البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة ـ[البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل
المستخرجة]ـ
المؤلف : أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد
القرطبي (المتوفى : 450هـ)
حققه : د محمد حجي وآخرون
الناشر : دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان
الطبعة : الثانية ، 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء : 20 (18 ومجلدان للفهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
أسماء الأساتذة
الذين قاموا بتحقيق كتاب البيان والتحصيل
- الجزء الأول : الدكتور محمد حجي .
- الجزء الثاني : الأستاذ سعيد أعراب .
- الجزء الثالث : الأستاذ أحمد الحبابي .
- الجزء الرابع : الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال
.
- الجزء الخامس : الأستاذ محمد العرايشي .
- الجزء السادس : الأستاذ أحمد الحبابي .
- الجزء السابع : الأستاذ سعيد أعراب .
- الجزء الثامن : الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال
والدكتور محمد حجي .
- الجزء التاسع : الأستاذ أحمد الخطابي .
- الجزء العاشر : الدكتور محمد حجي والأستاذ
أحمد الشرقاوي إقبال .
- الجزء الحادي عشر : الدكتور محمد العرايشي .
- الجزء الثاني عشر : الأستاذ أحمد الحبابي .
- الجزء الثالث عشر : الأستاذ محمد العرايشي .
- الجزء الرابع عشر : الأستاذ سعيد أعراب .
- الجزء الخامس عشر : الأستاذ أحمد الحبابي .
- الجزء السادس عشر : الأستاذ أحمد الحبابي .
- الجزء السابع عشر : الأستاذ محمد العرايشي
والأستاذ أحمد الحبابي .
- الجزء الثامن عشر : الدكتور محمد حجي .
(/)
بسم الله
الرحمن الرحيم
تقديم [التحقيق ،
بقلم : محمد حجي]
كتاب البيان
والتحصيل، والشرح والتوجيه والتعليل،
في مسائل المستخرجة، للقاضي أبي الوليد محمد
بن أحمد بن رشد القرطبي، كتاب حافل من أمهات
الفقه المالكي، يطابق اسمه مسماه بياناً
وتحصيلاً وشرحاً وتوجيهاً وتعليلاً لمسائل
كتاب المستخرجة لمحمد العتبي، من أسمعة تلامذة
الإمام مالك بن أنس منه. استغرق تأليفه اثنتي
عشرة سنة ، وأودعه ابن رشد جميع معارفه
الفقهية التي اكتسبها من دراساته الواعية
المستوعبة للمدونة وما كتبه عليها أئمة المذهب
في نحو سبعة أجيال من شروح واختصارات
وتعليقات، ومن تأملاته وتجاربه الشخصية في
التدريس والإفتاء والقضاء، فجاء البيان
والتحصيل خلاصة وافية محيطة بالفقه المالكي
عباداته ومعاملاته، في أسلوب جزل سلس مشرق حبا
الله به علماء الأندلس وأدباءها وقيل عنه إنه
يتبادر إلى الأذهان، ويدخل الآذان بغير
استيذان. لذلك عفى البيان والتحصيل على
المستخرجة التي طالما ولع بها الأندلسيون
وحفظوها عن ظهر قلب، وكان لها عند أهل أفريقية
القدر العالي والطيران الحثيث - حسب عبارة ابن
حزم - فلم يعد للمستخرجة في فهارس فقهاء الغرب
الإسلامي، فيما بعد القرن السادس ما كان لها
في الفهارس السابقة من العناية رواية وقراءة
وسماعاً. ولعل أبا بكر بن خير الإشبيلي (502 -
575 هـ) آخر من احتفل في فهرسته بمستخرجة
العتبي، ورواها بالسند عن مؤلفها من ثمانية
طرق، لأنه لم يتمكن من قراءة البيان والتحصيل
على ابن رشد، وإنما أخذه عنه بالإجازة العامة
لصغر
(1/5)
سن ابن خير
آنذاك . بل لعل أكبر دليل على هذه التعفية
وفرة مخطوطات البيان والتحصيل اليوم وندرة
مستخرجة العتبي حتى لا تكاد تعرف لها ولو
مخطوطة واحدة مستقلة تامة أو ملفقة في مختلف
مكتبات العالم.
