روضة الطالبين وعمدة المفتين ط المكتب الإسلامي

كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ
هِيَ قِسْمَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُهُ الْإِعْتَاقُ، كَالْوَاجِبَاتِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَسَبَقَ بَيَانُهَا فِي الْحَجِّ.
وَالثَّانِي: يَدْخُلُهُ الْإِعْتَاقُ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: تَتَرَتَّبُ فِيهِ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الظِّهَارُ وَالْجِمَاعُ فِي نَهَارِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْقَتْلُ.
وَالثَّانِي: لِلتَّخْيِيرِ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَمُعْظَمُ الْمَقْصُودِ هُنَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْبَاقِي مُوَضَّحَةٌ فِي أَبْوَابِهَا.
فَصْلٌ
تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَيَكْفِيهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّقْيِيدُ بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا وَاجِبَةً، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ، وَلَا تَكْفِيهِ نِيَّةُ الْعِتْقِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ الْوَاجِبَ بِالظِّهَارِ، أَوِ الْقَتْلِ مَثَلًا، كَفَى، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ، فَيَنْوِي مِنَ اللَّيْلِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الِإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّكَاةِ،

(8/279)


وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا عُلِّقَ الْعِتْقُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى شَرْطٍ، لَمْ يَجُزْ تَأَخُّرُ النِّيَّةِ عَنِ التَّعْلِيقِ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْمُقَارَنَةُ لِلتَّعْلِيقِ إِنْ شَرَطْنَاهَا فِي التَّنْجِيزِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ: يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ.
فَرْعٌ
لَا يَجِبُ فِي النِّيَّةِ تَعْيِينُ الْكَفَّارَةِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ وَقَتْلٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدَيْنِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَاهُ عَنْهُمَا. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ، فَأَعْتَقَ رَقَبَةً بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَقَعَتْ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُهَا أَوِ اخْتَلَفَ، وَكَذَا الصَّوْمُ وَالْإِطْعَامُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَنَسِيَ سَبَبَهَا فَأَعْتَقَ وَنَوَى عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، فَأَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَعْسَرَ وَصَامَ شَهْرَيْنِ عَنْ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَجَزَ فَأَطْعَمَ عَنِ الثَّالِثَةِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا، أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، فَنَوَى كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الظِّهَارِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ الْمُطْلَقَةِ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى وَاحِدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، تَعَيَّنَ الْعِتْقُ لَهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ بَعْدَهُ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ عَيَّنَ فِي الِابْتِدَاءِ.
فَرْعٌ
إِذَا ظَاهَرَ الذِّمِّيُّ وَعَادَ، يُكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ أَوِ الْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَوِ ارْتَدَّ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، لَمْ يَصِحَّ تَكْفِيرُهُ بِالصَّوْمِ. وَهَلْ يَكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالصَّوْمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. مِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِالْإِجْزَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُكَفِّرُ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَكَانَ كَالدُّيُونِ. وَعَنِ الِاصْطَخْرِيِّ: أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْضَى أَيْضًا إِنْ قُلْنَا بِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يُقْضَى، وَيُشْتَرَطُ أَنْ

(8/280)


يَنْوِيَ الْكَفَّارَةَ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ دُونَ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَإِذَا أَخْرَجَ الْكَفَّارَةَ مِنْ مَالِهِ فِي الرِّدَّةِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ أَدْنَى الدَّرَجَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَفَرَ فِيهَا ثُمَّ أَسْلَمَ، حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ.

فَصْلٌ
خِصَالُ الْكَفَّارَةِ ثَلَاثٌ. الْأُولَى: الْعِتْقُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّقَبَةِ لِتُجْزِئَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: الْإِسْلَامُ، وَالسَّلَامَةُ، وَكَمَالُ الرِّقِّ، وَالْخُلُوُّ عَنِ الْعِوَضِ.
الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ، فَلَا تُجْزِئُ كَافِرَةٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَيُجْزِئُ إِعْتَاقُ الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا، أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْعِقَادِهِ، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ سَبَقَ فِيهِ فِي كِتَابِ «اللَّقِيطِ» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: يَصِحُّ إِسْلَامُ الْمُمَيِّزِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَوْقُوفٌ، إِنْ بَلَغَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، تَبَيَّنَّا صِحَّةَ إِسْلَامِهِ، وَإِلَّا فَلَا، فَعَلَى قَوْلِ الِاصْطَخْرِيِّ، يُجْزِئُ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَعَلَى الْوَقْفِ: إِنْ بَلَغَ وَثَبَتَ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ جَنِينٌ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِنْ مَاتَ فِي صِغَرِهِ، أَوْ بَعْدَ بُلُوغِهِ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنَ اللَّفْظِ بِالْإِسْلَامِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي اللَّقِيطِ، أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَبِهَذَا يُقَاسُ مَنْ أَسْلَمَ بِتَبَعِيَّةِ السَّابِي، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي «اللَّقِيطِ» .
وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّهُ لَوْ سَبَا الصَّغِيرَ سَابٍ، وَسَبَا أَحَدَ أَبَوَيْهِ آخَرُ، فَإِنْ كَانَا فِي عَسْكَرٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ، وَإِنْ كَانَا فِي عَسْكَرَيْنِ، كَانَا تَبَعًا لِلسَّابِي، وَأَنَّ حُكْمَ الْمَجْنُونِ فِي تَبَعِيَّةِ الْوَالِدَيْنِ وَالدَّارِ حُكْمُ الصَّبِيِّ، وَإِذَا أَفَاقَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ، فَهَلْ هُوَ مُرْتَدٌّ، أَمْ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَصَرَّحَ بِالْكُفْرِ، وَأَنَّهُ هَلْ يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ؟ إِنْ قُلْنَا: لَوْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ كَانَ مُرْتَدًّا، لَمْ يَجِبْ، لِأَنَّهُ

(8/281)


مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُجْعَلُ مُرْتَدًّا، وَجَبَ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ التَّلَفُّظِ، مَاتَ كَافِرًا.
فَرْعٌ
يَصِحُّ إِسْلَامُ الْكَافِرِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ. فَلَوْ لُقِّنَ الْعَجَمِيُّ الشَّهَادَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَتَلَفَّظَ بِهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، وَإِذَا تَلَفَّظَ الْعَبْدُ بِالْإِسْلَامِ بِلُغَتِهِ، وَسَيِّدُهُ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُ، فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يُعَرِّفُهُ بِلُغَتِهِ لِيَعْتِقَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ.
قُلْتُ: إِسْلَامُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ صَحِيحٌ، إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ أَحْسَنَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَالْوَجْهُ بِالْمَنْعِ مَشْهُورٌ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ «التَّتِمَّةِ» وَغَيْرِهِ، وَيَكْفِي السَّيِّدَ فِي مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْعَبْدِ قَوْلُ ثِقَةٍ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ، كَمَا يَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ قَوْلِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
يَصِحُّ إِسْلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ. وَقِيلَ: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا صَلَّى بَعْدَ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ، وَحَمَلَ النَّصَّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِشَارَةُ مُفْهَمَةً.
فَرْعٌ
ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَاقْتَصَرَ فِي مَوَاضِعَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْبَرَاءَةَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ، بَلْ إِنْ كَانَ الْكَافِرُ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَصْلِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ يَقُولُونَ: مُرْسَلٌ إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَرَاءَةِ، وَإِنْ

(8/282)


كَانَ يُنْكِرُ أَصْلَ الرِّسَالَةِ كَالْوَثَنِيِّ، كَفَى فِي إِسْلَامِهِ الشَّهَادَتَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا التَّفْصِيلَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ «قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ» ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ خِلَافًا لِلْأَصْحَابِ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ.
قُلْتُ: فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، حَكَاهَا صَاحِبُ «الْحَاوِي» . وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّانِي: أَنَّ التَّبَرُّؤَ شَرْطٌ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَلَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِمَا، وَحَكَى الْإِمَامُ مَعَ ذَلِكَ طَرِيقَةً أُخْرَى مَنْسُوبَةً إِلَى الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ مَنْ أَتَى مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ بِكَلِمَةٍ تُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ أَتَى مِنْهُمَا بِمَا يُوَافِقُهُ، لَمْ يُحْكَمْ، فَإِذَا وَحَّدَ الثَّنَوِيُّ، أَوْ قَالَ الْمُعَطِّلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، جُعِلَ مُسْلِمًا، وَعُرِضَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الرِّسَالَةِ، فَإِنْ أَنْكَرَ، صَارَ مُرْتَدًّا. وَالْيَهُودِيُّ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَحَكَى عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ خِلَافًا فِي أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَوِ النَّصْرَانِيَّ إِذَا اعْتَرَفَ بِصَلَاةٍ تُوَافِقُ مِلَّتَنَا، أَوْ حُكْمٍ يَخْتَصُّ بِشَرِيعَتِنَا، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِسْلَامًا؟ وَقَالَ: مَيْلُ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى كَوْنِهِ إِسْلَامًا، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي ضَبْطِهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا كَفَرَ الْمُسْلِمُ بِجَحْدِهِ، صَارَ الْكَافِرُ الْمُخَالِفُ لَهُ مُسْلِمًا بِعَقْدِهِ. ثُمَّ إِنْ كَذَّبَ غَيْرَ مَا صَدَّقَ بِهِ، كَانَ مُرْتَدًّا، وَالْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَرْعٌ
اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُمْتَحَنَ الْكَافِرُ عِنْدَ إِسْلَامِهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

