روضة الطالبين وعمدة المفتين ط المكتب الإسلامي

كِتَابُ اللَّعَانِ وَالْقَذْفِ
فِيهِ أَبْوَابٌ.
الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِ الْقَذْفِ وَأَحْكَامِهِ الْعَامَّةِ، وَفِيهِ طَرَفَانِ.
الْأَوَّلُ: فِي أَلْفَاظِهِ وَهِيَ، صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ.
الْأَوَّلُ: الصَّرِيحُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.
إِحْدَاهَا: لَفْظُ الزِّنَا صَرِيحٌ كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانٍ، أَوْ يَقُولُ لِلْمَرْأَةِ: زَنَيْتِ، أَوْ يَا زَانِيَةُ.
وَالنَّيْكُ وَإِيلَاجُ الْحَشَفَةِ أَوِ الذَّكَرِ صَرِيحَانِ مَعَ الْوَصْفِ بِالْحَرَامِ، لِأَنَّ مُطْلَقَهُمَا يَقَعُ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي «بَابِ الْإِيلَاءِ» فِي الْجِمَاعِ وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ، هَلْ هِيَ صَرِيحَةٌ يَعُودُ هُنَا فَمَا كَانَ صَرِيحًا وَانْضَمَّ إِلَيْهِ الْوَصْفُ بِالتَّحْرِيمِ، كَانَ قَذْفًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَوْتِ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى دَخَلَ ذَكَرُهُ فِي فَرْجِكِ، فَهُوَ قَذْفٌ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا رَمَى بِالْإِصَابَةِ فِي الدُّبُرِ، كَقَوْلِهِ: لُطْتِ أَوْ لَاطَ بِكِ فُلَانٌ، فَهُوَ قَذْفٌ، سَوَاءٌ خُوطِبَ بِهِ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ. وَلَوْ قَالَ: يَا لُوطِيُّ، فَهُوَ كِنَايَةٌ.
قُلْتُ: قَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ، لِإِرَادَةِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، بَلْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا هَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ، وَإِلَّا فَيَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ، فِيمَا إِذَا شَاعَ لَفْظٌ فِي الْعُرْفِ، كَقَوْلِهِ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَشَبَهُهُ، هَلْ هُوَ صَرِيحٌ، أَمْ كِنَايَةٌ؟

(8/311)


وَأَمَّا احْتِمَالُ كَوْنِهِ أَرَادَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ أَصْلًا، وَلَا يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِ غَيْرِهِمْ، فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ، وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ: أَتَيْتَ بَهِيمَةً، وَقُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، فَهُوَ قَذْفٌ. أَمَّا الْكِنَايَةُ، فَكَقَوْلِهِ لِلْقُرَشِيِّ: يَا نَبَطِيُّ، وَلِلرَّجُلِ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، وَلِلْمَرْأَةِ: يَا خَبِيثَةُ، يَا شَبِقَةُ، وَأَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، وَفُلَانَةٌ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامَسٍ وَشَبَهُهَا، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا، فَقَذْفٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا أَنْكَرَ الْإِرَادَةَ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَلَيْسَ لَهُ الْحَلْفُ كَاذِبًا دَفْعًا لِلْحَدِّ، أَوْ تَحَرُّزًا عَنْ تَمَامِ الْإِيذَاءِ. وَلَوْ خَلَّى وَلَمْ يَحْلِفْ، فَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِظْهَارُ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، كَمَنْ قَتَلَ رَجُلًا فِي خُفْيَةٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، أَوْ يُعْفَى عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِظْهَارُ، لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ، فَيَبْعُدُ إِيجَابُهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ مَا لَمْ يُوجَدِ الْإِيذَاءُ التَّامُّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ، أَوْ وَجَدْتُ مَعَكِ رَجُلًا، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَحُكِيَ عَنِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَلَوْ قَالَهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ قَطْعًا، لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ زَوْجَهَا. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ مَعَ فُلَانٍ، فَصَرِيحٌ فِي حَقِّهَا دُونَهُ. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ، فَكَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلَالِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَمَا أَحْسَنَ اسْمَكِ فِي الْجِيرَانِ وَشَبَهِهَا، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْمَنَوِيَّ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.

(8/312)


وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالْإِيذَاءِ، وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَسَوَاءٌ عِنْدَنَا حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا.
فَرْعٌ
النِّسْبَةُ إِلَى سَائِرِ الْكَبَائِرِ غَيْرَ الزِّنَا وَالْإِيذَاءِ، وَبِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ، وَيَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ. وَكَذَا لَوْ قَرْطَبَهُ أَوْ دَيَّثَهُ، أَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ بِفُلَانَةٍ، أَوْ زَنَتْ بِكِ، أَوْ أَصَابَتْكِ فُلَانَةٌ، وَنَسَبَهَا إِلَى إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ.
فَصْلٌ
قَالَ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ: زَنَيْتُ بِكِ، فَهُوَ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَقَاذِفٌ لَهَا، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَيُقَدَّمُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِنْ رَجَعَ، سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا، أَوْ أَجْنَبِيٍّ: زَنَيْتُ بِكَ، فَكَذَلِكَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَحَدُّ قَذْفِهِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ. وَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا يُجْعَلَ هَذَا صَرِيحًا، لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ مُكْرَهًا، وَهَذَا أَقْوَى وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ مَعَ فُلَانٍ، كَانَ قَذْفًا لَهَا دُونَ فُلَانٍ.
فَرْعٌ
قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَيْتِ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ، أَوْ بِكَ زَنَيْتُ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مُصَرِّحَةً بِقَذْفٍ، فَإِنْ أَرَادَتْ حَقِيقَةَ الزِّنَا، وَأَنَّهُمَا زَنَيَا قَبْلَ النِّكَاحِ، فَهِيَ مُقِرَّةٌ بِالزِّنَا وَقَاذِفَةٌ لَهُ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الْقَذْفِ عَنْهُ لِإِقْرَارِهَا، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، كَذَا حَكَاهُ الصَّيْدَلَانِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، وَإِنْ أَرَادَتْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَنَتْ وَهُوَ لَمْ يَزْنِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ: زَنَيْتُ بِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَهُوَ مَجْنُونٌ أَوْ نَائِمٌ، أَوْ وَطِئَنِي بِشُبْهَةٍ وَأَنَا عَالِمَةٌ،

(8/313)


سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَثَبَتَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا لِإِقْرَارِهَا، وَلَا تَكُونُ قَاذِفَةً لَهُ، فَإِنْ كَذَّبَهَا وَقَالَ: بَلْ أَرَدْتِ قَذْفِي، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ فَحَلَفَتْ، فَلَهُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِنْ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنِّي لَمْ أَزْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْنِي غَيْرُهُ، وَلَا جَامَعَنِي هُوَ إِلَّا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِنًا، فَهُوَ زَانٍ أَيْضًا، أَوْ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنِّي لَمْ أَزْنِ، كَمَا لَمْ يَزْنِ هُوَ، فَلَيْسَتْ قَاذِفَةً فَتُصَدَّقُ بِيَمِينِهَا، فَإِذَا حَلَفَتْ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: يَا زَانِي، فَقَالَ: زَنَيْتُ بِكِ، فَفِي جَوَابِهِ مِثْلُ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ أَنْتِ زَانِيَةٌ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهَا بِالزِّنَا، وَقَذْفٌ لَهُ.
وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ نَفْيِ الزِّنَا عَنْهُ وَعَنْهَا، أَنْ تَكُونَ الْأَجْنَبِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ.
فَرْعٌ
قَالَ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، لَمْ تَكُنْ قَاذِفَةً لَهُ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ الْقَذْفَ، فَلَوْ قَالَتْ: زَنَيْتُ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، أَوْ قَالَتِ ابْتِدَاءً: أَنَا زَانِيَةٌ، وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، فَهِيَ قَاذِفَةٌ لَهُ وَمُقِرَّةٌ بِالزِّنَا، وَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ.
وَلَوْ قَالَتِ ابْتِدَاءً: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، فَفِي كَوْنِهَا قَاذِفَةً وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ.
فَرْعٌ
قَالَ لَهُ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي، أَوْ أَزْنَى مِنَ النَّاسِ، أَوْ يَا أَزْنَى النَّاسِ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ.
قُلْتُ: هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَخَالَفَهُمْ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لَهُ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: هَذَا ظَاهِرُهُ نِسْبَةُ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَى الزِّنَا، وَأَنَّهُ أَكْثَرُ زِنًا

(8/314)


مِنْهُمْ، وَهَذَا مُتَيَقَّنٌ بُطْلَانُهُ، قَالُوا: وَلَوْ فَسَّرَ وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ زُنَاةٌ، وَهُوَ أَزْنَى مِنْهُمْ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ لِتَحَقُّقِ كَذِبِهِ.
وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ أَزْنَى مِنْ زُنَاتِهِمْ، فَهُوَ قَذْفٌ لَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ.
وَعَنِ الدَّارِكِيِّ أَنَّهُ قَذْفٌ لَهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: زَنَا فُلَانٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي قَذْفِهِمَا. وَعَنِ ابْنِ سَلَمَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْمُخَاطَبِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: فِي النَّاسِ زُنَاةٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُمْ، أَوْ أَنْتَ أَزْنَى زُنَاةِ النَّاسِ.
وَلَوْ قَالَ: النَّاسُ كُلُّهُمْ زُنَاةٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُمْ، قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ لِعِلْمِنَا بِكَذِبِهِ. قَالُوا: وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ، أَنْتَ أَزْنَى مِنْ زُنَاةِ أَهْلِ بَغْدَادَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي لَفْظِهِ بِزِنَا فُلَانٍ، لَكِنَّهُ كَانَ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ جَاهِلًا بِهِ، فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي كَوْنِهِ جَاهِلًا، وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهُ الدَّارِكِيِّ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا جَمِيعًا، فَيُحَدُّ لِلْمُخَاطَبِ، وَيُعَزَّرُ لِفُلَانٍ، وَيَجِيءُ فِي قَذْفِ الْمُخَاطَبِ وَجْهُ ابْنِ سَلَمَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ.
فَرْعٌ
قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتَ زَانٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ قَاذِفٌ لِصَاحِبِهِ، وَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِذَا تَقَاذَفَ شَخْصَانِ، حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَلَا يَتَقَاصَّانِ، لِأَنَّ التَّقَاصَّ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا اتَّحَدَتِ الصِّفَاتُ، وَأَلَمُ الضَّرَبَاتِ يَخْتَلِفُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، أَوْ لِلْمَرْأَةِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِهَا، فَهُوَ قَذْفٌ.

(8/315)


وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا زَانِيَةُ، أَوْ لَهَا: يَا زَانٍ، أَوْ يَا زَانِي، فَهُوَ قَذْفٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ.
فَرْعٌ
قَالَ: زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ بِالْهَمْزِ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الصُّعُودُ، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَذْفَ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْمُدَّعِي، وَاسْتَحَقَّ حَدَّ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ فِي الْبَيْتِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَذْفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الصُّعُودِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ.
قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةُ الْبَغَوِيِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَيْتِ دَرَجٌ يَصْعَدُ إِلَيْهِ فِيهَا، فَقَذْفٌ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ، فَوَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ، أَوْ يَا زَانِئُ بِالْهَمْزِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ.
أَصَحُّهَا: لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ. وَعَنِ الدَّارِكِيِّ أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيَّ نَسَبَهُ إِلَى نَصِّهِ فِي «الْجَامِعِ الْكَبِيرِ» . وَالثَّالِثُ: إِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ بِلَا نِيَّةٍ، وَإِلَّا فَقَذْفٌ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ وَصَرَّحَ بِالْيَاءِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَذْفٌ. وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: قَذْفٌ مِنْ عَارِفِ اللُّغَةِ دُونَ غَيْرِهِ.
قُلْتُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ فِي الْجَبَلِ بِالْيَاءِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «كِتَابِ اللِّعَانِ» مِنْ «الْأُمِّ» ، أَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي «التَّلْخِيصِ» وَنَقَلَ الْفُورَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ أَنَّهُ قَذْفٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَسِيطِ» وَصَاحِبُ «الْعُدَّةِ» ، وَلَمْ أَرَ هَذَا النَّقْلَ لِغَيْرِ الْفُورَانِيِّ وَمُتَابِعِيهِ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَلْيَعْتَمِدْ مَا رَأَيْتُهُ فِي «الْأُمِّ» ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، كَانَ قَوْلًا آخَرَ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، أَنَّ قَوْلَهُ: زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ، صَرِيحٌ مِنْ جَاهِلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/316)


فَصْلٌ
مِنْ صَرَائِحِ الْقَذْفِ أَنْ يَقُولَ: زَنَا فَرْجُكَ، أَوْ ذَكَرُكَ، أَوْ قُبُلُكَ، أَوْ دُبُرُكَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ فِي قُبُلِكِ، فَقَذْفٌ. وَإِنْ قَالَهُ لِرَجُلٍ، فَكِنَايَةٌ، لِأَنَّ زِنَاهُ بِقُبُلِهِ لَا فِيهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَالَ: زَنَى يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، أَوْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدَاكَ، أَوْ عَيْنَاكَ، فَكِنَايَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ. وَقِيلَ: إِنْ قَالَ: يَدَاكَ أَوْ عَيْنَاكَ، فَكِنَايَةٌ قَطْعًا لِمُطَابَقَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَا بَدَنُكَ، فَصَرِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ.
قُلْتُ: قَالَ فِي الْبَيَانِ: لَوْ قَالَ لِلْخُنْثَى: زَنَا ذَكَرُكِ وَفَرْجُكِ، فَصَرِيحٌ، وَإِنْ ذَكَرَ أَحَدَهَمَا، فَالَّذِي يَقْتَضِي الْمَذْهَبَ أَنَّهُ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْيَدِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: وَطِئَكِ رَجُلَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : يُعَزَّرُ، وَلَا حَدَّ لِاسْتِحَالَتِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْقَذْفِ إِلَى الْكَذِبِ الصَّرِيحِ، فَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَلَا يُلَاعَنُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ لِابْنِهِ اللَّاحِقِ بِهِ ظَاهِرًا: لَسْتَ ابْنِي، أَوْ لَسْتَ مِنِّي، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَيْسَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْقَذْفَ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، وَفِيهِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْدِيبِهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: صَرِيحٌ فِيهِمَا. وَالثَّانِي وَأَقْيَسُهُمَا: كِنَايَةٌ. وَالثَّالِثُ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِمَا قَطْعًا، وَتَأْوِيلُ النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا نَوَاهُ.
وَالرَّابِعُ قَالَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ:

(8/317)


