَةً عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ بِبَلَدِهِ لَفَاتَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْعَادَةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ الْأَشْبَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّهُ الْأَفْقَهُ، وَاقْتَضَى إيرَادُ الْجُرْجَانِيِّ تَرْجِيحَهُ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَعَلَ مَحِلَّ الْخِلَافِ فِيمَا لَا عَادَةَ فِيهِ، أَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ مُسْتَوِيَةً فِيهِ. قَالَ صَاحِبُ الْوَافِي: وَمَنْ قَالَ بِالرَّدِّ إلَى الْعُرْفِ لَا إلَى أَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ لَعَلَّهُ يَقْرِنُ بَيْنَ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَسْأَلَتِنَا، بِأَنَّ الْبَعِيدَ فِي اعْتِبَارِ الْأَشْبَاهِ مَعْمُولٌ بِهِ فِي جَزَاءِ

 

ج / 10 ص -163-    الصَّيْدِ، بِدَلِيلِ إيجَابِ الشَّاةِ فِي قَتْلِ الْحَمَامِ، وَمَا عَبَّ وَهَدَرَ فَهُوَ مَرْدُودٌ إلَى أَدْنَى شَبَهٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْمَعْمُولَ فِيهِ أَصْلًا هُوَ الْعُرْفُ لَا مَا يُشْبِهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمْرَ مَكِيلٌ وَإِنْ كَانَ إلَى الْوَزْنِ أَقْرَبُ؟ فَاتُّبِعَ فِيهِ الْعُرْفُ، فَكَذَلِكَ فِيمَا لَهُ شَبَهٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُصَنَّفِينَ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُصَنِّفُ وَأَتْبَاعُهُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ قَالُوا: بَلَدُ الْبَيْعِ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ: مَعَ هَذَا فَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِالْعُرْفِ فَالْغَالِبُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عُرْفُ أَهْلِ الْوَقْتِ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ، وَجَزَمَ بِهِ، فَإِنْ اسْتَوَتْ أَوْ فُقِدَتْ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ: عُرْفُ الْبِلَادِ، قَالُوا: فَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَكَانَ يُكَالُ فِي بَعْضِهَا وَيُوزَنُ فِي بَعْضِهَا حُكِمَ بِالْأَكْثَرِ، زَادَ الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ إلَى الْعُرْفِ لِلِاخْتِلَافِ - وَلَا أَدْرِي أَيُّ الْعُرْفَيْنِ أَغْلَبُ - يُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ ذَكَرَ أَيْضًا بَحْثًا لَكِنْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.
وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَقَالَ فِيمَا عَلَّقَ عَنْهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ: غَالِبُ عَادَةِ النَّاسِ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ وَأَطْلَقَ. وَفِيمَا عَلَّقَ عَنْهُ سُلَيْمٌ قَالَ: فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْمَعْنَى، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَبْقَى اخْتِلَافٌ إلَّا بَيْنَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَكَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فَيَعُدَّانِ كَذَلِكَ وَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْبَحْرِ غَيْرَ مَنْسُوبَيْنِ فَتَحَصَّلْنَا مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَلَيْسَ يُوجَدُ فِي مُعْظَمِ كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْكُوا فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا وَجْهَيْنِ، وَلَا يَكْفِي مَنْ نَقَّحَ الْمَسْأَلَةَ وَمَيَّزَ أَقْسَامَهَا، وَتَكَلَّمَ فِي كُلِّ قِسْمٍ وَحْدَهُ غَيْرُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله: فِيمَا أَعْلَمُ الْآنَ. وَيُوجَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَوْجُهٌ أُخَرُ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْفُورَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ رَابِعُهَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَيْلِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مَكِيلٌ بَلْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ مَكِيلٌ وَخَامِسُهَا: الْوَزْنُ لِأَنَّهُ أَخُصُّ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهَ التَّخْيِيرِ عَنْ نَقْلِ شَيْخِهِ وَاسْتَبْعَدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ وَسَابِعُهَا: إنْ كَانَ مُتَخَرَّجًا مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومِ التَّقْدِيرِ سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ ذَلِكَ الْأَصْلِ، فَعَلَى هَذَا دُهْنُ السِّمْسِمِ مَكِيلٌ كَأَصْلِهِ، وَدُهْنُ اللَّوْزِ مَوْزُونٌ وَالْخَلُّ مَكِيلٌ، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْعَصِيرُ مَكِيلٌ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: لِأَنَّ الزَّبِيبَ مَكِيلٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَحَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ، وَالصَّيْدَلَانِيِّ أَيْضًا، وَجَعَلُوا مَحِلَّ الْخِلَافِ فِيمَا لَيْسَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومِ التَّقْدِيرِ. وَالرَّافِعِيُّ قَالَ: إنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مَعْلُومُ التَّقْدِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْصِيصُ الْمَاوَرْدِيُّ مَحِلَّ الْخِلَافِ بِمَا لَا عَادَةَ فِيهِ، أَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ فِيهِ مُسْتَوِيَةً. فَأَمَّا صَاحِبُ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ سَلَكَ طَرِيقَةً أُخْرَى جَعَلَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ وَجْهُ: اعْتِبَارِ الشَّبَهِ وَوَجْهُ: اعْتِبَارِ غَالِبِ الْبَلَدَانِ كَمَا فَعَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ ثُمَّ قَالَ إنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَكَانَ شَبَهُهُ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ سَوَاءٌ، فَقِيلَ:

 

ج / 10 ص -164-    الْكَيْلُ وَقِيلَ الْوَزْنُ وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ وإن قلنا: بِالثَّانِي وَعَادَةُ النَّاسِ سَوَاءٌ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَالْوَزْنُ، وَقِيلَ: الْكَيْلُ وَقِيلَ الْكَيْلُ يَتَخَيَّرُ. وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهَيْ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ أَوْ بِعَادَةِ بَلَدِ الْبَيْعِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهِيَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي غَيْرُ مَا فِي الْحَاوِي. وَعَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ أَنَّهُ حَكَى وَجْهَيْنِ عَلَى قَوْلِنَا بِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ، فَكَانَ تَشْبِيهُهُمَا مَعًا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ وَجْهَانِ: وَهُوَ بَعْضُ مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ. وَبَحَثَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ حَكَى الْوَجْهَ الَّذِي اسْتَبْعَدَهُ عَنْ شَيْخِهِ فَقَالَ: وَلَوْ مَنَعَ مَانِعٌ أَصْلَ الْبَيْعِ لِاسْتِبْهَامِ طَرِيقِ التَّمَاثُلِ لَكَانَ أَقْرَبَ مِمَّا ذَكَرَهُ، يَعْنِي شَيْخَهُ.
قلت: وَلَا يَتَأَتَّى مَنْعُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ هَذَا مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ فَيُبَاعُ، إمَّا الْكَيْلُ وَإِمَّا الْوَزْنُ، وَلَيْسَ هَذَا كَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ حَيْثُ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ مُمْتَنِعٌ إلَّا بِشُرُوطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَهُمَا مَفْقُودَانِ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ هُمَا مُمْكِنَانِ، وَمَعَ الْمُرَجَّحِ مِنْ الْعَادَةِ أَوْ الشَّبَهِ أَوْ الْأَصْلِ لَا نُسَلِّمُ الِانْبِهَامَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ أَطْلَقُوا هَذَا الْخِلَافَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْجَوْرَيْ جَعَلَ مَحِلَّ الْخِلَافِ مَا كَالَهُ قَوْمٌ وَوَزَنَهُ آخَرُونَأما مَا اتَّفَقَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَهُوَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ، كَالسُّكَّرِ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى وَزْنِهِ.
قلت: إنَّمَا يَحْتَاجُ السُّكَّرُ إلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ مَدْقُوقًا، أَمَّا الْكِبَارُ فَفِي الضَّوَابِطِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَرَعٌ: مَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ لَا تَشْمَلُهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَابْنُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ. وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ يُكَالُ مَرَّةً وَيُوزَنُ أُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ - قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ
فرع: يُبَاعُ الْبَيْضُ بِالْبَيْضِ وَزْنًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قِشْرُهُ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِهِ قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي "الْأُمِّ " فِي بَابِ جِمَاعِ السَّلَفِ فِي الْوَزْنِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ تُسَلِّفَ فِي شَيْءٍ وَزْنًا وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ كَيْلًا، وَلَا فِي شَيْءٍ يُبَاعُ كَيْلًا وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا إذَا كَانَ لَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ، مِثْلُ الزَّيْتِ الَّذِي هُوَ ذَائِبٌ إنْ كَانَ يُبَاعُ فِي الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ وَزْنًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّفَ فِيهِ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ كَيْلًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّفَ فِيهِ وَزْنًا، وَمِثْلُ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْإِدَامِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ كَانَ يُبَاعُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْنَا: اللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الَّذِي أَدْرَكْنَا الْمُتَبَايِعَيْنِ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا قَلَّ مِنْهُ فَيُبَاعُ كَيْلًا، وَالْجُمْلَةُ لَا لِكَثْرَةٍ يُبَاعُ وَزْنًا وَدَلَالَةُ الْأَخْبَارِ عَلَى مِثْلِ مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَيْهِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه "لَا آكُلُ سَمْنًا مَا دَامَ السَّمْنُ يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ وَيُشْبِهُ الْأَوَاقِيَ أَنْ يَكُونَ كَيْلًا ". انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.

 

ج / 10 ص -165-    وَفِي قَوْلِهِ: وَيُشْبِهُ الْأَوَاقِي أَنْ يَكُونَ كَيْلًا نَظَرٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي هَذَا الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ: وَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ بِالزَّيْتِ فَقَرْقَرَ بَطْنُهُ فَقَالَ "قَرْقَرِ مَا شِئْتِ فَلَا يَزَالُ هَذَا دَأْبُكِ مَادَامَ السَّمْنُ يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ " وَجَعَلَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَصْلَ السَّمْنِ الْوَزْنُ وَاَلَّذِي أَفْهَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ السَّمْنَ لِقِلَّتِهِ صَارَ يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْوَزْنِ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ رضي الله عنه عَنْ أَكْلِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَوَاقِي اسْمًا لِلْمَكَايِيلِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْعُرْفُ الْآنَ، وَالشَّافِعِيُّ أَخْبَرَ بِعُرْفِ ذَلِكَ الزَّمَانِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَقُلْنَا بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ: إنَّهُ يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، وَجَوَّزْنَا بَيْعَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَظَرْتُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ كَالْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا - بَيْعَ وَزْنًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا كَيْلًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْأَعْيَانُ الْأَرْبَعَةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا وَهِيَ مَكِيلَةٌ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْأَصْلِ والثاني: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا وَزْنًا لِأَنَّ الْوَزْنَ أَحْصَرُ".
الشرح: قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ أَيْ الْمَبِيعُ الْمَطْعُومُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ أَيْ فِي الْعَادَةِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَأَتَّى كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ مِنْ التَّقْسِيمِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ هُنَا بَيْنَ مَا عَهِدَهُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَعَلَى كَلَامِ ابْنِ يُونُسَ فِيهِوأما: الْعُمْرَانِيُّ فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ السُّؤَالِ عَمَّا فِي الْمُهَذَّبِ مِنْ الْإِشْكَالِ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمَطْعُومَاتِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي شَرَعْنَا فِيهَا فِي الْمَطْعُومَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِيهِ بِكَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، وَاَلَّذِي قُلْتُهُ أَشْمَلُ وَأَحْسَنُ فَاعْلَمْهُ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَإِنَّ لَنَا خِلَافًا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَالْخِيَارِ وَالْجَوْزِ وَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي تُبَاعُ عَدَدًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الشَّرْقِ، وَإِلَّا فَالْجَوْزُ وَالْقِثَّاءُ فِي بِلَادِنَا يُبَاعَانِ وَزْنًا وَالْبَاذِنْجَانُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ كَذَلِكَ ضَابِطُ مَا يُطْلَبُ فِيهِ مَا لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ الْعَامُ بِتَقْدِيرِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا يَتَّفِقُ فِي بَعْضٍ عَلَى خِلَافِ الْعُمُومِ فالقديم لَا يَجْرِي الرِّبَا فِيهِ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ وَهُوَ جُزْءُ الْعِلَّةِ فِي القديم فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَدَدًا وَجُزَافًا وَمُتَفَاضِلًا، وَلَا تَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وإن قلنا: بِقَوْلِهِ الجديد فَلَهُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بَعْدَ هَذَا بِفَصْلَيْنِ فِيمَا لَا يُدَّخَرُ مِنْ الْفَوَاكِهِ، وَيَذْكُرُهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجْهَيْنِ فِيمَا يُدَّخَرُ بَعْدَ تَجْفِيفِهِ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبَةٍ بِرُطَبٍ، وَبَعْدَ الْجَفَافِ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِعْيَارٌ فِي الشَّرْعِ وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لَا تَأْتِي، الْمَسْأَلَةُ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَهُوَ الَّذِي نَسَبَهُ بَعْضٌ إلَى ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ سُرَيْجٍ فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ كَالْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالسَّفَرْجَلُ الْكِبَارُ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ: وَالْفُجْلُ وَالسَّلْجَم وَالْجَزَرُ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ،

 