(8/283)


الشَّرْطُ الثَّانِي: السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ يُضِرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، فَلَا يُجْزِئُ الزَّمِنُ، وَلَا مَنْ يُجَنُّ أَكْثَرَ الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ إِفَاقَتُهُ أَكْثَرَ، أَجْزَأَ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا عَلَى الْأَصَحِّ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، هُوَ الْمَذْهَبُ. وَفِي «الْمُسْتَظْهِرِيِّ» وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَإِنْ كَانَتْ إِفَاقَتُهُ أَكْثَرَ، وَهُوَ غَلَطٌ مُخَالِفٌ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَالدَّلِيلِ.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» طَرِيقَةً حَسَنَةً فَقَالَ: إِنْ كَانَ زَمَنُ الْجُنُونِ أَكْثَرَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِفَاقَةُ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْحَالِ، أَجْزَأَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ، لَمْ يُجْزِئْ. قَالَ: وَيُجْزِئُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ زَوَالَهُ مَرْجُوٌّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يُجْزِئُ مَرِيضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، كَصَاحِبِ السُّلِّ، فَإِنْ رُجِيَ، أَجْزَأَ، فَلَوْ أَعْتَقَ مَنْ لَا يُرْجَى، فَزَالَ مَرَضُهُ، أَوْ مَنْ يُرْجَى فَمَاتَ وَلَمْ يَزُلْ، أَجْزَأَهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا، وَلَوْ أَعْتَقَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: إِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّمَ لِلْقَتْلِ، أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، كَمَرِيضٍ لَا يُرْجَى، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَا مَقْطُوعُ أُنْمُلَةٍ مِنْ إِبْهَامِ الْيَدِ، وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ أُنْمُلَةٍ مِنْ غَيْرِهَا، حَتَّى لَوْ قُطِعَ أَنَامِلُهُ الْعُلْيَا مِنْ أَصَابِعِهِ الْأَرْبَعِ، أَجْزَأَهُ، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُ أُنْمُلَتَيْنِ مِنَ السَّبَّابَةِ، أَوِ الْوُسْطَى، وَيُجُزِئُ مَقْطُوعُ جَمِيعِ الْخِنْصِرِ مِنْ يَدٍ، وَالْبِنْصِرِ مِنَ الْيَدِ الْأُخْرَى، وَلَا يُجْزِئُ مَقْطُوعُهُمَا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَيُجْزِئُ مَقْطُوعُ جَمِيعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هُوَ كَقَطْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، وَالْأَشَلُّ كَالْأَقْطَعِ.
قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي طَرِيقَةِ

(8/284)


الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَخَالَفَهُمْ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، فَجَزَمَ بِأَنَّهُ إِذَا قُطِعَ أُصْبُعَانِ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ الْإِبْهَامُ وَحْدَهَا مِنْ رِجْلٍ، لَمْ يُجْزِئْ، وَإِلَّا فَيُجْزِئُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
يُجْزِئُ نِضْوُ الْخَلْقِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْأَحْمَقُ، وَهُوَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ، وَيُجْزِئُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، إِلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنِ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ. وَفِي «التَّجْرِبَةِ» لِلرُّويَانِيِّ، أَنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا: يُجْزِئُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَمَنَعَهُ الْقَفَّالُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ خِلَافٍ فِي الشَّيْخِ الْعَاجِزِ، وَيُجْزِئُ الْأَعْرَجُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرَجُ شَدِيدًا يَمْنَعُ مُتَابَعَةَ الْمَشْيِ، وَيُجْزِئُ الْأَعْوَرُ دُونَ الْأَعْمَى.
قُلْتُ: الْمُرَادُ أَعْوَرُ لَمْ يَضْعُفْ نَظَرُ عَيْنِهِ السَّلِيمَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «الْأُمِّ» : فَإِنْ ضَعُفَ بَصَرُهَا، فَأَضَرَّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ ضَعْفُ الْبَصَرِ يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ الْخَطِّ وَإِثْبَاتَ الْوُجُوهِ الْقَرِيبَةِ مُنِعَ، وَإِلَّا فَلَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ، وَحُكِيَ فِيهِ قَوْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، وَحُمِلَ مَا نُقِلَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، وَيُجْزِئُ الْأَخْرَسُ الَّذِي يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ.
وَعَنِ الْقَدِيمِ مَنْعُهُ، فَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا عَلَى حَالَيْنِ، فَالْإِجْزَاءُ فِيمَنْ يَفْهَمُ الْإِشَارَةَ، وَالْمَنْعُ فِيمَنْ لَا يَفْهَمُهَا. وَقِيلَ: الْإِجْزَاءُ إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْخَرَسِ صَمَمٌ، وَالْمَنْعُ إِذَا انْضَمَّ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ الْقَطْعَ بِالْمَنْعِ إِذَا انْضَمَّ، وَقَوْلَيْنِ إِذَا تَجَرَّدَ الْخَرَسُ. وَيُجْزِئُ الْأَقْرَعُ، وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ، وَالْأَخْشَمُ، وَمَقْطُوعُ الْأَنْفِ، وَالْأَبْرَصُ، وَالْمَجْذُومُ، وَالْخَصِيُّ، وَالْمَجْبُوبُ، وَالْأَمَةُ، وَالرَّتْقَاءُ، وَالْقُرَنَاءُ، وَمَفْقُودُ الْأَسْنَانِ، وَوَلَدُ

(8/285)


الزِّنَا، وَضَعِيفُ الْبَطْشِ، وَالصَّغِيرُ، وَلَا يُجْزِئُ الْجَنِينُ وَإِنِ انْفَصَلَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْإِعْتَاقِ، وَقِيلَ: إِنِ انْفَصَلَ لِذَلِكَ، تَبَيَّنَّا الْإِجْزَاءَ، وَلَا يُحْكَمُ فِي الْحَالِ بِالْإِجْزَاءِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : يُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُؤَثِّرُ ضَعِيفُ الرَّأْيِ وَالْخَرِقُ، وَالْكَوَعُ وَالْوَكَعُ، وَيُجْزِئُ الْفَاسِقُ.
قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : وَأَمَّا شِجَاجُ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ مُنْدَمِلَةً مَعَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، لَمْ تَضُرَّ وَإِنْ شَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْدَمِلَةٍ، أَجْزَأَ مِنْهَا مَا كَانَ دُونَ مَأْمُومَةِ الرَّأْسِ وَجَائِفَةِ الْبَدَنِ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَلَا يُجْزِئَانِ لِأَنَّهُمَا مَخُوفَتَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: كَمَالُ الرِّقِّ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: لَا يُجْزِئُ إِعْتَاقُ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَلَا الْمُكَاتَبِ، سَوَاءٌ أَدَّى شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ، أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتِ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً، أَجْزَأَ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَوْ قَالَ لِلْمُكَاتَبِ: إِذَا عَجَزْتَ عَنِ النُّجُومِ فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَعَجَزَ، عَتَقَ، وَلَمْ يُجْزِئْ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ حِينَ عَلَّقَ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْإِجْزَاءِ. كَذَا وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ: إِذَا أَسْلَمْتَ، فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَأَسْلَمَ، أَوْ قَالَ: إِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ سَلِيمًا، فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَخَرَجَ سَلِيمًا.
وَلَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِدُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ كَاتَبَ الْعَبْدَ، ثُمَّ دَخَلَ، فَهَلْ يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ التَّعْلِيقِ، أَمْ لَا، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْعِتْقِ عَنِ الْكِتَابَةِ وَقْتَ الْحُصُولِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فِي جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، أَجْزَأَ إِعْتَاقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَعْتَقَهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ، لَا يُجْزِئُهُ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا، وَلَا يُرِيدَ عِتْقَهَا، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ

(8/286)