ويسترعي الانتباه في كتاب ابن رشد مسائل ثلاث:
1ـ التسمية التي اختلف فيها الرواة كاملة
ومختصرة، فسماه بعضهم كتاب البيان والتحصيل،
ودعاه آخرون : البيان والتحصيل، لما في
المستخرجة من التوجيه والتعليل ، بينما سماه
غيرهم : البيان والتحصيل ، والشرح والتوجيه
والتعليل، في مسائل المستخرجة. وقد اخترنا هذه
التسمية الأخيرة لأمور أربعة :
( أ ) أنها المثبتة كعنوان لجميع المخطوطات
العتيقة التي وصلت إلينا من عصر المؤلف
والقرون التالية، كجزء من مخطوطة عليها سماع
المؤلف ومعارضتها بالأصل معه، ومخطوطة
القرويين الأثرية المكتوبة عام 720 التي
سنتحدث عنها بعد قليل. وجزء من مخطوطة أخرى
كتبت
(1/6)
بغرناطة عام
879 بخط أحمد بن عبد الله الأنصاري الشهير
بالبقني. إلى غيرها كثير.
(ب) وكذلك ذكرها أبو بكر بن خير الأشبيلي
معاصر المؤلف وتلميذه بالإجازة العامة في
فهرسته ، وأحمد بن يحيى الضبي في بغية الملتمس
.
(ج) وهي التسمية المطابقة لواقع الأمر ، إذ
الشرح والتوجيه والتعليل إنما هي من عمل ابن
رشد في البيان والتحصيل، وليس شيء منها في
المستخرجة، وإنما هي سماعات مجردة، وحتى
الحوار الموجود في بعضها إنما يجري بين صاحب
السماع والإمام في صورة سؤال وجواب لا غير.
(د) والفقهاء الذين تحدثوا عن البيان
والتحصيل، ابتداء من تلميذ المؤلف أبي الحسن
ابن الوزان في نوازل ابن رشد، إلى أحمد
الونشريسي في المعيار، كثيراً ما اختصروا اسم
الكتاب فدعوه البيان تارة، والتحصيل تارة،
والشرح أخرى، وأكثر ما يدعونه بالشرح، وهي
كلمة نفتقدها في التسميات التي إطرحناها.
2ـ الترتيب الذي وقفنا عليه في مخطوطات البيان
والتحصيل مختلف اختلافاً قليلاً أو كثيراً،
سواء بتقديم بعض كتب (الأبواب) أو تأخيرها على
أخرى تقديماً أو تأخيراً متقاربين في نفس
القسم (الرزمة) ، أو متباعدين في
(1/7)
أقسام (رزم)
مختلفة. ولسوء الحظ لم تصلنا نسخة كاملة من
الأصول التي قرئت على المؤلف أو سمعت منه إلا
جزءاً واحداً مشتملاً على ثمانية كتب: من كتاب
كراء الدور والأرضين إلى كتاب المساقاة. وأقدم
مخطوطة تامة وقفنا عليها لكتاب البيان
والتحصيل هي مخطوطة خزانة القرويين الأثرية
المكتوبة في صدر المائة الثامنة في جزء واحد،
السالمة بطبيعتها من أي خلط أو تلفيق وترتيبها
يكاد يطابق تماماً ترتيب مخطوطة تمكروت التي
اعتمدناها في التحقيق، وهي أخت المخطوطة
الملكية التي أمر سيدي محمد بن عبد الله
بانتساخها عام 1174 ـ 1175 بإشراف أربعة من
كبار القضاة .
وكان بالإمكان أن نطمئن إلى هذا الترتيب الذي
اعتمدناه لولا ما فيه من اختلاف مع محتوى رزم
البيان والتحصيل التي سردها ابن الوزان في آخر
نوازل ابن رشد، مثل الجهاد الذي له كتابان في
مخطوطاتنا، وباب واحد في رزمة البيوع، وكتابي
الاستبراء وتضمين الصناع الواردين في قسم
الشرائع من محطوطاتنا، وهما في رزمة البيوع
كذلك عند ابن الوزان. ولعل هذا الاختلاف في
ترتيب كتب البيان والتحصيل راجع إلى طول مدة
تأليفه (12 سنة) وكثرة الآخذين عن ابن رشد من
العدوتين، فكانوا يسارعون إلى انتساخ الكتب
عند تمامها ثم يرتبونها بطريقة غير موحدة.