ج / 10 ص -166-    وَمَا أَشْبَهَهُ بِيعَ وَزْنًا، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَالْمُصَنِّفُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ كَيْلُهُ كَالتُّفَّاحِ، قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالتِّينُ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ: وَالنَّبْقُ وَالْعُنَّابُ قَالَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْخَوْخُ الصِّغَارُ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَابْنُ الصَّبَّاغِ، فَفِي مِعْيَارِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُصَنِّفُ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَيْنِ أصحهما أَنَّهُ يُبَاعُ وَزْنًا لِأَنَّهُ أَحْصَرُ فِي حُصُولِ حَقِيقَةِ الْمُسَاوَاةِ وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ وَالشَّافِي، وَمِمَّنْ صَحَّحَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ قَالَ فِي الْبَسِيطِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، وَهَذَا فِيمَا لَا قِشْرَ لَهُ، أَمَّا الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَزْنًا وَجْهًا وَاحِدًا.
وَطَرَدَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ فِيهِ خِلَافًا إذَا بِيعَ وَزْنًا وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِ لَا يُضْبَطُ، وَقَالَ هُوَ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي الْأُمِّ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الْآجَالِ فِي الصَّرْفِ، قَالَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ: وَجَرَيَانُ الرِّبَا فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْمَأْكُولِ إذَا بِيعَ مِنْهُ جِنْسٌ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَصِحَّ عَدَدًا وَلَمْ يَصِحَّ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ وَهَذَا مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِلَفْظِهِ هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْجُرْجَانِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَا بَأْسَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِتَفَاوُتِ الْعَدَدِ، وَنَقَلَ إسْمَاعِيلُ الْخُضَرِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ الْكَيْلُ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: فَإِنْ قِيلَ مِنْ شَأْنِ الْفَرْعِ أَنْ يُرَدَّ إلَى الْأَصْلِ بِحُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْأُصُولُ حُكْمُهَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْكَيْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حُكْمُ فُرُوعِهَا تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْوَزْنِ، قُلْنَا: إنَّمَا اُعْتُبِرَ الْكَيْلُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لِأَنَّ تَقْدِيرَهَا فِي الْعَادَةِ بِالْكَيْلِ، وَالْفَرْعُ الْمُلْحَقِ بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تُسَاوِيهِ بِمَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ كَيْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ " وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَزْنَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ الْمَوْزُونَ فِي الْمَطْعُومَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ فِي التَّنْبِيهِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي بَيْعِ هَذَا الْقِسْمِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَلَى الْجَدِيدِ مَقْصُودًا، وَهُنَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ الْمِعْيَارِ، وَذَكَرَ وَجْهًا هُنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَيْلُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّنْبِيهِ إلَّا الْوَزْنَ فَقَطْ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ الْوَافِي أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهُ يَأْتِي فِيهَا مِنْ مَجْمُوعِ الْكِتَابَيْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي التَّنْبِيهِ مَا إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ الَّذِي هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ آنِفًا، كَالْبَقْلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي فِيهِ إلَّا قولان: أحدهما: امْتِنَاعُ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا والثاني: الْجَوَازُ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ. وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي التَّنْبِيهِ، أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ فِي التَّنْبِيهِ مَا يَشْمَلُ الصُّورَتَيْنِ مَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ، قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُبَاعُ وَزْنًا، أَمَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَقِطَعًا، وَأَمَّا فِيمَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَعَلَى الْأَصَحِّ وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ كَذَلِكَ وَلِضَعْفِهِ، فَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ شَائِعَةٌ فِي كَلَامِهِ كُلٌّ مِنْهَا مُحْتَمَلٌ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ صَحَّحَ كَلَامَهُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى جَمَاعَةٍ وَرُبَّمَا فُهِمَ مِنْهُ خِلَافُ

 

ج / 10 ص -167-    مُرَادِهِ، وَاسْتَغْرَبَ بَعْضُهُمْ حِكَايَتَهُ فِيهِ الْقَوْلُ بِامْتِنَاعٍ مُطْلَقًا وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي الْمُهَذَّبِ فِيمَا لَا يُدَّخَرُ مِنْ الْفَوَاكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي التَّنْبِيهِ شَامِلٌ لِمَا يُدَّخَرُ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنْ الْقَاضِيَ حُسَيْنًا حَكَى فِي بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي حَالَةِ جَفَافِهِ وَجْهَيْنِ وَلِمَا لَا يُدَّخَرُ الَّذِي حُكِيَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي الْمُهَذَّبِ.
فرع: يَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزُ بِالْجَوْزِ مَعَ قِشْرِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ النَّصِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَا الْمِعْيَارُ فِيهِ؟ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي تَعْلِيقَةِ أَبِي حَامِدٍ: قُلْتُ لَهُ: فَالْجَوْزُ بِالْجَوْزِ؟ فَقَالَ الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُبَاعُ وَزْنًا والثاني: يُبَاعُ كَيْلًا، وَكَذَلِكَ حَكَى الْجُرْجَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ وَالتَّتِمَّةِ، يَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ وَزْنًا، وَاللَّوْزِ بِاللَّوْزِ كَيْلًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ فِي قِشْرِهِ وَزْنًا عَلَى الْمَذْهَبِ. قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ قلت: وَكَوْنُ الْجَوْزِ مَوْزُونًا أَقْرَبُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الضَّابِطِ فِيمَا زَادَ عَلَى حَدِّ التَّمْرِ وَقَوْلُهُ: إنَّ اللَّوْزَ مَكِيلٌ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ أَوْلَى، فَإِنَّهُ يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ بَيْعِ الْآجَالِ مَا ظَاهِرُهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فَإِنَّهُ قَالَ:"وَإِذَا كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ مَغِيبٌ مِثْلُ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَمَا يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي دَاخِلِهِ فَلَا خَيْرَ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَدَدًا وَلَا كَيْلًا وَلَا وَزْنًا فَإِذَا اخْتَلَفَ فَلَا بَأْسَ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَأْكُولَهُ مُغَيَّبٌ وَأَنَّ قِشْرَهُ يَخْتَلِفُ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ فَلَا يَكُونُ أَبَدًا إلَّا مَجْهُولًا بِمَجْهُولٍ فَإِذَا كُسِرَ فَخَرَجَ مَأْكُولُهُ فَلَا بَأْسَ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَإِنْ كَانَ كَيْلًا فَكَيْلًا وَإِنْ كَانَ وَزْنًا فَوَزْنًا وَلَا يَجُوزُ الْخُبْزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ عَدَدًا وَلَا وَزْنًا وَلَا كَيْلًا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ رَطْبًا فَقَدْ يَبِسَ فَيَنْقُصُ وَإِذَا انْتَهَى يَبْسُهُ فَلَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُكْتَالَ، وَأَصْلُهُ الْكَيْلُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ وَزْنًا لِأَنَّا لَا نُحِيلُ الْوَزْنَ إلَى الْكَيْلِ " هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
وَفِي الْمُجَرَّدِ مِنْ تَعْلِيقِ أَبِي حَامِدٍ حَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّرْفِ لَا يُبَاعُ الْجَوْزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّيْخُ: وَهَذَا بَعِيدٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ كَجٍّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا ذَلِكَ عَنْ النَّصِّ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَبِالْجَوَازِ جَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ لِأَنَّ قِشْرَهُ مِنْ صَلَاحِ اللُّبِّ وَيُدَّخَرُ مَعَهُ كَيْلًا يَفْسُدُ فَهُوَ كَالنَّوَى مِنْ التَّمْرِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ مَا يَقِيهِ مِنْ الْفَسَادِ يَكُونُ فِي جَوْفِهِ وَهَاهُنَا مَا يَقِيهِ مِنْ الْفَسَادِ يَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّ الْجَوْزَ وَالْبَيْضَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، وَأَنَّهُ أَبْعَدُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْقِثَّاءِ بِالْقِثَّاءِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْقِثَّاءِ الْمَنْعُ عَلَى الْجَدِيدِ، ثُمَّ قَالَ: وَاتَّفَقَتْ الطُّرُقُ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ بِالْجَوْزِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي أَجْوَافِهَا، وَقُشُورِهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا ظَاهِرًا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقِثَّاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ: وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ: إذَا بِيعَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ مِنْهَا وَزْنًا بِوَزْنٍ قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ.
قلت: وَذَلِكَ أَنَّ الْجَوْزَ فِي غَالِبِ الْبِلَادِ يُبَاعُ بِالْعَدَدِ، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ الْعُرْفُ فِي وَزْنِهِ فَهُوَ رِبَوِيٌّ عَلَى الْجَدِيدِ دُونَ الْقَدِيمِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلشَّارِعِ فِيهِ مِعْيَارٌ فَامْتَنَعَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ

 

ج / 10 ص -168-    الْقِثَّاءِ مِنْ جِهَةِ اسْتِتَارِهِ. وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ وَلَا اللَّوْزِ بِاللَّوْزِ عَدَدًا وَلَا وَزْنًا إلَّا أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي الْكَيْلِ فَيَجُوزُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَصْلًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي جَوْفِهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ قِشْرَهُ مِنْ صَلَاحِهِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ بَعْضِهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ، فَإِنَّ الْجَوْزَ مَعْدُودٌ وَاللَّوْزُ مَكِيلٌ
فرع: قَالَ فِي الْإِبَانَةِ: بَيْعُ الْأَدْوِيَةِ بِالْأَدْوِيَةِ إنْ كَانَتْ لَا تَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ فَتُبَاعُ كَيْلًا، وَإِلَّا فَوَزْنًا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْجُونَةً فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، لِأَنَّ الْأَخْلَاطَ فِيهَا مَجْهُولَةٌ، هَذَا إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَجَزَمَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ بِجَوَازِ بَيْعِ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ وَزْنًا. قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَالَةُ كَمَالِهِ فَإِنْ كَانَا مَكْسُورَيْنِ لَمْ يَجُزْ
فائدة: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ: وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فِي مَكَان لَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَيُبَاعُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْكَيْلُ بِيعَ وَزْنًا، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ الْكَيْلُ بِيعَ كَيْلًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَوَزْنًا عَلَى الْآخَرِ. ا هـ فَاسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فِي مَكَانِ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ هُنَا عَدَمَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ بِالْحِجَازِ خَاصَّةً، بَلْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَحِلُّ كَلَامِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فائدة: الْأَصْحَابُ يُطْلِقُونَ الْخِلَافَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ فِي الْمَطْعُومِ الَّذِي لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَلَا يُصَرِّحُونَ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْتُهُ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ إذَا أَمْعَنْتَ فِيهِ التَّأَمُّلَ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْغَايَةِ: فَصْلٌ فِيمَا لَا يُقَدَّرُ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا مَا لَا يُقَدَّرُ عَلَى الْعُرْفِ بِكَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ، الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبَوِيٍّ. فَأَفَادَ ذَلِكَ مَا قُلْتُهُ، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ غُضُونِ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي النِّهَايَةِ وَمِنْ تِلْكَ اللَّفْظَةِ أَخَذَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَصْلٌ: وَمَا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَمَعَ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ جِنْسٌ آخَرُ يُخَالِفُهُ فِي الْقِيمَةِ، كَبَيْعِ ثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَا يُبَاعُ نَوْعَانِ مِنْ جِنْسٍ بِنَوْعٍ، كَدِينَارٍ قَاسَانِيٍّ وَدِينَارٍ سَابُورِيٍّ بِقَاسَانِيَّيْنِ أَوْ سَابُورِيَّيْنِ، أَوْ كَدِينَارٍ صَحِيحٍ وَدِينَارٍ قِرَاضَةٍ بِدِينَارَيْنِ صَحِيحَيْنِ، أَوْ دِينَارَيْنِ قِرَاضَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ "أَتَى رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ مُعَلَّقَةٌ بِذَهَبٍ فَابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ تِسْعَةِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ عليه السلام: لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: أَنَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ:
لَا، حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا" وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفِي الْقِيمَةِ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا بَاعَ سَيْفًا وَشِقْصًا بِأَلْفٍ، قُوِّمَ السَّيْفُ وَالشِّقْصُ وَقُسِّمَ الْأَلْفُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ أَدَّى إلَى الرِّبَا، لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ دِينَارًا صَحِيحًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ وَأَمْسَكَ الْمُشْتَرِي السَّيْفَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ، وَإِذَا قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ أَدَّى إلَى الرِّبَا، لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ دِينَارًا صَحِيحًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا قِرَاضَةً قِيمَتُهُ عَشَرَةُ

 

ج / 10 ص -169-    بِدِينَارَيْنِ وَقَسَّمَ الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا صَارَتْ الْقِرَاضَةُ مَبِيعَةً بِثُلُثِ الدِّينَارَيْنِ، وَالصَّحِيحُ بِالثُّلُثَيْنِ وَذَلِكَ رِبًا".
الشرح: حَدِيثُ فَضَالَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيَّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَنَسَبَهُ ابْنُ مَعْنٍ شَارِحُ الْمُهَذَّبِ إلَى مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ اعْتِبَارًا بِأَصْلِ الْحَدِيثِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُخَرِّجِينَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَالصَّوَابُ مَا حَرَّرْتُهُ. وَرِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ فَضَالَةَ - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ - ابْنِ عُبَيْدٍ مُصَغَّرًا ابْنِ نَافِذٍ - بِالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - ابْنِ قَيْسِ بْنِ صُهَيْبِ بْنِ الْأَضْرَمِ بْنِ جَحْجَبَا - بِجِيمَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ وَبَعْدَهُنَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ - ابْنِ كُلْفَةَ بِضَمِّ الْكَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ - ابْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ. الْعُمَرِيِّ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ - أَبُو مُحَمَّدٍ وَأُمُّهُ عَفْرَةُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بْنِ جَحْجَبَا الْمَذْكُورِ، شَهِدَ فَضَالَةُ أُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ لَمَّا مَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِوَصِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ لِمُعَاوِيَةَ، وَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَلَهُ عَقِبٌ - كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْأَصَحِّ قَالَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ الْمَدَائِنِيِّ، وَرَأَيْتُ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ لِلْبَغَوِيِّ أَنَّهُ سَكَنَ مِصْرَ وَمَاتَ بِهَا مَعَ ذِكْرِهِ لِمَا تَقَدَّمَ وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ كَاتِبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ رَبَاحِ اللَّخْمِيُّ وَفِي طَبَقَتِهِ حَنَشٌ الرَّاوِي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَى عَنْهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَخَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ وَفِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ، اسْمُهُ حُسَيْنُ بْنُ قَيْسٍ. وَحَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ الْكُوفِيُّ الرَّاوِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَحَنَشُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لَقِيطٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ. يَرْوِي عَنْهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ.
وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ الْمَذْكُورِ أَبُو شُجَاعٍ هَذَا وَسَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو سَلَمَةَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ مِصْرِيٌّ رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْهُ حَدِيثَهُ مُرْسَلًا وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ منها: اللَّفْظُ الَّذِي فِي الْكِتَابِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ومنها: عَنْ فَضَالَةَ قَالَ "اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً ثَمَنُهَا اثْنَا عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَلْتُهَا فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
لَا تُبَاعُ حَتَّى تَفْصِلَ" لَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُ النَّسَائِيّ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الثَّمَنَ.
ومنها: عَنْ فَضَالَةَ قَالَ "أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقَلَائِدَ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ وَهِيَ مِنْ الْغَنَائِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا ومنها: عَنْ حَنَشٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزْوَةٍ فَطَارَتْ لِي وَلِأَصْحَابِي قِلَادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ وَجَوْهَرٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهَا فَسَأَلْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ فَقَالَ: انْزِعْ ذَهَبَهَا فَاجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ، وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي كِفَّةٍ، ثُمَّ لَا تَأْخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي

 