الْكَفَّارَةِ، عَتَقَ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْهَا، سَوَاءٌ جَوَّزْنَا بَيْعَهُ أَمْ لَا، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ، لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ يَنْقَطِعُ أَثَرُهَا بِالْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّى النُّجُومَ إِلَى الْمُشْتَرِي عَتَقَ، ثُمَّ إِذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ، تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ وَأَكْسَابُهُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تُسْتَتْبَعُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُتْبِعُونَهَا فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَلَمْ يَحْصُلْ، وَأَوْلَادُ الْمُكَاتَبِ يَتْبَعُونَهُ إِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ أَوِ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَنَوَى كَوْنَ الْعِتْقِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَعَنِ الْأَوْدَنِيِّ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَكَذَا لَوْ وُهِبَ لَهُ، فَقَبِلَهُ، أَوْ أُوصَى لَهُ بِهِ، فَقَبِلَ وَقُلْنَا: تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ بِالْقَبُولِ، وَنَوَى الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَا لَوْ وَرِثَهُ أَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ، ثُمَّ عَجَّزَهُ السَّيِّدُ، وَنَوَى عِتْقَ قَرِيبِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُسْتَحَقٌّ بِجِهَةِ الْقَرَابَةِ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ. الثَّالِثَةُ: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، فَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ.
الرَّابِعَةُ: إِذَا أَعْتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ مَرْهُونًا، بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ، إِنْ نَفَّذْنَاهُ، أَجْزَأَ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِذَا نَوَاهَا، وَكَذَا إِنْ لَمْ نُنَفِّذْهُ فِي الْحَالِ وَنَفَّذْنَاهُ بَعْدَ الِانْفِكَاكِ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِشَرْطٍ.
وَإِعْتَاقُ الْجَانِي عَنِ الْكَفَّارَةِ يُبْنَى عَلَى نُفُوذِ إِعْتَاقِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَيْعِ. وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ الْمَرْهُونُ وَالْجَانِي عَنِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ قُلْنَا بِنُفُوذِ الْعِتْقِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِمَا، وَنُقْصَانِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إِذَا نَفَّذْنَاهُ رَفَعَ حَقَّ تَعَلُّقِ الْغَيْرِ، وَرَجَعَ إِلَى الْفِدَاءِ، وَالْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ لَا يُجْزِئُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْجَرُ إِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِأُجْرَةِ مَنَافِعِهِ، أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِنُقْصَانِ مَنَافِعِهِ.

(8/287)


قُلْتُ: وَلَوْ أَعْتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ مَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ، أَجْزَأَهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ التَّعْلِيقِ أَنْ يَجْعَلَ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ عِنْدَ حُصُولِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ. مِثَالُهُ: قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَتِي، فَيُعْتَقُ بِالدُّخُولِ وَلَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بِالتَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ.
السَّادِسَةُ: أَعْتَقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ حَامِلًا، أَجْزَأَهُ، وَعَتَقَ الْحَمْلُ تَبَعًا، وَلَوِ اسْتَثْنَى الْحَمْلَ، عَتَقَا، وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَأَجْزَأَهُ عِتْقُهَا عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ، فَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مُطْلَقِ الْعِتْقِ.
السَّابِعَةُ: مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، ثُمَّ مَلَكَ بَاقِيَهُ فَأَعْتَقَهُ عَنْ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَاهُ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ فِي أَوْقَاتٍ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ إِعْتَاقِ بَاقِيهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُجْزِئُهُ كَمَا لَوْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ، وَجَوَّزْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ. وَلَوْ مَلَكَ نِصْفًا مِنْ عَبْدٍ، وَنِصْفًا مِنْ آخَرَ، فَأَعْتَقَ النِّصْفَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: لَا يُجْزِئُهُ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ خَيْرَانَ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكَمَا لَا يُجْزِئُ شِقْصَانِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا، وَإِلَّا فَلَا.
وَتَجْرِي الْأَوْجُهُ فِي ثُلُثِ أَحَدِهِمَا، وَثُلُثَيِ الْآخَرِ وَنَظَائِرِهِمَا. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ عَنْ ظِهَارَيْنِ، أَوْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدَيْنِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفًا مِنْ هَذَا، وَنِصْفًا مِنْ هَذَا، أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

(8/288)


وَقِيلَ: فِيهِ خِلَافٌ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يُعْتِقُ نِصْفَ كُلِّ عَبْدٍ عَنْ كَفَّارَةٍ كَمَا أَوْقَعَهُ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ خَيْرَانَ: يَقَعُ عَبْدٌ عَنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَعَبْدٌ عَنْ هَذِهِ، وَيَلْغُو تَعَرُّضُهُ لِلتَّنْصِيفِ. وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهٌ: يُعْتَدُّ بِهِ وَعَلَيْهِ إِتْمَامُ كُلِّ وَاحِدَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
فَرْعٌ
إِذَا أَعْتَقَ مُوسِرٌ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، سَرَى إِلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَهَلْ تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، أَمْ عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، أَمْ مَوْقُوفٌ؟ فَإِذَا أَدَّى تَبَيَّنَّا حُصُولَ الْعِتْقِ بِاللَّفْظِ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَلَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَمَتَى يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ؟ فِيهِ الْأَقْوَالُ، فَإِنْ قُلْنَا: يُعْتَقُ بِاللَّفْظِ، فَهَلْ نَقُولُ: عَتَقَ الْجَمِيعُ دُفْعَةً، أَمْ يُعْتَقُ نَصِيبُهُ ثُمَّ يَسْرِي؟ وَجْهَانِ. وَكُلُّ هَذَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
[فِي كِتَابِ الْعِتْقِ] مَبْسُوطًا.
وَغَرَضُنَا هُنَا أَنَّ إِعْتَاقَ الْمُشْرِكِ عَنِ الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى جُمْلَتِهِ، أَمْ إِلَى نَصِيبِهِ فَقَطْ لِحُصُولِ الْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ الْكَفَّارَةِ إِذَا وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى نَصِيبِهِ فَقَطْ، لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ عَتَقَ بِالشَّرْعِ، لَا بِإِعْتَاقِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَنَوَى عِتْقَ الْجَمِيعِ عَنِ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَاهُ عَنْهَا إِنْ قُلْنَا: يَسْرِي عِنْدَ اللَّفْظِ، أَوْ مَوْقُوفٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَهَلْ تَكْفِيهِ هَذِهِ النِّيَّةُ لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ، أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: تَكْفِي لِاقْتِرَانِهَا بِالْعِتْقِ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ مُرَتَّبًا.
وَلَوْ نَوَى فِي الْحَالِ صَرْفَ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِهِ إِلَى الْكَفَّارَةِ، وَنَوَى عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ صَرْفَ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ إِلَيْهَا، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمِيعَ فِي الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّ

(8/289)


سَبَبَ عِتْقِ الْجَمِيعِ لَفْظُهُ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِدُخُولِ الدَّارِ، يُشْتَرَطُ فِي الْإِجْزَاءِ عَنِ الْكَفَّارَةِ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، وَلَا يَكْفِي اقْتِرَانُهَا بِالدُّخُولِ، فَحَصَلَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ بَيْنَ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عِنْدَ اللَّفْظِ وَتَأْخِيرِهَا إِلَى الْأَدَاءِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَوَى عِتْقَ الْجَمِيعِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَوَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى نَصِيبِهِ.
أَمَّا إِذَا وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى [نَصِيبِهِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَنْوِ الْبَاقِيَ، فَلَا يَنْصَرِفُ الْبَاقِي إِلَيْهَا وَإِنْ حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ فِي الْحَالِ، وَيَجِيءُ فِي وُقُوعِ نَصِيبِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْخِلَافُ] السَّابِقُ فِي إِعْتَاقِ بَعْضِ رَقَبَةٍ، وَحَكَى صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّ الْبَاقِيَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَفَّارَةِ
[تَبَعًا لِنَصِيبِهِ كَمَا تَبِعَهُ فِي أَصْلِ الْعِتْقِ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْجَمِيعَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ] وَقُلْنَا: يَسْرِي عِنْدَ اللَّفْظِ أَوْ مَوْقُوفٌ، أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِحُصُولِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» الْقَطْعُ بِالْإِجْزَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَا إِذَا وَجَّهَ الْعِتْقَ إِلَى نَصِيبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْعَبْدُ الْغَائِبُ، إِنْ عَلِمَ حَيَاتَهُ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، فَلَوْ أَعْتَقَهُ عَنْهَا، ثُمَّ تَوَاصَلَتْ أَخْبَارُ حَيَاتِهِ، تَبَيَّنَّا إِجْزَاءَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِحُصُولِ الْعِتْقِ فِي مِلْكٍ تَامٍّ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ. وَالْآبِقُ وَالْمَغْصُوبُ يُجْزِئَانِ إِذَا عُلِمَ حَيَاتُهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ لِكَمَالِ الرِّقِّ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا قَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الْآبِقَ يُجْزِئُ قَطْعًا لِاسْتِقْلَالِهِ بِمَنَافِعِهِ كَالْغَائِبِ.
وَأَمَّا الْمَغْصُوبُ، فَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ قَطْعًا، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ كَالزَّمِنِ، وَجُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَلَى الْإِجْزَاءِ لِتَمَامِ الْمِلْكِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ

(8/290)