وربما أشعر بوجود هذا الاختلاف في حياة المؤلف
جلوسه قبيل وفاته إلى سماع البيان والتحصيل
والمقدمات في أصل أذن
(1/8)
بانتساخ الناس
منه ومعارضته بالمسودة التي انتسخ منها. ومهما
يكن من أمر الاختلاف في الترتيب فلا خطر فيه
طالما بقي محتوى الكتاب كاملاً غير منقوص،
وقديماً قالوا: صح به سواء قدم أو أخر.
3ـ التجزئة كذلك غير موحدة في نسخ البيان
والتحصيل، فإذا غضضنا الطرف عما ذكره أبو
الحسن ابن الوزان في آخر نوازل ابن رشد من أن
البيان يقع في عشرة ومائة جزء، لأبن الجزء
يعني ال أو الباب كما ذكرنا، فإننا نجد لهذا
الكتاب تجزآت كثيرة لكنها ملفقة في الغالب من
نسخ مختلفة لا يمكن الاطمئنان إليها. والتجزآت
الثابتة التي وقفنا عليها سبع: جزء واحد في
محطوطة القرويين الأثرية المذكورة آنفاً،
وسبعة أجزاء في مخطوطة بالمكتبة الحسنية
(الملكية) بالرباط ، وثمانية أجزاء في مخطوطة
ناقصة بالخزانة العامة بالرباط ، وتسعة أجزاء
في المخطوطة التي انتسخت منها المخطوطة
الأثرية السابقة الذكر، وستة عشر جزءاً في
مخطوطة بالمكتبة الحسنية بالرباط ، وثمانية
عشر جزءاً في مخطوطة تمكروت التي اعتمدناها في
التحقيق ، وعشرون جزءاً في المخطوطة الملكية
المزخرفة المذهبة بالمكتبة الحسنية بالرباط ،
وواحد وعشرون جزءاً في أقدم المخطوطات التي
وصلت إلينا، إلا أنها للأسف ناقصة لا توجد
منها إلى أجزاء قليلة موزعة بين خزانتي فاس
والرباط . وهذه
(1/9)
الأخيرة هي
التجزئة الصحيحة التي كانت على عهد المؤلف
فيما يظهر، وهي الموافقة لقولة القاضي عياض
عنه: ((نيف على عشرين مجلداً)) . وقد عرف
النساخ منذ القديم بتصرفهم في تجزآت ما
ينتسخونه من كتب وعدم تقيدهم بتجزآت المؤلفين
، في كثير من الأحيان . وقد اخترنا تجزئة 18
تبعاً للمخطوط ((الأصل)) الذي اعتمدناه لكونه
أقرب إلى الجحيم الطبيعي لأجزاء الكتب
المتداولة.
أما عن قيمة البيان والتحصيل، وماكنته بين
أمهات كتب المذهب، فإنه استوعب مسائل مستخرجة
الأندلسيين ومدونة القرويين اللتين كان فقهاء
الغرب الإسلامي في القرون الأولى يحفظونهما عن
ظهر قلب، ويقطعون أعمارهم في تدارس ما كتب
حولهما أو حول المدونة بالخصوص من شروح
وتعليقات وتنبيهات وزيادات وتفريعات
واختصارات. وقد تمكن ابن رشد بما أوتي من
عبقرية نادرة من أن يطلع على كل ما كتب قبله
وينقده نقد الفقيه المجتهد في نطاق المذهب
المالكي ، ويحرره بأسلوب واضح يستوي في إدراكه
المبتدي والشادي، ثم أضاف إلى ذلك المقدمات
الممهدات، وهي: ((مبنية على مقدمات من
الاعتقادات في أصول الديانات ، وأصول الفقه في
الأحكام الشرعيات، لا يسع جهلها ولا يستقيم
التفقه في حكم من أحكام الشرع قبلها . . .