ج / 10 ص -170-    سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَأْخُذَنَّ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
ومنها: عَنْ فَضَالَةَ قَالَ: "أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ فَأَرَدْتُ بَيْعَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: افْصِلْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ بِعْهَا" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ حَنَشٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّيْثُ أَوْ خَالِدٌ أَبَا شُجَاعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى حَنَشٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَنِ الْكَبِيرِ: سِيَاقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَعَ عَدَالَةِ رُوَاتِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بُيُوعًا شَهِدَهَا فَضَالَةُ كُلَّهَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا، فَأَدَّاهَا كُلَّهَا، وَحَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ أَدَّاهَا مُفَرَّقَةً، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ مُسْلِمٍ. ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى قَالَ: لِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ اشْتَرَاهَا، وَفِي تِلْكَ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَهَا. وَاخْتَلَفَا أَيْضًا فِي قَدْرِ الدَّنَانِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي النَّهْيِ حَتَّى يَفْصِلَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ مُتَعَيِّنٌ، فَإِنَّ أَسَانِيدَ الطُّرُقِ كُلِّهَا صِحَاحٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضِهَا بِالْغَلَطِ، وَأَيْضًا كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ حَتَّى يَفْصِلَ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ.
وَقَدْ رَامَ الطَّحَاوِيُّ دَفْعَهَا بِمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ، قَالَ: وَقَدْ اضْطَرَبَ عَلَيْنَا حَدِيثُ فَضَالَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا فَرَوَاهُ قَوْمٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَ الذَّهَبَ، لِأَنَّ صَلَاحَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ فِي ذَلِكَ، فَفَعَلَ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، لَا لِأَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ قَبْلَ أَنْ يُنْزَعَ مَعَ غَيْرِهِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهَذَا خِلَافُ مَا رَوَى مَنْ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لَا يُبَاعُ حَتَّى يُفْصَلَ" ثُمَّ قَالَ: فَقَدْ اضْطَرَبَ عَلَيْنَا هَذَا الْحَدِيثُ فَلَمْ يُوقَفْ عَلَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي رُوِيَ عَلَيْهَا إلَّا احْتَجَّ مُخَالِفُهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْآخَرُ.
قلت: وَلَيْسَ، ذَلِكَ بِاضْطِرَابٍ قَادِحٍ، وَلَا تَرِدُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمِثْلِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم
"لَا يُبَاعُ حَتَّى يَفْصِلَ" صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَكَوْنُ فَضَالَةَ أَفْتَى بِهِ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ غَيْرِ مَرْفُوعٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْفِي سَمَاعَهُ لَهُ، فَقَدْ يَسْمَعُ الرَّاوِي شَيْئًا ثُمَّ يَتَّفِقُ لَهُ مِثْلُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَيُفْتِي بِمِثْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: "مُعَلَّقَةٌ بِذَهَبٍ ضَبَطَهُ ابْنُ النَّوِيكِ - بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَقَافٍ - ابْنُ مَعْنٍ يَرْوِي بِالْقَافِ، وَيَرْوِي مُغَلَّفَةً بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ - وَهَذَا الْحَدِيثُ مُعْتَمَدُ أَصْحَابِنَا مِنْ جِهَةٍ لِلْأَثَرِ فِي الْقَاعِدَةِ الْمُتَرْجَمَةِ "بِمُدِّ عَجْوَةٍ" وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ وَهْبٍ وَمِنْ فِقْهِ السِّقَايَةِ الَّتِي بَاعَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَنْكَرَهَا عُبَادَةُ أَنَّهَا الْقِلَادَةُ، وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 10 ص -171-    وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَفِي "أَمْرِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامِلَهُ عَلَى خَيْبَرَ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" دَلَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنْ لَا يُبَاعَ صَاعُ تَمْرٍ رَدِيءٍ فَيُجْمَعُ مَعَ صَاعِ تَمْرٍ فَائِقٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِمَا صَاعَ تَمْرٍ وَسَطٍ.
ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ: وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّدِيءَ مَعَ الْجَيِّدِ فَغَايَةُ أَمْرِهِ فِيمَا يَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَضُمَّ الرَّدِيءَ إلَى الْجَيِّدِ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِ وَسَطًا، وَكَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَا نَسَبَهُ الْبَيْهَقِيُّ إلَى الْقَدِيمِ فِي الْإِمْلَاءِ وَسَأَنْقُلُهُ فِي آخِرِ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْعِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، قَالَ فِي بَيْعِ الْآجَالِ مِنْ الْأُمِّ: وَإِذَا بِعْتَ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ بِشَيْءٍ مِنْ صِنْفِهِ فَلَا يَصْلُحُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَأَنْ يَكُونَ مَا بِعْتَ مِنْهُ صِنْفًا وَاحِدًا جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا وَيَكُونُ مَا اشْتَرَيْتَ صِنْفًا وَاحِدًا وَلَا يُبَالِي أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ مِمَّا اشْتَرَيْتُهُ بِهِ، وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسِينَ دِينَارًا مَرْوَانِيَّةً وَخَمْسِينَ مُحَدَّبًا بِمِائَةٍ هَاشِمِيَّةٍ وَلَا بِمِائَةٍ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ لَا خَيْرَ فِي أَنْ تَأْخُذَ صَاعَ بُرْدِيٍّ وَصَاعَ لَوْنٍ بِصَاعَيْ صَحَانِيٍّ، وَإِنَّمَا كَرِهْتُ هَذَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا جَمَعَتْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَيَكُونُ تَمْرُ صَاعِ الْبُرْدِيِّ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ صَاعِ الصَّحَانِيِّ، وَذَلِكَ صَاعٌ وَنِصْفٌ وَصَاعُ اللَّوْنِ بِرُبْعِ صَاعَيْ الصَّحَانِيِّ وَذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ صَحَانِيٍّ. فَيَكُونُ هَذَا التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا وَهَكَذَا.
هَذَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ الرِّبَا فِي التَّفَاضُلِ فِي بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ فِي بَابِ الصَّرْفِ مِنْ الْأُمِّ: وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا خَاتَمًا فِيهِ فَصٌّ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ حِلْيَةُ السَّيْفِ أَوْ مُصْحَفٌ أَوْ سِكِّينٌ فَلَا يُشْتَرَى بِشَيْءٍ مِنْ الْفِضَّةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِحَالٍ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ فِضَّةٌ بِفِضَّةٍ مَجْهُولَةِ الْقِيمَةِ وَالْوَزْنِ، وَهَكَذَا الذَّهَبُ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ مَعَ سَيْفٍ اُشْتُرِيَ بِذَهَبٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَهَبٌ اُشْتُرِيَ بِفِضَّةٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ لَمْ يَشْتَرِ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَاشْتَرَى بِالْعَرَضِ، قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَى شَيْءٌ فِيهِ فِضَّةٌ مِثْلُ مُصْحَفٍ أَوْ سَيْفٌ وَمَا أَشْبَهَهُ بِذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةُ صَرْفًا وَبَيْعًا لَا نَدْرِي كَمْ حِصَّةُ الْبَيْعِ مِنْ حِصَّةِ الصَّرْفِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا: وَإِذَا جَمَعَتْ صَفْقَةُ الْبَيْعِ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ مِثْلُ تَمْرٍ بُرْدِيٍّ وَتَمْرٍ عَجْوَةٍ بِيعَا مَعًا بِصَاعَيْ تَمْرٍ، وَصَاعٌ مِنْ هَذَا بِدِرْهَمَيْنِ وَصَاعٌ مِنْ هَذَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقِيمَةُ الْبُرْدِيِّ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَقِيمَةُ الْعَجْوَةِ سُدُسُ الِاثْنَيْ عَشَرَ، فَالْبُرْدِيُّ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَالْعَجْوَةُ بِسُدُسِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَهَذَا لَوْ كَانَ صَاعُ الْبُرْدِيِّ وَصَاعُ الْعَجْوَةِ بِصَاعَيْ لَوْنٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ مِنْ اللَّوْنِ، فَكَانَ الْبُرْدِيُّ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ صَاعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ بِسُدُسِ صَاعَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْبُرْدِيَّ بِأَكْثَرَ مِنْ كَيْلِهِ وَالْعَجْوَةُ بِأَقَلِّ مِنْ كَيْلِهَا، وَهَكَذَا ذَهَبٌ بِذَهَبٍ كَأَنَّ مِائَةَ دِينَارٍ مَرْوَانِيَّةٍ وَعَشَرَةً مُحَدَّبَةً بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ هَاشِمِيَّةٍ فَلَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْوَانِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْمُحَدَّبَةِ، وَهَكَذَا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فِي هَذَا فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُرَاطِلَ

 

ج / 10 ص -172-    الدَّنَانِيرَ الْهَاشِمِيَّةَ التَّامَّةَ بِالْعِتْقِ النَّاقِصَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ فِي الْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَ لِهَذِهِ فَضْلُ وَزْنِهَا، وَهَذِهِ فَضْلُ عُيُونِهَا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ وَزْنًا بِوَزْنٍ.
وَقَالَ فِي آخِرِ بَابِ الْمُزَابَنَةِ: وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ فِي الصَّفْقَةِ شَيْئًا مِنْ الَّذِي فِي الرِّبَا فِي الْفَضْلِ فِي بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ صُبْرَةَ تَمْرٍ مَكِيلَةٍ أَوْ جُزَافًا بِصُبْرَةِ حِنْطَةٍ مَكِيلَةً أَوْ جُزَافًا، وَمَعَ الْحِنْطَةِ مِنْ التَّمْرِ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّفْقَةَ فِي الْحِنْطَةِ تَقَعُ عَلَى حِنْطَةٍ وَتَمْرٍ بِتَمْرٍ، وَحِصَّةُ التَّمْرِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ بِقِيمَتِهَا، وَالْحِنْطَةُ بِقِيمَتِهَا، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعْلُومًا كَيْلًا بِكَيْلٍ.
وَقَالَ فِي بَابِ تَفْرِيعِ الصِّنْفِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ بِمِثْلِهِ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَجُزْ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَمَعَهُ شَيْءٌ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ آخَرَ لَا خَيْرَ فِي مُدِّ تَمْرِ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ عَجْوَةٍ، وَلَا مَدَّ حِنْطَةٍ سَمْرَاءَ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ مَحْمُولَةٍ حَتَّى يَكُونَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ لَا شَيْءَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُهُمَا أَوْ يَشْتَرِي شَيْئًا مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ صِنْفِهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ فِي بَابٍ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ: وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يَكُونَ صَاعُ أَحَدِهِمَا مِنْ تَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَصَاعُ الْآخَرِ مِنْ تَمْرٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ حَتَّى يَكُونَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلِ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: وَلَوْ رَاطَلَ مِائَةَ دِينَارٍ عِتْقٍ مَرْوَانِيَّةٍ وَمِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ مَكْرُوهٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَسَطٍ خَيْرٍ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَدُونَ الْمَرْوَانِيَّةِ، لَمْ أَرَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنْ عَبْدٍ وَدَارٍ أَنَّ الثَّمَنَ مَقْسُومٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ قِيمَةُ الْجَيِّدِ مِنْ الذَّهَبِ أَكْثَرَ مِنْ الرَّدِيءِ، وَالْوَسَطُ أَقَلُّ مِنْ الْجَيِّدِ.
وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ فِي بَابِ الْبُيُوعِ: وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، الْحِنْطَةَ وَالتَّمْرَ وَالشَّعِيرَ وَالْعَسَلَ وَالدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، فَإِذَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَسَلٍ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ وَمُدِّ عَسَلٍ، فَلَا يَجُوزُ، أَوْ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، أَوْ دِرْهَمَ وَثَوْبَ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ مُدَّ حَشَفٍ وَمَدَّ تَمْرٍ بِمُدِّ تَمْرٍ أَوْ مُدَّ حِنْطَةٍ وَمُدَّ دَقِيقٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ وَبِمَا أَشْبَهَهُ فَلَا يَجُوزُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَجْمَعُهُمَا وَلَا يَتَمَيَّزُ تَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يَدْرِي كَمْ ذَاتٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّفَاضُلُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، مِثْلُ ثَوْبٍ وَرِطْلٍ مِنْ عَسَلٍ بِثَوْبٍ وَرِطْلٍ، لِأَنَّ لِلثَّوْبِ وَالدِّرْهَمِ الَّذِي وَقَعَ بِالثَّوْبِ وَالدِّرْهَمِ لِلدِّرْهَمِ حِصَّةٌ مِنْ الدِّرْهَمِ وَالثَّوْبِ، وَمِنْ الْآخَرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ثَمَنَهَا لَا يَمِيلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَدْخُلُ الثَّوْبُ وَالدِّرْهَمُ بِالثَّوْبِ وَالدِّرْهَمِ بَيْع وَصَرْف.
وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ أَيْضًا فِي بَابِ الصَّرْفِ: وَإِذَا صَارَفَهُ خَمْسِينَ قِطَاعًا وَخَمْسِينَ صِحَاحًا بِمِائَةٍ صِحَاحٍ فَلَا يَجُوزُ. لِأَنَّ لِلْخَمْسِينَ الْقِطَاعِ حِصَّةً مِنْ الْمِائَةِ الصِّحَاحِ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّفَاضُلُ وَالثَّمَنُ مُقَوَّمٌ عَلَيْهَا. وَهُوَ مِثْلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا وَثَوْبًا بِمِائَةِ دِينَارٍ. وَلَوْ

 