ثَالِثٌ قَالَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ غَاصِبِهِ بِهَرَبٍ إِلَى سَيِّدِهِ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخَلَاصِ، فَالْإِجْزَاءُ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُهُ مَوْقُوفًا كَالْغَائِبِ إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَوِيٌّ جِدًّا، وَحَيْثُ صَحَّحْنَا عِتْقَ الْغَائِبِ، وَالْآبِقِ، وَالْمَغْصُوبِ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ أَمْ لَا، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ، فَكَذَا فِي الْإِجْزَاءِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: خُلُوُّ الْإِعْتَاقِ عَنْ شَوْبِ الْعِوَضِ، فَلَوْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَةٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دِينَارًا مَثَلًا، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَجْهًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَاصِلٌ، وَيَسْقُطُ الْعِوَضُ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ الظُّهْرَ لِنَفْسِكَ وَلَكَ دِينَارٌ، فَصَلَّى، أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَوْ شَرَطَ عِوَضًا عَلَى غَيْرِ الْعَبْدِ، فَلَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ: أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا عَنْ كَفَّارَتِي بِأَلْفٍ عَلَيْكَ، فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: أَعْتِقْهُ عَنْ كَفَّارَتِكَ، وَعَلَيَّ كَذَا، فَفَعَلَ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَسَوَاءٌ قَدَّمَ فِي الْجَوَابِ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي بِأَلْفٍ عَلَيْكَ، أَوْ عَكَسَ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكَ أَلْفًا عَنْ كَفَّارَتِي.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكَفَّارَةِ، أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ الْعِوَضُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي، عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكَ كَذَا، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي، فَإِنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْخِطَابِ وَالِالْتِمَاسِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الْعِوَضُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ وَجْهَانِ سَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَخْتَصَّانِ بِمَا إِذَا قَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِكَ، بَلْ يُجْزِئَانِ فِيمَا إِذَا الْتَمَسَ مِنْهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ نَفْسِهِ مُطْلَقًا بَعِوَضٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا وَقَعَ الْعِتْقُ، وَلَهُ الْوَلَاءُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، فَعَمَّنْ يَقَعُ الْعِتْقُ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: عَنْ بَاذِلِ الْعِوَضِ، وَبِهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ.

(8/291)


وَأَصَحُّهُمَا: عَنِ الْمُعْتِقِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ عَنِ الْبَاذِلِ، وَلَا هُوَ اسْتَدْعَاهُ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ الْمُعْتِقُ: أَرُدُّ الْعِوَضَ لِيَكُونَ الْعِتْقُ مُجْزِئًا عَنْ كَفَّارَتِي، لَمْ يَنْقَلِبْ مُجْزِئًا، فَلَوْ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ عَقِبَ الِالْتِمَاسِ: أَعْتَقْتُهُ عَنْ كَفَّارَتِي لَا عَلَى الْأَلْفِ، كَانَ رَدًّا لِكَلَامِهِ، وَأَجْزَأَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ.
فَصْلٌ
الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ مُعَاوَضَةٌ فِيهَا شِبْهُ التَّعْلِيقِ، وَمِنْ جَانِبِ الْمُسْتَدْعِي مُعَاوَضَةٌ فِيهَا شِبْهُ الْجَعَالَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْخُلْعِ. فَإِذَا قَالَ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلَدَتَكَ عَلَى أَلْفٍ، فَأَعْتَقَهَا، نَفَذَ الْعِتْقُ، وَثَبَتَ الْأَلْفُ، وَكَانَ ذَلِكَ افْتِدَاءً مِنَ الْمُسْتَدْعِي، كَاخْتِلَاعِ الْأَجْنَبِيِّ.
وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُهَا عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، أَوْ وَعَلَيَّ أَلْفٌ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهَا عَنْكَ، نَفَذَ الْعِتْقُ، وَلَغَا قَوْلُهُ: عَنِّي، وَقَوْلُ الْمُعْتِقِ: عَنْكَ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ لَا تَنْتَقِلُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعِوَضَ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ. وَقِيلَ: يُسْتَحَقُّ وَيُلْغَى قَوْلُهُ: عَنِّي، وَيُجْعَلُ بَاقِي الْكَلَامِ افْتِدَاءً. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْ زَوْجَتَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، فَطَلَّقَ، قَالَ الْإِمَامُ: الْوَجْهُ إِثْبَاتُ الْعِوَضِ. وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ نَفْسِكَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ وَعَلَيَّ كَذَا، فَفَعَلَ، فَهَلْ يُسْتَحَقُّ الْعِوَضُ عَلَيْهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ كَالْمُسْتَوْلَدَةِ وَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخُضَرِيِّ، لَا لِإِمْكَانِ تَمَلُّكِهِ بِالشِّرَاءِ، بِخِلَافِهِمَا، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي، فَفَعَلَ، نُظِرَ، إِنْ قَالَ: مَجَّانًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَدْعِي، وَإِنْ ذَكَرَ عِوَضًا

(8/292)


، لَزِمَهُ الْعِوَضُ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَبْدِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: اقْضِ دَيْنِي وَلَمْ يُشْتَرَطِ الرُّجُوعُ، وَخَصَّ الْإِمَامُ وَالسَّرْخَسِيُّ هَذَا الْبِنَاءَ بِمَا إِذَا قَالَ: أَعْتِقُهُ عَنْ كَفَّارَتِي، فَإِنَّ الْعِتْقَ حَقٌّ ثَابِتٌ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ، فَأَمَّا إِذَا [قَالَ] : أَعْتِقُهُ عَنِّي وَلَا عِتْقَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهُ عَنْهُ، فَقَدْ أَطْلَقَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَرَأَى الْإِمَامُ تَخْرِيجَهُ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ هَلْ تَقْتَضِي الثَّوَابَ؟ ثُمَّ سَوَاءٌ نَفَى الْعِوَضَ أَمْ أَثْبَتَهُ، يَقَعُ الْعِتْقُ عَلَى الْمُسْتَدْعِي. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي مَجَّانًا، فَفَعَلَ، لَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَدْعِي، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَنْهُ، فَصَارَ كَذِكْرِ الْعِوَضِ. وَقَالُوا: الْعِتْقُ بِعِوَضٍ صَارَ كَالْمَبِيعِ الْمَقْبُوضِ حَتَّى [اسْتَقَرَّ] عِوَضُهُ، فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِوَضِ، كَالْمَوْهُوبِ الْمَقْبُوضِ، وَيُجْعَلُ الْقَبْضُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْعِتْقِ لِقُوَّتِهِ، وَذَكَرُوا بِنَاءً عَلَى هَذَا، أَنَّ إِعْتَاقَ الْمَوْهُوبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ جَائِزٌ.
وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنْ كَفَّارَتِي، أَوْ عَنِّي، وَنَوَى الْكَفَّارَةَ، فَأَجَابَهُ، أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ وَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ نَفْسِكَ، وَلَا عَنِّي، فَهَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: عَنِّي لِقَرِينَتِهِ الْعِوَضَ، أَمْ كَقَوْلِهِ: عَنْكَ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «التَّهْذِيبِ» . وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي وَلَكَ أَلْفٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَكَ، فَفَعَلَ، قَالَ الْمُتَوَلِّي فِي بَابِ «الْخُلْعِ» : الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَفْسُدُ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنِ الْمُسْتَدْعِي، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ.
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلَهُ الْوَلَاءُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، وَالْعَبْدُ مُسْتَأْجَرٌ أَوْ مَغْصُوبٌ، فَأَعْتَقَهُ، جَازَ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ مَغْصُوبًا. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِزَاعِهِ، وَلَا يَخْرُجُ فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الضِّمْنِيَّاتِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَقَاصِدِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِ ابْنِي الصَّغِيرِ، فَفَعَلَ،

(8/293)


جَازَ، وَكَانَ اكْتِسَابُ وَلَاءٍ لَهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، وَلَيْسَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ رَقِيقٌ فَأَرَادَ الْأَبُ إِعْتَاقَهُ.
وَأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ عَبْدًا لَهُ لِإِنْسَانٍ، فَقَبِلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْوَاهِبِ: أَعْتِقْهُ عَنِ ابْنِي وَهُوَ صَغِيرٌ، فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، جَازَ وَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى ابْنِهِ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْإِعْتَاقِ لِلِابْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي صُوَرِ الِاسْتِدْعَاءِ، إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَدْعِي، وَالْعِوَضُ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا اتَّصَلَ الْجَوَابُ بِالْخِطَابِ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَدْعِي.
فَرْعٌ
قَالَ: إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَأَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ، فَصَبَرَ حَتَّى جَاءَ الْغَدُ، فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ، حَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ: عَبْدِي عَنْكَ حُرٌّ بِأَلْفٍ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: قَبِلْتُ، فَهُوَ كَتَعْلِيقِ الْخُلْعِ فِي قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَقَالَتْ: قَبِلْتُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ وَجْهَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُقُوعُ، وَوَجْهَيْنِ إِذَا وَقَعَ، أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَمِ الْمُسَمَّى؟ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، فَكَذَا يَجِيءُ هُنَا الْخِلَافُ فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ عَنِ الْمُخَاطَبِ، وَإِذَا وَقَعَ، فَفِي صِحَّةِ الْمُسَمَّى وَفَسَادِهِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأُولَى تَعْلِيقُ الْعِتْقِ، وَيُحْتَمَلُ مَجِيءُ وَجْهٍ فِي الْأُولَى أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ قِيمَةُ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى، وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» ، وَاسْتَصْوَبَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ.
فَرْعٌ
قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى خَمْرٍ، أَوْ مَغْصُوبٍ، فَفَعَلَ، نَفَذَ الْعِتْقُ عَنِ الْمُسْتَدْعِي، وَلَزِمَهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، كَمَا فِي الْخُلْعِ.