فإذا جمعه الطالب إلى هذا الكتاب حصل على
معرفة ما لا يسع جهله من أصول الديانات وأصول
الفقه، وعرف العلم من طريقه، وأخذه من بابه
وسبيله، وأحكم رد الفرع إلى أصله، واستغنى
لمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات، وحصل
في درجة من يجب تقليده في النوازل المعضلات))
.
هكذا لم يرد ابن رشد أن يغني كتاباه: البيان
والتحصيل، والمقدمات الممهدات الدارسين للفقه
عن قراءة الكتب المشتبكة المتراكمة المتقدمة
فحسب، ولكنه أراد أن يستغنوا بهما عن الشيوخ
أيضاً ما دام الفقه قد أصبح مصفى جلياً
(1/10)
موطأ الأكناف.
ولو شاء الله وكان أمر المسلمين آنذاك إلى
إقبال لاكتفوا بهذين الكتابين عم سواهما،
وعمروا أوقاتهم بدراسة ما ينفعهم في دنياهم
وأخراهم بدلاً من التكرار والاجترار وحك
الألفاظ وتراكم المختصرات والشروح والحواشي
والطرر بما أفسد وجمده وكان من أساب التأخر
الفكري عند المسلمين .
محمد ابن رشد:
أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد (الجد) فقيه
الأندلس وعالم
(1/11)
العدوتين، ولد
في قرطبة عام 450 هـ / 1048م، وبها نشأ وتعلم
على يد أعلام علماء الأندلس ، كفقيه قرطبة أبي
جعفر بن رزق (ت 477) ، والفقيه الحافظ أبي عبد
الله محمد بن خيرة الأموي المعروف بابن أبي
العافية (ت 487) ، والمحدث المسند أبي العباس
أحمد بن عمر بن أنس العذري الدلائي (ت 478)
وإمام اللغة في الأندلس أبي مروان عبد الملك
بن سراج ، وزعيم المفتين بقرطبة أبي عبد الله
محمد بن فرج المعروف بابن الطلاع (ت478) ورئيس
المحدثين بها أبي على حسين بن محمد الغساني
الجياني (ت 478) . وغيرهم من كبار الشيوخ.
وأخذ عنه عدد لا يحصى من طلبة الأندلس
والمغرب، من أشهرهم قاضي الجماعة بقرطبة محمد
بن أصبغ الأزدي (ت536) ، وجامع نوازل ابن رشد
الفقيه أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن المعروف
بابن الوزان (ت543) ، والقاضي عياض بن موسى
السبتي (ت544) والمحدث الفقيه أبو مروان عبد
الملك ابن مسرة اليحصبي (ت552) ، والمحدث محمد
بن يوسف ابن سعادة مؤلف كتاب
(1/13)
شجرة الوهم
(ت566) ، والحافظ المفسر أبو الحسن علي بن عبد
الله الأنصاري المعروف بابن النعمة (ت567) ،
والمؤرخ خلف بن عبد الملك ابن بشكوال صاحب
الصلة (ت578).
كان محمد ابن رشد ـ بإجماع من ترجموا له ـ
ناسكاً عفيفاً، كريم الخلق سهل الحجاب، كما
كان أستاذاً بطبعه، يحب التدريس ويحسن طرق
التبليغ، تسعفه مادة غزيرة، وتفكير منظم،
وعبارة منطلقة، وحرص على نفع الطلبة. ولم ينل
ابن رشد تقدير الأوساط العلمية ببلده وكفى، بل
أجله الناس في العدوتين، حتى أمير المسلمين
ملك المرابطين في مراكش، واعتقده أهل قرطبة
بصفة خاصة وأحبوه لأنه كان إمامهم وخطيبهم في
الجامع الأعظم الذي كان يسع أهل المدينة
جميعاً، ورأوا فيه العالم بالشريعة المتحلي
بها، إياه يستفتون في مسائل دينهم ودنياهم،
وإليه يفزعون فيما يلم بهم من ريب الدهر
ونوائبه. وإذا كنا لا نعرف من أخبار ابن رشد
في الفترة التي عاشها في القرن الخامس إلا ما
لا يكاد يختلف بين عالم وآخر في مركز ثقافي
مزدهر كقرطبة، فإن لدينا ـ بعكس ذلك ـ معلومات
تلقي بعض الضوء على نشاطه العلمي والسياسي
ومكانته الاجتماعية الممتازة خلال العقدين
الأخيرين من حياته، كتبها هو نفسه أو بعض
تلامذته.