ج / 10 ص -173-    اشْتَرَى مِائَةَ دِينَارٍ قِطَعٍ بِمِائَةٍ صِحَاحٍ فَلَا بَأْسَ وَقَدْ قِيلَ: يَجُوزُ خَمْسُونَ قِطَاعًا وَخَمْسُونَ صِحَاحًا بِمِائَةِ صِحَاحٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله سَيَأْتِي مِثْلُهُ مَبْسُوطًا فِي الْإِمْلَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ: وَإِنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ دَنَانِيرُ وَدَرَاهِمُ فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِدَنَانِيرَ وَلَا بِدَرَاهِمَ إذَا اسْتَثْنَى مَالَهُ. وَإِنْ اشْتَرَاهُ وَحْدَهُ بِلَا مَالٍ فَجَائِزٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ فِي بَابِ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامِلَهُ عَلَى خَيْبَرَ "أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا" دَلَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ صَاعُ تَمْرٍ رَدِيءٍ مَعَ صَاعِ تَمْرٍ فَائِقٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِهِمَا صَاعَيْنِ بِتَمْرٍ وَسَطٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ بِأَنَّ صَاعَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ لَوْ عُرِضَ، عَلَى صَاحِبِ التَّمْرِ الْوَسَطِ بِرُبْعِ صَاعٍ لَمْ يَقْبَلْهُ وَلَوْ قُوِّمَ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ رُبْعِ صَاعٍ مِنْ الْوَسَطِ، إنَّمَا يُعْطَى صَاحِبُ الصَّاعَيْنِ مِنْ الْوَسَطِ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ رَدِيءٍ وَصَاعٍ جَيِّدٍ، لِيُدْرِكَ فَضْلَ تَمْرِهِ الْجَيِّدِ عَلَى الرَّدِيءِ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْجَيِّدِ. وَعَامِلُ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم اللَّهِ إنَّمَا كَانَ يُقَاسِمُهُمْ نِصْفَ تَمْرِهِمْ، فَيَأْخُذُ الْجَيِّدَ الْغَايَةِ مِنْ صَاحِبِ الْجَيِّدِ الْغَايَةِ، وَالرَّدِيءَ الَّذِي لَا أَسَفَلَ مِنْهُ مِنْ صَاحِبِ التَّمْرِ الرَّدِيءِ وَمِنْ كُلِّ ذِي تَمْرٍ نِصْفَ تَمْرِهِ، وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّدِيءَ مَعَ الْجَيِّدِ الْغَايَةِ أَمَرَهُ - فِيمَا يَرَى - رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضُمَّ الرَّدِيءَ إلَى الْجَيِّدِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِهَا وَسَطًا إنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فَخَالَفَ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا فَقَالَ "لَا بَأْسَ أَنْ يَضُمَّ الْحَشَفَ الرَّدِيءَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِكِلَيْهِمَا تَمْرَ عَجْوَةٍ " وَقَالَ:"لَا بَأْسَ بِالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إذَا دَخَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَلَيْسَ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعْنَى الذَّهَبِ يُضَمُّ إلَيْهَا غَيْرُهَا مَعْنَى التَّمْرِ الرَّدِيءِ يُضَمُّ إلَيْهِ التَّمْرُ الرَّدِيءُ مِنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: وَقُلْتُ لِبَعْضٍ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا اشْتَرَى أَلْفَ دِرْهَمٍ تُسَاوِي عَشَرَةَ1 الدَّرَاهِم بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ؟ قَالَ جَائِزٌ. قُلْتُ: فَإِنْ وَجَدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا قَالَ يَرُدُّهُ بِأَلْفٍ، قُلْتُ: فَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْبُيُوعِ كُلِّهَا. قَالَ: أَيُّ الْبُيُوعِ؟ قلت: أَرَأَيْتَ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا وَثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمِ بِأَلْفَيْنِ، فَوَجَدَ بِالثَّوْبِ عَيْبًا، قَالَ تُقْسَمُ الْأَلْفَانِ عَلَى الْأَلْفِ وَعَشَرَةٍ وَيُرَدُّ الثَّوْبُ بِحِصَّةِ عَشَرَةٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ قَالَ: وَكَذَلِكَ جَارِيَةٌ تُسَاوِي أَلْفًا وَثَوْبًا يُسَاوِي مِائَةً بِيعَا بِأَلْفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ تُرَدُّ الثَّوْبُ بِمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا سَهْمٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الثَّمَنِ، وَيَكُونُ حِصَّةُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ الثَّمَنَ كُلَّهُ مَعْرُوفٌقلت: وَالسِّلْعَتَانِ اللَّتَانِ بِيعَتَا مَعْرُوفَةٌ فِي الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ؟ قَالَ: نَعَمْقلت: وَهَكَذَا الْبُيُوعُ كُلُّهَا قَالَ: نَعَمْقلت: لِمَ لَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الثَّوْبِ مَعَ الدَّرَاهِمِ؟ قَالَ إذَا احْتَرَزَ الرِّبَا فَيَكُونُ أَلْفًا بِأَكْثَرَ مِنْهَاقلت: فَهَكَذَا أَبْطَلْنَا مَا أَجَزْتُ مِنْ الصَّرْفِ، وَإِذَا أَجَزْتُهُ فَقَدْ تَرَكْتُ أَنْ يُقَسَّمَ الثَّمَنُ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ عُقْدَةُ الْبَيْعِ،
هَذِهِ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبَيْعُ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَعَلَى مَا إذَا كَانَ نَوْعَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَيُعَبِّرُ الْأَصْحَابُ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بِقَاعِدَةِ "مَدُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعل العبارة "عشرة من الدراهم" (ط).

 

ج / 10 ص -174-    عَجْوَةٍ" وَضَابِطُهَا عِنْدَهُمْ أَنْ تَشْتَمِلَ الصَّفْقَةُ عَلَى مَالٍ وَاحِدٍ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ مَعَ ذَلِكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا جِنْسًا أَوْ نَوْعًا أَوْ صَفْقَةً فَقَوْلُنَا: مَالٌ وَاحِدٌ خَرَجَ بِهِ مَا إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى جِنْسِ مَالِ الرِّبَا كَمَا إذَا بَاعَ قَمْحًا وَشَعِيرًا بِتَمْرٍ وَزَبِيبٍ فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَدَخَلَ تَحْتَ الضَّابِطِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: أَنْ يَبِيعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا غَيْرُهُ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا، أَوْ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ وَهَذِهِ عِبَارَةُ أَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَى مَا هُوَ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ.
وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الْكِتَابِ وَفِي التَّنْبِيهِ مِنْ أَحْسَنِ الْعِبَارَاتِ وَأَسْلَمِهَا، لَكِنْ فِيهَا اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا، وَسَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَوَّلُ مَا يُعْتَنَى بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَصْلَانِ أحدهما: أَنَّ الْجَهْلَ بِالْمُمَاثَلَةِ لِحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا، وَيَشْهَدُ لَهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهَا وَمَنَعَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ خَرْصًا فِي غَيْرِ الْعَرَايَا. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهِيَ تُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي عُرِفَ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ الْحَظْرِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ عَنْ الْحَظْرِ بِالْبَيْعِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْوَجْهُ يَبْقَى مَحْظُورًا تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ الْعِوَضَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ وَتَوْزِيعَ الثَّمَنِ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْعَقْدِ لِدَلِيلَيْنِ أحدهما: مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ فَإِنَّ التُّجَّارَ يَقْصِدُونَ بِالشِّرَاءِ التَّثْمِينَ والثاني: مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا وَثَوْبًا ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْتَحِقًّا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِذَا بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَالشَّفِيعُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ، وَلَهُ حَالَةُ الْعَقْدِ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّوْزِيعَ حَاصِلٌ حِينَ الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ، وَكَمَا فِي رَدِّ الْبَعْضِ بِالْعَيْبِ وَتَلَفِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْبَائِعِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْلَا التَّوْزِيعُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا تَوَزَّعَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَلَا يُتْرَكُ التَّوْزِيعُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ إلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضَى حُمِلَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَدَّى إلَى فَسَادِ الْعَقْدِ أَوْ إلَى صَلَاحِهِ، كَمَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُقَابَلَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى فَسَادِهِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَحَدِ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةٌ وَالْآخَرُ ثَمَنٌ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَغْلِبُ وَجْهُ الصِّحَّةِ بِكُلِّ حَالٍ مَمْنُوعٍ قَالَ الْعِجْلِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْوَسِيطِ بِعَرَضِ الْكَلَامِ فِيمَا إذَا كَانَ الْجَيِّدُ لِوَاحِدٍ وَالرَّدِيءُ لِآخَرَ قَائِلًا: هُمَا ثَمَانُونَ، فَيَقُولُ صَاحِبُ الْمِائَةِ الْجَيِّدَةِ نَزَلَ عَنْ مِائَةٍ، وَحَصَلَ أَكْثَرُ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ بِالْبَيْعِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بَيَانُهُ أَنَّ قِيمَةَ الْجَيِّدَةِ إذَا كَانَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الرَّدِيءِ أَلْفًا، وَصَاحِبُ الْجَيِّدَةِ أَخَذَ ثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَهُوَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَصَاحِبُ الرَّدِيءِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِالْمِائَةِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلْثَانِ، وَهَذَا عَيْنُ الرِّبَا وَهَذَا مُقْتَضَى لِلْعَقْدِ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَقْتَضِ الْعَقْدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِلْكًا أَصْلًا، أَوْ اقْتَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مُلْكًا فِي الْكُلِّ أَوْ اقْتَضَى مِلْكًا فِي النِّصْفِ عَلَى التَّسَاوِي، أَوْ اقْتَضَى مِلْكًا بِحَسَبِ مَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الْقِيمَةِ. وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى ظَاهِرَةُ الْبُطْلَانِ فَتَعَيَّنَ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَنَّ مَا ظَهَرَ بِالْقِيمَةِ، وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْمِلْكِ فَكَذَا عِنْدَ اتِّحَادِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ النَّوْعِ وَالْقِسْمَةِ، لَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمِلْكِ إذْ بَاذِلُ الْجَيِّدِ لَا يَرْضَى أَنْ يَسْتَفِيدَ فِي مُقَابَلَةِ الْجَيِّدِ مَا

 

ج / 10 ص -175-    يَسْتَفِيدُهُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّدِيءِ، وَلَا بَاذِلَ الثَّمَنِ يَبْذُلُهُ عَلَى التَّسَاوِي، بَلْ هَذَا الْقَصْدُ ضَرُورِيٌّ فِي نَفْسِ الْمُعَاقَدِ. وَمُطْلَقُ كَلَامِهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا مَا يُقْصَدُ فِي عَادَةِ التَّعَامُلِ. فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِمُقَابَلَةِ الْجَيِّدِ بِزِيَادَةٍ. انْتَهَى.
 ثُمَّ أَلْزَمَهُمْ بِمَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: التَّفَاضُلُ مُقْتَضَى الِانْقِسَامِ، وَالِانْقِسَامُ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْمِلْكِ، أَوْ اخْتِلَافَ الْعَيْبِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقَ أَوْ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَطْلَقْنَا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكُلَّ بِالْكُلِّ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَفَاضُلٌ قلنا: كَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ، وَأَنْتُمْ تُصَحِّحُونَ الْعَقْدَ مَعَ أَنْ مُقْتَضَى الِانْقِسَامِ وَالتَّفَاضُلِ مَوْجُودٌ. انْتَهَى. وَلَا يَرُدُّ عَلَى مَا فَرَضَهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْمِلْكِ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ صَحِيحٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ فَبَاعَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْفَرْضَ، وَلِأَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَيْضًا فَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ بِصِحَّتِهِ فَيَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 وَأَلْزَمَ أَصْحَابُنَا الْخَصْمَ بِالتَّوْزِيعِ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ نَسِيئَةً ثُمَّ اشْتَرَاهُ مَعَ آخَرَ بِأَكْثَرَ نَقْدًا فَإِنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ بِالْقِسْمَةِ بِأَقَلِّ مِمَّا بَاعَ، وَاعْتَذَرُوا عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ بِأَنَّ هُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ وُجُوهُ الصِّحَّةِ كَثِيرَةٌ بِأَنْ يَجْعَلَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ أَلْفًا وَمَا فَوْقَهُ دِرْهَمًا دِرْهَمًا إلَى أَنْ يَبْقَى دِرْهَمُ الْعَقْدِ الثَّانِي، وَإِذَا كَثُرَتْ الْوُجُوهُ صَارَ مَا قَابَلَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْأَثْمَانِ مَجْهُولًا فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ، وَأَبْطَلَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْجَوَابَ بِمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِعَشَرَةٍ وَأَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً وَأَكْرَاهَا بِأَحَدَ عَشَرَةَ أُجْرَةً فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ فِي مُقَابَلَةِ الدَّارِ دِرْهَمًا، وَمَا زَادَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا إلَى أَنْ يَبْقَى دِرْهَمٌ فِي مُقَابَلَةِ الْعِمَارَةِ، فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ وَلَمْ يَفْعَلُوا، بَلْ جَعَلُوا قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّارِ وَالزِّيَادَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِمَارَةِ، وَصَحَّحُوهُ.
 قَالَ أَصْحَابُنَا: وَقَدْ تَكْثُرُ وُجُوهُ الصِّحَّةِ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ مُدَّ حِنْطَةٍ وَمُدَّ شَعِيرٍ وَمُدَّ تَمْرٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ، وَمُدَّيْ شَعِيرٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ، وَمُدَّ تَمْرٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَجْعَلَ مُدَّيْ الْحِنْطَةِ بِمُدَّيْ شَعِيرٍ، وَمُدَّيْ شَعِيرٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَمُدَّيْ تَمْرٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ، وَكَذَا مُدُّ حِنْطَةٍ وَمُدُّ شَعِيرٍ بِمُدِّ حِنْطَةٍ مُدَّيْ شَعِيرٍ. فَقَدْ كَثُرَتْ وُجُوهُ الصِّحَّةِ. وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزْتُمْ وَأَلْزَمَهُمْ أَصْحَابُنَا أَيْضًا إذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ وَتَصَرَّفَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ مُقَابَلَةٍ لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِيهَا. بِأَنْ يَجْعَلَ الدِّرْهَمَ بِالْمُدِّ فَقَدْ اتَّضَحَ بِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ نَظَرًا وَأَلْزَمَا اتِّجَاهَ الْقَوْلِ بِالتَّوْزِيعِ. قَالَ الْفَارِقِيُّ: وَهَذَا أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْذُلُ مِنْ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ الرَّدِيءِ مَا يَبْذُلُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْجَيِّدِ. عَلَى أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَقْتَضِي فِي وَضْعِهِ تَوْزِيعًا مُفَصَّلًا، بَلْ مُقْتَضَاهُ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ أَوْ مُقَابَلَةُ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِمَّا فِي أَحَدِ الشِّقَّيْنِ بِمِثْلِهِ مِمَّا فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، بِأَنْ يُقَالَ: ثُلُثُ الْمُدِّ وَثُلُثُ الدِّرْهَمِ يُقَابِلُ ثُلُثَ الْمُدَّيْنِ، يَعْنِي إذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمَدَّيْنِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَكْلِيفِ تَوْزِيعٍ يُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّوْزِيعِ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ لِضَرُورَةِ الشُّفْعَةِ.