صَرِيحٌ فِيهِمَا قَطْعًا، وَتَأَوَّلَ مَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ قَالَ: لَسْتَ ابْنِي، نَسْتَفْسِرُهُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ زِنًا، فَقَاذِفٌ، وَإِنْ قَالَ: لَا يُشْبِهُنِي خُلُقًا وَخَلْقًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ طَلَبَتْهَا، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَاسْتَحَقَّتْ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعَنَ لِإِسْقَاطِهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقِيلَ: لَا يُلَاعَنُ لِإِنْكَارِهِ الْقَذْفَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَلَا قَذْفَ، فَإِنِ ادَّعَتْ إِرَادَتَهُ الْقَذْفَ، حَلَفَ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَطْءَ بِالشُّبْهَةِ، أَوْ عَيَّنَهُ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ وَلَمْ يَقْبَلِ الْوَلَدَ، وَإِنْ صَدَقَ وَادَّعَى الْوَلَدَ، عَرَضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَهُ، وَإِلَّا لَحِقَ بِالزَّوْجِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي، فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ، سَوَاءٌ عُرِفَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، بَلْ يَلْحَقُهُ، وَإِنْ عُرِفَ، فَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي «كِتَابِ الْعُدَّةِ» ، أَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْ يَلْحَقُ؟ فَإِذَا لَحِقَهُ، فَإِنَّمَا يُنْفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفُ وَقْتُ نِكَاحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَالْإِمْكَانَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بِنِيَّةِ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي نِكَاحِهِ لِزَمَانِ الْإِمْكَانِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُتَمَحِّضَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنِيَّةٍ، فَلَهَا تَحْلِيفُهُ، فَإِنْ نَكَلَ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ، بَلْ هُوَ لَقِيطٌ أَوْ مُسْتَعَارٌ، فَلَا قَذْفَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ الْوِلَادَةِ، وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَهَلْ يُعْرَضُ مَعَهَا عَلَى

(8/318)


الْقَائِفِ؟ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِهَا، لَحِقَ بِالزَّوْجِ وَاحْتَاجَ فِي النَّفْيِ إِلَى اللِّعَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْرَضُ، أَوْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ. فَإِنْ حَلَفَ، انْتَفَى، وَفِي لُحُوقِهِ بِهَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ، فِي أَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ، هَلْ يَلْحَقُهَا الْوَلَدُ بِالِاسْتِلْحَاقِ؟
وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ رَاجَعَهَا أَوْ وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، أَنَّهُ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ النَّصَّيْنِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَيَقْوَى بِهِ جَانِبُهَا، وَالْمَذْهَبُ هُنَا، ثُبُوتُ الرَّدِّ، فَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَحَلَفَتْ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَإِنْ نَكَلَتْ، فَهَلْ تُوقَفُ الْيَمِينُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَحْلِفَ؟ وَجْهَانِ.
فَإِنْ قُلْنَا: تُوقَفُ فَحَلَفَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ نَكَلَ أَوْ قُلْنَا: لَا تُوقَفُ، انْتَفَى عَنْهُ، وَفِي لُحُوقِهِ بِهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِمَنْفِيٍّ بِاللِّعَانِ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، يَعْنِي الْمُلَاعَنَ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي قَذْفِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تَصْدِيقَ الْمُلَاعِنِ فِي أَنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، فَهُوَ قَاذِفٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُلَاعِنَ نَفَاهُ، أَوْ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، أَوْ لَا يُشْبِهُهُ خُلُقًا وَخَلْقًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا، وَاسْتَحَقَّتِ الْحَدَّ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ غَيْرَ الْقَفَّالِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ النَّافِي، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ

(8/319)


الْمَنْفِيِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ أَحَدُ التَّفَاسِيرِ الْمَقْبُولَةِ أَنَّ الْمُلَاعِنَ نَفَاهُ، فَالِاسْتِلْحَاقُ بَعْدَ النَّفْيِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَفَاهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يُجْعَلَ صَرِيحًا، وَيُقْبَلُ التَّفْسِيرُ بِهِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ، حَسَنٌ مِنْ وَجْهٍ، ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهٍ، فَحُسْنُهُ فِي قَبُولِ التَّفْسِيرِ، وَضَعْفُهُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَالرَّاجِحُ فِيهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ: هُوَ قَذْفٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَنَحُدُّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلَهُ مَا أَرَادَ. فَإِنِ ادَّعَى احْتِمَالًا مُمْكِنًا، كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ حِينَ نَفَاهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا حَدَّ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ، فَإِنَّا لَا نَحُدُّهُ هُنَاكَ حَتَّى نَسْأَلَهُ، لِأَنَّ لَفْظَهُ كِنَايَةٌ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهُنَا ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْقَذْفُ، فَحُدَّ بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ مُحْتَمَلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِقُرَشِيٍّ: لَسْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ لِتُرْكِيٍّ: يَا هِنْدِيُّ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ فِي الْأَخْلَاقِ، أَوْ أَنَّهُ تُرْكِيُّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنِ ادَّعَتْ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا، وَنَكَلَ الْقَاذِفُ، وَحَلَفَتْ هِيَ، وَجَبَ لَهَا الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَذْفَ، فَمُطْلَقُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أُمِّ الْمَقُولِ لَهُ.
فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ جَدَّاتِهِ زَنَتْ، نُظِرَ، إِنْ عَيَّنَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ جَدَّةً لَا بِعَيْنِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَحَدُ أَبَوَيْكَ زَانٍ، أَوْ فِي السِّكَّةِ زَانٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، فَإِنْ كَذَّبَتْهُ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ، فَلَهَا تَحْلِيفُهُ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْأَئِمَّةُ، وَفِي التَّجْرِبَةِ لِلرُّويَانِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَلَوِيٍّ: لَسْتَ ابْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: أَرَدْتُ لَسْتَ مِنْ

(8/320)


صُلْبِهِ، بَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آبَاءٌ، لَمْ يُصَدَّقْ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَذْفُ، أَنَّكَ أَرَدْتَ قَذْفِي، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْقَائِلُ وَيُعَزَّرُ.
وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَائِلُ: أَرَدْتُ جَدَّةً مِنْ جَدَّاتِ الْمَقُولِ لَهُ، مَهْمَا نَازَعَتْهُ أَمُّهُ، بَلْ تُصَدَّقُ هِيَ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا، وَالسَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ قَذْفُهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ الْقَائِلُ وَبَرِئَ.
قُلْتُ: وَإِذَا قَالَ: لَمْ أُرِدْ شَيْئًا، فَلَا حَدَّ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْخَصْمُ، حَلَّفَهُ كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الْقَذْفِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا، فَعَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ، وَإِلَّا فَالتَّعْزِيرُ. وَشُرُوطُ الْإِحْصَانِ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا. فَلَوْ قَذَفَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، لَمْ يُحَدَّ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ.
وَتَبْطُلُ الْعِفَّةُ بِكُلِّ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَمِنْهُ مَا إِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ، أَوْ جَارِيَةَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، أَوْ نَكَحَ مَحْرَمًا لَهُ، أَوْ وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَةَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ فِي دُبُرٍ، ثُمَّ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ، أَنَّهُ تَبْطُلُ حَصَانَةُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ فِي الدُّبُرِ، فَكَذَا لَا تَبْطُلُ بِهِ الْحَصَانَةُ، وَرَأَى هُوَ أَنْ تَبْطُلُ حَصَانَتُهُمَا جَمِيعًا، لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا.
قُلْتُ: إِبْطَالُ حَصَانَتِهِمَا، هُوَ الرَّاجِحُ، وَأَيُّ عِفَّةٍ وَحُرْمَةٍ لِمَنْ مَكَّنَ مِنْ دُبُرِهِ مُخْتَارًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْوَطْءُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ، فَلِلْأَصْحَابِ فِي تَرْتِيبِ صُوَرِهِ وَضَبْطِهِ طُرُقٌ أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ يُنَظَرُ، أَجَرَى ذَلِكَ فِي مِلْكِ نِكَاحٍ، أَوْ يَمِينٍ، أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكٍ؟ .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَمْلُوكُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَمَنْ

(8/321)


وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ، أَوْ عَمَّتُهُ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، بَطَلَتْ حَصَانَتُهُ، وَإِلَّا فَتَبْطُلُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ عِفَّتِهِ، بَلْ هَذَا أَفْحَشُ مِنَ الزِّنَا بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا، بَطَلَتْ حَصَانَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَحْرُمُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَهُ حَظٌّ مِنَ الدَّوَامِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ وَغَيْرِهِ وَأَمَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ أَوِ الْمُزَوَّجَةِ، أَوِ الْمُرْتَدَّةِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَأَمَتِهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَلَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَعَدَمِ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ، وَعَدَمِ دَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالزِّنَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ لِعَارِضٍ سَرِيعِ الزَّوَالِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فِي الْحَيْضِ، أَوِ النِّفَاسِ، أَوِ الْإِحْرَامِ، أَوِ الِاعْتِكَافِ، أَوِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَلَا تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْوَطْءُ الْجَارِي فِي غَيْرِ مِلْكٍ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَجَارِيَةِ الِابْنِ. وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. وَفِي الْإِحَرَامِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ وَوَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ فِي الْعِدَّةِ، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَصَحُّهُمَا لَا تَبْطُلُ، وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْبُطْلَانَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هُوَ أَقْرَبُ.
وَأَمَّا وَطْءُ الْمُشْتَرَكَةِ، فَقَالَ الدَّارَكِيُّ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَشَارَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي الْحَيْضِ، هَذَا أَحَدُ الطُّرُقِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ فِي سُقُوطِ الْحَصَانَةِ بِوَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ وَجْهَيْنِ. وَفِي الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ الِابْنِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِبَقَاءِ الْحَصَانَةِ. وَفِي الْمَنْكُوحَةِ بِلَا وَلِيٍّ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي إِبَاحَتِهِ، وَفِي الْوَطْءِ

(8/322)


بِالشُّبْهَةِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَوَجْهُ إِسْقَاطِهَا، إِشْعَارُهُ بِتَرْكِ التَّحَفُّظِ. وَفِي الْوَطْءِ الْجَارِي فِي الْجُنُونِ وَالصَّبِيِّ عَلَى صُورَةِ الزِّنَا وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: لَا تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكٍ أَوْ مَعَ عُذْرٍ كَالشُّبْهَةِ، وَتَبْطُلُ بِمَا خَلَا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ وَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ.
وَالرَّابِعُ: تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ بِكُلِّ وَطْءٍ حَرَامٍ، كَالْحَائِضِ، دُونَ مَا لَا يَحْرُمُ، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ.
وَالْخَامِسُ: كُلُّ وَطْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَدٌّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ يُسْقِطُ الْحَصَانَةَ، وَمَا لَا حَدَّ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ لَا يُسْقِطُهَا، كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ وَالْمُشْتَرَكَةِ.
قُلْتُ: قَدْ جَمَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْخِلَافَ الْمُنْتَشِرَ مُخْتَصَرًا فَقَالَ: يَنْتَظِمُ مِنْهُ سِتَّةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا تُسْقِطُ الْحَصَانَةَ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَالثَّانِي: يُسْقِطُهَا هَذَا، وَوَطْءُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَالثَّالِثُ: يُسْقِطُهَا هَذَا، وَوَطْءُ الْأَبِ وَالشَّرِيكِ.
وَالرَّابِعُ: هَذَا، وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
وَالْخَامِسُ: هَذَا، وَوَطْءُ الشُّبْهَةِ مِنْ مُكَلَّفٍ.
وَالسَّادِسُ: هَذَا، وَوَطْءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيَجِيءُ فِيهِ سَابِعٌ، وَهُوَ هَذَا، وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَيْنَ الْعَالِمِ بِتَحْرِيمِهِ وَالْجَاهِلِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلُ كَالْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/323)


فَرْعٌ
قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْكَافِرُ إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَغَصَبَ امْرَأَةً وَوَطِئَهَا ظَانًّا حِلَّهَا، لَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ.
قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ مَجِيءِ الْخِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
مُقَدِّمَاتُ الزِّنَا كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِهِمَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَصَانَةِ بِحَالٍ، وَلِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِيهَا احْتِمَالٌ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَخَرَجَتْ مُسْتَحِقَّةً، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ فِي «الْإِبَانَةِ» وَ «الْمُهَذَّبِ» ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الشُّبْهَةِ، فَيَكُونُ الرَّاجِحُ بَقَاءَ الْحَصَانَةِ. وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ أَمَةً وَوَطِئَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهُ، وَقَالَ الْفُورَانِيُّ: تَبْطُلُ، وَالْأَوَّلُ أَفْقَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْفُورَانِيُّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِلِاحْتِيَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَذَفَ عَفِيفًا فِي الظَّاهِرِ، فَزَنَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِيهِ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْحَدِّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الصَّحِيحِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ، لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ زَنَتَ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَاللِّعَانُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ وَأَرَادَ نَفْيَهُ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَلَوْ سَرَقَ الْمَقْذُوفُ أَوْ قُتِلَ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ الْحَدَّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِيهِ.

(8/324)


فَرْعٌ
مَنْ زَنَا مَرَّةً وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ، أَوْ عَدْلٌ عَفِيفٌ، أَوْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْآخَرُ، وَحَسُنَتْ أَحْوَالُهُمْ، لَمْ تُعَدَّ حَصَانَتُهُمْ، وَلَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُمْ، سَوَاءً قَذَفَهُمْ بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ بِزِنًا بَعْدَهُ، وَفِيمَا بَعْدَهُ احْتِمَالٌ. وَلَوْ جَرَتْ صُورَةُ الزِّنَا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، لَمْ تَسْقُطْ حَصَانَتُهُ، فَمَنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْكَمَالِ، حُدَّ، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَيْسَ زِنًا لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ.
فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا وَعَجَزَ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ، فَهَلْ لَهُ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزْنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. الْمُوَافِقُ لِجَوَابِ الْأَكْثَرِينَ: لَهُ تَحْلِيفُهُ، قَالُوا: وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالزِّنَا وَالتَّحْلِيفَ عَلَى نَفْيِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قُلْتُ: الْعَجْزُ عَنِ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ مَتَى طُلِبَ يَمِينُهُ، جَاءَ الْخِلَافُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتًا، وَطَلَبَ وَارِثُهُ الْحَدَّ، وَطَلَبَ الْقَاذِفُ يَمِينَهُ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مُوَرِّثَهُ زَنَا، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ، قَالَ: وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ الْبَحْثُ عَنْ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ لِيُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لِيَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ؟ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: نَعَمْ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ: لَا، لِأَنَّ الْقَاذِفَ عَاصٍ فَغُلِّظَ عَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِظَاهِرِ الْإِحْصَانِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّغْلِيظَ.

فَصْلٌ
حَدُّ الْقَذْفِ وَتَعْزِيرُهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ، يُوَرَّثُ عَنْهُ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ:

(8/325)


اقْذِفْنِي، فَقَذَفَهُ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ، لِأَنَّ الْقَطْعَ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحِقَّ الْقَطْعِ. وَأَمَّا الْقَذْفُ، فَلَا يُبَاحُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ زَانِيًا. وَفِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ؟ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، كَالْمَالِ وَالْقِصَاصِ. وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ. وَالثَّالِثُ: رِجَالُ الْعَصَبَاتِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ. وَالرَّابِعُ: رِجَالُ الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ. فَإِنْ قُلْنَا: يَرِثُ الزَّوْجَانِ، فَأَنْشَأَ قَذْفَ مَيِّتٍ، فَفِي إِرْثِهِمَا وَجْهَانِ، لِانْقِطَاعِ الْوَصْلَةِ حَالَةَ الْقَذْفِ، وَإِذَا وَرَّثْنَا الِابْنَ، قُدِّمَ عَلَى سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْذُوفِ وَارِثٌ خَاصٌّ، فَهَلْ يُقِيمُ السُّلْطَانُ الْحَدَّ؟ قَوْلَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ، وَكَمَا لَوْ قَذَفَ مَيِّتًا لَا وَارِثَ لَهُ، أَظْهَرُهُمَا: يُقِيمُهُ.
فَرْعٌ
لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي حَدِّ الْقَذْفِ الْمَوْرُوثِ عَنْ حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: يَجُوزُ لِمَنْ بَقِيَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْحَدِّ، لِأَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ لَهُمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ وَحَقِّ الشُّفْعَةِ. وَالثَّانِي: يَسْقُطُ جَمِيعُ الْحَدِّ كَالْقِصَاصِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَا بَدَلَ هُنَا، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَالثَّالِثُ: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي وَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي، لِأَنَّهُ مُتَوَزِّعٌ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ السَّوْطُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ شَرِكَةٌ.
فَرْعٌ
قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزَ الْإِرْثِ، لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ. وَلَوْ قَذَفَ أَبَاهُ، فَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ. فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ، فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ الْجَمِيعُ، فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي، فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ.