فقد جاء في مقدمة البيان والتحصيل أن جماعة من
فقهاء جيان أصحاب ابن رشد جاؤوه في صدر عام
506 وبعض الطلبة من أهل شلب يقرأ عليه في كتاب
الاستلحاق من العتبية، فمر بمسألة أشكلت على
القارئ والحاضرين، فشرحها لهم بما أزال
غموضها، ورغبوا إليه أن يتتبع عويص هذا الكتاب
بالشرح والبيان، فرد عليهم ابن رشد بأن
العتبية كلها بحاجة إلى توجيه وتوضيح، ضارباً
لهم المثل بأول مسألة فيها تتعلق بالوضوء،
تبدو وكأنها لا غبار
(1/14)
عليها مثيراً
حولها أحد عشرا سؤالاً لم يحيروا لها جواباً ،
((فتنبهوا لذلك وشرهوا إليه وحرصوا عليه))
واشتد إلحاحهم، فلم يجد ابن رشد بداً من
إسعافهم والشروع في تحرير كتاب البيان
والتحصيل مرحلة مرحلة، حتى إذا حل عام 511 وقد
أكمل نيفاً وخمسين جزءاً، أي نحو نصف الكتاب،
امتحن بالقضاء، وشغلته أمور المسلمين عن
التأليف، فلم يعد يتفرغ إليه إلا يوماً واحداً
في الأسبوع ينقطع فيه عن الناس. ومضت أربعة
أعوام هكذا في القضاء لم ينجز خلالها الشيخ
إلا أربعة كتب أو خمسة، قال: ((فأيست من تمامه
في بقية عمري إلا أن يريحني الله تعالى من
ولاية القضاء، وكنت من ذلك تحت إشفاق شديد
وكرب عظيم ، وذكرت ذلك لأمير المسلمين وناصر
الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين ـ أدام
الله تأييده وتوفيقه ـ في جملة الأعذار التي
استعفيت بسببها، وغبطته بالأجر على تفريغي
لتمامه، فقبل الرغبة فيما رغبته فيه من
الثواب، وأسعف الطلبة فيه لما رجاه بأن تثقل
بذلك موازينه يوم الحساب . . .)) .
وتدارك ابن رشد ما فاته أيام القضاء بعد
إعفائه منه أواسط عام 515، فأقبل بكليته على
كتابة ما بقي من البيان والتحصيل حتى أتمه في
مستهل ربيع الآخر من عام 517. ثم طلبوا منه أن
يمهد له بمقدمات تنبئ عن مسائله، فرأى أن
يكتفي بالمقدمات الممهدات التي كان يوردها
أثناء تدريسه للمدونة بعد أن هذبها ورتبها،
لتشابه أبواب المدونة والمستخرجة.
(1/15)
وجلس ابن رشد
في أول المحرم من عام 518 لإسماع كتابه البيان
والتحصيل بعد أن استخرج منه أصلاً أباح للناس
أن يكتبوا منه، فكان يقرأ فيه تلميذه أبو
مروان ابن مسرة, والشيخ ممسك بالمسودة التي
نقل منها ذلك الأصل وقوبل بين يديه، وذلك في
مجلس حافل بملأ من الفقهاء، وظل هذا المجلس
ينعقد بانتظام طوال عشرين شهراً قرؤوا خلالها
ثمانية وتسعين جزءاً (أو كتاباً) من البيان
والتحصيل ، إلى أن طوي بساطه بالكائنة العظمى
التي حلت بالأندلس بسبب خروج الطاغية ابن
رذمير (الفونس الأول المحارب ملك أراكون) في
حركة عارمة اكتسحت الأندلس من الشمال إلى
الجنوب، بتواطؤ مع النصارى المعاهدين المقيمين
بين أظهر المسلمين، الذين كانوا قد راسلوا
الطاغية عندما رأوا انحلال سلطة المرابطين
ورغبوه في غزو البلاد وأغروه بما فيها من
خيرات واعدين إياه النصرة والمعونة. وقد باغت
الصليبيون المسلمين في شهر رمضان من عام 519
وجاسوا خلال ديارهم يعيثون فيها فساداً،
يتلفون ويحرقون، ويقتلون ويأسرون ، وطالت هذه
الهيعة نحو نصف سنة إذ لم تنته إلا بانكسار
العدو الكافر بموضع يقال له أرنيسول بضواحي
قرطبة يوم الأربعاء 23 صفر عام 520.