 

ج / 10 ص -176-    قَالَ: وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدِي فِي التَّعْلِيلِ أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِالْمُمَاثَلَةِ تَحْقِيقًا، وَإِذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ لَمْ يُحَقِّقْ الْمُمَاثَلَةَ فَيُفْسِدُ الْعَقْدَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلِنَاصِرِيهَا أَنْ يَقُولُوا: أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ التَّوْزِيعُ الْمُفَضَّلُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّفْعِ؟ وَلَوْلَا كَوْنُهُ قَضِيَّةَ الْعَقْدِ لَكَانَ ضَمُّ السَّيْفِ إلَى الشِّقْصِ مِنْ الْأَسْبَابِ الدَّافِعَةِ لِلشُّفْعَةِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَنْدَفِعُ بِعَوَارِضَوأما: قَوْلُهُ: إنَّا تَعَبَّدْنَا بِتَحْقِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ تَعَبَّدْنَا بِتَحْقِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا إذَا تَمَحَّضَتْ مُقَابَلَةُ شَيْءٍ مِنْهَا بِجِنْسِهِ أَمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ إن قلنا:  بِالثَّانِي فَمَمْنُوعٌ وإن قلنا: بِالْأَوَّلِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ، وَالِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَلَى الْإِمَامِ حَقٌّ وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا يُقَوِّيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقَلَهُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. 
وأما الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي فَضَعِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْفَرْضِ الَّذِي فَرَضَهُ وَهُوَ إذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمَدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ بَاعَ تَمْرًا بِتَمْرٍ، لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ مَبِيعٌ قَطْعًا، وَلَا مُقَابِلَ لَهُ إلَّا تَمْرٌ، وَمَتَى صَدَقَ أَنَّهُ بَاعَ تَمْرًا بِتَمْرٍ وَجَبَتْ الْمُمَاثَلَةُ بِالنَّصِّ وَبِمَحْضِ الْمُقَابَلَةِ، فَمُدٌّ زَائِدٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَاعْتِرَاضُ ابْنِ الرِّفْعَةِ عَلَى الْإِمَامِ فِي جَعْلِهِ الْعَمْدَ فِي التَّوْزِيعِ مَنْسُوبَةً لِلْأَصْحَابِ فَإِنَّهَا عُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَفِي دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه اعْتَمَدَ حَدِيثَ الْقِلَادَةِ قَالَ: وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ تَعَرُّضًا لَهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ بَلْ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: إذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ هَانَ تَقْدِيرُ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَيْسَتْ كُلُّهَا مَرْتَبَةً وَاحِدَةً بَلْ هِيَ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ تَارَةً يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ وَتَارَةً يَخْتَلِفُ النَّوْعُ وَتَارَةً يَخْتَلِفُ الْوَصْفُ فَلْنُفْرِدْ كُلَّ مَرْتَبَةٍ بِالْكَلَامِ عَلَيْهَا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَخْتَلِفَ الْجِنْسُ وَهِيَ الَّتِي صَدَّرَ الْمُصَنِّفُ كَلَامَهُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا رِبَوِيًّا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ وَكَمَا إذَا بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ وَصَاعَ شَعِيرٍ بِصَاعِ حِنْطَةٍ وَصَاعِ شَعِيرٍ أَوْ صَاعَيْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعَيْ شَعِيرٍ أَوْ دِينَارًا وَدِرْهَمًا بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ بِدِينَارَيْنِ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رِبَوِيًّا فَقَطْ كَثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ بِثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِثَوْبَيْنِ لِأَنَّ مَالَ الرِّبَا حِينَئِذٍ لَمْ يَتَّحِدْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يَكُونُ مِنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَمَا إذَا بَاعَ خَاتَمًا فِيهِ فَصٌّ بِخَاتَمٍ فِيهِ فَصٌّ أَوْ لَا فَصَّ فِيهِ وَهُمَا جَمِيعًا فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِسَيْفٍ مُحَلَّى بِفِضَّةٍ، أَوْ سَيْفًا مُحَلَّى بِذَهَبٍ أَوْ بِسَيْفٍ مُحَلَّى بِذَهَبٍ أَوْ قِلَادَةً فِيهَا ذَهَبٌ بِذَهَبٍ، أَوْ عَبْدًا مَعَهُ مَالُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمِ أَوْ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ، إذَا اشْتَرَطَ كَوْنُ الْمَالِ لِلْمُشْتَرِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيُّ.
وَقَدْ أَطْبَقَ الْأَصْحَابُ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَنُصَّ فِي بَيْعِهِ فَيَقُولُ: الْمُدُّ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ وَالدِّرْهَمُ فِي مُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِاسْتِثْنَائِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَلَا شَكَّ فِيهِ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ فَضَالَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِالْأَصْلَيْنِ الَّذِينَ تَقَدَّمَا، وَوَجْهُ الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَاعَ الْمُدَّ بِالْمُدِّ، وَالْمُدَّ الثَّانِي بِالدِّرْهَمِ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُدِّ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا بَاعَ1

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعلها: فدل على أنه لو جهل لما باع الخ.

 

ج / 10 ص -177-    الْمِثْلَ بِالْمِثْلِ وَلَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إلَّا إذَا نَصَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ.
فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ هُوَ إطْلَاقًا لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ عَلَى زَعْمِ الْمُخَالِفِ فَلَا يَكُونُ هُوَ تَابِعًا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، فَبَقِيَ عَلَى الْفَسَادِ. وَيَزِيدُ ذَلِكَ إيضَاحًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمَدَّيْنِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ دِرْهَمَيْنِ فَيَكُونُ الْمُدُّ ثُلُثَيْ مَا فِي الطَّرَفِ فَيُقَابِلُهُ ثُلُثَا الْمُدَّيْنِ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَابَلَ مُدًّا بِمُدٍّ وَثُلُثٍ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ كَنِصْفِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ الْمُدُّ ثُلُثَ مَا فِي هَذَا الطَّرَفِ فَيُقَابِلُهُ ثُلُثُ الْمُدَّيْنِ مِنْ الطَّرَفِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَابَلَ مُدًّا بِثُلُثَيْ مَدٍّ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا فَلَا تَظْهَرُ الْمُفَاضَلَةُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَكِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهَا تَسْتَنِدُ إلَى التَّقْوِيمِ، وَالتَّقْوِيمُ بِخَمْسِينَ قَدْ يَكُونُ صَوَابًا وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الرِّبَا هِيَ الْمُمَاثَلَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.
هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى: وَهُوَ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُدِّ مِثْلَ الدِّرْهَمِ أَوْ لَا، عَلَى مُقْتَضَى إطْلَاقِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. وَلَا فَرْقَ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَالدِّرْهَمَانِ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا وَخَالَفَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُخَالِفُونَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّهُمَا لَوْ عَلِمَا قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ قِيمَةَ الْمُدِّ مِثْلُ الدِّرْهَمِ وَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رِبًا إذَا كَانَ التَّفَاضُلُ مَعْلُومًا أَوْ التَّمَاثُلُ مَجْهُولًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُبْعِدُهُ أَنَّ الْقِيمَةَ أَمْرٌ تَخْمِينِيٌّ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الرِّبَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ تَخْمِينًا لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لَمْ أَرَ مَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ إلَّا الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي التَّنْبِيهِ فَإِنَّ عِبَارَتَهُ تَقْتَضِيهِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّاشِيُّ فِي الْحِلْيَةِ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ وَوَافَقَهُمْ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَأَطْلَقَ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ يَجُوزُ، وَأَخَذَهُ الرُّويَانِيُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى يَكُونَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَقَالَ: إنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ فِي مُدِّ عَجْوَةٍ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِرْهَمٌ. لِأَنَّا إذَا وَزَّعْنَا الدِّرْهَمَ عَلَى الْمُدَّيْنِ خَصَّ كُلَّ مُدٍّ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَإِذَا وَزَّعْنَا الْمُدَّ مَعَ الدِّرْهَمِ خَصَّ كُلَّ مُدٍّ مِنْ الْمُدِّ الْمُوَزَّعِ نِصْفُهُ فَيَصِيرُ بَيْعُ مُدٍّ قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ بِنِصْفِ مُدٍّ قِيمَتُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ فَيَقَعُ نِصْفُ الْمُدِّ بِإِزَاءِ نِصْفِ الْمُدِّ وَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ كَمَا يُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَنُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ مِنْ رَجَعْتُ إلَيْهِ مِنْ مُحَقِّقِي الْعَصْرِ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ هَذَا الْبَيْعَ وَيَحْتَجُّ بِتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْإِمَامُ الرُّويَانِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إلَى هَذَا التَّخْرِيجِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ هَاهُنَا أَيْضًا لِأَصْلٍ آخَرَ سِوَى الْمُعَامَلَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ التَّحَرِّيَ فِي مَسَائِلَ الرِّبَا مَمْنُوعٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّقْوِيمُ ضَرْبٌ مِنْ التَّخْمِينِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ

 

ج / 10 ص -178-    الصُّورَةِ إذَا تَحَقَّقْنَا الْمُمَاثَلَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ إذَا اجْتَنِيَا مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَلَا مَجَالَ لِلتَّحَرِّي فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ، قَالَ: وَالتَّشْكِيكُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ نَوْعٌ مِنْ الْوَسْوَاسِ وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلِذَلِكَ جَزَمَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ بِأَنْ اجْتَنِيَا مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غُصْنٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّجْرِبَةِ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَغَلَطَ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ، وَكُلُّهُمْ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ وَشَبَهِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيمَا إذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ، وَالْمُدَّانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَالدِّرْهَمَانِ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ وَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ، وَالدِّرْهَمَانِ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ. أَوْ بَاعَ صَاعَ حِنْطَةٍ وَصَاعَ شَعِيرٍ بِصَاعِ حِنْطَةٍ وَصَاعِ شَعِيرٍ، وَصَاعَا الْحِنْطَةِ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَاعَا الشَّعِيرِ كَذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ الصِّحَّةَ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ فِي الْأَسْرَارِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ وَهُوَ أَخُصُّ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمُوَافَقَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا وَاحِدًا.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ وَإِطْلَاقِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ لَمْ يَفْصِلُوا فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمَةُ إذَا تَأَمَّلْتَهَا لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهَا الْقِيمَةَ إلَّا فِي اخْتِلَافِ النَّوْعِ، وَأَمَّا فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْفَسَادِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّمَسُّكِ بِحَدِيثِ فَضَالَةَ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ عَنْ قِيمَةِ الْخَرَزِ الَّذِي مَعَ الذَّهَبِ، وَهَلْ يَقْتَضِي التَّوْزِيعُ تَفَاضُلًا أَوْ لَا فَكَانَ الْحُكْمُ عَامًا، وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ مِنْ حُجَّةِ الْمَانِعِينَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ فَالدِّينَارُ يُقَابِلُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مَعًا. لَوْ خَرَجَ الدِّينَارُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا يَرُدُّ بَعْضَ الدِّينَارِ وَبَعْضَ الدِّرْهَمِ بِاعْتِبَارِ التَّقْسِيطِ بِالْقِيمَةِ. مِثَالُهُ قِيمَةُ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَعَهُ دِرْهَمٌ فَالْجَمِيعُ أَحَدَ عَشَرَ. فَنَجْعَلُ الدِّينَارَ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَسْتَرِدُّ فِي مُقَابَلَةِ الدِّينَارِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ الدِّينَارِ وَعَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَفَاوُتٌ فِي الْقِيمَةِ. فَيَحْتَاجُ أَنْ يُقَسِّطَ الدِّينَارَ عَلَى مَا حَصَلَ فِي مُقَابَلَتِهِ مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَإِذَا قَسَّطْنَا يُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ أَوْ الْجَهْلِ بِالتَّمَاثُلِ. هَذَا كَلَامُ الرُّويَانِيِّ وَيَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ. عَلَى أَنَّ الرُّويَانِيَّ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ، بَلْ يَخْتَارُ الصِّحَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ. الْمُعْتَمَدُ وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ فِي الْإِبَانَةِ بِذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ - وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ - هُمَا مُتَّفِقَانِ. لِأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَنْ الِاجْتِهَادِ. وَرُبَّمَا يَتَفَاوَتُ. عُرِفَ أَنَّ تَقْيِيدَ الشَّيْخِ بِالْمُخَالِفَةِ فِي الْقِيمَةِ وَجْهٌ فِي الْمُهَذَّبِ. وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ غَيْرَهُ.
وأما الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ ذِكْرَ الْمُخَالَفَةَ فِي الْقِيمَةِ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهَا لَيْسَتْ شَرْطَانِ بَلْ لَوْ كَانَ التَّسَاوِي مَجْهُولًا كَفَى فِي الْبُطْلَانِ وَلَوْ كَانَتْ الْعَجْوَةُ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ وَقِيمَةُ الْمُدِّ دِرْهَمٌ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ جَعْلُ الْمُدِّ فِي مُقَابِلَةِ الْمُدِّ وَالدِّرْهَمِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ الْآخَرِ فَالْمَذْهَبُ الْبُطْلَانُ قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ يَبْعُدُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى إرَادَتِهِ لِغَرَابَةِ الْوَجْهِ وَلِأَنَّ الْمُصَحَّحَ ثَمَّ اتِّفَاقُ الْقِيمَةِ لَا عَدَمَ اخْتِلَافِهَا ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمِثَالِ. فَإِنَّ الْجِنْسَ الْعَجْوَةُ. وَالْعِوَضَ

 