(8/294)


فَرْعٌ
لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُعْتَقَ عَنِ الْمُسْتَدْعِي يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إِذْ لَا عِتْقَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَمَتَى يَدْخُلُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا يَمْلِكُهُ بِالِاسْتِدْعَاءِ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ إِذَا تَلَفَّظَ الْمَالِكُ بِالْإِعْتَاقِ، وَالثَّانِي: يُمْلَكُ بِالشُّرُوعِ فِي لَفْظِ الْإِعْتَاقِ، وَيُعْتَقُ إِذَا تَمَّ اللَّفْظُ. وَالثَّالِثُ: يَحْصُلُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ مَعًا عِنْدَ تَمَامِ اللَّفْظِ. وَأَصَحُّهَا: أَنَّ الْعِتْقَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ، وَأَنَّ حُصُولَ الْمِلْكِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى آخِرِ لَفْظِ الْإِعْتَاقِ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَأَكْثَرُ الَّذِينَ اخْتَارُوا هَذَا الْوَجْهَ: إِنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ لَفْظِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّفْظِ.
وَجَعَلَ الْإِمَامُ اخْتِلَافَ عِبَارَةِ الشَّيْخَيْنِ رَاجِعًا إِلَى اخْتِلَافِ الْأَصْحَابِ، فِي أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ، يَثْبُتُ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّفْظِ، أَمْ بَعْدَ تَمَامِ أَجْزَائِهِ عَلَى الِاتِّصَالِ؟ فَعِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَبِي حَامِدٍ، عَلَى الثَّانِي، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الرَّابِعِ إِشْكَالٌ سِوَى تَأَخُّرِ الْعِتْقِ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِقَدْرِ تَوَسُّطِ الْمِلْكِ.
قَالَ الْإِمَامُ: وَسَبَبُ تَأَخُّرِهِ، أَنَّهُ إِعْتَاقٌ عَنِ الْغَيْرِ، وَمَعْنَى الْإِعْتَاقِ عَنِ الْغَيْرِ، انْتِقَالُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعُ الْعِتْقِ بَعْدَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الْعِتْقُ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِأَسْبَابٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبْدِي عَنْكَ بِكَذَا، لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُوجَدَ الْقَبُولُ.
فَرْعٌ
قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى كَذَا، فَفَعَلَ، ثُمَّ ظَهَرَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ، لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ، بَلْ يَرْجِعُ الْمُسْتَدْعِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ عَيْبًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ.
فَرْعٌ
فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُهُ عَنْكَ مَجَّانًا، عَتَقَ عَنِ الْمُعْتِقِ دُونَ الْمُسْتَدْعِي.

(8/295)


الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: الصِّيَامُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ مُرَتَّبَةٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) الْآيَةَ. فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، فَوَاجِبُهُ الْإِعْتَاقُ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى خِدْمَتِهِ، لِزَمَانَتِهِ، أَوْ مَرَضِهِ، أَوْ كِبَرِهِ، أَوْ ضَخَامَتِهِ الْمَانِعَةِ مَنْ خِدْمَتِهِ نَفْسَهُ، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ وَمَنْصِبُهُ يَأْبَى أَنْ يَخْدِمَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُبَاشِرَ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُسْتَخْدَمُ فِيهَا الْمَمَالِيكُ، لَمْ يُكَلَّفْ صَرْفَهُ إِلَى الْكَفَّارَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَبْدٌ وَوَجَدَ ثَمَنَهُ، لَزِمَهُ تَحْصِيلُهُ وَالْإِعْتَاقُ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، لِنَفَقَتِهِ وَكُسْوَتِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَكُسْوَتِهِمْ، وَعَنِ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْأَثَاثِ، وَلَمْ يُقَدِّرِ الْأَصْحَابُ لِلنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مُدَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ كِفَايَةَ الْعُمُرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ سَنَةً، لِأَنَّ الْمُؤْنَاتِ تَتَكَرَّرُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَغَوِيَّ قَالَ: يَتْرُكُ لَهُ ثَوْبَ الشِّتَاءِ، وَثَوْبَ الصَّيْفِ.
قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي، هُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ مَلَكَ دَارًا وَاسِعَةً يَفْضُلُ بَعْضُهَا عَنْ حَاجَتِهِ، وَأَمْكَنَ بَيْعُ الْفَاضِلِ، لَزِمَهُ بَيْعُهُ وَتَحْصِيلُ رَقَبَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ دَارًا نَفِيسَةً يَجِدُ بِثَمَنِهَا مَسْكَنًا يَكْفِيهِ وَيَفْضُلُ ثَمَنُ رَقَبَةٍ، أَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ نَفِيسٌ يَجِدُ بِثَمَنِهِ عَبْدًا يَخْدِمُهُ، وَآخَرَ يُعْتِقُهُ، لَزِمَهُ الْبَيْعُ وَالْإِعْتَاقُ إِنْ لَمْ يَكُونَا مَأْلُوفَيْنِ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ نَفِيسٌ يَجِدُ بِثَمَنِهِ ثَوْبًا يَلِيقُ بِهِ، وَعَبْدًا يُعْتِقُهُ، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ.
قُلْتُ: قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ، بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ فِي الْعَبْدِ النَّفِيسِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» عَنِ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/296)


فَرْعٌ
لَوْ كَانَ لَهُ ضَيْعَةٌ أَوْ رَأْسُ مَالٍ يَتَّجِرُ فِيهِ، وَكَانَ يَحْصُلُ مِنْهُمَا كِفَايَتُهُ بِلَا مَزِيدٍ، وَلَوْ بَالتاعَهُمَا لِتَحْصِيلِ رَقَبَةٍ لَصَارَ فِي حَدِّ الْمَسَاكِينِ، لَمْ يُكَلَّفْ بَيْعَهُمَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ تَحْلِبُ، فَهِيَ كَالضَّيْعَةِ إِنْ كَانَ لَا تَزِيدُ غَلَّتُهَا عَلَى كِفَايَتِهِ، لَمْ يُكَلَّفْ بَيْعَهَا، وَإِنْ زَادَتْ، لَزِمَهُ بَيْعُ الزَّائِدِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» قَالَ: فَلَوْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ بِصِنَاعَةٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ، فَلَهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، نُظِرَ، فَإِنْ قُلْتُ: الزِّيَادَةُ بِحَيْثُ لَا تَجْتَمِعُ فَتَبْلُغُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ إِلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ جَمْعُهَا لِلْعِتْقِ، فَجَازَ لَهُ الصَّوْمُ. وَإِنْ كَانَتْ إِذَا جُمِعَتْ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، لَا يُنْسَبُ فِيهِ إِلَى تَأْخِيرِ التَّكْفِيرِ، بَلَغَتْ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَمَا قَارَبَهَا، فَفِي وُجُوبِ جَمْعِهَا لِلتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَجْهَانِ. أَشْبَهُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّوْمِ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهَا قِيمَةُ الرَّقَبَةِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ، أَمْ لَهُ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا بِالْوُجُوبِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، لَكِنْ لَمْ يَجِدِ الرَّقَبَةَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَ الرَّقَبَةَ، أَوْ يَصِلَ الْمَالُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرَاخِي، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَمُوتَ، لَا يَفُوتُ، بَلْ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ ثَمَنِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ لَوْ مَاتَ. وَفِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجْهَانِ لِتَضَرُّرِهِ بِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَشَارَ الْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي إِلَى تَرْجِيحِ وُجُوبِ الصَّبْرِ.