(8/326)


فَرْعٌ
لَوْ جُنَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ، بَلْ يُصْبَرُ حَتَّى يُفِيقَ، فَيَسْتَوْفِيَ، أَوْ يَمُوتَ فَيُوَرِّثَ. وَكَذَا لَوْ قَذَفَ الْمَجْنُونَ أَوِ الصَّغِيرَ، وَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِمَا التَّعْزِيرُ، بَلْ يَجِبُ الصَّبْرُ.
فَرْعٌ
إِذَا قُذِفَ الْعَبْدُ وَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، فَالطَّلَبُ وَالْعَفْوُ لَهُ لَا لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّ عِرْضَهُ لَهُ لَا لِلسَّيِّدِ، حَتَّى لَوْ قَذَفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، كَانَ لَهُ رَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ طَلَبُ التَّعْزِيرِ مِنْ سَيِّدِهِ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: لَا تَعُدْ، فَإِنَّ عَادَ، عُزِّرَ كَمَا يُعَزَّرُ لَوْ كَلَّفَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِنَ الْخِدْمَةِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ.
فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ وَقَدِ اسْتَحَقَّ تَعْزِيرًا عَلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَسْتَوْفِيهِ سَيِّدُهُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ بِالْقَذْفِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالْحَدِّ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، فَمَا ثَبَتَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، يَكُونُ لِسَيِّدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ كَمَالِ الْمُكَاتَبِ. وَالثَّانِي: يَسْتَوْفِيهِ أَقَارِبُهُ، لِأَنَّ الْعَارَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: يَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ كَحُرٍّ لَا وَارِثَ لَهُ. وَالرَّابِعُ: يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْبَابُ الثانِي فِي قَذْفِ الزَّوْجَةِ خَاصَّةً
الزَّوْجُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي صَرِيحِ الْقَذْفِ وَكِنَايَتِهِ، وَفِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِقَذْفِهَا الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَالتَّعْزِيرُ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، إِلَّا أَنَّ الزَّوْجَ يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ قَدْ يُبَاحُ لَهُ الْقَذْفُ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَتَخَلَّصُ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ. وَلِلزَّوْجِ طَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى الْخَلَاصِ، وَهُوَ

(8/327)


اللِّعَانُ. وَكَمَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ عُقُوبَةُ الْقَذْفِ بِاللِّعَانِ، يَجِبُ عَلَيْهَا بِهِ حَدُّ الزِّنَا، وَلَهَا دَفْعُهُ بِلِعَانِهَا. فَصْلٌ
مَتَّى تَيَقَّنَ الزَّوْجُ أَنَّهَا زَنَتْ، بِأَنْ رَآهَا تَزْنِي، جَازَ لَهُ قَذْفُهَا، وَكَذَا إِنْ ظَنَّ زِنَاهَا ظَنًّا مُؤَكَّدًا، بِأَنْ أَقَرَّتْ بِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَالْإِمَامُ: سَوَاءٌ كَانَ الْقَائِلُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، أَمْ لَا، وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا يَزْنِي بِهَا وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ عَنْ عِيَانٍ، لَكِنِ انْضَمَّتْ إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ قَرِينَةُ الْفَاحِشَةِ، بِأَنْ رَآهُ مَعَهَا فِي خَلْوَةٍ، أَوْ رَآهُ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ الْقَذْفُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفَاضَةِ. إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهَا الْقَرِينَةُ. وَعَنِ الدَّارَكِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِفَاضَةِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَوْ رَآهَا مَعَهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً فِي مَحَلِّ الرِّيبَةِ، كَانَ ذَلِكَ كَالِاسْتِفَاضَةِ مَعَ الرُّؤْيَةِ مَرَّةً، وَكَذَا لَوْ رَآهَا مَعَهُ تَحْتَ شِعَارٍ عَلَى هَيْئَةٍ مُنْكَرَةٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ، لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْقَذْفُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهَا وَيُفَارِقَهَا بِغَيْرِ اللِّعَانِ إِنْ شَاءَ، وَلَوْ أَمْسَكَهَا لَمْ يَحْرُمْ.
قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلَاعِنَ، بَلْ يُطْلِقَهَا إِنْ كَرِهَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ النَّفْيُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ تَيَقَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهَا زَنَتْ، قَذَفَهَا وَلَاعَنَ، وَإِلَّا فَلَا يَقْذِفُهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ، أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ إِذَا لَمْ يَطَأْهَا أَصْلًا، أَوْ وَطِئَهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ

(8/328)


أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، أَوْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَلَوْ وَطِئَهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بِحَيْضَةٍ، أَوِ اسْتَبْرَأَهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ النَّفْيُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِرِيبَةٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ، أَوْ شُبْهَةٍ تُخَيِّلُ لَهُ فَسَادًا، وَإِنِ اسْتَبْرَأَهَا وَأَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحُدُهَا: يَجُوزُ النَّفْيُ، لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْفِيَهُ، لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَرَى الدَّمَ. وَالثَّانِي: إِنْ رَأَى بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ الْقَرِينَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْقَذْفِ، جَازَ النَّفْيُ، بَلْ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا، لَمْ يَجُزْ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ النَّفْيُ، سَوَاءٌ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ وَأَمَارَةٌ، أَمْ لَا، وَلَا يَجِبُ بِحَالٍ لِلِاحْتِمَالِ. وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّانِي، صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ.
قُلْتُ: جَعَلَ الرَّافِعِيُّ الْأَوْجَهَ فِيمَا إِذَا أَتَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَكَذَا فَعَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْإِمَامُ، وَالْبَغَوِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «الْعُدَّةِ» وَآخَرُونَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي سِتَّةِ الْأَشْهُرِ مِنْ حِينِ زَنَى الزَّانِي بِهَا، لِأَنَّ مُسْتَنَدَ اللِّعَانِ زِنَاهُ، فَإِذَا وَلَدَتْ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ زِنًا، وَلِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الزِّنَا، فَيَصِيرُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَا يَجُوزُ النَّفْيُ، وَهَذَا أَوْضَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ يَطَأُ وَيَعْزِلُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ صَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ بِذَلِكَ، فَقَدْ سَبَقَ الْمَاءُ، وَجَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ مُجَوِّزًا لِلنَّفْيِ. وَلَوْ جَامَعَ فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرَجِ، فَلَهُ النَّفْيُ عَلَى الْأَصَحِّ.
فَرْعٌ
لَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَا يُشْبِهُهُ، نُظِرَ، إِنْ خَالَفَهُ فِي نَقْصِ وَكَمَالِ خِلْقَةٍ، أَوْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَنَحْوِهَا، حَرُمَ النَّفْيُ، وَإِنْ وَلَدَتْ أَسْوَدَ وَهُمَا أَبْيَضَانِ أَوْ عَكْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ

(8/329)


إِلَيْهِ قَرِينَةُ الزِّنَا، حَرُمَ النَّفْيُ، وَإِنِ انْضَمَّتْ أَوْ كَانَ يَتَّهِمُهَا بِرَجُلٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، جَازَ النَّفْيُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْمَنْعَ.
قُلْتُ: الْمَنْعُ أَصَحُّ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ غَيْرَ الْمَذْكُورَيْنِ، صَاحِبَا «الْحَاوِي» وَ «الْعُدَّةِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُؤَثِّرُ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ، كَالْأُدْمَةِ وَالسُّمْرَةِ وَالشُّقْرَةِ، وَالْقَرِينَةُ مِنَ الْبَيَاضِ.
فَرْعٌ
مَتَّى نَفَى الْوَلَدَ وَلَاعَنَ، حُكِمَ بِنُفُوذِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَا يُكَلَّفُ بَيَانَ السَّبَبِ الَّذِي بَنَى النَّفْيَ عَلَيْهِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى رِعَايَةُ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِنَاءُ النَّفْيِ عَلَى مَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ.
فَصْلٌ
لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ إِمْكَانُ الْوَطْءِ، فَإِذَا نَكَحَ وَطَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ غَابَ عَنْهَا غَيْبَةً بَعِيدَةً لَا يُحْتَمَلُ وُصُولُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْغَيْبَةِ، أَوْ جَرَى الْعَقْدُ وَالزَّوْجَانِ مُتَبَاعِدَانِ، أَحَدُهُمَا بِالْمُشْرِقِ، وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِغَيْرِ لِعَانٍ.
فَرْعٌ
إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لَكِنَّهُ رَآهَا تَزْنِي وَاحْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ

(8/330)


الزِّنَا، فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ. وَهَلْ لَهُ الْقَذْفُ وَاللِّعَانُ؟ حَكَى الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ لِجَوَازِ الْقَذْفِ إِذَا تَيَقَّنَ الزِّنَا وَلَا وَلَدَ، انْتِقَامًا مِنْهَا، فَحَصَلَ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا لِدَفْعِ النَّسَبِ، أَوْ قَطْعِ النِّكَاحِ حَيْثُ لَا وَلَدَ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ وَلَدٌ عَلَى الْفِرَاشِ الْمُلَطَّخِ، وَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ هُنَا، فَلَمْ يَبْقَ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ زِنَاهَا تَعْيِيرَ الْوَلَدِ، وَإِطْلَاقَ الْأَلْسُنَةِ فِيهِ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ لِغَرَضِ الِانْتِقَامِ مَعَ إِمْكَانِ الْفِرَاقِ بِالطَّلَاقِ.
قُلْتُ: هَذَا النَّقْلُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ مُطْلَقًا غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، أَوْ رَأَى فِيهِ شَبَهَ الزَّانِي، لَزِمَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، يَعْنِي بَعْدَ قَذْفِهَا، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ، لَمْ يَنْفِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : إِذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا وَرَآهَا تَزْنِي، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ، أَوْ بِالْإِمْسَاكِ. فَأَمَّا نَفْيُ الْوَلَدِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، نَفَاهُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، جَازَ أَنْ يُغَلِّبَ حُكْمَ الشَّبَهِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي ثَمَرَةِ اللِّعَانِ، وَشُرُوطِهِ، وَصِفَتِهِ، وَأَحْكَامِهِ
فِيهِ أَطْرَافٌ.
الْأَوَّلُ: فِي ثَمَرَاتِ اللِّعَانِ، وَهِيَ نَفْيُ النَّسَبِ وَقَطْعُ النِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا، وَدَفْعُ الْمَحْذُورِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِالْقَذْفِ، وَإِثْبَاتُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا.
قُلْتُ: وَمِنَ الثَّمَرَاتِ: سُقُوطُ حَدِّ قَذْفِ الزَّانِي بِهَا عَنِ الزَّوْجِ إِنْ سَمَّاهُ فِي

(8/331)


لِعَانِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَمِنْهَا: سُقُوطُ حَصَانَتِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ هِيَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: تَشْطِيرُ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَمِنْهَا: اسْتِبَاحَةُ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اللِّعَانِ، تَعَلُّقُ جَمِيعِ ثَمَرَاتِهِ بِهِ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَقِلُّ بِإِفَادَةِ حَقِّ جَوَازِهِ، وَمِنْهَا خِلَافُهُ، فَنَفْيُ النَّسَبِ، هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، فَيَجُوزُ اللِّعَانُ لَهُ وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ نِكَاحٌ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ عُقُوبَةٌ، بِأَنْ كَانَ أَبَانَهَا، أَوْ عَفَتْ عَنِ الْعُقُوبَةِ، أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا.
وَأَمَّا دَفْعُ عُقُوبَةِ الْقَذْفِ، فَيَجُوزُ اللِّعَانُ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ الْحَدِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحٌ وَلَا نَسَبٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ التَّعْزِيرَ، فَالتَّعْزِيرُ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ الْقَذْفِ نَوْعَانِ: تَعْزِيرُ تَكْذِيبٍ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْقَاذِفِ الْكَاذِبِ ظَاهِرًا، بِأَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ أَوِ الرَّقِيقَةَ، أَوِ الصَّغِيرَةَ الَّتِي يُوطَأُ مِثْلُهَا، وَتَعْزِيرُ تَأْدِيبٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَذِبُهُ مَعْلُومًا، أَوْ صِدْقُهُ ظَاهِرًا، فَيُعَزَّرُ لَا تَكْذِيبًا لَهُ، بَلْ تَأْدِيبًا لِئَلَّا يَعُودَ إِلَى السَّبِّ وَالْإِيذَاءِ، بِأَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، أَوْ قَذَفَ الْكَبِيرَةَ بِزِنًا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِإِقْرَارِهَا، فَلَا يُحَدُّ لِسُقُوطِ حَصَانَتِهَا، وَيُعَزَّرُ تَأْدِيبًا لِلْإِيذَاءِ بِتَحْدِيدِ ذِكْرِ الْفَاحِشَةِ.
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ، فَيُسْتَوْفَى بِطَلَبِهَا، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، فَلَا يُلَاعِنُ لِدَفْعِ تَعْزِيرِ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا وَإِنْ كَبُرَتْ وَطَالَبَتْ، لِأَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ لِلْقَذْفِ. فَإِنَّهُ أَتَى بِمُحَالٍ لَا يَلْحَقُهَا بِهِ عَارٌ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ مَنْعًا لَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَالْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ. وَفِيهِ وَجْهٌ سَيَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَذَفَ الْكَبِيرَةَ بِزِنًا ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارِهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي

(8/332)


رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ: عُزِّرَ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْتَعِنْ، وَفِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ: يُعَزَّرُ إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ. وَلِلْأَصْحَابِ طُرُقٌ، أَشْهَرُهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يُلَاعِنُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: لَا يُلَاعِنُ قَطْعًا، وَرَدَّ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ. وَالثَّالِثُ: يُلَاعِنُ قَطْعًا، وَتَأَوَّلَ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ. وَالرَّابِعُ: إِنَّ قَذْفَهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ وَأَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ قَذَفَهَا بِهِ، لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَأَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِهِ، لَاعَنَ، وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ ظَاهَرُ نَصِّهِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ إِلَّا بِطَلَبِهَا. وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهُ يُعَزِّرُهُ السُّلْطَانُ سِيَاسَةً وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ، كَمَا يُعَزِّرُ مَنْ يَقُولُ: النَّاسُ زُنَاةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ، إِنَّمَا مَوْضِعُهُ مَا إِذَا أَضَافَ الزِّنَا إِلَى حَالَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ، بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ بِنْتُ شَهْرٍ، لِأَنَّ الْمُحَالَ لَا يَتَأَدَّى مِنْهُ.
قُلْتُ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ خَامِسٌ اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» ، وَحَكَاهُ الشَّاشِيُّ: إِنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ، لَاعَنَ، وَإِلَّا فَلَا، وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَيْهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَدْ سَبَقَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ، وَفِي التَّعْزِيرِ هَذَا التَّفْصِيلُ السَّابِقُ قَبْلَ الْفَرْعِ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ مُعَلَّقًا بِطَلَبِ شَخْصٍ، سَقَطَ بِعَفْوِهِ إِذَا كَانَ أَهْلًا لِلْعَفْوِ. فَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، فَعَفَتْ عَنِ الْحَدِّ وَلَا وَلَدَ، فَلَيْسَ لَهُ اللِّعَانُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ صَدَّقَتْهُ وَلَا وَلَدَ، فَلَوْ سَكَتَ فَلَمْ تَطْلُبِ الْحَدَّ وَلَمْ تَعْفُ، فَلَيْسَ لَهُ اللِّعَانُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمَجْنُونَةَ، فَقِيلَ: لَهُ اللِّعَانُ فِي الْحَالِ لِيَسْقُطَ التَّعْزِيرُ، وَالْأَصَحُّ انْتِظَارُ بُلُوغِهَا وَعَقْلِهَا وَطَلَبِهَا التَّعْزِيرَ. وَلَوْ قَذَفَهَا عَاقِلَةً فَجُنَّتْ، أَوْ فِي جُنُونِهَا بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى حَالَةِ

(8/333)


الْإِفَاقَةِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَهَلْ لَهُ اللِّعَانُ فِي الْحَالِ، أَمْ يَنْتَظِرُ الْإِفَاقَةَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ لَوْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، وَأَرَادَ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَطْعًا.
قُلْتُ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَاعَنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ أَوْ غَيْرِهِ وَهِيَ مَجْنُونَةٌ، فَقَدْ حَقَّقَ زِنَاهَا وَلَزِمَهَا الْحَدُّ، لَكِنْ لَا تُحَدُّ فِي جُنُونِهَا، فَإِذَا أَفَاقَتْ حُدَّتْ إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي «الْمَجْمُوعِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
زَنَى بِكِ مَمْسُوحٌ، أَوْ صَبِيٌّ ابْنُ شَهْرٍ، أَوْ قَالَ لِرَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ: زَنَيْتِ، فَلَا حَدَّ وَيُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ، وَلَا يُلَاعِنُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمَمْسُوحٍ: زَنَيْتَ، أَوْ لِبَالِغٍ: زَنَيْتَ وَأَنْتَ رَضِيعٌ فِي الْمَهْدِ، فَلَا حَدَّ وَيُعَزَّرُ.

الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي صِفَةِ الْمُلَاعِنِ، وَلَهُ شَرْطَانِ: الْأَوَّلُ: أَهْلِيَّةُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ: هُوَ يَمِينٌ فِيهَا شَوْبُ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَصِحُّ لِعَانُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَجْنُونِ، وَلَا يَقْتَضِي قَذْفُهُمَا لِعَانًا بَعْدَ كَمَالِهِمَا، وَلَا عُقُوبَةً، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمُمَيِّزُ عَلَى الْقَذْفِ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ تَعْزِيرُهُ حَتَّى بَلَغَ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَسْقُطُ لِأَنَّهُ كَانَ لِلزَّجْرِ عَنْ سُوءِ الْأَدَبِ، وَقَدْ حَدَثَ زَاجِرٌ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ التَّكْلِيفُ، وَيَصِحُّ لِعَانُ الذِّمِّيِّ، وَالرَّقِيقِ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَيَصِحُّ اللِّعَانُ عَنِ الذِّمِّيَّةِ، وَالرَّقِيقَةِ، وَالْمَحْدُودَةِ فِي الْقَذْفِ.
فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ، وَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، وَلَاعَنَ الزَّوْجُ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ، وَلَا تُحَدُّ إِنِ امْتَنَعَتْ مِنْهُ حَتَّى تَرْضَى بِحُكْمِنَا. فَإِنْ

(8/334)


رَضِيَتْ، حَكَمْنَا فِي حَقِّهَا بِمَا نَحْكُمُ بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ، الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الذِّمِّيَّيْنِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْنَا، هَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا؟ وَقَدْ سَبَقَا فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ، إِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكْمَ، حَدَّدْنَاهَا إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، وَإِنْ لَمْ نُوجِبْهُ، لَمْ نَحُدَّهَا حَتَّى تَرْضَى بِحُكْمِنَا، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَجْرِي عَلَيْهَا الْحُكْمُ حَتَّى تَرْضَى قَطْعًا.
وَلَوْ قَذَفَهَا زَوْجُهَا الذِّمِّيُّ، وَتَرَافَعَا، وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِحُكْمِنَا، وَطَلَبَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَهَلْ يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى اللِّعَانِ وَيُعَزَّرُ إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، أَمْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى رِضَاهُ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَجِيءُ الطَّرِيقُ الثَّانِي. وَلَوْ قَذَفَهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ، وَلَاعَنَ، فَذَاكَ، وَإِنِ امْتَنَعَ، وَطَلَبَتِ التَّعْزِيرَ، اسْتَوْفَاهُ الْحَاكِمُ.
ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي قَذْفِ الذِّمِّيَّةِ، التَّعْزِيرُ إِنْ كَانَ مِثْلَهَا، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَذْفِ الرَّقِيقَةِ، التَّعْزِيرُ وَإِنْ قَذَفَهَا رَقِيقٌ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الزَّوْجِيَّةُ، فَلَا لِعَانَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَلَوْ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً بَعْدَ أَنْ قَذَفَهَا، أَوْ قَذَفَهَا فِي عِدَّةِ الرَّجْعَةِ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا كَمَا يُطَلِّقُهَا، وَيُظَاهِرُ وَيُؤْلِي. وَيَصِحُّ لِعَانُهُ فِي الْحَالِ، وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُهُ.
وَلَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ قَذَفَهَا وَأَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَلَوْ لَاعَنَ فِي الرِّدَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ، وَقَعَ اللِّعَانُ فِي النِّكَاحِ، فَيَصِحُّ وَيَقَعُ مَوْقِعَهُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَصِحُّ لِعَانُهُ، وَإِنْ أَصَرَّ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَهُ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، فَإِنْ كَانَ وَلَدٌ وَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ، نَفَذَ، وَإِلَّا تَبَيَّنَّا فَسَادَهُ، وَلَا يَنْدَفِعُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ أَجَابَ ابْنُ الْحَدَّادِ.
فَرْعٌ
وَطِئَ امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةٍ، بِأَنْ ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، ثُمَّ قَذَفَهَا

(8/335)


وَأَرَادَ اللِّعَانَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ مُنْفَصِلٌ، فَلَهُ اللِّعَانُ، فَيَنْتَفِي بِهِ النَّسَبُ بِلَا خِلَافٍ، وَيَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الصَّحِيحِ تَبَعًا، وَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ، إِذْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الْوَلَدُ مِنِّي، وَلَا يَقْذِفَهَا، وَتَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بِهَذَا اللِّعَانِ عَلَى الْأَصَحِّ.
قُلْتُ: فَإِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ: إِنَّهُ لَا تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ، فَهَلْ يَسْتَبِيحُهَا بِلَا مُحَلِّلٍ، أَمْ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحَلِّلٍ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ؟ وَجْهَانِ، فِي «الْحَاوِي» الصَّحِيحُ: لَا يَفْتَقِرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا، وَلَا يُلَاعِنُ مُعَارَضَةً لِلِعَانِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهَا وَتُلَاعِنُ لِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَمْلٌ، فَهَلْ هُوَ كَالْمُنْفَصِلِ فِي اللِّعَانِ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إِذَا أَبَانَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا حَمْلٌ، فَلَا لِعَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ قَذَفَ فِي نِكَاحٍ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، وَلَاعَنَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ بَانَ فَسَادُهُ، وَلَا وَلَدَ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ عَلَى الْأَصَحِّ، فَعَلَى هَذَا: لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ.
فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَلِإِسْقَاطِ عُقُوبَةِ الْقَذْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ إِذَا طَلَبَتْهَا، لِأَنَّ الْقَذْفَ وُجِدَ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنْ عَفَتْ، فَلَا لِعَانَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ تَطْلُبْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِذَا لَاعَنَ، لَزِمَهَا الْحَدُّ، وَلَهَا إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَفِي تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ بِلِعَانِهِ الْوَجْهَانِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، لِوُقُوعِهِ خَارِجَ النِّكَاحِ.

(8/336)


فَرْعٌ
أَبَانَهَا بِخُلْعٍ أَوْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، أَوْ بِفَسْخٍ، أَوْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَبَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا مُطْلَقٍ، أَوْ مُضَافٍ إِلَى حَالِ النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ السَّابِقِ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَيَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ الْحَدُّ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا إِنْ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى حَالَةِ النِّكَاحِ، وَلَهَا إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنْ لَمْ يُضِفْ، لَمْ يَلْزَمْهَا. وَفِي تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ وَمُعَارَضَتِهَا بِاللِّعَانِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُعَارَضَةِ جَارٍ فِي كُلِّ لِعَانٍ بِمُجَرَّدِ نَفْيِ الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا أَوْ أَقَرَّتْ.
وَإِنْ كَانَ حَمْلٌ، فَهَلْ لَهُ اللِّعَانُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ؟ فِيهِ نَصَّانِ رَوَاهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَ «الْجَامِعِ» فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُلَاعِنُ قَطْعًا، إِذْ قَدْ لَا يَكُونُ وَلَدٌ، وَتَأَوَّلَ النَّصَّ الْآخَرَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: يُلَاعِنَ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ لَاعَنَ فَبَانَ أَنْ لَا حَمْلَ، تَبَيَّنَّا فَسَادَ اللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا حَمْلَ لَمْ يُلَاعِنْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: لَهُ اللِّعَانُ إِنْ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى حَالَةِ النِّكَاحِ.
فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِزِنًا أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِالتَّارِيخِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُطْلِقَ الْقَذْفَ. فَعَلَى هَذَا، لَهُ أَنْ يُنْشِئَ قَذْفًا وَيُلَاعِنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، حُدَّ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ. وَالثَّانِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْإِمَامُ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لَهُ اللِّعَانُ، فَعَلَى هَذَا، يَسْقُطُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ، وَهَلْ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا بِلِعَانِهِ؟ وَجْهَانِ. وَهَلْ لَهَا مُعَارَضَتُهُ بِاللِّعَانِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ.
قُلْتُ: صَحَّحَ فِي «الْمُحَرَّرِ» قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ أَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/337)


فَصْلٌ
قَذَفَهَا وَلَاعَنَهَا، ثُمَّ قُذِفَتْ، فَلَهَا حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُلَاعِنَ مُعَارَضَةً لِلِعَانِهِ، وَحُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا، فَالْقَذْفُ الثَّانِي، إِنْ كَانَ مِنَ الزَّوْجِ، نُظِرَ، إِنْ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ أَطْلَقَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا التَّعْزِيرُ، لِأَنَّا صَدَّقْنَاهُ فِي ذَلِكَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ. وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحَدُّ كَمَا لَمْ يُلَاعِنْ. وَأَصَحُّهُمَا: يُعَزَّرُ فَقَطْ، لِأَنَّ لِعَانَهُ فِي حَقِّهِ كَالْبَيِّنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِدَفْعِ التَّعْزِيرِ، لِأَنَّهُ قَذَفَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَإِنْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا، حُدَّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُعَزَّرُ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِغَيْرِهِ، حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: فِيهِ الْوَجْهَانِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُلَاعِنَ، فَإِنْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بِذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ أَطْلَقَ، عُزِّرَ فَقَطْ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَقِيلَ: يُعَزَّرُ عَلَى قَوْلٍ قَدِيمٍ، وَقِيلَ: هُوَ وَجْهٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ بَعْدَ اللِّعَانِ أَوْ قَبْلَهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ، فَلَيْسَ لَهُ اللِّعَانُ، لِأَنَّهَا بَائِنٌ وَلَا وَلَدَ. وَإِنْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، حُدَّ سَوَاءٌ قَذَفَهَا بِذَاكَ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنْ قَذَفَهَا بِذَاكَ الزِّنَا، عُزِّرَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَسَوَاءٌ فِي الزَّوْجِ وَالْأَجْنَبِيِّ، كَانَ وَلَدٌ فَنَفَاهُ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا قَذَفَهَا وَلَاعَنَ ثُمَّ قَذَفَ، أَمَّا إِذَا قَذَفَهَا وَلَمْ يُلَاعِنْ، فَحُدَّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِذَلِكَ الزِّنَا، فَلَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ، وَيُعَزَّرُ تَأْدِيبًا لِلْإِيذَاءِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ، لِإِسْقَاطِ مِثْلِ هَذَا التَّعْزِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا: يُعَزَّرُ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ: أَصَحُّهُمَا: يُحَدُّ لِأَنَّ كَذِبَهُ فِي الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ كَذِبَهُ فِي الثَّانِي، فَوَجَبَ الْحَدُّ لِدَفْعِ الْعَارِ. وَهَلْ يُلَاعِنُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالْحَدِّ. وَإِنْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِذَلِكَ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ، حُدَّ.