ج / 10 ص -179-    الْمُخَالِفَ: الدِّرْهَمُ. وَلَا يُقَالُ فِي الدِّرْهَمِ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ قِيمَةٌ فَلَوْ كَانَ كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَمُدِّ حِنْطَةٍ لَكَانَ أَجْوَدُ.
قُلْتُ: أَمَّا اسْتِبْعَادُهُ إرَادَتَهُ لِغَرَابَتِهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ قَالَهُ كَمَا عَلِمْتَ. وَهُوَ شَيْخُ الْمُصَنِّفِ فَلَمْ يَخْفَ عَنْهُ وَلَيْسَ غَرِيبًا فِي حَقِّهِ وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصَحَّحِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ اتِّفَاقَ الْقِيمَةِ لَا عَدَمَ اخْتِلَافِهَا فَالْمُدْرَكُ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ هُوَ التَّوْزِيعُ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ اخْتِلَافِ الْقِيمَةِ فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ وَصْفًا فِي الْبُطْلَانِ وَلَمْ يَجْعَلْ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ مُصَحَّحًا. عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ شَرْطًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ. وَلَيْسَ بَيْنَ تَحَقُّقِ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَوُجُودِ الِاتِّفَاقِ وَاسِطَةٌ. فَنَبَّهَ الشَّيْخُ بِذَلِكَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي أَظْهَرَ فِيهَا الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ. وَأَمَّا لَوْ كَانَ التَّسَاوِي مَجْهُولًا فَقَدْ عُرِفَ مِنْ قَوَاعِدِ الرِّبَا أَنَّ الْجَهْلَ بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ.
وأما كَوْنُهُ لَا يُقَالُ فِي الدِّرْهَمِ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الْقِيمَةِ فَعِبَارَةُ الْمَذْهَبِ سَالِمَةٌ1 عَنْ هَذَا، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْمَذْهَبِ وَصْفٌ لِلْجِنْسِ الْمَضْمُومِ إلَى الدِّرْهَمِ، لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، فَالْمَضْمُومُ إلَى الْجِنْسِ الَّذِي بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ هُوَ الْعَجْوَةُ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ الدِّرْهَمَ فِي الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْعَجْوَةَ تُخَالِفُ الدِّرْهَمَ فِي قِيمَتِهَا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ قِيمَتَهَا مُخَالِفَةٌ لِلدِّرْهَمِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لَقِيمَةِ الدِّرْهَمِ حَتَّى يَرُدَّ مَا ذَكَرَهُ.
وأما عَلَى عِبَارَةِ التَّنْبِيهِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مُدَّ عَجْوَةٍ، فَالْمَضْمُومُ هُوَ الدِّرْهَمُ، وَقَدْ قَالَ: يُخَالِفُهُ فِي الْقِيمَةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الدِّرْهَمَ يُخَالِفُ الْمُدَّ فِي الْقِيمَةِ، فَطَرِيقُ الصَّحِيحِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْنَى أَنَّ الدِّرْهَمَ يُخَالِفُ الْمُدَّ فِي قِيمَةِ الْمُدِّ، لَا فِي قِيمَةِ الدِّرْهَمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمُنَاقَشَةَ وَارِدَةٌ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا، وَلَوْ أَتَى بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمِثَالِ لَكَانَ أَوْضَحَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ يَظْهَرُ أَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمِثَالِ أَنْ تَتَّفِقَ الْقِيمَةُ حَتَّى لَا تُؤَدِّيَ إلَى الْمُفَاضَلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ الْمِنْهَاجِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ حَيْثُ صَوَّرَهُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إلَّا أَنْ يُقَالَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْجَانِبَيْنِ - يَعْنِي فِي مِثَالِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْوِيمٍ بِخِلَافِهِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّقْوِيمِ، وَهُوَ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ.
قلت: وَذَلِكَ فَرْقٌ ضَعِيفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِلَافٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ ثَبَتَ الْفَرْقُ الَّذِي لَمَحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَإِلَّا كَانَ فِي ذَلِكَ تَظَافُرٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَيَكْفِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ أَبِي الطَّيِّبِ وَصَاحِبِ الْبَحْرِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ شَاهِدًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْعِبَارَةَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى التَّنْبِيهِ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى هَذِهِ النُّقُولِ فَقَالَ: إنَّهُ خِلَافُ إجْمَاعِ أَئِمَّةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تتردد أحيانا كلمة سالمة في قلم الشارح يريد بها: خالية.

 

ج / 10 ص -180-    الْمَذْهَبِ، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ تِلْمِيذُ الْمُصَنِّفِ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَضَعَّفَ الْوَجْهَ الْقَائِلَ بِالْمَنْعِ فَوَافَقَ الْمُصَنِّفُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَيْضًا فِي الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ الْتِفَاتًا أَنَّ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ إذَا قَتَلَ مِثْلَهُ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؟ فَطَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ جَرَيَانُ الْخِلَافِ، وَطَرِيقُ الْمَرَاوِزَةِ الْمَنْعُ وَهِيَ الْمُصَحَّحَةُقلت: وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجَهٍ، لِأَنَّهُ لَا يُوَزَّعُ هُنَاكَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ هُنَاكَ لِأَجْلِ الْمُسَاوَاةِ الظَّاهِرَةِ جَوَازُ الْبَيْعِ هُنَا لِضَرُورَةِ التَّوْزِيعِ وَلِذَلِكَ نَجْزِمُ بِالْمَنْعِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِهِ هُنَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَطْلَقَ أَئِمَّةُ الْمَذْهَبِ أَيْضًا الْبُطْلَانَ فِي جَمِيعِ الْعَقْدِ إلَّا صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ عِنْدَنَا فِي الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ وَفِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْمُدَّيْنِ، وَفِي الدِّرْهَمِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ، وَفِي الْمُدِّ وَمَا يُقَابِلُهُ قَوْلَانِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا بِدِينَارَيْنِ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ فَالْعَقْدُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي قَابَلَ الْجِنْسَ بَاطِلٌ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَانِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولًا عَلَى مَا فَصَّلَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقْسِيطَ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَصَحَّ فِيمَا إذَا اتَّفَقَتْ الْقِيمَةُ، وَالرَّافِعِيُّ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ، فَعَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَمَالَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ لَا وَجْهَ لِلْإِبْطَالِ، لِأَنَّا إذَا صَحَّحْنَا فِي الدِّرْهَمِ بِمُدٍّ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ يَبْقَى مُدٌّ فِي مُقَابَلَةِ مُدٍّ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، فَلَوْ أَبْطَلْنَاهُ لَكَانَ بِغَيْرِ مُوجِبٍ. وَالْعُذْرُ عَنْ عَدَمِ تَخْرِيجِهِ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَنَّ التَّقْوِيمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي الرِّبَوِيَّاتِ لِكَوْنِهِ تَخْمِينًا بَطَلَ اعْتِبَارُهُ مُطْلَقًا، فَلَا يُعْلَمُ الْقَدْرُ الْمُقَابِلُ مِنْ الْمُدَّيْنِ لِلْمُدِّ فَيَصِيرُ الْمُقَابِلُ مِنْهُمَا لِلْمُدِّ مَجْهُولًا وَمَنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَابِلُ لِلدِّرْهَمِ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُسْقِطْ اعْتِبَارَ التَّقْوِيمِ فِيهِمَا.
وَحَاوَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ جَوَابًا آخَرَ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فَقَالَ: الْفَرْقُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ أَنَّ عِنْدَ غَيْرِهِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلصِّحَّةِ بِحَالٍ لِتَمَيُّزِهِ، فَأَمْكَنَ قَصْرُ الْبُطْلَانِ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ مَا قَابَلَ الْجِنْسَ، فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلصِّحَّةِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِذَا قَبِلَهَا لَمْ يَكُنْ قَصْرُ الْبُطْلَانِ عَلَيْهِ، وَقَرُبَ مِمَّا إذَا تَزَوَّجَ خَمْسَ نِسْوَةٍ فِي عَقْدٍ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَقُولُ بَطَلَ فِي وَاحِدٍ، وَفِي الْبَاقِيَاتِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. نَعَمْ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ أَغْرَبَ فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ: قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ بِالْخَبَرِ يَرُدُّ طَرِيقَةَ الْمُتَوَلِّي، إلَّا أَنْ يَقُولَ: كَانَ الذَّهَبُ فِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْخَرَزُ تَابِعٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ.
قلت: وَتَمَسُّكُهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ بِمَسْلَكِ أَبِي حَنِيفَةَ سَهْلٌ عَلَى ضَعْفِهِ. فَإِنَّا لَا نَخْشَى أَنْ نَجْعَلَ الْجَوَابَ عَلَى مَذْهَبِنَا مُسْتَنِدًا إلَى شَيْءٍ لَا نَقُولُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
نَعَمْ إنَّمَا يَقْوَى هَذَا الْبَحْثُ مِنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَمُوَافِقِيهِ الْقَائِلِينَ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْقِيمَةِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِهَا يُمْكِنُ دَعْوَى التَّخْرِيجِ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مِنْ عُقُودِ الرِّبَا فَبَطَلَتْ جُمْلَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى فِي الْعَرَايَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي

 

ج / 10 ص -181-    عَقْدٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؟ وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ قَدْ صَارَ مُزَابَنَةً، وَالْمُزَابَنَةُ فَاسِدَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِحَدِيثِ الْقِلَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي رَدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ ذَلِكَ وَرَدَّهُ حَتَّى يَفْصِلَ وَعَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ يَبْطُلُ فِي الذَّهَبِ وَمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الذَّهَبِ، وَفِي الْخَرَزِ وَمَا يُقَابِلُهُ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَيُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إما  بُطْلَانُ التَّخْرِيجِ فِي ذَلِكَ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وإما  أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَفْرِيقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
إذَا تُحَذِّرَ1 الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى الْمَنْعِ فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَرَوَى مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ "أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بِأَرْضِ فَارِس: لَا تَبِيعُوا سُيُوفًا فِيهَا حَلْقَةٌ فِضَّةٌ بِالدَّرَاهِمِ " وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَثَرُ الدَّالُّ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُوِيَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ شَيْءٌ مُحْتَمَلٌ، وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبِيعُ سَرْجًا وَلَا سَيْفًا فِيهِ فِضَّةٌ حَتَّى يَنْزِعَهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَمِنْ الْبَائِعِينَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ السَّيْفَ الْمُحَلَّى بِفِضَّةٍ، وَيَقُولُ: اشْتَرِهِ بِالذَّهَبِ يَدًا بِيَدِ. وَابْنُ سِيرِينَ كَانَ يَكْرَهُ شِرَاءَ السَّيْفِ الْمُحَلَّى إلَّا بِعَرَضٍ وَيَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْحِلْيَةُ فِضَّةً اشْتَرَاهَا بِالذَّهَبِ. وَإِنْ كَانَتْ الْحِلْيَةُ ذَهَبًا اشْتَرَاهَا بِالْفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا وَفِضَّةً اشْتَرَاهَا بِالذَّهَبِ وَإِنْ كَانَتْ الْحِلْيَةُ ذَهَبًا اشْتَرَاهَا بِالْفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا وَفِضَّةً فَلَا تَشْتَرِهَا بِذَهَبٍ وَلَا بِفِضَّةٍ وَاشْتَرِهَا بِعَرَضٍ.
وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي سُئِلَ عَنْ طَوْقِ ذَهَبٍ فِيهِ فُصُوصٌ أَيُبَاعُ بِالدَّنَانِيرِ؟ قَالَ تُنْزَعُ الْفُصُوصُ ثُمَّ يُبَاعُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالزُّبَيْرِيِّ قَالَا جَمِيعًا: يُكْرَهُ أَنْ يُبَاعَ الْخَاتَمُ فِيهِ فِضَّةٌ بِالْوَرِقِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَهَبًا وَفِضَّةً بِذَهَبٍ. وَقَالَ حَمَّادٌ: أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ اشْتَرِ أَلْفَ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَوَافَقَنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَخَالَفَنَا فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ.
رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه "أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بِأَرْضِنَا قَوْمًا يَأْكُلُونَ الرِّبَا. قَالَ عَلِيٌّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ يَبِيعُونَ جَامَاتٍ مَخْلُوطَةً بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ بِوَرِقٍ فَنَكَسَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: لَا. أَيْ لَا بَأْسَ بِهِ "الْمُغِيرَةُ بْنُ جُبَيْرِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:"لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالدَّرَاهِمِ " وَعَنْ إبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ قَالَ:"كَانَ خَبَّابٌ فِينَا وَكَانَ رُبَّمَا اشْتَرَى السَّيْفَ الْمُحَلَّى بِالْوَرِقِ" وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعله: إذا تحزز الذهب. أو تحرر المذهب. والله أعلم (ط).

 

ج / 10 ص -182-    "كُنَّا نَبِيعُ السَّيْفَ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ وَنَشْتَرِيهِ. وَمِنْ الْبَائِعِينَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ سُئِلَ عَنْ أَلْفِ دِينَارٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَخَمْسِ دَنَانِيرَ. قَالَ: لَا بَأْسَ أَلْفٌ بِأَلْفٍ وَالْفَضْلُ بِالدَّنَانِيرِ" وَعَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالُوا كُلُّهُمْ:"لَا بَأْسَ بِالسَّيْفِ فِيهِ الْحِلْيَةُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْخَاتَمُ بِأَنْ يَبْتَاعَهُ بِأَكْثَرَ مَا فِيهِ أَوْ بِأَقَلَّ وَنَسِيئَةً" وَعَنْ مُغِيرَةَ قَالَ "سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ عَنْ الْخَاتَمِ أَبِيعُهُ نَسِيئَةً؟ فَقَالَ: أَفِيهِ فَصٌّ؟ فَقُلْت نَعَمْ. فَكَأَنَّهُ هَوَّنَ فِيهِ" وَهَذَا فِيهِ بَعْضُ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُومُ إلَيْهِ رِبَوِيًّا أَوْ غَيْرُهُ. وَعَنْ ابْن سِيرِينَ وَقَتَادَةَ "لَا بَأْسَ بِشِرَاءِ السَّيْفِ الْمُفَضَّضِ وَالْخِوَانَ وَالْقَدَحِ بِالدَّرَاهِمِ" وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ سُئِلَ عَنْ السَّيْفِ الْمُحَلَّى يُبَاعُ بِالدَّرَاهِمِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ. هَذِهِ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْهُ فِي الْمُوَافِقِينَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَمَكْحُولٍ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالسَّيْفِ الْمُحَلَّى يُشْتَرَى نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَيَقُولُ: فِيهِ الْحَدِيدُ وَالْحَمَائِلُ. وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى يُبَاعُ بِالدَّرَاهِمِ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْحِلْيَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمِثْلُهُ أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَكُونَانِ جَمِيعًا. قَالَ لَا يُبَاعُ إلَّا بِوَزْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ يُلْغِي الْوَاحِدَ.
وأما الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْحِلْيَةُ تَبَعًا وَكَانَ الْفَضْلُ فِي الْفَضْلِ جَازَ بَيْعُهُ بِنَوْعِهِ نَقْدًا وَتَأْخِيرًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ فِضَّةُ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ وَالْمُصْحَفُ كَذَلِكَ وَالْمِنْطَقَةُ أَوْ خَاتَمُ الْفِضَّةِ يَقَعُ فِي الثُّلُثِ مِنْ قِيمَتِهَا مِنْ النَّصْلِ وَالْغِمْدِ وَالْحَمَائِلِ، وَمَعَ الْمُصْحَفِ وَمَعَ الْفَصِّ، وَكَانَ حُلِيُّ النِّسَاءِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَقَعُ الْفِضَّةُ أَوْ الذَّهَبُ فِي ثُلُثِ الْقِيمَةِ، الْجَمِيعُ مَعَ الْحِجَارَةِ، مَا قَلَّ جَازَ بَيْعُ كُلِّ ذَلِكَ بِنَوْعِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ، وَمِثْلِهِ وَأَقَلَّ نَقْدًا، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ أَصْلًا. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ فِيهِ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ بِنَوْعِ مَا فِيهِ مِنْهُمَا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، كَالسِّكِّينِ الْمُحَلَّاةِ بِالْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ السَّرْجِ كَذَلِكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ إذَا نُزِعَ لَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ لَهُ بَالٌ، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِبَيْعِهِ بِنَوْعِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ نَقْدًا أَوْ بِتَأْخِيرٍ وَكَيْفَ شَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ شَيْءٍ يُحَلَّى بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ فَجَائِزٌ بَيْعُهُ بِنَوْعِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَبِيعِ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ، وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بِأَقَلِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ مَا تَقَعُ الْفِضَّةُ أَوْ الذَّهَبُ مِنْ الثَّمَنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَجَوَّزَ أَنْ يُبَاعَ مُدُّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٌ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ وَشَبَهِهِ. وَقَالَ: يَكُونُ الْمُدُّ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ، وَالْمُدُّ الْآخَرُ فِي مُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ. حَتَّى قَالَ: لَوْ بَاعَ مِائَةَ دِينَارٍ بِدِينَارٍ فِي خَرِيطَةٍ مَعَ الْخَرِيطَةِ جَازَ، وَيَكُونُ دِينَارٌ مِنْ الْمِائَةِ فِي مُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَبَقِيَّتُهَا فِي مُقَابَلَةٍ لِلْخَرِيطَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ مِنْ حُجَّتِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهَا. وَتَكَلَّمُوا عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ بِالِاخْتِلَافِ فِي طُرُقِهِ، وَبِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ الذَّهَبِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ، وَاعْتَضَدُوا فِي ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ فَصَّلَهَا فَجَاءَتْ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ بِأَنَّهَا قِصَّتَانِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "لَمْ يَسْتَفْصِلْ" وَأَنَاطَ