وقد استخلص ابن رشد العبرة من هذه الكائنة
المشؤومة، وأدرك أن مباغتة المسلمين بحرب
طحنتهم رحاها على حين غرة ودون مقاومة تذكر
راجعة إلى أسباب ثلاثة: خيانة المعاهدين
المقيمين بين أظهر المسلمين، وانكشاف
(1/16)
معظم المدن
والقرى وبقاؤها عورة دون تحصين، وعجز أمير
الأندلس أبي طاهر تميم وتقاعسه في الدفاع عن
البلاد، لذلك شد ابن رشد الرحلة ـ على كبر سنه
ـ إلى مراكش (3 ربيع الأول عام 520) ليطلع
أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين على جلية
الأمر. وقد نزل ابن رشد على الرحب والسعة في
بلاط الملك المرابطي الذي استضافه شهراً تعرف
منه خلاله على أحوال شبه الجزيرة، واستفتاه في
أمور أخرى تهم شؤون الدولة, وكان مما أشار به
ابن رشد على علي بن يوسف تسوير حاضرة مراكش
قائلاً له: ((لا يحل لك أن تسكنها مكشوفة))
وكان من نتائج رحلة ابن رشد أن أخذ الملك في
تسوير مدينة مراكش ومدن الأندلس ، وأمر بإزعاج
النصارى الذين نكثوا العهد عن ديارهم وإجلائهم
إلى مكناس وسلا وغيرهما من مدن العدوة، وذلك
أخف عقاب لهم كما جاء في فتوى ابن رشد، وعقد
البيعة بولاية العهد لابنه تاشفين الذي حاكم
الأندلس، ولو أننا لم نعرف الكيفية التي تمت
بها تنحية الأمير تميم بن يوسف بن تاشفين
أكانت بالعزل أو بالموت ، إذ يذكر المؤرخون أن
وفاته كانت في نفس سنة 520.
وما كاد ابن رشد يرجع إلى قرطبة ويدخلها ضحى
يوم الأربعاء 22 جمادى الأولى عام 520 حتى
تهافت عليه طلبته الفقهاء يسألونه العودة إلى
إسماع ما بقي من البيان والتحصيل أو المقدمات
الممهدات، فآثر رغبة من رغب
(1/17)
في المقدمات،
وأخذ أبو مروان ابن مسرة يقرؤها كذلك بين يدي
الشيخ في مستهل جمادى الآخرة من نفس السنة، في
الأصل الذي انتسخه الشيخ لنفسه وهو ممسك
بالمسودة إلى أن أكملوا في اثنين وعشرين يوماً
قراءة تسعة عشر جزءاً (أو كتاباً) ـ وعدة
أجزاء المقدمات 27 ـ فمرض الشيخ ولزم الفراش
أربعة أشهر وأياماً ومات ـ رحمه الله ـ ليلة
الأحد 11 ذي القعدة عام 520 / 28 نوفمبر 1156،
ودفن بمقبرة عباس مدفن سلفه شرقي مدينة قرطبة
((وكان مشهده حفيلا، والتفجع عليه جليلا ، لم
ير أحد من أهل زمانا مشهداً أكثر تولهاً
وتفجعاً منه. وبحق فقد كان ـ رحمه الله ـ طود
علم ، وإنسان فضل وحلم، وكوكب ذكاء وفهم،
وواحد جلالة وديانة، وفذ رجاحة وأمانة . . .