(8/338)


فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا مَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَإِنْ أَرَادَ زِنًا وَاحِدًا، فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ إِلَّا بِفَاحِشَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ حُدَّ مَرَّةً، فَأَعَادَ، عُزِّرَ لِلْإِيذَاءِ، وَلَا يُحَدُّ لِظُهُورِ كَذِبِهِ. وَإِنْ قَذَفَ بِزِنًا آخَرَ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتِ بِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ: زَنَيْتِ بِآخَرَ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ: يَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ. وَالْقَدِيمُ الْآخَرُ: يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ. وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، فَإِذَا قُلْنَا: حَدٌّ وَاحِدٌ، فَقَذَفَ فَحُدَّ، ثُمَّ قَذَفَ ثَانِيًا، فَهَلْ يُحَدُّ ثَانِيًا أَمْ يُعَزَّرُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِالْحَدِّ الْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا التَّعْزِيرُ.
وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ مَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا بِزَنْيَتَيْنِ، فَفِي التَّعْدَادِ وَالِاتِّحَادِ هَذَا الْخِلَافُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، كَفَى لِعَانٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَعَدَّدُ اللِّعَانُ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْحَدِّ، وَأَصَحُّهُمَا: يَكْفِي لِعَانٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِذَا كَانَ الْحَقَّانِ لِوَاحِدٍ، كَفَى يَمِينٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ فِي اللِّعَانِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزَّنْيَتَيْنِ. وَإِنْ سَمَّى الزَّانِيَيْنِ، ذَكَرَهُمَا فِي اللِّعَانِ، فَلَوْ وَقَعَ أَحَدُ الْقَذْفَيْنِ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَالْآخَرُ خَارِجَهَا، فَلَهُ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقْذِفَ أَجْنَبِيَّةً، ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ، ثُمَّ يَقْذِفَهَا. فَيُنْظَرُ إِنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، لَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَفِي تَعَدُّدِ الْحَدِّ وَاتِّحَادِهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا بِزَنْيَتَيْنِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّعَدُّدِ، لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا، لِأَنَّ الثَّانِي يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَصَارَا كَحَدَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا تَدَاخُلَ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ أَرْجَحُ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمُتَابِعُوهُ. وَرَجَّحَ آخَرُونَ طَرِيقَةَ الْقَوْلَيْنِ، قَالُوا: وَمُوجَبُ الْقَذْفَيْنِ الْحَدُّ، وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي طَرِيقِ الْخَلَاصِ مِنْهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، فَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، حُدَّ لَهُمَا حَدًّا وَاحِدًا، وَإِنْ لَاعَنَ لِلثَّانِي حُدَّ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَ،

(8/339)


سَقَطَ اللِّعَانُ لِلثَّانِي، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَلَدٌ فَيُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ اللِّعَانُ لِمُجَرَّدِ غَرَضِ قَطْعِ النِّكَاحِ وَإِلْصَاقِ الْعَارِ بِهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَإِنْ طَالَبَتْ أَوَّلًا لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا، سَقَطَ الْحَدَّانِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ حُدَّ. ثُمَّ إِذَا طَالَبَتْ لِلثَّانِي، فَأَقَامَ بَيِّنَةً أَوْ لَاعَنَ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ الثَّانِي، وَإِلَّا حُدَّ ثَانِيًا، وَإِنْ طَالَبَتْ أَوَّلًا بِالثَّانِي، فَأَقَامَ بَيِّنَةً، سَقَطَ الْحَدَّانِ، وَإِلَّا فَإِنْ لَاعَنَ، سَقَطَ الْحَدُّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، حُدَّ لِلثَّانِي، ثُمَّ يُحَدُّ لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِمَا جَمِيعًا، حُدَّ لِلْأَوَّلِ لِسَبْقِ وَجُوبِهِ، ثُمَّ لِلثَّانِي إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ. وَإِنَّ حُدَّ فِي الْقَذْفِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَذَفَهَا فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يُلَاعِنْ، حُدَّ ثَانِيًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: لَا يُحَدُّ لِلثَّانِي. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يَرْضَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: يُحَدُّ ثَانِيًا إِذَا لَمْ يَلْتَعِنْ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ التَّعَدُّدِ، قَالُوا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْذِفَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ يُحَدَّ لِلْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ، فِي أَنَّهُ يُحَدُّ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَلْتَعِنْ، لَكِنْ إِذَا كَانَ قَبْلَهُ، حُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ أَبَانَهَا بِلَا لِعَانٍ، ثُمَّ قَذَفَهَا بِزِنًا آخَرَ، فَإِنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ، ثُمَّ نَكَحَهَا، فَفِي حَدِّهِ لِلثَّانِي قَوْلَانِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً فَحُدَّ، ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيًا، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ حَدَّ الْقَذْفِ الْأَوَّلِ حَتَّى أَبَانَهَا، فَإِنْ لَاعَنَ لِلْأَوَّلِ، فَقِيلَ: يُحَدُّ لِلْأَوَّلِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، فَقِيلَ: يُحَدُّ حَدَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذَا. وَالثَّانِي: حَدٌّ وَاحِدٌ.
فَرْعٌ
قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْبِكْرَ فَلَمْ تُطَالِبْهُ حَتَّى فَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ غَيْرَهُ وَوَطِئَهَا وَصَارَتْ مُحْصَنَةً، وَقَذَفَهَا الثَّانِي، ثُمَّ طَالَبَتْهُمَا، فَلَاعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَامْتَنَعَتْ هِيَ مِنَ اللِّعَانِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الْأَوَّلِ زِنَا بِكْرٍ، وَبِلِعَانِ الثَّانِي زِنَا مُحْصَنَةٍ، وَفِيمَا عَلَيْهَا

(8/340)


وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الرَّجْمُ فَقَطْ، لِأَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ التَّدَاخُلُ. وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يَلْزَمُهَا الْجَلْدُ ثُمَّ الرَّجْمُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ التَّدَاخُلَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ، وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا، لَوْ زَنَى الْعَبْدُ، ثُمَّ عَتَقَ، فَزَنَى قَبْلَ الْإِحْصَانِ، فَقِيلَ: عَلَيْهِ خَمْسُونَ جَلْدَةً لِزِنَاهُ فِي الرِّقِّ، وَمِائَةٌ لِزِنَاهُ فِي الْحُرِّيَّةِ، لِاخْتِلَافِ الْحَدَّيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً فَقَطْ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ زَنَى وَهُوَ حُرٌّ بِكْرٌ، فَجُلِدَ خَمْسِينَ، وَتُرِكَ لَعُذْرٍ، فَزَنَى مَرَّةً أُخْرَى، جُلِدَ مِائَةً، وَتَدَخُلُ الْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ فِيهَا.
وَلَوْ قَذَفَ شَخْصَيْنِ مُحْصَنًا وَغَيْرَهُ بِكَلِمَةٍ، وَقُلْنَا بِاتِّحَادِ الْحَدِّ، دَخَلَ التَّعْزِيرُ فِي الْحَدِّ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ.
وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِكْرٌ فِي لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهَا حَدًّا وَاحِدًا، كَمَا لَوْ ثَبَتَ زِنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: بِبَيِّنَةٍ، وَالْآخَرُ بِإِقْرَارٍ أَوْ كِلَاهُمَا بِالْبَيِّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: عَلَيْهَا حَدَّانِ، لِأَنَّ لِعَانَ كُلِّ وَاحِدٍ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، فَصَارَا كَجِنْسَيْنِ.
فَصْلٌ
إِذَا لَحِقَهُ نَسَبٌ بِمِلْكِ يَمِينٍ فِي مُسْتَوْلَدَةٍ، أَوْ أَمَةٍ مَوْطُوءَةٍ، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِاللِّعَانِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ: لَا يَنْتَفِي قَطْعًا لِإِمْكَانِ نَفْيِهِ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الِاسْتِبْرَاءِ بَيَانُهُ مَعَ بَيَانِ أَنَّ الْأَمَةَ مَتَى تَصِيرُ فِرَاشًا لِسَيِّدِهَا، حَتَّى يَلْحَقَهُ وَلَدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَاجلَى.
وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، ثُمَّ وَلَدَتْ، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ، فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ وَيَكُونُ اللِّعَانُ

(8/341)


بَعْدَ الِانْفِسَاخِ كَهُوَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، أَوْ وَطِئَهَا وَوَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْوَطْءِ، نَظَرَ، إِنْ كَانَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَلَّ مَنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ. فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ وَأَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ، وَلِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الْوَطْءِ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَلْ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فِيهِ الطَّرِيقَانِ. وَإِنِ ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَتَلْغُو دَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ، لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَنُعِيدُهُ فِي آخِرِ بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَلْحَقُهُ أَيْضًا بِمِلْكِ النِّكَاحِ لِانْقِطَاعِ فِرَاشِ النِّكَاحِ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ.
وَقِيلَ: يَلْحَقُهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَلَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ، وَامْتِنَاعِ الْإِلْحَاقِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا شَاذٌّ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَيُقَالُ: إِنِ احْتَمَلَ كَوْنُهُ مِنَ النِّكَاحِ فَقَطْ، لَحِقَ بِهِ النِّكَاحُ، وَإِنِ احْتَمَلَ بِالْمِلْكِ فَقَطْ، لَحِقَ بِهِ، وَكَذَا إِنِ احْتَمَلَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَا إِلْحَاقَ، وَمَتَى وَقَعَ اللِّعَانُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَهَلْ يُؤَبِّدُ التَّحْرِيمَ؟ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُؤَبِّدُهُ، فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَبِّدُهُ، فَفِي حِلِّهَا (لَهُ) بِمِلْكِ الْيَمِينِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا، هَلْ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إِذَا اشْتَرَاهَا. وَالثَّانِي: لَا تَحِلُّ قَطْعًا لِغِلَظِ تَحْرِيمِهِ.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ، فِي سَبَبِ اللِّعَانِ: وَهُوَ الْقَذْفُ أَوْ نَفْيُ الْوَلَدِ، فَمَتَى نَسَبَهَا إِلَى وَطْءٍ حَرَامٍ مِنْ جَانِبِهَا، أَوْ جَانِبِ الزَّانِي، فَقَدْ قَذَفَهَا. وَإِنْ نَسَبَهَا إِلَى زِنًا هِيَ عَلَيْهِ مُكْرَهَةٌ، أَوْ جَاهِلَةٌ، أَوْ نَائِمَةٌ، فَلَا حَدَّ لَهَا، وَيَجِبُ لَهَا التَّعْزِيرُ عَلَى الْأَصَحِّ

(8/342)


لِأَنَّ فِيهِ عَارًا وَإِيذَاءً، فَإِنْ كَانَ وَلَدٌ لَاعَنَ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا فَيُلَاعِنُ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَلَوْ عَيَّنَ الزَّانِيَ فَقَالَ: زَنَى بِكِ فُلَانٌ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ، أَوْ قَالَ: قَهَرَكِ فُلَانٌ فَزَنَى بِكِ، لَزِمَهُ الْحَدُّ لِقَذْفِهِ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِسْقَاطِ حَدِّ الْأَجْنَبِيَّةِ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّ فِعْلَهَا يَنْفَكُّ عَنْ فِعْلِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ فِعْلِ الزَّانِي بِهَا.
وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَطِئْتِ بِشُبْهَةٍ، فَفِي وُجُوبِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ لَهَا الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ نَسَبَهَا إِلَى الزِّنَا مُكْرَهَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَهُ اللِّعَانُ لَنَفْيِ التَّعْزِيرِ إِنْ أَوْجَبْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ، فَطَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِ اللِّعَانِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُلَاعِنْ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يُلَاعِنْ لِلْقَذْفِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاطِئَ بِالشُّبْهَةِ، أَوْ عَيَّنَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، لَحِقَ الْوَلَدُ بِالنِّكَاحِ، وَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَادَّعَى الْوَلَدَ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ. فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، لَحِقَهُ وَلَا لِعَانَ، وَإِلَّا فَيَلْحَقُ الزَّوْجَ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ يَنْتَفِي بِهِ، وَهُوَ أَنْ يُلْحِقَهُ الْقَافَةُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا يُنْفَى بِاللِّعَانِ مَنْ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ فَيَنْتَسِبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، انْقَطَعَ نَسَبُهُ عَنِ الزَّوْجِ بِلَا لِعَانٍ، وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الزَّوْجِ، فَلَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ بِفُلَانٍ وَهُوَ غَيْرُ زَانٍ، بَلْ ظَنُّكَ زَوْجَتَهُ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهَا، فَلَهُ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ، وَالْوَلَدُ الْمَنْسُوبُ إِلَى ذَلِكَ الْوَاطِئِ مَنْسُوبٌ إِلَى وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فُلَانٌ، عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، فَعَنْ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» حِكَايَةً تَرَدُّدٌ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ، وَقَطَعَ

(8/343)


الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ، إِلَّا أَنْ يَسْنِدَ النَّفْيَ إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَيُلَاعِنَ.
فَرْعٌ
لَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ عَنِ الْقَذْفِ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي، بَلْ لَوْ قَالَ: زَنَيْتِ أَوْ يَا زَانِيَةُ، أَوْ قَالَ وَهِيَ غَائِبَةٌ: فُلَانَةٌ زَانِيَةٌ، جَازَ اللِّعَانُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَدَّعِيَ اسْتِبْرَاءَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَوْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي قَذَفَهَا بِالزِّنَا فِيهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَيَنْفِيَ النَّسَبَ، قَالَ فِي «الْبَسِيطِ» : وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّفْيُ مَعَ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَوِّلَ الزَّوْجُ فِيهِ عَلَى أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ كَعَزْلٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ.
فَصْلٌ
إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ مُعَيَّنٍ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حَدٌّ أَمْ حَدَّانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهِ، بِأَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا بِفُلَانٍ، سَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا سَقَطَ حَقُّهَا، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا حَدًّا أَمْ حَدَّيْنِ، حَتَّى لَوْ قَذَفَهَا بِجَمَاعَةٍ وَذَكَرَهُمْ، سَقَطَ حَقُّ الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهِ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَرَادَ إِسْقَاطَهُ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ وَيَذْكُرَهُ، وَلَوِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ وَلَا بَيِّنَةَ، فَحُدَّ بِطَلَبِهَا ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْحَدَّ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ، فَقَدِ اسْتَوْفَى، وَإِنْ قُلْنَا: حَدَّانِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ حَدٌّ آخَرُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ.
وَلَوِ ابْتَدَأَ رَجُلٌ بِطَلَبِ حَقِّهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ؟ لَهُ وَجْهَانِ وَقَدْ يُبْنَيَانِ عَلَى خِلَافٍ فِي أَنَّ حَقَّهُ

(8/344)


يَثْبُتُ أَصْلًا، أَمْ تَابِعًا لِحَقِّهَا؟ وَإِنْ عَفَا الرَّجُلُ عَنْ حَقِّهِ، أَوْ عَفَتْ هِيَ، فَلِلْآخَرِ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْوَاجِبُ حَدٌّ أَمْ حَدَّانِ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: إِذَا قُلْنَا: حَقُّهُ تَابِعٌ، فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، فِيمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ فِي لِعَانِهَا، وَقُلْنَا: لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فَطَالَبَ بِحَقِّهِ، وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ إِعَادَةِ اللِّعَانِ، فَلَا يُحَدُّ سَوَاءٌ قُلْنَا: يَجِبُ لَهُمَا حَدٌّ أَمْ حَدَّانِ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَبَعَّضُ، وَلَا يَجِبُ بِاللِّعَانِ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الرَّجُلِ الْمَرْمِيِّ بِهِ بِحَالٍ.
وَإِذَا لَاعَنَ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الْمَرْمِيِّ بِهِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: قِيلَ: يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ، وَيَحْتَمِلُ خِلَافُهُ.
فَرْعٌ
قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِزَيْدٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيٌّ أَجْنَبِيًّا وَالْمَقْذُوفُ غَائِبٌ فَفِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ. أَحُدُهَا: يُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْمَقْذُوفِ فَيُخْبِرَهُ بِالْحَالِ، لِيُطَالِبَ بِحَقِّهِ إِنْ شَاءَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: نَقَلَ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عِنْدَهُ رَجُلٌ بَدَيْنٍ لِزَيْدٍ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ. وَأَنَّ لِلْأَصْحَابِ فِي النَّصَّيْنِ: ثَلَاثُ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: تَنْزِيلُ النَّصَّيْنِ عَلَى حَالَيْنِ إِنْ كَانَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ حَاضِرًا عَالِمًا بِالْحَالِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْبَارِهِ فِي النَّوْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ غَافِلًا عَمَّا جَرَى، وَجَبَ إِعْلَامُهُ لِئَلَّا يَضِيعَ حَقُّهُ. وَالثَّانِي: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِخِلَافِ الْمَالِ. وَالثَّالِثُ: جَعْلُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَكَيْفَمَا كَانَ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِخْبَارِ الْمَقْذُوفِ.