(8/297)


فَرْعٌ
لَوْ كَانَتِ الرَّقَبَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِثَمَنٍ غَالٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهَا. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَلْزَمُهُ إِذَا وَجَدَ الثَّمَنَ الْغَالِيَ.
قُلْتُ: إِنَّمَا قَالَ الْبَغَوِيُّ هَذَا اخْتِيَارًا لِنَفْسِهِ، فَقَالَ حِكَايَةً لِلْمَذْهَبِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَرَأَيْتُ أَنْ يَلْزَمَهُ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
لَوْ بِيعَتْ نَسِيئَةٌ وَمَالُهُ غَائِبٌ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ. وَلَوْ وُهِبَ لَهُ عَبْدٌ وَثَمَنُهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ.
فَرْعٌ
ذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حُكْمَ الْمَسْكَنِ وَالْعَبْدِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَالْحَجِّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَمْلِكُهُمَا نِكَاحُ الْأَمَةِ، أَمْ بَيْعُهُمَا لِطُولِ الْحُرَّةِ، وَوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُمَا يُبَاعَانِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا أَعْتَقَ شُرَكَاءُ لَهُ فِي عَبْدٍ، وَإِنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الْعُرْيَانَ بَيْعُهُمَا؟ قَالَ: وَعِنْدِي يَلْزَمُهُ، وَالَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ.
فَصْلٌ
الْمُوسِرُ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْإِعْتَاقِ، يُعْتِقُ، وَمِنْ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْإِعْتَاقُ، كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَهَلِ الِاعْتِبَارُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ، أَمْ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، أَمْ بِأَغْلَظِ الْحَالَيْنِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ. أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الْإِمَامُ: فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْأَدَاءِ غُمُوضٌ، وَلَا يَتَّجِهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ أَصْلُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يُعَيَّنُ خَصْلَةٌ، أَوْ يُقَالُ: يَجِبُ مَا يَقْتَضِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ، ثُمَّ إِذَا تَبَدَّلَ

(8/298)


الْحَالُ، تَبَدَّلَ الْوَاجِبُ، كَمَا يَلْزَمُ الْقَادِرُ صَلَاةَ الْقَادِرِينَ، ثُمَّ إِذَا عَجَزَ، تَبَدَّلَتْ صِفَةُ الصَّلَاةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَجْهَانِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ أَحْوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، إِلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي حَالٍ مَا، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ. وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ الْأَغْلَظُ مِنْ حَالَتَيِ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ دُونَ مَا بَيْنَهُمَا، صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ، وَأَشَارَ إِلَى دَعْوَى اتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ، فَكَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ، فَفَرْضُهُ الْإِعْتَاقُ وَإِنْ أَعْسَرَ بَعْدَهُ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِذَا أَعْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، أَنْ يَصُومَ لِيَكُونَ آتِيًا بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ إِنْ مَاتَ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَوْمَئِذٍ، فَفَرْضُهُ الصِّيَامُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَهُ، لَكِنْ يُجْزِئُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنَ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ لِتَعَيُّنِ الصَّوْمِ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْأَدَاءِ، فَكَانَ مُوسِرًا يَوْمَئِذٍ، فَفَرْضُهُ الْإِعْتَاقُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَالصَّوْمُ.
وَلَوْ تَكَلَّفَ الْمُعْسِرُ الْإِعْتَاقَ بِاسْتِقْرَاضٍ وَغَيْرِهِ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى عَبْدٍ، فَعَتَقَ، وَأَيْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ، فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ، وَيُجُزِئُهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُ أَعْلَى. وَقِيلَ: لَا، لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْلَكُ، وَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْأَدَاءِ، لَزِمَهُ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ.
فَرْعٌ
لَوْ شَرَعَ الْمُعْسِرُ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ، كَانَ لَهُ الْمُضِيُّ فِي الصَّوْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ. فَإِنْ أَعْتَقَ، كَانَ أَفْضَلَ، وَوَقَعَ مَا مَضَى مِنْ صَوْمِهِ تَطَوُّعًا، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهًا، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ، الْأَوَّلُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فَرْضُهُ الْإِطْعَامَ فَأَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ، لَا يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَيْهِ.

(8/299)


وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنَ الصَّوْمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْإِعْتَاقِ قَطْعًا. وَلَوْ كَانَ وَقْتَ الْوُجُوبِ عَاجِزًا عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالصَّوْمِ، فَأَيْسَرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَةَ الْوُجُوبِ، فَفَرْضُهُ الْإِطْعَامُ، وَإِلَّا فَالْإِعْتَاقُ.
فَصْلٌ
الْعَبْدُ لَا يُمَلَّكُ بِغَيْرِ تَمْلِيكِ سَيِّدِهِ قَطْعًا، وَلَا بِتَمْلِيكِهِ عَلَى الْجَدِيدِ الْأَظْهَرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ. وَإِنْ قُلْنَا: يُمَلَّكُ، فَمَلَّكَهُ طَعَامًا لِيُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، جَازَ، وَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِمَا مَلَكَهُ، وَإِنْ مَلَّكَهُ عَبْدًا لِيُعْتِقَهُ عَنْهَا، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْقِبُ الْوَلَاءَ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ. وَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَنَّهُ يَصِحُّ إِعْتَاقُهُ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ تَخْرِيجُ قَوْلِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِعْتَاقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ، إِنْ عَتَقَ، فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ دَامَ رِقُّهُ، فَلِسَيِّدِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَأَمَّا تَكْفِيرُهُ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ جَرَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، بِأَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَصُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى التَّرَاخِي، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، كَانَ لَهُ تَحْلِيلُهُ، وَإِنْ جَرَى بِإِذْنِهِ بِأَنْ حَلَفَ بِإِذْنِهِ وَحَنِثَ بِإِذْنِهِ، صَامَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِذْنِهِ. وَإِنْ حَلَفَ بِإِذْنِهِ وَحَنِثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالصَّوْمِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَفِي عَكْسِهِ يَسْتَقِلُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يَسْتَقِلُّ، فَسَوَاءٌ طَوِيلُ النَّهَارِ وَقَصِيرُهُ، وَالْحَرُّ الشَّدِيدُ وَغَيْرُهُ، وَحَيْثُ قُلْنَا: يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ، فَذَلِكَ فِي صَوْمٍ يُوجِبُ ضَعْفًا لِشِدَّةِ حَرٍّ وَطُولِ نَهَارٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي «كِتَابِ الْأَيْمَانِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَصَحُّ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ الْمَنْعُ، هَذَا حُكْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَمَنْعُهُ مِنْ صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَبْدِ بِدَوَامِ التَّحْرِيمِ.
قُلْتُ: وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَصُومُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَخَالَفَ وَصَامَ، أَثِمَ وَأَجْزَأَهُ.

(8/300)


وَلَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ صَوْمَ تَطَوُّعٍ فِي وَقْتٍ يَضُرُّ بِالسَّيِّدِ، فَلَهُ مَنْعُهُ، وَفِي غَيْرِهِ، لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، حَكَاهُ الْمُحَامِلِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَهَا مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ الْوَطْءَ، وَحَكَى فِي الْبَيَانِ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِدْمَةِ، إِذْ لَا ضَرَرَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، كَالْحُرِّ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ كَلَامٌ آخَرُ، وَتَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ
فِي بَيَانِ حُكْمِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ
فِيهِ مَسَائِلُ
إِحْدَاهَا: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ فِي اللَّيْلِ لِكُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّتَابُعِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: تَجِبُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ فَقَطْ، وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ بِاللَّيْلِ قَبْلَ طَلَبِ الرَّقَبَةِ، ثُمَّ طَلَبَ فَلَمْ يَجِدْهَا، لَمْ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ إِلَّا أَنْ يُجَدِّدَ النِّيَّةَ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ الْفَقْدِ، لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ تَقَدَّمَتْ عَلَى وَقْتِ جَوَازِ الصَّوْمِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي «التَّجْرِبَةِ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ كَفَّارَةٍ، فَهَلْ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، سَبَقَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
الثَّالِثَةُ: إِنِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ لِأَوَّلِ شَهْرٍ هِلَالِيٍّ، صَامَ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ، وَلَا يَضُرُّ نَقْصُهُمَا، وَإِنِ ابْتَدَأَ فِي خِلَالِ شَهْرٍ، صَامَ بَقِيَّتَهُ، ثُمَّ صَامَ الَّذِي يَلِيهِ بِالْهِلَالِ، وَلَا يَضُرُّ نَقْصُهُ، ثُمَّ يُتِمُّ الْأَوَّلَ مِنَ الثَّالِثِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ، إِذَا ابْتَدَأَ فِي خِلَالِ شَهْرٍ، لَزِمَهُ سِتُّونَ يَوْمًا.