 

ج / 10 ص -183-    الْمَنْعَ بِوَصْفٍ وَهُوَ عَدَمُ التَّمْيِيزِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ لَا غَيْرُهُ. وَأَمَّا الرَّاوِي قَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ. فَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ فِيهَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الذَّهَبِ الَّذِي هُوَ ثَمَنٌ بَعِيدٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِدِينَارٍ ثَقِيلٍ بِدِينَارٍ أَخَفَّ مِنْهُ وَدِرْهَمٍ. وَعَنْ الْحُكْمِ فِي الدِّينَارِ الشَّامِيِّ بِالدِّينَارِ الْكُوفِيِّ وَفَضْلُ الشَّامِيِّ فِضَّةٌ. قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَهُ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مِائَةِ مِثْقَالٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَكَرِهَهُ. رَوَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمَعْنَى فَضْلِ الشَّامِيِّ فِضَّةٌ أَنَّ الشَّامِيَّ أَثْقَلُ مِنْ الْكُوفِيِّ فَيَأْخُذُ بِالْفَضْلِ فِضَّةً. وَصَحَّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا أَنَّهُ كَرِهَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِتِسْعَةٍ وَفَلْسٍ وَلَمْ يَرَ بَأْسًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ وَذَهَبٍ، وَلَمْ أَفْهَمْ الْفَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الذَّهَبِ نَقْدًا وَالْفُلُوسُ لَيْسَ بِنَقْدٍ
فرع: مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بَاعَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ فَصٌّ بِفِضَّةٍ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ بَاعَهُ بِذَهَبٍ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعٍ وَصَرْفٍ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَبْدِ إذَا كَانَ مَعَهُ دَرَاهِمُ وَبَاعَهُ، وَبِيعَ الذَّهَبُ الْإِبْرِيزُ بِالْهَرَوِيِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ بَعْضُ الْمُخْتَلَطِ كَالسُّكَّرِ بِبَعْضِ اللَّبُونِ إذَا بِيعَ بِمِثْلِهِ بَاطِلٌ قَالَهُ الْإِمَامُ: قَالَ الرُّويَانِيُّ: كُلُّ مَا خُلِطَ مِنْ شَيْئَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ.
فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّوْعُ أَوْ الصِّفَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَمَا إذَا بَاعَ مُدَّ عَجْوَةٍ وَمُدَّ بَرْنِيِّ بِمُدَّيْ مَعْقِلِيٍّ، أَوْ قَفِيزَ طَعَامٍ وَقَفِيزَ طَعَامٍ رَدِيءٍ، بِقَفِيزَيْنِ مِنْ طَعَامٍ جَيِّدٍ أَوْ رَدِيءٍ، أَوْ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ أَوْ بَاعَ مِائَةَ دِينَارٍ جَيِّدٍ وَمِائَةَ دِينَارٍ رَدِيءٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ جَيِّدٍ أَوْ رَدِيءٍ أَوْ وَسَطٍ أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ جَيِّدَةٍ أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ رَدِيئَةٍ أَوْ دِينَارًا قَاسَانِيًّا وَدِينَارًا سَابُورِيًّا بِقَاسَانِيَّيْنِ أَوْ سَابُورِيَّيْنِ أَوْ بِقَاسَانِيٍّ وَسَابُورِيٍّ، أَوْ قَاسَانِيٍّ وَإِبْرِيزِيٍّ بِقَاسَانِيَّيْنِ، أَوْ إبْرِيزِيَّيْنِ، أَوْ قَاسَانِيٍّ وَإِبْرِيزِيٍّ، أَوْ دِينَارًا صَحِيحًا وَدِينَارًا مَكْسُورًا بِدِينَارَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَوْ مَكْسُورَيْنِ أَوْ صَحِيحٍ وَمَكْسُورٍ، أَوْ ذَهَبَ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ وَذَهَبَ دُرَّةٍ حَمْرَاءَ بِذَهَبَيْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ دَرَاهِمَ صَحِيحَةٍ وَغَلَّةَ بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ وَغَلَّةٍ، أَوْ دِينَارًا مَغْرِبِيًّا وَدِينَارًا سَابُورِيًّا بِدِينَارَيْنِ مَغْرِبِيِّينَ، أَوْ حِنْطَةٍ حَمْرَاءَ وَسَمْرَاءَ بِبَيْضَاءَ.
وَإِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه بِمَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: وَلَوْ رَاطَلَ بِمِائَةِ دِينَارٍ عُتَّقٍ مَرْوَانِيَّةٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ مَكْرُوهٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَسَطٍ. وَبِقَوْلِهِ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ: إذَا صَارَفَهُ خَمْسِينَ قِطَاعًا وَخَمْسِينَ صِحَاحًا بِمِائَةٍ صِحَاحٍ، وَبِقَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَالْأُمِّ الَّذِي تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ فِي التَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالْعَجْوَةِ أَوْ اللَّوْزِ بِالصَّيْحَانِيِّ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ الْبُطْلَانُ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَيْضًا وَإِلْحَاقُهَا بِالْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، وَقَدْ عَرَفْتَ قَوْلَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ. وَقَدْ قِيلَ: وَيَجُوزُ خَمْسُونَ قِطَاعًا صِحَاحًا بِمِائَةٍ صِحَاحٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَلَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ فَلِذَلِكَ لَا يُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ. وَهَلْ هُوَ مِنْ نَقْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ الْبُوَيْطِيِّ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَفَّالِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا حَكَى

 

ج / 10 ص -184-    الْبُوَيْطِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ فِي الْإِمْلَاءِ، وَوَافَقَ الْقَفَّالُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ، وَجَعَلَهُ عَائِدًا إلَى جَمِيعِ صُوَرِ اخْتِلَافِ النَّوْعِ فِي التَّمْرِ وَالنَّقْدِ وَقَدْ حُكِيَ وَجْهٌ فِي طَرِيقَةِ الْخُرَاسَانِيِّينَ رُوِيَ عَنْ حِكَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ صِفَةَ الصِّحَّةِ فِي مَحِلِّ الْمُسَامَحَةِ، وَرَأَى أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الصِّحَّةِ لَا يَضُرُّ وَحَكَى الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ فِي بَيْعِ الصَّيْحَانِيِّ وَالْبُرْنِيِّ بِالصَّيْحَانِيِّ، أَوْ بِالْبُرْنِيِّ وَالصَّيْحَانِيِّ، وَفِي بَيْعِ الصَّحِيحِ أَوْ الْمَكْسُورِ بِالصَّحِيحِ أَوْ الْمَكْسُورِ أَوْ بِهِمَا، وَفِي الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ بِالْجَيِّدَيْنِ أَوْ الرَّدِيئَيْنِ وَأَشَارَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إلَى حِكَايَةِ هَذَا الْوَجْهِ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَكْسُورِ، وَحِكَايَةُ الْقَفَّالِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، لَكِنْ حَكَاهُ فِي صُورَةِ بَيْعِ الصَّحِيحِ بِالْمَكْسُورِ وَالصَّحِيحِ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ صَاحِبَ الصِّحَاحِ حَاكٍ وَحَكَاهُ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرِ بِالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرِ وَرُدَّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ بَيْعِ الصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرِ بِالْمُكَسَّرِ فَجُزِمَ بِالْبُطْلَانِ وَلَمْ يُحْكَ فِيهَا خِلَافٌ وَالْقِيَاسُ جَرَيَانُهُ وَجَزَمَ الْقَفَّالُ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الدَّنَانِيرِ الْعُتَّقِ وَالْجُدُدِ بِمِثْلِهَا أَوْ بِجُدُدٍ أَوْ عُتَّقٍ بِالْبُطْلَانِ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْبَيَانِ بِحِكَايَةِ الْوَجْهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ فِي نَوْعَيْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنِّي التَّنْبِيهُ فِي فَرْعٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ إذَا اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ فَوَجَدَ بِبَعْضِهَا عَيْبًا مِنْ جِنْسِهَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. وَخَالَفَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَنَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ إنَّمَا تَتِمُّ إذَا فَرَّعْنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، مَعَ أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ قَالَ فِي ذَلِكَ: إنَّ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى الْمَذْهَبِ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ طَرَدَهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَهَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدُ لَمْ يَطْرُدَاهُ، بَلْ خَصَّاهُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ لَا غَيْرُ وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ قَصَرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَكْسُورِ وَكَذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَافَقَ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ. وَقَالَ: إنَّ التَّوْزِيعَ فِي أَصْلِهَا بَاطِلٌ عِنْدِي، وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نِهَايَةُ الْفَسَادِ، فَإِنَّ الصَّفْقَةَ إذَا انْطَوَتْ عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ جَانِبٍ، نِصْفُهَا مَكْسُورَةٌ وَعَلَى عَشَرَةٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبِ الثَّانِي، فَتَكَلُّفُ التَّوْزِيعِ فِي هَذَا غُلُوٌّ وَاشْتِغَالٌ بِجَلْبِ التَّفَاضُلِ عَلَى مُكَلَّفٍ، وَقَدْ صَارَتْ الْمُمَاثَلَةُ مَحْسُوسَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ ثُمَّ هُوَ فِي وُضُوحِهِ فِي الْمَعْنَى يَعْتَضِدُ بِمَا يُقَرِّبُ ادِّعَاءَ الْوِفَاقِ فِيهِ، فَمَا زَالَ النَّاسُ يَبِيعُونَ الْمُكَسَّرَةَ بِالصِّحَاحِ، وَالْمُكَسَّرَةُ لَوْ قُسِمَتْ لَكَانَ فِيهَا قِطَعٌ كِبَارٌ وَصِغَارٌ وَالْقِيمَةُ تَتَفَاوَتُ فِي ذَلِكَ تَفَاوُتًا ظَاهِرًا. ثُمَّ لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ تَسَاوِي صِفَةِ الْقِطَاعِ فَقَدْ خَرَجَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، فَمَنْ رَاعَى التَّوْزِيعَ أَفْسَدَ الْبَيْعَ وَمَنْ تَعَلَّقَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ حُكِمَ بِالصِّحَّةِ لِتَحَقُّقِ تَمَاثُلِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْإِمَامِ قَطَعَ الْمَرْغِينَانِيُّ1 - عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي فَتَاوَى النِّهَايَةِ - بِالصِّحَّةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله الميرغيناني في "النهاية على فتاوي الهندية" وقد جاء بعده الميرغيناني.

 

ج / 10 ص -185-    وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَشَارَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ إلَى تَرْجِيحِهِ. وَقَالَ فِي الْبَسِيطِ: إنَّ الْقِيَاسَ الصِّحَّةُ قَالَ: وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ الدَّرَاهِمَ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَات، وَالْمُكَسَّرَاتُ مِنْهَا تَشْتَمِلُ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ يَعْرِفُ الصَّيَارِفُ صَرْفَهَا، وَفَضْلَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا قَطُّ تَمْيِيزَهَا، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ إذَا بِيعَ بِالتَّمْرِ، وَيَشْتَمِلُ الصَّاعُ عَلَى تَمَرَاتٍ رَدِيئَةٍ وَأُخْرَى جَيِّدَةٍ، وَلَوْ فُصِلَتْ لَتَفَاوَتَتْ قِيمَتُهَا، وَإِبْطَالُ بَيْعِهَا بَعِيدٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا فِيهَا تَوَقُّفٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ التَّتِمَّةِ ثُمَّ صَاحِبُ الْبَحْرِ ذَكَرَ أَنَّهُ إنْ مَيَّزَ بَيْنَ صِغَارِ التَّمْرِ وَكِبَارِهِ فَبَاعَ صَاعًا مِنْ الصِّغَارِ، وَصَاعًا مِنْ الْكِبَارِ، بِصَاعٍ مِنْ الصِّغَارِ وَصَاعٍ مِنْ الْكِبَارِ، فَالْحُكْمُ كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارٍ وَهُمَا مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ صَاعَيْنِ بِصَاعَيْنِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ كُلَّ عِوَضٍ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ. فَمَا حُكْمُ الْعَقْدِ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا كَانَ بَيْنَ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ تَفَاوُتٌ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا، وَالشَّرْطُ فِي بَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ أَنْ تَتَسَاوَى أَجْزَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْرَدَ الْبَعْضُ، وَتَحْقِيقُ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّقْسِيطِ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الرِّبَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي1 الْإِمَامِ حُسَيْنٍ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إذَا بَاعَ صَاعًا بِصَاعٍ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ إنْ كَانَتْ الصِّغَارُ ظَاهِرَةً فِيمَا بَيْنَ الْكِبَارِ، بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِلنُّظَّارِ، لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصِّغَارُ ظَاهِرَةً فِيهَا بَيْنَ الْكِبَارِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَصَالِحٌ كَمَا لَوْ بَاعَ أَرْضًا وَفِيهَا مَعْدِنٌ ذَهَبٌ بِذَهَبٍ، إنْ كَانَ الْمَعْدِنُ ظَاهِرًا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا يَصِحُّ الْعَقْدُ، فَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصِّغَارُ مُخْتَلِطَةً بِالْكِبَارِ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُفْرَدَةً، لِأَنَّهُ لَوْ الْتَقَطَ الصِّغَارَ عَنْ الْجُمْلَةِ وَمَيَّزَهَا عَنْهَا ثُمَّ بَاعَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ بِالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ عِنْدَ التَّمْيِيزِ كُلَّ نَوْعٍ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَعِنْدَ الِاخْتِلَاطِ الْجُمْلَةُ مَقْصُودَةٌ، وَكُلُّ نَوْعٍ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنَّ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ لَوْ بَاعَ صَاعَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُ الصَّاعَيْنِ مُسْتَحِقًّا يَسْتَرِدُّ بِإِزَائِهِ دِرْهَمًا مِنْ الْجُمْلَةِ وَإِذَا كَانَتْ الصِّغَارُ مُفْرَدَةً عَنْ الْكُلِّ فَخَرَجَ كُلُّ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ مُسْتَحِقًّا لَا يَسْتَرِدُّ بِإِزَائِهِ دِرْهَمًا مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يَسْتَرِدُّ مَا يُقَابِلُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ، وَمُلَخَّصُهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا والثاني: إنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً تَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ لَمْ يَصِحَّ. وَالْأَصَحُّ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ، وَالصَّوَابُ الصِّحَّةُ مُطْلَقًا عِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، سَوَاءٌ ظَهَرَتْ أَمْ لَمْ تَظْهَرْ، فَإِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ" وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْجَمْعَ اسْمٌ لِمَا يَجْمَعُ أَنْوَاعَ التَّمْرِ، وَقَدْ خَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعله "وهو اختيار الإمام القاضي حسين" (ط).