(8/345)


وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي «مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ» : وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا رُمِيَ رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَمُتَأَوَّلٌ. قِيلَ: الْمُرَادُ: لَا يَسْأَلُهُ، هَلْ زَنَيْتَ؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الرَّامِي أَوِ الْمَرْمِيُّ مُعَيَّنًا، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ: النَّاسُ يَقُولُونَ: زَنَى فُلَانٌ، أَوْ قَالَ: زَنَى فِي هَذِهِ الْمَحَلَّةِ رَجُلٌ، أَوْ رُمِيَ بِحَجَرٍ، فَقَالَ: مَنْ رَمَانِي بِهِ فَهُوَ زَانٍ، وَهُوَ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَاهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: الْمُرَادُ: إِذَا رَمَاهُ تَعْرِيضًا لَا تَصْرِيحًا، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ، الْمُرَادُ: إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِمُعَيَّنٍ وَلَاعَنَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعْلَامِهِ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي اللِّعَانِ، أَمْ لَا، وَقُلْنَا: يَسْقُطُ حَدُّهُ لَهُ، أَوْ لَا يَسْقُطُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُخْبِرُهُ وَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ سَتُطَالِبُ، وَمُطَالَبَتُهَا تَكْفِي عَنْ مُطَالَبَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيًّا.

فَصْلٌ
إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً، فَهُمْ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَحَّضُوا أَجَانِبَ أَوْ زَوْجَاتٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الصِّنْفَيْنِ، الْأَوَّلُ: الْمُتَمَحِّضُونَ، فَإِمَّا أَنْ يَقْذِفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ، وَإِمَّا بِكَلِمَةٍ، فَهُمَا حَالَانِ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْذِفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ كُنَّ زَوْجَاتٍ، أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ بِلِعَانٍ، وَيَكُونُ اللِّعَانُ عَلَى تَرْتِيبِ قَذْفِهِنَّ، فَلَوْ لَاعَنَ عَنْهُنَّ لِعَانًا وَاحِدًا، لَمْ يَكْفِ عَنِ الْجَمِيعِ، لَكِنْ، إِنْ سَمَّاهُنَّ، حُسِبَ عَنِ الَّتِي سَمَّاهَا أَوَّلًا، وَإِنْ أَشَارَ إِلَيْهِنَّ فَقَطْ، لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَهُمْ بِكَلِمَةٍ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتُمْ، أَوْ أَنْتُمْ زُنَاةٌ، فَقَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدًّا، وَالْقَدِيمُ: لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ وَطَلَبَ الْحَدَّ، حُدَّ لَهُ، وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ.
وَلَوْ قَالَ: يَابْنَ الزَّانِيَيْنِ، فَهُوَ قَذْفٌ لِأَبَوَيِ الْمُخَاطَبِ بِكَلِمَةٍ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، وَإِنْ قَالَ لِنِسْوَتِهِ الْأَرْبَعِ: زَنَيْتُنَّ، فَالْحَدُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ اللِّعَانَ، فَإِنْ

(8/346)


قُلْنَا: يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ؛ تَعَدَّدَ اللِّعَانُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَّحِدُ الْحَدُّ، فَفِي اللِّعَانِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يَتَعَدَّدُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ، وَالْأَيْمَانُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ جَمَاعَةٍ لَا تَتَدَاخَلُ. وَالثَّانِي: يَكْفِي لِعَانٌ يَجْمَعُهُنَّ فِيهِ، بِالِاسْمِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ إِنِ اكْتَفَيْنَا بِهَا، وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، فَرَضِينَ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَنْفَعْ كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُدَّعُونَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يُلَاعِنُ عَنْهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي يَتَّفِقْنَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَنَازَعْنَ فِي الِابْتِدَاءِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَإِنْ قَدَّمَ الْحَاكِمُ وَاحِدَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَجَوْتُ أَنْ لَا يَأْثَمَ.
وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ تَفْضِيلَ بَعْضِهِنَّ وَيُجَنَّبُ الْمَيْلُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، فَذَلِكَ إِذَا تَوَافَقْنَ عَلَى الطَّلَبِ، أَوْ لَمْ نَشْتَرِطْ طَلَبَهُنَّ، أَمَّا إِذَا شَرَطْنَاهُ وَانْفَرَدَ بَعْضُهُنَّ بِالطَّلَبِ، فَلَاعَنَ، ثُمَّ طَلَبَ الْبَاقِيَاتُ، احْتَاجَ إِلَى اللِّعَانِ، وَحَصَلَ التَّعَدُّدُ. وَإِذَا لَاعَنَ عَنْهُنَّ، لَزِمَهُنَّ الْحَدُّ، فَمَنْ لَاعَنَتْ، سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ، وَمَنِ امْتَنَعَتْ حُدَّتْ، وَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ، كَفَاهُ حَدٌّ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِنَا بِالِاتِّحَادِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِزِنَا وَاحِدٍ. فَإِنْ قَيَّدَ، بِأَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ: زَنَيْتِ بِفُلَانٍ، فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي تَعَدُّدِ الْحَدِّ وَاتِّحَادِهِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالِاتِّحَادِ لِأَنَّهُ رَمَاهُمَا بِفَاحِشَةٍ وَاحِدَةٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الصِّنْفَيْنِ، بِأَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهَ وَأَجْنَبِيَّةً، نُظِرَ إِنْ كَانَ بِكَلِمَتَيْنِ، فَعَلَيْهِ حَدَّانِ، فَإِنْ لَاعَنَ عَنْ زَوْجَتِهِ، سَقَطَ حَدُّهَا، وَبَقِيَ حَدُّ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ، أَوْ زَنَيْتِ وَزَنَتْ أُمُّكِ، فَعَلَيْهِ حَدَّانِ لَهُمَا، فَإِنْ حَضَرَتَا مَعًا وَطَلَبَتَا الْحَدَّيْنِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يُبْدَأُ بِحَدِّ الْأُمِّ، لِأَنَّ حَقَّهَا أَقْوَى، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ. وَالثَّانِي: يُبْدَأُ بِالْبِنْتِ لِسَبْقِهَا. وَالثَّالِثُ: يُقْرَعُ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ، قُدِّمَتِ الْبِنْتُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُقْرَعُ. وَلَوْ قَالَ لِأُمِّ زَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ أُمَّ

(8/347)


الزَّانِيَةِ، قُدِّمَتِ الْأُمُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: يُقْرَعُ. وَلَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً بِكَلِمَةٍ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتُمَا، أَوْ أَنْتُمَا زَانِيَتَانِ، وَلَمْ يُلَاعِنْ لِلزَّوْجَةِ، فَفِي تَعَدُّدِ الْحَدِّ وَاتِّحَادِهِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِالتَّعَدُّدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ حَدَّ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالِاتِّحَادِ، فَجَاءَتِ الْأَجْنَبِيَّةُ مُطَالِبَةً، فَحُدَّ لَهَا، سَقَطَ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ فِي الزَّوْجَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ. وَإِنْ لَاعَنَ لِلزَّوْجَةِ، حُدَّ لِلْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ عَفَتْ إِحْدَاهُمَا، حُدَّ لِلْأُخْرَى إِذَا طَلَبَتْ بِلَا خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَحُكِيَ وَجْهٌ شَاذٌّ، أَنَّ قَوْلَهُ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتُمَا زَانِيَتَانِ، وَمَتَى وُجِدَ حَدَّانِ لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ وَأُقِيمَ أَحَدُهُمَا، أُمْهِلَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ جِلْدُهُ، ثُمَّ يُقَامُ الثَّانِي.
فَصْلٌ
ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا قَذَفَهَا، فَلَهُ فِي الْجَوَابِ أَحْوَالٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَسْكُتَ فَيُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَيَقُولَ فِي لِعَانِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا أَثْبَتَتْ عَلَيَّ مِنْ رَمْيِيَ إِيَّاهَا بِالزِّنَا.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: لَا يَلْزَمُنِي الْحَدُّ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَهُ اللِّعَانُ أَيْضًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يُنْكِرَ الْقَذْفَ، فَيُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، ثُمَّ يُرِيدَ اللِّعَانَ، فَإِنْ أَوَّلَ إِنْكَارَهُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ مَا رَمَيْتُهَا بِهِ لَيْسَ بِقَذْفٍ بَاطِلٍ، بَلْ هُوَ صِدْقٌ، أَوْ أَنْشَأَ فِي الْحَالِ قَذْفًا آخَرَ، فَلَهُ اللِّعَانُ، لِأَنَّ مَنْ كَرَّرَ الْقَذْفَ كَفَاهُ لِعَانٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ تَأْوِيلًا وَلَا أَنْشَأَ، فَلَهُ اللِّعَانُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ لِاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ: مَا قَذَفْتُكِ وَمَا زَنَيْتِ، فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ، حُدَّ وَلَا لِعَانَ، لِأَنَّهُ شَهِدَ بِعِفَّتِهَا، فَكَيْفَ يُحَقِّقُ زِنَاهَا بِلِعَانِهِ؟ ! وَلَيْسَ لَهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى

(8/348)


زِنَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ الشُّهُودَ بِقَوْلِهِ: وَمَا زَنَيْتِ. وَلَوْ أَنْشَأَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَذْفًا، فَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِجَوَازِ اللِّعَانِ. قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا مَضَى بَعْدَ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ زَمَنٌ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الزِّنَا فِيهِ، وَإِلَّا فَيُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ بِبَرَاءَتِهَا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ. وَإِذَا لَاعَنَ، فَفِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَجْهَانِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ» : الْقَطْعُ بِسُقُوطِهِ.
فَرْعٌ
لَوِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ فَعُرِضَ الْحَدُّ، أَوِ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْضَ الْجَلَدَاتِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، مُكِّنَ، وَإِذَا لَاعَنَ، سَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِّ كَمَا لَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ الْبَيِّنَةَ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، مُكِّنَتْ مِنْهُ، وَسَقَطَ عَنْهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْحَدِّ. وَلَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِتَمَامِهِ ثُمَّ أَرَادَ اللِّعَانَ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلَدٌ مِنْهُ، لَاعَنَ لِنَفْيِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
فَصْلٌ
قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، أَنَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفَصَّلَ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: يُؤْمَرُ بِبَيَانِ الصِّغَرِ، فَإِنْ ذَكَرَ سِنًّا لَا يُحْتَمَلُ الْوَطْءُ كَثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ وَيُعَزَّرُ لِلسَّبِّ وَالْإِيذَاءِ، وَلَا لِعَانَ، كَمَا سَبَقَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا لِعَانَ فِيهِ. وَإِنْ ذَكَرَ سِنًّا يَحْتَمِلُهُ، كَعَشْرِ سِنِينَ، فَهُوَ قَذْفٌ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ مَجْنُونَةٌ، أَوْ مُشْرِكَةٌ، أَوْ أَمَةٌ، فَإِنْ عُرِفَتْ لَهَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ، أَوْ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حَدَّ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ

(8/349)


بِاللِّعَانِ، وَإِنْ عُرِفَ وِلَادَتُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةِ عَقْلِهَا، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ: التَّعْزِيرُ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تِلْكَ الْحَالَةُ، كَانَ قَوْلُهُ كَذِبًا وَمُحَالًا، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ رَتْقَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِنْ حَالَهَا وَاخْتَلَفَا، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: هِيَ، فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ، وَوَجَبَ التَّعْزِيرُ. وَالثَّانِي: هُوَ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَحُدَّ، وَيَجِيءُ الْقَوْلَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنْتِ أَمَةٌ فِي الْحَالِ، فَقَالَتْ: بَلْ حُرَّةٌ، وَلَا يَجِيئَانِ فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ كَافِرَةٌ فِي الْحَالِ، فَقَالَتْ: بَلْ مُسْلِمَةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا قَالَتْ: أَنَا مُسْلِمَةٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِهَا. وَلَوْ قَالَتْ: أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ لِي: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ قَذْفِي فِي الْحَالِ، وَوَصْفِي بِالصِّغَرِ فِي الْحَالِ، وَلَمْ تُرِدِ الْقَذْفَ بِزِنًا فِي الصِّغَرِ، أَوْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ مَجْنُونَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ، فَأَقَرَّتْ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَقَالَتْ: أَرَدْتَ الْقَذْفَ فِي الْحَالِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ أَطْلَقَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْجُنُونِ، أَوِ الْكُفْرِ، أَوِ الرِّقِّ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ عَهِدَ لَهَا ذَلِكَ الْحَالَ أَمْ لَا. فَإِنْ قَالَ: هِيَ تَعْلَمُ أَنِّي أَرَدْتُ هَذَا، حَلَفَتْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَحُدَّ لَهَا. وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنْ عَهِدَ تِلْكَ الْحَالَ، قُبِلَ وَعُزِّرَ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ.

الطَّرَفُ الرَّابِعُ: فِي كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ: وَفِيهِ فُصُولٌ.
الْأَوَّلُ: فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ وَهِيَ خَمْسٌ: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي مِنَ الزِّنَا، وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا بِحَيْثُ تَتَمَيَّزُ إِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنِ الْمَجْلِسِ. وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، أَنَّهُ يَرْفَعُ فِي نَسَبِهَا بِحَيْثُ تَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ زَوْجَاتِهِ إِنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا، فَقَدْ يُشْعِرُ هَذَا بِالِاسْتِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ: فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي عَنِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ

(8/350)


تَحْتَهُ غَيْرُهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً عِنْدَهُ أَشَارَ إِلَيْهَا، وَهَلْ يَحْتَاجُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّسْمِيَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا، كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ اللِّعَانَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ: لَا يُكْتَفَى فِي الْحَاضِرَةِ بِالتَّسْمِيَةِ وَرَفْعِ النَّسَبِ حَتَّى تُضَمَّ إِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: إِنَّ عَلَيَّ لَعْنَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَيُعَرِّفُهَا فِي الْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ يَنْفِيهِ ذَكَرَهُ فِي الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ، فَيَقُولُ: وَإِنَّ الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ، أَوْ هَذَا الْوَلَدَ مِنَ الزِّنَا وَلَيْسَ هُوَ مِنِّي. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مِنْ زِنًا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، كَفَى عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ مِنِّي، لَمْ يَكْفِ عَلَى الصَّحِيحِ لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ عَدَمِ الشَّبَهِ، وَلَوْ أَغْفَلَ ذِكْرَ الْوَلَدِ فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ، احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ اللِّعَانِ لِنَفْيِهِ، وَلَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إِلَى إِعَادَةِ لِعَانِهَا عَلَى لِعَانِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ تَخْرِيجَ قَوْلٍ فِيهِ.
وَصِفَةُ لِعَانِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُولَ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ، وَالْقَوْلُ فِي تَعْرِيفِهِ غَائِبًا وَحَاضِرًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِهَا، وَلَا تَحْتَاجُ هِيَ إِلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ لِعَانَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ. وَلَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ، لَمْ يَضُرَّ، وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلْقَاضِي الرُّويَانِيِّ أَنَّ الْقَفَّالَ حَكَى وَجْهًا ضَعِيفًا أَنَّهَا تَذْكُرُهُ، فَتَقُولُ: هَذَا الْوَلَدُ وَلَدُهُ لِيَسْتَوِيَ اللِّعَانَانِ.
فَرْعٌ
لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ إِلَّا إِذَا تَمَّتِ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالْفُرْقَةِ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ، لِأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُنَفَّذُ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ.