(8/301)


الرَّابِعَةُ: التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَوْ وَطِئَ الْمَظَاهِرُ بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، عَصَى بِتَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ، وَلَكِنْ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ.
وَلَوْ أَفْسَدَ صَوْمَ الْيَوْمِ الْآخَرِ أَوْ غَيْرِهِ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ. وَهَلْ يُحْكَمُ بِفَسَادِ مَا مَضَى، أَمْ يَنْقَلِبُ نَفْلًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا نَوَى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَظَائِرِهِ. وَالْحَيْضُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ إِنْ لَزِمَتْهَا كَفَّارَةٌ، فَتَبْنِي إِذَا طَهُرَتْ، وَالنِّفَاسُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الصَّحِيحِ، كَالْحَيْضِ. وَقِيلَ: يَقْطَعُهُ لِنُدْرَتِهِ، حَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. وَالْفِطْرُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهُوَ الْجَدِيدُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ بِفِعْلِهِ، بِخِلَافِ الْحَيْضِ، وَالْجُنُونُ كَالْحَيْضِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: كَالْمَرَضِ، وَالْإِغْمَاءُ كَالْجُنُونِ. وَقِيلَ: كَالْمَرَضِ. وَأَمَّا الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ، وَفِطْرُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ، فَقِيلَ: كَالْمَرَضِ. وَقِيلَ: يَقْطَعُ قَطْعًا، لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ.
قُلْتُ: أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فِي الطُّهْرِ تَمْتَدُّ شَهْرَيْنِ، فَشَرَعَتْ فِي الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ يَتَخَلَّلُهُ الْحَيْضُ، انْقَطَعَ، وَلَوْ أَفْطَرَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ خَوْفًا فِي نَفْسَيْهِمَا، فَقَالَ الْمُحَامِلِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، وَصَاحِبَا «الْحَاوِي» وَ «الشَّامِلِ» وَالْأَكْثَرُونَ: هُوَ كَالْمَرَضِ.
وَفِي تَجْرِيدِ الْمُحَامِلِيِّ: أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ قَطْعًا، وَلَوْ غَلَبَهُ الْجُوعُ فَأَفْطَرَ، بَطَلَ التَّتَابُعُ. وَقِيلَ: كَالْمَرَضِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
نِسْيَانُ النِّيَّةِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَتَرْكِهَا عَمْدًا، وَلَا يُجْعَلُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
قُلْتُ: لَوْ صَامَ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ، هَلْ نَوَى

(8/302)


فِيهِ، أَمْ لَا؟ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا أَثَرَ لِلشَّكِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْيَوْمِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فِي مَسَائِلِ الْمُتَحَيِّرَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ فَأَكَلَ، وَقُلْنَا: يَبْطُلُ صَوْمُهُ، انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ نَادِرٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَهُمَا ابْنُ كَجٍّ كَالْمَرَضِ، قَالَ: وَلَوِ اسْتَنْشَقَ، فَوَصْلَ الْمَاءُ إِلَى دِمَاغِهِ، وَقُلْنَا: يُفْطِرُ، فَفِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ الْخِلَافُ.
قُلْتُ: لَوْ أُوجِرَ الطَّعَامَ مُكْرَهًا، لَمْ يُفْطِرْ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي كُلِّ الطُّرُقِ، وَشَذَّ الْمُحَامِلِيُّ فَحَكَى فِي التَّجْرِيدِ وَجْهًا أَنَّهُ يُفْطِرُ وَيَنْقَطِعُ تَتَابُعُهُ، وَهَذَا غَلَطٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِ رَمَضَانُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، أَوْ يَدْخُلُ يَوْمَ النَّحْرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَعُودُ الْقَوْلَانِ فِي أَنَّهُ يَبْطُلُ أَمْ يَقَعُ نَفْلًا.
فَرْعٌ
لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ نَوَاهُمَا، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْضًا. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ، أَنَّهُ يُجُزِئُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَغَلَّطَهُ فِيهِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ كَجٍّ، أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا صَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِالِاجْتِهَادِ، فَغَلِطَ فَجَاءَ رَمَضَانُ أَوْ يَوْمُ النَّحْرِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، فَفِي انْقِطَاعِ التَّتَابُعِ الْخِلَافُ فِي انْقِطَاعِهِ بِإِفْطَارِ الْمَرِيضِ.
فَرْعٌ
إِذَا أَوْجَبْنَا التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَحَاضَتْ فِي خِلَالِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، فَقِيلَ:

(8/303)


فِيهِ قَوْلَانِ، كَالْفِطْرِ بِالْمَرَضِ فِي الشَّهْرَيْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ طَرِيقٌ جَازِمٌ، بِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ.
قُلْتُ: صَرَّحَ بِالطَّرِيقَةِ الْجَازِمَةِ، الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» فَقَالَا: الْمَذْهَبُ انْقِطَاعُهُ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَفِيهِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ قَطْعًا، لِأَنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ، وَالْمَرَضُ لَا يَقْطَعُ عَلَى الْقَدِيمِ، ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْإِبَانَةِ وَالْعُدَّةِ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» : هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهَا الِاحْتِرَازُ بِالثَّلَاثَةِ عَنِ الْحَيْضِ دُونَ الْمَرَضِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ وَيَسْتَأْنِفَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرُوا فِي جَوَازِهِ احْتِمَالَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِبْطَالُ عِبَادَةٍ، فَكُلُّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يُبْطِلُ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ، وَيَجْرِي الِاحْتِمَالَانِ فِي الْحَائِضِ وَغَيْرِهَا، فِيمَنْ شَرَعَ فِي الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ عَرَضَ فِطْرٌ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، ثُمَّ زَالَ فَأَرَادَ الْفِطْرَ بِلَا عُذْرٍ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ، ثُمَّ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، كَصَوْمِ يَوْمٍ، فَيَكُونُ قَطْعُهُ كَقَطْعِ فَرِيضَةٍ شَرَعَ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا حَسَنٌ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْوِ صَوْمَ الْغَدِ، وَقَالَ: الْإِفْطَارُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ لِبُعْدِ التَّسْلِيطِ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِطْعَامُ، فِيهَا مَسَائِلُ.
إِحْدَاهَا: فِي قَدْرِ الطَّعَامِ، وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ، وَالْقَتْلِ إِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فِيهَا سِتُّونَ مُدًّا لِسِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْمُدُّ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ،

(8/304)


وَهُوَ مُدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَدْرِ الْفِطْرَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهِمَا نَوْعُ إِشْكَالٍ، لِأَنَّ الصَّيْدَلَانِيَّ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْكَيْلُ دُونَ الْوَزْنِ، لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَكِيلِ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، فَالْبُرُّ أَثْقَلُ مِنَ الشَّعِيرِ، وَأَنْوَاعُ الْبُرِّ تَخْتَلِفُ، فَالْوَاجِبُ مَا حَوَاهُ الْمِكْيَالُ بَالِغًا وَزْنُهُ مَا بَلَغَ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ فِي وَزْنِ الْمُدِّ، اعْتُبِرَ فِيهِ الْبُرُّ أَوِ التَّمْرُ، وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ يُجْزِئَ مِنَ الشَّعِيرِ مِلْءُ الصَّاعِ وَالْمُدِّ، وَإِنْ نَقَصَ وَزْنُهُ، لَكِنِ اشْتُهِرَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، ثُمَّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّ دِرْهَمَ الشَّرِيعَةِ خَمْسُونَ حَبَّةً وَخُمُسَا حَبَّةٍ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ: دِرْهَمَ الْكَيْلِ، لِأَنَّ الرِّطْلَ الشَّرْعِيَّ مِنْهُ يُرَكَّبُ، وَيُرَكَّبُ مِنَ الرِّطْلِ الْمُدُّ وَالصَّاعُ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الدِّرْهَمُ، هِيَ حَبَّةُ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطَةُ الَّتِي لَمْ تُقَشَّرْ وَقُطِعَ مِنْ طَرَفَيْهَا مَا امْتَدَّ. وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ يَحْوِيَ الصَّاعُ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الشَّعِيرِ، وَحِينَئِذٍ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ لَمْ يَمْلَأِ الْبُرُّ بِهَذَا الْوَزْنِ الصَّاعَ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْكَيْلَ، كَانَ الْمُجْزِئُ مِنَ الْبُرِّ أَكْثَرَ مِنَ الشَّعِيرِ وَزْنًا.
قُلْتُ: هَذَا الْإِشْكَالُ وَجَوَابُهُ، قَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي «بَابِ زَكَاةِ الْمُعْشِرَاتِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَجِبُ الصَّرْفُ إِلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَلَوْ صَرَفَ إِلَى وَاحِدٍ سِتِّينَ مُدًّا فِي سِتِّينَ يَوْمًا، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ جَمَعَ سِتِّينَ، وَوَضَعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ سِتِّينَ مُدًّا، وَقَالَ: مَلَّكْتُكُمْ هَذَا وَأَطْلَقَ، أَوْ قَالَ: بِالسَّوِيَّةِ فَقَبِلُوهُ، أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ قَالَ: خُذُوا وَنَوَى الْكَفَّارَةَ، فَأَخَذُوا بِالسَّوِيَّةِ، أَجْزَأَهُ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا، لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا وَاحِدٌ، لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَخَذَ مُدًّا، فَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّ عَشَرَةً أَوْ عِشْرِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدًّا فَأَكْثَرَ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ الْعَدَدُ، وَلَزِمَهُ الْبَاقِي، وَلَوْ صَرَفَ السِّتِّينَ إِلَى ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، أَجْزَأَهُ