 

ج / 10 ص -186-    أَنْ يَشْتَرِيَ صَاعًا مِنْ الْجَنِيبِ بِصَاعٍ مِنْهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ، وَلَمْ يَفْصِلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ ظَاهِرًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَا، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ يَظْهَرُ الِاخْتِلَاطُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ نَوْعٍ مُتَمَيِّزًا مُنْفَصِلًا فَفِي إلْحَاقِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ نَظَرٌ أَنَّ الْمُخْتَلَطَ لَا يُوَزِّعُ أَهْلُ الْعُرْفِ الثَّمَنَ عَلَيْهِ، بَلْ يُقَوِّمُونَ شَيْئًا وَاحِدًا وَالتَّمْيِيزُ يُقَوِّمُ أَهْلُ الْعُرْفِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِمَا ذَكَرْتُهُ وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ يَظْهَرُ وَجْهُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، فَعِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ أُلْحِقَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ اسْتِدْلَالًا بِالْحَدِيثِ وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَعِنْدَ التَّمْيِيزِ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ الْبُطْلَانُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَيَقُولُونَ: إنْ خَلَطَ الصَّيْحَانِيَّ بِالْبُرْنِيِّ أَوْ الْكِبَارَ بِالصِّغَارِ ثُمَّ بَاعَ صَاعًا بِصَاعٍ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ، وَلَوْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ ثُمَّ بَاعَ لَمْ يَجُزْ قَالَ: وَهَذَا مُشْكِلٌ إنْ سَلَّمْنَا، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي مِنْ التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجْهُ الِاعْتِرَاضِ: عَلَى مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ الْبُطْلَانُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِمَنْعِ ذَلِكَ فِي النَّقْدِ، وَتَجْوِيزُهُ فِي التَّمْرِ، لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ يَكْثُرُ اخْتِلَاطُهَا وَيَشُقُّ تَمْيِيزُهَا. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ التَّقْرِيبِ عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ احْتَرَزَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ مَسْأَلَةِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي الْمُرَاطَلَةِ بِمَا يَقْتَضِي عَدَمَ طَرْدِهِ فِيهَا. فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ فَرَضَ مَسْأَلَةَ الْمُرَاطَلَةِ فِي الْعُتَّقِ وَهِيَ نَفِيسَةٌ. وَالْمَرْوَانِيَّة وَهِيَ دُونَهَا. ثُمَّ فَرَضَ مِنْ الْجَانِبِ الثَّانِي مِائَتَيْ دِينَارٍ وَسَطًا حَتَّى لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُسَامَحَةِ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ اقْتَضَى الْعَقْدُ مِنْ الشِّقَّيْنِ طَلَبَ الْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّوْزِيعَ وَهُوَ يُفْضِي إلَى التَّفَاضُلِ لَا مَحَالَةَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ، وَإِنْ نُقِلَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ.
وَلَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ قَالَ: إنَّ قِيَاسَهُ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالصِّحَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ قَالَ: وَمَا ذَكَرْتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ التَّصْحِيحِ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَأَصْحَابِهِ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ يُتَبَيَّنُ فَرْقٌ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ وَبَيْنَ مَا لَوْ بَاعَ خَمْسَةً مُكَسَّرَةً وَخَمْسَةً صَحِيحَةً بِمِثْلِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ خِلَافًا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: هَذَا نَقْلُ الْمَذْهَبِ وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ، وَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى - بِمَآخِذِ الْأَشْرَافِ، عَلَى مَطَالِعِ الْإِنْصَافِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ - إنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ يَعْنِي طَرِيقَ التَّوْزِيعِ وَالْجَهْلَ بِالْمُمَاثَلَةِ لَا تَأْتِي فِي مَسَائِلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَمَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ، وَمَسْأَلَةِ الصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّ قِيمَةَ الْمُدِّ مِثْلُ الدِّرْهَمِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ الَّتِي خَالَفَ الْإِمَامُ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ فِيهَا، فَإِنَّ لِلنَّظَرِ فِيهَا مَجَالًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَاطَلَ مِائَةَ رَطْلٍ مِائَةَ دِينَارٍ عُتَّقٍ وَمِائَةً مَرْوَانِيَّةً بِمِائَتَيْ دِينَارٍ وَسَطٍ، فَإِنْ فُرِضَ

 

ج / 10 ص -187-    مُسَاوَاةُ الْوَسَطِ لِلْمِائَتَيْنِ الْعُتَّقِ وَلِلْمَرْوَانِيَّةِ فِي الْقِيمَةِ صَحَّ الْعَقْدُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَإِنْ فُرِضَ التَّفَاضُلُ أَوْ الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْفَسَادِ قَطْعًا، يَعْنِي عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُتَّجَهُ لَهُمْ - يَعْنِي لِلْخَصْمِ - فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ" قلت: لَمْ أَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَدِيثٍ وَالْحَنَفِيَّةُ اسْتَنَدُوا إلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَحَقَّقُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مُقَابَلَةُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ بِوَزْنِ الْعَيْنِ لَا بِرِعَايَةِ الصِّفَةِ وَلَوْ رُوعِيَتْ الصِّفَاتُ لَمَا تُصُوِّرَ تَصْحِيحُ بَيْعِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، إذْ مَا مِنْ صَاعٍ إلَّا وَيَشْتَمِلُ عَلَى تَمَرَاتٍ رَدِيئَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، لَوْ مُيِّزَتْ لَاخْتَلَفَتْ قِيمَتُهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَرْعَاهَا الشَّرْعُ قَطْعًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحِلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَازِمٌ عَلَى مَسَاقِ الْمَذْهَبِ، فَنَقُولُ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ" فَإِنْ كَانَ حَدِيثًا أَرَادَ بِهِ مَا إذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعُ فَهُوَ مُسْتَخْرَجٌ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمُعَامَلَةِ قَدْ تَعَبَّدْنَا بِهَا وَالتَّوْزِيعُ يُفْضِي إلَى مُفَاضَلَةٍ لَا مَحَالَةَ بِدَلِيلِ أَنَّ الدِّينَارَ الْجَيِّدَ لَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ وَالدِّينَارَ الرَّدِيءَ لِآخَرَ لَا يَتَقَاسَمَانِ الدِّينَارَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، بَلْ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْجَيِّدِ زِيَادَةً، وَلَا يَسْتَنِدُ اسْتِحْقَاقُهُ لِمِلْكِ الزِّيَادَةِ إلَى الْقِسْمَةِ إذْ الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ لِلْحَقِّ لَا يَزِيدُ بِهِ الْحَقُّ وَلَا يَنْقُصُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِاقْتِضَاءِ الْعَقْدِ، هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ، فَلَا تَخْتَلِفُ الْمُقَابَلَةُ بِاتِّحَادِ الْعَاقِدِ.
ثُمَّ قَالَ: هَذَا طَرِيقُ التَّوْزِيعِ، وَفِيهِ غُمُوضٌ لَا يُنْكِرُهُ مَنْ تَأَمَّلَهُ. وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَرَافِيُّ لَهُمْ مِنْ الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ كَذَلِكَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ. وَذَكَرُوا أَيْضًا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عِبَادَةَ
"لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَى أَنْ قَالَ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ" قَالُوا: مَا جَازَ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ تَجْمَعَ الصَّفْقَةُ نَوْعًا وَاحِدًا أَوْ نَوْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الطَّعَامِ "إلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِقْدَارِ أَوْ فِي الْقِيمَةِ لَا جَائِز أَنْ تَكُونَ فِي الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ دِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ بِمَكْسُورَيْنِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الصِّحَاحِ أَكْثَرَ، وَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْخَبَرَ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ قَالَ:"إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ" وَلَيْسَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الدِّرْهَمَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِالْمَكْسُورَيْنِ، مُتَّفَقٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّمَا التَّمَاثُلُ بِالْقَدْرِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيمَةَ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ يُعْرَفُ بِهَا تَمَاثُلُ الْقَدْرِ وَتَفَاضُلُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجُورِيُّ طَرِيقَ التَّوْزِيعِ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ الْمَدِينِيُّ بِهَذَا الدَّلِيلِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لِابْنِ سُرَيْجٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ تَعَدٍّ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَنْعُ مِنْ صَاعَيْ بَرْنِيِّ بِصَاعَيْ سِهْرِيزٍ بِجَوَازِ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا صَاعَيْ السِّهْرِيزِ فَيَرْجِعُ صَاحِبُهُ بِقِيمَتِهِ مِنْ الْبَرْنِيِّ، وَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ، فَيَصِيرُ إلَى أَنْ أَعْطَى صَاعًا وَنِصْفًا بَرْنِيًّا بِصَاعٍ مِنْ سِهْرِيزٍ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ اقْتَحَمَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَرَاهُ فَاعِلَهُ، لَزِمَهُ أَنْ لَا يُجِيزَ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ حَتَّى يَكُونَا مُتَمَاثِلَيْ الْقِيَمِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَنْخَفِضُ قِيمَتُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ مَا خَافَهُ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَاعَ السِّهْرِيزِ مُقَابَلٌ بِصَاعٍ مِنْ الْبَرْنِيِّ لَا غَيْرُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْجُورِيُّ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي إبْطَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 10 ص -188-    وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى اعْتَضَدْنَا فِيهَا بِحَدِيثِ الْقِلَادَةِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْقِلَادَةَ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فِيهَا فَلَمْ يَبْقَ لَهَا هُنَا إلَّا التَّمَسُّكُ بِالْمَعْنَى وَالنَّظَرُ فِي إلْحَاقِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بِالْأُولَى وَلِذَلِكَ خَالَفَ فِي هَذِهِ بَعْضُ مَنْ وَافَقَ فِي الْأُولَى، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمهما الله. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ فَجَائِزٌ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ رَدِيءَ التَّمْرِ وَجَيِّدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ.
فروع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَحِيحًا وَمِائَةَ دِرْهَمٍ غَلَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صِحَاحٍ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَإِنْ اخْتَلَفَ جَوْهَرُ الصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ وَجَوْهَرُ الْغَلَّةِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ مَحِلَّ الْخِلَافِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ رَاجِعَةً لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى جَوْهَرِ الْعِوَضَيْنِ أَمَّا إذَا اخْتَلَفَ جَوْهَرُ الْعَرَضِ مَعَ الْمَضْمُومِ فَيَبْطُلُ جَزْمًا. هَكَذَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْكَلَامُ.
فرع: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرَاطَلَةِ عِلَّةَ الْجَوَازِ فِي بَيْعِ الدِّينَارِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ أَنَّ أَجْزَاءَ الْجَيِّدِ مُتَسَاوِيَةُ الْقِيمَةِ، وَأَجْزَاءَ الرَّدِيءِ مُتَسَاوِيَةُ الْقِيمَةِ وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَتْ الرَّدَاءَةُ فِي طَرَفٍ مِنْ الدِّينَارِ - وَبَقِيَّتُهُ جَيِّدٌ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجَيِّدٍ وَلَا رَدِيءٍ وَلَا بِمِثْلِهِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ الدِّينَارَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُوَزَّعُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهِ بِالْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ جُمْلَتُهُ، وَلَوْ فُرِضَ اخْتِلَافُ رَدَاءَتِهِ كَالصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ الْمُخْتَلَطِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَطْلَقَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ وَلِلْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عُتَّقًا وَجُدُدًا بِعُتَّقٍ وَجُدُدٍ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِمَا إذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْعُتَّقِ وَالْجُدُدِ أَوْ كَانَ الْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِهَا. أَمَّا إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْيَوْمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُرُّ ذَلِكَ.
فرع: جَعَلَ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: دِينَارَ1 صَحِيحٍ وَدِينَارَ رُبَاعِيَّات بِدِينَارَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَوْ رُبَاعِيَّانِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمقلت: وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِنِصْفَيْنِ وَزْنُهُمَا دِرْهَمٌ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الرَّوَاجُ وَاحِدًا وَهُوَ يُبَيِّنُ مُرَادَهُمْ بِالْمَكْسُورِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَكْسُورَ وَالْمَقْطُوعَ الَّذِي لَا يُرَوَّجُ رَوَاجَ الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ عَنْ نَصْرٍ رحمه الله تعالى مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مُدُّ حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ وَمَدُّ حِنْطَةٍ مِصْرِيَّةٍ بِمُدَّيْنِ مِصْرِيَّيْنِ أَوْ شَامِيَّيْنِ فِي2 أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَلْيُنْظَرْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل وفي ش و ق ويستقيم إذا قال: "دينارا صحيحا ودينارا وباعيا بدينارين صحيحين أو رباعيين" (ط).
2 بياض بالأصل فحرر ولعل السقط "تقريره" أو "بحثه" أو "حكايته" والله أعلم (ط).