)) .
وألف محمد ابن رشد الجد غير البيان والتحصيل
والمقدمات الممهدات:
ـ نوازل ابن رشد، في مجلد ضخم، جمعها تلميذه
أبو الحسن ابن الوزان ( وتسمى أيضاً الفتاوى،
والأجوبة) .
ـ اختصار المبسوطة ليحيى بن إسحاق بن يحيى بن
يحيى الليثي (ت303) .
ـ تهذيب مشكل الآثار، لأحمد الطحاوي الحنفي
(ت231) .
ـ النوادر .
ـ المسائل الخلافية .
(1/18)
ـ حجب المواريث
.
ـ اختصار الحجب على مذهب مالك بن أنس مما روي
عن زيد بن ثابت .
ـ فهرسة .
وقد نسب الدكتور محمود علي مكي ـ خطأ ـ إلى
محمد ابن رشد الجد كتاب بداية المجتهد، وهو
مطبوع معروف النسبة لابن رشد الحفيد.
محمد العتبي
[وكتابه المستخرجة]:
محمد بن أحمد العتبي ، مولى عتبة بن أبي
سفيان، القرطبي. فقيه حافظ راوية واعية، قال
عنه تلميذه محمد بن لبابة (ت314): ((لم يكن
هنا
(1/19)
يعني الأندلس ـ
أحد يتكلم مع العتبي في الفقه، ولا كان بعده
أحد يفهم فهمه إلا من تعلم عنده)) سمع
بالأندلس من يحيى بن يحيى الليثي تلميذ الإمام
مالك، وسعيد بن حسان راوية أشهب، ورحل إلى
الشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج تلميذي
ابن القاسم وابن وهب وأشهب من أصحاب مالك.
وألف كتابه المستخرجة من أسمعة تلاميذ الإمام
مالك منه وأسمعة تلاميذهم منهم، وتوسع في
الرواية فلم يستبعد المتروكة والشاذة منها، إذ
((كان يوتى بالمسألة الغريبة فإذا أعجبته قال:
أدخلوها في المستخرجة)) وقد تضاربت آراء
الفقهاء المعاصرين للعتبي في المستخرجة
فانتقدها من أهل الأندلس محمد بن وضاح القرطبي
وتلميذه أحمد بن خالد، ومن أهل مصر محمد بن
عبد الحكم الذي قال: (( رأيت جلها كذوبا
ومسائل لا أصول لها)) في حين تقبلها الجلة
بقبول حسن لاستيعابها وشمولها، وتصدر ابن
لبابة الذي دارت عليه الأحكام بقرطبة نحو ستين
سنة لإقراء المستخرجة، فأخذها عنه خلق كثير،
وتبارى الناس في روايتها عنه وحفظها، وقال له
يوماً أحمد بن خالد: تقرأ هذه المستخرجة للناس
وأنت تعلم من باطنها ما تعلم؟ قال إنما أقرؤها
لمن أعرف أنه يعرف خطأها من صوابها. وتقدمت
قولة الإمام ابن حزم في التنويه بها.
(1/20)
والواقع أن
العتبي حفظ في المستخرجة ـ فضلاً عن الروايات
المشهورة ـ سماعات كثيرة من مالك وتلاميذه
لولاه لضاعت، إلا أنه لم يتمكن من تمحيصها
وعرضها على أصول المذهب ومقارنتها بالروايات
الأخرى، حتى جاء محمد بن رشد فقام بهذه
العملية النقدية في البيان والتحصيل، وأصبحت
المستخرجة ـ بعد أن تميز فيها الصحيح من
السقيم ـ خيراً وبركة وزيادة في فروع المذهب
المالكي، وجزءاً لا يتجزأ من البيان والتحصيل
أحد الكتب المعتمدة في الفتوى بالأندلس وسائر
بلاد الغرب الإسلامي .
وكانت وفاة محمد العتبي بقرطبة في 18 ربيع
الأول عام 255 .