(8/305)


ثَلَاثُونَ مُدًّا، وَيَصْرِفُ إِلَى ثَلَاثِينَ غَيْرَهُمْ ثَلَاثِينَ مُدًّا، وَيَسْتَرِدُّ الْأَمْدَادَ الزَّائِدَةَ مِنَ الْأَوَّلِينَ إِنْ شَرَطَ كَوْنَهَا كَفَّارَةً، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَرِدُّ.
وَلَوْ صَرَفَ سِتِّينَ مُدًّا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا، أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ مُدًّا، وَيَصْرِفُ ثَلَاثِينَ مُدًّا إِلَى سِتِّينَ مِنْهُمْ، وَالِاسْتِرْدَادُ مِنَ الْبَاقِينَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. وَيَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى كَافِرٍ، وَلَا إِلَى هَاشِمِيٍّ وَمَطَّلِبِيٍّ، وَلَا إِلَى مَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَزَوْجَةٍ وَقَرِيبٍ، وَلَا إِلَى عَبْدٍ، وَلَا إِلَى مُكَاتَبٍ. وَلَوْ صَرَفَ إِلَى عَبْدٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالسَّيِّدُ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، جَازَ، لِأَنَّهُ صَرَفَ إِلَى السَّيِّدِ. وَلَوْ صَرَفَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، بُنِيَ عَلَى قَبُولِهِ الْوَصِيَّةَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ إِلَى وَلِيِّهِمَا. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الصَّغِيرُ رَضِيعًا، لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ لَهُ، لِأَنَّ طَعَامَهُ اللَّبَنُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَى الصَّغِيرِ فَبَلَّغَهُ الصَّغِيرُ وَلَيَّهُ.
فَرْعٌ
يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَدِينٍ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ، وَلَوْ دَفَعَ مُدًّا إِلَى مِسْكِينٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ، وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ بِهِ هَكَذَا حَتَّى اسْتَوْعَبَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، أَجْزَأَهُ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
فَرْعٌ
لَوْ وَطِئَ الْمُظَاهِرُ مِنْهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ، لَمْ يَجِبِ الِاسْتِئْنَافُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ بِاللَّيْلِ.
فَرْعٌ
أَطْعَمَ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ، لَا يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ.

(8/306)


فَرْعٌ
ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ فِي التَّجْرِبَةِ، أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ الطَّعَامَ إِلَى الْإِمَامِ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ تَفْرِقَتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لَا يُجْزِئُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْكَفَّارَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جِنْسُ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، كَالْفِطْرَةِ، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ الْأُرْزُ، وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُ إِذَا نُحِّيَتْ عَنْهُ الْقِشْرَةُ الْعُلْيَا، لِأَنَّ ادِّخَارَهُ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ الْإِجْزَاءُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا، أَخْرَجَ قَدْرًا يُعْلَمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى مُدٍّ مِنَ الْحَبِّ، وَلَمْ يَجْرِ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْفِطْرَةِ. وَجَرَى ذِكْرُ قَوْلٍ فِي الْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِي كُلِّ بَابٍ مَا نُقِلَ فِي الْآخَرِ، وَفِي الْأَقِطِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْإِجْزَاءِ، فَيَخُصُّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ، أَمْ يَعُمُّ الْحَاضِرَ وَالْبَادِيَ؟ حَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَفِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَقِطِ، وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِغَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُجْزِئَةِ، أَمْ بِغَالِبِ قُوتِهِ، أَمْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ: فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِمَّا لَا يُجْزِئُ كَاللَّحْمِ، اعْتُبِرَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ، وَلَا يُجْزِئُ الدَّقِيقُ وَلَا السَّوِيقُ، وَلَا الْخُبْزُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَلَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ قَطْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُ الْمُسْتَحِقِّينَ وَتَسْلِيطُهُمُ التَّامُّ، فَلَا تَكْفِي التَّغْذِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ بِالتَّمْرِ وَنَحْوِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ لَحِقَهُ مِنَ الصَّوْمِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةً فِي الْمَرَضِ، فَلَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَوْ كَانَ الْمَرَضُ يَدُومُ شَهْرَيْنِ فِي غَالِبِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، فَلَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَلَا يَنْتَظِرُ زَوَالَهُ لِيَصُومَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُهُ لِلْعِتْقِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِيهِ: لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً، وَيُقَالُ لِلْعَاجِزِ بِالْمَرَضِ النَّاجِزِ لَا يَسْتَطِيعُ

(8/307)


الصَّوْمَ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ بِهَذَا الْمَرَضِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي [بِأَنَّ الْمَرَضَ] الْمَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْمَالِ الْغَالِبِ، فَلَا يَعْدِلُ بِسَبَبِهِ إِلَى الْإِطْعَامِ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الْإِطْعَامَ مَعَ رَجَاءِ الزَّوَالِ، فَأَطْعَمَ ثُمَّ زَالَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى الصِّيَامِ. وَإِنِ اعْتَبَرْنَا كَوْنَهُ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، فَكَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ زَوَالُهُ نَادِرًا، فَيُشْبِهُ أَنْ يَلْتَحِقَ بِمَا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ فَزَالَ.
قُلْتُ: صَرَّحَ كَثِيرُونَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَرَضِ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ آخَرُونَ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِنْ كَانَ عَجْزُهُ بِهَرَمٍ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ مُتَأَبِّدٌ، فَلَهُ الْإِطْعَامُ، وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَجْزِ بِالْمَرَضِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَعْجِيلِ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ انْتِظَارِ الْبِرِّ لِلتَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَجْزُهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ أَوْ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَلَهُ فِي الْحَالَيْنِ الْإِطْعَامُ، وَكَذَا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ، قَالَ: وَلَوْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ شَهْرٍ فَقَطْ، أَوْ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ بِلَا تَتَابُعٍ، فَلَهُ الْعُدُولُ إِلَى الْإِطْعَامِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ» : لَوْ عَجَزَ عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ وَلَمْ يَمْلِكْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا ثَلَاثِينَ مُدًّا، أَوْ مُدًّا وَاحِدًا، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ بِلَا خِلَافٍ، إِذْ لَا بُدَّ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَ مُدٍّ، فَفِيهِ احْتِمَالٌ، هَذَا كَلَامُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ بِوُجُوبِ بَعْضِ الْمُدِّ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُدِّ.
قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي «كِتَابِ الصِّيَامِ» : إِذَا قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْإِطْعَامِ، وَقُلْنَا: يَسْقُطُ عَنِ الْعَاجِزِ، فَفِي سُقُوطِهَا عَنْ هَذَا وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَسْقُطُ، أَخْرَجَ الْمَوْجُودَ، وَفِي ثُبُوتِ الْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ وَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/308)


فَرْعٌ
السَّفَرُ الَّذِي يُجَوِّزُ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ، لَا يُجَوِّزُ الْعُدُولَ إِلَى الْإِطْعَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ جَوَازُهُ.
فَرْعٌ
فِي جَوَازِ الْعُدُولِ إِلَى الْإِطْعَامِ بِعُذْرِ الشَّبَقِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: الْمَنْعُ، وَمَالَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى التَّجْوِيزِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِهَذَا، لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ.
قُلْتُ: وَلِأَنَّ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ يُمْكِنُ الْجِمَاعُ لَيْلًا، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَوْ كَانَ يَغْلِبُهُ الْجُوعُ وَيَعْجَزُ عَنِ الصَّوْمِ، قَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، بَلْ يَشْرَعُ، فَإِذَا عَجَزَ، أَفْطَرَ، بِخِلَافِ الشَّبَقِ، فَإِنَّ لَهُ تَرْكَ الشُّرُوعِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ يُبَاحُ بِفَرْطِ الْجُوعِ دُونَ فَرْطِ الشَّبَقِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
لَوْ عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي «كِتَابِ الصِّيَامِ» ، وَقَدْ بُنِيَ الْخِلَافُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْوُجُوبِ، أَمِ الْأَدَاءِ؟ إِنِ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْوُجُوبِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَانَ لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يَطَأَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْخِصَالِ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْأَدَاءَ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَا يَطَأَ الْمُظَاهِرُ حَتَّى يُكَفِّرَ

(8/309)


، وَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ رَقَبَةٍ فَقَطْ، فَكَعَادِمِهَا، فَيَصُومُ، فَإِنْ عَجَزَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - عَنِ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، فَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ تَخْرِيجُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: يُخْرِجُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي: يُخْرِجُهُ وَبَاقِي الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: لَا يُخْرِجُهُ أَيْضًا.
فَصْلٌ
لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُ كَفَّارَةٍ، بِأَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ، وَيَصُومَ شَهْرًا، أَوْ يَصُومَ شَهْرًا، وَيُطْعِمَ ثَلَاثِينَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(8/310)