(8/351)


فَرْعٌ
لَوْ قَالَ بَدَلَ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أُؤْلِي بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَبْدَلَ لَفْظَ اللَّعْنِ بِالْإِبْعَادِ، أَوْ لَفْظَ الْغَضَبِ بِالسُّخْطِ، أَوِ الْغَضَبِ بِاللَّعْنِ أَوْ عَكْسَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا فِي إِبْدَالِ الْغَضَبِ بِاللَّعْنِ، وَلَا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَيُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ لَفْظَتَيِ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ عَنِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيُؤْثَرُ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ.
فَرْعٌ
يُشْتَرَطُ فِي لِعَانِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ بِهِ، فَيَقُولَ لِلْمُلَاعِنِ: قُلْ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ. . . إِلَى آخِرِهَا.
فَرْعٌ
يُشْتَرَطُ كَوْنُ لِعَانِهَا بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُلِ.
فَرْعٌ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخْرِسِ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَلَا كِتَابَةٌ، لَمْ يَصِحَّ قَذْفُهُ وَلَا لِعَانُهُ، وَلَا سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، أَوْ كِتَابَةٌ، صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ، وَفِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ، التَّصْرِيحُ بِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ وَحْدَهَا، وَبِالْكِنَايَةِ وَحْدَهَا، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي، أَنَّهُ إِذَا لَاعَنَ بِالْإِشَارَةِ، أَشَارَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ بِكَلِمَةِ اللَّعْنِ، وَإِنْ لَاعَنَ بِالْكِتَابَةِ، كَتَبَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ اللَّعْنِ، وَيُشِيرُ إِلَى كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا الطَّرِيقُ الْآخَرُ

(8/352)


جَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ مُقْتَضَى التَّصْحِيحِ بِالْكِتَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ تَكْرِيرُ كِتَابَةِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي «الْوَجِيزِ» : عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ مَعَ الْإِشَارَةِ أَوْ يُورِدَ اللَّفْظَ عَلَيْهِ نَاطِقٌ فَيُشِيرَ بِالْإِجَابَةِ - فَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ، لَكَانَ قَرِيبًا، وَحَكَاهُ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ لَاعَنَ الْأَخْرَسُ بِالْإِشَارَةِ، ثُمَّ عَادَ نُطْقُهُ وَقَالَ: لَمْ أُرِدِ اللِّعَانَ بِإِشَارَتِي، قُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ، فَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَالْحَدُّ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا لَهُ، فَلَا تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ فِي الْحَالِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ. وَلَوْ قَالَ: لَمْ أُرِدِ الْقَذْفَ أَصْلًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَوْ قَذَفَ نَاطِقٌ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْكَلَامِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُ مَا بِهِ، فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ، وَإِنْ رُجِيَ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحُدُهَا: لَا يَنْتَظِرُ، بَلْ يُلَاعِنُ بِالْإِشَارَةِ لِحُصُولِ الْعَجْزِ، وَرُبَّمَا مَاتَ فَلَحِقَهُ نَسَبٌ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ. وَأَصَحُّهُمَا: يَنْتَظِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ صَحَّحُوهُ. وَعَلَى هَذَا، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَنْتَظِرُ، وَإِلَّا فَلَا يَنْتَظِرُ أَصْلًا.
فَرْعٌ
مَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، يُلَاعِنُ بِلِسَانِهِ، وَيُرَاعِي تَرْجَمَةَ الشَّهَادَةِ وَاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ، فَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ اللِّعَانُ بِهَا، أَمْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بِأَيِّ لِسَانٍ شَاءَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. وَإِذَا لَاعَنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُحْسِنُ تِلْكَ اللُّغَةَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مُتَرْجِمٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمِينَ، وَيَكْفِيَانِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تُلَاعِنُ لِنَفْيِ الزِّنَا لَا لِإِثْبَاتِهِ. وَفِي جَانِبِ الرَّجُلِ طَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالِاكْتِفَاءِ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ سَلَمَةَ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُهُ بِشَاهِدَيْنِ.

(8/353)


الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي التَّغْلِيظَاتِ.
فَمِنْهَا: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ أَكِيدٌ، فَلْيُؤَخَّرْ إِلَى عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْهَا: التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ يُلَاعِنَ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمَقَامِ. وَقَدْ يُقَالُ: بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: فِي الْحِجْرِ.
وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَقِيلَ: لَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَيُلَاعِنُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ، وَهُوَ الْكَنِيسَةُ لِلْيَهُودِ، وَالْبَيْعَةُ لِلنَّصَارَى، وَهَلْ يَأْتِي الْحَاكِمُ بَيْتَ النَّارِ فِي لِعَانِ الْمَجُوسِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا، بَلْ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَا يَأْتِي بَيْتَ الْأَصْنَامِ فِي لِعَانِ الْوَثَنِيِّينَ، لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، بِخِلَافِ الْمَجُوسِ، بَلْ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
وَصُوْرَتُهُ أَنْ يَدْخُلُوا دَارَنَا بِأَمَانٍ أَوْ هُدْنَةٍ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَهِيَ ذِمِّيَّةً، لَاعَنَ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهِيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَظِّمُهُ. فَإِنْ قَالَتْ: أُلَاعِنُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَضِيَ بِهِ الزَّوْجُ، جَازَ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَلَاعَنَ الذِّمِّيَّانِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
وَمِنْهَا التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَصُلَحَائِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ، وَأَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ. وَمِنْهَا التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي «الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ فِي وُجُوبِ التَّغْلِيظِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَاسْتِحْبَابِهِ، طُرُقٌ، وَالْمَذْهَبُ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْجَمِيعِ.
فَرْعٌ
مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا، كَالدَّهْرِيِّ، وَالزِّنْدِيقِ، هَلْ يُغَلَّظُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؟ وَجْهَانِ.

(8/354)


أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَيُلَاعِنُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَظِّمُ بُقْعَةً وَلَا زَمَانًا، فَلَا يَنْزَجِرُ. وَيُسْتَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ فِي التَّحْلِيفِ: قُلْ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ، لِأَنَّهُ وَإِنْ غَلَا فِي كُفْرِهِ، فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُذْعِنَةً لِخَالِقٍ وَمُدَبِّرٍ.
فَرْعٌ
الْحَائِضُ تُلَاعِنُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، وَيَخْرُجُ الْحَاكِمُ إِلَيْهَا أَوْ يَبْعَثُ نَائِبًا. وَالْمُشْرِكُ وَالْمُشْرِكَةُ يُمَكَّنَانِ مِنَ اللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ عَلَى الْأَصَحِّ.
فَرْعٌ
اللِّعَانُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حُضُورِ الْحَاكِمِ، فَلَوْ حَكَّمَ الزَّوْجَانِ فِيهِ رَجُلًا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ فِي اللِّعَانِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَيُرْضَى بِحُكْمِهِ.
قَالَ: وَلَوْ قَذَفَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ، وَطَلَبَتِ الْحَدَّ، فَفِي تَوَلِّي السَّيِّدِ اللِّعَانَ خِلَافٌ بِنَاءً عَلَى إِقَامَتِهِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ وَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ إِنْ جَوَّزْنَاهَا تَوَلَّى اللِّعَانَ، وَزَوْجُ الْأَمَةِ إِذَا قَذَفَهَا وَلَاعَنَ، هَلْ يَتَوَلَّى سَيِّدُهَا لِعَانَهَا؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي السُّنَنِ. مِنْهَا: أَنْ يُخَوِّفَهُمَا الْقَاضِي بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيَعِظَهُمَا وَيَقُولَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . . .) الْآيَةَ. وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ؟ .
وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ، بَالَغَ فِي تَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ لَعَلَّهُ يَنْزَجِرُ، وَتَضَعُ امْرَأَةٌ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ إِذَا بَلَغَتْ كَلِمَةَ الْغَضَبِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلَّا الْمُضِيَّ، لَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ.

(8/355)


وَمِنْهَا: أَنْ يَتَلَاعَنَا مِنْ قِيَامٍ، وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُلَاعِنُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يُلَاعِنُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلِلْأَصْحَابِ فِي صُعُودِ الْمُلَاعِنِ الْمِنْبَرَ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: يَصْعَدُ، وَالثَّانِي: لَا، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَثُرَ الْقَوْمُ، صَعِدَهُ لِيَرَوْهُ، وَإِلَّا فَعِنْدَهُ. وَطَرَدَ الْمُتَوَلِّي الْخِلَافَ فِي صُعُودِ الْمِنْبَرِ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ.

الطَّرَفُ الْخَامِسُ: فِي أَحْكَامِ اللِّعَانِ. قَدْ سَبَقَ أَكْثَرُهَا فِي ضِمْنِ مَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ بَعْدَ الْقَذْفِ، بَلْ لَهُ الِامْتِنَاعُ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ لَا تُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ بَعْدَ لِعَانِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ. أَحُدُهَا: حُصُولُ الْفُرْقَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، سَوَاءٌ صُدِّقَتْ أَمْ صُدِّقَ. وَقِيلَ: إِنْ صُدِّقَتْ لَمْ تَحْصُلْ بَاطِنًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهِيَ فُرْقَةُ فَسْخٍ. الثَّانِي: تَأَبَّدُ التَّحْرِيمِ. الثَّالِثُ: سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ. الرَّابِعُ: وُجُوبُ الزِّنَا عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: انْتِفَاءُ النَّسَبِ إِذَا نَفَاهُ بِاللِّعَانِ.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَتْ أَحْكَامٌ أُخَرُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى لِعَانِهَا، وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا إِلَّا دَفْعُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، وَثُبُوتُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ إِلَّا سُقُوطُ حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا. وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا، لَمْ تُلَاعِنْ لِدَفْعِ الْحَدِّ، لِأَنَّ اللِّعَانَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَلَا تُقَاوِمُ الْبَيِّنَةَ.
فَصْلٌ
فِي نَفْيِ الْوَلَدِ
فِيهِ مَسَائِلُ.
إِحْدَاهَا: إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ إِذَا لَحِقَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ لَمْ

(8/356)


يُمْكِنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، انْتَفَى بِلَا لِعَانٍ، وَلِعَدَمِ الْإِمْكَانِ صُورٌ. مِنْهَا: أَنْ تَلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. وَمِنْهَا: أَنْ تَطُولَ الْمَسَافَةُ كَالْمَشْرِقِيِّ مَعَ الْمَغْرِبِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ صُوَرٍ أُخْرَى، وَوَرَاءَهَا صُورَتَانِ.
إِحْدَاهُمَا: أَوَّلُ زَمَانِ إِمْكَانِ إِحْبَالِ الصَّبِيِّ، هَلْ هُوَ نِصْفُ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، أَمْ كَمَالُهَا، أَمْ نِصْفُ الْعَاشِرَةِ، أَمْ كَمَالُهَا؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَصَحُّهَا: الثَّانِي. فَإِذَا وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَسَاعَةٍ تَسَعُ الْوَطْءَ بَعْدَ زَمَنِ الْإِمْكَانِ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَإِلَّا فَيَنْتَفِي بِلَا لِعَانٍ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ بِالْإِمْكَانِ، لَمْ نَحْكُمْ بِالْبُلُوغِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ الْبُلُوغِ، لَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنَا بَالِغٌ بِالِاحْتِلَامِ، فَلَهُ اللِّعَانُ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا صَبِيٌّ، لَمْ يَصِحَّ. فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَنَا بَالِغٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَيُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَنَا بَالِغٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنَا صَبِيٌّ، لِلتُّهْمَةِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ لَمْ يَسْلَمْ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ، لَهُ أَحْوَالٌ. أَحُدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَمْسُوحًا فَاقِدَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوَلَدُ بِلَا لِعَانٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنْزِلُ، وَفِي قَوْلٍ: يَلْحَقُهُ. وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَالصَّيْدَلَانِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيَ الْأُنْثَيَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ، فَيَلْحَقُهُ قَطْعًا. الثَّالِثُ: عَكْسُهُ، فَيَلْحَقُهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، وَقِيلَ: إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: لَا يُولَدُ لَهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ، وَإِلَّا فَيَلْحَقُهُ. وَمَتَى بَقِيَ قَدْرُ الْحَشَفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، فَهُوَ كَالذَّكَرِ السَّلِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا وَهُنَاكَ حَمْلٌ وَأَرَادَ اللِّعَانَ لِنَفْيِهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا. فَلَوْ لَاعَنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ، جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلَوِ اسْتَلْحَقَ الْحَمْلَ، لَحِقَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

(8/357)


الثَّالِثَةُ: وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ تَوْأَمَيْنِ، فَنَفَى أَحَدَهُمَا، أَوْ نَفَاهُمَا، ثُمَّ اسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا، لَحِقَهُ الْوَلَدَانِ.
وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَنَفَاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِاللِّعَانِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ يَكُونُ سِتَّةٌ فَأَكْثَرُ. فَإِنْ كَانَ دُونَهَا، فَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ نَفَى الثَّانِيَ بِلِعَانٍ آخَرَ، انْتَفَى أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ لِعَانِهَا، وَإِنْ لَمْ تَنْفِ الثَّانِيَ، بَلِ اسْتَلْحَقَهُ أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مَعَ إِمْكَانِهِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا. فَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ، لَزِمَهُ لَهَا حَدُّ الْقَذْفِ، كَمَا لَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ. وَإِنْ سَكَتَ فَلَحِقَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنَاقِضْ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ، وَاللُّحُوقُ حُكْمُ الشَّرْعِ. وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ لَاعَنَ فِي الْبَيْنُونَةِ، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَسَوَاءٌ اسْتَلْحَقَ الثَّانِيَ صَرِيحًا أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ فَلَحِقَاهُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ اللِّعَانَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ. فَإِذَا لَحِقَ النَّسَبُ، لَمْ يَبْقَ لِلِّعَانِ حُكْمٌ فَحَدٌّ. وَفِي صُلْبِ النِّكَاحِ لَهُ أَحْكَامٌ. فَإِذَا لَحِقَ النَّسَبُ، لَا يَرْتَفِعُ فَلَمْ يُحَدَّ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ. فَإِنْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ، انْتَفَى أَيْضًا. وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ، أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ، لَحِقَهُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ فَعَلَّقَتْ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَتَكُونُ حَامِلًا حَالَ الْبَيْنُونَةِ، فَتَصِيرُ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. إِذَا وَلَدَتْ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلْمُطَلِّقِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا حَامِلًا وَقْتَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ لُحُوقِ الثَّانِي لُحُوقُ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُمَا حَمْلَانِ، فَلَا يَلْحَقُهُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُحُوقِ الثَّانِي إِذَا لَمْ يَنْفِهِ، هُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ. وَقَالَ فِي الْمُهَذَّبِ: يَنْتَفِي الثَّانِي بِلَا لِعَانٍ

(8/358)