عملنا في التحقيق
:
اجتهدنا أساساً وقبل كل شيء في إخراج نصي
المستخرجة ، والبيان والتحصيل أقرب ما يكونان
إلى الصحة، وذلك بمقابلة ((الأصل)) الذي
اعتمدناه بثلاث مخطوطات عتيقة من مكتبة
القرويين بفاس:
الأولى أندلسية في عشرة أجزاء رمزنا لها بـ
ق1، وهي ملفقة بخطوط متقاربة، انتسخ السفر
الثاني منها في شوال عام 697، والثالث بغرناطة
في غرة رجب عام 859، والرابع كان الفراغ من
مقابلته في 17 شعبان عام 775، والخامس تابع
لسابقه، والسادس مثله، والسابع عليه تحبيس أبي
عنان المريني مؤرخ بعام 750، والثلاثة الباقية
لا تحمل تاريخاً.
والمخطوطة الثانية أندلسية ملفقة كذلك سباعية
التجزئة رمزنا لها
(1/21)
ب ق2. انتسخ
الجزء الثاني منها في 29 شوال عام 728،
والأخير في 20 صفر عام 712 بخط محمد بن محمد
بن عياش القرطبي.
والمخطوطة الثالثة مغربية آية في فن الوراقة
رمزنا لها بعلامة ق3، وقد انتسخت من أصل تساعي
التجزئة بخط مغربي مليح دقيق جداً في جزء واحد
يضم ثمانية عشر وثلاثمائة رق غزال بحجمه
الطبيعي، فرغ من كتباتها يوم الاثنين 21 رجب
عام 720 أحمد بن علي بن أحمد الصنهاجي، وعليها
تحبيس أبي الحس المريني على خزانة مدرسة عدوة
الأندلس بفاس عام 728.
وبالإضافة إلى هذه المخطوطات الأربع. هنالك ست
مخطوطات أخرى بالمكتبة الحسنية والخزانة
العامة بالرباط أشرنا إليها آنفاً ورجعنا
إليها عند الاقتضاء، وسابعة بخزانة المعهد
العالي بتطوان ـ سابقاً ـ عشارية التجزئة،
وبعض أجزاء من مخطوطة ثامنة بخزانة ابن يوسف
بمراكش رجعنا إليها كذلك عند الضرورة، إلى
أجزاء من مخطوطات كثيرة أخرى. وعنينا ـ علاوة
على المقابلة ـ بذكر أرقام الآيات والسور،
وتخريج الأحاديث والآثار، وشرح ما لابد من
شرحه من مفردات وعبارات وإشارات، وذلك قليل
بحكم وضوح أسلوب ابن رشد وتتبعه لكل مشكل
وغامض بالحل والتبيين.
ولن أختم هذه الكلمة دون أن أتقدم بالشكر
الجزيل للزملاء الفقهاء النبلاء الذين أبوا
إلا أن نعمل متعاونين في إحياء هذا التراث
الفقهي العظيم، وهنم الأساتذة:
ـ الحاج أحمد الحبابي من علماء جامعة القرويين
بفاس.
ـ سعيد أحمد أعراب الأستاذ بالمعهد الأصلي
بتطوان.
ـ محمد عبد القادر العرايشي محافظ قسم
المخطوطات بخزانة الجامع الأعظم بمكناس.
(1/22)
ـ أحمد
الشرقاوي إقبال الأستاذ بمدرسة العلمين
الاقليمية بمراكش.
ـ أحمد الخطابي الأستاذ بكلية أصول الدين
بتطوان.
ـ أحمد بنشقرون القاضي المستشار رئيس الغرفة
الشرعية بالمجلس الأعلى.
كما أشكر شكراً جماً الإخوة الأساتذة الكرام:
ـ الدكتور سعيد بن البشير وزير الشؤون
الثقافية.
ـ محمد العربي الخطابي محافظ المكتبة الحسنية.
ـ عبد الرحمن الفاسي محافظ الخزانة العامة
بالرباط.
ـ محمد الدباغ محافظ خزانة القرويين بفاس.
على ما بذلوه لنا من مساعدة لا حد لها،
للقراءة والتصوير والمقابلة، وكذلك سائر
العاملين بهذه المكتبات، جزاهم الله جميعاً
أحسن الجزاء .
محمد حجي
(1/23)
|