لِحُدُوثِهِ بَعْدَ الْفِرَاشِ، وَهَذَا لَيْسَ وَجْهًا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ وَتَوْجِيهُهُ مَمْنُوعٌ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا لَاعَنَ عَنِ الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ ثُمَّ أَتَتْ بِآخَرَ، فَلَوْ لَاعَنَ عَنْ حَمْلٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ إِذَا جَوَّزْنَاهُ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَالثَّانِي مَنْفِيٌّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَاعَنَ عَنِ الْحَمْلِ، وَالْحَمْلُ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَالْأَوَّلُ مَنْفِيٌّ بِاللِّعَانِ، وَيَنْتَفِي الثَّانِي بِلَا لِعَانٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَتَحَقَّقْنَا بَرَاءَةَ الرَّحِمِ قَطْعًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَضْعِ، لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ الثَّانِي. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلَا يُنْظَرُ إِلَى احْتِمَالِ حُدُوثِهِ مِنْ وَطْئِهِ بِشُبْهَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي لِلُّحُوقِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِرَافِهِ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ وَادِّعَائِهِ الْوَلَدَ. وَعَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُلَاعِنْ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الثَّانِي يَلْحَقُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا غَلَطٌ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَمَا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ خَلَفَ الْوَلَدُ وَلَدًا، بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَكَبُرَ الْمَوْلُودُ وَتَزَوَّجَ وَوُلِدَ لَهُ - أَوْ لَمْ يَخْلُفْهُ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ قَبْلَ اللِّعَانِ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ وَيَنْفِيَ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ جَمِيعًا.
وَلَوْ نَفَى وَلَدًا بِاللِّعَانِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَاسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَحِقَهُ وَوَرِثَ مَالَهُ وَدِيَتَهُ إِنْ قُتِلَ، سَوَاءٌ خَلَفَ وَلَدًا أَمْ لَا احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ.
وَلَوْ نَفَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ، لَحِقَهُ عَلَى الْأَصَحِّ احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، وَثَبَتَ الْإِرْثُ، فَإِنْ قُسِّمَتْ تَرِكَتُهُ، نَقَصَتِ الْقِسْمَةُ.
الْخَامِسَةُ: إِذَا أَتَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ، فَأَقَرَّ بِنَسَبِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِنَسَبِهِ وَأَرَادَ نَفْيَهُ، فَهَلْ يَكُونُ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ، أَمْ يَتَمَادَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَمْ أَبَدًا، وَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْإِسْقَاطِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ

(8/359)


فَعَنِ ابْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ التَّقْدِيرَ بِيَوْمَيْنِ قَوْلٌ آخَرُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ سَائِرُ الْأَصْحَابِ قَوْلًا آخَرَ، بَلْ قَالُوا: الْمُرَادُ: أَوْ ثَلَاثًا، فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِ فَأُخِرَّ بِلَا عُذْرٍ، لَحِقَهُ وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنَ النَّفْيِ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِأَنْ لَمْ يَجِدِ الْقَاضِيَ لِغَيْبَةٍ، أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي اللَّيْلِ فَأَخَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ، أَوْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ فَقَدَّمَهَا، أَوْ كَانَ جَائِعًا، أَوْ عَارِيًا فَأَكَلَ أَوْ لَبِسَ أَوَّلًا، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا، أَوْ مَرِيضًا، أَوْ مُمَرِّضًا، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ، لَكِنْ إِنْ أَمْكَنَهُ الْإِشْهَادُ فَلَمْ يُشْهِدْ أَنَّهُ عَلَى النَّفْيِ، بَطَلَ حَقُّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ، أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا قَدَرَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُرْسِلَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلَاعِنُ عِنْدَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، فَيُشْهِدُ حِينَئِذٍ، وَلْيُطْرَدْ هَذَا فِي الْمَحْبُوسِ وَمَنْ يَطُولُ عُذْرُهُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمَرِيضُ وَالْمُمَرِّضُ وَمَنْ يُلَازِمُهُ غَرِيمُهُ لِخَوْفِ ضَيَاعِ مَالِهِ، يَبْعَثُ إِلَى الْحَاكِمِ وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ، أَشْهَدَ، وَيُمْكِنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالُ: يَبْعَثُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِيَبَعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا، أَوْ لِيَكُونَ عَالَمًا بِالْحَالِ إِنْ أَخَرَّ بَعْثَ النَّائِبِ، وَأَمَّا الْغَائِبُ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِهِ قَاضٍ، وَنَفَى الْوَلَدَ عِنْدَهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَهُ حَتَّى يَرْجِعَ، فَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَ «التَّتِمَّةِ» جَوَازُهُ. فَعَلَى هَذَا، إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السَّيْرُ فِي الْحَالِ لِخَوْفِ الطَّرِيقِ أَوْ غَيْرِهِ فَلْيُشْهِدْ. وَإِنْ أَمْكَنَهُ، فَلْيَسِرْ وَلِيُشْهِدْ، فَإِنْ أَخَّرَ السَّيْرَ، بَطَلَ حَقُّهُ أَشْهَدَ أَمْ لَا، وَإِنْ أَخَذَ فِي السَّيْرِ وَلَمْ يُشْهِدْ، بَطَلَ حَقُّهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ، فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانَ وَأَرَادَ التَّأْخِيرَ إِلَى بَلَدِهِ وَجَوَّزْنَاهُ.
فَرْعٌ
إِذَا قُلْنَا: النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَهُ تَأْخِيرُ نَفْيِ الْحَمْلِ إِلَى الْوَضْعِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رِيحًا، فَإِنْ أَخَّرَ وَوَضَعَتْ وَقَالَ: أَخَّرْتُ لِأَتَحَقَّقَ الْحَمْلَ، فَلَهُ النَّفْيُ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُهُ وَلَدًا وَلَكِنْ رَجَوْتُ أَنْ يَمُوتَ، فَأُكْفَى اللِّعَانَ، بَطَلَ حَقُّهُ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي «الْمُخْتَصِرِ» لِتَفْرِيطِهِ مَعَ عِلْمِهِ.

(8/360)


فَرْعٌ
أَخَّرَ النَّفْيَ وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمِ الْوِلَادَةَ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. قَالَ فِي الشَّامِلِ: إِلَّا أَنْ يَسْتَفِيضَ وَيَنْتَشِرَ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، صُدِّقَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْتَمِلُ جَهْلُهُ بِهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الَّتِي يَحْتَمِلُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِمَا فِي مَحَلَّةٍ أَوْ مَحَلَّتَيْنِ، أَوْ دَارٍ أَوْ دَارَيْنِ، أَوْ بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ.
وَلَوْ قَالَ: أُخْبِرْتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَمْ أُصَدِّقِ الْمُخْبِرَ، نُظِرَ، إِنْ أَخْبَرَهُ صَبِيٌّ أَوْ فَاسْقٌ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ، فَلَا. وَكَذَا إِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ رَقِيقٌ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّ رِوَايَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ الْوِلَادَةَ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي النَّفْيَ، فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ، قُبِلَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ النَّاشِئِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَوَجْهَانِ كَنَظِيرِهِ فِي خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ.
فَرْعٌ
إِذَا هُنِّئَ بِالْوَلَدِ، فَقِيلَ لَهُ: مَتَّعَكَ اللَّهُ بِوَلَدِكَ، أَوْ جَعَلَهُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا وَنَحْوَهُ، فَأَجَابَ بِمَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ وَالِاسْتِلْحَاقَ، كَقَوْلِهِ: آمِينَ، أَوْ نَعَمْ، أَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْكَ، فَلَيْسَ لَهُ النَّفْيُ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَجَابَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ، كَقَوْلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَوْ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أَوْ أَسْمَعَكَ خَيْرًا أَوْ زَوَّدَكَ مِثْلَهُ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنَ النَّفْيِ.

فَصْلٌ
فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مِنَ اللِّعَانِ
إِحْدَاهَا: قَالَ الزَّوْجُ: قَذَفْتُكِ بَعْدَ النِّكَاحِ، فَلِي اللِّعَانُ، فَقَالَتْ: قَبْلَهُ، فَلَا لِعَانَ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ حُصُولِ الْفُرْقَةِ، فَقَالَ: قَذَفْتُكِ فِي زَمَنِ

(8/361)


النِّكَاحِ، وَقَالَتْ: بَعْدَهُ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ زَوْجَتِي، فَقَالَتْ: مَا تَزَوَّجْتُكَ (قَطُّ) فَهِيَ الْمُصَدَّقَةُ بِيَمِينِهَا.
الثَّانِيَةُ: قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ: قَذَفْتُكِ وَأَنْتِ أَمَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ فَقَالَتْ: بَلْ وَأَنَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ. فَإِنْ عُلِمَ لَهَا حَالُ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ جُنُونٍ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا التَّعْزِيرُ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الْمَرْأَةُ. وَلَوْ قَالَ: وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَهُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ لِمَنْ قَذَفَهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ: قَذَفْتُكِ وَأَنَا مَجْنُونٌ، فَهَلْ يُصَدَّقُ الْقَاذِفُ بِيَمِينِهِ، أَمِ الْمَقْذُوفُ، أَمْ يُفَرَّقُ؟ فَإِنْ عُهِدَ لَهُ جُنُونٌ، صُدِّقَ الْقَاذِفُ، وَإِلَّا، فَالْمَقْذُوفُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَظْهَرُهَا: الْفَرْقُ. وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ وَأَنَا صَبِيٌّ، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ الْمَعْهُودِ، وَلَوْ قَالَ: جَرَى الْقَذْفُ عَلَى لِسَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، لَمْ يُقْبَلْ لِبُعْدِهِ. وَلَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً أَنَّ الْقَذْفَ كَانَ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْجُنُونِ، وَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْكَمَالِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفِي التَّارِيخِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً، وَالْأُخْرَى مُؤَرَّخَةً، فَهُمَا قَذْفَانِ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا وَقَعَ فِي حَالَةِ الْكَمَالِ. وَإِنِ اتَّحَدَ تَارِيخُهُمَا، تَعَارَضَتَا. وَفِي التَّعَارُضِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ.
قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يَجِيءُ هُنَا الْقِسْمَةُ وَلَا الْوَقْفُ، وَحُكِيَ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ قَوْلُ الْقُرْعَةِ، وَاسْتَبْعَدَهُ وَقَالَ: الْوَجْهُ الْقَطْعُ بِالتَّهَاتِرِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَحَيْثُ صَدَّقْنَا الْقَاذِفَ بِيَمِينِهِ، فَلَوْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمَقْذُوفُ، وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَيَجُوزُ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَةِ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا صَدَّقَتْهُ فِي الْقَذْفِ، وَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ، تَأَكَّدَ لِعَانُهُ، فَإِنْ كَانَتْ لَاعَنَتْ، فَعَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا لِاعْتِرَافِهَا، إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ قَبْلَ لِعَانِهِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَوَجَبَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا،

(8/362)


وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَتِمُّ اللِّعَانُ إِنْ صَدَّقَتْهُ فِي أَثْنَائِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ فَيَنْفِيَهُ.
الرَّابِعَةُ: إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لِعَانُ الزَّوْجِ، وَرِثَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَيِّتَ الزَّوْجُ، اسْتَقَرَّ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ نَفْيُهُ، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ، جَازَ لَهُ إِتْمَامُ اللِّعَانِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ غَيْرُ الزَّوْجِ، بِأَنْ كَانَ ابْنَ عَمِّهَا أَوْ مُعْتِقَهَا، وَرِثَ الْحَدَّ وَسَقَطَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَرِثْهَا إِلَّا الزَّوْجُ وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ أَبِيهِ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللِّعَانُ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ، فَلَوْ كَانَ يَرِثُهَا غَيْرُ الزَّوْجِ وَأَوْلَادِهِ، فَمَا وَرِثَهُ الزَّوْجُ وَأَوْلَادُهُ يَسْقُطْ، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا سَقَطَ بَعْضُ الْحَدِّ بِعَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، إِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ الْجَمِيعُ، فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْكُلُّ هُنَا، وَيَمْتَنِعُ اللِّعَانُ. وَإِنْ قُلْنَا: لِلْبَاقِينَ الْمُطَالَبَةُ بِجَمِيعِ الْحَدِّ أَوْ بِقِسْطِهِمْ وَطَلَبُوا، فَلَهُ اللِّعَانُ لِلدَّفْعِ، وَفِي جَوَازِ اللِّعَانِ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
الْخَامِسَةُ: عَبْدٌ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ عَتَقَ وَطَالَبَتْهُ، فَلَهُ اللِّعَانُ. فَإِنْ نَكَلَ حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ، لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي الرِّقِّ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَ، حُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ. وَلَوْ قَذَفَ الذِّمِّيُّ أَوْ زَنَى، ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ، حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَنَكَلَ عَنِ اللِّعَانِ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. وَإِنْ لَاعَنَ حُدَّتْ حَدَّ الْإِمَاءِ وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ الْقَذْفِ.
وَإِنْ قَذَفَ مُسْلِمٌ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ أَوِ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْمَجْنُونَةَ، ثُمَّ طَلَبَتِ الذِّمِّيَّةُ، أَوْ طَلَبَتَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، فَإِنْ نَكَلَ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ لَاعَنَ وَنَكَلَتِ الذِّمِّيَّةُ، فَعَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، وَإِنْ نَكَلَ الْأُخْرَيَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا.
السَّادِسَةُ: فِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّ الْمُلَاعِنَ لَوْ قَبِلَ مَنْ نَفَاهُ، وَقُلْنَا: يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ فَاسْتَلْحَقَهُ، حُكِمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ.

(8/363)


وَأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ نَفَى وَلَدًا ثُمَّ أَسْلَمَ، لَمْ يَتْبَعْهُ الْمَنْفِيُّ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَوْ مَاتَ وَقُسِّمَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ الذِّمِّيُّ الَّذِي أَسْلَمَ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِسْلَامُهُ، وَاسْتَرَدَّ الْمَالَ وَصُرِفَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِاللِّعَانِ إِذَا كَانَ قَدْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشٍ صَحِيحٍ، لَوِ اسْتَلْحَقَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْفِيَهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ نَفَاهُ، فَحَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ بَاقٍ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ، وَلَوْ كَانَ يُلْحِقُهُ نَسَبَهُ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَنَفَاهُ فَاسْتَلْحَقَهُ غَيْرُهُ، لَحِقَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ قَبْلَ النَّفْيِ - سُمِعَتْ دَعْوَاهُ.
السَّابِعَةُ: فِيمَا جُمِعَ مِنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سُقُوطَ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الْقَاذِفِ وَعَدَمَ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: إِذَا أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفَةِ، وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا عَذْرَاءُ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، وَقُلْنَا الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَمُرَادُهُ مَا سِوَى صُورَةِ التَّلَاعُنِ، فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا تَلَاعَنَا، انْدَفَعَ الْحَدَّانِ. وَهُنَا صُورَةٌ رَابِعَةٌ يَسْقُطُ فِيهَا الْحَدَّانِ، وَهِيَ إِذَا أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَقْذُوفُ عَنِ الْإِقْرَارِ، سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْقَاذِفِ، فَلَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ.
قُلْتُ: مُرَادُ الْقَفَّالِ: لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا (وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ) إِلَّا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْأُخْرَيَانِ، لِأَنَّهُ وَجَبَ فِيهِمَا حَدُّ الزِّنَا، ثُمَّ سَقَطَ بِلِعَانِهَا أَوْ بِالرُّجُوعِ. وَلِهَذَا قَالَ: وَعَدَمُ حَدِّ الزِّنَا عَنِ الْمَقْذُوفِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَسُقُوطُ حَدِّ الزِّنَا، كَمَا قَالَ: سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ وَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا، إِلَّا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُوَلَيَيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الزِّنَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ. وَالْمُرَادُ: السُّقُوطُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، لَا بِعَفْوٍ وَنَحْوِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(8/364)